إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۩ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ۩ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ۩ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ۩ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ۩ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ۩، عجيب أن يكون هذا القيل أو هذا القول أول قيل أهل الجنة بعد دخولهم الجنة وحلولهم المقامات. وآخر قيلهم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، طبعاً كما نعرف جميعاً. لكن العجيب أن يكون أول القول الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۩.

أكثر من إشارة، بل فوق التصريح، أن الحُزن – والحَزن هو الحُزن، حَزِنَ يحزن حُزناً وحَزناً، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ۩، قال حَزَنًا ۩، أي حُزناً، فالحَزن هو الحُزن، نعم – من آصل المشاعر الإنسانية. أكثر من تصريح أن الحُزن أو الحَزن هو من آصل العواطف والمشاعر في النفس الإنسانية. أصيل جداً، فوق ما يتصوَّر أكثر حتى الفلاسفة وعلماء النفس، ليس عاطفة عادية، ليس عاطفة عادية! مع أنهم بلا شك طبعاً وفقوا في أن يجعلوها ضمن العواطف أو الانفعالات الستة، التي هي أُسس المشاعر الإنسانية الكثيرة، التي تبلغ الآلاف عداً، فالمشاعر الإنسانية بالألوف!

وذكرنا مرة في خُطبة قديمة عن عالم النفس الشهير عالمياً بول إيكمان Paul Ekman أنه يستطيع – وأثبت هذا الرجل، وذكر هذا في كُتبه – أن يُميِّز بضعة آلاف معنى يقرأها في الوجه الإنساني. شيء عجيب، بضعة آلاف! شيء مُخيف. لكن كل هذه المشاعر والعواطف والانفعالات ترتد وتأرز وتعود إلى ستة أصيلة، الحُزن في رأسها، الحُزن من بينها. السعادة والحُزن، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ۩، وانظر إلى التعبير، وَأَنَّهُ هُوَ ۩، الله هو الذي فعل هذا، تماماً كما خلق النفس وسواها وألهمها فجورها وتقواها، ما من أحد بلا نزوع إلى الخير أو بلا نزوع إلى الشر، على تفاوت طبعاً، والسعيد مَن غلب خيره شره. وكذلك ما من أحد يخلو من هذه العاطفة، التي يطيب لي أن أصفها وأن أنعتها بالوقورة، الحُزن عاطفة وقورة، وعاطفة ثقيلة وعميقة. بعضهم يصفها بالنُبل، بالنُبل! يقول أنبل العواطف الحُزن. عجيب! هي ليست عاطفة خفيفة قطعاً.

بعبقريته النافذة لاحظ أرسطو Aristotle – وهذا قبل الميلاد بنحو أربعة قرون – الآتي، لاحظ في كتابه بوليتيكا Politiká أو فن الشعر، حين تحدَّث عن الدراما أو عن المأساة وعن الملهاة (الكوميديا)، أن الكوميديا تُناسِب العامة، وأنها خفيفة وسطحية وعادية، عادية! الكوميديا عادية، فن عادي. أما المأساة وأما الدراما فهي التي تُناسِب الأرواح العلوية، الأرواح العميقة، الأرواح التي لها بُعد خاص، بُعد مُميَّز، خاصة وتُناسِب الخاصة، وقورة! وقورة بلاشك.

نشعر نحن بوقار الحُزن، مع أننا نخشاه جداً، ونستعيذ بالله منه دائماً، جرياً في سُنة حبيبنا المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، الذي كان يستعيذ منه حين يُصبِح بالله – تبارك وتعالى – بعد أن يقضي فرضه؛ اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزن. أول شيء! أعوذ بك من الهم والحَزن، لأن أكثر الهموم تُؤدي وتُنفِّذ كما يُقال الآن بالعامية إلى الحُزن. هناك هموم لا تُؤدي إلى الحُزن، وهي قليلة، لكن أكثرها تُؤدي إلى الحُزن. والحُزن إذا تمادى وتبيّغ – إن جاز التعبير، كالآلام العضوية التي تتبيّغ – بصاحبه، تأدى إلى ماذا؟ إلى الاكتئاب، الذي تحدَّثنا عنه حديثاً خاطفاً في الخُطبة السابقة.

إذن – إخواني وأخواتي – النبي كان يستعيذ بالله من الهم والحُزن، ومن العجز والكسل، ومن الجُبن والبُخل، ومن ضلع الدين وغلبة – وفي رواية قهر – الرجال، عجيب، عجيب! أوتيَ الحكمة – عليه الصلاة وأفضل السلام -. وأول ما يستعيذ به الهم والحُزن. فإذا تمادى الحُزن بصاحبه، تحوَّل إلى ماذا؟ إلى اكتئاب، وهو مُدمِّر، مرض خبيث! تماماً كالخوف إذا تمادى بصاحبه، تحوَّل إلى ماذا؟ الــ Anxiety، أي إلى القلق. شيء عجيب! الحُزن والخوف يؤديان إلى الاكتئاب والقلق. والاكتئاب والقلق بإجماع كل علماء النفس حول العالم أشيع الأمراض العقلية في العصر، على الإطلاق. الاكتئاب والقلق! لا غيرهما، في رأس القائمة. وهذا سر أن القرآن دائماً يعدنا، يحفزنا على أن المُؤمِنين الصالحين – اللهم اجعلنا من جُملتهم يا رب العالمين بفضلك ومنّك -، أنهم لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، لا خوف ولا حُزن، لا قلق ولا اكتئاب، عجيب! عجيب فعلاً، أي الآن سل أي عالم في علم النفس، قل له ما هي أشيع الأمراض العقلية أو النفسية – والتفرقة أصبحت الآن صعبة وتخومية، وهذا معروف، قصة أُخرى هذه -؟ وهو سيقول لك معروف؛ القلق والاكتئاب، لا غيرهما! إحصائياً وواقعياً في العالم كله القلق والاكتئاب. قل له ما هو الاكتئاب؟ وسيقول لك حُزن تمادى بصاحبه. الحُزن العادي الذي يأتي ويمر، ليس كذلك، هذا لا يُسبِّب أو ليس هو الاكتئاب، ولكن إذا أقام وقعد هذا وتوطَّن وفرَّش – كما يُقال – واستمر وتمادى، يتحوَّل إلى اكتئاب بالضرورة، هذا هو الاكتئاب! يتحوَّل إلى اكتئاب. وكذلك الخوف، عاطفة عادية، عاطفة عادية! العواطف الست والانفعالات الست هي ماذا؟ السعادة والحُزن، الدهشة والغضب، الخوف والاشمئزاز. هذه الست العواطف الرئيسة الأساسية في البشر جميعاً، ومنها تتفرَّع كل العواطف التي تُعد بالألوف والمشاعر والانفعالات، بالألوف! من هاته الستة الرئيسة. إذن هذا هو الاكتئاب، أما الخوف، فإذا تمادى بصاحبه، يتحوَّل إلى قلق.

إذن بالعقل الحُزن من ماذا؟ لا يكون الحُزن مما سيأتي، لا! الحُزن مما وقع أو هو واقع، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ ۩… عَلَىٰ ۩ ماذا؟ مَا فَاتَكُمْ ۩، لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۩، قال عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۩. والأسى هو الحُزن، أي الــ Grief، بالإنجليزية Grief، يُقال Sadness and grief. هناك تشابه كبير، الأسى والحُزن، الــ Grief! تَأْسَوْا ۩، أسيان، حزين. يُقال لك أسيان، أصابه الأسى. لكن ليس الحُزن ولا الأسى هما حتى الكآبة. وطبعاً هذه ترجمة، وهي ترجمة مُوفقة جداً، الذي ترجم الــ Depression إلى الاكتئاب، كان مُوفَّقاً جداً وعليماً بالعربية. لماذا؟ لأن كئب المرؤ، إذا انكسرت نفسه وهمدت من شدة ما أصابها من الحُزن. عجيب! إذن هذه اللُغة العربية، أي العرب حتى في الجاهلية كانوا يعرفون هذا، مع أن مُصطلَح الــ Depression هذا لم يكن معروفاً طبعاً في العالم العلمي، هذا مُصطلَح أوروبي في العصر الحديث، وعمره تقريباً ثلاثمائة سنة، أي من هنا بدأ يُستخدَم، ولكن الظاهرة واقعة والبشر يُميِّزون وجودياً، بين حُزن عابر وحزن طبيعي وبين حُزن مُقيم مُخيم، غمامات سوّدت سماء نفس صاحبها ولا تزول، موجودة دائماً، على مدار الأربع والعشرين ساعة، أف! هذه الكآبة، هذا الاكتئاب، والعرب يقولون هذا هو الكئيب. الكئيب هو الذي انكسرت نفسه وهمدت من شدة ما توالى عليها من ضروب الحُزن أو الأحزان. هذا الكئيب، وهو غير هذا الحزين العادي، أي هذا حزين من مرتبة خاصة، أي First rate هذا، مرتبة خاصة من الحُزن عند هذا المسكين. نعوذ بالله من الكآبة، ونعوذ بالله من الأحزان. جنَّبنا الله وإياكم الهموم والأحزان، أسبابها وتواليها.

فالقرآن يقول لا اكتئاب ولا قلق. لأن لا خَوْفٌ ۩، مُستحيل! إذا الخوف انتفى والحزن، ولكن الخوف من ماذا؟ الخوف مما سيأتي، الخوف من المُستقبَل، وهذا هو القلق، أي الــ Anxiety. لا يُوجَد واحد قلقان من الذي حصل، لا! قلقان من الذي سوف يحصل، ما الذي سوف يحصل مع أولادي، مع نفسي، مع زوجتي، مع غيري، في الامتحان، في الحرب، في الديون، في المُشكِلة الفلانية، وفي المُشكِلة العلانية؟ نعم، تفكير! قد يستبد بصاحبه ويُدخِله – والعياذ بالله – في عالم القلقين، يُصبِح عنده اضطراب القلق، أي الــ Anxiety. فالقرآن قال لا، لا خوف ولا حُزن. يعني ماذا؟ لا قلق ولا اكتئاب، لا قلق ولا اكتئاب! وهذه من نعم الله العُظمى، الآخرة أو الجنة ليس فيها لا قلق ولا اكتئاب، لكن الدنيا دار القلق ودار الاكتئاب، فيها قلق وفيها اكتئاب. ولا يُوجَد أحد يُمكِنه أن ينجو من شيء من الحُزن أو شيء من الخوف. في الدنيا طبعاً كل إنسان مٌستهدَف، لمخاوف مُعيَّنة ولأحزان مُعيَّنة. بعض الناس يتورَّط، يستحيل حُزنه إلى كآبة ويستحيل خوفه إلى قلق، وهذا يستدعي العلاج، يستدعي العلاج والتدخل بلا شك!

فهي – أي الحُزن، ونعود مرة أُخرى، عوداً على بدء – عاطفة عميقة أصيلة، آصل مما نتخيَّل. الذي يدل على مدى أصالتها ليس فقط هذه العلامة، أنهم أدرجوها ضمن الست العواطف الرئيسة، لا! هناك ما هو أكثر من هذا، أنها – أو تحدَّث عن الحُزن -، أو أن هذه العاطفة، أو هذا الانفعال، لا ينجم بالضرورة عن أسباب معقولة، والأسباب المعقولة ماذا؟ هم، فقد، مُصيبة، ألم. لا! أحياناً ينجم عن أشياء غير معقولة، عن نجاح – مثلاً -، كيف؟ نعم ينجح، ينجح في الامتحان بدرجات عالية، ويُصاب بماذا؟ بكآبة، وبحُزن شديد. اسمه Success depression، أي اكتئاب النجاح، والعلماء درسوه، لكن لم يتفطن أكثرهم إلى أن اكتئاب النجاح ينهض دليلاً على أن الحُزن أعمق مما نظن. عجيب! تنجح وتحزن؟ نعم. هو حزين، لأنه نجح نجاحاً باهراً، نجاحاً فائقاً. يُصاب باكتئاب، اسمه اكتئاب النجاح Success depression. شيء غير مُتوقَّع وغير مُتصوَّر، ولكن هذا هو الواقع.

أحياناً تسأل هذا الحزين أو هذا الكئيب، وتقول له ما السبب؟ فيقول لك ليس لدي سبب. فهل هناك مُشكِلة عائلية؟ أبداً، أي الأمور كلها تمشي رخاءً، تسير رخاءً، من أحسن ما يكون. ولكن يشعر بحُزن! وطبعاً السادة العارفون من قديم قالوا لك هذا طبيعي، نتوقعه، وهذا الإنسان العادي. ولذلك الحُزن نبيل ووقور وحكيم، لأنه يضطرك إلى أن تدخل غمار تساؤلات وجودية. انظر إلى هذا، أنت في قمة النجاح وفي قمة التفوق، والأمور كلها على ما يُرام، (أربعة وعشرون قيراطاً) كما يُقال بالعامية، فلماذا هذا الحُزن؟ لماذا هذه الكآبة؟ هذا يجعلك على الرُغم منك تتساءل، أسئلة من طبيعة وجودية، وجودية عميقة.

هناك الخبيرة على مُستوى العالم في هذه الشؤون كاي جاميسون Kay Jamison، وهي مشهورة! من المُؤكَّد على ما أعتقد أن المُهتمين بهذه الشؤون قرأوا لها بعض الكُتب، لها كُتب كثيرة مشهورة في العالم، وبعضها تُرجِم إلى العربية، مثل عقل غير هادئ، أي An Unquiet Mind، هذا تُرجِم إلى العربية، ولكن كتابها الآخر الرائع اسمه ممسوس بالنار، الممسوس بالنار! أي Touched with Fire، كتاب عظيم، وهي خبيرة، أستاذة جامعية طبعاً وخبيرة على مُستوى العالم، خاصة في الاضطراب الثنائي، أي هذا الــ Bipolar disorder، أو ما يُسمى بالــ Manic depression disorder، الاكتئاب الهوسي. خبيرة! لأنها عانت من هذا، في سني مُراهقتها.

هذه تقول الحُزن ضروري جداً للعمل الإبداعي، لفهم الحياة، لتعمق الوجود، لإدراك الأشياء الأكثر أساسية في حياتنا. الحُزن يأتي في المُقدمة! لا يُوجَد إبداع، لا يُوجَد عظمة، لا يُوجَد عُمق، ولا يُوجَد تفلسف حقيقي، بغير ألم، وبغير حُزن. عجيب! من أين عرفت هذا؟ ليس من تجربتها الذاتية، ولها تجربة. قالت لا، أنا درست العائلات، مثل عائلة اللورد بايرون Lord Byron وأقربائه. كل العائلات المُبدِعة هكذا! وأحياناً أنت تجد الإبداع – لأن هناك جينات Genes – في عائلات مُعيَّنة، ولذلك أنت تجد أن هناك تقاليد مُعيَّنة، يقولون لك عن عائلة مُعيَّنة إن تقليداً ما عندها. هم مُبرِّزون – مثلاً – في الــ Linguistics، أو مُبرِّزون في الــ Biology، أو مُبرِّزون في الــ Philosophy، أو في أي شيء. عائلات كاملة، هكذا! عبر مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة هم عباقرة في هذا الشيء.

درست هي هذه العائلات، لسنوات طويلة. وأتت بمُعطيات كثيرة، عكفت عليها سنين طويلة. قالت كل هذا موجود باستمرار، باستمرار! كلهم تُصيبهم الكآبة والحُزن وهذه الاضطرابات، لكنهم مُبدِعون، هذه العائلات مُبدِعة. هذا الجامع المُشترَك!

ولذلك الشاعرة آن سكستون Anne Sexton، وقد ماتت مُنتحِرة هذه المسكينة البائسة، تقول على المُبدِع أن يعيش الألم، لا أن يهرب منه. لماذا؟ لماذا نذهب إلى سكستون Sexton التي تقريباً لا يكاد يسمع بها أكثرنا؟ نذهب إلى المُبدِع الشهير كونياً وعالمياً، أعني دوستويفسكي Dostoevsky الروسي الهائل المُخيف، هذا مُخيف، هذا مُبدِع مُخيف في عُمقه وجماله ووجوديته المُؤمِنة، كان يقول اللهم لا تحرمني مُعاناتي. هو لمس بيديه أن المُعاناة هي التي فجَّرت كل طاقاته الإبداعية، لكن انظر، انظر إلى نفوذ تبصرات أرسطو Aristotle قبل ألفين وثلاثمائة وخمسين سنة تقريباً، أرسطو Aristotle مُذهِل، مُذهِل هذا الرجل، بذكائه فعلاً كما وصفه ابن رُشد، كيف عرف أرسطو Aristotle أن فعلاً الامتياز الحقيقي والعظمة الحقيقية هي من نصيب المأساة؟

المأساة هي للخاصة، للأرواح المُميَّزة. الضحك واللعب و(الهشك بشك) والرقص للتافهين وللسطحيين. هذا الحُزن وهذا الألم لهؤلاء العظماء، الذين يُثرون مسيرة البشرية. دوستويفسكي Dostoevsky عاش هذا، المسكين كان حياته مُسلسَلاً مُتواصلاً من الآلام والعذابات والهجرة والديون، مشاكل غير عادية عانى منها المسكين، والصرع والحُكم بالإعدام والنجاة منه بأعجوبة إلهية، شيء عجيب! ولكنه كان يقول اللهم لا تحرمني مُعاناتي. صحيح هي مُعاناة صعبة ومُؤلِمة، ولكنها أخرجت مني أعظم ما في. أخرجت دوستويفسكي Dostoevsky، الذي يتعلَّم على مائدته العالم كله، ويعرفه الذين يعرفون معنى الكلام ومعنى الرواية ومعنى الأسئلة الوجودية ومعنى التعمق في النفس الإنسانية.

وقريب من هذا جداً كلام ملفيل Melville؛ أي هربرت ملفيل Herbert Melville – هربرت Herbert وليس هرمان Herman صاحب موبي ديك Moby Dick، لا! هربرت Herbert -. هربرت ملفيل Herbert Melville يقول الحُزن نار، تُضيء جوانب النفس. في قعر النفس، وعلى ضوء هذه النار، نبدأ نرى الأشياء رؤية مُختلِفة، نلمس جوهر الأشياء، حقيقة الأشياء. وبعد أن نشفى حتى – يقول، أي حتى بعد أن نشفى – وتنطفئ نار الحُزن، لا نعود نرى الأشياء كما كنا نراها من قبل – نظرة السُذج والبُسطاء -. لماذا؟ قال لأننا لمسنا جوهرها. حين حزنا، حين نُكبنا، حين تألمنا، حين عانينا، استطعنا أن نرى الأشياء ونظرنا نظرة حقيقية.

ولذلك ذكرت لكم مرة من على هذا المنبر الآتي، حين لخصت لكم أُطروحة عالم النفس الأمريكي من أصل إيراني ناصر قايمي Nassir Ghaemi – أي قائمي، أكيد هي قائمي، ولكن هم يكتبونه قايمي – في كتابه جنون من طراز رفيع أو من طراز فريد، أي A First-Rate Madness. في هذا الكتاب المُهِم جداً حقيقةً والذي أصار ضجة حول العالم – ويستحق -، هذا الرجل درس شخصيات مشهورة جداً في السياسة، في الإعلام، في المال، وفي الأدب. وتقريباً كلها على ما أذكر في القرن التاسع عشر والعشرين، كلها هكذا، كلها! من بينهم لينكولن Lincoln – أبراهام لينكولن Abraham Lincoln – طبعاً، وتيرنر Turner مُؤسِّس السي إن إن CNN، وطبعاً جون كينيدي John Kennedy، وتشرشل Churchill، وكثيرون. هؤلاء جميعاً وجد أنهم يُعانون من هذه الاضطرابات النفسية، وخاصة الاضطراب الثنائي بالذات، لكن دائماً ما يُثبِتون – وأصبح عندهم نظرية – أن الأمم في لحظة تأزمها تحتاج إلى قادة من هذا الطراز، يُثبِتون أن الأمم والشعوب والدول في لحظات تأزمها تحتاج إلى قادة من هذا الطراز بالذات، من هؤلاء الذين – وأقول هذا بين مُزدوَجين – في نظر الناس مُختلين. يقول لك أحدهم مُختَل عقلياً، مُختَل نفسياً هذا، يُعاني من هذا المرض. نعم، هؤلاء بالذات هم الذين ينجحون، وبالذات في لحظات المُفترق، في اللحظات الحاسمة الخطرة.

لماذا؟ لأن حُزنهم المُخيِّم – وهو الاكتئاب طبعاً، هذا الحُزن المُخيِّم هو اكتئاب، الكلب الأسود عند تشرشل Churchill طبعاً، أي الــ Black dog – يُعطيهم واقعية حقيقية. هذا الحُزن المُخيِّم وهذه الكآبة تُعطيهم ماذا؟ تُعطيهم واقعية حقيقية.

المهووس – أي الــ Maniac، الشخص المهووس – ليس كذلك، لا يرى الأشياء واقعية. حين تقول له هل يُمكِن أن تطير على القمر بجناحين؟ يقول لك نعم، يُمكِن أن أطير بجناحين على القمر. أين الجناحان؟ وأين القمر؟ وأين أنت؟ يقول لك هو هذا. هذا المهووس، المهووس كل شيء عنده مُمكِن. فهل يُمكِن أن تعمل رسمة كالموناليزا Monalisa؟ موناليزا Monalisa ماذا؟ أحسن منها! أرني هذا. يخربش، يخربش خرابيش دجاج. المهووس يقول لك كل شيء مُمكِن، أنا لا يُوجَد أحد مثلي، أنا يُمكنني أن أعمل كل شيء. ولذلك المهووس مُتعِب جداً، وهذه نار أيضاً تشتعل فيه وفي مَن حوله. أي يُفهِمك أن القريب بعيد، وأن البعيد جداً قريب جداً جداً، وأن الثقيل خفيف. وكل شيء عنده مُمكِن.

لا! لا ينفع هذا، هذه خيالات، والهوس لا يقود الحياة، لكن واقعية المُكتئب تكشف ماذا؟ النقاب عن الحقيقة. واقعي! هؤلاء القادة العظماء – يقول قايمي – أثبتوا جميعاً أنهم نجحوا، لأنهم كانوا في اللحظات الحالكة واقعيين. الحُزن يُعطيك واقعة، الحُزن يُعطيك واقعية! الحُزن يجعلك تفهم الوجود كما هو، لا كما صاغه الشعراء أو الحالمون أو المُتأمِّلون أو السُذج من الناس والسطحيون، ولذلك الحُزن فعلاً يليق بمَن؟ يليق بالوقورين، بالحكيمين، بالرزينيين، وبالمُهِمين من البشر. سُبحان الله! قد يقول لي أحدكم هل هذه معناها أن هذه العاطفة التي نستعيذ بالله منها لها جوانب إيجابية؟ طبعاً، لها جوانب إيجابية طبعاً.

هناك الشاعر الفرنسي المسكين الذي قضى سنوات في المصحة (مصحة الأمراض العقلية) أنطونين أرتو Antonin Artaud، وهو طبعاً من أصل يوناني، وعانى المسكين من أمراض عقلية ومن الالتهاب السحائي، وحياته ألم! ومات في الأربعين من عُمره، أي في الأربعينيات، لم يُكمِل حتى الخمسين سنة. وكان يقول ما أبدع مُبدِع، لا رسم رسام، ولا نحت نحات، ولا شعر شاعر، ولا نثر ناثر، ولا كتب كاتب – مسرحي أو غيره -، إلا وهو يستمد من نبع الحُزن العميق، من تجربة أليمة مر بها. وهو نفسه طبعاً عاش التجارب هذه، وعنده نظرية خاصة في المسرح؛ نظرية القسوة، لمَن قرأها! على كل حال هذا عالم وحده، وهذه المُلاحَظة صحيحة أيضاً، وفي مكانها إلى حد بعيد، في مكانها إلى حد بعيد!

إذن حتى هذا الجانب المُؤلِم له إيجابيات؛ لأن بعض الناس يعترض. انظر؛ هنا تُوجَد أسئلة لبعض المُتشكِّكين والملاحدة. انظر؛ يظهر هنا كم السذاجة التي تدفع هذه الأسئلة الساذجة البسيطة! مدفوعة بسذاجة هائلة. لماذا خلق الله المُعاناة والعذاب والألم؟ يا رجل واضح من خلال هذا الكلام – وهذا الكلام ليس كلام مُتدينين، وليس له علاقة بالدين – أن هذا الحُزن في هذه الحياة مُهِم جداً، يبدو أنه مُكوّن مُهِم جداً، بل أكثر من مُهِم وأكثر من ضروري، لكي يُصبِح للحياة قيمة، لكي نفك مغلق أو مغالق الوجود، لكي نفهم معنى الحياة ومعنى الوجود، لا بد من الحُزن ولا بد من المُعاناة. هذا واضح، وهم يقولون هذا، يقوله كل هؤلاء المُتخصِّصين وكل هؤلاء الذين عانوا أيضاً وأبدعوا وتوهجوا وأشرقوا وتألقوا، ونحن نعيش على أضواء ما تركوه لنا. لا يُوجَد شيء خلقه الله هكذا، كل شيء له إيجابية، له وجه إيجابي. هذا الحُزن له وجه إيجابي.

ولذلك المُؤمِن هنا – وهذا الجُزء الآخر الآن -، المُؤمِن يتلقى هذا الحُزن بفلسفة أُخرى. لا يُحِبه، لا يتمناه، ولا يُحِب أن يتمادى به هذا الحُزن، ولكن بما أنه قد حل، وبما أن هذه الدار دار أحزان، فهو يتلقاه بفلسفة أُخرى. وطبعاً كما تُلاحِظون يا إخواني وأخواتي كلما امتد العُمر بالإنسان، عرف الحُزن أكثر. مُستحيل غير هذا، فالصغار لا يعرفون وحتى المُراهِقين – أي أكثرهم – لا يعرفون الحُزن، الكبار يعرفون الحُزن، بدءاً من الكهولة، فالشيخوخة، فما فوق. لماذا؟ كلما تقدَّم العمر، عرفت الحياة أكثر، عشت الخيبات أكثر، كثير من القيم التي كنت تعتصم بها ترى أنها تقريباً لا رصيد لها واقعياً في حياة الناس، مثل الصداقة، الأخوة، الوفاء، الحُب، الإخلاص، والصدق، كله كلام، كلام شعراء، كلام فارغ، ومُعظَم هذا لا رصيد له حقيقياً في حياة الناس، فتُحبَط بلا شك، وتنعقد هذه السحائب السود في سماء نفسك، تغيم هذه النفس، ويغلب عليك مشاعر الأسى، مشاعر الحُزن، وربما تستحيل اكتئاباً، فضلاً عن الفقد، تفقد الأتراب، يفقدن اللذات، تفقد أصدقاء العمر واحداً إثر واحد، واحداً إثر واحد، ومهما عشت أكثر، تفقدهم أكثر، وربما تفقد أيضاً بعض المُقرَّبين، مِمَن هم أصغر عمراً منك، نعم! ربما يحدث هذا، ربما! فكلما طال العمر، كثر الحُزن بلا شك، هذه طبيعة الحياة. وبلا شك أن الحكمة والوقار تكون مع المُجرِّبين المُعمَّرين، وليس مع الصغار، صعب! صعب أن تجد حكمة – نعم تجد معلومات، أحدهم عنده دكتوراة أو  عنده حتى نوبل Noble – مع واحد عمره خمس وعشرون سنة، ولكن لا تُوجَد حكمة، الحكمة الحقيقية تحتاج إلى التجارب، كما قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا حكيم إلا ذو تجربة. تحتاج إلى التجارب، والتجارب تحتاج إلى عُمر، التجارب تحتاج إلى ماذا؟ إلى عمر. مدرسة الحياة، مدرسة الحياة!

ولذلك أحياناً حين تستمع إلى عالم في أي تخصص – وخاصة من التخصصات الإنسانية هذه، وهذا عالم، شيخ كبير، عمره خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون سنة، وهو وقور -، تشعر بأن هناك فعلاً شيئاً مفقوداً. حين تستمع إلى هذا العالم، تشعر من خلال كلامه وبالمُقارَنة وبالمُقايَسة بأن شيئاً مفقوداً في كلام الذين يتناولون الموضوع نفسه من صغار السن. هذا الكلام فيه جمال، فيه عُمق أكثر، فيه شيء مُختلِف، فيه لمسة – فيه Touch – هكذا غير عادية. هناك العمر، والحكمة الحقيقية، حكمة التجربة. وكلام هذا الشاب الصغير كلام جميل، كلام كُتب، ومنقول من كُتب، يحفظه ويقول، هل يُدرِك معناه؟ الأرجح لا. هل يُدرِك معناه الحقيقي؟ الأرجح لا. ولذلك لا تشعر أنك تأثرت تأثراً بالغاً بكلام هذا الشاب – الجميل على فكرة والمُجتهِد والطيب، ولكنه صغير -، كلامه سطحي، على أن الكلمات في نفسها أو الكلام في نفسه عميق، والموضوع عميق، ولكن الكلام في مُجمَله سطحي، صدر من شخص سطحي. حتى طريقة إلقائه، تنظيمه، تبرير بعضه ببعض، وربط بعضه بعض سطحي. وهو لم يفهم، هو غير فاهم تماماً في ماذا يخوض أو فيما هو خائض. بخلاف هذا الكبير المُعمَّر المُجرِّب الذي حنكته الأيام، حنكته الأيام والتجارب أو التجاريب. شيء مُختلِف! ولذلك لا حكيم إلا ذو تجربة. كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

إذن هذه إيجابية الحُزن، يُوجَد شيء إيجابي في هذا الشيء الرهيب المُخيف، الذي نخاف من شبحه. فلسفة المُسلِم يا إخواني مُختلِفة إذا حل، ويبدو أنه لا بد أن يحل مرة ومرات، هذا طبيعي. ومن حظ المحظوظين – اللهم اجعلنا من المحظوظين المجدودين دائماً يا رب العالمين – أن الحُزن في حياتهم فقرة، أو فصل – أي Chapter – في كتاب كبير، والحمد لله. كما يقول الصينيون الحُزن هو الطفل الصغير للفرح الكبير. الحُزن هو الطفل الصغير للفرح الكبير! نعم، ليس دائماً سيئاً. هذا يكون محظوظاً ويكون مجدوداً – بفضل الله تبارك وتعالى -.

المُسلِم حين يحل الحُزن يتلقاه بفلسفة أُخرى، ويعلم أنه لا بد وأن يحل، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ۩، قال وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ۩. محمد حزن، ومرات كثيرة؛ على فقد بناته، على فقد خيرة أصحابه، على فقد عمه (أسد الله)، على فقد ابنه الوحيد الذكر (إبراهيم)، تخيَّل أنت هذا! تخيَّل نفسك لو عندك ابن ذكر ووحيد، تحتاجه، عندك بُنيات لكن تحتاج إلى هذا الولد، وخاصة في مُجتمَع عربي يرون أن الابن هو الذي يحمل اسم أبيه وهو سر ابيه، تحمله بين يديك وعمره زُهاء سنتين، أي اقترب من السنتين، ثمانية عشر شهراً، أي هذا ليس صغيراً، سنة ونصف! يمشي ويتكلَّم ويقول بابا وماما ويضحك وربما فاه ببضع كلمات أو أكثر، ويقضي، يُسلِم نفسه بين يديك. إبراهيم مات بين يدي رسول الله، فجعل يبكي النبي، دموع حارة سخينة، والصحابة تعجبوا، هذا نبي، موعود بالآخرة، موعود بالمقام المحمود، أي هل يبكي على طفل؟ وهم عندهم أطفال كثيرون! نعم، طبعاً يبكي، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع. وأكبر مُؤشِّر على الحُزن هو ماذا؟ الدموع، الدمعة السخينة!  تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ۩. إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب. أو قال إلا ما يُرضي الله. هذا هو المُسلِم!

المُسلِم يا إخواني بكلمة – للأسف بقيَ لدينا دقائق معدودة، حتى لا يدخل وقت العصر  – يتعلَّم من عُمق دينه أنه لا بد أن يسير بحُزنه، يُصاحِب هذا الحُزن، يُخاتِله، يُخادِعه، يُدلِّله، و(يُطبطب) عليه بالعامية، حتى يأتي الفرج، ويعلم أن أفضل العبادة انتظار الفرج، كما ورد عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وإن كان الحديث ضعيفاً، ولكن المعنى صحيح حتماً، فهذا من العبادة! ولذلك في حديث رسول الله الشهير جداً – هذا الحديث الذي أُلفت كُتب في شرحه، هذا حديث ابن عباس، وهذا في آخره – واعلم أن النصر مع الصبر. أتُريد النصر بعد الإعداد؟ هناك صبر. وأن الفرج مع الكرب. يا سلام، انظر! هذا هو، هذا هو ولا يُمكِن غير ذلك، إن شاء الله تُفرَج.

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها                     فُرجت، وكنت أظنها لا تُفرج.

إذن هناك كرب، هناك كروب. وحتى إذا تكاثرت الكروب، هذه أكبر علامة على انقضاء وقت الكرب والحُزن – إن شاء الله – وأنه سيحمل متاعه ويرحل، أي إذا ماذا؟ إذا ضاق جداً، وتكاثرت الكروب والمشاكل. قال لك إذا تكاثرت جُملة، تساقطت جُملة. هذا هو! حين تستيقظ في الصباح تجد أن كل شيء انتهى – بحمد الله -، تُشرِق الشمس من جديد، تنقشع سحائب الأحزان. اللهم لا تجعل في سمائنا سحابة حُزن واحدة بفضلك ومنّك.

إذن واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب. إذن وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا. يا سلام! في القرآن فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۩ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۩. كيف فسَّرها الرسول؟ قال لن يغلب عُسر يسرين. يُوجَد عُسر واحد، ويعترك معه ماذا؟ يسران. مَن يغلب؟ اثنان يغلبان واحداً. ومن أين النبي قال هذا؟ طبعاً لأن هذا في اللُغة العربية. انظر؛ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ۩، مُعرَّف، إِنَّ مَعَ العُسْرِ ۩، مُعرَّف، والمُعرَّف يبقى واحداً، فالعُسر واحد. يُسْرًا ۩، و: يُسْرًا ۩، مُنكَّر، يسران إذن، لأنه مُنكَّر. انظر، هذه اللُغة العربية، وهذه لُغة هذا النبي طبعاً، لُغته! لم يتعلَّمها من الكُتب، لُغته سليقةً، ملكة. قال ولن يغلب عُسر يسرين. انظر إلى الآية القرآنية، هذه الآية فيها عِدة عظيمة من الله، تماماً إذن فعلاً الحُزن والهم والكرب والمُصيبة والعُسر واحد، وهو الطفل الصغير للفرج الكبير، للفرح الكبير – بإذن الله تبارك وتعالى -. أدام الله فرحتنا بطاعته وفي رضا منه ونور ورحمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وارض عنا وأرضنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

نظراً لضيق وقت الخُطبة، هذه تكملة لها، ألقاها الدكتور بعد صلاة العصر

 

وقفنا يا إخواني عند استجابة المُسلِم للحُزن وكيف يُساير حُزنه، لكن قبل أن أُكمِل، خطر لي – سُبحان الله – أن الآتي من أجمل ما يُمكِن أن تقع عليه من الأدبيات فيما يخص أصالة الحُزن؛ كم الحُزن أصيل في النفس البشرية! لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ۩، بعد هذا القول الإلهي الكريم، هناك قول السادة العارفين، وهو من أجمل ما تقع عليه، من أجمله! لا أعتقد أن الأدب العالمي يحتوي مثل هذه المقولة في رونقها وعُمقها. قالوا حين أراد الله – تبارك وتعالى – أن يخلق آدم، جبل طينته، فلم تتماسك. أي طينة آدم كانت (تتبثول) كما نقول بالعامية، لم تتماسك. فصب عليها من ماء الحُزن، فتماسكت. شيء تقشعر له الأبدان! من أين فهموا هذا؟ ما هذا العُمق؟ ما هذا الجمال؟ ما هذا الرونق؟ أي الإنسان مصوغ مخلوق من طينة، مجبولة بماء الحُزن.

طبعاً في نظر هؤلاء العارفين – عرَّفنا الله وإياكم به، سُبحانه وتعالى – أن هذه الأصالة مردها ماذا؟ مردها البُعد عن الله – تبارك وتعالى -، البُعد عن عالم القُدس. كنا في جوار الحضرة، وهبطنا، هبطنا بذنب أبينا – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فظل الحنين – هذا الحنين الأبدي، هذا الحنين الدائم – إلى رب العزة، لا إله إلا هو!

وفي نظري، وأنا مُؤمِن بهذا إيماناً جازماً، أن هذا الذي يُبرِّر كل صور وضروب وأنواع اكتئاب النجاح، ليس النجاح فحسب، بل النجاحات. كل أنواع النجاحات! وما من أحد إلا خبر صورة من هذه الصور، بعد أن يُحقِّق ما كان يرسم ويُخطِّط له ربما أشهراً أو سنين، وبعد أن أنجزه وصار حاضراً أمامه، يشعر بشيء من كآبة بعد ذلك، هذا صورة من صور اكتئاب النجاح! لماذا؟ إشارات من الغيب، من الماوراء، من الحضرة، لمَن يفهمها – فهَّمني الله وإياكم -، لمَن يلتقطها. يقول لك ليست هذه الغاية، ليس هنا تُلقى عصا التسيار، ليس هنا، ليس هنا! ليس هنا يا عبدي.

ولذلك فعلاً في القلب خلة لا يسدها إلا الله – تبارك وتعالى -. فجوة كبيرة هكذا، حتى الملاحدة أقروا بها. أقر بهذا جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، مونتسكيو Montesquieu في وقته، وماركس Marx، وسموه ثُقب الله، نعم! لاحظوا أن هذا موجود رُغماً عنا، هو هذا. والعارفون بالله من مئات السنين قالوا في القلب خلة – أي فجوة، يُقال لك الخلل، من خلاله، الفجوات، خلل الباب – لا يسدها إلا الله. هناك خلة، هناك فجوة كبيرة، لا يسدها إلا الله. ما لم تكن لك هذه العلاقة بالله – تبارك وتعالى -، ذلك الحُب والتتيم والعشق الإلهي والصلة الخاصة بالله – صلة خاصة بالله، بينك وبين الله -، ستبقى حزيناً.

لذلك أفرح العباد المُنشغِلين بالله. وعلى فكرة تلمسون هذا – والله – لمس اليد. تجد أن الناس المُنشغِلين بالله، الصادقين مع الله، الذين عندهم هذه العلاقة الخاصة بالله، تعلو وجوههم باستمرار فرحة. تجد أحدهم بلغ تسعين سنة، ويُوجَد عنده فرحة ويُوجَد عنده شبوبية ويُوجَد عنده نضارة ويُوجَد عنده غضارة، شيء عجيب، أُقسِم بالله! طيلة حياتي ألمس هذا الشيء، شيء لا تجده إلا في أهل الله، في أولياء الله. في الناس أصحاب الصلة – تلك الصلة – مع الله. ما هذا الجمال؟ ما هذا الرونق؟ ما هذه النضارة؟ ما هذه الغضارة؟ ما هذه الطراوة؟ ما هذا الهدوء؟ وما هذه السكينة؟ لأنهم مع الله، مع الله!

وطبعاً ألا يُصابون؟ يُصابون. وما من أحد إلا يُصاب ويُبتلى بأشياء كثيرة، أليس كذلك؟ لكن لا تُؤثِّر. الواحد منهم عنده رصيد كبير يمتح منه، بسبب العلاقة بالله – تبارك وتعالى -.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – الآتي. ونعود الآن إلى موضوعنا، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما يُصيب المُسلِم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزن، حتى الشوكة – قال حتى الشوكة – يُشاكها، إلا كفَّر إلا به من سيئاته. ماذا تُريد أحلى وأكثر من هذا؟ وعد! هذا Support، أي دعم، وهذا ليس دعماً اجتماعياً، هذا دعم إلهي. يقولون لك الدعم الاجتماعي. أي الــ Unterstützung، أو الــ Support، الاجتماعي. يقول لك الــ Social support! هذا ليس دعماً اجتماعياً، هذا Divine support، دعم رباني، دعم قدسي إلهي. الله يقول لك كل شيء يُؤذيك يا عبدي له أجره، اصبر، اصبر.

ولذلك يقول عكرمة – تَلميذ ابن عباس، مولى ابن عباس، رحمة الله عليهم جميعاً – ما من أحد إلا يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شُكراً والحُزن صبراً. يا سلام! فلسفة هذه، لا نحتاج إلى دعم نفسي واستشارات، عندنا استشارات في ديننا – بفضل الله – وأُناس عميقون. وكما قلنا الإمام عليّ كان يقول سر بدائك ما سار معك. عندك داء أو عندك ألم، سايره. فالعرب تعرف هذا حتى من الجاهلية، وفي الإسلام عرفوا هذا. هناك ذو الرُمة! وقعت على بيت لذي الرُمة، شيء عجب، شيء عجب والله! سيفرح به أكبر مُعالِج نفسي في العالم، وسيقول لك هذا الرجل سبقنا، أوفى على الغاية. ماذا يقول ذو الرُمة؟ يقول:

وكنتُ إذا ما الهمّ ضاف قَرَيْتُه                  مُواكِبةً يَنضو الرِّعانَ ذميلُها.

يقول وكنتُ إذا ما الهم ضاف قَرَيْتُه. هو يعتبر أن الهم – أي الهم والنكد والحُزن – ضيفاً، يحل عليك. نحن حياتنا ليس فيها كل يوم ضيافة، نعم هذا يحصل مرة في الشهر أو في السنة أو في كذا، فيأتي، هو هكذا! وكما قلنا هو الطفل الصغير للفرح الكبير. يأتي في بعض المرات، تعتكر السماء قليلاً.

وكنتُ إذا ما الهمّ ضاف قَرَيْتُه                  مُواكِبةً يَنضو الرِّعانَ ذميلُها.

وطبعاً هذه اللُغة، دخلنا في اللُغة الآن، دخلنا في الألغاز! الأول مفهوم وجميل، والثاني الآن سيصير مفهوماً. يقول لك الهم هذا ينزل على ضيفاً، فأقول له أهلاً وسهلاً، يا أهلاً، يا أهلاً. يا أهلاً؟ قال لك نعم.

مثل العارف بالله الذي حدَّثتكم عنه أكثر من مرة، ذلك العارف الذي يروي عنه ابن عجيبة في شرح الحكم، ماذا يقول؟ يقول:

إذا طرقت بابي من الدهر فاقة                  فتحت لها باب المسرة والبشر.
وقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً               فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر.

الله! انظر إلى العارفين. قال حين تأتيني بلية هكذا؛ أفتقر أو يأتيني أي مُصاب، أقول له يا أهلاً، يا أهلاً، أهلاً. عزيز! ضيف عزيز حل علىّ. وقتك عندي أحسن من ليلة القدر. هذه ليلة قدره، وهو يعرف أنها ليلة قدره. عجباً لأمر المُؤمِن، إن أمره كله له خير. وقال لك ماذا قدَّم محمد؟ مَن يُريد أن يعرف محمداً وفلسفة محمد وروح محمد وعُمق محمد، فعليه أن يتواضع قليلاً وأن يتعلَّم من محمد، وليس أن يدّعي أنه أستاذ. قال محمد كذا وماذا عمل محمد؟ انظر مَن هو محمد. عجباً لأمر المُؤمِن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر… لا يُقابِل السراء بالفرح البطر الأشر – وقد شرحنا هذا في مرة سابقة – والكبر والتيه والعُنجهية على الناس وإظهار التميز، لا! أبداً أبداً أبداً، بالشُكر، قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۩، سُليمان قال هذا، سُليمان قال هذا وهو عنده مُلك، إنس وجن وطير وكل شيء! يتواضع، عبد شكور، لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۩. إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له. وإن أصابته ضراء – ضراء في نفس، في مال، في ولد، في مشروع، في خُطة، في غير ذلك، في أي شيء – صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمُؤمِن.

وطبعاً لن أُحدِّثكم – والكُتب ملآى غاصة بها – عن قصص الصابرين، كُتب! عندنا كُتب في التراث الإسلامي فيها قصص، وكلها واقعية وبالأسماء، مَن الذي صبر وماذا فقد وكيف صبر وما إلى ذلك، وحتى القصص الواقعية هذه تجدون أنماطاً منها ونماذج في اليوتيوب YouTube، شيء مُذهِل! في هذه الأمة المُبارَكة – والله العظيم – أو في المُبارَكين من هذه الأمة، شيء مُذهِل!

استمعت قبل فترة للعلّامة المصري يحيى الرخاوي – مد الله في عُمره -. المصريون نسيج وحدهم حقيقة. انس، انس! أُقسِم بالله دائماً ما أستمع إليهم، وأقول ما هؤلاء الناس يا أخي؟ أدب، مع علم نفس، مع شعر، مع عُمق تجربة، شيء جميل جداً جداً، ليس عندهم الجفاف الذي تجدونه عند البعض. وهو عالم نفس عالمي، عالم نفس على مُستوى رهيب جداً الرجل، يحيى الرخاوي شيء كبير! هناك أحمد عكاشة، ويحيى الرخاوي، والمرحوم عادل صادق. ولكن هذان الاثنان بالذات شيء مُختلِف، نسيج وحدهما، وكذلك عبد العزيز القوصي – رحمة الله عليه -، شيء كبير، أهرام! أهرام في العلم. المُهِم – رحم الله مَن مات، وأمتع الله بطول عمر الحي منهم – هذا هو، والله الحديث – أُقسِم بالله – أبكاني، وإذا استمع إليه أي واحد منكم، فحتماً سيبكي.

يقول أنا مرة كنت في عيادتي، وجاءني رجل فلّاح مصري – فلّاح أصيل، الأصالة المصرية في الفلّاحين -، فلّاح مصري يعرض علىّ مُشكِلته، أي ويطلب نوعاً من الدعم النفسي. فما الأمر يا حاج؟ ما مُشكِلتك يا عمي الحاج؟ قال له ابني مات – رحمة الله عليه -. قال له لا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، صبرَّك الله يا عمي الحاج، عندك غيره؟ قال له أبداً، وحيدي. قال أنا صُعقت. وحيده! وهذه صعبة جداً، صعبة جداً! هنا تأتي الصعوبة طبعاً. قال له كيف هذا؟ فهل هذا بعد مرض، أم بعد ماذا؟ قال له أبداً، ليلة عُرسه. قال أنا صُعقت، حين سمعت هذا. والدكتور الرخاوي إنسان، إنسان عنده عواطف، وهو شاعر – ما شاء الله عليه -، عنده شعر، ألَّف أشياء في الشعر، وهو عالم نفس كبير، ومُعالِج نفسي خطير.

وقال تألَّمت. أي اعتراه شيء من الحُزن، أعني الدكتور الرخاوي نفسه. قال فجعل هو يواسيني. ما الأمر يا دكتور؟ ما لك؟ ماذا يا دكتور؟ قال له هذا صعب، صبرَّك الله يا عمي الحاج، صبرَّك الله. قال له كيف حالك أنت؟ قال له بخير، أنا رضيت بقضاء الله. قال له أليست هذه وديعة يا دكتور؟ أليست هذه وديعة؟

وما المالُ والأهلون إلّا وديعةٌ                        ولا بدّ يومًا أن تردّ الودائعُ.

ودائع هذه، عند الله! ونحن كلنا ودائع، والله نفوسنا في أبداننا ودائع لدينا، أُقسِم بالله! أم هل يُوجَد واحد منا يقدر على أن يُخلِّد نفسه؟ هل يقدر أحدنا على ذلك؟ ائتني بأكبر ملياردير أو أكبر ملك في العالم أو أكبر في الطاغيه، وخله يُخلِّد نفسه، خله يتحدى الموت. لا يقدر، لا بد وأن يموت، لا بد وأن يموت! أتينا الوجود على الرُغم منا، وسنُزايله ونتركه على الرُغم منا.

ولذلك، على فكرة، جُزء من فلسفة الحُزن تذكيري بالعبودية. أي أنك عبد، ولست معبوداً. أنت مربوب، ولست رباً. أنت تراب، ولست رب الأرباب. أنت إنسان، ولست إلهاً. لماذا إذن؟ الإله فعّال لما يُريد، فعّال لما يُريد! أليس كذلك؟ هل أنت فعّال لما تُريد؟ لا، ولذلك أنت تضع خُطاً وتخيب، تُؤمِّل تأميلات ولا تنجح، تطلب استبقاء أشياء وتفلت منك، تُحب الحياة لمَن تُحِب ويموتون أمامك، وتُحِب أن تخلد ولن تخلد، أنت عبد، وهناك الحُزن. فهذا هو، هذا هو! هذه فلسفة الحياة.

ولذلك إريخ فروم Erich Fromm – عالم النفس والمُفكِّر الألماني العظيم إريخ فروم Erich Fromm – كان يقول لا يُمكِن أن ينفعل ويستجيب للعالم بالطريقة الصحيحة العميقة مَن لم يمر بخبرة الحُزن والمُعاناة. لكي تفهم العالم والوجود، لا بد وأن تُعاني. ولذلك ترون أن أكثر الناس سذاجة وسطحية وهوائية وفراغية و(تفاهة) – وأقول هذا بين قوسين، وأقول أكرمكم الله جميعاً، هناك تفاهة، أي Triviality، تفاهة -، مَن هم؟ الناس الذين وُضعوا في ظروف مُعيَّنة أو القدر وضعهم في ظروف مُعيَّنة، جعلتهم تقريباً لا يُعانون. هناك أموال كثيرة وسُلطة؛ سُلطة على الناس وعلى الشعوب، عندهم سُلطة وعندهم أموال كثيرة، وما يُريده الواحد منهم فقط وما يشتهيه، يكون أمامه. وهو عذابه على فكرة – إذا عنده عذاب، وأكيد عنده نوع من العذاب – يكمن في أنه لا يعرف ماذا يُريد. أليس كذلك؟

ولذلك أنا أُخاطِب كل واحد وأُخاطِب نفسي؛ إذا كنت مِمَن فتح الله عليهم وأعطاهم بعض المال وما إلى ذلك، فإياك أن تُفسِد إنسانية أولادك – أبنائك وبناتك – بهذا الإغداق الذي ليس له معنى وبتحقيق الرغبات الدائمة لهم، وإياك أن تعيش كذلك، لا! عش إنساناً، وعلِّمهم أن يعيشوا بشراً عميقين. الحياة فيها أخذ وعطاء، فيها وجهها المُظلِم ووجهها المُنير، فيها السالب والمُوحب. هذا لكي تتوازن!

ولذلك ماذا يقول كارل جوستاف يونغ Gustav Jung – مُؤسِّس أيضاً كبير جداً لمدرسة خاصة في التحليل النفسي، إلى جانب طبعاً زميله الأول فرويد Freud، الذي انشق عنه -؟ السويسري يونغ Jung ماذا يقول؟ يقول لا معنى للبهجة والفرحة في حياتنا، ما لم يُعادلا بشيء من الحُزن والمُعاناة. لا يُمكِن إلا هذا! الفرحة المُستمِرة والبهجة المُستمِرة والسعادة المُستمِرة، تصير سخافة وسطحية، وأنت تصير إنساناً سطحياً وتافهاً. ولكن حين تعادل هذه الأشياء – أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ۩ – بشيء يُبكي، بشيء يُؤلِم، وبشيء يُرهِق، نعم يصير للإنسان معنى، يبدأ يتوازن الإنسان. ولكن في الأول هكذا يمشي مائلاً، وهو مُشوَّه، هذا المسكين مُشوَّه ولا يدري من نفسه أنه مُشوَّه، يظن أنه شيء كبير وهو مُشوَّه، ونحن نراه شائهاً، نراه شائهاً ناقصاً! لا يتوازن الإنسان إلا بجناحين، أليس كذلك؟ بطرفين، بخبرتين، بمعنيين، وبفلسفتين في الحياة، هو هذ! هل هذا واضح يا إخواني؟

فالمُهِم أنه قال ما ذكرت. فقال له يا دكتور، أليس كذلك؟ قال له هو كذلك يا عم الحج، صبرك الله، ولكن أنا أتألَّم. فأحس هو بالدكتور، وبدأ هو يُعالِجه. قال تعلَّمت منه. قال له أنا رضيت بقضاء الله، وهذه وديعة، والله – تبارك وتعالى – استرد وديعته. قال له أنت لماذا أتيت إذن؟ قال له لكي تُساعِدني قليلاً، ساعدني بكلمة أو بكلمتين أو بأي شيء. ولذلك هنا انظر إلى فلسفة العزاء في الإسلام، مَن عزى مُصاباً، فله مثل أجره. صلى الله على مُعلِّم الناس كل الخير والله! مَن عزى مُصاباً، فله مثل أجره.

وتعرفون أن في علم النفس يُوجَد شيء يُسمونه الــ Sympathy، وما الــ Sympathy؟ أن تُراعي مشاعر الآخرين، تُحاوِل أن تتفهمها، هذا شيء هام، نعم! أي هو الحد الأدنى في الإنسان، ولكن هناك شيء يُمثِّل عُمق الإنسان، وهو الــ Empathy، ليس الــ Sympathy وإنما الــ Empathy. والــ Empathy يُسمونه التقمص الوجداني، تُحاوِل أن تضع نفسك مكانه، تتخيَّل أنك فقدت ابنك الوحيد إذن، ليس هو وإنما أنت، ويوم عُرسه، انظر إلى هذا، انظر إلى القدر، القدر عجيب وعنده ضربات عجيبة.

يا نائم الليل مسرورا بأوله                      إن الحوادث قد يطرقن أسحارا.

أي هذا شيء عجيب، ابنه – أي هذا البعيد، اللهم لا تبتلينا ولا تُدخِلنا في تجربة ومحنة – الوحيد، ابنه الوحيد ويوم عُرسه يموت! يا الله، والله صعبة، صعبة جداً – والله – هذه، والله تُبكي الصخر الجمود، ولذلك الدكتور الرخاوي المسكين تأثَّر جداً، وظهر عليه، فجعل يواسيه هذا. قال له يُمكِن أن تُساعدِني، ساعدني بكلمتين أو بكذا، بأي شيء! فطبعاً ساعده. ولما سُئل الدكتور، فهل هو غير حزين وغير مُكتئب؟ قال بلى، هو حزين وكئيب. فكيف إذن جاءك وهو يطلب العلاج؟ قال هذا الفرق طبعاً، هذا الفرق بين الإنسان الشرقي المُؤمِن، وبين الإنسان الغربي عموماً، البعيد عن الإيمان والبعيد عن هذا العُمق الإنساني. الإنسان الشرقي، أرأيتم فلسفته؟ هو طيلة حياته هكذا، يقول أنا أُريد أن أحمل حُزني، أُريد أن (أشيله). وهذا تعبير مَن؟ أستاذنا الدكتور الرخاوي. قال لا، هو حزين وكئيب، ولكن هو (شايل) حُزنه معه ويمشي به، لم يتكوَّم به في مكان ما ويقعد هكذا. الغربي يتكوم وينتحر أحياناً بعد ذلك – في بعض المرات -. عشرة في المائة من المُكتئبين ينتحرون – كما قلنا -، وسبعون إلى ثمانين في المائة من المُنتحِرين مُكتئبون. هذه الإحصائية تُخيف وترج.

لا، هذا حامل همه وحامل حُزنه، ويمشي به. والحُزن هذا لم يُفسِد عليه إيمانه، ولم يجعله يبدأ يُجدِّف على الله؛ ولماذا يا ربي؟ ولم يكن هذا وقته، ولماذا أنا وليس غيري؟ لا، لم يقل هذا أبداً أبداً أبداً، قال لك رضينا بقضاء الله. يا الله! وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ ۩، وهذه الودائع، هذا مفهوم الوديعة، إِنَّا لِلّهِ ۩، نحن كلنا ملك لله، والله استرد الذي له، وَإِنَّا إِلَيْهِ ۩، هذا هو، استرداد الوديعة، هل فهمتم؟ هذا يتكلَّم بالقرآن، أي الرجل هذا، الفلّاح المصري العميق الذي علَّم العلّامة الأستاذ يحيى الرخاوي، علَّمه! تعلَّم منه، قال تعلَّمت منه أنا. وهو يتكلَّم بالقرآن من غير أن يعرف. قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ۩. قال عمر – رضيَ الله عنه – نِعم العدلان ونِعم العلاوة. تُوجَد زيادة! وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ۩.

ولذلك إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، يوم القيامة كيف يُوفى الصابرون أجرهم؟ بغير حساب. تخيَّل! أي الذي صلى، الذي حج، الذي اعتمر، الذي تصدَّق، الذي عمل، والذي فعل، يُؤخذ كل عمله ويحط في الكفة وما إلى ذلك، ويُقال له كم لك؟ خُذ. تماماً! هذا حقك، وخُذ حقك. إلا الصابر، الذي ابتلاه الله في صحته أو في ولده أو في ماله أو في أي شيء، وصبر، حتى في سُمعته، طبعاً! هناك أُناس يفترون على الناس، ويتكلَّمون في عِرضهم، ويقولون البعيدة فعلت وعملت. وهي بريئة تماماً! ويقولون البعيد فعل وعمل، وهذا كذا وهذا كذا. يقولون هذا الجاسوس، هذا المُخابراتي، هذا الماسوني، هذا الصليبي، هذا الصهيوني، هذا ابن الحرام، هذا كذا وكذا. وهو عكس هذا تماماً!

ولذلك فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا ۩… ماذا؟ أَلَّا تَحْزَنِي ۩. ولماذا هي حزينة؟ جبريل نفخ في ذرعها؛ جيب ذرعها. وجاءها ولد من الغيب وما إلى ذلك، وهو سيكون شيئاً كبيراً، فلماذا هي حزينة؟ هي حزينة لما تعلم من قالة السوء. يُوجَد سوء، وهي تستحضر هذا، وتعيشه الآن طبعاً. فهي تعرف أنه سيُقال سيُقال، وأول شيء قيل لها مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ۩، وانظر طبعاً، هم ما شاء الله عليهم، هؤلاء الذين عملوا في عيسى ما عملوا، وأرادوا قتله، وتآمروا على صلبه. مَن هذه؟ وجدوا فُرصتهم، ومُباشَرةً رموها في عِرضها. وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ۩، من أين أتيت بهذا؟ ما هذا؟ تخيَّل! والعياذ بالله. وبعد أن نطق وهو على يدها – قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ۩ – منهم أنفار وأُناس كفروا أيضاً، قالوا لك لا، هذا سحر. كفروا! نعم، قالوا هذا، فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۩ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۩. شيء غريب! هذا هو. فيحزن الإنسان حتى لهذه الأشياء.

قال لك هذا الذي صبر طبعاً على المُصيبة التي أصابته وتعزى بالصبر، يوفى أجره بغير حساب. يا الله! بغير حساب؟ بغير حساب. أي جُزافاً، يُسمونه الجُزاف، هذه المُجازَفة، وما معنى المُجازَفة؟ بدون كيل. حين يأتي إليك واحد، أنت تقعد لكي تكيل له، تقول هذا نصف لتر، أو هذا لتر. هذا الحساب! والجُزاف؟ بيديك هكذا، معك كيس؟ هات – تقول له -، هات وخُذ، خُذ، خُذ، خُذ، خُذ. ولا تعرف كم أعطيته، أأعطيته خمسين لتراً أو سبعين لتراً أو غير ذلك؟ لا تعرف، يا الله! وما هذا؟ يُقال لك جُزاف، أعطاه جُزافاً، لم يحسب ولم يعد. وانظر إلى جُزاف الله – عز وجل -، جُزاف الله كيف سيكون؟ حين يُعطيك الله بغير حساب، ماذا سيُعطيك؟ يا الله! وهذا يجعلك تصبر طبعاً. وانظر إلى هذا الفلّاح المصري البسيط، هو ليس عالماً ولا دارساً ولا دكتوراً ولا بروفيسورا Professor، هو صابر! وهذا ابنه الوحيد، صابر وقال لك رضينا بقضاء الله، ولا نقول إلا ما يُرضي الله، والله استرد وديعته، ماذا عمل؟ الحمد لله يا دكتور، ولكن فقط ساعدني بكلمتين. ينبغي أن نُساعِد بعضنا! ولذلك تأتي أيضاً فلسلفة – كما قلنا – ماذا؟ العزاء. مَن عزى مُصاباً، فله مثل أجره. هذا مُهِم أن نستحضره، ولذلك ارجعوا، وسوف ترون الأدبيات الكثيرة في قصص الصابرين، وطبعاً هناك الأحاديث والآيات والأشياء، والله تراث عجيب، أُقسِم بالله!

يُوجَد الآتي في الدراسات النفسية المُتخصِّصة اليوم يا إخواني وأخواتي، والمفروض أن أختم؛ لأن الوقت انتهى. في الدراسات النفسية المُتخصِّصة عموماً الشعوب الشرقية الأدنوية والأقصوية – هذا حتى هناك في الهند والصين وما إلى ذلك، هذا حتى في الصين مثلاً – نسبة الانتحار، نسبة الاكتئاب، ونسبة هذه الأشياء، أقل قليلاً من غيرها، ولماذا إذن؟ وخاصة في الرجال، النساء هنا كثيرات؛ لأن مرتبتهن أقل، خاصة الفلّاحات المسكينات، هناك هضم وظلم! قال لك للإيمان بالقضاء. تقول لك هذه الدراسات المُتخصِّصة هم يُؤمِنون بالقضاء. أن هذا مكتوب، وبما أنه مكتوب والله يُريده وما إلى ذلك، فالأمر مُنتهٍ، سوف نرضى به. هذه الأمور فيها خير، فيها حكمة، فيها سر، فيها مغزى ولكن نحن لا نفهمه. فهذا يُصبِّرك، هذا دعم – كما قلنا -، دعم إلهي.

قال الله – تبارك وتعالى – مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۩. يا الله! هذه هي، فالمُؤمِن بالقدر وأن هذا أمر الله وخُطة الله وما إلى ذلك – ليس لي فيه يد ولا يدان، الله شاء هكذا، الله يأخذ والله يُعطي، الله يُعِز والله يُذِل، والله يُحيي والله يُميت – يتصبَّر، وكما قلنا يمشي معه.

ولكن نحن لم نشرح بيت ذي الرُمة. قال لك قَرَيْتُه مُواكِبةً يَنضو الرِّعانَ ذميلُها. والله لم نفهم شيئاً! ما المُواكِبة؟ انظر إلى هذا، اتضح أن هذا فليسوف، أعني ذا الرُمة. قال لك المُواكِبة هي الناقة التي لا تتخلف عن الركب. واليوم يقولون لك ماذا؟ واكب الركب، واكب العلم، واكب كذا. بمعنى ماذا؟ لم يتخلَّف، واحدة بواحدة، واحدة بواحدة، واحدة بواحدة، كفرسي رهان. فالمُواكِبة – ليس مُواكَبةً، هناك المُواكَبة، والمُواكَبة هي المصدر، لكن هذه المُواكِبة – الناقة التي لا تتخلَّف، أي قوية فتية وعندها قدرة على أن تسير بسرعة، قال مُواكِبةً يَنضو الرِّعانَ. ما الرعان؟ أنوف الجبال. أي تسير لمسافات بعيدة، ويُمكِن أن تُصاعِد أيضاً. وأصعب شيء على الحيوان وعلى الإنسان أن يفعل ماذا؟ أن يُصاعِد. يقطع النفس هذا، مُتعِب جداً. قال هي يُمكِنها حتى أن تسير وأن تُصاعِد، ويُمكِنها أن تبلغ حتى القمم.

تمشي وهي قوية فتية! ينضو، أي يقطع، يقطع أنوف الجبال ذميلها. ذملت الدابة، إذا سارت سيراً سريعاً ليناً. تسير بسلاسة، مثل مرسيدس 2019  2019 Mercedes، تسير وتنهب الأرض نهباً بسهولة، هناك 6 سلندر Cylinder، و300 Ps، أو 400 Ps، تسير بسهولة! فماذا يقصد ذو الرُمة بهذا الكلام؟ يقصد أن يقول أنا حين يأتيني الهم وينزل علىّ ضيفاً، أحتاط له وأُسايره سيراً طويلاً. لأن هذه الناقة ستسير لمسافات بعيدة، أليس كذلك؟ هذه لا تسير لمسافات قريبة. فقال أنا أحط في حسابي، أو أقرأ حسابي – كما يقول الإخوة التوانسة؛ أقرأ حسابي، أي أحط في حسابي -، وأحط في اعتباري أن الحكاية ستطول قليلاً، ولا بأس. أنا عندي ركوبة تكفيني! فما هذا؟ كم تحتاج يا حُزن؟ أتحتاج إلى شهر أو إلى شهرين؟ أنا معك، أتحتاج إلى سنة أو إلى سنتين؟ أيضاً أنا معك. وسوف تذهب وسوف تولي وسوف تمشي، وسوف تعود الحياة جيدة – إن شاء الله تعالى -. يا سلام!

اليوم أنت تقرأ في العلاج النفسي الذي يُسمونه العلاج السلوكي المعرفي – أي الــ Cognitive behavioral therapy، أي العلاج السلوكي العقلي أو المعرفي – أن الأمل من أهم الأشياء. من أهم الأشياء التي يُحاوِل المُعالِج النفسي أن يصل إليها، ماذا؟ أن يتأكَّد من أن هذا المريض، هذا الــ Depressed المسكين، (المتبلغم) بالكامل، يُوجَد عنده بعض الأمل. أو يجب أن نخلق له هذا الأمل، ليس عنده؟ إذن لا بد وأن نخلقه له. إذا عنده أمل – يُؤمِّل في شيء ويتشبَّث بشيء -، فسيكون هناك – إن شاء الله – خير، ولن ينتحر. أرأيتم؟ خاصة المُكتئب ذهانياً، هناك الاكتئاب الذهاني هذا!

لماذا؟ هناك الأمل، أفضل العبادة انتظار الفرج. ما دام هو يتأمَّل، فهناك خير – إن شاء الله -، وستُفتَح الأبواب. أليس كذلك؟ يوم عن يوم، وساعة عن ساعة! والله سيجعل فرجاً. وبين لحظة ولحظة في بعض المرات يأتي الفرج، والله في بعض المرات بين لحظة ولحظة يأتي الفرج القريب، الذي ما كنت تظن أنه هكذا، كنت تظن أنه حتى بعيد أو لن يأتي، ولكنه يأتيك، فتختلف الأمور كلها – بعون الله تبارك وتعالى -.

فلا بد وأن نخلق هذا الأمل، لا بد وأن نخلق ماذا؟ هذا الأمل. جيد! من بين الوسائل التي نعمل من خلالها على خلق هذا الأمل، أن نُشيع هذه الفلسفة. أي سر بحُزنك، صاحبه، أكرِمه. ولذلك يُوجَد شيء مُهِم جداً اسمه احترام الحُزن، احترم حُزن الناس، احترم المأساة، احترام المُعاناة، لا تقلل منها، لا تقل يا أخي ما الأمر؟ يا أخي كذا وكذا. لا! إياك، تفهَّم هذا جيداً. أي يُمكِن أن تكون مُصيبة هذا بسيطة، فلا تقل له يا أخي غيرك خسر خسارة قد خسارتك عشر مرات وما إلى ذلك، لا! هذا مُختلِف، الناس يختلفون، يختلفون! هناك فروق فردية، أليس كذلك؟ وهناك طاقة التحمل، وحتى المُعتقَدات والرؤى الكونية وما إلى ذلك تختلف من فرد إلى فرد. وهو شعر أن هذه نكسة كبيرة، نعم! أنت تفهَّم هذا واحترمه وعلِّمه أيضاً أن يحترم مُصابه وحُزنه، لكن علِّمه أيضاً ألا يستسلم له، وألا يغرق فيه، وألا يضعف أمامه. احترمه، وخُذه، وكما قال الدكتور يحيى؛ و(شيله)، ودلِّله، و(طبطب) عليه وامش به، امش كما تمشي، هذه ماذا؟ الناقة المُواكِبة. بعد أسبوع أو بعد أسبوعين أو بعد ثلاثة أسابيع سيضعف وسيضعف وسيضعف، وفعلاً سينتهي الأمر. قال لك كل شيء – كل شيء من هذه الأشياء – يُمكِن أن يبدأ كبيراً، وبعد فترة يعود صغيراً. واسأل أي واحد عن هذا، اسأل أماً أُصيبت في ابنها، أو أباً أُصيب في ابنه، اسأله! بعد عشر سنين يقول لك رحمه الله، والله كان طيباً. ويضحك! هو يقعد ويضحك، يقول لك ما أحسنه! والله كان طيباً، رحمة الله عليه، كان ولداً حلواً. ويضحك! يتحدَّث معك وهو يضحك، بعد سنة يُمكِن ألا يضحك، لكن ليس بعد شهر أو شهرين، هذه أصعب كثيراً! تمشي الأمور، تمشي مع الزمن.

ولذلك الله حين خلق – سُبحان الله – آدم وحواء وأنزلهم، الملائكة قالت يا ربي هؤلاء بعد ذلك سوف يستوحشون وهم وحدهم. قال إني جاعل لهما نسلاً. أي سيكون هناك أولاد وبنات، فيتسلون بهم. قالوا لا تسعهم الأرض بعد ذلك. قال إني جاعل موتاً. أي هم ليسوا مثلكم خالدين، لا! سوف يموتون، هم يعيشون ويموتون. قالوا إذن لا يهنأهم العيش. أي إذا كان هناك الموت! قال إني جاعل صبراً. خلقت الإنسان وأعطيه القدرة على الصبر، وأُعطيه هذا العزاء الداخلي! أُعطيه ماذا؟ هذا العزاء الداخلي. والإنسان المسكين يتعزى بكل شيء. ولذلك إن المصائب يجمعن المُصابين.

يُقال إن الآتي في وصية الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon، وطبعاً واضح أنها مُلفقة ومُفتعلة، ولكن العبرة صحيحة، يقولون إنه قال هكذا، لكنها مفتعلة، لأن أين عمه وأمه وما إلى ذلك؟ وهو مات في الهند هناك، لدغته بعوضة، فمات بالملاريا Malaria. يقولون إنه كتب كتاباً، حين أحس بدبيب الموت؛ بسبب الملاريا Malaria هذه، كتب كتاباً وقال أبعثوه لأمي. فبعثوه، فلما فتحته، وجدت أن مكتوباً فيه أنا وصيتي إليك يا أمي العزيزة الحبيبة أن تجمعي كل المُصابين في المملكة. أينما وُجدت امرأة فقدت زوجاً أو ابناً وما إلى ذلك، ائتي بها.

فاجتمعوا، وهم بالمئات والألوف! وكل واحدة تبكي وتحكي قصتها وتقول كيف حصل كذا لابنها الوحيد وما إلى ذلك، ففعلاً خفت مُصيبتها. فترحمت – قال – عليه. المعنى صحيح، ولكن هذه كانت أم وثنية ولم تكن أماً مُستقيمة كثيراً. وترحمت عليه، وقالت لقد أحسن العزاء حياً وميتاً. ابني هذا كان حكيماً – ما شاء الله -، وهو عزاني جيداً جداً. أفهمها معنى جبل الهموم. وهذه مقالة قديمة لزكي نجيب محمود، فارجعوا إليها. المُهِم، جبل الهموم! كل واحد يأتي ويرمي همه. هذا رمى وهذا رمى وهذا رمى، وبعد ذلك تكونت كومة كبيرة، بعد ذلك قيل لكل واحد منهم خُذ ما تُريد، فكل واحد ذهب وأتى بهمه. جميلة! فكرة أدبية وفلسفية حلوة، جبل الهموم! لماذا؟ لماذا إذن؟ لأن كل واحد فينا لا يعرف إلا همه. قال لك لأن هذا أنا جربته. أرأيت؟ الناقة الخاصة بي أنا ركبتها وسايرتها و(دلعتها) وتكيفت معها، هناك Adaptation، أنا عملت لها تكيفاً، فلا أعرف غيرها. يُمكِن أن يُرهِقني الهم الثاني وإن بدا صغيراً، يُمكِن أن يُدمِّرني، ويُمكِن ألا أتحمله. لكن هذا همي وعرفته وأنا أولى به. فرجع كل واحد بهمه – قال لك – ولم يبق أي شيء في هذا الجبل.

فالإنسان يطلب حتى المواساة من العجماوات. وهناك أبيات لأبي الحُسين النوري في قمة اللطافة، سُبحان الله! هؤلاء الصوفيون عندهم في بعض الأحيان وفي بعض المرات أشياء مُعجِبة؛ لأن هؤلاء يعيشون المعنى – كما قلنا -، يعيشون المعنى والمغزى والهدف. ماذا يقول أبو الحُسين – رحمة الله عليه -؟ يقول:

رُب ورقاء هتوف في الضُحى                             ذات شجو صدحت في فنن.

رُب ورقاء هتوف في الضُحى. ما الورقاء؟ الحمامة المُطوَّقة هذه. رُب ورقاء هتوف في الضُحى، ذاتِ – ورقاء ذاتِ – شجو صدحت في فنن.

ذكرت إلفاً وعهداً ماضياً                                  فبكت حزناً، فهاجت حَزني.

ذكرت إلفاً. يبدو أنها فارقت أليفها! ذكرت إلفاً وعهداً ماضياً، فبكت حزناً، فهاجت حَزني.

انظر، انظر إلى هذا، يطلب العزاء حتى من ماذا؟ من ورقاء. يقول لك هذه تبكي مثلي. انظر! هو ربما يبكي على فراق الله – عز وجل – وعلى كذا وكذا، وهذه تبكي مثله، أرأيتم؟ حتى هذه الورقاء بعثها الله لي، لكي تُسليني وتُعزيني.

رُب ورقاء هتوف في الضُحى                             ذات شجو صدحت في فنن.
ذكرت إلفاً وعهداً ماضياً – وفي رواية صالحاً –           فبكت حزناً، فهاجت حَزني.
ولقد تشكو، فما أفهمها                                         ولقد أشكو، فما تفهمني.
غير أني بالجوى أعرفها                                  وهي أيضاً بالجوى تعرفني.

قال نحن نعرف بعضنا، نحن فريق المُعذَّبين، فريق الحزانى، فريق (الغلابة).

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 23/11/2018

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: