بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

في البداية أُعرِب عن شكري لجمعية إرادة والقائمين عليها وفي رأسهم أخي الفاضل أبو آدم – رفيق بوعزيز – وجميع إخوانه، ثم أُرحِّب بضيفنا الكبير البروفيسور Professor المُفكِّر الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي، الذي أعتقد أنكم قد أخذتم عنه فكرة مبدئية بعد هذا التجوال والتطواف المُثير واللافت الذي يشهد بنبوغه وموسوعيته وسعة دائرته بالتعبير التقليدي، وأيضاً بأخينا الأستاذ الناشط والمُناضِل فرج بالحاج عمر حفظه الله. سعادة السفير، أخونا ومُمثِّلنا في البرلمان النمساوي أبو ياسين – عمر الراوي -، جميع الإخوة المسؤولون مع حفظ الألقاب والرُتب، الأخوات السيدات، الإخوة والسادة جميعاً: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

وفي البداية أرجو ألا أخذلكم في مُحاضَرتي المُتواضِعة التي لم أتهيأ لها في الحقيقة لأنني كنت إلى وقت قريب أود أن أتنصَّل لحالة مرضية لكن أبو آدم لم يسمح لي، وأكثر من هذا بعد مُحاضَرة البروفيسور Professor المرزوقي، والأرجح أنني سأفعل، أي سأخذلكم، على كل حال سأبدأ بمُلاحَظات تمهيدية عامة سريعة.

هناك مُلاحَظة أوحى إلىّ بها كلام أخي أبي آدم وهي أننا التحقنا بقطار الثورات، نحن لم نبدأ الثورات، لنكن صادقين وشفّافين، الإسلاميون لم يبدأوا الثورات، التحقوا بالقطار سريعاً بعد أيام يسيرة بفضل الله، سريعاً! ولم يُناوِروا طويلاً، والديمقراطية أوصلتهم إلى السُلطة، بمعنى أنهم لم يجدوا أنفسهم في السُلطة ثم تبرّعاً من لدُنهم قالوا سننزل على شروط اللُعبة الديمقراطية، هذا لم يحصل، هم بالديمقراطية وصلوا إلى سُدة السُلطة، هذا – إخواني وأخواتي – يضعهم مُباشَرةً إزاء مسئولية كُبرى، وهي مسئولية المُشارَكة، لأن ما حدث يُوحي بأننا قد نكون للأسف ضحية بمعنى ما للديمقراطية الشعبوية، التي تتوسَّل فقط صناديق الاقتراع، نحن فزنا وكان لنا الظفر بفارق واحد في المائة أو اثنين في المائة، إذن هذه شروط اللُعبة الديمقراطية، هذا غير صحيح! في حالتنا بالذات – في حالة ما بعد الثورة أو غب الثورة – هذا لا يصدق إلا بمعنى محدود جداً إخواني وأخواتي، في هذه الحالة كان يجب وبالذات أن نغتنم وأن نفترص – إن جاز التعبير – المرحلة الانتقالية لكي نَرسُم أو نُرسِّم معالم عقد اجتماعي حقيقي، هذا العقد كان يُمكِن – وهو مُرشَّح بلا شك – أن يُجنِّبنا ويُجنِّب أوطاننا وبلادنا ما دعاه من قبل أمثال جون ستيوارت ميل John Stuart Mill في مقالته في الحرية المشهورة والمُترجَمة أكثر من ترجمة بديكتاتورية الأغلبية، لكننا لم نفعل هذا بشكل جيد، لماذا؟ في ظني – هذا تصوري المُتواضِع وقد أكون مُخطئاً بلا شك – نحن كإسلاميين ورثنا ولا نزال نحمل أوهاق وأبهاظ ماضٍ ثقيل جداً، الإسلاميون من أكثر الناس الذين عانوا من المنافي، من السجون، من التعذيب، من الاضطهاد، من الإقصاء، من تشويه السُمعة، وإلى آخر ما تعلمون من هذه القائمة السوداء القاتمة الكئيبة، أعتقد أننا لا زال ننطوي على مخاوف – وقد تكون مُبرَّرة – شديدة من أن نحصل في صراع آخر جديد مع سُلطة، مع سُلطة ما! لذلك أقبلنا مُباشَرةً على الظفر بالسُلطة إن جاز التعبير، أقبلنا على الظفر بالسُلطة عبر هذه الديمقراطية الشعبوية، والتي أمدها بلا شك قدرتنا كإسلاميين التنظيمية العالية وإمكاناتنا على الحشد والتجييش.

بعض الناس ومنهم الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل يُلاحِظ باستغراب أن الشباب هم الذين فجَّروا الثورة، هم الذين قدحوا وأوروا زناد الثورة، قال قدحوا زنادها وأوروا نيرانها، كانوا هم المشهد في البداية، هذا صحيح لكن الآن تقريباً لا تمثيل لهم في حكومات ما بعد الثورة، تقريباً غاب هؤلاء الشباب، الأستاذ الكبير يرى في هذا إجحافاً لا يُمكِن إنكاره، ثم يقترح السبب – والسبب حقيقي وموضوعي – وهو أن هؤلاء الشباب الأماجد البواسل لم يكن لديهم أُطر تنظيمية وحزبية تجمعهم وبالتالي تُمكِّنهم من تجييش وتعبئة الشارع، كانوا يفتقرون إلى هذا، في حين أن الذين أتوا مُتأخِّرين بأيام لديهم هذه الإمكانية وقد فعلوا، لكن السؤال هل كان الشباب وهل كانت هذه الأُطر التنظيمية والحزبية تمتلك الرؤية – Vision – الحقيقية لإدارة المُستقبَل؟ إن كان للمُستقبَل فنجان مَن الذي يقرأه؟ مَن هو قارئ هذا الفنجان؟

مِن الواضح أننا لا نتوفَّر على مثل هذه الرؤية التفصيلية الدقيقة أبداً، هنا يُمكِن أيضاً أن نُجابه وأن نُجابِه خطر التجريبية السياسية، ما يُعرَف في علم السياسة بالتجريبية السياسية! وهو موضوع خطير جداً ويجب أن نُحاذِر منه أكثر من مرة، التجريبية السياسية بمعنى أن الواقع وأن الظروف وأن الشروط والمُعطيات هي التي تُملي علينا كيفية التصرف، وهذا خطر جداً، وخاصة في حكومات ما بعد الثورة، لماذا؟ عموماً – ويعلم هذا كل مَن درس فلسفة الثورة وما يتعلَّق بالثورات في التاريخ الإنساني – توقعات الشعوب تكون عالية جداً بعد الثورات، الثورة لا يزال مدها يستمر تحت تأثير القصور الذاتي Inertia، بمعنى ما إلى الآن الثورة موجودة، إلى الآن الثورة موجودة بالقصور الذاتي، الروح العنفوانية التمردية تكون حاضرة وواثقة بمعنى أن هؤلاء الثائرين يقولون نحن حطَّمنا الصنم، حطَّمنا الطاغية، مَن أنتم؟ أنتم لا شيئ، نستطيع أن نُحطِّمكم وبسرعة، ومن هنا يستغرب بعضكم أن يُقال في مصر – مثلاً – لزُهاء سبع حكومات – وهذا ما استغربه الأستاذ هيكل – ارحل ارحل ارحل ارحل… سبع مرات في سنتين فقط، هذا أفضى بنا إلى حالة عبثية أيضاً وحالة عدمية، لكنها روح الثورة التي تتحرَّك بالقصور الذاتي، توقعات الناس عالية، الثورة لا تزال مُمتَدة بمعنى ما، وخبرة الإسلاميين في السياسة تقريباً صفرية، هم لم يُمارِسوا السياسة، لم يُسمَح لهم، هذا ليس ذنبهم.

مِن قديم لاحظ أكثر من دارس أن الإمام أبا يوسف القاضي – رحمة الله تعالى عليه – التَلميذ النجيب لأبي حنيفة – رضوان الله تعالى عليه – من بين علماء عصره استطاع أن يُطوِّر منظوراً إلى حدٍ ما يتميَّز بالواقعية في التعاطي مع مسائل الإدارة، إدارة الشأن العام السياسي والاقتصادي، هل تعرفون لماذا؟ لا لنبوغ خاص – أي لنبوغ تفرّد به هذا الإمام الجليل وهو نابغة – وإنما لأن السُلطة السياسية أعطته فُرصة لذلك، لذلك من المُسعِد ومن المُفرِح جداً أن نرى فيلسوفاً كبيراً مثل الفيلسوف المرزوقي الآن – مثلاً – يشغل خُطة مُستشار لدى الرئيس، هذا مُمتاز! هذه خُطة مُبشِّرة تماماً، وواضح أن فيلسوفاً بهذا الحجم يمتلك رؤية.

في علم السياسة يُقال النظرية بلا تطبيق وبلا اختبار عملي فارغة والمُمارَسة بلا نظرية عمياء، Theory without practice is empty and practice without theory is blind، هكذا! هذا ربما استلهمه أينشتاين Einstein حين قال العلم بلا دين  أعرج Lame والدين بلا علم أعمى Blind، وأقول بين قوسين (أعتقد أن العكس هو الصحيح، العلم بلا دين أعمى)، الرؤية في جوهرها تبقى دينية، الرؤية الكونية – Weltanschauung – تبقى دينية في النهاية، لكن هذا رأي أينشتاين Einstein.

على كل حال التجريبية، خطر التجريبية! أن نتحرَّك بلا رؤية مُتكامِلة وواضحة، لا نتوفَّر على هذه الرؤية، لهذه الاعتبارات ولغيرها – لكن لا أُريد أن أُطوِّل عليكم فالوقت قصير ومحدودي جداً – رأيي الشخصي والمُتواضِع – أيضاً الذي قد أكون مُتوهِّماً أو واهماً فيه أو مُلتبِساً مُشتبِهاً – كان من الأفضل لو أن الإسلاميين انتظروا، لو أنهم أسندوا هذا الدور في هذه المرحلة على الأقل – غب الثورة – إلى غيرهم، وتقدَّموا بعد أربع وبعد ثماني سنين، أي بعد دورتين! كان سيكون أفضل، لكن مخاوفهم هي التي حرَّكتهم، الإسلاميون يتحرَّكون تحت تأثير المخاوف، أكثر من هذا هم أيضاً يتصرَّفون ويُعرِبون عن ردود أفعال واضح أنها أيضاً تأتي تحت تأثير مخاوف مُعيَّنة، أي تصرفات ليست عقلانية تماماً، ليست مدروسة من جميع جهاتها، تصرفات نفسية، لها بواعث سيكولوجية، حتى نتفهَّم وضعهم، وهم في نهاية البشر، ليسوا أكثر من بشر!

الظن بل اليقين – إخواني وأخواتي – أنهم بالمُمارَسة سيتوفَّرون بعد ذلك على خبرة دقيقة وعلى خبرة عميقة، سيُطوِّرون من خطاباتهم، سيكتشفون مواطن الإصابات الثقافية، الفكرية، والسياسية لديهم بكل شفّافية، سيُواجِهون هذا وبلا شك سيتحسَّنون، لذلك نقول بكل تواضع – ليس لأننا من هذا القبيل، ليس لأننا من غزية، وإنما نقول إشفاقاً على أوطاننا ومحبةً لها ولأهاليها – علينا أن نُعطيهم فُرصة، يا ليت مثل هذا الخطاب ومثل هذه الوصاة الأمينة الناصحة يصدر عنها الجميع، جميع الأطراف! علينا أن نُعطيهم فُرصة، علينا أن نتخفَّف أيضاً من هذه الحُميّا، حُميّا وضع العصي كما يُقال في الدواليب للتجربة الإسلامية وللإسلاميين، هذا في نهاية المطاف لن يخدم البلد، لن يخدم الأوطان.

من ناحية ثانية أيضاً أوحى إلىّ كلام أخي المُناضِل عمر – بارك الله فيه – حين تحدَّث عن خصوصية التجربة التونسية، وهي تجربة قصيرة جداً الآن، تجربة الثورة سنتان فقط، لها خصوصية، أخونا عمر الراوي قال لفتت الغربيين، وأشادوا بها وأثنوا عليها، ذكروها فشكروها وقدروها، هل تعرفون لماذا؟ لعامل واقعي موضوعي، هذا العامل الواقعي الموضوعي أيضاً أعتقد أننا لم نُقدِّره حق قدره حين لم نقم بخُطوة الميز المطلوب بين الدولة وبين النظام، بين الدولة وبين الحكومة، للأسف في المخيال العام – عند عوام العرب، عند الإنسان العربي العادي – الدولة هي الحكومة والحكومة هي الدولة، وهذا أورثنا كوارث، من أجل إسقاط حكومة في العراق ضاعت الدولة، انتبهوا! هذا ما حدث، الآن – مثلاً – لِمَ أصر الناس في مصر وفي تونس على أن تأتي حكومة ما بعد الثورة بدستور جديد؟ الدستور عموماً ينتمي إلى الدولة ولا ينتمي الحكومة، بدليل أنه قد تتعاقب عليه خمس حكومات أو عشر حكومات أو عشرون حكومة والدستور دستور، صحيح يناله شيئٌ من التعديل بين الفينة والأُخرى من حقبةٍ إلى أُخرى – لا بأس، هذا حدث في العالم ومع أعظم الدساتير – لكن لماذا كان شبه إجماع على أنه لابد من دستور جديد؟ لأننا لم نتفطَّن إلى ضرورة الميز بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة أو مفهوم النظام، وقعنا في هذا المطب، وهذا ورطَّنا الآن في مطبة جديدة كما تعلمون، هناك مطبة جديدة! هذا أحدث نوعاً من الشرخ في علاقة الشركاء، ولا زلنا الآن في ورطة الدستور في مصر، لا زلنا! ونحن موعودون أيضاً بعاقبيل ورطة الدستور في مصر، كان يُمكِن استبقاء الدستور وهو ينتمي إلى مقولة الدولة لا إلى مقولة النظام مع إجراء تعديلات، هذه الخُطوة أو هذا الإجراء كان سيُخفِّف كثيراً ويختصر علينا طويلاً كثيراً من الخلافات والنزاعات المُحتمَلة والتي أصبحت للأسف واقعة، خرجت من حد ومن طور الإمكان إلى طور الفعل كما يُقال.

ما حدث في تونس أن التوانسة كانوا نتاج دولة، بلا شك تونس كان فيها دولة وبالمعنى الحديث، تونس فيها صحة وفيها تعليم عالٍ، بالمُناسَبة التعليم في تونس يلفت نظر كل الذين درسوا الحالة التونسية، تعليم عالٍ وعلى أعلى مُستوى، سواء في العلوم التطبيقية أو العلوم البحتة أو العلوم الإنسانية، ورأيتم نموذجاً، أعني البروفيسور Professor المرزوقي، والذي يُطالِع أيضاً الرسائل العلمية التي تُنجَز في الجامعات التونسية وإلى اليوم يُعجَب فعلاً من حجم الجدة والصرامة والروح العلمية الماثلة في هذه الأعمال العلمية، هناك جد علمي حقيقي، لأن كانت هناك دولة، تحدَّثوا حضور المرأة، طبعاً بلا شك من مُكتسَبات الدولة التونسية تمكين المرأة، تمكين المرأة التونسية لم يأت من فراغ، طبعاً كان من ذكاء الإسلاميين وأيضاً من سعة أفقهم المقاصدي أنهم لم يشاءوا أن يشطبوا ولا أن يتجاوزوا ولا أن يتعاكسوا مع مُنجَزات الدولة في هاته المجالات الاجتماعية وغير الاجتماعية، وصادروا عليها بالمُوافَقة، وهذا شيئ جيد ومُمتاز!

إذن هذه المسألة أيضاً أوحى إلىّ بها ما ذكره أخي المُناضِل، أيضاً الشعار – شعار الثورة التونسية وهو خُبز وماء وبن عليّ لأ – مُمتاز، هذا شعار مُمتاز ويُلخِّص شيئاً في مُنتهى الأهمية، هو روح هذه الثورات، وهذا الشيئ يضعنا مرةً أُخرى إزاء مسئولياتنا بشكل مُباشِر، طبعاً خُبز وماء وبن عليّ لأ، خُبز وماء: عدالة اجتماعية، عدالة في توزيع الثروات، أي مُحارَبة للفساد، أي للـ Corruption كما يُقال، هذه مُحارَبة للفساد، للفساد المالي ولكل ذيوله طبعاً، هناك حتى فساد لُغوي، البروفيسور Professor المرزوقي تحدَّث عن لغو أيديولوجي أو لغو عقدي، هذا موجود! وهناك حالة من التضخم في هذا الميدان، لكن أهمه الفساد المالي سواء حكومي أو في مُستوى الشركات إلى غيره، أي الــ Corruption كما يُعرَف هنا، وهو ضرب النزاهة كما يُعرِّفه مُعجَم أكسفورد Oxford، هو ضرب النزاهة في العمل العام، في الوظائف العامة، وهذا أصل الكلمة لاتينياً، Corruptos معناها تدمير، تدمير شيئ وإساءة استعماله، طبعاً هذا يتعلَّق – كما قلنا – بالعدالة الاجتماعية، وبن عليّ لأ: مُحارَبة للاستبداد، إذن ضد الاستبداد وضد الفساد.

إذن نُطالِب بالعدالة الاجتماعية وهي عدالة في توزيع الثروات، ونُطالِب أيضاً بالديمقراطية وهي عدالة في توزيع السُلطات، العربي فهم هذا، الثورة فهمت هذا، هل تعرفون لماذا؟ هذا أيضاً لم يأت من فراغ، لأن سقف الثقافة السياسية في العالم العربي في آخر ربع قرن وربما أزيد كان هو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كان هذا حاضراً وملحوظاً لمَن شاء أن يلحظه.

في المُقابِل لفتنا الغياب التام تقريباً للقضايا التي كانت تتصدَّر سُلم الأولويات وقائمة الأولويات، لم نر الثورة – لا في مصر ولا في تونس ولا في ليبيا ولا في سوريا الآن ولا في أي مكان إلا مرات معدودة جداً جداً والنادر لا حُكم له – ترفع – مثلاً – شعار المُطالَبة بتحرير فلسطين – الأرض العربية – ومُحارَبة الصهيونية، لم تفعل هذا! لماذا؟ تُطالِب بالخُبز وبالماء وبالحُكم الرشيد، هدفها ديمقراطية وعدالة اجتماعية، هي أعادت الارتباط إلى ما هو مُرتبِط بطبعه، السُلطات الغاشمة والحكومات البائدة الفاسدة المُستبِدة طبعاً كانت تقوم على هذا الربط المعيب والربط الكارثي – ليس فقط معيباً بل هو كارثيٌ – بين الاستبداد وبين الفساد، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الربط الكارثي في أكثر من موضع حين ذكر قارون، وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ۩، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۩ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ ۩، ما علاقة قارون؟ قارون هذا رجل كانز، من قديم شيخنا العلّامة الداعية المرحوم محمد الغزّالي – طيَّب الله ذكره وثراه – كان يتحدَّث – انظروا إلى هذا الرجل، له لفتات جميلة جداً، وهذا من واجبه علينا – عن الفرعونية الحاكمة الباطشة والقارونية الكانزة، إنه تحالف السياسة الفاسدة والاقتصاد المُرتشي الفاسد أيضاً أو السياسة المُستبِدة والاقتصاد الفاسد، هذا موجود في كتاب الله تبارك وتعالى، هناك ما هو أكثر من هذا، واليوم استمعنا حديثاً جميلاً جداً – هذا حديث رؤيوي إن جاز التعبير – عن علاقة الإنتاج المادي – الاقتصاد – بالإنتاج الرمزي الروحي – الثقافة والقيم -، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيضاً في لفتات إعجازية يتحدَّث ويقول صنفان من أمتي لم أرهما، لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها، رجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يُلهِبون بها ظهور أمتي – يعني الاستبداد! هذه الفرعونية الباطشة -، ونساء كاسيات عاريات – الواحدة منهن لا هي لابسة ولا هي غير لابسة، في الظاهر أنها لابسة لكن واضح كأنها غير لابسة – مائلات – تميل إحداهن أو تتمايل في مشيتها – مُميلات – لقلوب أصحاب الأبصار الشاهية والطامحة، النبي يقول وإن أبصار الفحول طوامح – رؤوسهن كأسنمة البُخت، ما علاقة هذا بهذا؟ طبعاً هناك علاقة، هذه الظاهرة – التحلل، والذوبان، التهشش القيمي الأخلاقي الروحي – لا تجد مجالها الخصيب إلا في حضور الطُغيان السياسي، في هيمنة الطُغيان والاستبداد السياسي، أيضاً علاقة القيم – الأخلاق – والاجتماع بالاقتصاد واضحة في الحديث الصحيح المُخرَّج في الصحيح، النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه – يتحدَّث عن رجل قال لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوضع صدقته في يد رجل فأصبح الناس يتحدَّثون، تُصُدِّقَ الليلة على سارق، هذا سرّاق! وهذا المسكين تصدَّق على سرّاق، فقال اللهم على سارق، قال لأتصدقن الليلة بصدقة، وتكرَّر الأمر مرتين أُخريين، فتصدَّق في الليلة الثانية على زانية، أصبح الناس يتحدَّثون، تُصُدِّقَ على زانية، لماذا ليس على أرملة أو على مسكينة أو على إنسان مُحترَمة شريفة؟ ثم تصدَّق على غني، وأصبح الناس يتحدَّثون، انظروا إلى النبي، شيئ عجيب! فأُوتيَ في المنام، كأن الله أسنح له طائفاً في منامه – سنح له في منامه – وقيل له أما السارق فلعله يكف عن سرقته، لماذا؟ لأن بعض مَن يسرق – خاصة من السرقات بالمُفرَّق – قد يكف عن سرقته، الحسن البِصري ذات مرة رأى الجنود – جنود الدولة الأموية – يقبضون على رجل مسكين ليقطعوه، فقال سارق السر يقطع سارق العلانية، هم يسرقون في السر ويسرقون بالجُملة، ليس بالقطاعي، يسرقون أموال الأمم، مليارات الأمة! ثم بعد ذلك يُقال نُريد أن نُطبِّق الشريعة، لا! طبِّقها على هؤلاء في الأول، لا نُريد شريعة ينفذ منها هؤلاء ثم يُقطَع أمثالنا من أصحاب الملاليم، وأصحاب الملايير يعيشون ويقضون – أي يموتون – مُمجَّدين مُكرَّمين، لا يُمكِن! على كل حال سارق السر يقطع سارق العلانية، أما السارق فلعله أن يكف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها تنتهي عن زناها، وأما الغني فلعله يتعظ فيتصدَّق، تعاون! النبي أشار إلى هذه المسائل، لكن نعود إلى سؤالنا الحرج والمُحرِج، حسّاس! لماذا لم تحضر فلسطين وهي رأس قضايا العرب القومية؟ هي القضية الأم والحاضرة دائماً عبر ستين سنة، فلماذا لم تحضر في شعارات الثورة العربية؟ لماذا؟

للأسف بعض المُحترَمين – وأنا أُقِر بأنهم أُناس مُحترَمون جداً وقوميون ووطنيون – جنحوا إلى تفسير لي عليه مُلاحَظات وعلى قدرته التفسيرية، يُفسِّر أشياء كما يتوهَّمون لكنه يفشل في تفسير ما يجب تفسيره، جنحوا إلى تفسير هذه الظاهرة بصفقة – صفقة مُغيَّبة مُبيَّتة – بين الإسلاميين الذين تسلَّموا سُدة السُلطة الآن وبين الولايات المُتحِدة الأمريكية، هناك صفقة مُعيَّنة لذلك كان ينبغي تغييب فلسطين وإسرائيل، لا تتحدَّث لا عن فلسطين ولا إسرائيل ولا أرض مُحتَلة، قالوا هذا الذي حدث، نوع من الصفقة، وهذا الحديث يتكرَّر للأسف وعلى ألسنة أُناس بعضهم مُحترَمون جداً!

أعتقد أن هذا التفسير قدرته التحليلية تنكشف بسرعة – أي تنفضح – إذا ما تساءلنا، طبعاً هم اعتمدوا على أن – انتبهوا – الإسلاميين حتى بعد أن مُكِّن لهم أيضاً لم يتحدَّثوا عن القضية، بالعكس! أرسلوا رسائل أكثر من اللازم مُطمئنة لإسرائيل وللولايات المُتحِدة الأمريكية، عيَّنوا سفراءهم في إسرائيل قبل أن يُعيِّنوا سفراءهم في عشرات الدول حول العالم، قالوا أرأيتم؟ هذا البُرهان، واضح أن المسألة فيها صفقة، هذه ليست ثورات بريئة إذن، وهذه ليست أنظمة طاهرة ثورياً، هذه الأنظمة معيبة أيضاً ومُثقَّبة، إلى آخره! لكن هذا الكلام فيه قدر كبير – كما قلنا – من الاعتساف وأيضاً من سوء الظن، سوء الظن عند الله، الله يُحاسِب عليه! لماذا القدرة التفسيرية ضعيفة لهذا يا إخواني؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنه يُمكِن أن يُقال ما حدث أولاً لم يحدث باتفاق، هندسة عواطف الشارع مُستحيلة، لماذا؟ لأن الذين خرجوا وعبَّ بهم عُباب الشارع لم يكونوا هم الإسلاميين وحدهم، بالعكس! الصناديق أثبتت أن الإسلاميين كانوا على الأكثر خمسين في المائة، بالصناديق هذا وهم أقل من ذلك طبعاً، بالصناديق هم خمسون في المائة، لو افترضنا أن الإسلاميين أوعزوا إلى قواعدهم الجماهيرية ألا ترفعوا هذه الشعارات ففعلوا وامتنعوا مَن الذي أوعز إلى الآخرين وهم أطياف كثيرة وألوان شتى؟ هم تلاوين كثيرة، أليس كذلك؟ لم يحدث هذا! ونحن دائماً نقول هندسة عواطف الجماهير مُهِمة مُستحيلة وفاشلة، إذا أردت أن تُهندِس العواطف فاعلم أن هذا مُستحيل، الشعارات تنطلق تلقائياً، كل الشعارات كانت تدور على مُحارَبة الاستبداد ومُحارَبة الفساد، لا يُوجَد حضور للقضية الفلسطينية، وهذا أولاً!

إذن نحن نقترح أن الذي حدث هو إعادة ترتيب أولويات في الوعي الثوري العربي، وهي إعادة جاءت في وقتها وتشي أيضاً بقدر كبير من الوعي الصحيح وليس الوعي الزائف، لماذا؟ هذا الوعي الثائر المُستوفِز – أيها الإخوة والأخوات، السيدات والسادة – أدرك أن قضية فلسطين طال أمد استثمارها واستغلالها لا خدمةً لها ولا في سبيل اقتراح حلول حقيقة مُجدية ذات غناء لها وإنما من أجل تأبيد طواغيت وفراعين وقوارين طبعاً – أُسر من القوارين – في السُلطة باسم فلسطين، لذلك في مُذكَّراته يُعرِب كارتر Carter عن استعجاب لكن يحمل روح الاحتقار والازدراء والابتخاس لزُعماء العرب، قال أنا عجبت لهؤلاء الزعماء، يُكثِرون الحديث والرطانة كثيراً في وسائل إعلامهم عن فلسطين – يتحدَّثون كثيراً عن فلسطين – والموقف الأمريكي، لم يحدث مرة – يقول كارتر Carter – أن جاء أحدٌ منهم وحين خلوت به أو خلا بي حدَّثني في هذه القضية، يكتب هذا هكذا! هؤلاء أكلوا بقضية فلسطين، لا أقول أكلوا الشعير والقمح، أكلوا الشعوب كما قال هوميروس Homer، إنهم أكلة الشعوب، أكلونا! أكلوا كل شيئ، وهذا ما يفعله النظام السوري إلى اليوم، فعله ولا يزال يفعله إلى اليوم وبنجاعة، الشعوب ما عاد ينطلي عليها هذا، وبمُناسَبة ذكر النظام السوري نسأل الله عما قليل وعما قريب أن نحتفل أيضاً في هذا المكان أو في غيره بحرية سوريا وبحرية الشعب السوري، اللهم آمين، وليقف هذا السيل الطافح من الدماء، اللهم آمين.

إذن هذا هو الذي حدث، إعادة ترتيب أولويات، الشباب الثائر أدرك أن وجود أنظمة راشدة وأنظمة صالحة غير فاسدة تخدم برؤية واضحة وتُحقِّق مُنجَزات على الأرض بمعنى أنها تُقوي الأمة وتُقوي الدولة هو الخُطوة الصحيحة والطريق الصحيح في إضعاف العدو، لأن قوة هذا العدو إنما هي بمعنى من المعاني طبعاً – بمعنى وإلا هو عدو قوي، لكن هذا بمعنى من المعاني وجهة من الجهات – انعكاس لضعف النُظم العربية، لضعف العرب كما يُقال! فإذا أصبح العرب أقوياء مُباشَرةً اعتدلت الكفة، اعتدل الميزان! وربما شالت كفة وطاحت كفة بإذن الله، وهذا الصحيح! أنظمة عربية قوية يُمكِن أن تفعل هذا، ونحن رأينا أردوغان، الرجل طبعاً لم يُقدِّم أشياء كثيرة حتى نكون واقعيين لكن الرجل تجرأ على اتخاذ واجتراح مواقف لم يتجرأ عليها زعيم عربي، لماذا؟ لأنه زعيم مُنتخَب وزعيم شرعي حقيقي، هذا ما سيحدث غداً – إن شاء الله – في ظل نُظم ما بعد الثورة.

طبعاً بلا شك أنا أعترف أن عنوان المُحاضَرة يُؤشِّر إلى موضوع ضافي الذيول وكثير الشعوب كما يُقال وهو موضوع كبير جداً جداً، لا يُمكِن الإلمام به، لا تتسع له لا مُحاضَرة ولا حتى سلسلة مُحاضَرات، لكن نكتفي بإيقظات وإلماعات سريعة جداً،  نقول الخطاب الإسلامي، وطبعاً بلا شك أن المقصود هنا بالخطاب ما هو أوسع من السياسي، ليس المقصود الخطاب السياسي وحده، إنما الخطاب الإسلامي بعامة، اليوم في كلام أستاذنا البروفيسور المرزوقي رأينا الإنجاز والإنتاج في الميدان الاقتصادي والذي يخدمه الميدان السياسي، السياسي أيضاً بمعنى ما، كما أشار أبو ياسين ينبغي أن تكون إدارة للاقتصاد، هناك علاقة! أما هذه الليبرالية الحديثة أو النيوليبرالية Neoliberalism فنحن فعلاً نتحفَّظ عليها لأنها أيضاً لن تخدم الشعوب في نهاية المطاف، وتجد جذورها في الرأسمالية المُتوحِّشة مع تاتشر Thatcher ومع ريجان Reagan قبل زُهاء ثلاثين سنة، لا نتعاطف مع هذا الاتجاه، فينبغي أن تبقى السياسة أيضاً مُرتبِطة بالاقتصاد كما رُبِطَت في وعي الثائر العربي، لا نُريد أن نُفكِّك بينهما، لأن هناك حركات إصلاحية وحركات كانت تُطالِب بالتغيير وحركات مُعارَضة للأسف فكَّكت بينهما، بمعنى أن الليبراليين عموماً في العالم العربي كانوا يجنحون إلى المُطالَبة بالحريات السياسية، كانوا يُحارِبون الاستبداد ويسكتون عند العدالة الاجتماعية، اليساريون في العموم وفي الأغلب كانوا يُطالِبون بالعدالة الاجتماعية ويسكتون وأحياناً يتغافلون عن الاستبداد، لا! الآن لابد أن نُعيد الارتباط لما هو مُرتبِط بطبعه.

إذن الخطاب الإسلامي هو شيئ أوسع من أن يكون الخطاب الإسلامي السياسي، لكن حتى في إطار الخطاب الإسلامي السياسي أقترح – تصوّري – أنه لابد أن نُعيد تركيب تصور دقيق وواضح ومُحدَّد قدر الإمكان للدولة، وبالذات لجهة وظفية، في التصور الإسلامي وفي الخطاب الإسلامي الحديث والمُعاصِر ما هي وظائف الدولة؟ يجب أن يكون هذا واضحا في التصور الإسلامي.

طبعاً هذه ستفتح علينا أبواباً كثيرة جداً – كثيرة التركيب والتعقيد – عن علاقة الديني بالمدني، وهذه العلاقة مُلتبِسة ومُشكَّكة، ليست واضحة! هناك ما هو ديني بحت، هناك ما هو مدني بحت، وهناك ما هو مُشترَك بينهما، وهذا المُشترَك بينهما يُمكِن أن يتفرَّع إلى فروع، وخاصة في دول مثل مصر ومثل سوريا بالذات، سوريا أكثر! التجانس في مصر يُحسَد عليه الشعب المصري، التجانس في سوريا شبه مُنعدِم، لذلك هذه دولة بقدرة قادر أصبحت دولة، أعني سوريا!

أقول في هذه الدول – حتى المغرب العربي طبعاً موجود هذا فيه – أكثر من دين، أكثر من طائفة، وأكثر من كذا وكذا، فلابد أن يكون هذا واضحاً في الخطاب الإسلامي، بمعنى آخر أنني أُحبِّذ أن يُرسِل الإسلاميون وبشكل مُباشِر رسائل طمأنة إلى جميع الأطراف، رسائل طمأنة! كيف؟ تبدأ هذه الرسائل بتحديد بدايات مثل هذا التصور، أن تصورنا فعلاً ليس قريباً ولا بأي معنى من مفهوم الدولة الدينية الثيوقراطي أبداً أبداً أبداً، فعلاً دولة مدنية، كل ما هنالك أنها لن تفتئت على الشعب – لا الأغلبي ولا الأقلوي – في خياراته ومُتبنياته، لن تفتئت! لا يُمكِن لأحد أن يأتي ويفتئت على شعب لأنه يدّعي أنه مُفكِّر عظيم جداً ويحمل رؤية إنقاذية للأمة أبداً، وإنما علينا أن نتواضع – أن نكون مُتواضِيعن – وأن ننزل أيضاً على خيارات الشعب.

أيضاً هناك مفهوم الديمقراطية، وطبعاً ليس هناك ديمقراطية واحدة، هناك ديمقراطيات كثيرة جداً، ودائماً حين يُستدعى الحديث عن الديمقراطية يثور السؤال من فوره: Which one?، أي واحدة؟ أي ديمقراطية؟ عن أي ديمقراطية تتحدَّث أنت؟ لابد أن يكون حديثنا واضحاً، أما الحديث أيضاً الالتباسي وهو مُماهاة ومُرادَفة الديمقراطية بالشورى والشورى بالديمقراطية والشورقراطية والديموشورية فغير مقبول، هذا الكلام لعب، هذا لعب بالألفاظ ولعب بالمُصطلَحات، هذا لا يصلح، وهذا لا يبعث على طمأنة أحد، علينا أن نكون جادين، وطبعاً هذا يُوكَل إلى أولي الفكر، إلى أولي النُهى.

للأسف الوقت أصبح يتضيَّق جداً، هناك شيئ يتعلَّق بالخطاب الإسلامي في عمومه، أشعر به وأنا مُتخوِّف منه، وهذا يحدث حالياً حتى أكون واضحاً، يحدث حالياً أننا نشعر كإسلاميين بنوع من الانكشاف، ولا أُحِب أن أقول الافتضاح، نوع من انكشاف تناقضاتنا، ثمة تناقضات حقيقية في خطابنا ثم في سلوكاتنا، في مأتياتنا واضحة، والشعب أيضاً بكل أطيافه يرصدها، فقط الإسلاميون أنفسهم والقواعد في الجُملة تُصادِق على كل شيئ، لكن الآخرون لا يفعلون، الأيقاظ من أبنائنا لا يفعلون، يتساءلون – وهذا من حقهم – ويرفعون اليد للاعتراض، نُقطة نظام! لابد أن يدلوا بوجهة نظرهم، بمعنى – حتى نكون واضحين الآن – الموقف من الغرب وخاصة الغرب الأمريكي، الموقف من العدو الصهيوني، والموقف من الآخر، الآخر داخل الدائرة الوسيعة، دائرة المُواطَنة! وعلى ذكر المُواطَنة هذا من المفاهيم أيضاً التي ينبغي أن يكون لنا فيها تحديد واضح، هل نعترف بأن المُواطَنة لا تُشرَّط ولا تُقيَّد إلا بقيد واحد هو التابعية للوطن وللدولة من ثم فقط بغير النظر عن دين وعن عرق وعن لُغة وعن أي شيئ؟ إذا اعترفنا بهذا فهذه خُطوة مُبارَكة ومُمتازة، طبعاً الإسلاميون ليس عندهم مانع لأن يعترفوا بهذا مبدئياً – انتبهوا – لكن التوالي واللوازم هي التي يحدث فيها وحولها أو يشتجر الخلاف، طبعاً إذا اعترفنا بهذه البداية وانطلقنا من هذه البداية فقد أصبنا العدل في جوهره، لماذا أيها الإخوة؟ لماذا؟ لأن هذا يُحقِّق شرط العدل، شرط العدل – بل هذا جوهر العدل – هو التسوية بين المُتساويين، وقد تساوينا! لماذا؟ لأننا كلنا يتوفَّر على التابعية لهذا الوطن ولهذه الدولة، إذن يجب أن يُسوَّى بيننا، بغض النظر عن أدياننا وعن طوائفنا، انتبهوا! هنا طبعاً تثور مسائل كثيرة، مثل ترشيح غير المُسلِم للرئاسة وعمل غير المُسلِم في القضاء، أمور كثيرة جداً! من حُسن الحظ أن لجماعة بل للفيف من ألمع المُفكِّرين الإسلاميين المُعاصِرين – رحم الله مَن تولى منهم وأمتع بطول بقاء مَن بقيَ منهم – اجتهادات جريئة ومُمتازة في هذا الباب، مُمتازة وأكثر من تنويرية وأكثر من مُنفتِحة، لكن لابد أن يُعاد ويُصار إلى تدعيمها ثم بسطها ومدها، يجب أن نكون واضحين حتى في هذه المسائل، لسنا واضحين إلى الآن، فلابد أن نكون واضحين.

أقول لماذا ينكشف أحياناً تناقضنا؟ لماذا ينكشف تناقضنا؟ غير معقول أننا نستطيع أن نُعبِّئ الشارع وأن نُجيِّش الناس والقواعد مُرتكِزين على أننا نُوالي الشريعة وعلى أننا نخدم الأوطان وقضايا الوطن القومية – بالذات فلسطين – ثم بعد ذلك في أول اختبار يبدو أننا نُعطي ما لم يكن يجسر غيرنا حتى على إعطائه بمثل هذه السهولة، ويبدأ الناس يتساءلون هل أنتم براجماتيون إلى حد الانتهازية؟ هل أنتم دجاجلة؟ هل أنتم طلّاب سُلطة فقط وقد أصبتموها وغنمتموها؟ ما الذي يحدث؟ أنا أقول لكم لا، لست سيئ الظن إلى هذا الحد بنفسي – أي بالإسلاميين – أبداً، ليس الموضوع هكذا! لكن عندي تحليل شخصي قد تُخالِفونني فيه وقد تُوافِقونني وقد يُخالِف بعض ويُوافِق بعض، وهو أن الخطاب الإسلامي مُصاب بداء، داء عياء! أنا أُسميه العومنة، ما العومنة؟ العومنة – ليس العولمة وإنما العومنة – نسبة إلى العوام، الخطاب الإسلامي بشكل عام خطاب شعبوي، خطاب يتوسَّل إرضاء العواطف ويُدغدِغ العواطف الشعبية أو الشعبوية، عواطف الجماهير! وهو في جُملته خطاب مساجدي، خطاب مساجدي دائماً! ويُبديء ويُعيد في نفس الموضوعاته، موضوعاته مُحدَّدة بالمُناسَبة، وكليشيهات هذا الخطب مُحدَّدة، مُتوسَّلاته مُحدَّدة، لذلك أنت لا تجد خيارات واسعة في هذا الخطاب الشعبوي والمساجدي، لذلك بمعنى آخر يُمكِن أن ترى عشرات المشايخ وعشرات العلماء والدُعاة يتورَّطون ويبرز منهم نفس طائفي بغيض في لحظة مُعيَّنة بعد أن كانوا يدعون إلى التوحيد وإلى التجميع وإلى تفويت الفُرص على أعداء الأمة، وفعلاً هذه فُرص للأسف يفترصها العدو، لماذا انقلبت في لحظة إلى طائفي بغيض أنت؟ وهذا لا يخدم الأوطان ولا يخدم الأديان، لا يخدم قضية الإسلام والمُسلِمين ولا قضية الوطن، لماذا؟ ما الذي يحدث؟ فقط لأن العوام تُريد هذا، الجمهور يطلب هذا، هذا ما يطلبه المُستمِعون!

طبعاً هذا أقصر طريق – أنا أقول لكم هذا أقصر طريق – إلى النجاح الشعبوي، لكنه يجر أخيب النتائج، أبخس النتائج، أكرث – أكثرها كارثية – النتائج، أيضاً مفهوم العوام أنا عندي تحفظ عليه، مفهوم العوام! لا يزال الخطاب الإسلامي يتوسَّل أيضاً هذا المفهوم: العوام، العوام والخواص!

العوام إزاء ماذا؟ إزاء الخواص، بالنسبة إلى الخواص ما هو معيار الخصوصية؟ انتبهوا! في يوم من الأيام كان معيار الخصوصية التعلم، أن هذا مُتعلِّم وهذا غير مُتعلِّم، هذا أُمي وهو من العامة وهذا مُتعلِّم وهو من الخاصة، وفي خطابنا بشكل عام للأسف الشديد هناك انحياز ضد العوام، عند ابن خلدون العوام من العمى، وكذلك الحال عند محمد عبده وعند عبد الرحمن الجبرتي، الحرافيش – يقول – وما إلى ذلك، يحتقرونهم بألفاظ عامية مصرية، وإلى اليوم يُقال العوام، فنحن الخواص، نحن الدُعاة والمشايخ وأصحاب المنابر، نحن خواص وأنتم عوام، غير معقول! كيف هو عامي وهو طبيب جرّاج؟ كيف هو عامي وهو أستاذ مُهندِس؟ كيف هو عامي وهو فيلسوف؟ كيف هو عامي وهو مُؤرِّخ؟ كيف هو عامي وهو عنده ثانوية أو عنده شهادات عُليا؟ غير معقول! إذن بأي معيار يُقال هذا؟ انتبهوا! إذن هذا المعيار ساقط – المُتعلِّم وغير المُتعلِّم – طبعاً، وفي القديم كان يُقال الإخصائي المُختَص في فنٍ عامي في غيره، فأصبح المُصطلَح نسبياً، لكن علينا أن نُلاحِظ ونحن في عصر الثورات وما بعد الثورات أن هذا العصر قد أتاح قدراً من المعرفة العامة، وقد ساهم النت Net – الشبكة العنكبوتية – ووسائل الاتصال العظيمة كما يُقال في دفع هذه الثورات أيضاً وفي تورية نيرانها، هذا العصر – عصر الاتصال وعصر النت Net يا إخواني وأخواتي – قد أتاح قدراً من المعرفة العامة في الشأن العام السياسي والديني لجميع الناس، من الصعب الآن أن تجد عامياً محضاً، أيضاً هناك مُلاحَظة أُخرى،أنا مُتأكِّد لو هذه الثورات ثارت قبل ثلاثين سنة لحصل فيها الإسلاميون على ما لا يقل عن ثمانين إلى تسعين في المائة، الآن حصلوا على خمسين في المائة أو اثنين وخمسين في المائة فقط، لماذا يا إخواني؟ لأن العوام تراجعوا، الآن الناس لم يعودوا عواماً، أكثر هؤلاء – وخاصة شباب الثورة – هم مُتعلِّمون، مُتعلِّمون تعليماً راقياً وتعليماً مُختَصاً وإن كان في حقول بأعيانها، ليسوا عواماً، وبالتالي صار من الصعب تجييشهم وتعبئتهم، لماذا؟ لأن مُقارَباتهم حتى لأي مسألة تختلف عن محض المُقارَبة الدينية، في العصور السابقة تقريباً في كل عصور الإسلام دائماً لابد أن تكون المُقارَبة دينية ظاهرية أو باطنية، كل حركات الثورة تتوسَّل الدين دائماً ظاهراً وباطناً، حتى الحركات الباطنية! في العصر الحديث اختلف الأمر، هناك أكثر من زاوية وأكثر من مُقارَبة لمُقارَبة أي شأن عام وغير عام، هذا أفقدنا أيضاً القدرة على التعبئة والتجييش، قد أيضاً تتآكل قدرتنا في السنوات المُقبِلة إن لم نُحسِن تدارك الأمر، كيف نُحسِنه؟ هذه قضية أُخرى.

إذن قضية عومنة الخطاب الإسلامي كشفتنا يا إخواني وأخواتي، بمعنى أننا كإسلاميين علينا أن نُطوِّر خطاباً يُعقلِن العامة أو يُساهِم في عقلنة العامة، ليس مُستحيلاً أبداً بأي وجه من الوجوه أن تعتلي منبراً – منبر جُمعة – وتتكلَّم في قضايا عامة بعقلانية، ما معنى عقلانية؟ حتى عقلانية النص أيضاً وليس عقلانية فيلسوف طبعاً، لسنا فلاسفة! حتى عقلانية النص أيضاً وعقلانية الواقع وعقلانية الحقائق الصُلبة أحياناً والصعبة أن تتكلَّم، بمعنى آخر هل كان يستطيع الإسلاميون في مصر وغير مصر أن يقولوا قبل الثورة بعشر سنين أو بخمس سنوات أو بسنة يا جماعة نحن حالياً لسنا في وارد اجتثاث إسرائيل أبداً، هذا ليس من برنامجنا، لا نستطيع! الظرف العالمي كله لا يسمح، الحرب ليست مع إسرائيل كدولة مُنعزِلة يتيمة، الحرب مع المشروع الغربي كله، إسرائيل تُساوي أوروبا وأمريكا – أليس كذلك؟ -، فلسنا في هذا الوارد، لنُعطيها حقها في البقاء، لنُنازِلها في المحافل الدولية وفق الشروط أيضاً الدولية؟ طبعاً العوام في البداية لن يقبلوا هذا، لكن بعد أن نُدمِن قوله وتبريره لهم سيقبلونه على أنه كلام معقول، هذا لن يُودي بنا إلى انتحار، لكن – انتبهوا – هذا إزاء أي مُراهَنة على أصوات هؤلاء الجماهير نحن سنخسر معه، سنسخر! إذا كانت هناك أي لُعبة – لُعبة انتخابية أو لُعبة تصويت – فسنخسر معه، لكن في الأمد المُتوسِّط حتى فضلاً عن البعيد سنكسب بإذن الله تعالى، هذا لم يحدث! إلى اليوم لا نزال نتوسَّل رضا الجماهير.

والآن السؤال – في الحقيقة عوداً وتهميشاً على عوام وخواص – مَن الذي يقود مَن؟ مَن الذي بيده الدفة؟ واضح أن العوام هم الذين بيدهم الدفة، لماذا؟ لأن مَن يعرف لا يستطيع أن يتكلَّم بما يعرف، لا يجرؤ! وهنا أستذكر مأساة الإمام النائيني رحمة الله عليه، الشيعي الكبير صاحب الكتاب المشهور، هذا الرجل كان مُفكِّراً سياسياً مُجدِّداً، هو مُفكِّر ديني مُجتهِد وأعرب عن درجات مُتقدِّمة جداً من الانفتاح في فكره السياسي، خاصة في مسألة المشروطة – أي المشروطة الدستورية الإيرانية – ومسألة الاستبداد، لكن حين جاء الرجل إلى النجف في العراق منع من نشر كتابه، ويوم تبرَّعت مجلة ونشرته أوعز إلى تَلاميذه وهم بالألوف أن يشتروا كل النُسخ وأن يُعدِموها، لماذا؟ لأن هذا يُغضِب الجماهير، هذا مُباشَرةً يسحب الثقة من هذا الرجل لدى الجماهير، إذن لست المُجتهِد الأمين على مبادئ الشريعة، لأنك تطرح فكراً جريئاً لم يقل به الأولون، تُخالِف المزبور والمسطور، عجيب جداً! هذه حالة للأسف نرثي لها، لكنها لا تزال تأخذ بخناق كثير من العلماء والمُفكِّرين، لا أُحِب أن أضرب الأمثلة فالأمثلة كثيرة على هذا الخطاب وسأختم بهذا لأن وقتي قد انتهى للأسف وما زلنا على مشارف الموضوع أيها الإخوة.

على الخطاب الإسلامي أن يكون أكثر واقعيةً وأكثر صراحةً مع الحقائق – الحقائق الصُلبة بالذات، وجهات النظر فيها وجهات نظر، لكن الحقائق الصُلبة في كل المجالات  – وألا يتوسَّل رضا العامة، ألا يكون خطاباً عامياً، بالعكس! المطلوب منه أن يُساهِم في ترقية الوعي العام لدى العامة، وعند أول اختبار – بإذن الله – هو لن ينكشف، بالعكس! سيتعزَّز ويُعزِّز مواقعه، وأكتفي بهذا، وأقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.

______________________________________________

    (إجابات الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عن الأسئلة المطروحة على فضيلته)

طرح عدد من الحضور أسئلة على الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم وأشار إلى أنه سيُجيب بسرعة شديدة.

استفسر أحد الحضور عن سبب تحارب بعض الأحزاب الإسلامية فيما بينها ما يُؤدي إلى تسهيل الأمر على مَن يحلم باسترجاع السُلطة من فلول النظام البائد مُشيراً إلى أهمية إصلاح ذات البين، وقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم على كل حال دعونا لا نُسميه احتراباً، فهو ليس تحارباً وليس احتراباً، هذا الاختلاف أو التنازع ليس فقط بين الإسلاميين، بين كل التلاوين والأطياف، وهذا شيئ طبيعي أيضاً ومفهوم، لماذا؟ بكلمة الهدم سهل والخيارات في الهدم محدودة، لذلك الاختلاف محدود أيضاً، هذا بيت نُريد أن نهدمه، الطرق محدودة جداً لهدمه، لذلك خُصماء اليوم كانوا حُلفاء الأمس، طبعاً اتفقوا على الهدم، البناء بعد ذلك، أنت تُريد أن تُشيِّد بيتاً، هناك مئات التصورات الهندسية لتشييد هذا البيت، هنا يأتي الخلاف، طبيعي أن نختلف، أعتقد أن هذه الظاهرة عادية، لكن الذي ليس عادياً أن نُدير هذا الخلاف بطريقة تعود بالنقض على الأهداف التي جمعتنا، هذا ليس معقولاً وليس مفهوماً، لكنه لم يحدث إلى الآن أيضاً بهذه الدرجة بفضل الله عز وجل.

سأل أحد الحضور عن رأي الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم في فكرة أن الربيع العربي يبدأ من سقوط بشار في سوريا وأشار إلى بعض الأمور المُتعلِّقة بالأمر السوري، فقال فضيلته لا أفهم بالضبط ماذا يُريد الأخ، لكن لو هو موجود يُمكِن أن يُلخِّص لي مُراده، لكن باختصار إذا كان – لا أدري – يُريد أن يُبرِّر لبشار ولنظام بشار فأنا سأقول له شيئاً عن قناعتي الشخصية، وطبعاً لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا وكان دولاب الزمان بأيدينا أنا مُتأكِّد حتى الإخوة السوريون كان سيكون لهم تصور آخر للثورة في سوريا، أنا كان لي تصور مُنذ البداية مُختلِف، كل ما يحدث هذا بالضبط أنا حدست به وذكرته على المنبر، يجب على المُفكِّر ويجب على صاحب الرؤية يا إخواني أن يُدرِك الاختلافات، كل حالة لها خصوصية مُعيَّنة، لكن على كل حال ما كان قد كان، إذا كان هناك ثمة مُؤامَرة – والمُرجَّح أنها موجودة – فأنا أقول لكم أكثر من ساعد على إنجازها وإنجاحها بشار ونظام بشار، هذا عندي قناعة مُطلَقة به، وطبعاً الدلائل على ذلك كثيرة وأكتفي بهذا للأسف الشديد.

سأل أحد الحضور هل يُمكِن القول أن نُخبتنا هي نكبتنا؟ وهل يُمكِن أن تفشل الثورات – لا سمح الله – عندما تخذل النُخبة؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أن نقول هكذا النُخبة هي النكبة غير صحيح، بالعكس! النُخبة كما قال أستاذنا وسمعتم كيف ليست كذلك، مبدأ عدم التناقض في العمل يصح وفي النظر لا يصح، لا نستطيع أن نُعمِّم هكذا، عموماً صحيح، النُخبة العربية في العموم ليست مرضية، الراحل إدوارد سعيد في آخر حياته أطلق صيحة ألم، قال لا أدري لماذا المُثقَّف العربي بالذات – بالخصوص – على هذا المُستوى من الانتهازية والحربائية؟ حربائي مُتلوِّن، شيئ غريب! عند العرب بالذات بشكل غير طبيعي يا إخواني موجود، لكن تُوجَد طبعاً فئة مُعيَّنة ونسبة مُحدَّدة من النُخبة العربية في السجون، ولا نستطيع إلا أن نحتكم إلى الأرقام، أكبر عدد من سُجناء الرأي في العالم في السجون العربية، إذن هناك شُرفاء عرب يا إخواني، هناك مُناضِلون بعشرات الألوف، من أشرف الناس ومن أنزه الناس، فلا نستطيع أن نقول إنها سبب نكبتنا، لأن لنكبتنا أسباب كثيرة، وعلى كل حال نظرية السبب الواحد كما قال هربرت ماركوزه Herbert Marcuse انتهت من قديم، لا يُوجَد شيئ له سبب واحد!

طرح أحد الحضور سؤالاً يقول فيه كيف يُمكِن فهم نهضة إسلامية حقيقية ونظرة الإسلاميين لا تقبل المُواطِن غير المُسلِم كما هو معلوم في مقولة الإسلام دين ودولة؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا موضوع طويل، لا أستطيع أن أقول لك جواب سؤال كيف تكون النهضة، صعب جداً! مُحاضَرة الأستاذ اليوم كانت عن هذا الموضوع ولو من جهة أُخرى، لكن على كل حال هل نحن على الطريق السليم؟ هذا هو السؤال! هل نحن وضعنا أقدامنا على الطريق أو على بدايات الطريق؟ واضح أننا فعلنا هذا بإذن الله تعالى، واضح! الرؤية ليست مُتكامِلة، ليست واضحة، وليست مُحدَّدة تماماً، لكن استطعنا أن نفهم أن التصالح مع العصر والتصالح مع الآخر مطلوب، التصالح مع الذات، مع التراث، مع هويتي، مع مُحدِّدتي، ومع مُشخِّصاتي مطلوب، هذه بدايات سليمة كلها، بعد ذلك كما قال مرة ميتران Mitterrand لابد أن نُعطي الوقت للوقت، لابد أن نُعطي للزمان زماناً، هو أول مَن استخدم هذا التعبير، أعطوا الوقت وقتاً قال.

سأل أحد الحضور إذا كان الطُغيان السياسي هو سبب في الانحلال القيمي فكيف تُفسِّرون الانحلال الأخلاقي في الغرب؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا تُوجَد مُشكِلة، لا يُوجَد أي تعارض، نحن لم نقل إن كل انحلال أخلاقي من حيث هو ومن حيث أتى سببه الاستبداد السياسي، لا! طبعاً هذا تعميم غير صحيح بالمرة، الذي قلناه كل استبداد سياسي لابد أن يتظهَّر بفساد أخلاقي، هذا صحيح.

هذا الاختزال السيمانتيكي أو الاختزال الدلالي لدينا، على ذكر اليوم الاستبداد والفساد  أنا سعيد جداً بأن الثائر العربي صار يستخدم الفساد بدلالة أكثر سعةً من الفساد الخُلقي في الميدان الجنسي بالذات، لدينا عند العوام الفاسد – يقولون هذا الفاسد – هو الفاسد أخلاقياً في السلوك الجنسي، اليوم اختلف الأمر، يقولون الفساد بمعنى الفساد السياسي والاقتصادي وما إلى ذلك، هذا شيئ مُمتاز، هذا يُسمونه  Semantic Change أو الــ Semantic shift، أي الانزياح الدلالي، وبالمُناسَبة الفساد قرآنياً تقريباً يُرادِف الفساد اليوم في الفهم الغربي في عالم السياسة وعالم الاقتصاد، هذا هو الفساد! فرعون كان من المُفسِدين، هؤلاء مُفسِدون، وليس بالمعنى المُختزَل في الوعي العامي العربي.

على كل حال ما قلته كل استبداد سياسي لابد أن يتظهَّر بفساد قيمي، قطعاً لا كلام في هذا، لا يستمر إلا بهذا، قديماً تيتو Tito في يوغسلافيا كان يقول لهم اتركوا لنا السياسة ولكم الخمر والنساء، هتلر Hitler – وطبعاً هو من أفسد الفاسدين سياسياً، هذا مُستبِد بل أكبر مُستبِد – كان يقول أنا أنجح بمُخاطَبة أدنى ما في الإنسان، غُدده الدمعية وغُدده الجنسية، يعرف هذا! وهكذا يستمرون ويتأبدون، لكن الأخلاق بالمعنى الذي أشار إليه أستاذنا – الالتزام القيمي العالي في الشأن العام بالذات وفي الشأن حتى الخاص العلائقي – لا يُمكِن أن تكون رديفاً أو ظهيراً للاستبداد، بالعكس! هي أكبر عدو له.

أعرب أحد الحضور عن وجهة نظره التي ذكر فيها إن كلام الشيخ عن الثورات ومُشارَكة الإسلاميين ومُمارَسة الحُكم الإسلامي لا يُلامِس الواقع التونسي في شيئ بقدر ما هو توصيف للواقع المصري، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إلى حد بعيد نعم، وطبعاً يُوجَد فرق معروف بين التجربتين التونسية والمصرية من عدة جوانب، لذلك حتى في البداية أنا حييت – مثلاً – وصول الإسلاميين في تونس، راهنت عليه! لم أُرهِن على الحالة المصرية مع أنني أُحِب أن تنجح طبعاً ولديها أولوية عندي، الحالة المصرية بالذات! مصر تبقى هي فعلاً مركز العرب، ونجاح التجربة المصرية سيكون أثقل وزناً وأكثر دعماً، لكن لم أُراهِن لأسبابي الخاصة أيضاً، عندي أسباب كثيرة فلم أُراهِن، لم أُحِب أن يُسجَّل علىّ أنني راهنت وفشلت، خسرت الرهان! ليس من باب الكرامة الشخصية ولكن من باب التحوط أو الحيطة الفكرية.

أعرب أحد الحضور عن وجهة نظره التي قال فيها إن ملوك الخليج يخافون على عروشهم ولذا هناك إشكالية مع الإسلاميين المُتشدِّدين في بلاد العرب المُحرَّرة ويُوجَد خوف من الإخوان المُسلِمين ولذلك لم يدعموا تونس أو مصر، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم انظر يا أخي، أي دولة الثورة مُرشَّحة فيها أو قطار الثورة مُرشَّح فيها أن يأتي لابد أن تتصرَّف على هذا النحو – طبيعي – وأن تضع لك خمسين ألف عصا في دولابك بلا شك، هذا من باب الدهاء السياسي، لابد أن يفعلوا هكذا، لكن السؤال كيف نفعل نحن إزاء هذه الأشياء؟ كيف نتصرَّف؟

وعلى الإسلاميين وعلى كل مَن يصل إلى السُلطة في مصر وفي تونس وفي غيرهما أن يكون قد قرأ الواقع جيداً وقرأ كل هذه المُعطيات حتى لا يسقط عليه كما قال بعض الظراف من الغيب شيئ لم يحسبه، الشاعر يقول:

وقلّما يفجأ المكروه صاحـبه                              إذا رأى لوجوه الشر أسباباً.

إذا قرأت الشيئ جيداً لن يُصبك منه ما لم تحتسب، فيجب أن نُدرِك أن هذا شيئ واقعي وموجود.

على كل حال أنا كنت من أوائل أيضاً – بعد الثورة مُباشَرةً – الذين رفعوا عقيرتهم بالتحذير من اتجاهات إسلامية مُتشدِّدة ستكون أكبر تحدٍ لنجاح الثورات، أليس كذلك؟ وسُئلت لماذا الآن ؟قلت لهم هذا الخطر القادم، هذا الخطر القادم الذي سيُحرَّك عليكم لإفساد تجاربنا، لكن كيف نتصرَّف؟ موضوع آخر.

كتب أحد الحضور يقول تحدَّثتم عن الإسلاميين وفوزهم في الانتخابات في تونس ومصر وليبيا، السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هل فاز الإسلاميون بالأصوات في الانتخابات من خلال صحة كلامهم وصحة برامجهم ووعودهم أم من خلال عطف المُجتمَع عليهم؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا ليس عطف المُجتمَع، انظر:

فِي زُخْرُفِ الْقَوْلِ تَزْيِينٌ لِبَاطِلِهِ                       وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ.

تَقُولُ: هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ                      وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ: قَيْءُ الزَّنَابِيرِ.

مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا                 حُسْنُ الْبَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ.

أي أنه يقول كأنهم يستجدون أو يشحذون، يعني الإسلاميين، لا! لم يكونوا شحّاذين، بالعكس! هم كانوا معطائيين، الإسلاميون – أنا أقول لكم – حتى في الجانب الاجتماعي تقريباً هم الذين كانوا يُعطون، الذين كانوا مُنخرِطين في شأن الناس – الأيتام والأرامل والمساكين والمحتاجين وغيرهم، أشياء كثيرة جداً – الإسلاميون، ولذلك نجحوا، ومن حقهم أن يحصدوا ما زرعوه، ليس عطف المُجتمَع عليهم، لكن بعبارة علمية دقيقة انحياز المُجتمَع إلى خيارهم، خيارهم الأيديولوجي العقدي وهو الإسلام، هم يرفعون راية الإسلام والمُجتمَع يُريد هذا، هذا خيار الإسلام.

أنا في البداية – غب أحداث الحادي عشر من سبتمبر شاهدت الأستاذ الكبير هيكل – حفظه الله وأمد في عمره – في لقائه مع البي بي سي BBC الذي أطلق فيه مقولة خطيرة جداً جداً، أنا تعجَّبت أن تخرج منه، قال – نبوءة – الإسلام السياسي انتهى، قلت على المنبر أخطأ الأستاذ هيكل، أقولها للتاريخ الإسلام السياسي ابتدأ، وعندي أيضاً مُرشَّحاتي، وذكرتها في أيام الحادي عشر من سبتمبر، والإسلام السياسي أتى، فعلاً أتى!

هذا الرجل أحترم فيه إلى حد بعيد حقيقةً مبدئيته، الرجل لا يتلوَّن، صحيح! لكنني قلت يا أستاذنا بشكل صريح – وأرجو ألا يغضب مني إذا سمعني أصلاً – هيكل مُمتِع جداً إذا استمعت إليه يتحدَّث بأثر رجعي، فلسفته عن أحداث حصلت، لكنه خطر جداً وليس عنده شيئ إذا أردت أن تسمع منه حديثاً نبوئياً، لا يستطيع أن يحدس بأي شيئ يحدث الرجل، غريب جداً! وكتب عدة كُتب في هذا الموضوع ولم يُصِب في شيئ، صحيح! يفتقر إلى هذا الشيئ، ليس عنده القدرة الرجل، لكنه إنسان فاضل، غير مُتلوِّن، مبدئي، ومُطلِع! الرجل كنز معلومات – على كل حال – سياسية طبعاً، فالمجتمَع إذن تعاطف مع الإسلاميين ولم يعطف عليهم، تعاطف معهم ولم يعطف عليهم، وانحاز إلى خيارهم.

على كل حال أختم، في بدايات التجربة التونسية قلت ماذا؟ لأن بعض الناس تساءلوا بكم سيحظى الإسلاميون؟ قلت على المنبر سيحظون بأغلبية، سيفوزون! ليس لدينا شك في هذا، وراهنت على تونس، وقد فازوا – بفضل الله – وحازوا الأغلبية، لكن الخطر يا إخواني والتحدي الحقيقي هو في الآتي، دائماً الإنسان الحكيم لا يحتفي كثيراً بما أنجز، بل يكون مُهتَماً أو مُنهَماً بلُغة فوكو Foucault – لُغة الانهمام – كيف يُنجِز الآتي، طبعاً أستاذنا الكبير درس على فوكو Foucault – اليوم حدَّثني بهذا – وعلى پول ريكور Paul Ricœur أيضاً، على أقطاب الفلسفة الفرنسية الكبار حقيقةً، وهذه فُرصة لا تُتاح إلى أي إنسان، فدائماً الإنسان الحكيم يكون مُنهَماً كيف يُنجِز الآتي، أي تتوالى نجاحاته، لا يحتفي بالنجاح الفائت، طبعاً التحدي حجمه الحقيقي أن الكل – إسلاميين وغير إسلاميين مِمَن أعطونا أصواتهم – ينتظرون منا أكثر من كل ما قدَّمته الدولة العلمانية المُستبِدة حقيقةً، ينتظرون الكثير الكثير! فنسأل الله أن يُعيننا، ونسأل الله أن يُوفِّقنا وأن يُوفِّق كل مَن أراد أن يرفع لهذه المنارة أو يبني لها شعاراً، والسلام عليكم ورحمة الله.

 

تسجيل للندوة التي انتظمت على هامش الذكرى الثانية للثورة التونسية بمشاركة الدكتور أبو يعرب المرزوقي والدكتور عدنان إبراهيم والأستاذ فرج بالحاج عمر يوم السبت 12/01/2013 بفيينا من تنظيم جمعية إرادة
http://www.facebook.com/pages/IRADA/283248048386247
www.irada.at

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: