إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مظل له, ومن يظلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله, وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه ونجيبه من عباده, صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه ومخالفة أمره, لقوله سبحانه وتعالى من قائل : (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلامٍ للعبيد).

ثم أما بعد أيها المسلمون الأفاضل, أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات, يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل بعد أن:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)

صدق الله العظيم, وبلغ رسوله الكريم, ونحن على ذلكم من الشاهدين, اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط, آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل, أيتها الأخوات الفاضلات:

في هذه الآيات الجليلات تعرف الله سبحانه وتعالى إلينا, عرفنا على نفسه, من خلال أوصافه وأفعاله, وأنه و أنه و أنه, وركز على أشياء بعينها وبأعيانها, كما قال سبحانه : وَأَنَّهُ هُوَ , فصرح بالضمير ثم كرره أيها الإخوة ؛ ليدل على الحصر, هو وحده من فعل ذلك سبحانه وتعالى؛ وليدل أيضاً في فهمي المتواضع على أن هذه القضايا قضايا فطرية, أو قضايا غرزية, مخلوقة لله سبحانه وتعالى وإن يكن كل شيء مخلوقاً له سبحانه وتعالى لا ريب! لكن هذا دلالة أيها الإخوة على وإشارة إلى أصالتها وغرزيتها وفطريتها في الإنسان, وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى , وحين نعود إلى دواوين المفسرين الكبرى, يفجؤنا أنهم يجاوزون أمثال هذه الآية, أمثال هذه الآية وأمثالها أيها الإخوة على عجل, وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى , على حقيقتهِ , وأضحك خلق فعل الضحك, كما خلق فعل البكاء, وبعضهم يقول خلق قدرتي ( أي إمكانيتي ) الضحك والبكاء كالمعتزلة, وفيها كما قال الألوسي ذا سيسة الاعتزال, لأن الأفعال مخلوقة للعبد وليست مخلوقة لله, أما الغرائز فهي مخلوقة لله, على كل حال وإن يكن التفسير نفسه أقرب إلى الحقيقة, أن هذه الأشياء قدر وإمكانات فطرية, مسألة الأفعال بعد ذلك إخراج هذه القدر من حيز الإمكان إلى حيز الفعل بتوسيط الأفعال نفسها مسألة ثانية وهي معترك كلامي لا يعنينا منه شيءٌ في تفسير هذه الآية الجليلة.

وبعضهم قال أضحك وأبكى بمعنى خلق ما يبعث على الضحك من الأفعال الطيبة وما يبعث على البكاء من الأفعال الموجعة كالمصيبات والآلام والتباريح, بعضهم قال أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار وكل هذا على الحقيقة , وبعضهم قال وهذا من باب المجاز أضحك الأرض بالمطر أضحك الأرض بالنبات, وأضحك السماء بالمطر وهذا من باب المجاز على كل أيها الإخوة الموضوع أعمق وأبعد من هذا بكثيـــر ثم ينتهون هذا ما عندهم , إذاً لماذا صرح بالضمير؟ وأنه ثم كرر قوله بهوَ, وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى , المسألة خطيرة ويبدو أن لها وزناً خطيراً أيها الإخوة إذا تعلق الأمر بحياة الإنسان , ربما بصحة الإنسان العقلية والنفسية وأيضاً الاجتماعية.

تشير آخر وأحدث الدراسات في هذا الباب, إلى أنه بحلول عام 2020 يعني بعد أقل من خمسة عشرة سنة , ستكون أعظم الأمراض سرياناً وشيوعاً وتدميراً للنوع الإنساني هو مرض الإحباط مرض الاكتئاب , Depression , هذا هو المرض الذي سيكون الرقم واحد في تحطيم النوع الإنساني , ليس الـ Cancer أو السرطان , ليست الأمراض الوعائية كما يقال , أمراض الدم والأوعية الدموية وليس ما سوى ذلك , إنما هو الـ Depression .

ويقول العلماء أيضاً : إن الطفل الإنساني وبين مزدوجين أيها الإخوة كما الإنسان البدائي هما النسخة الأكثر أصالةً للفطرة الربانية , الطفل كما الإنسان البدائي هما النسخة الأكثر ترجمةً للغريزة والفطرة كما خلقها الله!

لا أثراً كثيراً للثقافة , لا أثراً عظيماً للثقافة , لا عند الطفل ولا عند الإنسان البدائي , الذي يتطلق ويتبسط أيها الإخوة وينبعث ويعيش كما يحلو له , كما تفرض عليه دوافعه وحوافزه الداخلية في المستوى الغرزي.

الطفل أيها الإخوة يشير العلماء إلى أنه يضحك في اليوم 400 مرة, الطفل السوي الذي يعيش حياته سوية يضحك في اليوم بمعدل 400 مرة! في حين يفتقر بعض البالغين أو الراشدين إلى الضحك مرة واحدة في اليوم وهؤلاء هم المصابون بمرض الاكتئاب, أو ما يسمى في فصيح العربية بـ ( الكنض ) Depression الكنض هو الاكتئاب بلغة العصر وهو المرجح أيها الإخوة أو على الأرجح ما أصيب به الإمام الغزّالي كما وصفه في كتابه الذائع السيط المنقذ من الظلال , وصف تماماً أعراض مرض الاكتئاب , أصيب بالاكتئاب رحمة الله عليه , ووصفه وصفاً دقيقاً جداً , كان مكنوضاً أي كان مكتئباً محبطاً يائساً , هذا يدمر الإنسان أيها الإخوة , لماذا؟ باختصار وحديثنا اليوم عن الضحك وليس عن الاكتئاب , لكن بأضدادها تعرف الأشياء , في مرض الاكتئاب يقل أيها الإخوة إفراز مادة سحرية, مسئولة بدرجة أولى عن حالة الانتعاش والمرح والسعادة فينا Serotonin العرب يقولون سيتونين , هذه المادة هي المسئولة يقل إفرازها لحساب إفراز هرمونات مضرة هرمونات سلبية هي الهرمونات الكضرية أو ما فوق الكلوية مثل الـ adrenaline ومثل الـ Cortisol  ولكنهما مهمان في حالات معينة , وهو هرمون اضرب أو اهرب كما يقولون, fight or flight هرمون معروف مهم لكنه إن زاد أو استمر فهو صنبور من الماء أيها الإخوة يقطر سماً , سم في حياة الإنسان , ينتهي إلى تدمير جهاز المناعة أو معظمها أيها الإخوة إلى تدمير أعضاء البدن وهذا ما يسبب الحالات المتقدمة جداً من الاكتئاب, الـ Cortisol والـ adrenaline صنبور يقطر سماً إذا استمر أيها الإخوة ولذلك مثل هذا لا ينتظر منه أن يضحك ولا أن يتطلق ولا أن يبتسم ولا أن يلقى الناس بوجه مستبشر أيها الإخوة وبوجه طلق , هو زاهد في كل هذا؛ لأنه لا يستطيعه.

أما الإنسان الضاحك كالطفل تماماً كالبدائي فهو الإنسان السعيد وهو النسخة المعبرة عن خلق الله عن فطرة الله لذلك كان بعض العلماء المصريين من أهل الدين والفلسفة أيضاً يتظرف فيقول : لابد أن نضحك ما وسعتنا الظروف والمناسبات وهي الآن تقريباً لا تسعنا للأسف الشديد لأن الضحك من علامات الإيمان بالله فيسأل كيف؟ فقالوا ( وأنه هو أضحك وأبكى ) من علامات الإيمان بالله.

كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم كما أخرجه الإمام الترمذي في شمائله المحمدية أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وخلطاً لنفسه فيما هم بصدده لا يترفع ولا يستكبر أيها الإخوة عن أن يخو ض فيما يخوضون فيه ما لم يكن إثماً وما لم يكن بالإثم رضوان الله تعالى عليهم, هذا تواضعاً منه.

وأوصى خليله وحبيبه وتابعه أبا ذر الغفاري كما في صحيح مسلم : لا تحقرن من المعروف شيئاً ولا أن تلق أخاك بوجهٍ طلق. طلقَ وجهه إذا استبشر فهو وجهٌ طلق.

وأيضاً قال لأبي ذر كما عند الترمذي في جامعه قال: وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة , لكن البسمة الصادقة ليست بسمة مضيفات الطيران عند الوداع ولا بسمة النادل في مطعم أيها الإخوة هذه البسمات الكاذبة الزائفة التي لا تعبر عن سعادة, قد يبتسم ويتطلق أيها الإخوة وهو مكتئبٌ مكنوض , لا, إنما البسمة الصادقة الدالة على المحبة , العرب كانت تقول : أول المودة الطلاقة , طلاقة الوجه , والمادة نفسها يعني طَ لَ قَ طلقَ تدل على الإرسال والتخلية ومنه الطلاق , فأرسل نفسك على سجيتها , وأعظم ما يوجب الطلاقة في ظني وفي وهمي أيها الإخوة هو ماذا؟ هو أن ترسل نفسك وذاتك وكليتك بين يدي الله تبارك وتعالى كالميت بين يدي الغاسل , اترك أمرك بالكامل له , دائماً أشبه أيها الإخوة وأمثل هذا الأمر بهذه الأمثولة التي تدغدغ عواطفي الإيمانية , حين أكون في سيارتي أقود أولادي جميعاً وهم في وسط أو في مؤْخرة السيارة, يلعبون يهزجون ينامون أحياناً غير عابئين بما يمكن أن ينجم عن هذه القيادة , وهل هي قيادة حكيمة؟ هل هي قيادة دقيقة؟ هل هي قيادة حذرة أو غير ذلك ؟ لماذا ؟ لأنهم واثقون من ماذا؟ من أبيهم أيها الإخوة وأن أباهم من المستحيل أن يدهورهم , من المستحيل أيها الإخوة أن يأخذهم إلى هلكة فكيف برب العالمين وهو أرحم بنا منا بأولادنا بلايين وبلايين المرات عز وجل!

لماذا لا نترك أنفسنا بالكامل بين يديه ؟ نرضى بقضائه نسلم له سبحانه وتعالى ولا أريد أن أفصل هذه الجملة؛ لأن بعض القضاء أيها الإخوة من المحمود بل من المأمور شرعاً أن يقاوم بالأخذ بالأحب إلى الله لكن نتحدث عن القضاء الذي لا يقاوم , قضاء لا يرد من الله , لماذا؟ لماذا لا نسلم له؟

أمضي القضاء على الرضا مني به   إني وجدتك في البلاء رفيقا

وكم عمت من أمرٍ خرت لي بانصرافه   وما زلت بي مني أبر وأرحما

هذا هو الصحيح, فهذا يعطي الإنسان طلاقة وتطلقاً وراحة وطمأنينة وانشراحاً ويكون دائم البشر أيها الإخوة لا يكون باسراً , البسر والبسور عكس ماذا؟ الاستبشار والطلاقة , قال : ( وجوهٌ يومئذٍ مسفرة .. ضاحكة مستبشرة ) في سورة القيامة قال ( وجوه يومئذ باسرة .. تظن أن يفعل بها فاقرة ) فالمؤمن لا يعرف البسر والبسور وإنما يعرف البشر والحبور أيها الإخوة لأنه راضٍ بقضاء الله , ذاق طعم الإيمان من آمن بمواقع القضاء , يقول ابن عبدالعزيز رضوان الله تعالى عنه وعليه.

فنعود أيها الإخوة, إذا ما ينتظر البشر أيها الإخوة هو مرض الاكتئاب الذي سينغص عليهم حياتهم , سيمنعهم حتى بأن يتمتعوا بطيبات الحضارة ومرافق المدنية , سيبدو كل شيء بلا طعم بلا لون بلا فائدة بلا معنى, كثير جداً من المكتئبين ينتهون بالانتحار أيها الإخوة, طبعاً! طبعاً وإذا ذكرنا الاكتئاب لابد أن نذكر الدواء الأشهر Prozac  ماذا يفعل هذا الدواء فقط يستحث الجسم الدماغ يعني لكي بفرز مادة Serotonin  .

نعود أيها الإخوة , (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) كما قلنا الآية فيها ما يبوح ما يشي بفطرية هذه الاستجابة العجيبة, الضحك والبكاء , حديثنا اليوم فقط عن الضحك , البكاء يحتاج إلى خطبة أخرى أو أكثر.

العجيب أن العلماء أيها الإخوة يقولون : الإنسان حين يضحك وحين يبتسم ويتطلق فإن هذا الفعل ليس محض فعلٍ واعٍ بالكلية , بل هو مزيجٌ وخليط من أجزاء واعية وأجزاء أكبر منها لا واعية لا تتحكم فيها أنت لأن المسئول عنها هو ما يعرف بالدماغ أو العقل العاطفي Passion of Mind  وهو الدماغ الأكثر قدماً في سلم تطور الدماغ الإنساني, جذع الدماغ brainstem  يسمى أحيانا بدماغ الزواحف وهو المسئول عن وظائف الحياة أو الموت كالتنفس مثلاً والمسئول عن استجابة الضحك بشواهد كثرة الآن ثبتت علمياً, هو المسئول أيضا عن ذلك, وهناك أجزاء خاصة كاللوزة Amygdala هي مسئولة أيضا مع جزءٍ آخر أيها الإخوة وهو الجهاز الحوفي القديم Ancient limbic system هذا كله يعرف بالمخ العاطفي, وهو قديم جداً في الإنسان, بعد ذلك تطور هذا الدماغ إلى مخاخ لأنها ليست مخاً واحداً في الحقيقة, والفصيح أن يجمع مخ على مخاخ أكثر من أمخاخ, هي مخاخٌ متعددة ومتراكبة حتى وصلنا إلى المخ المفكر الدماغ المفكر Brain thinker  وهو ما يعرف منه بقشرة مقدمة الجبهة Prefrontal cortex وهي المسئولة عن تحكمنا في عواطفنا وإدارة أحاسيسنا, لكن أصل هذه العواطف والاستجابات في المخ الزواحفي المخ العاطفي المخ القديم تحدث تلقائياً وبطريقة غرزية.

هذا الكلام ممكن أن يكون تخصصياً غير مفهوم لكثيرين لكن , بمثال بسيط مثلاً :

شخص معين أنت لا ترتاح إليه , تنافسه ربما منافسة غير شريفة , يا سيدي خلينا نقل شخص هو خصمٌ لك , بمعنى من معاني الخصومة , خصم في أي ميدان من الميادين , تلتقيه ذات صباح أو ذات مساء تتبادلان التحية والابتسام , تكلفاً طبعاً , لأنه لا يطيب لك ولا هو يطيب لقاء كلٌ منكما لصاحبه, ثم بعد ذلك يخبرك بأنه قد وقعت به مصيبة , تند منك ابتسامة سريعة , طبعاً أنت تفرح بمصيبة خصمك (عدوك) , لا تلبث أن تتحول أيها الإخوة في غضون أقل من ثانية , إلى ماذا ؟ إلى تكلف القلق والهم أو الاهتمام ,كيْف ؟؟؟ لاحول ولا قوة إلا بالله, لكن بعد أن ندت الابتسامة, طبعا هناك حديث داخلي عندك وهناك حديث داخلي عنده , يحاول يفسر ما رأى, لقد بدت ابتسامة , هذا حصل ويحصل دائماً أيها الإخوة, طبعاً أنت محرج الآن في ظرف حرج جداً جداً لأنك وضعت نفسك وهذا خطأ في هذه الوضعية أنت لم تضع نفسك ؛ إنما وُضعت في هذا الموضع , لماذا ؟ المخ الغرزي ابتسم أيها الإخوة , أعطى أمراً بالابتسام فندت ابتسامة , لم تكن عريضة لم تكن كاملة , ولم تستحيي إلى ضحكة مع قهقهة ( أحياناً يحصل هذا ) عند بعض الناس الذين لا يتحكم مخهم المُفكر في مخهم العاطفي وربما تستحيي إلى كارثة, لكن مباشرةً لم يفعا المخ العاطفي ذلك إلا ريثما أعطى المخ المُفكر الإشارة لأ !! لابد أن تلتزم الآداب وأن تبدي الاهتمام والقلق على الأقل من ناحية إنسانية , لا تكن شامتاً , الشماتة شعور غير محبب وغير ممدوح وغير طيب , فتبدأ تتعمل أو تتكلف القلق والاهتمام بمشكلة الخصم الصديق أو الصديق الخصم , هكذا .

فإذاً أجزاء كثيرة غير واعية وجزء منها هو الجزء الواعي أيها الإخوة, هذه الآلية التي يحصل بها مثل هذا الأمر أو يتفق حصول مثل هذه الأمور معنا تقريباً يومياً.

هل هناك من علائم (ولا أريد أن أحرض بعضنا على بعض) نستطيع أن نعرف بها من يتعاطف معاً حقاً ممن يتكلف التعاطف وهو جامد ؟

نعم هناك علائم , و تعود القصة إلى عالم فرنسي عبقري اسمه Duchene في القرن التاسع عشر جرى دراسة رائدة في مضمارها , أراد أن يدرس بها التعابير والأحاسيس والمشاعر لدى الإنسان , وقادته هذه الدراسة أيها الإخوة إلى هذه النتيجة ( لا نريد أن نذكر تفاصيل هذه الدراسة ):

-حين يبتسم الإنسان بصدق تتحرك عضلات معينة في وجهه وخاصة العضلات التي تكون حول العين لذلك يتغضن الحاجب وينزل قليلاً , تكون هذه الضحكة أو البسمة حقيقة, وهنا في مكتشفات العقود الحالية المتأخرة أيها الإخوة هذه الحركات لهذه العضلات بالذات تحفز مراكز السعادة في الدماغ وبالذات في الجهة اليسرى من القشرة في مقدمة الجبهة هذا بالـ M.R.I  أو بالتصوير المغناطيسي يظهر بشكل واضح أيها الإخوة في شكل إشارات ملتمعة , بعض الناس من شدة ما يتمتع بفرط السعادة تغدو هذه الصورة كأنها تلتمع في بحر من الأضواء والأنوار, سعيد حقيقةً أيها الإخوة, نعم تظهر هكذا الصورة وهذا الجهاز يعطينا 30 أو 35 صورة في كل ثانية للدماغ , جهاز متطور جداً وهو الأضخم والأكثر تخصصاً من حيث نوعه في العالم والنسب تتفاوت في هذا.

–                                                                                                                                                                                                  ولكن إذا ضحك الإنسان أو ابتسم بسمةً متكلفة فإن العينين والحاجبين وتغضن العينين كل أولائك يبقى على ما هو عليه فنعرف أنه متكلف هذا ما اتكشفه دوتشين ولذلك طبعاً بحثه لم يستفد منه كثيراً , استفاد منه Charles Darwin صاحب كتاب أصل الأنواع في كتابه أيضاً التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان , وداروين لم يقل فقط أن الإنسان قرد والإنسان تطور , له أبحاث علمية ممتازة وعميقة جداً , وهذا من أعماقها في التعبير عن الأحاسيس عند الإنسان والحيوان استفاد من كتاب الفرنسي دوتشين ديو لوبون , ولكن مات هذا الاسم ولم يلق مصير المشاهير من الباحثين والخبراء إلى أن جاء العالم الذي لا زال حياً إلى اليوم وهو في الستينيات وهو الخبير والعالم رقم واحد على مستوى العالم كله في دراسة تعبيرات الوجه والمشاعر والأحاسيس Dr. Paul Ekman من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو, هذا الرجل درس في منتصف الستينات تعبيرات الوجه التعبير عن الأحاسيس والمشاعر ليس في شوارع نيويورك وإنما في قرية بابوا غينيا الجديدة , درس هناك ليفاجئ الرجل بأن البشر جميعاً من شوارع نيويورك إلى الأزقة في بابوا غينيا الجديدة يعبرون بنفس الطريقة لأنهم أبناء أب واحد وأم واحدة لأنهم إخوة فعلا, ليسوا هؤلاء أنصاف بشر وهؤلاء ثلاثة أرباع بشر وهؤلاء بشر كاملون , لأننا إخوة فعلا نفس الشيء نعبر بنفس الطريقة.

لكن المسألة معقدة جداً يقول الدكتور إيكمان السعادة مثلاً الضحك, الفرح ليس مجرد شعور واحد بسيط, استطاع أن يميز إيكمان بين 16 نوعاً من أنواع الابتسام والسعادة أيها الإخوة, اللغات نفسها تضيق أحياناً بتوصيف هذه الحقائق والظاهرات.

ويضرب إيكمان مثلاً بالنجاح, وأنا سأطرح على نفسي وعليكم سؤالاً لمن يعرف الانجليزية أو الألمانية أو حتى اللغات الأخرى حتى العربية لغتنا , هل في هذه اللغات كلمة تعبر ( كلمة واحدة ليست جملة وصفية ) تعبر عن شعور الفرحة والسعادة والرضا بما يحققه الإنسان عبر أجيال أبنائه وأحفاده من نجاحات بمعنى كلمة تعبر عن سعادته بإنجازات ذريته , هل هناك ؟ في الانجليزية غير موجود في الألمانية غير موجود في العربية على حد علمي غير موجود, في العبرية مثلا موجود (كلمة خارص) بالعبرية معناها سعادة الإنسان بما أنجزه أولاده وأحفاده, في اللغات الأخرى غير موجود, طيب هل هناك كلمة في الانجليزية تعبر عن سعادة الإنسان بما يقع فيه خصمه كالمثال الذي ضربته قبل قليل من مصائد أو بلايا أو محن , قد تقولون الشماتة , لا الشماتة شيء آخر , بالعكس أنت قد تظهر أعلى قدر من التعاطف والقلق والاهتمام والترحم, لكنك في الحقيقة وفي الداخل سعيد, عندك نوع من الرضا, نوع من السعادة, لو صورنا دماغك بجاهز التصوير المغناطيسي سنرى أنه يعطي إشارات نوع جهة اليسار وليس نوح جهة اليمين فنعرف أنك سعيد, جسمك يكذبك , هنالك كلمة عظيمة جدا لنفرويك النمساوي راعي التحليل النفسي يقول فيها :

من كان له أذنان ( هنا طبعا يقتبس من الإنجيل ) فليسمع ومن كان له عينان فليرى, لا يوجد هناك ثمة أحد يستطيع أن يحتفظ بسر, إن سكتت شفتاه ثرثرت أصابعه , إذا هناك عدة طرق, هذه كلمة عبقرية من عالم عبقري بلا شك, هناك طرق كثيرة , يفضح بها الجسم وتفضح بها الأحاسيس والتعابير والحركات ما تكنه الصدور , قال الله تبارك وتعالى : (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ…) التنغيم أيها الإخوة مراعاة الانقطاع في التنغيم ومراعاة الإيقاع واللحن ( لحن القول ) نعرف.

لذلك أنا أقول نستطيع أن ننفذ إلى جوزة الآخر, الآخر مثل الجوزة المقفلة على لبها, نستطيع أن ننفذ إلى جوزتهم أولاً عبر العيون , والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو كان من أعاديها, الدراسات أيها الإخوة على تطور الطفل والطفولة تؤكد أن الطفل بدءاً من الشهر الثاني معظم الأطفال بدءاً من شهرهم الثاني ينظرون أكثر إلى العينين , ليس إلى أيدينا ولا إلى أنوفنا , إلى العينين في وجوهنا, وهذا شيء إلهي !

نعم لأن العينين لغة أيها الإخوة , مفهومة عند من يعرفها, قد تقولون بعض الناس لا يفهم لغة العينين, الذي لا يفهم لغة العينين بالحري أن لا يفهم لغة الوجه, لغة الابتسام, لغة البسر , ولا لغة الجسم وهذا ما يسمى في علم النفس بعمى العقل وهو المريض المتوحد المصاب بمرض التوحد أو Autism , الشخص المتوحد أيها الإخوة لا يستطيع التواصل معنا بشكل سليم لا لغوياً ولا عاطفياً, قد يكون عبقرياً في الرياضيات, تعطيه 10 أرقام مضروبة في 9 أرقام يعطيك النتيجة قبل الكمبيوتر, لكنه متخلف اجتماعياً.

كثير من هؤلاء الذين يقفون في تخوم وعلى تخوم العبقرية متوحدون للأسف , نعم , أشخاص متوحدون وهم فاشلون عاطفياً فاشلون اجتماعياً, وأكثر شيء يفشلون أيضا أسرياً , أزواج فاشلون آباء فاشلون , إن سنحت لهم فرصة أن يكونوا آباءاً أصلاً, فهذا هو أعمى العقل, هؤلاء كما نتجشم ونحن صغار, أعباء تعلم مهارة الكتابة, عليهم أن يتجشموا صغارا في معاهد ومدارس خاصة أعباء قراءة التعابير, يعلمون ذلك تعليماً , إذا رأيته انفشرت شفتاه معنا أنه راضٍ, إذا رأيته زم شفتيه مثلا ورفع حاجبيه فهذا معناه أنه مندهش, احفظ هذا فيحفظ هذا, هذا هو المتوحد المسكين أعمى العقل وإن كان بصير العين وإن كان عبقريا في بعض المهارات , هذا المتوحد.

بعض العلماء الكبار يسمي عصرنا هذا ( عصر التوحد ) لأنه على ما يبدو ينحوا منحاً وينح الناس فيه ألا يكترثوا في مواقف ومشاعر وتعابين الآخرين, الكل يسأل عن نفسه ونفسه فقط, فهذا العصر كله هو عصر التوحد, لكن التوحد المصنوع وليس التوحد المفطور والمغروز, ثمرة من ثمار هذه الحضارة المادية.

إذا عبر العينين عبر التعابير أيها الإخوة عبر حركات البدن عبر لحن القول هذا ما يعرف بعلم قراءة الأفكار, هذه مداخله وهذه دعائمه وأساطينه وغيرها لكن هذه أشهرها أيها الإخوة.

الإنسان المتسم بالذكاء العاطفي العالي يكون متفوقا في هذه المجالات, يقرأ الكلمات جيداً يقرأ البدن جيداً يقرأ العيون السحنة أيها الإخوة, قسمات الوجه جيداً ويعرف تماماً الرسالة الحقيقية التي عند الآخر وليست الرسالة المزيفة.

على كلٍ نعود إلى موضوعنا, الأطفال أيها الإخوة يبدؤون في الابتسام منذ الأسبوع الرابع من أعمارهم وهذا شيء عجيب, لكن يبدؤون في الضحك الحقيقي في الشهر الرابع, هذا أول فونوم كما يقولون في لغة الحب الصامتة, أول خطوة في لغة التواصل الأخرس لكنه بالحقيقة ليس بأخرس , هذا ناطق لكن بلغة ثانية ( الابتسامة ) وهنا تتحول علاقة الأب بالذات , الأم أقل من ذلك؛ لأنها أكثر اعتناقاً وحميمية بينما الأب تتغير علاقته بشكل دراماتيكي بصغيره حين يبدأ يبتسم له, ويبادله الابتسامة بالابتسام.

يقول البعض لولا ذلك لامتلأت دور الملاجئ لتخلى كثير من الآباء عن أبنائهم لا يريدهُ, ماذا يريد من كائن ميكانيكي, من شبه آلة؟ لكن هذه الاستجابة الحقيقية عبر الابتسامة.

العجيب الآن أيها الإخوة, وهذا يؤكد نظريتنا , المأخوذة والمستلة من كتاب الله تبارك وتعالى , أن الأطفال الصم البكم يمارسون الشيء نفسه وفي العمر نفسه, وهذا غريب وعجيب! يبتسمون في الأسبوع الرابع, يكورون المشروع إلى ضحكة كاملة في الشهر الرابع, والعميان كذلك, وهذا هو العجيب, إذا ( وأنه هو أضحك وأبكى )

شيء رباني, شيء فطري مغروس ومغروز , ليس شيئا نتعلمه بالتربية, ليس مهارة ثقافية أيها الإخوة نأخذها بالتطبيع الثقافي, وإنما شيء نولد به أيها الإخوة, وله فوائد كثيرة, فوائد في التواصل الاجتماعي هذه تحتاج إلى محاضرة بحيالها, فوائد أيضاً على المستوى الصحي, يعني حين نضحك كثيراً أيها الإخوة هل نستفيد صحياً ؟ طبعاً, نستطيع أن نقول بلغة أرسطو هذا يشكل تطهيراً للبدن, أرسطو كان ينظر إلى المسرح على أنه تطهير, إذا كنا نتابع الدراما أو الكوميديا, أرسطو كان يعتبر الكوميديا ماذا أيها الإخوة ؟ بلاهة و دمامة, الضحك دميم والذي يضحك دميم مثل أفلاطون في المدينة الفاضلة, كان يشجع الفاضلين المرشحين لقيادة المدينة الفاضلة, فقط أن يبتسموا, أما أن يضحكوا فلا , لأن الضحك يليق بالمستَخدمين الأقنان وليس بالرجال الأحرار الأذكياء, هذا كلام فارغ , هذا بقى عند الشعوب التي تعاني من التخلف أيها الإخوة , في رؤيتها إلى أنفسها, وفي رؤيتها إلى الحياة والأقدار إلى اليوم , في المثل العربي وأشرت إلى ذلك مرة في خبطة عن السعادة الحق , في المثل العربي العامي, إذا ضحك الناس نصف ساعة أو ساعة يستعيذون بالله من شر هذه الساعة ويسألون الله أن يعطيهم خيرها, لأنهم يضنون إذا ضحكوا لابد أن يصابوا بمصيبة , لماذا يا أخي ؟

كأن القدر يتربص لنا ليعاقبنا على فرحنا وسرورنا, بالعكس الله عز وجل أكثر ما يرضيه أن يكون الإنسان المؤمن والمؤمنة والإنسان عموماً مسروراً, لكن في غير معصية  , لذلك أعظم العبادات والأعمال والقربات سرور تدخله على قلب المسلم , تبسمك في وجه أخيك لك صدقة , هذا من المعروف , النبي كان أكثر الناس تطلقاً وضحكاً وتبسماً في وجه أصحابه , لماذا نستعيذ بالله من شر الضحك , كلام فارغ!

Chester كان يقول لأولاده أيها الإخوة , وكتب هذه في وصيته , إذا كنتم بين الناس فلا تكونوا ضاحكين , لكي لا تكونوا سخيفين , اكتفوا فقط بأن تكونوا مراقبين للضاحكين , بوسعكم أن تكونوا مبتسمين , أن تضحكوا لا.

ولذلك الدراسات والكتابات والأبحاث العلمية والفلسفية والنقدية حول الضحك ,  في الاعصار الماضية كانت شحيحة وقليلة للغالية جدا جداً , أما اليوم فهي بعشرات الآلاف, في علم الانثروبلوجيا , السايكولوجي, في علم الخلايا , حتى في علم الوراثة , هناك علم الضحك , علم كامل , كثيرة جداً الآن بحمد الله لأن البشر بدا يعي قيمة هذه الغريزة التي فطر الله سبحانه وتعالى عليها وأنه هو أضحك وأبكى, هذا كنز بين أضلاعنا أيها الإخوة , نبدده دون أن نعرف قيمته , لذلك بعضهم وقف الموقف المعاكس , فبولد كان صديقا للأستاذ العلامة عباس العقاد , اتصل حبله به حينما كان العقدا منفيا تقريبا في الخرطوم, والعقاد بالمناسبة صاحب الكتاب العظيم جحا الضاحك المضحك الذي أراد فيه أن يطور وأن يبلور فيه بعض النظريات المعمقة في تفسير وتعليل الضحك رحمة الله عليه, فنيوبولد  صديق العقاد أيها الإخوة , كان يقول أنا أقترح أن تفتتح المجامع العلمية العالمية والمؤتمرات الدولية بأفلام فكاهية , يحضره قادة الدول العظمى وبعدين يبدأ المؤتمر, لماذا؟

طبعاً في إشارة إلى أن ملكة الضحك لا يستطيعها قسات القلوب والدكتاتوريون وجزاروا الأمم لا يستطيعونها أبدا, سأل عالم نفس عن تعريف السعادة , أصعب شيء أن تعرف السعادة , صعب جداً لذلك تعريفها بالمئات, فقال ليس عندي تعريف محدد لكن ما عندي هو : لو كان الناس سعيدين لما ذهبوا إلى الحرب , وهذا صحيح , لذلك لابد أن نكون سعيدين حتى قادة الدول تحل مشاكلنا حلاً طبيعياً, هل تظنون الناس الذين يحتربون ويتقاتلون ويسفك بعضهم دم بعض سعداء؟ حتى وإن كانوا أيدلوجيين ومؤمنين ويبتغون الجنة عند الله؟ لا والله , ليسوا سعداء بل تعساء, تتأكلهم الأحقاد والضغائن أيها الإخوة والرغبة في الثأر والانتقام, للأسف لأن ثقافتهم لم تعطهم هامشاً واسعاً ومجالاً متاحاً مقدوراً , وبالتالي مشطوراً من خدمة السعادة , عبر الابتسام والضحك , حتى في اللحظات الحالكة , العجيب في شأن الضحك أيها الإخوة , أنه قريب جداً من البكاء, لذلك قارنه الله به , ( وأنه هو أضحك وأبكى ), يمر أحدنا في مواقف كثيرة لا يدري فيها أيضحك أم يبكي , لا يدري وربما يتناوبه الاستجابتان , يضحك ثم يبكي ثم يضحك وهكذا , ويحدث هذا للأطفال كثيراً ويحدث أحياناً للراشدين , والعرب يقولون: شر البلية ما يضحك.

إذا ممكن أن يضحك الإنسان من عظم البلية والمصيبة , وأبو الطيب يقول في وصفه لأهل مصر : وكم ذاب مصرَ من المضحكاتِ .. ولكنه ضحكٌ كالبكاءِ, ولورد بايرون الانجليزي يقول وهو شاعر كبير طبعا معروف عالمي, يقول: ما ضحكت مرة من مشهد إنساني زائل , إلا كان ضحكي تجنباً لبكائي.

فهذا يختلط بهذا ومن المشاعر العميقة والغرزية والأقدم في تطور الإنسان , يبدوا أن الإنسان مذ كان , كان يضحك ويبكي, ويبكي ويضحك , كل إنسان, فالذي لا يمارس الاستجابتين بشكل طبيعي بشكل معقول ومفهوم منقوص الإنسانية, منقوص الآدمية , صدقوني بعض الناس , أنا أعرف بعض الناس الذين أحبهم وأحترمهم, قليل في حياتي وربما لا أذكر أني رأيتهم مرة يبكون , وأنا أشك في إنسانية هؤلاء وإن كنت أحترم مسالكهم.

لا يعجبني ولا يرضيني أن لا أرى الرجل أو المرأة يبكي في موقف, لابد أن تبكي يا أخي! لابد أن تبكي رحمة لابد أن تبكي فرحاً, لابد أن تبكي شوقاً , لابد أن تبكي شغفاً, أن تبكي ألماً , لكن لا أذكر أنني رأيت بعض هؤلاء في موقف على مدى سنوات , وهذا نقص في الإنسانية, بعض الناس للأسف تعلمه الثقافة المنكوسة أن البكاء عيب, لكن ليس عيب أن النبي بكى مئات المرات إن لم يكن آلاف المرات على المنابر وفي المحاريب وأمام الناس, وكان يمسح دموعه التي تبلل لحيته الشريفة, كان يبكي! بعض الناس يخشي أن يبكي من خشية الله أمام الناس,  يخجل, وليس يدعي الورَع عن ذلك , إنما يأخذه الخجل أن يبكي , وبعض الناس أيضا سيما إن كان من علية الناس, ومن ذوي الهيئات وأصحاب المناصب يخجل أن يضحك , دائما يدعي العبوس والصرامة والرزانة, نقول له أنت مع موعد مع الاكتئاب, إن قريباً أو بعيداً , أعصابك في خطر, إن غفر لك المجتمع فلن تغفر لك أعصابك , انتبه حالتك ليست طبيعية ليست سوية, ولذلك بعضهم إذا حاول أن يرسم ابتسامة تأتي ابتسامة دوتشي, لا ينزلق الحاجب أبدا, نعرف أنها ابتسامة مزيفة , كابتسامة النادل أو مضيفة الطيران.

مثل ابتسامة المفصوم, الشخص المفصوم يبتسم ثم يقهقه, يقول الأطباء المعالجون ولكن لا يتعاطف معه أحد , لأنها قهقهة غير حقيقة , وغير صادقة, بخلاف المصاب بلوثة المرح وهي لوثة هوسية , نوع من الهوس يصل إلى مرحلة تسمى لوثة المرح, يضحك ضحكاً عجيباً لا يملك معالجه النفسي إلا أن يبادره ضحكاً بضحك , فيغرق هو أيضا في الضحك , حالة طبيعية هذه , لأنها ضحكة من القلب كما يقال , يضحك من قلبه , والعجيب أن الإنسان إذا استغرق في الضحك تسيل دموعه , فيراه من يراه ويحسب أنه يبكي, صحيح؟! لذلك هما قريبان جداً , هاتان الاستجابتان قريبتان جداً في بني الإنسان.

فنعود أيها الإخوة, نقول نعم هو مفيد جداً للإنسان , ويسميه عالم النفس المشهور أيضاً وله دراسات علمية رصينة في هذا الباب أيضا Lillian Beck يسميه الركض الداخلي, Internal jogging , كما أن الركض الخارجي يساعد الجسم على التخلص من سمومه وينشط الأعضاء والآليات, كذلك هذا الركض الداخلي (وهو الضحك) يساعد النفس على التقلص من إحباطاتها من آلامها ومن سمومها, لكن أراد أن يتكلم بمنطق علمي محدد, فذهب الرجل وأجرى بعض التجارب, و وجد فعلاً أن الإنسان حينما يمارس الضحك ويضحك و يضحك ترتفع نسبة الهرمونات الجيدة, Endorphins  والـ Dopamine النسبة ترتفع, وحينما يقل الضحك ترتفع نسبة الهرمونات السيئة , الـ adrenaline والـ  Cortisol ترتفع هذه وتنخفض هذه, وهذا يؤكد صحة النظرية, أن الضحك يطيل العمر ويساعد على تواصل الحياة مبتهجة ملتمعة و وامضة .

لابد للمرء أن يضحك أيها الإخوة , وإن لم تكن الظروف ودائما وفي كل وقت تساعد على أن يضحك من قلبه وأن يضحك بصدق, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمدلله رب العالمين ,الحمدلله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعمل ما تفعلون , ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله , والكافرون لهم عذاب شديد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن سيده محمداً عبده ورسوله, صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

والآن أيها الإخوة حتماً علينا, تحتم علينا الظروف, من باب استكمال الشطر الآخر للآية ( وأبكى ) أن نقص عليكم هذه القصة الواقعية , ربما بعضكم سمع بها لا أدري, ربما بعضكم لم يسمع بها:

مجموعة من الإخوة أورثهم أبوهم داراً كبيرة ذات مرافق, فتنازع الكبار منهم , الصغار طبعاً لا علم لهم بطبيعة هذه المسائل , الميراث والموروث والمواريث ونصيب هذا ونصيب هذا , ونصيب تلك, يلهون يلعبون , ويأتمرون بما يشير عليهم الصغار, اختلف الكبار أيها الإخوة , ماذا لك من هذه الدار ماذا لي أنا أين نصيبك أين نصيبي , أين حدودك أين حدودي, فانتهى بهم الأمر والعياذ بالله , شرعوا بهدم الدار حجراً حجراً , بل أكثر من ذلك , رفع بعضهم يده على أخيه , وسال الدماء, أسوأ من ذلك, انتهى هذا النزاع بقتل بعض الإخوة لبعضهم, فالآن أيها الإخوة , بعضهم يموت وبعضهم مات والدار تتهدم , هل سمعتم هذه القصة؟ أظنكم الآن تشاهدونها على التلفاز , ما يحصل في فلسطين وما يحصل منذ سنين في العراق هو هذه القصة, لذلك أيها الإخوة , أود أن أقول لكم شيئاً :

وأرجوا أن يكون واضحاً , لي أولاً ولكم , ونسأل الله أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن , أسوأ شيء يصاب به الإنسان , أن يخلي الله بينه وبين نفسه فيكون مشاركاً في فتنة , تسيل فيها الدماء وتزهق فيها الأرواح , ويخرب فيها العامر وتنتهك فيها الأعراض والحرمات , ويشمت فيها الشامتون, ويحزن فيها الوادُّون المخلصون ,  أسوأ شيء, سيكون لعنة عليه في التاريخ , ولعنة عليه بين لذاته وأترابه وأهله وإخوانه , وربما لعنة عليه عند رب العالمين لا إله إلا هو والعياذ بالله رب العالمين, هذا ما يحصل.

سأقول شيئاً :

بعض الناس قد يكون حاسوباً أو موسوعة علمية في استطراد بيانات ومعلومات ومعطيات غريبة جدا جدا ودقيقة, ولا ينازع في ذلك , لكنه رغم ذلك عاجز عن التفكير ( أحكي عن حالة مرضية ) ربما رأيتم مثل هؤلاء المعاتيه , في التلفزيون يحفظ مئات المجلدات يحفظ سنوات بأحداثها باليوم بالساعة شيء غريب جدا لكنه متخلف عقليا ولا يستطيع أن ينتج لك فكرة واحدة سليمة.

هذا ما يحصل مع كثير من أمتنا اليوم , ما أحب أن أقوله , ليس يعنيني في هذه الظروف أن يأتيني الشيعي أو السني الحمساوي أو الفتحاوي وأدخل معه أو يدخل مع أخيه في مجادلة طويلة لا أول لها من آخر, الحق مع من ؟ من الذي بدأ ؟ في تاريخ كذا في يوم كذا … ! بل عشر سنوات أنتم فعلتم هذا .. هذا لا يعنيني, ما يعنيني فقط أيها الإخوة هو شيء يعني  كل مفكر وكل عاقل وكل إنسان لا يتمتع فقط في قدرة استظهار المعلومات والتواريخ والجزئيات والأحداث والتفاصيل , وإنما يستطيع أن يولد رؤية , أن تنكشف أمام بصيرته رؤية أيها الإخوة , أن يحتكم إلى إنموذج عام , هذا الإنموذج, تصدقه حكمة التاريخ وتصدقه حكمة الواقع , ويصدقه المنطق البدهي, البارئ من لوثات الإيديلوجيا والتحزب والتمذهب, أنا متأكد الآن , لو جئنا إلى مواطن عراقي أو مواطن فلسطيني , ليس له علاقة بكل هذه التصنيفات , لا يعنيه أن يكون سنياً أو شيعياً , مواطن بسيط جداً جداً , يعني بالكاد يصلي صلاته , على أي مذهب من المذاهب الأربعة , لكن لا يعرف ما يعني أن يكون سنياً , وإن كان شيعياً لا يعرف ما يعني أن يكون شيعياً , لأنه جاهل تماماً  وينصف جاهل عند السنة وعند الشيعة, أو مواطن فلسطيني لا يدري ما هي حماس ولا فتح ولا يعنيه أن يدري , يأكل ويشرب غلبان , لو سألنا هذا الإنسان بالمنطق البدهي الذي لم يلوث بالاديلوجيا وبالتعصبات طبعا ما يحدث الآن ببساطة, يعمد الحمساوي إلى التلفزيون مباشرة يفتح على المواقع الحمساوية ويرى تبرير حماس لما تفعل ويصدق كل ما هنالك ليس عنده استعداد أن يشكك بما هو مكتوب, الفتحاوي مثله , لا يقل عنه شئناً , يذهب ويصدق ما يلقى إليه من جهته وليس لديه استعداد واحد في المليون أن يتشكك فيما يقال إليه , كذلك الشيعي كذلك السني, صدقوني أنتم ستوافقون على هذه الحقيقة لأن هذا هو الجاري, هذا هوا الحاصل شئنا أم أبينا, لكن هذا المواطن الخام سيقول لست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء, لأن ما أراه الوطن يضيع , الإخوة يقتتلون كيف أشارك في كل هذا العبث, هذا موقفه حق أيها الإخوة , صدقوني هذا موقفه حق.

لذلك النبي وجهنا توجيهات ولدينا خطبة مطولة وخطب في هذا الموضوع في زمن الفتنة إلى ماذا؟ إلى السلبية أن نكون سلبيين ,أن نعتزل بيوتنا, سلبيين فعلياً , أو مسلكياً , لكن بالكلام ننصح , ننصح بما يجمع بما يوحد بما يفوت على العدو تحقيق مقاصده ومخططاته اللعينة.

يا إخواني يا إخواني في المواقع في المجلات في الكتب في المحاضرات , على ألسنة القوم منذ أكثر من سنتين , ويتردد المنطق بأن المنطقة بانتظار حروب طائفية ومحلية , وبدا هذا يظهر هنا وهنا وهناك , ثلاث بقاع أربع ! ويزداد الأمر انتبهوا , إذاً المخطط سارٍ وماشٍ سبحان الله , ناجح ممتاز , ليس لدينا من حكمة أن نقف هذا العبث , ليس لدينا أصوت تمتلك شيئا من الحكمة حقا أن تساهم في وقف هذا العبث, أن تدق نقوس الخطر ليل نهار أيها الإخوة , تنذر من عوابق هذا الحدث , ما الذي يحصل شيء عجيب الذي يحصل أيها الإخوة, شيء فظيع جداً, بالمفكر الواعي تفيده خبرة التاريخ ومآسي الواقع , مآسي هذا القرن المنصرم العشرين , أن الكل في النهاية سوف يكون خاسراً , والله العظيم ! واللــــه العظيم الكل سوف يكون خاسراً , كما قلت لكم لست أن أدخل في مساجلات , لكن هناك تيار انقلابي داخل فتح يريد .. لا يعنيني المساجلات , لأنها لن تنتهي أيضاً , وربما لن تنتهي إلا بصب الزيت على النار, إلى تأريث هذه النيران , وفي النهاية المواطن هو الخسران الفلسطيني هو الخسران القضية هي الخسرانة الكل خاسر!

العدو رابح دائماً في هذه الظروف, مش ممكن!

كنا نشعر أحياناً بنوع من العزة والفخر لمناضل يسقط أو يرتفع شهيداً في نضال عدوه , لكن الآن لدينا شيء يعرف بالإبهام بالإزدواجية العاطفية, لا نعرف هو شعور بالعار شعور بالخزي شعور بالحزن, بالألم بالقلق, بالخوف مما سيأتي, مما هو حاصل, لا نعرف , لكن هو دائماً مركب من شيئين سيئين , خزي مع عار مع قلق مع خوف وتوجس, حينما نرى الأخ يسقط بيد أخيه , حينما قصصت عليكم الأمثولة تأثرتم , طبعاً أردت أن أوحي إليكم أنها حصلت هنا في فيينا , إخوة ورثوا أباهم , كلكم فهمتم الحقيقة جلية في لحظة تبصر , واضحة تماماً تعرفون لماذا ؟! لأنكم في هذه اللحظة مفكرون تمثلتم في نماذج لا تخطئ نماذج دائماً صادقة , لكن حين صرنا من النمذجة ومن التجريد إلى التعيين والتشخيص أيها الإخوة أنا متأكد أن بعضاً منكم مرتاب! بعضهم بدا يساجل نفسه , لكن الذي أعرفه أن هذه الحروب الداخلية قتل الأخ لأخيه تهديم الأوطان تمرير مخططات لا يمكن أن يصادق عليها عاقل, يقول عليه الصلاة والسلام : عبادة في الهرج ( في القتل في الاقتتال الداخلي , النبي قال شارك , النبي قال اعتزل بيتك كن مثل السجاد الذي له 20 سنة في بيتك ) عبادة في الهرج هجرة إلي.

كهجرة , كم مرة ذكر الله الهجرة في القرآن الكريم شأنها عظيم جداً , كما قال أحمد أحمد حينما روى للأعرابي الذي أراد أن يهاجر قال ويحك إن الهجرة شأنها عظيم, لكن اعمل من وراء البحار فإن الله لا يضيع عملك, الحديث المشهور.

الهجرة شأنها عظيم جداً جداً, وخاصة عندما تكون هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم , قال عبادةٌ في الهرج كالهجرة إلي, لماذا؟ والله أيها الإخوة كل ما يمر بالأمة وبنا وبكم من تجارب من محن من اختبارات من فتن ..

أؤكد دائماً أيها الإخوة أنه لا يتمتع بالبصيرة الحقة إلا من آمن حقاً بالله ورجا الله واليوم الآخر , من كان دائما عقله وتلمحه الله , وجه الله تبارك وتعالى, ما عند الله , ويعلم أنه له موقفاً قريباً و وحياً أيها الإخوة بين يدي رب العالمين , هذا الذي يعطى البصيرة.

وهذا الذي يزن الأمور بميزان يرضى به الله ويرضاه الله لنا سبحانه وتعالى , كل من ابتعد عن هذا الطريق ولم يكن رجاؤه الله واليوم الآخر وما عند الله فإنه يظن نفسه إلى درجة أنه يجود بنفسه , يَقتل أو يُقتل, يظن نفسه أنه اقتعد على عرش الحقيقة المقدسة المطلقة الكاملة, وأن كل ما يفوه به هو الحكمة , منتهى الحكمة , وما يخالفها إلا الضالون , إلا الجاهلون , يظن هذا المسكين مع أنه غارق في الضلالة , وغارق في الغوايا وغارق في العمايا والعياذ بالله تبارك وتعالى , فلنعد إلى الله.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى , وصفاتك العلى , وكلماتك التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر, أن تحقن دماء عبادك إخواننا المسلمين , في فلسطين وفي العراق, وفي الصومال وفي لبنان , وفي كل مكان , اللهم احقن دماء المعصومين , يارب العالمين من عبادك أجمعين , اللهم وحد أمر هذه الأمة , وأبرم لها أمر رشد تعز فيه أوليائك, وتذل به أنوف أعدائك , يُعمل فيه بطاعتك, يتآمر فيه بالمعروف ويتناهى فيه عن المنكر, وتأمن فيه السبل, يا ولي المؤمنين , يا مجيب دعوة المضطرين , يارب العالمين , لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين , اللهم إنا نسألك أن تجنبهم الفتن , ما ظهر منها وما بطن , اللهم جنبهم الفتن والفتانين, ما ظهر منا ومنهم وما بطن ,بعزك ولطف الخفي يا جميل الألطاف يا رب العالمين.

عباد الله , إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون , فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد , قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

فيينا 02/02/2007

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: