إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ۩ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ۩ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

إنما بعثني على اختيار الموضوع الذي ستسمعون هذا اليوم سؤالٌ كريم من أخٍ كريم أبدى قلقاً على الإنسان فيه، أخٌ من طلّاب العلم من دولةٍ أوروبية مُجاوِرة اتصل بي أمس يقول: هل هو وضعٌ طبيعي ألا يشعر المسلم بانفعال الحزن والألم والأسى إزاء ما يُصيب غير المسلمين من الكوارث والمصائب؟!
وعلى التحديد كما صرَّح المُصيبة والكارثة العُظمى التي ضربت هايتي Haiti،فبادرت إلى الجواب مُقتضِباً وقلت له: الطبيعي أن يتفاوت رد فعل الإنسان عاطفياً إزاء ما يُصيب الآخرين وفق معايير للقرابة، القرابة المادية والقرابة الروحية أو المعنوية، هذا طبيعي، ولكن ليس طبيعياً البتة أن يخلو المسلم من الحد الأدنى من التعاطف والانفعال والشعور بمآسي الآخرين مِمَن لا يموتون إليه بصلة، لا صلة معنوية ملية دينية ولا صلة قرابية دموية نسبية، ولكن تبقى صلة الإنسانية والإخوة في الآدمية، هذا ليس طبيعياً بالمرة، وهذا يلزنا أو يضطرنا إلى مُساءلة ثقافتنا ومُساءلة تربيتنا، ما هى الثقافة التي نلتقى؟!

كيف نتربى؟!

هذا ليس طبيعياً، وأنا أعلم أن هذا ليس حال جميع المسلمين، ولكن نعلم بيقين أنه حال ثُلة الله أعلم كثرت أم قلت من المسلمين، فلا يكادون يعبأون ولا يتحرَّك فيهم شيئ إزاء ما يُصيب الكافرين لأنهم كافرون، ويقولون “هؤلاء كافرون”، بل بالعكس بل ربما يشعر بعضهم بالشماتة أو بالفرح وقالوا “ليذهبوا إلى الجحيم، ليُخفِّف الله منهم لأنهم كفّار ليسوا على ديننا ولا ملتنا”، وهذا منظورٌ خطيرٌ جداً يُشعِر باضمحلال وتجدب أو تصحر مُقلِق على الإنساني فينا، وبعد ذلك سنقف شاكين مُرتابين في حقيقة أن الثقافة التي نتلقاها والمُكوِّن الديني فيها مُكوِّن رئيس وأساسي ويُمكِن حتى الحديث عن ثقافة إسلامية لهذه الأمة، فالنعت الأعم والأغلب والأشمل أنها إسلامية لأن المُكوِّن الديني هو أعظم المُكوِّنات مُساهَمةً فيها وفعلاً وتأثيراً، وسنقف شاكين مُتردِدين في حقيقة أن هذه الثقافة ثقافة إنسانية، أن تكون إسلامية أنت حُر، صنِّفها إسلامية، ولكن لا تستطيع بعد ذلك أن تسمها بأنها إنسانية، وهذا خطيرٌ جداً، معنى ذلك أنك تتديّن بدين أو تُعبّأ بثقافة أو تُنشّأ وتُربّى على نحو غير إنساني، وسيُبادأ القول بعضهم أو بعضٌ من الناس سيُبادِرون إلى القول “كلا، نحن إنسانيون في حدود ملية، نحن نتعاطف مع أهل ديننا، ولا نتعاطف مع غير المسلمين، والقرآن يُعلِّمنا هذا”، وهذا خطيرٌ جداً لكن هكذا دائماً يُحال على الله ويُحال على القرآن، وهذا هو الفرق بين الدين وبين الثقافة، الدين هو هو كما أنزله الله وكما يُمكِن أن يقرأه القارئ المثالي، والقارئ المثالي هو القارئ المُزوَّد بالآلات المنهجية الصارمة التي يُمكِن أن تُقارِب النص أكثر المُقارَبات دقةً وصوابيةً، فهذا هو القارئ مثالي، ولا يُمكِن لأي مسلم أن يزعم أنه قارئ مثالي أو حتى عالم من علماء المسلمين يزعم أنه قارئ مثالي للنص، لأن هؤلاء أو منهم مَن جعل القرآن عضين وجزَّأوه وفرَّقوه، فيقولون: القرآن يقول لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ لَا ۩ ناهية هنا ولذلك جزمت الفعل – الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ۩، فالله نهى عن مُوالاتهم، وبالتالي نهى عن مودتهم أو محبتهم، فكيف يأمر أو يستحب أو يستحثنا على أن نأسى لأساهم وأن نشعر بمكروثيتهم وبمُصابهم؟!

وهذا هو الكذب على الله – تبارك وتعالى – لأن الآية لم تقل هذا، الآية بريئة من هذا مُطلَقاً، ولا يُمكِن لمسلم يقرأ قوله تعالى  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ وأن يفهم أن القرآن يُمكِن أن يُفهَم على هذا النحو، هذا هو الخطأ والالتواء والانحراف في الفهم في قراءة النص الديني، فالآية تقول لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ  ۩، لا شريعة إلهية ولا شريعة وضعية ولا ما تعارف عليه الناس من أعراف وتقاليد تسمح لأحدٍ أن يُوالي أُناساً خارج مجموعته أو جماعته أو أمته على حساب مجموعته أو جماعته أو أمته، هذه خيانة طبعاً، فكيف تعيش معهم وتأمن بأمانهم وتنتفع بمزاياهم وتكون جُزءً منهم ثم تُوالي غيرهم على حسابهم؟!

هذه خيانة، والقرآن لا يُمكِن أن يأمر بالخيانة، ومثل هذا الخائن لو خان وزعم أنه يخون من منظور إنساني لعلمنا أنه بارئ من الإنسانية تماماً، وكما تقول العامة “الذي ليس فيه خير للأقربين – لأهله وأودائه – ليس فيه خير للأباعد”، فهذا مُستحيل، وإلا كيف يُمكِن أن تخون أقرب الناس إليك، تخون أهل ملتك وأهل دينك وأهل وطنك ثم تزعم أنك كوني المنظور وإنساني الوجهة؟!

هذا كلام فارغ، هذا هو الزيف حقيقة، ولذلك يُقال “المفتاح الذي يفتح كل الخزائن مفتاحٌ زائف”، أي كذّاب، فلا يُوجَد مفتاح يفتح كل الخزائن ومن ثم هذا مفتاحٌ زائف.

لكن الآية تقول مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ ۩، فقوله تعالى  إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا – أي من الكافرين – مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ  ۩ وضح به تماماً أن الحديث دائرٌ عن الكفّار الحربيين، عن كافر يُمكِن أن يتوصّل إليك بأذية لأنه مُحارِب لك ومُعادٍ لك ، فيُمكِن أن تُتاقيه ويُمكِن أن تُظهِر له غير ما تُبطِن حتى لا يتوصّل إليك بأذىً، فهذا هو.
قال الله تعالى لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۩، فلا يُمكِن أن نود أعداءنا الكفّار الحربيين، أما الكافر أو غير المسلم الذي ليس حربياً وليس في حالة حرب معي فلم يهتك عِرضي ولم يسرق مالي ولم يسرق مُقدَّساتي وأوطاني وتُرابي ولم يُصادِر حُريتي هو حُر في عقيدته – لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ  ۩ – وموقف القرآن واضح جداً جداً جداً من هذا، فلا ينبغي فقط أن أُسالِمه بل ينبغي أن أبره، وهذا مزيد وصاة على الوصاة بالقسط، فلا يكفي فقط أن اُقسِط معه وأن أعدل،  فالمسلم المثالي الصالح ليس فقط مُجرَّد مسلم عاديٍ، بل مسلم بار، والبر كلمةٌ جامعة لكل أسباب وجوه الخير، فكيف تستطيع أن تبر هذا الإنسان فعليك أيه ببره، قال الله تبارك وتعالى لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ – هم نعم كفّار ولكنهم ليسوا مُحارِبين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّين وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تُوَلُّوهُمْ ۩، فهذا هو إذن حتى لا نكون خونة بأن نُوالي وأن نود وأن نُصافي وأن نُصالِح وأن نُحِب مَن عادانا ومَن يُعادينا ومَن أخرجنا ومَن كان سبباً في مرائرنا وألاقينا وعذاباتنا وتباريحنا، هذه خيانة أو هذا ضعف وانكسار نفسي، فيَوجَد لدينا عُقدة العدو وعُقدة القوي، ومن ثم قد يشتغل أحدهم جاسوساً لهم إذن، فهذه نفسية الجواسيس والعُملاء وهذا شيئ آخر، ولكن الكافر غير المُحارِبعليك أن تُقسِط إليه وزيادة وأن تبره ، والبر – كما قلنا – كلمة جامعة لكل أسباب ووجوه الخير.
هذا هو ديننا، هذا هو قرآننا، إذا أردنا أن نُفرِغ عن منطق القرآن فهذا هو منطق القرآن بوضوح، وهل هناك مودة كالتي تكون بين الزوجين؟!

إنها من أعظم المودات، قال الله وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، فالذي أنزل هذا القول الكريم هو الذي أباح لنا نكاح نساء أهل الكتاب اليهوديات والنصرانيات، إذن أباح لنا مودتهن وبرهن، لأن النكاح مودة، قال الله وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، فلم يقل القرآن “لا يجوز وهو حرام لأن مودة غير المسلمين لا تسوغ أصلاً”، هذا غير صحيح، بل سوَّغها الله تشريعياً حين أباح لنا مُناكَحتهن  لأن النكاح مودةٌ ورحمة، وهذا واضح من التشريع، لكن كيف يُمكِن لمسلم أن يفهم مثل هذا الفهم أو يصدر عن مثل هذا المنطق وهو تُتلى على مسامعه وربما صباح مساء نصوص من قبيل ما سمعتم ومن قبيل في كلِ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ؟!

الإنسان يُؤجَر ويُشكَر عمله ويُغفَر له ويُدخَل الجنة برحمة حيوان أعجم بهيم، فكيف برحمة إنسان؟!

شيئ عظيم أن ترحم إنساناً، والإنسان يُذكَر في كتاب الله بالتكريم، قال الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، فابن آدم مُكرَّم وابن آدم مسجود الملائكة وابن آدم مَن سُخِّرَ له الكون، فهذا هو، ولكن هذا الإنسان إن عادانا نُعاديه وإن دابرنا نُدابِره وهكذا، وإلا فنحن مأمورون ومحثوثون على بره وصلته ومُلاينته ومُحاسَنته، وهكذا كان الأنبياء وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فضلت مرةً بين المحبةِ والرحمةِ لأن المسيحيين يتبجَّحون ربما علينا قائلين “ديننا أفضل وأصلح للإنسانية وللعالم لأنه دين المحبة، والله محب ، والمسيح محبة”، ولذلك وجدنا أنفسنا في سياق المُفاوَضة بين الرحمة والمحبة .

نحن دين الرحمة، وذُكِرَت في كتاب الله في خمسمائة وخمسين هى ومُشتقاتها، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وهذه نُقطة تستلفت النظر ولها مغزاها، فلابد أن نقف طويلاً عند هذا المغزى في كتاب بين دفتين ومحدود الحجم جداً، القرآن لا يُقاس بكتب الهندوس ولا بكتاب التلمود اليهودي – مثلاً – حيث يُوجَد أكثر من خمسين مُجلَّداً، لذا القرآن يُعَد محدوداً جداً، وحتى الـ  Bible أو الـ Bibel في العهدين القديم والجديد ربما ثلاثة أو أربعة أضعاف القرآن، فالقرآن كتاب محدود ومع ذلك تتردَّد فيه الرحمة خمسمائة وخمسين مرة، وهذا شيئ عجيب، ولكن مما هو أدخل في باب الدلالة أنه لا تُوجَد سورة باستثناء براءة أو التوبة إلا وتُستفتَح أو تُفتتَح بـ “بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩”،فنحن نقول الرحمن الرحيم، ومُعظم العلماء على أن الرحمن رحمنٌ بخلقه جميعاً، مُؤمِنهم وكافرهم، عاقلهم وأعجمهم، حيهم وميتهم، أما الرحيم فهو ورحيمٌ بالمُؤمِنين، فهذه زيادة رحمة للمُؤمِنين من أهله وخاصته، قال الله وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۩، وفي ابتهال رسول الله كان يقول “يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما”.

كيف يُمكِن لمسلم يقرأ هذه النصوص وتقرع مسامعه غير مرة ربما في اليوم والليلة ثم يرى أن المسلم لا عليه إن لم يتأثَّر إزاء كوارث إلى الآخرين وليذهب إلى الجحيم الآخرون هؤلاء؟!

أعوذ بالله، كيف يُمكِن هذا؟!

هذا أمر غير مُمكِن، وهنا يُوجَد خلل كبير جداً يجب أن ننتبه إليه، فالإنسان لا يتجزأ، ولا يُمكِن أن تأتي وتقول “حين أرى مكروثاً أو أرى مُصاباً أو أرى صاحب مأساة فإنني سوف أقف أولاً وأسأل عن دينه وعن ملته وعن مذهبه وعن طائفته وعن حزبه أيضاً، وبعد ذلك اُقرِّر هل أتعاطف معه أو لا أتعاطف، هل أحزن أو لا أحزن”، وهذا كذب، فما يُمكِن خلعه ونزعه والمُساوَمة عليه ضمن حسابات ومعايرر وإكراهات وربما مُغاصَبات ليس الإنساني فيك، فالإنساني لا يُخلَع لأن فطرة الله لا تتبدَّل وإلا تُصبِح مسخاً، فلا يُمكِن للإنسان أن يُخلَع من إنسانيته إلا حين يُصبِح شيطاناً رجيماً أو حيواناً أعجم، أما أن يزعم أنه إنسان وهو قادر على نزع جوهره الإنساني وفق حسابات وإكراهات فهذا كلام فارغ وغير مُمكِن، ولذلك كلمة لها دلالة عظيمة للفيلسوف المُؤسِّس لعلم النفس الحديث ويليام جيمس William James في ألوان من الخبرة الدينية وذلك حين قال: لم أجد – علماً بأن الرجل كان مُعتنياً أو اعتنى كثيراً بدراسة الأديان، وهذا كتاب ويليام جيمس William James، وهومن  الكتب لنادرة، وهو كتاب ألوان من الخبرة الدينية – لم أجد قدّيساً – يقصد بالقديس ليس الـ Saint فقط  بل هو الإنسان المُتديّن الصالح، كل إنسان مُتديّن بمعنى إنساني حقيقي – عبر التاريخ يسأل الآخرين ما دينكم؟!

إذن يُريد في إطار ماذا؟!

في إطار التعاطف، أن تُحِب الآخرين وترجو لهم الخير، ولا يُمكِن ألا تفعل هذا إلا بعد أن تنفصل مِن جواب سؤال ما دينك وما ملتك ثم تُقرِّر بعد ذلك وإلا من المُستحيل أن تكون قدّيساً، أنت  لست رجلاً مُتديّناً أصلاً، فالمُتديّن ليس هكذا والإنسان ليس هكذا، وفارق المُتديّن عن الإنسان أن المُتديّن إنسان مُضاعَف، فقد ضُعِّفّت إنسانيته وأُثريَت وأُخصِبَت وبُورِكَت، هذا هو فقط فقط، أما أن يكون المُتديّن مُتديّناً وهو مُفرَغ من الإنسانية ومُضمحِل الوجدان والشعور فهذا كذب، هذا هو الدين الكذب والدين المزعوم، هذا هو الدين الذي لم يبعث الله به نبياً ولم يُنزِّل به شرعاً، هذا ه الكذب على الأديان، وهكذا يُمكِن أن تُصبِح لعناتٍ ليس فقط على أعداء مُعتنِقيها  بل على مُعتنِقيها، علماً بأن القضايا لا تتجزأ – كما قلت – وبالتالي الإنسان لا يُمكِن أن يُؤخَذ تفاريق أو يسلك تفاريقاً ويقول “أنا مع هؤلاء عظيم المودة وجيّاش العاطفة وجم التعاطف، ولكنني مع هؤلاء رجلٌ بارد جلمود قاسٍ”، هذا مُستحيل، وفي الحالتين أنت لست إنساناً!

اليوم لا تأسى لمصائب هؤلاء والسبب واضح لديك – لأنهم كفّار وليسوا من أهل ديني  –  وبالتالي سوف تشمت في مصائب، فالذي يأخذ هذا الموقف هو نفسه غداً الذي سيشمت بمصائب هؤلاء من أهل دينه لأنهم على غير مذهبه، فهم سُنة وهو شيعي أو هم شيعة وهو سُني وهكذا، ولكن لماذا؟!

يقول لك “ليذهبوا إلى الجحيم، فهم ليسوا على مذهبي وليسوا من المذهب الناجي أو ليسوا من الطائفة المنصورة الناجية”، وهذا فكر غريب جداً جداً جداً، لكن هن مَن الضحية أو ماء الضحية؟!

الإنسان فينا، ليس الدين فقط ، ليس النص وفهم النص وكلام المشائخ والحُجج، غير صحيح، هذا كلام فارغ، وعلى كل حال الإنسان فيك ضحية.

ومثل هذا أيضاً هو مُرشَّح بنسبة مائة في المائة بعد غد أنه سيفرح بكارثة ومُصيبة لهذا لأنه ليس من أهل دينه وأهل مذهبه وأهل حزبه – الحزب السياسي – علماً بأن هذا موجود وحاصل ويحصل، فهذا شيعي وهذا شيعي، وهذا سُني وهذا سُني، ولكن هذا ينتمي إلى حزب مُختلِف فليذهب إلى الجحيم لأنه ليس أخاً لنا .

على المنابر وفي النظريات الفارغة نقول “أخٌ لنا ونتعاون على الخير” وهو كلام فارغ، لكن في الحقيقة يُوجَد  تباغض وتدابر شديد جداً وأسود، وهذا لا يحدث فقط مع قضية حزبية أو فضية رأي لأنه يُخالِفني الرأي والاجتهاد بل في مسائل ربما تاريخية تتعلَّق ببعض أحداث التاريخ وتكون من الدول والسياسات فيُقال “هذا مُبتدِع وهذا زنديق زهذا ليس لا يُصنَّف حتى ضمن المذهب، بل  يخرج من المذهب على أيدينا، فنحن نُخرِجه حتى يُبرِّر عداءه لهم، لكن ما الذي يحصل؟!

الذي يحصل هو شيئٌ واحد أن مثل هذا الشخص ليس مُرشَّحاً أن يُعبِّر عن موقف إنساني، لقد انمحى فيه الإنسان، هو ليس إنساناً، هو شيئ آخر، هو رجل حزبي  كبير أو  عالم كبير أو حُجة كبيرة أو شيخ كبير أو قائد سياسي أو قائد عسكري أو قائد روحي ولكنه ليس إنساناً وهذا خطير جداً جداً جداً، هذه المسائل لا تتجزأ ولا تُؤخَذ تفاريق، وعلى المسلمين أن يفهموا هذا جيداً، علينا كلنا أن نفهم جيداً سُنةً وشيعة وزيدية وليبراليين وعلمانيين وإسلاميين هذا، وكلهم مسلمون على كل حال ولكن هذه توجهات لهم، فعليهم جميعاً أن يفهموا أن التربية التي تحصر الإنساني وتُحجِّره وتُضيِّقه سترتد لعنةً على مَن ساهم فيها وكرَّثها، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن هذا مزاج وهذه عقلية نفسية لا تتجزأ، فهذا الرجل سيضيق ذرعاً بأقرب الناس إليه في فُرصة قريبة جداً جداً جداً وسوف يُثبِت لكم هذا، فهو ليس قادراً أن يتعاطف مع أقرب الناس إليه إذا اختلف معه بل يُحيله عدواً.
وقد ألتمس بعض المعاذير لثقافتنا هذه وهى في هذا الجانب بلا شك تُعاني من إصابة خطرة جداً جداً جداً وتنزف، لكن تخثر النزيف هذا ويُوشِك أن يُصبِح شيئاً مُهلِكاً إن لم يُعالَج.

في نهاية المطاف قد نلتمس بعض الأعذار أو المعاذير لأن هذه الثقافة تقريباً ثقافة حربية، ونحن أبناء الصحوة الإسلامية مُنذ نعومة أظافرنا ونشأنا في المساجد وربُيّنا مُنذ البداية وإلى اليوم وفقاً للخطاب الشائع على تكفير العدو، تقريباً على رؤية العالم كله على أن عالم أعداء، فتقريباً كل ما حولك أعداء وإن كانوا من الأقربين، وهذا سر مُنازَعتنا لأقرب الناس إلنا، فكانت تحصل مُنازَعات مُدوية ع الآباء والإخوة الكبار وأولاد العم والجيران والعائلة، وهذا شيئ غريب يا أخي، فهل هذه هى الدعوة الإسلامية؟!

وهكذا تجعلك تبت وتقطع العلاقات مع أقرب الناس إليك بإسم الدعوة وبإسم الهجر في الله وبإسم الغضب لله والحمية في الدين وإلى آخر هذا الكلام الغريب جداً والعجيب، فنحن رُبيّنا على تكفير وعلى بسط مساحة العِداء وتكفير شخصوص وهُويات الأعداء، وطبعاً العلماني يُعَد عدواً في هذه الثقافة ويُقال عنهم  لعنة الله عليهم وعلى الليبراليين الزنادقة لأنهم أعداء الإسلام ومن ثم يجب أن نتنبه إلى هذا، فهؤلاء مسلمون وإن أخطأوا، فالمسلم العلماني يُصلي ويصوم ويحج البيت لكنك تختلف معه في آراء مُعيَّنة، هذه مسألة تُحَل بالنقاش العلمي والفكري والفلسفي، ولاتظنن أن كل فكرك الإسلامي صحيح مائة في المائة ومُبرَّر ومُبرّهَن، هذا غير صحيح حيث يُوجَد في نقاط ضعف كثيرة جداً في هذا الفكر.

وأنا أقول لكم أن أسهل شيئ هو أن يتظاهر كلٌ منا بأنه مُمتلِك الحقيقة وحائز الحقيقة، وأصعب شيئ هو أن يُبرّهِن هذا لدى المُناظَرة، مُناظَرة حقيقية وليس مسرحيات تلفازية، كما يحدث في المحاكم – Gerichten  – حيث أن كل إنسان مظلوم صاحب حق مُتأكِّد أن القاضي سينصفه ولكن القاضي يسمع هذه الوجهة وهذه الوجهة وهذا العذر وهذا العذر، ودائماً تقريباً مُعظم مَن يدخل ويرتاد المحاكم يخرج خائب الظن ويتهم القضاء ويتهم القاضي طبعاً، لأن من السهل أن ترى نفسك مظلوماً، ولكن عند المُحاكَمة – مُحاكَمة الآراء والأدلة والبيّنات والقرائن – يختلف الأمر، وكذلكم في هذه المسائل.
فالعلماني عدونا والليبرالي عدونا، وطبعاً مسلم تمركَّس – صار ماركسياً – هو يشهد على نفسه بالإلحاد والكفر ومن ثم فهو عدو إذن وينبغي أن يُعادى، وهذا غير صحيح ، فيجي أن يُنظَر إليه على أنه إنسان تائه حائر وبالتالي هو يحتاج إلى الرحمة وإلى سعة الصدر وإلى سعة العقل وقوة الحُجة والدليل، فلا يأت أصغر الأبناء وأصغر المُلتزِمين ليضع رأسه برأس فيلسوف كبير يُتقِن ثماني لُغات ووضع سبعين مُؤلَّفاً ويعرف فلسفات كثيرة ويظن نفسه سيقضي عليه بضربة واحدة، هذا عبث، فلابد من احترام المقامات أيضاص واحترام المُناظَرة العلمية، وطبعاً – كما قلت لكم – كل مَن ليس على مذهبنا ومن طائفتنا هو عدو بلا شك، فالشيعة أعداء والسُنة أعداء والزيدية أعداء والإباضية أعداء وكل العالم أعداء، وطبعاً غير المسلمين مفروغ منهم فهم أعداء كفّار ولعنة الله عليهم أجمعين، فنحن نلعنهم ونتبجَّح باللعن ونقول أهلك ودمِّر كأننا في حالة حرب، وطبعاً بلا شك المسلمون مُصابون كثيراً لكن – كما قلت – نُريد أن نلتمس بعض العذر، المسلمون جسدٌ ينزف في كل مكان، فالأراضي التي تُنهَب هى من أراضي المسلمين، الدماء التي تسيل للمسلمين حقيقةً، أكبر عدد من اللاجئين في العالم وحول العالم كما تقول الأمم المُتحدة  من المسلمين، أكثر من سبعين في المائة من اللاجئين في العالم من المسلمين، فبلا شك نحن محروبون ونحن مكروثون ونحن نازفون مُتألِّمون ولكن هذا لا يُبرِّر لنا أن نُعمِّم ثقافة العِداء وثقافة حربية على الكل في كل الأوقات والأحوال، هذا خطأ يرتد أول ما يرتد علينا نحن كجسد إسلامي، وكما قلت هذه هى الحصرية في المعنى الإنساني التي  تدور أول ما تدور أصحابها، ولذلك سترى في النطاق السُني الضيق النطاق الوهابي – مثلاً – أو الأشعري أو أي نطاق آخر أن هؤلاء ينقلبون أعداءً بعضهم لبعض – بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۩ – ويُكفِّر بعضهم بعضاً، علماً بأنني لا أُحِب أن أذكر أسماء ولا أماكن مُحدَّدة، ولكن هذا موجود ومعروف لمَن يُتابِع، ضمن حلقة ضيقة جداً جداً جداً من الإسلام السُني وعلماء كان يراهم الآخرون مُتنطِّعين ومُتعمِّقين ومُتشدِّدين دينياً صرنا نرى مَن ينبذهم من أبناء دائرتهم الدينية الضيقة، وأنا أُسميها دائرة لأنني لا أستطيع أن اُسميها مذهب أو طائفة أو غير ذلك، هى دائرة لأنها شيئ عصي جداً على التوصيف، في نطاقنا السُني مَن ينعتهم وينبذهم بأنهم أبالسة وأصنام ودُعاة لعباد الأصنام ويلعنهم – والله – ويحكم عليهم بالزندقة، وهذا الأمر مُؤلِم جداً، ومثل هذا تماماً نراه أيضاً في الدائرة الشيعية حيث يُوجَد مرجعيات وعلماء يُكفِّر بعضهم بعضاً ويُزنّدِق بعضهم بعضاً، والإنترنت Internet ملآن بهذه الفتاوى المكتوبة بخط يد المرجع الفلاني حتى يتأكد الناس أن هذه حقيقة وأن هذا المرجع الفلاني زنديق يُشكِّك في ثوابت المذهب ويدعو إلى بعض الأشياء التي لا نقبلها فهذا خرج عن المذهب، واستمعنا قبل أيام إلى أحد الزيدية الحوثية وهو يقول “الزيدية لها مباديء”، ثم ذكر إسم علّامة كبير في اليمن وقال أنه ليس زيدياً لأنه خالف في المبدأ الفلاني، فأن تكون زيدياً ينبغي أن تقول بهذه المباديء كلها”، وهكذا في كل طائفة، إذا قلت لها كلها عدا واحداً فأنت ليست زيدياً، ومعنى أنه ليس زيدياً أنه أصبح كافراً، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا، لأن المُهِم هنا وبيت القصيد أن تكون زيدياً، وبيت القصيد هنا أن تكون شيعياً اثنا عشرياً، وبيت القصيد عند آخرين أن تكون مسلم وهابياً أو أشعرياً، هذا هو بيت القصيد وليس الإسلام هو بيت القصيد بأن تكون مُسلِماً، فبيت القصيد ليس هو ما يُحدِّده القرآن  وليس ما يُطمئني عليه قرآني لأعرف كيف أكون مُؤمِناً أو مُسلِماً، لكنوأنا أرى أن المسألة قريبة جداً جداً جداً، فالقرآن يُطمئنا بأسلوب سهل ميسور بفضل الله، وليذهب علماء الشيعة والسُنة والزيدية إلى حيث أحبوا، القرآن واضح جداً جداً جداً، فهذه أركان الإيمان التي إذا أخذت بها وتحقَّقت بها أنا ناجٍ بشهادة ربي كلام ربي، ولا يعنيني تهويل العلماء الذين أصبحوا أصحاب دكاكين، وإلا كيف تُفسِّرون لي أن في السُنة علماء أفذاذاً وعباقرة وهم عقول ضخمة جداً وكذلك الحال في الشيعة وفي الزيدية ولكنهم مُختلِفون، فهذا اثنا عشري وهذا زيدي وهذا إباضي وهذا سُني؟!

كيف هذا؟!

هل المسألة مسألة دليل؟!

لا، ليست مسألة دليل!

هل المسألة مسألة نشأة؟!

نعم، هو نشأ على هذا فوجد نفسه هكذا وظل يُدافِع عن مكانه ويُعمِّق موقعه موقع طائفته، هذا هو فقط.
وإلا لو أرادوا أن يعودوا إلى الدليل  لوجدوا أن الدليل في كتاب الله – والله العظيم – يسع الجميع، وسوفيرى الجميع أنهم مسلمون – بإذن الله تعالى – مُوحِّدون ومن أهل النجاة، ولكن هم لا يُحِبون هذا، فلماذا إذن؟!

لأن الشيعي لا يُحِب أن يكون ناجياً إلا الشيعي، والسُني لا يُحِب أن يكون ناجياً إلا السُني، والإباضي لا يُحِب أن يكون ناجياً إلا الإباضي، والزيدي  لا يُحِب أن يكون ناجياً إلا الزيدي .

فما هذاالضيق؟!

ما هذا التحجير لرحمة الله تبارك وتعالى؟!

ملت الأمة وكلت وتدفع الضريبة وستدفع ضرائب مُتراكِمة ربما لعشرات السنين، ولا أدرى متى ستتعلَّم، لا أدري – والله العظيم – متى سينبغ من علمائنا مَن يقول كلمةً حق قرآنياً لوجه الله تبارك وتعالى؟!

اتركوا الفضول والذيول يا أخي، اتركوا هذا ووحِّدوا هذه الأمة، لكن يُوجَد حصرية وضيق وشماتة بالآخرين ومودة ومحبة لهلاكهم وثبورهم – والعياذ بالله  – وحرصهم على أن يكونوا كفّاراً ملاعين، ولكن علينا أن ننتبه، هل كان رسول الله حريصاً على أن يبقى الكفّار كفّاراً؟!

ووالله رأينا من أهل العلم مَن يُبدي حرصاً شديداً على أن ينسب غيره من أهل العلم إلى الكفر ويُثبِت لك أنه كافر بالكذب عليه وإخفاء ثلاثة أرباع كلامه، والله العظيم شيئ لا يُصدَّق، فهل أنت حريص على أن تُكفِّره؟!

مَن الذي سيربح إذا كفَّرته؟!

فقط إبليس هو الذي سيربح، وعلينا أن ننتبه إلى هذا، فالإسلام لا يربح ، حين يخرج عالم كبير وداعية وحُجة من حُجج الدين ويقول “زنديقاً كافراً” فسوف يربح إبليس وأعداء الدين وأعداء الإسلام، لكن الإسلام لن يربح، وأنا لا أربح وأنت لا تربح ولا أحد فينا يربح، ومع ذلك هم حريصون على هذا.
واستمعوا ألآن إلى قوله تبارك وتعالى لَيْسَ لَكَ – أي يا محمد يا خيرتنا يا صفوتنا –مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩، هذه آية عجيبة ونحن نقرأها كثيراً لكن هل قرأنا تفسيرها وسبب نزولها؟!

ما معنى هذه الآية؟!

واضح أن الله هنا يعتب على رسول الله، فواضح أن الرسول بدر منه شيئ وهذا الشيئ لم يُرض الله، ولذلك قال له لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩، كأنه يقول له هذه ليست قضيتك وهذا الفعل هذا غير مرضي!

روى الإمام أحمد في مُسنَده والبخاري في صحيحه وغيرهما عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول “اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سُهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أُمية”، أي العن هؤلاء أربعتهم، قال “فنزلت الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩”، فلماذا تلعن الناس؟!

هؤلاء كفّار يارب، فلعنهم الرسول لأنهم كفّار ولأنهم قاتلوه وعادوه، لكن الله قال لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩،قال ابن عمر “فتيب عليهم جميعاً”، أي أن هؤلاء كلهم أسلموا، كأن الله يقول للرسول لماذا تلعنهم وأنت لا تعرف عاقبتهم؟!

 ها قد أسلموا جميعاً، فلا ينبغي لعنهم،  قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩،ولذلك لما قيل له بعد “يا رسول الله ادع على المُشرِكين”، أي ادع عليهم باللعنة والطرد والعذاب والسنين ونقص الأموال والأنفس والثمرات، قال “إني لم أُبعَث لعّاناً، إنما بُعِثت رحمةً”، وفي رواية “لم أُبعَث عذاباً، إنما بُعِثت رحمة”، فرفض أن يدعو عليهم بل رغب في أن يدعو الله لهم بالهداية.

قال ابن مسعود “كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه –  شجوه في رأسه – وهو يمسح الدم عن وجهه – يُنحي الدم عن وجهه –  ويقول “رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، فالنبي يحكي قوله ويُمثِّله، وهذا هو معنى الحكاية، أي التمثيل، وهذا دليل جواز التمثيل لمَن يُحارِبون التمثيل، فمن المُمكِن أن نحكي وأن انتبهوا نُمثِّل ما فعل عمر بن عبد العزيز – مثلاً – أو غيره، فالنبي كان يُمثِّل، لذلك قال ابن مسعود “كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول “رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، فالنبي كان يُردِّد هذا ويدعو بالمغفرةِ لهم لأنهم لا يعلمون!

إذن من باب أحرى وأولى أن أدعو لأخي المسلم الليبرالي والعلماني والمُتمرّكِس المسكين الذي لا يفهم رأسه من رجليه، فقد يأخذ الماركسية الاقتصادية – مثلاً – فقط دون أن يأخذ الماركسية  – مثلاً – الميتافيزيقية ويقول لك أنا مُؤمِن، ويُوجَد عندنا ماركسيون كبار في مصر وفي غير مصر يصلون الخمس صلوات ويذهبون إلى الحج مثل خالد مُحي الدين الذي كان يحج وهو مسلم ماركسي، فقد يأخذ أحدهم الماركسية – مثلاً – في ناحية ثورية أو من ناحية اقتصادية، فلماذا نحرص على تكفيره وعلى أن نقول له باستمرار أنت كافر؟!

لن نربح شيئاً، بالعكس علينا أن نُحاوِره، فهو أحرى وأجدر وأولى بأن ندعو له بالرحمة والمغفرة والهداية من الكفّار الذين عادوا الله ورسوله وحاربوه في مواقع عدة، وهذا مُتمرّكِس يُصلي على رسول الله ويقول ” قال الله تعالى في القرآن الكريم “، فهو قريب جداً منا هذا ولذلك يجب أن نُحاوِره، ولكن أحياناً نحن نكع وننكص لعدم وجود اقتدار فكري، كيف شيخ يُحاوِر ماركسي؟!

من أين لهذا الشيخ أن يعرف بمثل هاته الموضوعة؟!
ولأنه لن يقدر على هذا تجده يرجع ويكتفي بالتكفير، وأنا قرأت طبعاً ورأيت – والله العظيم – مَن يُحاوِر بعض هؤلاء الشاردين أو التائهين بطريقة غريبة، وكأن المُحاوَر – علماً بأنه كان علمانياً – أدرك حجم السخافة والعبث والغثائية فقال له: يا أخي سألت بالله هل قرأت كتابي؟!

وهذا رأيته بأم عيني رأيته قبل عقود وكنت صغيراً، فقال الشيخ “لا، لم أقرأه ، وهو عندي وأنا مُستعِد لقرائته”، فالرجل يستنكر كيف يُجادِل في الكتاب الذي لم يقرأه وهذا الشيئ كان واضحاً من النقاش، علماً بأنه لم يكن كتاباً وإنما كان كُتيب، فأنا رأيته أيامها وكان كُتيباً صغيراً يُمكِن أن يُقرأ في جلسة. لكن هذا الرجل لم يقرأه ومع ذلك أتى ليُناقِش الرجل، فما هذا العبث والسفه والغرور التافه بالنفس؟!

هذا غرور تافه، فلا ينبغي أن تسير الأمور هكذا، وعلى كل حال هؤلاء أولى وأحرى  – كما قلت –  بالدعاء لهم، فإخواننا من الزيدية ومن الإمامية ومن الإباضية في عُمان أولى وأحرى برحمتنا، ونحن أيضاً أولى وأحرى بأن يرحمونا ويدعوا لنا ويتمنوا لنا الخير وأن نكون أمةً واحدة، وإلا فأن هذه الحصرية أول ما ترتد سوف ترتد – والله العظيم – علينا نحن كمسلمين، وحتى في الدائرة الواحدة – كما قلت لكم – يُصبِح بعضنا يلعن بعضاً ويُبغِض بعضاً ويُدابِر بعضاً، فكيف هذا؟!

كيف يتم هذا في الدائرة الواحدة؟!

لم يبق شيئ بعد ذلك إلا أن نلعن أنفسنا، حيث يُوجَد روح من الكراهية وروح من الحصرية زروح من الضيق، كضيق في النظر وضيق في العطن وضيق في المنادح –  منادح الرأي والاجتهاد – ولكن ليس هكذا هو الإسلام، فالإسلام أكثر تسامحاً من هذا – والله – بكثير.

وأعود مرة أُخرى لأقول: قد يُطالِبوننا أو قد يُطالِبنا بعض غير المسلمين بالجانب الإنساني ويطلب منا أن نُبرهِن وأن نُدلِّل عليه، فيقول: أين هذا الجانب الإنساني في دينكم؟!

أين النصوص التي تدل على هذا الجانب الإنساني؟!

موجودة وهى كثيرةٌ جداً!

مما يلفت النظر أن الله – تبارك وتعالى – حين يحث على ويُوصي برحمة الأيتام والمساكين – مثلاً – ويحض على إطعامهم أنه يتكلَّم بصيغة العموم، فلا يُخصِّص ولا يُقيِّد هؤلاء الأيتام والمساكين بكونهم من المسلمين، كلا لأن من الواضح جداً أنه يتكلَّم عن الأيتام والمساكين بعامة ومُطلَقاً، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، بدليل أن الله – تبارك وتعالى – ينعى على الكفّار أنهم لم يكونوا يحضون على طعام المسكين وهم كفّار، فلم يفعلوا هذا مع مسكينهم الكافر، وذلك لأن الرحمة الحقيقية لا تُجامِع الكفر، والقسوة البليدة لا تُجامِع الإيمان، لا يُمكِن أن تكون مُؤمِناً صادقاً وتكون عبداً قاسياً ويكون قلبك من جلمود أو من صخر فلا تشعر بالآخرين، لا يُمكِن فهذا صعب جداً، علماً بأننا ذكرنا هذا في الخُطبة التي تتعلَّق بأنسنة الدين، قال الله أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ – فأول صفات وخصال المُكذِّب بالدين والعياذ بالله أنه  يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩، وذلك على عكس المُؤمِن تماماً، ولذلك نحن نحمل الأحاديث الواردة في كفالة الأيتام ورحمة المساكين على عمومها وإطلاقها، والنبي أيضاً أشار إلى هذا حين قال مَن ضم يتيماً بين مُسلِمَينَ أو مُسلِمين فله كذا وكذا، إذن قد يُوجَد يتيم غير مسلم، فعليك أن تضمه إليك لأنك مسلم وهذه هى أخلاقك وهذه هى رحمتك، فافعل هذا إذن!

هل الوصاة بالعبيد وبالخدم وبالإماء كانت وصاة خاصة بالعبيد وبالإماء من المسلمين والمسلمات فقط؟!

كلا، كانت بالموالي والإماء على الإطلاق وفي العموم أو على العموم وفي الإطلاق بغض النظر عن أي شيئ.

في كم موضع قيَّد الله – تبارك وتعالى – الرقبة بكونها مُؤمِنة في القرآن الكريم؟!

في عدا أو ما عدا ذلك دائماً تأتي مُطلَقة غير مُقيَّدة وتُحمَل على إطلاقها، فيقول رقبة، أي رقبة مسلمةً كانت أم غير مسلمة، والنبي يقول في الحديث الصحيح في صحيح البخاري وغيره “مَن أعتق رقبة  – أياً كانت مسلمة أم غير مسلمة – أعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً  – أي مِمَن أعتقها – من نار جهنم.

إذن أي رقبة، وهكذا كان يفعل المسلمون ولا يسألون عن هذا المولى أو هذه الأمة أهو مسلم أو غير مسلم، هو عبد مسكين ومن ثم فهو جدير بالحرية وبالتالي يدفعون من أموالهم ويُحرِّرونه من باب الإنسانية الحقة والرحمة في الإسلام، فهذا الدين – كما قلت لكم – حثَّ على رحمة البهائم والعجماوات، ولا يكاد يكون شرعٌ آخر حفيل بالنصوص أو يحظى بمثل هذا العدد من النصوص التي تحث على رحمة البهائم والعجماوات كالإسلام!

رأى أبو هريرة مرةً رجلاً يركب على دابة وعبده يعدو خلفه – يجري المسكين – فقال له “يا عبد الله، يا عبد الله قف”، فوقف الرجل وسأل أبا هريرة ماذا يُريد، فقال له ” أردِفه معك – أركِبه معك – فإنما هو أخوك وروحه مثل روحك”، كأنه يقول له هذا إنسان ونسمة مثلك، أين الرحمة؟!

 أبو هريرة كان قدَّيس طبعاً هنا لأنه لم يسأل ما دينه، لم يقل “يا عبد الله عفواً، ما دينه هذا العبد؟”، لم يقل “لو كان هذا العبد غير مسلم اتركه وأتعبه”، لم يسأل لأن المسلم لا يسأل في هذا، فهذا الرجل في نهاية المطاف هو إنسان، لذلك قال له أبو هريرة “روحه مثل روحك”، فضلاَ عن أن هناك أخوة في الإنسانية ولذلك قال له ” إنما هو أخوك “، فهو أخوه في الإنسانية وليس في الدين.

وأُذكِّركم بالحديث الصحيح الذي خرَّجه أحمد في المُسنّد وأبو داود والنسائي في الكُبرى والبيهقي في شُعب الإيمان من حديث زيد بن أرقم مرفوعاً حيث قال “سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في دبر صلاته –  وفي رواية في دبر كل صلاة – اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أشهدُ أنك أنت اللهُ لا إله إلا أنت رب كل شيئ،  اللهم ربنا ورب كل شيئ أشهدُ أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيئ أشهدُ أن العباد كلهم إخوة”، ومن ثم علينا أن ننتبه الآن فالرسول يقول “أن العباد كلهم إخوة”، وطبعاً هم أخوة في الإنسانية، فكيف لا يكونون إخوة وهم أبناء آدم وحواء؟!

ولذلك المُتأمِّل في فقه القرآن وفقه السُنة لا يجدُ موضعاً واحداً يُفهَم منه أن الكفر بذاته والمُبارءة والمُخالَفة في الدين تطمس أو تُعفّي على الحقوق الواجبة بعنواناتٍ أُخرى غير ملية، فمثلاً الأبوان قد يكونان كافرين أو مُشرِكين – غير مُسلِمَينَ – فهل يُذهِب هذا بحقوقهما الأبوية، أي بحقوق الوالدية؟!

كلا، قال الله وَإِنْ جَاهَدَاكَ – لم يقتصر الأمر على كونهما من المُشرِكين بل بالعكس هما  يبذلان الجهد كله في حملك على أن تسلك طريقتهم الشركية –  عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا – في نفس الآية، وهذا شيئ غريب -فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ  ۩، فكونهما من المُشرِكين لا يُضيِّع ولا يُذهِب بحقوقهما، أي بحقوق الوالدية، فهذا أبوك وهذه أمك  وبالتالي كيف تُعاديهما؟!

وكذلك الحال مع القريب الكافر، فلو أسلم رجل نمساوي كان مسيحياً – مثلاً – والآن أبوه أو أمه أو قريبه أو عمته أو خالته وإلى آخره غير مُسلِم فهذا لا يذهب بحق القرابة لأن له حق صلة القرابة،ولو لم يكن قريباً لي وكان جاراً كافراً مُلحِداً بلا دين  فله حق الجوار بإجماع الفقهاء، وكان جبريل يُوصي به وأوصى به كثيراً، فهو يُوصي بالجار على إطلاقه، مسلماً كان أم غير مسلم، قريباً كان أم بعيداً، ولكن تزداد الحقوق أو تتقلص بحسب العنوانات، فهذا جارٌ له ثلاثة حقوق “حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار”، وهذا قريبي المسلم وجاري فله حقان، وهناك مَن له حقٌ واحد وهو حق الجوار.

قد يقول لي أحدكم: هل يُوجَد عنوان آخر أوسع من كل هذه العنوانات؟!

نعم، أن يكون هذا الكافر من جُملة الناس، من بني آدم وعباد الله وبالتالي له حق أُخوة الإنسانية، فهذا أخي في الإنسانية ولابد أن أرحمه.

يجب أن نرحم هؤلاء ونُعطيهم صدقة ونُعطيهم ما يأكلون، فنرحمهم في مثل مُصيبتهم كما يرحموننا هم، فعلينا أن نخجل من أنفسنا أن يكون فينا  – طبعاً كما قلت هم ثُلة من المسلمين فنسأل الله ألا تكون كثيرة  – حتى مَن يطرح هذا السؤال، لا يجب أن يُقال: هل ينبغي أن نتعاطف معهم؟!

كيف تسأل مثل هذا السؤال؟!

هذه القضية – كما قلت – فطرية، أنت تجد نفسك أو تجدك مُتعاطِفاً تلقائياً، وأعتقد أننا جميعا – إن شاء الله – بكينا لما رأينا في هايتي Haiti، أنا بكيت أكثر من مرة والله العظيم، هذا شيئ مُبكي يا أخي، فكيف لا تبكي من هذه الكوارث الإنسانية الحقيقية؟!

ونحن نبكي لحوادث السير التي نراها في الطريق هنا ونقول “سبحان الله، هذا المسكين تُوفيَ في حادث مُروِّع جداً، والآن تنتظره ابنته أو زوجته لكنه لن يعود لهما الليلة ولن يسهر معهما” ونبكي، تُداخِلنا رقة إنسانية، ونطمئن على الإنسان فينا “ما زلنا بشراً الحمد لله”، نبكي على مَن لا نعرف ونقول “نحن بخير بفضل الله”.

ولذلك – كما قلت لكم – لدى المُفاضَلة بين محمد والمسيح ، بين الرحمة والمحبة نحن تعاطفنا وانحازنا إلى الرحمة، لأن الرحمة أوسع، وبالتالي المحبة من مشمولات الرحمة، فأنت لا تُحِب إلا مَن تُحِب وكفى، لكنك بالهدي الديني الرباني وبالشرع الإلهي ترحم مَن تُحِب ومُن تُبغِض، ترحم مَن تعرف ومَن لا تعرف، ترحم مَن يعقل ومَن لا يعقل، ترحم خلق الله وقدوتك الذي ما أرسله الله إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، فالنبي كانت تُداخِله الرقة والرحمة على طير أو على حُمّرة فجعها بعض الصحابة بأخذ فرخيها، كانت تُداخِله الرقة على جمل جاء يشكو إليه، أي أنه الرقة كانت تُداخِله على هذه الحيوانات البسيطة، وهو الذي أخبرنا أن الله – تبارك وتعالى – غفر لرجلٍ وأدخله الجنة لأنه سقى كلباً، في الحديث الذي أخرجه مالك والبخاري ومسلم من حديث ابن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال: بين رجل – أو بينما رجل – يمشى بأرضٍ فلاة إذا بلغ به العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال “لقد بلغ منه أو هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني”، فعاد فنزل في البئر وملأ خُفه بالماء ثم حمله بفيه وخرج – تعب قليلاً لمدة ثلاث دقائق أو أربع دقائق – فغفر الله له فأدخله الجنة.

والصحابة كانوا لا يعرفون هذا، فهذا بالنسبة لهم مُجرَّد حيوان يُقال له اخسأ، فهو كلب يُخسَّأ ولا يُرحَم في منظورهم ربما الجاهلي، لأنهم كانوا كذلك في الجاهلية، لكن الرسول المُعلِّم الأكبر علَّمهم عكس هذا، فقالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟!

قال “في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ”، أي أن كل ما فيه حياة وفيه نفس يتردَد يُوجَد فيه أجر، إذن من باب أولى يُوجَد أجر في الإنسان، وإلا كيف لا يُوجَد أجر؟!

وانظروا الآن إلى تاريخ الإسلام، فمُعظم الذين دخلوا في الإسلام – والله العظيم – لم يدخلوه بالسيف، وإنما دخلوه برحمة المسلمين وأخلاقهم العالية التي صرنا نفتقر إليها أو إلى الكثير منها اليوم، فكما قلت لكم نحن عندنا ثقافة عدائية وثقافة حربية، ونحن معذورون في جُزء منها حقيقةً لأننا محروبون ومكروثون ومظلومون ومُتكاثَر علينا، ولكن ينبغي أن نُفرِّق، فلا يجوز أن نأتي إلى بضعة نصوص تُشرِّع للمُعامَلة مع الحربي ونجعلها تُشرِّع للإنسانية كلها ونقول أن القرآن يقول هذا والنبي قال هذا، هذا غير صحيح، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا لأن هذه ثقافة حربية لا ينبغي أن تكون إلا في حالة الحرب، فلابد أن نجعلها دائماً في حالة الحرب.

كم كنت أود – كما يود كل عقلاء المسلمين  والله العظيم – أننا جاهدنا أعداءنا أياً كانوا؟!
هذا الذي لا أزال أقوله إن شاء الله، يجب أن نُجاهِد أعداءنا، فكل مَن يغلبنا على أرضنا وعلى أوطاننا وعلى بلادنا ويطردنا من أراضينا لابد أن نُجاهِده، ولا نستطيع أن نتنازل عن هذا، وليتنازل عنه مُنظَمة مُؤتمَر العالم الإسلامي وكل هذا الكلام الفارغ لكننا لن نتنازل، فهذا قرآن وهذا دين وهذا شرع وهذه إنسانية وهذه حرية وهذه كرامة ومجادة وشهامة، وكل البشر يقولون بهذا، فلسنا كمسلمين فقط مَن نقول بهذا بل كل البشر يقولون ويُطالِبون بتحريرهم، لكن أود دائماً أن يكون هذا الجهاد في حدوده وبضوابطه الشرعية، فلا يُقتَل أبرياء ولا مدنيون ولا نساء ولا شيوخ ولا يُفجَّر Underground في أناس أكثرهم كان مُتعاطِفاً معنا، لأن هذا إرهاب وهذا إجرام وهذه حماقة وهذه وحشية وهذه قسوة الدين يبرأ منها تماماً مُبتدأً ومُنتهىً والله العظيم، فمَن أحب أن يُجاهِد ليُجاهِد الأعداء وليُجاهِد الجنود وليُجاهِد الذين يقفون هناك في أرضك ويطردونك ويقفون مكانك، جاهد أولئك وليعتب علينا بعد ذلك العالم كله وليُسمنا بالإرهابين المُجرِمين لأن هذا لا يعنينا، فلسنا نخزى ولسنا نذل، وبعد ذلك حين ننتصر بإذن الله – ونحن مُنتصِرون إن شاء الله طال الزمان أم قصر- سيُصفِّق لنا العالم على أننا أحرار كبار، فكل المُحرِّرون العظام ورجال التحرير اتُهِموا من المُستعمِرين ومن الظلمة والمُستكبِرين بأنهم إرهابيون، فمانديلا Mandela – مثلاً – قضى ربع قرن من حياته على أنه إرهابي كبير ليس له إلا السجن، والآن هو زعيم ورمز عالمي، أصبح رمزاً إنسانياً عظيماً جداً جداً جداً، فالأيام دول ولا شيئ يبقى على حاله، ولكن على المسلم أن يعتصم بثوابت شرعه وبفقهه السليم ولا يخلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح بإسم الدين، فهذه عاطفيات خرجت عن حدودها الشرعية المشروعية.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الإخوة:

روى الإمام أبو عبد الله الحاكم في مُستدرَكه – الحديث إسناده صحيح وصحَّحه مِن المُتأخِّرين العلّامة الألباني – عن مُعاوية بن قُرة  – رضيَ الله تعالى عنهما – عن أبيه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم “يا رسول إني لأرحم الشاةَ أن أذبحها”، أي حين آتي لأذبح شاةَ في أُضحية أو في هدي أو لمأكلة أرحمها فأكف عنها، فرضيَ الله عن هذا الرجل السائل الذي لا يُعرَف مَن هو ولكنه كان إنساناً عظيماً، وصدِّقوني لولا مكانة هذا الحديث وأمثاله لأفتى بعض المُتنطِّعين وبعض الحروفيين من طلّاب العلم في هذا العصر بعكسه ولقالوا “هذا اعتراضٌ يشي بشيئ من زندقة وتحلّل، فكيف ترحم ما أذِن الله لك بأكله وذبحه؟ هل أنت أرحم من الله؟ الله أذِن لك أن تذبح، فكيف تأتي أنت وتقول أنك ترحمها؟ هذا يدل على أن فيك زندقة لأنك تستدرك على الله”، وهذا منطق عجيب وغريب جداً، فهؤلاء لا يفهمون حين يجتهدون وحين يعطون الفتوى وحين يفوهون أن هناك مُستويات للتعاطي، ولم يقل أحد من قبل أن ذبح الحيوانات ولو لمأكلة شيئ مُستحَب وعظيم في الدين، هو مُستحَب في أشياء مُعيَّنة، وحتى في هذه الأشياء المُعيَّنة كالأُضحية والهدي ينطبق نفس الشيئ، فلو رحمتها وذبحتها وأنت ترحمها سوف تُؤجَر أجرين بإذن الله تعالى “أجر الهدي والأُضحية، وأجر الرحمة”، لكن لا علينا من هذه التعليقات الفلسفية فالمُهِم الآن أن نعرف ما هو جواب رسول الله المُعلِّم الأكبر، قال الرسول “والشاة إن رحمتها رحمك الله”، كأنه يقول له أبشر لأن عندك هذا الشعور، هنيأً لك أو نيالك كما يُقال بالعامية، وهذا هو معنى قوله “والشاة إن رحمتها رحمك الله”، فمن المُمكِن أن تدخل الجنة ليس بالصلاة وليس بالصوم وليس بالجهاد حتى وإنما بسبب شاة كانت أَضحية لكنك قلت أنك ستكف عنها وطلبت من غير ذبحك لأنك لن تستطيع، فالله يقول لك أنه لم يقبل من كل أعمالك إلا هذه لأنها كانت لوجه الله، فهذه هى الإنسانية إذن، وهذا يدل على أن بداخلك إنسان ينمو بالدين وبالركوع والسجود وذكر الله تبارك وتعالى.

من هنا لابد أن ننتبه إلى أن الإنسان المُرتبِط بالله لابد أن يكون – والله العظيم -خشوعاً وأن يكون رطب القلب وأن يكون ليّناً وسمحاً وكريماً ورحيماً، فعلى قدر صحة الإيمان وجوهره تكون فيك هذه المعاني، وعلى قدر زُخرف الإيمان والدين تضمحل هذه المعاني، فترى قسوة شديدة جداً كقسوة الذين الآن يذبحون وربما على غير إسم الله إخوانهم المسلمين، يذبحونهم ذبحاً بالسكاكين وبالسيوف ويتقرَّبون إلى الله بذبحهم وخزقهم وخرقهم بإسم الدين، وهذا شيئ لا يُصدَّق، ثم تجد مَن يقول “الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمكن منهم”، وهذا يُشبِه ما حدَّثناكم به عن المُجرِم مُسرِف بن عقبة الذي قال وهو يلفظ أنفاسه “لا يُوجَد عمل بعد إيماني بالله أنا أرجو لثوابه وأن يقبلني الله بسببه مما فعلت بأهل المدينة”، فهو يُريد أن يقول “نحن دمَّرنا المدينة النبوية وهتكنا أعراضهم وأحرقناهم حرقاً في سبيل أمير المُؤمِنين يزيد رضيَ الله عنه وأرضاه، فمن أجل أن نُكحِّل عيون يزيد ذبحنا الدنيا كلها والحمد لله، فهذا جهاد عظيم وأسأل الله ربنا أن يدخلني الجنة بسببه”، ونسأل الله ألا تعمى أبصارنا كما عميت بصائر كثيرين من عباد الله.

 29/01/2010

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • السلام عليكم يا سيدي ومعلمي وشيخي ووالدي الدكتور عدنان ،
    اسأل الله تعالى في هذه الساعة المباركة ، ان يعطيك حتى ترضى ،
    وان يجعل مقامك مع الأنبياء والشهداء والصديقين .
    خطبة راءعة فوق مفهوم الروعة ، مااحوجنا الى هذه الرحمة في نفوسنا وقلوبنا …………
    الله يفتح عليك يا والدي الغالي ،وينور دربك، ويسعد قلبك ،ويحقق مرادك
    نحن نتمنى زيارتكم لنا في المانيا ان شاء الله

    ابنتكم ام ريان

%d مدونون معجبون بهذه: