إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سُبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

قد أظلنا شهر عظيم مُبارَك، شهر خير وبركة كما قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، قال يغشاكم فيه الله، فيُنزِّل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، قال يغشاكم فيه الله – سُبحانه وتعالى -، ثم فسَّرها – صلى الله عليه وآله وأصحابه – بقوله فيُنزِّل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن المحروم مَن حُرِم فيه مِن رحمة الله، أعاذني الله وإياكم أن نكون من المحرومين، وأسعدني وإياكم والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين بتوالي توفيقه وأمداده وإسعاده، وجعلنا جميعاً من المقبولين المبرورين، اللهم آمين.

فهو – أيها الإخوة والأخوات – له فضائل في ذاته، كظرف زمني، اجتمعت إليها فضائل الصوم فيه، واجتمعت إلى هاتين المجموعتين من الفضائل فضائل الصوم بعامة، فالصوم عبادةً هو عبادةٌ له فضائل بحيالها، وصوم رمضان على وجه الخصوص يتميَّز بميزات، ويختص بخصائص وفضائل برؤوسها، وشهر رمضان بحياله كظرف زمني له فضائل أيضاً بخصوصه، وبُرهانه أن هذا الشهر لياليه مُبارَكة مُقدَّسة مُنوَّرة، وليس يُصام فيها، لماذا؟ لأن الشهر فضيل، لأن الشهر كريم، لأن الزمن نفسه اختصه الله – تبارك وتعالى – وأودع فيه من الفضائل والمزايا والخصائص والأسرار ما شاء أن يُودِع، وله الحمد والمنّة أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، سُبحانه من إله مُنعِم كريم.

ألم تلتفتوا إلى هذا التحنن وإلى هذا الكرم الزائد في قوله – جل من قائل – أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩؟ يقول لنا – سُبحانه – كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩، يبغي أن يُخفِّف عنا، لم تُختصوا أنتم من بين سائر المُكلَّفين من الأمم السابقة الغابرة بصيام هذا الشهر الكريم، فلستم بدعاً منهم، وهذا يُخفِّف، هذا يُخفِّف عن المرء، ثم قال لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، وأي بُغية وأي مُنتهىً للمُؤمِن ينتهي إليه وأي أمل يُؤمِّل فيه بعد أن يتحقَّق بتقوى الله – سُبحانه وتعالى -؟! المُتقون هم أحباء الرحمن، هم المقبولون عند الله – تبارك وتعالى -، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، يقول – سُبحانه – هذا الصوم الجزيل الكريم يصل بكم إلى هذه الغاية، ويُحقِّق لكم هذا المقصد الكريم، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩.

كل هذا تحنن من الله – تبارك وتعالى -، وكان يكفي أن يقول كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ۩، انتهى! لكنه أراد أن يُخفِّف، وأكثر من هذا قوله الكريم – لا إله إلا هو في مجده وعلوه – أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، يقول لنا هي أيام معدودات، عما قليل وعما قريب تنقضي أو تتقضى وتذهب، فأتعبوا أنفسكم قليلاً، ابذلوا المجهود، لعلكم تكونون من الفائزين، قال أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، ليس سنةً أو سنتين، إنما هو شهر، يكون ثلاثين يوماً، ويكون تسعةً وعشرين، لا أكثر من ذلك، فقوله أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩ ينضح برحمة الله، بلُطف الله، وبتحنن الله – لا إله إلا هو – على عباده المُكلَّفين، يُريد أن يُخفِّف عنا بهذه الكلمة العظيمة، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، مع أنه ساق إلينا أعظم الجوائز وأجزل الأثوبة والأجزية، رمضان لنا، هذا الصوم الكريم لنا، نُعيد به ترتيب عاداتنا، نكسر نظام عاداتنا، نكسر نظام ورتابة عاداتنا!

بعض الناس استبدت بهم عادات سيئة أو فيها شيئ قليل من السوء، وهم لا يستطيعون أن يُغيِّروها، ألقت بظلالها السود على دينهم وعلى دنياهم، فقط لأنهم اعتادوا ذلك، بعض الناس لهم مُعتادات في الطعام والشراب، سواء في أوقات التناول أو في ماهية ما يتناولون، بعض الناس اعتاد على التدخين – والعياذ بالله -، ويا لها من عادة، ما أسوأها! وهم لا يستطيعون أن يُزايلوا هذه المُعتادات، وأن يتركوها، وأن ينزعوا عنها.

يأتي رمضان فُرصةً ذهبيةً – أيها الإخوة والأخوات – لكسر نظام عاداتنا فيما نأكل وفيما نشرب وفيما اعتدنا عليه بعامة، فرصة ذهبية! فعلى الحاذق الذي يبغي نفسه الخير أن يستمر وأن يذهب إلى أقصى المدى بعد رمضان مع نظام عاداته الجديد، مع النظام الجديد للعادات!

رمضان مَن أراد أن يُوفِّر حظه منه – أي من رحمة الله وعطاياه وتنزلاته وإشراقاته ونفحاته – فعليه أن يُغيِّر بالحتم نظام نومه ويقظته، مُستحيل أن تبقى تسهر إلى قُبيل الفجر ثم تنام عن صلاة الصبح، لأنك اعتدت على ذلك، وتقول لم أتجانف لإثم، ذهبت عني الصلاة، لأن النوم غلبني، أخذ بنفسي الله – تبارك وتعالى -، لم أستيقظ حتى على الساعة المُنبِّهة – مثلاً -، لا! مَن أراد أن يُوفِّر حظه من رمضان يعلم أن مِن وراء تراويح المساجد التهجد، التهجد أمامه أيضاً فينام مُبكِّراً، ينام مُبكِّراً هذا الحاذق اللبيب الأريب الذي يعلم أنه إنما هي أيام وليال معدودات، لم يُخدَع بهذا البرنامج الغني جداً من المُسلسَلات والحفلات والتسليات والإلهاءات المُختلِفة، التي صارت الفضائيات تتنافس في شغل الصوّام والقوّام عن عبادتهم وعن دينهم بها، لسنا نُحرِّم شيئاً أحله الله، ولكن نقول على العاقل أن يُوفِّر حظه من رحمة الله في هذه الأيام والليالي المعدودات.

علينا أن نُفكِّر جيداً حتى لا نندم، وقد تعلمون الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أبو محمد بن خُزيمة في صحيحه، قال جبريل لمحمد مَن أدرك فلم يُغفَر له أبعده الله، قل آمين، فقال النبي المُحمَّد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – آمين، أبعده الله! في حديث آخر إسناده فيه ضعف ظاهر عند الطبراني قال متى يُغفَر له؟ إن لم يُغفَر له في رمضان فمتى يُغفَر له؟ أفي غير رمضان؟ الدواعي كلها مُتوفِّرة ومُتضافِرة على حُسن المتاب في رمضان، على الاجتهاد في العبادات والقُربات في رمضان، وأول هاته الدواعي غير ما ذكرنا من فضل العبادة وفضل الزمان اجتماع الناس – بفضل الله -، أعني المُوفَّقين منهم، جعلني الله وإياكم من عيون عباده المُوفَّقين، وإلا كنا كما قال الأول:

أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ                             حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا.

نعوذ بالله أن نكون كهذا المُخلَّف المبخوس الحظ والقسم، المُوفَّقون من عباد الله – تبارك وتعالى – يتواطؤون على هذا، ومن هنا ننصح لأنفسنا وأحبابنا وإخواننا وأهلينا أن نتواصى في هذه الأيام والليالي بالصبر والتقوى، بالصبر! هذه العبادة تُريد صبراً، لابد أن نتواصى به، فلو أن كل واحد منا انتخب له أخاً حبيباً في الله من أودائه وأوفيائه وتواصى معه قائلاً عليك أن تُحاسِبني وأنا أيضاً أُحاسِبك كل يوم وليلة، ماذا فعلنا؟ ولك طبعاً أن تستسر بخبيئة عمل، ترجو حُسن ثوابها ونور إخلاصها عند الله يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، لكن من باب التواصي، هل تهجدت هذه الليلة؟ هل تسحرت؟ هل صليت جماعة مع أهلك وولدك؟ هل… هل… كم قرأت من القرآن اليوم؟ هل حافظت على جُزئك من كتاب الله؟ من باب التواصي! حتى يُقوي بعضنا بعضاً، لا بأس، هذا شيئ طيب – إن شاء الله – في هذا الشهر الكريم.

فنعود، شهر له فضائل عظيمة، والبُرهان أن لياليه مُبارَكات مُنيرات، وليس مما يُصام فيهن، لماذا؟ لأنه هو بحد ذاته مُبارَك وعظيم وفضيل، بخلاف الصوم فيه، بخلاف العبادة العظيمة، التي انتخب الله هذا الشهر ظرفاً لها، في هذا الشهر ابتُدئ على قلب النبي الأمين – صلى الله عليه وآله وأصحابه وأجمعين – نزول القرآن العظيم، في هذا الشهر! فكيف لا يكون أعظم الشهور عند الله؟! كيف لا يكون أحب الشهور إلى الله؟!

شبَّهه شيخ الإسلام جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي – شيخ الحنابلة في وقته، رحمة الله عليه رحمة واسعة – بيوسف بين أبناء يعقوب الاثني عشر، قال الشهور اثنا عشر شهراً، يوسفها رمضان، وكما كان يوسف – عليه السلام – الأحب إلى أبيه من بين إخوانه فرمضان هو الأحب والأدنى إلى الله من بين شهوره.

هو شهر فضيل كريم، فيه رحمات خاصة، وفي الحديث الصحيح – يُروى بأسانيد مُرسَلة، وفيها ضعف، لكن هذا مروي بإسناد صحيح عن محمد بن سلمة، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرَّضوا لها، فلعل أحدكم أن تُصيبه نفحة منها فلا يشقى بعدها أبداً، اللهم اجعلنا منهم برحمتك الواسعة يا رب العالمين، نفحة! هي اختصاصات إلهية، لكن كيف نُصيبها؟ بالتعرض، كيف نتعرَّض؟ ببذل المجهود، لكي نتعرَّض في الليالي وفي الأيام علينا أن نبذل مجهوداً زائداً، علينا أن نجتهد في رمضان ما لم نجتهد في سواه.

للأسف بعض الناس يكسل في رمضان عن العبادات أكثر من كسله في غير رمضان، لماذا؟ بسبب المُلهيات الكثيرة في الليل والنهار، كنا نعجب ونحن صغار ندرج لهؤلاء الشيوخ الكبار – ليسوا شيوخ العلم، إنما شيوخ السن الكبار -، يجلسون في المقاهي، يلعبون الزهر وما يُعرَف بالكارت هذا أو الكوتشينة أو الشدة، يُقضون ساعات رمضان هكذا على المقاهي، نعجب لهم! وبعضهم إذا تعب وكل يأتي لينام، إن في بيته أو في مسجده، مُحتَجاً بأن نوم الصائم عبادة، لا! نوم الصائم الذي كل من العبادة، الذي بذل المجهود.

أين الغيرة؟ أين الحمية؟ يا ليت الناس يتنافسون في العبادات بعض تنافسهم في الماديات، في المال والمناصب والشهادات والحيثيات، بعض – أقول بعض – ما يتنافسون، قال وهيب بن الورد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل، لماذا؟ لماذا يكون فلان أكثر عبادةً مني؟ لماذا يكون غيري أكثر صياماً، أكثر قياماً، أكثر قراءةً للقرآن، أكثر أخذاً وحفظاً للقرآن، أكثر ذكراً لله، أكثر صدقات وتبرعات مني، أكثر أمراً بالمعروف ونهياً عن المُنكَر مني، وأكثر فقهاً ونفاذاً في العلم مني؟ أين الغيرة؟ أين الحمية؟ أتُحِب نفسك؟ هذا هو حُب النفس، أن تُحِب لها الخير والشرف في الدنيا والآخرة، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩، هذا هو!

أحد العلماء الصُلّاح – هو من صُلحاء العلماء، اسمه شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني، رحمة الله تعالى عليه، له قولة عجيبة جداً، قدَّس الله سره، هو سر كريم بلا شك – قال – رضوان الله تعالى عليه وعنه – ما بلغني عن أحد أنه تعبَّد الله بعبادة إلا تعبَّدت لله بمثلها وزِدت عليها، أي عبادة مشروعة لم أُحِب ولم أرتض لنفسي أن يسبقني إلى الله بها أحد، ما هذه الهمة القعساء؟ همة قعساء، هذه عزيمة، عزيمة الرجال، هؤلاء هم الرجال، ليسوا رجال المُسلسَلات والأفلام والتمثيليات والفضائح والبرامج والأكل والشرب والنوم، ونوم الأضاحي، بعد سهر الليالي، ليس هذا من الرجولة في شيئ، الرجولة هكذا قال، ما هذا الرجل العجيب؟ قال وزِدت عليها، أزيد على هذه العبادة من جنسها، حتى أفوق هذا الرجل.

قال أحد العارفين بالله – عرَّفني الله وإياكم به ودلنا عليه سُبحانه وتعالى وعز وجل – لو أن أحداً سمع بمَن هو أكثر عبادةً وقُرباً إلى الله منه فمات ما كان ذلك عجيباً، قال عادي، الإنسان العاقل عادي أن يموت من الحسرة ومن الألم إذا علم أن واحداً من مُعاصِريه أكثر عبادةً وقُرباً إلى الله منه، هو من أهل العصر وربما من أهل المصر أيضاً، من نفس بلدي وفي نفس زماني، لماذا يكون أقرب إلى الله مني؟ لماذا؟ عاجز أنا؟ أحمق أنا؟ أبله أنا حتى يسبقني إلى الله؟ هذا هو العقل، فعلاً هذا هو العقل الكامل والنور التام، نوَّرني الله وإياكم، هكذا!

قال – سُبحانه وتعالى من قائل – وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ۩، هذه الآية فيها إشارات، من إشارات هذه الآية الجليلة الكريمة أن على المُوفَّق والمُوفَّقة من عباد الله وإمائه أن يتهيَّأ ويتزوَّد ويستعد لمواسم الخير، هذا هو طبعاً، أتُريد الجهاد؟ لماذا لم تُعِد له أنت؟ هناك المُتثاقِلون المُتباطئون الذين كذبوا على أنفسهم، ورمضان الآن أوشك على القدوم، رمضان تقريباً أوشك أن يهل هلاله، يوم أو يومان على الأكثر والحمد لله، نسأل الله أن يُبلِّغناه، والله والله نعمة لا يُقادر قدرها ولا يُدرَك خطرها وشرفها، أن يُحيينا الله حتى نُدرِك رمضان آخر، والله نعمة عظيمة، يا ربي لك الحمد والمنّة، حمداً ومنّةً يليقان بجلال وجهك وعظيم سُلطانك، ليسا لهما مُنتهىً أبداً أبداً، نعمة كبيرة جداً جداً، لماذا؟

رمضان قد يتسبَّب – بإذن الله – في غُفران كل صغائر ذنوبنا، كل صغائر ذنوبنا! على الأقل بين الحولين، لحديث أبي هُريرة – رضوان الله تعالى عليه – في صحيح مُسلِم، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الصلوات الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر، صح الحديث، إذا اجتُنبت الكبائر، لكن هناك ما هو أجزل، هناك ما هو أكرم، ما هو؟ الحديث المُخرَّج في الصحيحين، أيضاً من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً – وفي حديث آخر بدأ بالصيام، مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً – غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، لم يقل ما بين الحولين، قال ما تقدَّم، لم يقل ما بين الرمضانين، قال ما تقدَّم، الله أكبر! عمرك الآن سبعون سنة، وعندك ذنوب كالجبال، بعض الناس ربما يكون هذا أول رمضان يصومه، الحمد لله، نسأل الله له الثبات وحُسن الختام وأن يُوالي عليه توفيقه – إن شاء الله – وإفضاله، من المُمكِن أن يكون هذا أول رمضان يصومه، أول رمضان يُصلي فيه، وهو ابن سبعين سنة، لا بأس، مَن يحول بينه وبين رحمة الله؟ أعوذ بالله، مَن يُقنِّطه إلا الشقي؟ فإن قُبِل من هذا الصوم يُغفَر له ما ذكرنا، لأنه احتسبه واحتسب به وجه الله، حبس نفسه على طاعة الله، منعها طعامها وشرابها وشهوتها وكسر عاداتها، لماذا؟ من أجل الله.

الصوم من أصعب العبادات أن يدخله الرياء، من أصعب العبادات أن يدخله الرياء! ترى الرجل الآن مُمسِكاً، ما يُدريك أهو صائم أو مُفطِر؟ لا تعرف، قد يكون مُفطِراً، وقد يكون صائماً، لا تعرف! لكن حين تراه في صف الرجال يُصلي تعلم أنه يُصلي، قد يدخلها الرياء جداً، الصلاة يُمكِن أن يدخلها الرياء، في بعض أحوالها، مَن صلى خالياً وحده والناس نيام – مثلاً – أو في نجوى من الناس لم يدخل صلاته رياء الآن، لأنه صلى وحده، لكن إن صلى بين الناس أمكن أن يدخلها رياء، أما الصوم – صام في نجوى وفي خلوة أو في جلوة – فلا، لا ندري ولا نعرف، لأنه كف، الصوم كف، الصوم إمساك.

وقد ورد في الحديث المُخرَّج في الصحيحين أيضاً كل عمل ابن آدم له إلا الصوم – في بعضها الصيام -، فإنه لي، وأنا أجزي به، نسبه إلى ذاته العلية الشريفة القُدس، لا إله إلا هو! إلا الصوم، واختلفوا كثيراً كما تعلمون – وهذا مطروق، أي هذا المبحث معروف -، فبعضهم قال نسبه إلى نفسه لأن فيه تشبهاً به – لا إله إلا هو -، الصوم استغناء، لا طعام، لا شراب، ولا شهوة نساء، استغناء! فهذا تشبه بالرحمن – لا إله إلا هو -، الذي لا يأكل ولا يشرب وهو غني عن الزوجة والولد – لا إله إلا هو -، ولست أرتاح إلى هذا التأويل الكريم، لماذا؟ لأن الملائكة شأنها الشأن، فالملائكة لا تأكل ولا تشرب وليست تُقارِب أجناسها، فلماذا لم يُشبَّه الصائم بالملائكة إذن؟ وهم رُتبة أقرب إليه من رُتبة رب الأرباب – لا إله إلا هو -، وأين التراب من رب الأرباب؟!

سُفيان بن عُيينة – شيخ أهل مكة رحمة الله تعالى عليه – له قول مشهور ومأثور، أن المُقاصة تقع يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يُؤخَذ من حسناتك ويُعطاها الخصم، إن فنيت الحسنات طُرِح على الأبعد – والعياذ بالله – من سيئات خصمه، ثم يُطرَح في نار جهنم، كما في حديث المُفلِس في صحيح مُسلِم وغيره، قال ابن عُيينة إلا الصوم، لا تقع المُقاصة منه ولا به، لا يُؤخَذ من ثوابه شيئ، وهو تأويل لطيف.

أكثر ما ترتاح له النفس هو هذا: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، معنى إلا الصوم أي إلا ثواب الصوم، لا يعرف ثوابه ولا يُقدِّر أجره – قال – إلا أنا، بقرينة قوله وأنا أجزي به، والشاهد والدليل أنه – سُبحانه وتقدَّست أسماؤه وصفاته – قال إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، أي جُزافاً، هذا اسمه الجزاء الجُزاف، هناك الجزاء الحساب، الجزاء على أنواع، منه الجزاء الحساب، بحساب! الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعين، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله من وجوه التضعيف، وهذا حساب، كله حساب! وهناك جزاء الجُزاف، ما هو جزاء الجُزاف؟ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، شيئ عجيب، رب العزة – لا إله إلا هو – قليله بل أقل قليله ولا قليل لما يُعطي ولما يتكرَّم – سُبحانه وتعالى – يكفي العالمين.

قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ                                         قَلِيلُكَ لاَ يُقَالُ له قَلِيلُ.

إذا كان هذا قليل رب العزة – لا إله إلا هو – ولا قليل لما يُعطي ولما يتكرَّم – سُبحانه وتعالى – فكيف إذن يكون جُزافه؟ إذا أراد أن يجزيك جُزافاً فماذا يُعطيك؟ وكيف يُعطيك؟ لا أحد يعلم، ولذلك قال نسبه لنفسه، نسب ثوابه وأجره وجزاءه إلى ذاته، وقد روى الإمام ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شُعب الإيمان، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الأعمال سبعةٌ، أو قال سبعٌ، الأعمال سبعةٌ أو سبعٌ، عملان مُوجِبان، وعملان بأمثالهما، وعمل بعشر أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لا يعلم ثوابه إلا الله.

تصنيف الأجزية لكل الأعمال والمبرات، فأما المُوجِبان – اللهم اجعلنا مِمَن وجبت له الجنة، وأوجب بتوفيقك الجنة لنفسه، اللهم آمين – فهما كالآتي، قال فأما المُوجِبان فمَن لقيَ الله – تبارك وتعالى – لا يُشرِك به شيئاً وجبت له الجنة، فسألناك بأسمائك الحُسنى، وبصفاتك العُلا ابتهلنا إليك، ألا تُميتنا إلا وأنت راضٍ عنا، على عقيدة لا إله إلا الله، محمد عبده ورسوله، أعظم الأعمال هذه، هذه الكلمة الطيبة، هذا الأُس، هذا الأُس وهذا المعقل، المعقل الأكبر والأعظم، لا إله إلا الله، مُوجِب هذا، حتى وإن أتى أبواباً من الصغائر والكبائر، لكن لقيَ الله مُوحِّداً، لا يُشرِك به شيئاً، دخل الجنة، هذا مُوجِب، اللهم اجعلنا مِمَن أوجبوا الجنة بتوفيقك وحُسن العمل.

قال وأما مَن لقيَ الله وقد أشرك به شيئاً فقد وجبت له النار، إذن عملان مُوجِبان، الآن ومَن عمل سيئةً، فهذا يُجازى بماذا؟ بمثلها، عملان بأمثالهما، جزاؤه مثل ما عمل، ومَن أراد أن يعمل حسنةً فلم يعملها، حال بينه وبين عملها حائل، والحوائل كثيرة، أُعطيَ مثلها، الله أكبر! ما هذه الرحمة؟ لم يعملها، نوى أن يعملها، وحيل بينه وبين ما يشتهي من الخير، أُعطيَ مثلها.

إذن عملان بأمثالهما، ومُوجِبان بأمثالهما، هناك عمل بعشر أمثاله، قال ومَن عمل حسنةً أُعطيَ عشر أمثالها، وقد يُضاعَف هذا، وعمل بسبعمائة، هذا العمل السادس، ومَن أنفق نفقةً في سبيل الله، أي تصدَّق بصدقة في سبيل الله، وطبعاً هناك الخلاف الشهير جداً في المُراد والمقصود بـ في سبيل الله، والمشهور كما قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد – قدَّس الله سره – هو الآتي، في سبيل الله يُعنى بها في الجهاد، هذا هو المشهور، هذا أظهر أقوال العلماء، هذا المعنى، وعليه يُحمَل مَن صام يوماً في سبيل الله، أي وكان مُجاهِداً، من أهل الضراب أو من أهل الرباط، هذا الذي يُباعِد صومه بينه وبين جهنم سبعين خريفاً، سبعين خريفاً! في سبيل الله، فمَن تصدَّق بصدقة أو أنفق نفقة في سبيل الله – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وأصحابه وأتباعه – ضُعِّفت له نفقته سبعمائة، يقول النبي سبعمائة، الدرهم – النبي يقول – بسبعمائة درهم، والدينار بسبعمائة دينار، يقول وعمل – هو آخر الأعمال في هذا التصنيف النبوي المُصطفوي – لا يعلم ثوابه إلا الله – عز وجل -، وهو الصوم! قال هذا مُختلِف، مُختلِف عن كل شيئ، لا إله إلا الله، الصوم!

علينا أن نرعى يا إخواني وأخواتي حُرمة هذه العبادة العظيمة فعلاً، بالاجتهاد، بتقوى الله، بالبعد عن المناكر وعن المُحرَّمات، بزم النفس، بالتحكم في الهوى، بتعظيم الإرادة، بعدم جولان الحواس – السمع والبصر واللسان – لا أقول فيما حرَّم فهذا من الأوليات وإنما في المُباحات وفي فضول المُباحات، لا! فلنحبس أنفسنا على طاعة الله، لنعتكف على مرضاته هاته الأيام وهذه الليالي المعدودات، لعلنا نكون من الفائزين – إن شاء الله -، لعلنا نكون من عُتقاء الله.

في حديث أبي سعيد الخُدري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وإن لله في رمضان كل يوم وليلة عِتقاً – في أحاديث أُخرى عُتقاء، هنا قال عِتقاً – من النار، قال عِتقاً من النار، ولم يُحدِّد، في أحاديث أُخرى عند البيهقي وغيره ذكر – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن الله يعتق كل ليلة عند الفطر، وقت الدعوة التي لا تُرَد، انتبهوا واهتبلوا هذه الفُرص، حين تُفطِر لا يكون الطعام والشراب همك، إنما الدعوة المُتقبَّلة.

روى عبد الله بن أبي مليكة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، التابعي الجليل -، عن عبد الله بن عمرو – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وإن للصائم عند فطره لدعوةً ما تُرَد، قال عبد الله – أي ابن أبي مليكة – وكنت أسمع عبد الله – أي ابن عمرو، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – يقول إذا أفطر اللهم إني أسألك برحمتك الواسعة أن تغفر لي، المغفرة! الرحمة والمغفرة والعتق من النار، لكن الله يُعجِّل العطايا، فيُعتِق – هذا على الحساب كما يُقال – كل ليلة، كل ليلة يُعتِق – اللهم اجعلنا منهم -، فعند البيهقي يُعتِق ستين ألفاً كل ليلة، طبعاً في بحر بل في مُحيط أمة محمد اللجب المُتلاطِم العظيم – مليار ونصف، كثَّرهم الله، وزاد بهم الخير، وزادهم خيراً – يُعتبَر هذا عدداً قليلاً جداً، ستون ألفاً! أهؤلاء عُتقاء من مليار ونصف؟ ولكن أيضاً هذا جزاء كبير جداً، لأن الله إذا أعتق لم يعد في عطيته، انتهى إذن، أنت من العُتقاء، بإذن الله لن يمسك لفحها ولا لهيبها، انتهى! اللهم اجعلنا منهم، شيئ كبير جداً، شيئ مُغرٍ، علينا أن نجعله نصب أعيننا.

ليقل أحدنا لنفسه لِمَ لا أكون من هؤلاء الستين ألفاً؟ لِمَ لا أكون من عُتقائه في أول ليلة – إن شاء الله تعالى -؟ كيف؟ كيف؟ نحن إنما نستقبل العمل بالنية يا إخواني، وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ۩، أليس كذلك؟ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ۩، علينا أن نتزوَّد، طبعاً عهدنا بالمُسلِمين والمُسلِمات أنهم يتزوَّدون بلا شك قبل رمضان بأسبوع وأسبوعين وأكثر ربما، يتزوَّدون بالأقط والسمن والمطاعم والمشارب والمُقبِّلات والمُشهَّيات، يتزوَّدون! جميل ولا بأس، تزوَّدوا، ولكن الأحرى والأقمن أن نتزوَّد بماذا؟ بالالتفاف عن المُحرَّمات، انتهى! توبة، ومتاب حسن، أيدخل رمضان وأنا لا زلت على الذنب – والعياذ بالله -؟ أما أستحي من الله؟ أما أستحي من شهر رمضان؟ أما أستحي من إخواني ومن صُلحاء قومي لو اطلعوا على سري وحقيقة حالي؟ أيدخل رمضان ولا زلت مُقيماً على الذنب – والعياذ بالله -؟ أين التزوَّد؟

انتبهوا، هذا الشيئ مُخيف، الذي لم يتزوَّد ولم يتهيَّأ عليه أن يبدأ، ونسأل الله أن يكون آخر يوم فُرصة للتزود، لا نُقنِّط أحداً من رحمة الله، ألم يخطر لك أن تتزوَّد؟ ابدأ من الآن – إن شاء الله -، من هذه الساعة، من هذه الليلة المُقبِلة، من غد تزوَّد – بإذن الله -، اترك المعاصي، استحضر نية عمل الخير بخير العمل، تعمل خير الأعمال – إن شاء الله تعالى -.

رمضان مرتع للصالحين، ارتعوا! روضة من رياض الرحمن، تُونِق وهي مُربِعة ومُربِحة – إن شاء الله -، فيها صيام، فيها صلاة، فيها قرآن وترتيل، فيها تهجد، فيها دعاء مُستجاب، فيها صدقات وعطاءات، فيها ذكر ولهج بذكر الله، فاستكثروا فيه – قال – من أربع خصال، خصلتين تُرضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما اللتان تُرضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، نُكثِر في هذا الشهر الكريم من لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ومن الاستغفار، نُكثِر من الاستغفار بكل الصيغ، هذه هي، هاتان خصلتان تُرضون بهما ربكم، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألونه الجنة وتعوذون به من النار، هذا شهر الدعاء، وشهر اللهج بالذكر يا إخواني، وشهر العطايا، وشهر التشديد، وبالتالي هناك الأجزية، هناك المُكافاءات، شهر الرحمة، شهر المغفرة، شهر العتق، شهر الإيجاد – إن شاء الله تبارك وتعالى -، إيجاد الجنة والنعيم والرضوان المُقيم في مقعد صدق عند مليك مُقتدِر.

هذه ميادين واسعة فسيحة للعمل، كيف نُضيعها؟ كيف لا نجتهد؟ سئل أحد الصالحين – أصلح الله سري وإياكم، وظاهر أمرنا أيضاً معه – كيف يصير العبد من صفوة الله؟ أي من صفوة عباد الله طبعاً، كيف يصير العبد من صفوة الله؟ كيف؟ فقال إذا خلع الراحة، وأعطى على الطاعة المجهود، لا تُوجَد راحة، أتُريد أن تصير من المُتنافِسين المُتسابِقين وأن تُحرِز قصب السبق؟ لا تُوجَد راحة للإنسان كما قال الإمام الرباني أحمد بن حنبل – قدَّس الله سره الكريم – إلا إذا وضع رجله في الجنة، وقد سُئل متى يرتاح المُؤمِن يا عبد الله؟ فقال إذا وضع رجله في الجنة، قبل أن يضع رجله في الجنة لا تُوجَد راحة، حتى يوم الحساب ليس فيه راحة، يوم شاق وعسير وصعب وانتظار وأهوال، نسأل الله أن يُثبِّتنا وأن يبعثنا من الآمنين برحمته الواسعة، لكن إذا وضع أول قدم في الجنة ارتاح.

وهذا مصداقه قول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ليس للمُؤمِن راحة دون لقاء الله، لا راحة قبل أن تلقى الله راضياً مرضياً، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩، أين الراحة؟ المُؤمِن لا يرتاح، أما أن يطلب راحة الدنيا ويُؤمِّل في راحة الآخرة فبعيد، نسأل الله أن يُنيله، لكن هذا بعيد، لأن الطاعة لا تترك لك راحة، تعب ودأب.

سأُتعِب نفسي كي أصادف راحةً                       فإن هوان النفس أكرم للنفس.

وأزهد في الدنيا فإن مقيمها                         كظاعنها ما أشبه اليوم بالأمس.

مَن أراد الكرامة والراحة فليتعب في هذه الدنيا، لم نتعوَّد التعب في طاعة الله، فلنتعوَّد بعضه في شهر رمضان، نزيد كما يُقال العيار حبتين في شهر رمضان يا إخواني، فُرصة! والله فُرصة، نسأل الله أن يُعينني وإياكم على ذلك.

إذن إلا الصوم، فإنه لي، أي ثوابه لله، كأنه يقول فإن تقدير ثوابه وجزائه لي أنا، لأنه لا يعلمه إلا أنا، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، ما علاقة الصبر بالصوم؟ النبي قال الصوم نصف الصبر، كيف هذا إذن؟ كيف؟ هذه العلاقة واضحة، أي علاقة الصوم بالصبر، الصائم هو إنسان صبور، الصوم نصف الصبر، طبعاً والصبر نصف الإيمان، فصار الصوم رُبع الإيمان كما قال الإمام أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره -، هذا الصوم، هذه العبادة العجيبة تفرَّدت وحدها برُبع الإيمان.

إذن على أحدنا أن يضع لنفسه خُطةً، خُطة سعيدة مبرورة – بإذن الله تبارك وتعالى -، يُوفِّر بها حظه بعد الصيام طبعاً من الآتي، كلنا – إن شاء الله – من الصوّام ونسأل الله القبول، لكن لابد أن يُوفِّر حظه من القرآن العظيم، لا يُترَك مهجوراً حتى في هذه الأوقات المُبارَكات، لابد أن يُوفِّر حظه من القرآن العظيم، وأن يُوفِّر حظه من الصلوات التطوعات، الركعات التي تطوّع بها لله – تبارك وتعالى -، وخاصة قيام الليل من رمضان، سواء التراويح في المساجد أو التهجد في المساجد وفي البيوت أيضاً، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ۩.

في حديث أبي هُريرة الذي سُقنا أوله قال ومَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، هذا الحديث أخرجه الإمام النسائي – رحمة الله عليه – والإمام أحمد، من رواية قُتيبة، وزادا فيه وما تأخَّر، قال العلّامة شيخ الإسلام الحافظ المُنذري وهي زيادة صحيحة، أي من جهة الإسناد، لا بأس، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وهذا غير بعيد عن كرم الله – تبارك وتعالى -، الذي غفر ما تقدَّم وما تأخَّر، غير بعيد من رحمته وعطائه، لكن الشأن كل الشأن أن نُصيب، أن نُصيب هذا التوفيق – إن شاء الله تبارك وتعالى -، أن نكون مِمَن يستحق هذا، نعمل كما يُقال ما علينا والباقي على الله – عز وجل -، نبذل المجهود والباقي عليه – تبارك وتعالى -، ولن يحرمنا – إن شاء الله -، لن يحرمنا – سُبحانه وتعالى -.

كذلك حظك من الصيام، حظك من القيام، حظك من القرآن – انتبه -، وحظك من ذكر الله – تبارك وتعالى -، الذكر مُهِم، اعمل لنفسك ورداً، رتِّب كما يُقال، رتِّب على نفسك ورداً يومياً، كل يوم في النهار والليل، وحافظ عليه – بإذن الله -، والأمر نفسه مع حظك من الصدقات، كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، وخاصة إذا لقيه جبريل يُدارِسه القرآن، يقول ابن عباس فكان أجود من الريح المُرسَلة، يُعطي كل شيئ، لو سألته ثوبه الذي عليه فقد سُئل، يُعطيكه، يُعطيك مُباشَرةً، يعلم الثواب، فلنُسارِع أيضاً في الصدقات في شهر رمضان، لنُوفِّر حظنا.

بعض الناس رزقه كما يُقال على قده، شيئ من التقتير ربما ومن التقدير، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ ۩، مُقدَّر عليه رزقه، مُقتَّر عليه بعض تقتير، ولا بأس، ليُوفِّر شيئاً من ثمن المشروبات والحلويات وهاته المُشتهيات، شيئاً منها! ويتصدَّق به، لئلا يحرم نفسه، والنية – إن شاء الله – تبلغ بالعبد ذلك وفوق ذلك، فنية المُؤمِن أبلغ من عمله.

أسأل الله الكريم بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يُهِل هلال رمضان علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والخير والرشد والبركة، فربه وربنا الله، لا إله إلا هو.

اللهم بلِّغنا رمضان، ووفِّقنا فيه، وبارك لنا فيه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك أن تهدينا فيمَن هديت، وأن تُعافينا فيمَن عافيت، وأن تتولانا فيمَن توليت، اللهم أصلِح ظاهرنا وباطننا، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا صالحةً، برحمتك يا أرحم الراحمين.

بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك أن تقينا شر أنفسنا، وشر أعمالنا، وشر الشيطان وشركه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم حبِّب الينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩.

اللهم إنا نسألك ونضرع إليك ونبتهل أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُؤمِنين، برحمتك وقوتك يا عزيز، يا متين، يا جبّار، يا قهّار، يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (29/8/2008)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: