إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَقُدْوَتنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، الْلَّهُم صَلِّ وَسَلِم وَبَارِك عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

 إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ۩ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ۩ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ۩ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ۩ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ۩ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۩ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

 يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۩، يقول يحيى البكاء – رحمه الله تعالى – سمعت عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – يتلو هذه الآية يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، ويقول غره والله جهله.

كما يُروى عن الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال هو قول الله تبارك وتعالى – أي الجواب عن هذا السؤال في قول الله تبارك وتعالى – إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩، غره بربه ظلمه لنفسه، وجهله، جهله بماذا؟ جهله بنفسه أولاً، وجهله بعظمة الله، بقدر الله، وبجلال الله، قال الله – سُبحانه وتعالى – وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، قال ابن عباس لم يعرفوا قدر جلال عظمته، لم يُبالوا عظمة الله – تبارك وتعالى -، لأنهم جهلة.

وأما قول مَن قال غره حلم الله وجميل ستر الله – حتى قال قائلهم قد لُقِّن المغرور حُجته – فهذا قول ضعيف، ويُوشِك أن يكون ساقطاً، هذا القول ضعيف جداً، لا يُمكِن أن يُقال إن كرم الله وإن جميل ستر الله – تبارك وتعالى – هو الذي غر المغرورين، ما غرهم إلا الغرور بالله – تبارك وتعالى -، الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء والهوى والمعصية وكثرة الذنوب، هذا هو الذي يغر الإنسان بالله.

أيها الإخوة:

يقول الإمام الجليل سُفيان الثوري – أبو سعيد رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – العلماء ثلاثة، عالم بأمر الله، وليس عالماً بالله – تبارك وتعالى -، فهذا هو الفاجر، فاجتنبوه، لو سألته عن حُكم مسألة من المسائل يُجيب، وربما يُفيض، ويأتيك بالأدلة من كتاب ومن سُنة، ولكنه يقع في حدود الله، ينتهك حُرمات الله، لا يُقيم لأمر الله ولا لنهيه تعظيماً ولا توقيراً ولا احتراماً، هذا هو الفاجر، العالم الفاجر – والعياذ بالله -، وهو في حقيقته جاهل، ليس عالماً، هذا في حقيقته جاهل، وسيأتي بيانه بُعيد قليل – إن شاء الله تعالى -، إذن عالم بأمر الله، وليس عالماً بالله، فهذا هو الفاجر، فاجتبنوه، وعالم بالله، ولكنه ليس عالماً بأمر الله، فهذا ناقص، وينبغي أن يُكمَّل، عالم ناقص، وعالم بأمر الله – تبارك وتعالى -، عالم بالله – تبارك وتعالى -، فهذا الكامل، فاتبعوه، اللهم اجعلنا منهم، وسيِّرنا في طريقهم، وخُذ بنواصينا إلى الخير يا رب العالمين.

وأما أن الأول جاهل وهو فاجر – والعياذ بالله – في نفس الوقت فمصداق ما في قوله – تبارك وتعالى – إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩، ومعنى هذه الآية – أيها الإخوة الأفاضل، معنى لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩ – أن كل مَن عمل سوءاً، جاهلاً كان أو عالماً بحُرمته، عامداً قاصداً أو خاطئاً ناسياً، فهو جاهل، كل مَن عمل سوءاً فهو جاهل، قال قتادة بن دعامة السدوسي – رحمة الله تعالى عليه، التابعي الجليل – اجتمع أصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فرأوا أن كل ما عُصيَ به الله جهالة، هذا رأي كل الصحابة، مسألة إجماعية، اجتمع أصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فرأوا أن كل ما عُصيَ به الله جهالة، عن عمد وعن غير عمد، عن علم وعن جهل، جهالة! 

قال حبر الأمة ابن عباس – رضيَ الله عنه وأرضاه، ورضيَ الله عن أبيه وأرضاه – يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩، مَن عمل سوءاً فهو جاهل، ومِن جهالته عمله السوء، جاهل! حتى لو كان عالماً، هذا مقياس قرآني، كثيرٌ من الناس في وهل وفي ذهول وفي غفلة وفي جهل منه وعنه، ينبغي أن نُوكِّده في حياتنا وفي فهومنا جيداً، لو كان عالم يجلس في سيّارة – مثلاً – وتأمَّل محاسن امرأة تعبر الطريق، والسائق الذي يسوق – وهو بمرتبة المُساعِد أو الخادم حتى – السيّارة بهذا العالم الجليل وهذا الفقيه الكبير غض بصره عما حرَّم الله، السائق عالم، وهذا العالم أو الذي نُسميه عالماً هو جاهل، في هذا الفعل هو جاهل، لقد جهل على نفسه، وجهل قدر ربه، لأن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، فقد ارتكب خيانة، وكان سائقه المُتواضِع المسكين أميناً على أوامر الله، على حدود الله، وعلى حُرمات الله، هذا عالم في هذه النُقطة، من هذه الحيثية هذا عالم، وهذا جاهل، ولن يُفيده ولن يُجديه علمه في هذه النُقطة عند الله شيئاً، بالعكس! هو يستكثر من حُجج الله عليه.

كان أحد التابعين يأتي أمنا عائشة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – كثيراً، يتزوَّد من علمها، ويأخذ من فقهها، ويقبس من أنوارها، حتى قالت له يوماً يا بُني أوتعمل بكل ما تأخذ مني من العلم؟ قال كلا يا أماه، قالت رحمك الله، فلِمَ تستكثر من حُجج الله عليك وعلينا؟ الله أكبر!

روى الإمام الدارمي في سُننه عن أبي عائشة – وهو أيضاً من تَلاميذ أمنا عائشة، ولذلك كُنّيَ أو كُنيَ بأبي عائشة، وهو مسروق بن الأجدع الهمداني، رضيَ الله عنه وأرضاه، من سادات التابعين – مسروق بن الأجدع أنه قال كفى بالمرء علماً خشيته الله – تبارك وتعالى -، مَن خاف الله فهو العالم، ومَن لم يخف الله فهو الجاهل، وإن بلغ في العلم ما بلغ في نظر العباد، كفى بالمرء علماً خشيته الله، وكفى بالمرء جهلاً إعجابه بعلمه، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك أن نقول زوراً أو أن نغشى فجوراً، اللهم آمين.

إذن الأول هو الجاهل، وهو الفاجر، والثاني ناقص، والثالث كامل، في الحقيقة يا إخواني الذي أوحى إلىّ بموضوع هذه الخُطبة – وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني به أولاً وينفعكم به ثانياً – هو سؤال وقع لي من سيدة طيبة، أحسبها مُبارَكة – إن شاء الله -، قالت لي لِم يُقصِّر بعض المُسلِمين – لا نُريد أن نقول كثير من المُسلِمين – في الصلوات، وبالذات في صلاة الفجر؟ قالت أحس وأستشعر أن كثيراً من المُسلِمين والمُسلِمات يُفرِّطون في هذه الصلاة، قلت لها يُمكِن أن يُجاب بجواب طويل، ولكنني سأُجيبك بكلمة واحدة، يُقصَّر في الصلاة وفي الفرائض وتُنتهَك المحارم ولا يُقام لأمر الله ولا لنهيه وزن ولا يُقدَر له قدر لكلمة واحدة، لأننا مُقصِّرون في معرفة الله، نعرف الأمر ولا نعرف الآمر، نعرف الأمر ولا نعرف الآمر! ثم قلت سأجعل من هذه القضية موضوع خُطبة جُمعية – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

قالت – وهي سيدة مُبارَكة – قد وقع لي شيئ قريب من هذا، وهو الذي قادني – تقول بارك الله فيها وزوَّدها التقوى، أي تقول وهذا الأمر هو الذي قادني – إلى المُحافَظة على صلواتي، وبالذات صلاة الفجر مُنذ سنين – بحمد الله -، فلا أُفرِّط فيها، قلت ما هو؟ قالت كنت قبل سنين أو سنوات لا أداوم على صلاة الفجر في وقتها، أُصليها في أحايين كثيرة حين تُشرِق الشمس، حين أقوم من النوم للأسف الشديد – كأغلبية المُفرِّطين من المُسلِمين الجهلة، الذين ظلموا ويظلمون أنفسهم بالتفريط في جنب الله -، قالت فاستيقظت ذات صباح أو ذات فجر، والجو قارص، زمهرير، برد شديد، فنظرت من النافذة، فإذا بعجوز سوية كبيرة ضعيفة واهنة تجر كلبها – أكرمكم الله وأعزكم -، تجر كلبها! قالت فقلت في نفسي – الله تجلى على قلبها، الله تجلى على قلب هذه العبدة أو هذه الأمة الصالحة – وفي قلبي الله أكبر، هذه تخرج وتقوم في هذا الوقت وهي عجوز كبيرة كاسرة لكلبها، أفلا أقوم أنا لرب العالمين؟ ولم أترك – قالت – القيام لصلاة الصبح في وقتها – الحمد لله – مُنذ سنين، قلت لقد عرفتِ الله هنا، من هذه الحيثية أنتِ عرفتِ الله، بدأت تعرف الله.

يا أحبابي، يا إخوتاه:

ليس يكفي أن نقول إننا نُؤمِن بالله، إننا نعرف الله، بأي معنى نُؤمِن بالله؟ بأي معنى وعلى أي وجه نعرف الله؟ المعرفة معرفتان، معرفة إيمان ومعرفة إيقان، معرفة إقرار ومعرفة من نوع آخر، معرفة الإيمان هي معرفة الإقرار، أن تُقِر أيها المُؤمِن أو أيتها المُؤمِنة بأن لا إله إلا الله، وأنه موجود، وأنه واحد، وأنه أحد، وقد تُقِر أيضاً له بمُجمَل أسمائه وصفاته، وتُسلِّم بتفاصيل الأسماء والصفات، لكن ما مدى فهمك، ما مدى دركك، وما مدى تعمقك لمعاني هذه الأسماء والصفات؟ هل تعيشها؟ هل لك أحوال؟ هل لك أذواق؟ هل لك مواجيد؟ هل لك خبرة إيمانية شخصية؟ هل لك حالات تتفرَّد بها مع الله – تبارك وتعالى -؟ هل تستطيع أن تخوض وأن تُفيض كثيراً في اسم من أسماء الله لأنك لك تجارب مخصوصة مع هذا الاسم، أم أنك تُردِّد الكلام مُجرَّد ترداد، لا أقل ولا أكثر؟

إذا كان مُجرَّد ترداد فهذه معرفة إقرار، يشترك فيها العاصي والطائع، الفاجر والبر، الفاسق والمُحِب، الكل يشترك فيها، معرفة إقرار! وما لا يُنال إلا بالذوق لا يُكيَّف لا بكلام ولا بكتاب، مهما تكلَّمنا، مهما كتبنا، مهما سمعنا، ومهما قرأنا، هذا لا يُفيدنا كثيراً، لن يُفيدنا كثيراً، كما قال الأول:

لو كِلْتَ أَلْفَيْ رَطْلِ خَمْرٍ لم تكن                              لِتَصِيرَ نَشْوَانًا إذا لَمْ تَشْرَبِ.

لو كِلْتَ أَلْفَيْ رَطْلِ خَمْرٍ، أنت تكيل، لكن لا تشرب، لا يُمكِن أن تصير نشواناً، وكذلكم لو سمعت ألف خُطبة عن معرفة الله، وقرأت ألف مُجلَّد في معرفة الله، لن تصير من العارفين بالله، ولن تقدر الله حق قدره، حتى تُجرِّب، حتى تعيش، وحتى تذوق، لَمْ تكن لِتَصِيرَ نَشْوَانًا إذا لم تَشْرَبِ، هذه هي المسألة، لابد أن نُجرِّب.

إذن ما هي المعرفة الأُخرى؟ ما هو هذا النوع الثاني من المعرفة؟ معرفة الإيقان، معرفة الإيقان يا إخواني هي المعرفة التي تجعل العبد أقرب إلى الله ومن الله، أعظم حياءً من الله، أشد خشيةً لله، أرجى لله، أخوف من الله، أكثر اعتماداً واتكالاً واستغاثةً واستعانةً واستمداداً واستمطاراً واستهداءً ولجأً ورجوعاً وإنابةً وأوبةً إلى الله – تبارك وتعالى -، هذه هي المعرفة، هذه هي المعرفة الحقيقية التي تميَّز بها أسلافنا الصالحون – رضوان الله تعالى عليهم -، ونحن – إلا مَن رحم الله وقليلٌ ما هم – خلوٌ منها، نحن خلوٌ من هذه المعرفة، إنها مُجرَّد معرفة كلامية، معرفة إيمان، معرفة إقرار، لا معرفة إيقان وأحوال وأذواق ومواجيد، هذه هي المسألة.

يقول الإمام الشيخ ابن القيم – رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – وهذه المعرفة الثانية لها بابان وسيعان كبيران، يُعزِّزانها ويُؤكِّدانها، الباب الأول التفكر في آيات الله – سُبحانه وتعالى -، التفكر في آيات الله! في آيات الكتاب العزيز، قراءة القرآن بتدبر وبتمهل، لا نهزه هزاً هكذا، كان أسلافنا ربما وقف الواحد منهم عند آية حتى ينفجر الفجر، ليلة كاملة يُردِّد آية واحدة، لا يبلغ مُنتهاها، وهو بالحري – والله أعلم – مع كل مرة يُردِّد فيها هذه الآية ينكشف له شيئ من معناها وشيئ من أسرارها، فلا يشبع منها إلى آخر الليل، هذا باب إلى المعرفة الربانية.

ومن هنا كما قال يحيى بن مُعاذ الرازي – رحمة الله تعالى عليها – كان يخرج الواحد منهم – من هؤلاء العارفين حقاً بالله – من الدنيا، وهو لم يقض وطره من شيئين، من بكائه على نفسه، ومن ثنائه على ربه، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لأنهم عرفوا جلال الله، عرفوا عظمة الله – تبارك وتعالى -.

سأل الحجّاج بن يوسف – فاسق المُسلِمين، القاتل المبير في عصره – يحيى بن يعمر – الرجل الصالح النحوي المُؤمِن، رحمة الله تعالى عليه -، قال له يا يحيى ما تقول في واسط؟ أي لمدينة بناها الحجّاج، مدينة واسط، هو الذي بناها، أي الحجّاج، ما تقول في واسط؟ فقال بنيتها من غير مالك – ليس من مالك ومال أبيك وأمك -، وأسكنتها غير أهلك، وغداً تُسأل عنها، قال ويحك! في تغيظ وغضب، ويحك! ما الذي جرأك علىّ؟ أمام الناس يقول هذا وهو الحجّاج! قال عهد الله وميثاقه الذي واثق به العلماء، ألا يكتموا الناس حديثاً، قال أما خشيت سيف الحجّاج؟ قال لم تدع خشية الله بين جوانحي خشيةً لأحد، حجّاج مَن؟ وسيف مَن؟ إن الله عظيم في ربه، مهما عظَّمت ربك استصغرت الخلق، مهما عظَّمت الخلق صار الله صغيراً في عينك – أستغفر الله العظيم -، نعم صار صغيراً وأنت الصغير، صار ضئيلاً وأنت الضئيل، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، لقد ملأت خشية الله جوانحه، فلم تُبق مكاناً لخشية أحد.

تعرفون الإمام أبا الحارث، محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن أبي ذئب، عصري الإمام مالك، قال الإمام أحمد كان أفضل من مالك، كان أقول بالحق من مالك، ما اجتمع الإمام مالك والإمام ابن أبي ذئب – قدَّس الله سرهما – في مجلس لخليفة إلا صدع ابن أبي ذئب بالحق ومالك ساكت، ومن هنا فضَّله أحمد على مالك، الإمام أحمد بن حنبل قال أفضل من مالك، قالوا ما خلَّف بعده مثله؟ قال لا، لم يترك بعده مثله، لم يأت بعد ابن أبي ذئب مثله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال الذهبي مع أن مالك أوسع دائرةً في العلم والحديث والتنقيد على الرجال، لكن المسألة ليست فقط مسألة علم وأحاديث ورجال وأسانيد، المسألة تتعلَّق بالخشية والمعرفة والقول بالحق، لا تخف إلا الله، لا ترج إلا الله، ولا تعمل إلا لله.

حج المنصور يوماً – أبو جعفر العباسي – بيت الله – زاده الله تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وبراً – ومعه ابن أبي ذئب والإمام مالك – رضوان الله تعالى على الجميع -، فاستدعاهما يوماً إلى دار ندوته، لدى البيت، عند البيت الحرام العتيق، وسأل ابن أبي ذئب، قال له يا ابن أبي ذئب ما تقول في الحسن بن زيد بن الحسن – وهو والي المنصور على المدينة -؟ قال أشهد أنه يتحرَّى العدل، رجل طيب، يتحرَّى العدل، قال حسن، أعجبه ذلك، فما تقول في؟ ابن أبي ذئب سكت، قال ما تقول في؟ قال ورب هذه البنية إنك لجائر، أتسألني؟ لا أستطيع أن أكذب، الله أكبر! ورب هذه البنية إنك لجائر، ظالم! أنت من الظلمة، فقام الحاجب وأخذ بلحية الإمام، وقال ويحك! فقال له المنصور اتركه يا ابن اللخناء، سبه في أمه، قال له اتركه يا ابن اللخناء، ثم نكس المنصور رأسه وأمر له بثلاثمائة دينار، لا ندري ماذا فعل بها، هكذا! لماذا؟ هذا لم يكن ليصدر منهم رياءً، ولا تسميعاً بأنفسهم أبداً، ولا طلباً لمحمدة عند الناس أبداً، ولا يجرؤ عليه أحد لا في القديم ولا في الحديث إلا مجنون لا عقل له أو رجل عاقل لا يخشى إلا الله ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو العارف الكامل، إما مجنون، حياته لا قيمة لها، ولا ينظر في الأدبار، ولا في أعقاب الأمور، وإما عارف كامل، من أولياء الله، عرَّفنا الله عليه – تبارك وتعالى -، هذا هو.

ولذلك لما استدعاه مرة والي المدينة – وهو عم المنصور، أحد أعمام أبي جعفر المنصور – تكلَّم له ابن أبي ذئب بكلام أخشن له فيه، فقال له يا شيخ ما أراك إلا مُرائياً، أنت تُرائي، حتى يُقال رجل شجاع، قال ماذا تقول؟ وأخذ عوداً من الأرض، قال أُرائي مَن؟ والله للناس كلهم عندي أهون من هذه، أي وأنت معهم، الناس كلهم أقل من عود صغير في نظري، عظَّم الله، فرأى الخلق صغاراً، رأى كل شيئ حقيراً صغيراً، لا يسوى، لا يُمكِن أن يُوزَن، لا يُمكِن أن يكون له أي قدر، فهذا هو.

هناك رجل آخر أيضاً اسمه حمّاد بن سلمة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وهو الإمام النحوي، صاحب التصانيف، المُحدِّث الجليل، أثبت العلماء وأثبت المُحدِّثين في ثابت البُناني – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، إمام جليل! أي حمّاد بن سلمة، يقول مُقاتِل بن صالح الخرساني كنت عند حمّاد، زرته في بيته، فإذا هو يجلس على الأرض، لا يُوجَد عنده فراش، وليس عنده إلا ما يسجد عليه ومطهرة يتوضأ منها، فقط! هذا أساس بيته، شيخ من مشايخ المُسلِمين، إمام من أئمة المُهتدين، من حملة ألوية العلم والصلاح! قال فبين نحن ذلك إذ طُرِق الباب، فقال يا صبية افتحي وانظري مَن، فقالت يا سيدي إنه رسول محمد بن سُليمان، وهو أمير البصرة، الشيخ كان بصرياً وهذا أمير البصرة، فقال قولي له يَدخُل  وحده ولا يُدخِل معه أحداً، فدخل، قال ماذا تُريد؟ قال رسالة من الأمير، ففضها، فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم، بعد الحمد والصلاة على رسول الله، صبَّحك الله بما صبَّح به أولياءه وأهل عافيته، قد وقعت مسألة، فائتنا والسلام، فكتب إليه على ظهرها – ليس عنده وقت، هو رجل من أعسر الناس، من أفقر الناس، من أعسر الأئمة – بسم الله، بعد الحمد والصلاة على رسول الله، وأنت أيضاً صبَّحك الله بما صبَّح به أولياءه وأهل عافيته، لقد أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، وإنما يُؤتون، العالم لا يأتي إلى أحد، حتى الأمير أو حتى الوزير يأتي إليه، أين علماؤنا اليوم من هذه الجلالة ومن هذا الاحتشام لمقام العلم والدين؟ العالم يكون عالماً كبيراً في سُمعته وفي شكله وفي زيه ثم يبذل ماء وجهه، يبذل علمه، لأدنى الناس منزلةً، لسياسي حقير صغير، لماذا؟ لا ندري لماذا، طمعاً في منصب أو طمعاً في مال أو طمعاً في برنامج تلفزيوني يُظهِرونه فيه، لا أدري لماذا.

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ                         وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا.

لكنهم أهانوا العلم فأهانهم الله، نعوذ بالله – تبارك وتعالى – من الخذلان، قال له نحن أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، وإنما يُؤتون، فإن كانت لك بنا حاجة، فائتنا، والسلام، ولا تأتنا إلا وحدك، فإنك إن تأتنا بخيلك ورجلك لا ننصح لك ولا ننصح لأنفسنا، والسلام عليكم، فلما بلغت الرسالة الرجل – أمير المدينة – جاء على دابته وحده، وطرق الباب، استفتح ففُتِح له ودخل، جلس بين يدي الإمام مزعوراً أو مُنزعِراً خائفاً، قال يا شيخنا أسألك سؤالاً بين يدي المسألة الأصلية، قال تفضَّل، قال ما لي كلما جلست بين يديك اعترتني هيبة ورعدة؟ أُرعد! هناك خوف عظيم، قال نعم، هو يعلم – أي الرجل الصالح – السبب، إنه حمّاد بن سلمة، الذي قال فيه الشيخ المُحدِّث الإمام عبد الرحمن بن مهدي لو قيل لحمّاد الساعة تموت ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، كانت كل أوقاته معمورة بذكر الله، كل ساعات نهاره وليله هي لله وللآخرة، لا يستطيع المسكين أن يزيد، أي إنه يعمل حتى آخر جَهده أو جُهده، ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، حيا الله هذه النفوس الماجدة وهذه الأرواح المُقدَّسة الطاهرة.

قال حمّاد نعم، قد حدَّثني ثابت البُناني – وكما قلت لكم هو أثبت العلماء في ثابت كما يقول علماء الحديث -، قال سمعت أنس بن مالك قال سمعت رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وأصحابه وأتباعه ومَن والاه كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون – يقول إن العالم إذا ابتغى بعلمه وجه الله هابه كل شيئ، خضع له كل شيئ، حتى الملوك، حتى الوزراء، حتى الكُبراء، حتى البطشة، حتى القتلة، وحتى الطواغيت، الكل! هابه كل شيئ، وإنه إذا ابتغى العلم ليكتنز به الكنوز هاب وخاف من كل شيئ، يُصبِح عالماً صعلوكاً، لا قدر له، لا منزلة له، لا رفعة له، لا  إجلال له، ولا هيبة له في نفوس أحد من الخلق، لا إله إلا الله! ومن هنا باب من أبواب من معرفة الله، ألا تعتز إلا بالله.

سُئل أحد الصالحين كيف الطريق إلى الله؟ واحفظوا هذه الجُملة فإنها غالية نفيسة، كيف الطريق إلى الله؟ قال لو عرفته لعرفت الطريق إليه، أتسأل كيف الطريق إلى الله؟ هل أنت تُريد الآن شيخاً صوفياً وتُريد كُتباً وفلسفات؟ لن يُجديك هذا نقيراً، عليك في البداية أن تعرف الله، وكيف تعرف الله – تبارك وتعالى -؟ اعرفه بأسمائه ونعوته، معرفة ذاته مُستحيلة، ما عرف الله حق المعرفة – معرفة ذات – إلا الله، ولا حتى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، اعرفه بأسمائه ونعوته، بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا الفُضلى، لا إله إلا هو! اعرفه عفواً، غفوراً، رحيماً، كريماً، عزيزاً، رافعاً، خافضاً، قابضاً، باسطاً، مُعِزاً، مُذِلاً، جبّاراً، قهّاراً، مُنتقِماً، وكبيراً، اعرفه هكذا، وستعرف نفسك مُباشَرةً حقيراً، ذليلاً، مُنكسِراً، ضعيفاً، فقيراً، ومُفتاقاً إليه، لا يجمل بك أن تستعين إلا به، ولا أن تخشى إلا هو، ولا أن تطلب أحداً إلا الله – تبارك وتعالى -، ولا ترجو أحداً إلا الله، وهكذا! 

هذه هي البداية، وحينئذٍ سيعظم أمر الله في عينك، أي في عين قلبك، وسيعظم نهي الله في عين قلبك، ستُوقِّر أوامر الله، لأنك عرفت الآمر، لكن حين تعرف الأمر فقط لا يُفيدك هذا، هناك المعرفة التي نُبديء فيها دائماً ونُعيد ونقول يا عباد الله اتقوا الله القائل كذا وكذا وقد قال النبي كذا وكذا، وهذا لا يُجدي الناس كثيراً والله، يسمعون من هنا ويخرج من هنا، لأنهم لا يعرفون الله، نُعرِّفهم بالأمر أو نُعرِّفهم بالأوامر، فنستكثر من حُجج الله عليهم وعلى أنفسنا، لابد أن نستغرق الوسع والجُهد في تعريف أنفسنا وإخواننا بالآمر أولاً، بالله – لا إله إلا هو -، بعد ذلك الأمور تُصبِح سلسة، يسلس قياد النفس الحرون، تحلو العبادة في القلوب، لا يُمكِن أن نرتقب حلاوة للذكر، حلاوة للمُناجاة، وحلاوة للصلاة بين يدي الله في هذا المُقام الجليل، والقلوب في شُعب، كما قيل صلاتك، وما صلاتك؟! البدن حاضر والقلب في شُعب، البدن في حلب والقلب أمره عجب، اللفظ عربي والفهم فهم العجم، نقرأ قرآناً ولا نفهم منه شيئاً، لا نستطيع أن نفهمه، لا لأننا لا نفهم حروفه، نعرف أن هذا ألف ولام وميم وهذا قال ويقول، لكن القلب مسدود بسداد، عليه صمام، من ظلمة المعاصي – والعياذ بالله -.

قال السادة العارفون كما أن الأوجاع هي أسقام البدن فالذنوب هي أسقام القلب والروح، إذا كان البدن وجعاً سقيماً عليلاً، فيه التباريح، لا يجد صاحبه ماذا؟ لا يجد صاحبه لذة الطعام، حين تكون مريضاً مرضاً حقيقياً هل تستلذ بطعام أو شراب؟ والله لا، لا تستلذ، لا تستلذ أبداً، وتُلجأ وتُجبَر على الطعام والشراب إجباراً، لأنك لا تجد مساغاً لا لطعام ولا لشراب، وكذلكم القلب، إذا كان مريضاً بالذنوب، لا يجد لذة، لا لذكر، لا لقرآن، لا لعبادة، لا لصلاة، لا لأي شيئ، لا يجد! لأنه مريض كالبدن، لابد أن يصح أولاً، حتى يجد حلاوة العبادة، حلاوة المُناجاة، حلاوة الانقطاع إلى الله – تبارك وتعالى -، والموضوع موضوع الصلاة، وقال السادة العلماء أيضاً مقامان، مقام دنيوي ومقام يُوازيه ويُناظِره أُخروي، مقامك في الدنيا بين يدي الله – تبارك وتعالى – في الصلاة، إن أديت ووفيت هذا المقام حقه وأتيت بشرطه على وجهه كان لك ما يُوازي ذلك غداً بين يدي الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو! تُبعَث آمناً فرحاً مسروراً مُنوَّراً، عليك البهاء، وعليك الجلال، ولك الأمن والأمان – إن شاء الله تعالى -، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ۩، قال فَاسْجُدْ لَهُ ۩، لماذا؟ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ۩، إذن المقامان مُرتبِطان، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ – أي غداً – رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ۩، مقامان مُرتبِطان، لكن كيف؟ كيف نُحِب الصلاة؟ كيف نُحافِظ عليها؟ كيف نُحِب المُناجاة؟ كيف نُحِب القرآن؟ كيف نكره المعصية؟ كيف نُحِب الطاعة؟ كيف نُوقِّر أمر الله؟ لابد أن نُوثِّق علاقتنا بالآمر – لا إله إلا هو -، بالله! قد تجدون طفلاً صغيراً أو امرأةً أُميةً تعرف الله أكثر من عالم كبير – والله – له مئات التصانيف، المسألة ليست بالعلم الظاهر  ولا بالكلام ولا بتشقيق الجُمل ولا بالتباكي ولا بالصراخ.

رأينا الناس في الحج يضرب أحدهم أخاه، ويدع المُستضعَفين، ويلوذ بالكعبة يتباكى، قلت عجب! هذا من أعجب ما رأيت في حياتي، تبكي على ماذا؟ ابك على نفسك يا جاهل، أوترجو الإجابة؟ زكريا نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً ۩ ماذا؟ خَفِيًّا ۩، لم يصرخ، لم يعل صوته، لكن دعاؤه اخترق السماوات السبع الطباق، لأنه كان دعاءً من عارف، يعرف بما يدعو ويعرف مَن يدعو، سُئل الإمام جعفر الصادق – عليه السلام وعليه الرضوان والرحمة – عن الآتي، قيل له يا أبا عبد الله ما بالنا ندعو الله ولا نعرف الإجابة؟ قال لأنكم تدعون مَن لا تعرفون، أنتم لا تدعون الله، مساكين أنتم، تدعون شيئاً تتوهمونه، ليس الله، لأنكم لم تعرفوه، لو عرفتموه ودعتموه للباكم، للباكم ولأجابكم، وهذا مصداق ما روى الإمام الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وعزاه السيوطي أيضاً في جامعه للديلمي، روى في نوادر الأصول عن مُعاذ بن جبل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لو خفتم الله حق الخوف لعلمتم العلم الذي لا جهل معه، تُفتَح عليكم علوم ومعارف، علوم حقيقية ومعارف جوهرية، لا جهل يُلابِسها، لا شية فيها من جهل أو من سفه، لو خفتم الله حق الخوف أو حق خيفته لعلمتم العلم الذي لا جهل معه، ولو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال، الله أكبر! لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال، الجبال تزول!

الآن بعض الناس يقول ما بال المُسلِمين يدعون على اليهود والأمريكان في كل أسقاع المعمورة؟ أين العارفون من المُسلِمين؟ أين الذين يدعون الله وهم يعرفونه؟ يدعو الله وقد ملأ بطنه من حرام، يدعو الله وقد ملأ عينيه من الحرام، يدعو الله وقد ملأ لسانه من الحرام، يدعو الله وهو يخطو بساقيه إلى الحرام، ويبطش بالحرام، ويفعل بالحرام، ويقوم وينام ويستيقظ على الحرام، ثم يدعو الله ويتباكى، مسكين! مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، ما غره إلا جهله، ولو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال، لا إله إلا الله!

دخل أحد الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – إلى المسجد، فرأى صبياً صغيراً يُصلي صلاةً حسنةً بخضوع وخشوع، فأعجبه أمره وشأنه، فجلس إلى جانبه حتى انصرف الصبي أو فرغ من صلاته، فقال له يا بُني ما أحسن صلاتك! ابن مَن أنت؟ قال أنا ولد يتيم، مات أبي وماتت أمي، قال يا بُني، يا حبيبي هل ترضى أن تكون لي ولداً وأكون لك والداً؟ قال على شرط، ولد مُعلَّم! ولد مُعلَّم فعلاً، قال على شرط يا عماه، قال ما هو؟ قال إذا جعت تُطعِمني؟ قال نعم، قال وإذا عريت تكسوني؟ قال نعم، قال وإذا مت تُحييني؟ فدهش، أُسقِط في يده! وقال ما إلى هذا من سبيل يا بُني، قال فكلني إذن واتركني للذي خلقني والذي رزقني والذي يُميتني والذي يُحييني، بكى الصحابي وقال لعمر الله مَن توكَّل على الله كفاه الله، الله أكبر! إن هذا الصبي – هذه نسمة مُبارَكة – عارف بالله، هو صبي صغير لكنه عارف بالله، أعرف بالله من آلاف آلاف العلماء، فضلاً عن الجهلاء من أمثالنا، هذا هو العرفان، هذا هو أن تعرف الله – تبارك وتعالى -، إذا عرفت الله أو إذا بدأت تعرف الله – تبارك وتعالى – كما قلنا لا يُمكِن أن تعتز إلا بالله، لا ترى العز بأي شيئ من أشياء الدنيا، وسترى أن كل شيئ شغلك عن الله من مال، من ولد، من منصب، من جاه، من سعي، ومن أي شيئ، هو شؤم، كل ما شغلك عن الله فهو مشؤوم عليك، شؤم عليك في الدنيا والآخرة، متى تعرف هذا؟ فقط إذا عرفت الله.

قال أحد العارفين لو جُعِلت الدنيا كلها بحذافيرها مُذ خلقها الله إلى آخر أيامها حلالاً لرجل ليس لله عليه فيها تبعة ولا يُسأل عن شيئ من نعيمها يوم القيامة إلا أنها شغلته عن الله ساعةً لكانت شؤماً عليه، الله أكبر! يقول هذا العارف فكيف بمَن هو مشغول عن ربه آناء الليل وأطراف النهار؟!

أيها الإخوة:

حين يُسافِر أحدكم – والسفر فيه آيات وعظات والله، السفر فيه آيات لمَن كانت له فكرة، لأن مَن كانت له فكرة كان له في كل شيئ عبرة – يحدث الآتي، أول ما تستقلون الحافلة أو تستقلون الطائرة أو أي مركوب تقولون دعاء السفر، وقلما نتفكَّر فيه، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۩، لا يستطيع سائق الطائرة أن يقول نعم، أنا مُستطيع هذا الشيئ، هو لم يخترعها، ولم يخترعها واحد، ولم يخترعها جيل واحد، أجيال! ولذلك لن يُوجَد في تاريخ البشر مَن يقول أنا مُقرِن مُطيق مُستطيع لهذه الطائرة، لا يستطيع! الله هو الذي طوَّع ذلك وسخَّره لنا، وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ۩، السفر تذكير بماذا؟ بالنُقلة، بالرحلة، تقول إحدى العابدات قوم مُسافِرون نادى فيهم المُؤذِّن وهم نُزل أن هلموا بالنُقلة، أعلمهم بالانتقال، لابد أن ترتحلوا، هيا! كما كنا الآن – مثلاً – في البلد الحرام وانتقلنا في يوم، حملنا أحمالنا وحزمنا أمتعتنا وتركنا كل شيئ خلفنا، وكأننا ما ذهبنا ولا أتينا، وهكذا هي الدنيا، هلموا بالنقلة، قالت فإذا بهم يركضون في المُهلة، وكأن الذي أُوذِن غيرهم وكأن التأذين ليس لهم، وهكذا هي حال أهل الدنيا، كل يوم داعي الموت وسائق الآخرة يُنادينا، هلموا بالنُقلة، وكأننا لسنا المعنيين، كل يوم نُشيِّع الجنائز إلى المقابر، وكأننا لن نُحمَل يوماً ولن نُشيَّع، نحن مساكين، مسكين ابن آدم، ما أعظم غفلته! ولذلك قيل لا يُوجَد ما هو أثقل من نوم الغفلة، أثقل نوم هو نوم الغفلة، نسأل الله أن يُوقِظنا من سنة الغفلة، وأن يُيسِّر لنا العمل في هذه المُهلة، اللهم آمين.

على كلٍ يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد، عجيب! هل تجدون في كل خلائق الله مَن هو بهذا النعت ومَن هو على هذا الوصف؟ يصحبك في سفرك بالكلاءة والعناية، ويخلفك في أهلك ومالك وولدك بالحماية والرعاية، الله أكبر! في نفس والوقت، إنه الله – لا إله إلا هو -، الله يستطيع ذلك، يكون معك ويكون في نفس الوقت مع أولادك، في أهلك، في مالك، عبرة وأي عبرة! عبرة عجيبة جداً، عبرة عجيبة جداً فعلاً، لماذا؟ لأنه مالك المُلك، المُلك كله بين يديه، فمَن كان معه لم يخش الضيم، ولم يخش الفقر، ولم يخش الذل، ولم يخش البغتة، لم يخش شيئاً من أمر الدنيا والآخرة – إن شاء الله تبارك وتعالى -، لأنه مع الله، وأما غيره فمالك يملك ولا يتصرَّف، لأنه يُؤجِّر مُلكه، أليس كذلك؟ مَن الذي يتصرَّف؟ الأجير، هناك مَن يملك ولا يتصرَّف، هناك مَن يتصرَّف ولا يملك كالأجير، لأنه أجير وليس مالكاً، وهناك مَن يملك ويتصرَّف، ولكن لا ضمانة ولا تأكيد أنه لن يفتقر، أنه لن يحتاج، أنه لن يُسلَب، أنه لن يُغصَب، وأخيراً أنه لن يموت، إذن لمَن المُلك مبدأً ومُنتهىً وتصرفاً ومصيراً؟ لله وحده، أليس كذلك؟ لله وحده، المُلك كله لله، والقدر قدر الله، من هنا تأتي الثقة بالله، ومن هنا يأتي الكفر والجحود إذا جهلنا هذه المعاني.

إمامنا الشافعي يقول كلمة عظيمة، يقول والله لو كانت السماء من نحاس والأرض من رصاص والخلق كلهم عيالي ما خشيت الفقر، الله أكبر! سماء من نحاس، لا تُمطِر، أرض من رصاص، لا تُبنِت، أليس كذلك؟ لا رزق، لا يُوجَد رزق، والخلق كلهم ليسوا سبعة أولاد أو بنات، الخلق كلهم عيالي، قال ما خشيت الفقر، الله أكبر! ما هذا اليقين؟ يقين مُطلَق بالله، يقين راسخ، إنه يقين المعرفة.

وعلى العكس من ذلك انظروا إلى هذه الحضارة، إلى هؤلاء الكفرة الجحدة النكرة الجهلة، إنهم من أجهل خلق الله، لأنهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ۩، وهذا هو جوهر الجهل وأُسه ورُكنه الركين.

في سنة ألف وتسعمائة وثنتي عشرة تم بناء سفينة عظيمة، قيل هي أعظم باخرة تنقل الركاب والمُسافِرين، بُنيت على طبقتين، جدرانها أو جسمها من طبقتين، لو خُرِقت أو تخرَّقت طبقة – أي الطبقة الأولى – تبقى الطبقة الثانية ردءاً لها، تحميها، تُعزِّزها، تدفع عن السفينة، ولذلك لم يُوضَع في هذه السفينة زوارق نجاة، لماذا؟ كُتِب في النشرة التي تُعرِّف بها سفينة لا يستطيع القدر أن يُدمِّرها، أستغفر الله العظيم، لعنة الله عليهم، هذا هو الغرب الفاجر الكافر الجاهل، إنه جاهل بالله، عالم بالمادة ووقف عندها، فقط! لا يعرف أكثر من ذلك، هو جاهل، جهل بالله، ومن هنا كل هذا الشقاء، كل هذا العناء، وكل هذا البلاء الذي أراحنا الله منه، وله الحمد والمنّة.

قالوا سفينة لا يستطيع القدر أن يُدمِّرها، ومع أول رحلة حدث الآتي، ركب فيها أثرى أثرياء أوروبا، أغنى الأغنياء! قيل الذهب الذي كان فيها للثريات – النساء الغنيات – بمئات الملايين من الدولارات، الذهب للراكبات المُسافِرات بمئات الملايين! أما ما فيها هي من ذهب، من نحاسيات، من فضيات، ومن مسابح، فأيضاً بمئات الملايين الأُخرى، أغلى سفينة في التاريخ، وفي أول رحلة اصطدمت بجبل جليدي هائل شطرها نصفين، إنها تيتانيك Titanic، التي لا يستطيع القدر أن يُدمِّرها، دمَّرها الله، لأن المُلك لله، المُلك كله لله، ومن هنا اليقين، أننا إذا استحققنا النصر على أمريكا والنصر على شارون Sharon والنصر على كل هؤلاء الحُثالة الزبالة وكل هؤلاء الكفرة الزنادقة، فلن يتأخَّر عنا النصر – إن شاء الله تعالى -، لكن لابد أن نعلم كيف نستحق هذا النصر؟ إذا ظللنا هكذا فالنصر منا بعيد، النصر منا بعيد! ما الذي أخذنا به؟ لا أخذنا بالدين ولا أخذنا بالدنيا، على الأقل لابد أن نُعاوِد أمر الله مُعاوَدةً حسنةً، فناشدتكم الله يا إخوتاه بالله – تبارك وتعالى – أن سيروا إليه سيراً جميلاً، وعودوا إليه عوداً حميداً، عاد الله بي وبكم إلى صراطه المُستقيم، وأقامنا على طريقه القويم، بفضله ومنّه، إنه ولي ذلك، لا يُستطاع ذلك إلا به وبحوله.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم أنت الصالحين فأصلِحنا لك يا رب العالمين، اللهم يا دليل الحائرين ويا مُرشِد الصادقين دلنا على طريق الصادقين واجعلنا من أوليائك المُتقين ومن عبادك الصالحين، اللهم واجعلنا من ورثة جنة النعيم، ولا تُخزِنا يوم يُبعَثون، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩.

اللهم اكفنا ما أهمنا من أمر دُنيانا وأمر أُخرانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وخذِّل عنا ولا تخذلنا، وارض عنا وأرضنا يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تنصر عبادك المُوحِّدين، اللهم انصر عبادك المُسلِمين في كل مكان، اللهم انصرهم على مَن عاداهم، اللهم ألِّف بين قلوب عبادك المُوحِّدين، وأصلِح ذات بينهم، اللهم وأدِر دائرة السوء على أعدائك، أعداء الدين، أحصهم عدداً، واهلكهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، فإنهم لا يُعجِزونك، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(21/2/2003)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: