إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ۩ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ۩ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۩ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۩ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

يُقال إن الانتفاع بالشيئ ليس فرع العلم به، وبالتالي ليس فرع تصوره، وهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، ذلكم أن هناك الألوف بل الملايين من الأشياء وحقائق الأشياء لم يُمكِن ولا يُمكِن الانتفاع بها إلا بعد معرفة قوانينها ودساتيرها، تاريخ الاكتشاف والاختراع يُؤكِّد هذا، هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه، ولكن فيما يخص الأشياء التي دخلت بالفعل – ليس بالإمكان، ليس بالقوة، وإنما دخلت بالفعل – دائرة المُسخَّرية – كل ما في السماوات وما في الأرض مُسخَّر للإنسان، مُسخَّر لكي ينتفع به الإنسان، لكي يرتفق به الإنسان أو يرتفقه الإنسان – هذا صحيح، ولكن هناك أشياء كثيرة، لم يرتفقها الإنسان، لأن ارتفاقها والانتفاع بها وقف على ومشروط بــ ماذا؟ معرفة دساتيرها وقوانينها، لكن هناك أشياء أُخرى بلا شك فعلاً هي من يوم أنشأها الله ومن يوم خلقها الله وبراها – سُبحانه وتعالى – دخلت في المُسخَّرية للإنسان، كالجاذبية – مثلاً -، كالجاذبية وككل العوامل التي جعلت حياتنا مُمكِنة على هذا الكوكب، هذه داخلة في المُسخَّرية، مَن الذي يعرف – مثلاً – حقائق الجاذبية معرفة دقيقة من عوام الناس؟ تقريباً لا أحد من عوام الناس، فقط قلة مُتخصِّصة من العلماء تعرف بعض الأشياء، ولا يعرفون كل شيئ، ولكننا عرفنا الجاذبية وقوانينها أم لم نعرفها نحن ننتفع بها بلا شك، ونعيش بفضل هذه الجاذبية، كذلكم ما يتعلَّق بمُكوِّنات الغلاف الجوي، وهي كثيرة جداً، نسب الغازات – مثلاً -، ميلان الأرض على محورها، هناك ثلاث وعشرون درجة تقريباً على المحور الوهمي، أشياء كثيرة، مئات الألوف من العوامل، يسَّرت حياتنا وجعلتها مُمكِنة على هذا الكوكب، عرفناها أو لم نعرفها نحن ننتفع بها ونعيش في نعمة مُسخَّريتها دون أن نعرفها، هذا أضعف الإيمان، وبلا شك هذا صحيح.

ماذا نعرف عن قوانين بدننا؟ ماذا نعرف عن قوانين أجسامنا؟ ماذا نعرف عن فسيولوجيا الجسم – علم الفسيولوجيا Physiology – أو وظائف الأعضاء؟ ماذا نعرف؟ علماء الوظائف يعرفون أشياء، ويجهلون أشياء أكثر بكثير، بالمُستطاع أن يُقال وأن يُقطَع القول إن ما عرفه الإنسان من حقائق الكون والوجود وحقائق نفسه وبدنه قياساً إلى ما لم يعرفه يُعتبَر قطرة في بحر، ما لم يعرفه هو أكثر بكثير، كل ما عرفناه وما سنعرفه سيبقى مُؤشِّراً على جهلنا، أي Index، سيبقى مُؤشِّراً على جهلنا، دالة – أي Function – على جهلنا أيضاً بالمعنى الرياضي أو الرياضياتي بلا شك، فما الذي نعرفه من حقائق عمل أعضائنا خلافاً للمُتخصِّصين وهم قلة؟ تقريباً لا شيئ.

ومن هنا إلحاح القرآن في آي كثيرات مُبارَكات على أن ننظر، على أن نُفكِّر، وعلى أن نستحضر نعمة أننا مغمورون في نعم الله السابغة علينا، علينا أن نُؤدي ولو بعض حق شكرها، يقول – تبارك وتعالى – قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۩، نحن نسمع، لكن لا نكاد نُفكِّر في هذه النعمة، كيف نسمع؟ كيف يتأتى لنا أن نسمع؟ وهي مسألة أكثر من إعجازية، وحقاً ليست مفهومة.

قبل أكثر من سنة تقريباً عقدنا خُطبة ومُحاضَرة تلتها عن نعمة البصر، وانتهينا مع كبار علماء الفسلجة – أي الفسيولوجيا Physiology ووظائف الأعضاء – في العالم مثل بنفيلد Penfield الذين حصلوا على جائزة نوبل Noble في هذه المجالات إلى أننا لا نفهم كيف نرى، هم لا يفهمون، انتبه! الطبيب الذي يقول لك سأشرح لك هذا جاهل، هذا جاهل كبير، يظن أنه يفهم، وهو لا يفهم، العلماء الذين وضعوا هذه العلوم ودساتيرها لا يفهمون، ما الذي تفهمه؟ أنت تصفه، هذا Description، العلم دائماً هو مُجرَّد وصف، سننتهي في آخر الخُطبة إلى هذه المُقدَّمة، ثمرة الخُطبة هي هذه الحقيقة، ما الذي نفهمه؟ وإلى أي حد نفهم؟ نحن لا نكاد نفهم شيئاً، كل فهومنا ومداركنا وحقائقنا التي نعتبر أنها حقائق نهائية هي أمور وسيطة، أمور وسيطة تنتهي بجهلنا، العلم لله والعلم عند الله، مساكين نحن! لكن نحن نُعزي أنفسنا، نُعزي أنفسنا، نُسليها، نُشعِرها بالفرح والانبساط، بسبب أنها تعلم وتكشف السر!

هذا الذي نعلمه ما هي الوظيفة التي يُؤديها؟ سوف نرى في آخر الخُطبة، يدلك على ما لا يُحاط به، على الله، لا إله إلا هو! يدلك على ما تجهل تماماً وعلى ما لا يقبل الإحاطة به، لا إله إلا هو! هذه وظيفة الجهل الذي هو العلم، أن تعرف الله – تبارك وتعالى -، وحتماً لابد أن تنتهي إلى هذه النتيجة إذا كنت تعقل جهلك وتعقل هذا الذي تدّعي أنه علم ومعرفة وحقائق، كلها بسيطة، مُؤشِّرات جهل، دالات جهل، وهكذا!

إذن كبار العلماء يُقِرون بكل تواضع العلم – لأن العلم الحقيقي هو المُتواضِع – أنهم لا يفهمون كيف نُبصِر، مَن الذي يفهم كيف نُبصِر؟ لا أحد، لا أحد يستطيع أن يُقدِّم لنا نظرية، اتركنا من كل الكلام الفارغ هذا والأضواء والانعكاسات والشبكية وما إلى ذلك، كل هذا معروف، الذين ابتدعوا هذه العلوم قالوا لا نفهم، نحن نصف، لكن كيف يتم هذا؟ كيف يتم لكتلة لحمية هُلامية أن ترى الأضواء والألوان وهي مُظلِمة جداً – ظلام دامس في الداخل -؟ كيف؟ كيف تُميِّز؟ بنفيلد Penfield يقول لا أفهم، ولا أظن أن أحداً سيفهم، يقول هذا، هذه مسألة إعجازية، أنت تصف وتقول ويحدث ترجمة لهذه الإشارات في المُخ، فكيف يحدث هذا؟ تصف أيضاً كيف يحدث، لكن كيف يتحوَّل هذا إلى إدراك للألوان والأحجام؟ لا أحد يعرف، الله هو الذي يُبصِّرنا، تماماً كحقيقة أنه هو الذي يُسمِعنا، وحين يشاء ألا يُسمِعنا لن نسمع، إذن ما هو السمع؟ السمع ليس مُجرَّد دخول ما يُعرَف بالموجات الصوتية بتردداتها المُختلِفة من ستة عشر تردداً إلى عشرين ألف تردد، وهذا هو نطاق السمع الإنساني، ما قل عن ذلك لا نسمعه وكذلك ما كثر عن ذك، إذن من ستة عشر تردداً – ليس من ستة، لأن عند ستة لا نسمع، وإنما من ستة عشر تردداً – إلى عشرين ألف تردد، ما زاد لا نسمعه، وما نقص لا نسمعه، وهنك أصوات دون هذا الحد، كثيرة جداً، تزحم الكون، ولا نسمعها، وهناك أصوات أو بالأحرى ترددات – ليست أصواتاً، انتبهوا! هي ترددات، هذا خطأ، هذا التعبير خاطئ علمياً وفكرياً، هناك تردادات – أكثر من عشرين ألف يزخر بها الكون، هذه لا نلتقطها، لسنا مُهيأين، نشأتنا لا تسمح لنا بذلك، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ۩، هذه المجعولية لا تسمح بهذا، هناك حدود، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩، وسوف نرى في آخر خُطبتنا – إن لم تخنا الذاكرة – أنه يُمكِن تفسير هذه الآية في ضوء ما سنقف عليه اليوم، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩ – اليوم سنقف على تفسير جديد أيضاً، والآية تحتمل المعنيين، وربما غيرهما أيضاً – ما كان لهم إدراك الخيرة، لن تفهموا لماذا جعلنا الأمور على هذا النحو، لأن في الحقيقة لم يقل أحد إنه شريك لله في الخلق، حتى كفّار العرب في الجاهلية، لا! هم أفردوا الله بالخالقية، إذن هو الذي يخلق ويختار، لم يقل أحد أنا شريك معه في الاختيار، لم يقل أحد هذا، إنما الله يقول مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩، أي ما كان لهم أصلاً أن يفهموا حتى خيرتنا، لماذا جعلنا الأمر على هذا النحو؟ لن يفهموا، وربما لن يفهم أحد إلا أن يشاء الله، لأن الأمر أكبر من العقل، وهذا كله كلام جُملي عام، الآن سيأتيكم بيانه – بإذن الله تبارك وتعالى، ومنه نستمد الحول والقوة والتوفيق والتيسير، آمين -.

إذن هذه الموجات أو الترددات الصوتية يلتقطها جهاز السمع في الإنسان، يقولون الترددات الصوتية، وهذا غير صحيح، المفروض ألا يُقال ترددات الصوت، هو ليس صوتاً الآن، مُجرَّد ترددات، هذه موجات ما، لكن هذا بسبب قصور اللُغة، يُمكِن أن نُسميها شيئاً آخر بغير الموجات الصوتية، وهذا أفضل حتى نكون دقيقين فلسفياً، هذه الموجات يلتقطها جهاز السمع في الإنسان، والذي ينقسم إلى الآتي، وطبعاً لن نخوض هنا في تشريح جهاز السمع، مسألة مُعقَّدة جداً، والأُذن عموماً أكثر تعقيداً من العين، أكثر تعقيداً من العين! مُعقَّدة جداً جداً، مع أن الخلايا السمعية أقل بكثير من الأقماع والعصي في العين – مثلاً -، بكثير! حوالي خمسة وعشرين ألف إلى ثلاثين ألف خلية سمعية في الأُذن الباطنة، لكن ليست هذه المسألة، المسألة أعقد من هذا بكثير، سنُبسِّط! جهاز السمع أو الأذن تنقسم إلى ثلاثة أقسام ببساطة، الأُذن الخارجية، الأُذن الوسطى، والأُذن الباطنة.

الأُذن الخارجية تتكوَّن من هذا الصيوان الغضروفي، تتكوَّن من هذا الصيوان ومن القناة السمعية التي تأخذ بميل وبانحدار، ويبلغ طولها سنتيمترين ونصف السم CM فقط، وهذا من رحمة الله، لو كانت مُستقيمة لتعرَّضت طبلة الأذن – أي الــ Eardrum – لأي مخاطر مُحتمَلة وبسرعة قد تتهتَّك، لأنها غشاء – هذا الغشاء الطبلي – رفيع جداً، ليس ثخيناً، ولكنه قوي جداً، غشاء مطاطي، غشاء مطاطي رفيع جداً جداً، أقل من الملليمتر Millimetre، أقل بكثير! أقل بكثير منه ولكنه صُلب كالحديد، وهذا عجيب، سُبحان الله، صُلب كالحديد، ولكن يُمكِن أن يتهتَّك طبعاً، بأي درجة قوية يتهتَّك، هو صُلب كالحديد بالنسبة لثخانته، لأنه ليس ثخيناً، والكلام هنا نسبي، صلابته إذا ما قيست بحديد في ثخانته دلت على أنه أقوى من الحديد أو كالحديد، لكن ثخانته يسيرة جداً جداً، هذا غشاء الطبل.

إذن الأُذن الخارجية هي الصيوان ومجرى السمع، أي القناة السمعية هذه التي يبلغ طولها سنتيمترين ونصف السم CM، هذه الأُذن الخارجية، تنتهي بغشاء الطبل، لتبدأ بغشاء الطبل الأُذن الوسطى، إذن تُوجَد هذه الطبلة أو غشاء الطبل – الــ Eardrum أو الــ Tympanic Membrane -، وبعد ذلك هناك ثلاث عُظيمات، هي أصغر عظام الجسم على الإطلاق، تُسمى عُظيمات، هل هي عُظيمات؟ أصغر عظام الجسم على الإطلاق، ثلاث عُظيمات، أولاها مُرتكِزة على قاعدة غشاء الطبل، وتُسمى المطرقة، مثل الهامر Hammer، المطرقة! شكلها شبيه بهذا، تتمفصل عليها عُظيمة أُخرى صغيرة تُسمى السندان، تتمفصل عليها بطريقة مُعجِزة مُدهِشة عُظيمة ثالثة تُسمى عُظيمة الركاب، مثل ركاب الخيل، الركاب الذي تُوضَع فيه الرجل، أي الغرز، مثل الغرز أو الركاب، لذا تُسمى عُظيمة الركاب، تتموضع عُظيمة الركاب وتتمفصل على ما يُسمى بالكوة، غشاء آخر بيضي الشكل أو بيضاوي الشكل يُسمى الكوة أو النافذة البيضية أو البيضاوية.

الثلاث العُظيمات كلها مع بعض طولها مُمتدة لا يبلغ اثنين سنتيمتر Centimeter، أي تسعة عشر ملليمتراً Millimetre، الثلاث العُظيمات! أما وزنها مُجتمِعة فهو خمسة وخمسون ملليجراماً Milligram، صغيرة جداً جداً جداً، هذه مُدهِشة، الآن سوف نرى ما وظيفتها، مُدهِشة وعجيبة، سُبحان مَن خلقها، إعجاز! 

في كل ثانية يُولَد ثلاثة أطفال في العالم، في كل ثانية! حين قلت في كل انتهت الثانية، يُولَد ثلاثة، وكل طفل من هؤلاء الأطفال هو عالم بحياله، هو مُعجِزة مُدهِشة جداً، شاهدة بفقاعة وبنصاعة وبوضوح وبمُباشَرية على الحكمة والتدبير والاقتدار وبداعة الصنعة الإلهية، في كل ثانية! 

نحن نتحدَّث الآن عن شيئ بسيط يتعلَّق بجهاز السمع المُعقَّد جداً، وهناك عضلتان، عضلة تُسمى عضلة المطرقة، لها علاقة بالمطرقة، يُغذيها أحد الأعصاب، وعضلة أُخرى تُعرَف بالركاب، بعظمة الركاب، هذه هي الأُذن الوسطى، بعد ذلك تبدأ الأُذن الباطنة، بالكوة البيضية، فوقها الكوة الدائرية، وفي الداخل هناك ما يُعرَف بالحلزون، أي الــ Cochlea، يُسمونه هنا الــ Schnecke، لأنه مثل الحلزون، أي شكله، يدور دورتين ونصف الدورة، ويُقسَم في الداخل بغشاء إلى قسمين، عُلوي وسُفلي، والعُلوي ينقسم إلى قسمين، هذه مسألة مُعقَّدة في التشريح على كل حال.

وهناك – فوق هذا الحلزون أو القوقعة – جهاز آخر اسمه جهاز التوازن، هذا يُعتبَر جهازاً، هذا يُعتبَر جهازاً وهو جهاز آخر، أي جهاز التوازن، وهو ما يُعرَف بالقنوات الهلالية أو نصف الدائرية، لأنها هلالية، مثل الهلال، وهي مُتموضِعة أو مُتوضِّعة لتُلائم الاتجاهات الثلاثة، كيف؟ إلى الأمام وإلى الخلف واحدة، إلى الشمال واليمين ثانية، إلى أعلى وأسفل الثالثة، هذه القنوات الهلالية، قصة هذه تحتاج إلى حديث بحياله.

وهناك طبعاً الرمال السمعية، هناك البلغم بأنواع منه، هناك نوعان مشهوران، هناك الأهداب، وهناك الخلايا المُستقبِلة وهي الخلايا السمعية، من خمسة وعشرين ألف إلى ثلاثين ألف خلية، وهناك مئات الألوف من الألياف، تنتهي بالعصب السمعي، الذي يُؤدي إلى مركز السمع في الفص الصدغي من الدماغ، ذاكم المركز يحتوي على عشرة ملايين وربع مليون خلية، كثير جداً هذا، عشرة ملايين وربع المليون من الخلايا، التي تستقبل هذه الإشارات، لأنها الآن ليست مُجرَّد موجات، أصبحت إشارات ونبضات كهربية، ما الذي حوَّلها إلى نبضات كهربية؟ العُظيمات الثلاثة، العُظيمات الصغيرة جداً جداً، ثلاث عُظيمات، خمسة وخمسون ملليجراماً Milligram، حوَّلتها من موجات بترددات مُعيَّنة إلى نبضات كهربية، ومن وسط إلى وسط، حتى تصل عبر العصب السمعي إلى مركز السمع في الفص الصدغي من الدماغ، حيث عشرة ملايين وربع المليون من الخلايا، المُستقبِلة للإشارات السمعية والمُرسِلة لإشارات الكلمات المنطوقة، هذه وظيفة مركز السمع، شيئ مُدهِش!

هذا تبسيط شبه مُخِل – إن شاء الله لا يكون مُخِلاً، لكن هذا تبسيط شديد جداً جداً – لتعقيد هذا الجهاز، ونعود الآن إلى العُظيمات، لكن قبل العُظيمات نبدأ نتساءل كيف تتم المسألة؟ يحدث اختلال أو ارتجاج أو تضاغط في الهواء حين يحدث ما يُنتِج هذه الموجات، تُسمى الموجات الصوتية، هكذا يُسمونها للأسف، الموجات الصوتية! لأن الصوت لا يكون صوتاً إلا بعد أن يُترجَم في الدماغ، قبل ذلك هو مُجرَّد موجات، مُستحيل! وأنت لو رأيتها بالعين هكذا ولست مُتخصِّصاً لن تعرف أنها موجات صوتية، بالعين لن تعرف إذا قدَّرنا ذلك أو افترضنا ذلك، تُترجَم في الدماغ إلى أصوات، وتُترجَم بطريقة مُدهِشة جداً جداً، دماغنا قادر على أن يُميِّز بين زُهاء أربعة وثلاثين ألف لحن، تختلف في الشدة، أي الــ Intensity، وتختلف في التوتر، أي الــ Frequency، يُميِّز بين أربعة وثلاثين ألف لحن! طبعاً التوتر أو التواتر هو ماذا؟ هو ما يُؤديه المنبر أياً كان – أي شيئ، منبع ضوئي أو منبع صوتي، إلى آخره – من تموجات أو دورات – هناك الدورة التموجية – في الثانية، أي من عشرين ألف أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف أو كذا، إلى آخره! يُسمى هذا التردد، أما الشدة – الــ Intensity – فهي كالآتي، يقولون لك شدة الصوت، وبعد ذلك يتكلَّمون عن عشرة ديسيبلات Decibels أو سبعين ديسيبلاً Decibel، ويقولون لك الحديث بين المُتحدِّثين بصوت عادي من ثلاثين إلى أربعين ديسيبلاً Decibel، هنا نقول الديسيبل Decibel، إن كان مُرتفِعاً فمن المُمكِن أن يصل إلى خمسين أو ستين، بعض حفلات الموسيقى الصاخبة تصل إلى أكثر من تسعين، وهذا إزعاج، هذه Loudness، هذه جهارة شديدة جداً، غير طيبة، المدافع من المُمكِن أن تصل إلى مائة وخمسين، المدفع هكذا! شيئ عجيب، وهذا طبعاً يُمكِن أن يُسبِّب ضراراً دائماً في جهاز السمع لدينا، هناك أشياء تصل إلى مائة وثمانين ديسيبلاً Decibel، وطبعاً هذه تُدمِّر بلا شك، إلى آخره! هذه الشدة، الشدة هي مقدار الطاقة التي تعبر مُتعامِدةً على اتجاه الموجة في وحدة المساحة في الثانية، هذه الــ Intensity، وهذه في الفيزياء، هذا علم آخر، علم الصوتيات هذا علم كامل، فيزياء الصوت تدرسونها وأكيد درستموها في الثانوية وفي غيرها، هذه فيزياء الصوت وهي علم كامل، هناك علوم، هناك علوم كثيرة، وهناك نظرية علم الصوت، شيئ مُختلِف تماماً، تتحدَّث عن البُعد الروحي للصوت، البُعد الروحي والعاطفي! نظرية عجيبة، مثل نظرية سامية ساندار، وأنا قرأتها ووجدت فيها العجب، وأخذت عليها جائزة ودرجة علمية من إحدى جامعات باريس في الثمانينيات، نظرية علم الصوت! هكذا تُسمى، علم الصوت هذا من أقسام الفيزياء، أما نظرية علم الصوت فهي شيئ مُختلِف، شيئ آخر، يتحدَّث عن البُعد الروحي للصوت، الصوت هذا شيئ عجيب، ضمير الكون.

ولذلك في الأديان كلها تم إحداث وإنشاء هذا الكون بماذا؟ بكلمة، كُنْ ۩، وفي الكتاب المُقدَّس في البدء كانت الكلمة، يقولون كانت الكلمة الله، وهذا كلام فارغ، لكن فعلاً في البدء كانت الكلمة، وهذا الكون كله أُحدِث بكلمة فعلاً، وهي كلمة كُنْ ۩، بكلمة تكوينية، لكن هل هي صوت؟ هذا شيئ آخر، هم يُبسِّطون القضية، لا! هذا موضوع آخر تشبيهي تجسيمي أنثروبومورفي – إن جاز التعبير -، فيه أنسنة لله، فلا نقع في هذا الخلط – إن شاء الله تعالى -.

على كل حال فصيوان الأُذن يستقبل هذه الموجات، يستقبلها! ترتطم بماذا الآن؟ بالطبلة، الطبلة تهتز، في الأفلام التعليمية أو في الوسائل التعليمية الأُخرى يُوضِّحون لنا أن هذا الغشاء – غشاء الطبل – يتحرَّك حركة ملحوظة، وهذا الكلام مُضِل إلى حد بعيد، لكنه تعليمي، لقصد تعليمي، مَن الذي يستطيع أن يلحظه؟! يهتز غشاء الطبل، كيف؟ بمقدار أنجستروم Ångström واحد، بعضهم قال جُزء من الأنجستروم Ångström، ما الأنجستروم Ångström هذا؟ هذا جُزء من مائة جُزء من الميكرون Micron، ما هو الميكرون Micron؟ الميكرون Micron جُزء من مليون من المتر Meter، هذا يعني أن هذا جُزء من عشرة مليارات من السنتيمتر Centimeter، غشاء الطبل يتحرَّك ومن المُستحيل أن تراه، في الأفلام العلمية والوثائقية يتحدَّث بشكل ملحوظ، أي غشاء الطبل، لكن هذا لكي نتعلَّم، لكي يتعلَّم الأطفال، لكن الأطباء وعلماء الوظائف يعرفون الحقيقة، ويتحرَّك بمقدار واحد على عشرة مليارات، أي واحد على عشرة آلاف مليون، بالأمريكي يُسمونه البليون، أي الــ Billion، عشرة بلايين Billions من السنتيمتر Centimeter، حركة من المُستحيل أن تُلحَظ، يستحيل! لكن هذه الحركة تجعلك الآن تسمعني وتجعلني أسمعك وتجعلنا نسمع حفيف الأشجار، أليس كذلك؟ وهمس الريح وصوت الورق حين نُقلِّبه، أدنى صوت نسمعه، لا إله إلا الله! ونُميِّز بهذه الحركة الضئيلة البسيطة جداً، واحد على عشرة مليارات – أو بلايين Billions بالأمريكي – من السنتيمتر Centimeter، هذا غشاء الطبل.

ولكن مُسطَّح غشاء الطبل يُشكِّل عشرين ضعفاً لمُسطَّح قاعدة الركاب، الذي يستند على ماذا؟ على الكوة البيضية هناك، وبينهما السندان، ولذلك يتحرَّك الآن عظم أو عُظيمة المطرقة، تتحرَّك! فتتحرَّك عُظيمة مُتمفصِلة عليها، أي السندان، فيتحرَّك عُظيم أو عُظيمة الركاب، يتضاعف الآن الصوت عشرة أضعاف، هذا الغشاء أكبر بعشرين ضعفاً من قاعدة الركاب، يتضاعف الصوت عشرة أضعاف، وإلا لما سمعنا طبعاً، هو لا يدخل كما تتخيَّل أنت، هو يُكبَّر في دماغك هنا، ومن ثم تسمع جيداً، لأنه يُكبَّر في الدماغ هنا، وهو شيئ بسيط جداً جداً، لا إله إلا الله! مسألة غريبة، السمع والأبصار من آيات الله، ودائماً الله – عز وجل – يُقدِّم السمع على البصر، عموماً السمع مُفرَد والأبصار جمع، في مُعظَم آيات كتاب الله نجد كلمة الأبصار، يقول الأبصار الأبصار الأبصار، قل أن نجد البصر، هذا قليل، لماذا؟

ببساطة أنتم الآن هنا بضع عشرات أو بضع مئات تسمعونني، كل منكم يرى شيئاً مُحدَّداً بحسب زاوية النظر، بحسب الــ Perspective الخاص به يرى شيئاً مُختلِفاً عن الآخر، وكلكم تسمعون نفس الشيئ، فالسمع مُوحَّد لكن الأبصار ليست كذلك، هذا هو – مثلاً -، هناك حكم أُخرى لكن لا نُريد أن نُطوِّل، ليست هذه قضيتنا، لكن لماذا يُقدِّم السمع على الأبصار؟ هذا سر إفراد السمع وجمع البصر، سمع وأبصار، هذا فهمناه، لكن لماذا يُقدَّم؟ من ناحية تكوينية جهاز السمع يكتمل وظيفياً في الأسبوع العشرين من عمر الجنين، يكتمل! أما جهاز الإبصار فيكتمل في المُتوسِّط في اليوم الأربعين ربما – هذا كحد أعلى – بعد ميلاد الجنين، بعد الميلاد! بعض الناس ينتظر إلى اليوم الأربعين، بعد ذلك لو لم يكتمل سيعني ذلك أن هناك مُشكِلة، أما جهاز السمع فليس كذلك، يكتمل في الأسبوع العشرين، وهذا من رحمة الله، لكي يأتنس هذا، بعض الخلايا الدماغية الآن جاهزة للالتقاط، ويبدأ الجنين خاصة في الأسبوع الرابع والعشرين يتأنس، يأنس يا جماعة، يأنس ويألف صوت سريان دم أمه والدم عموماً في المشيمة والرحم، يسمع هذا، سريان الدم يتأنس به، يسمع صوت ضربات قلب أمه، ويتأنس بهذا جداً، ويسمع أشياء أُخرى.

ولذلك الأطباء يستغلون هذه الحقيقة للقيام الناجح بالتشخيص المُبكِر للصمم، هل هذا الجنين أصم أو سميع؟ يعرفون هذا، طبعاً يعرفون هذا بالموجات فوق الصوتية – الــ Ultrasound هذا – التي يُرسِلونها، المفروض الجنين إذا كان سميعاً وليس أصم أنه يتأثَّر بهذا، فإذا التقط هذه الموجات يزداد نبض القلب، ويختلف ضغطه، فيعرفون أنه يسمع، إذا لم يتغيَّر النبض ولا عدد دقات القلب يعرفون أنه أصم، يعرفون! من الأسبوع الرابع والعشرين يقول الطبيب للأسف هذا طفل أصم، لا يسمع، يعرفون هذا، علم! سُبحان الله العظيم، يعرفون هذا.

يتأنس هو بهذا، فإذن جهاز السمع تكوينياً يتم وظفياً أو وظيفياً قبل جهاز البصر، ولذلك القرآن يُقدِّمه دائماً، يقول السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ۩، السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ۩، ثم إنه أهم أصلاً، ومن ناحية وظيفية هو أهم، كم من العباقرة الذين فقدوا السمع؟ كم يُمكِن أن نعد؟ على أصابع اليدين، الصم العباقرة قليلون جداً جداً، كم العباقرة والنُبغاء من الذين فقدوا البصر! بالآلاف، بالآلاف حول العالم، مَن فقد حساً فقد علماً، يقول اليونانيون مَن فقد حساً فقد علماً، لكن مَن فقد حس السمع فمُصابه أعظم بكثير مِمَن فقد حس البصر، هذا معناه أننا نتعلَّم عبر وسيلة السمع أكثر بكثير مما نتعلَّم عبر وسيلة البصر، يُمكِن لفقد البصر أن يتعلَّم ويتعلَّم الكثير ويُصبِح نابغة في الشعر أو في العلم أو في التاريخ، وخاصة في المحفوظات، وفي أشياء أُخرى، ولكن مَن فقد السمع يندر جداً جداً – حالات نادرة – أن ينبغ، هذا صعب جداً، لذلك السمع أهم، فهو آية من أعظم آيات الله – تبارك وتعالى -.

الآن يتضاعف، طبعاً – انتبهوا – أوساط الأُذن مُختلِفة، منها ما هو عظام وغضاريف، أليس كذلك؟ منها ما هو هواء، كمجرى السمع، هذا هواء، مجرى هوائي، هواء عادي، منها ما هو عظام – كما تعرفون – وغضاريف، منها ما هو سوائل كالبلغم أو اللمف Lymph، موجود هذا بأنواعه، أنواع منه موجودة في الأُذن الباطنة، موجودة! لماذا؟ حتى تتضاعف سرعة الصوت أيضاً، تصل بسرعة شديدة، الصوت في الهواء سرعته ثلاثمائة وأربعون متراً Meter في الثانية، أي حوالي ألف ومائتين وخمسين كيلومتراً Kilometer في الساعة، ثلاثمائة وأربعون متراً Meter في الثانية تُعادِل تقريباً ألف ومائتين وخمسين كيلومتراً Kilometer في الساعة – أقول كيلومتراً Kilometer، وليس متراً Meter طبعاً -، جميل! فسرعته تصل إلى ثلاثمائة وأربعين – كما قلنا – متر Meter في الثانية في الهواء، لكن في الماء تصل إلى ألف وثلاثمائة متر Meter في الثانية، في الماء! في الحديد وفي الصلب ماذا؟ أسرع طبعاً، لماذا؟ لأن الصوت خلافاً للضوء يحتاج إلى وسط مادي ينتقل عبره وفيه، هناك تجربة الناقوس، وقد أجريناها ونحن صغار في المدارس، أي الناقوس المُفرَغ من الهواء، لا نسمع شيئاً، فيه جرس ولا نسمع شيئاً، وذلك حين نُفرِّغ الهواء في هذه التجربة المعروفة، يُمكِن بشمعة أن نُفرِّغ الهواء، ولذلك يحتاج إلى وسط مادي، لكن الضوء ليس كذلك، الضوء يسير في الحالتين، في مُفرَّغ أو غير مُفرَّغ يسير دائماً، عجيب الضوء هذا، حيَّر العلماء الضوء المُبهِر هذا والمُحيِّر، لكن الصوت يحتاج إلى ما ذكرنا.

إذن المادة، جُزيئات المادة هي التي تنقله، فكلما كان عدد أكبر منها مُتلاحِماً ينقله بسرعة، وهذا صحيح، لذلك أنت لا تستطيع أن تسمع القطار الآتي من بعيد وأنت واقف هكذا في الهواء، ضع أُذنك على قضبان السكة الحديد تسمع، تسمعه على بُعد عشرين أو ثلاثين كيلومتراً Kilometer، لماذا؟ لأن هذا حديد، الجُزيئات كلها مُتراصة، تنقل الصوت بسرعة أشد من الهواء طبعاً، في الهواء لا تسمع فعلاً، وهذا معروف.

ولذلك – سُبحان الله – أوساط الأُذن ليست كلها هوائية، تبدأ بالهواء، بعد ذلك هناك عظام وغضاريف، وبعد ذلك هناك سوائل، عجيب! وأيضاً تتضاعف قوته كما شرحنا لكم قُبيل قليل، هذه العُظيمات الثلاثة الصغيرة جداً جداً – خمسة وخمسون ملليجراماً Milligram وزنها، تسعة عشر ملليمتراً Millimetre طولها، مُمتَدة ثلاثتها – هي التي تُحوِّل هذه الموجات الصوتية إلى نبضات وإشارات كهربية، تنتقل في أوساطها إلى العصب السمعي، إلى المركز السمعي في الفص الصدغي من الدماغ، هذه هي!

إذن كيف تهتز هذه؟ كم اهتزازها حتى تستطيع أن تُدرِك بسرعة؟ شيئ مُحيِّر، تهتز عشرين ألف اهتزازة في الثانية، تخيَّل! تخيَّل أن هذه العُظيمات الصغيرة بدءاً من المطرقة فالسندان في الركاب تهتز في الثانية الواحدة عشرين ألف اهتزازه، أي أسرع من أسرع موتور Motor سيارة آلاف المرات، شيئ غريب! تهتز عشرين ألف اهتزازه في الثانية، لكن ليس هذا المُعجِز فقط، المُعجِز أنها تفعل هذا أبداً، ليل نهار وباستمرار، لا تتوقَّف، الله أكبر! ما هذا؟ مُسخَّرية، هذه مُسخَّرية، هذا شيئ مُسخَّر، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ ۩، يُريدك أن تسمع، لكن لا أن تسمع الباطل والسُخف والكلام الفارغ، تسمع الحقائق واللطائف والمعارف.

ابن عباس كان يمشي في الأسواق ويضع أُصبعيه في أُذنيه، يقول أُنزِّه سمعي عن سماع الخنا، يعرف أنه يُؤثِّر فيه ويُؤثِّر في قلبه، يُسمِّم نفسه وروحه، يسمع فقط القرآن، العلم، الأدب، الشعر، والأشياء المُفيدة الطيبة كالصلح بين الناس، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ۩، ثلاثون ديسيبلاً Decibel النجوى هذه، الهمس Whisper، إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، وهذا – بإذن الله – يُحافِظ على سمعك، يتبارك سمعك بهذا – بإذن الله تعالى – طبعاً، الجزاء من جنس العمل، تُمتَّع بسمعك وبصرك، ويكونان الوارث منك كما كان يدعو المُصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم -، واجعلهما الوارث مني، يعرف حجم وجسامة وخطورة نعمتي السمع والبصر، بارك لي في سمعي وبصري واجعلهما الوارث مني، أي أحيهما وأصحهما لي وعافهما حتى بعد أن أتولى وأموت، ليبقى سمعي عاملاً شغّالاً، وهذه مُبالَغة، النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يُبالِغ في هذا، لكي يلفت نظرنا إلى خطورة هاتين النعمتين، نعمتان عظيمتان جداً، تهتز عشرين ألف اهتزازة في الثانية، وتفعل هذا – أي هذه العُظيمات – بشكل مُستمِر، هل تعرف لماذا؟ لأن هناك أصواتاً بشكل مُستمِر، هناك أصوات ضئيلة جداً جداً، أنت تنام الآن في غُرفة النوم، إلى جانبك – مثلاً نفترض – جهاز مُعيَّن في غير حالة التشغيل، لكن تسمع صوت التيار الكهربائي، تسمع هذا بدقة، في الليل الدامس الطامس الهادئ الساجي تسمع صوت ساعة الحائط بشكل مُزعِج جداً جداً، صوت الهواء في الخارج، وصوت سيارة بعيدة تشق الشارع، تسمع هذا تماماً.

ولذلك الإنسان كيف نُوقِظه من نومه؟ بالصوت، العين نائمة، الأُذن لا تنام، حتى في النوم! ولما أراد الله – عز من مُريد – أن يُنيم أصحاب الكهف ثلاثمائة سنة ضرب على آذانهم، قال لتسكت هذه العُظيمات، ليسكن ويسكت جهاز السمع، حتى يناموا، وناموا ثلاثمائة سنة، قال فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ ۩، انظر إلى الإعجاز، لا إله إلا الله! وإلا فهذا الجهاز يعمل ليل نهار، لا ينام! عشرون ألف اهتزازة أو حركة في الثانية، وليس هذا فحسب، ما يأتيكم لا يزال أعجب وأعظم.

الآن بعض الناس يجلسون قُبالتي، بعضهم عن يميني وبعضهم عن يساري، أليس كذلك؟ وتتحرَّك هذه الموجات، وتنتشر بسرعة طبعاً، تردداتها معروفة، جميل! بعضها يأتي ويلتقطه صيوان الأُذن اليمني، والبعض الآخر يلتقطه صيوان الأُذن اليسرى، هناك فارق بلا شك، وهذا الفارق لا يُؤثِّر، كأننا نلتقط الصوت الواحد في وقت واحد، لكن هذا لا يحدث، الأُذن جهاز شديد الرهافة والحسّاسية والدقة والتميزية بحيث أنه إذا استقبل صوتين مُختلِفين من منبعين مُختلِفين يستطيع أن يُفرِّق بينهما زمنياً، أي الصوتين قبل؟ كم؟ هل نُميِّز بنسبة ثانية واحدة؟ لو كان هذا ما يحدث لمتنا ونحن نعبر الشوارع كما قالوا لك، هذه مسألة مُعجِزة، بنسبة واحد على مائة ألف من الثانية، عجيب! تستطيع أن تُميِّز الفرق بين صوتين بنسبة تُساوي أو تُضاهي واحداً على مائة ألف من الثانية، كيف هذا؟ ما سرعة انتقال هذه النبضات وترجمتها في الدماغ بالشكل هذا؟ شيئ مُحيِّر ومُذهِل، هذه الحقيقة!

ولذلك قالوا وهذا كان وهو ضروري جداً لكي نعيش، لكي نكون بشراً ونعيش على الأرض هذه، لكي نعبر الشارع – قالوا لك – نحن مُضطَرون ومُحتاجون إلى هذه الخاصية، ولك أن تتخيَّل هذا، كم مرة عبرنا فيها الشوارع! لم نُفكِّر مرة في مدى هذا الإعجاز، أي نظن أن العملية سهلة، لكنها ليست كذلك، تحتاج إلى هذا، لكي تعبر الشارع بأمان تحتاج إلى هذه الرهافة والحسّاسية والسرعة السريعة العجيبة، تُميِّز بنسبة واحد على مائة ألف من الثانية، وتُميِّز الأُذن – كما قلت لك – أو الدماغ في الحقيقة يُميِّز بين أربعة وثلاثين ألف لحن مُختلِفة في الشدة والتوتر، في الشدة والتوتر معاً! يُميِّز بين أربعة وثلاثين ألفاً.

وهذا الصوت الذي نسمعه ونُميِّز به نستطيع أن نُميِّز به حقائق عجيبة، شخصية، اجتماعية، وسيكولوجية، يقول علماء علم الصوت من خلال الصوت بنسبة ثلاث وتسعين في المائة – من خلال الصوت وحده، دون نرى الجسم أو الشاخص أو الشكل أو المنبع الإنساني – نستطيع أن نُميِّز هل هذا صوت ذكر أو أُنثى، بنسبة ثلاث وتسعين في المائة، أحياناً يكون هناك رجال يغلب عليهم المُؤثِّرات والهرمونات الأنثوية، نظن أنهم نساء وهم رجال، والعكس صحيح، لكن هذه بنسبة سبع في المائة فقط، فيما عدا ذلك يحدث العكس، نستطيع أن نُميِّز، من خلال الصوت.

والأعجب من هذا أن بنسبة تسعين في المائة نستطيع أن نتعرَّف جُملياً أو إجمالياً على طبيعة الشخصية أمامنا، تسمع الصوت فتقول هذا شخص – مثلاً – مُكتئب، هذا شخص مُتحمِّس، هذا شخص نشط Aktiv، هذا شخص إنطوائي وسلبي Passiv، من خلال الصوت! طبعاً الحالة الصحية أو الحالة النفسية تظهر، بمعنى أنه الآن – مثلاً – يبدو مُحطَّماً، لكن هو شخص حماسي، والآن هو مُحطَّم، أيضاً نستطيع أن نتعرَّف على ذلك بنسبة أيضاً مُقارِبة للتسعين في المائة، شيئ غريب! لكن هذا المُدرَّب طبعاً، نحن إلى تدريب قليلاً وذكاء، لابد أن نستخدم ذخيرتنا للمعلومات وما إلى ذلك بذكاء، ومن ثم نستطيع أن نعرف هذا، وطبعاً كلنا بالمُناسَبة نتمتَّع بمُمارَسة هذا، تقول لأحدهم ما لك؟ عبر التليفون Telephone، يقول لك السلام عليكم، فتقول له ما لك؟ أرى أنك مُحبَط، هل أنت تراه؟ أنت تسمعه، لكنك تقول له أرى أنك مُحبَط، وهذا صحيح، أنت تراه، تراه بأُذنك وبدماغك، تقول له أرى أنك مُحبَط، وفعلاً هذا صحيح، فيقول لك هذا لا يهم، دعها على الله، فتقول له لا، لابد أن تقول لي ما الأمر، أي أنك تعلم مُباشَرةً، حين يقول لك السلام عليك تقول له ما لك؟ من كلمة السلام عليكم تعرف أنه مُحبَط، هناك أمر ما، هناك شيئ غير طبيعي، أحياناً يتضاحك لك ويقول لك السلام عليك وهو يضحك، فتقول له لا، هذا غير طبيعي، أيضاً صوتك غير طبيعي، يتضاحك هو ويُمثِّل عليك دور الراضي السمح، لكنك تعرف الحقيقة، شيئ غريب، الصوت!

هذا له علاقة بجهاز الترجمة، أي الدماغ، وأيضاً بجهاز السمع، أي الأُذن، كيف تستقبل الأُذن هذه الترددات وهذه الذبذبات وتُحوِّلها بدقة رهيفة جداً جداً إلى نبضات، يستطيع الدماغ أن يتعامل معها، ويعرف أن هذا صوت إنسان من طبيعة كذا، في حالة نفسية كذائية؟ كيف؟ كيف يتم هذا؟ 

حتى لا نُطيل نُحِب الآن أن نُنهي بمُحاوَلة الإجابة عن هذا السؤال، طبعاً – انتبهوا – نحن تعوَّدنا إذا استمعنا أو إذا سمعنا كلمة سؤال أن تُؤشِّر دائماً إلى الجواب، لكن هذا غير صحيح، غير صحيح! وأنا أقول لكم في الحق أن مُعظَم ما يُطرَح من الأسئلة لا جواب عنه، نحن نظن أننا نُجيب عن كل شيئ، لكن هذا يقوله الجاهل، هذا يقوله العريق جداً والغريق في بحر جهالته، بالعكس! العلماء والمُفكِّرون والعارفون وحتى الأنبياء ليسوا كذلك، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ۩، هؤلاء يعلمون أن ما يجهلونه أكثر بكثير مما يعلمونه، وأن ما لا يعرفون جوابه أكثر بكثير مما يعرفون الجواب عنه.

هذا سؤال، هل له جواب؟ سوف نرى، كيف يتم هذا؟ أي السؤال ببساطة كيف نسمع؟ أقول لكم لا جواب، كل ما ذكرت – وهذا كلام الفسيولوجيا Physiology والتشريح وما إلى ذلك – هو كلام وصفي، هذا وصف Description، فقط يصف، يصف مراحل مُعيَّنة، المرحلة الأخطر – أي الحدية المصيرية – في معرفة الجواب هي في الدماغ هنا، في مركز السمع، عشرة ملايين – كما قلنا – وربع المليون من الخلايا، هنا! كيف يتم هذا؟ لا أحد يعرف، كيف تتم هذه الترجمة بالضبط؟ وكيف أيضاً في هذه الحجرة المُظلِمة وفي هذا الجُزء الهُلامي المُظلِم في القشرة السوداء – الــ Cortex – يتم ترجمة هذه الأشياء؟ أنت تقول لي هناك نبضات كهربية، فكيف تُترجَم إلى أصوات أعقلها وأفهمها وأعقل المعنى حتى من ورائها – كما تعقلون الآن الخُطبة هذه والكلام هذا -؟ كيف يتم هذا؟ لا أحد يعرف، تماماً كالبصر، لا أحد يفهم، لا أحد يعرف.

أقول لكم ليس هذا في السمع والبصر فقط، هذا في كل شيئ، الآن أنا أضغط على يدي فتنضغط، هناك المقولات المعروفة العرضية، أن يفعل وأن ينفعل، في علم المنطق، مقولات صحيحة هذه، وهي كُلية، أي لأنها مقولات كُلية في الإدراك، أنا ضغطت مقولة أن يفعل، الجلد انضغط مقولة أن ينفعل، لماذا ينفعل جلدي – مثلاً – أو عضو من أعضاء بدني بالضغط أكثر مما ينفعل الخشب؟ الخشب ينفعل بالمُناسَبة، فيزيائياً ينفعل وبلا شك ينضغط، لكن أنت لا تشعر به، ليس عندك الحسّاسية الكافية لكي تشعر به، لو ضغطت على الحديد الصُلب ينفعل أقل من انفعال الخشب، لماذا؟ هذه سهلة جداً جداً، حجم التلاصق والتماسك بين جُزيئات هذه المادة – اللحم أو العضل – أقل منه في الخشب، لماذا؟ السؤال يرجع مرة ثانية، ولماذا؟ لماذا حين يكون حجم التلاصق أقل يكون الانفعال بالضغط أقل؟ لكن العالم سيقول لك لا أعرف، كيف تقول لماذا؟ هو هكذا، وفعلاً هو هكذا، هو هذا، وهذا يعني أنك تجهل، أنت لم تفهم شيئاً إلى الآن، أنت فقط تصف، تصف الأشياء، لماذا كانت هكذا؟ لماذا الصُلب صُلب والسائل سائل والغاز غاز؟ شيئ قريب جداً من حجم التلاصق هذا، فلماذا إذن؟ لماذا إذا تلاصق أكثر يتماسك أكثر؟ ستقول لي هو هكذا، هو هكذا! لكن لماذا هو هكذا؟ مَن الذي هكَّذه هكذا؟ لماذا هو هكذا؟ لماذا لا يكون العكس؟ ستقول لي لا أعرف، هكذا تسمع أنت، لأنه هكذا، تتحوَّل هذه إلى إشارات، وتذهب عبر كذا وكذا، ثم تدخل، فيُترجِمها المُخ، لكن كيف يُترجِمها إذن؟ ولماذا يُترجِمها هكذا؟ ستقول لي هو (هيك) كما يُقال بالعامية، ما معنى هو (هيك)؟ مَن الذي (هكَّكه) (هيك)؟ مَن الذي هكَّذه هكذا؟ مَن الذي جعله على هذا النحو؟ هذا الجواب، وَجَعَلَ لَكُمُ ۩، انتهى الأمر إذن، وَجَعَلَ لَكُمُ ۩، ومَن الذي جعل؟ انتبه، نحن الآن دخلنا في قضية عرفانية فلسفية عميقة جداً، الذي جعل ليس طبيباً عظيماً، وليس خالقاً زائفاً، وليس عقلاً من مقاس عقولنا أو يُقارَن بعقولنا، الذي جعل اسمه رب العالمين، لا إله إلا هو! ولذلك لن نفهم، هذه هي فلسفة الخُطبة اليوم، لن نفهم! لأنه هو جعل هذا، واختاره هكذا، وأراده هكذا، لو كان عقله – والعياذ بالله، أعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – من مقاس عقولنا أو قريباً منها كنا سنفهم.

تسمعون عن نظام التكويد – من كود Code – أو الشفرنة، تشفير الأشياء بعشرة أرقام أو بعشرين رقماً أو بخمسين رقماً أو بسبعة أرقام لكن في ثلاثة مُستويات، سبعة وسبعة وسبعة، هذه قضية مُعقَّدة، ودائماً تُخترَق الشيفرات، أليس كذلك؟ أعجب الشيفرات تُخترَق، لا يُمكِن إلا هذا، اخترع أنت الآن شيفرة لنفسك، اخترع شيفرة لنفسك مُعقَّدة جداً جداً جداً من حروف جديدة تماماً، لا تُكتَب بشكل أُفقي ولا بشكل حتى عمودي ولا بشكل وتري، بل بشكل هندسي، وأنا دائماً أُفكِّر في شيفرة على هذا النحو – مثلاً – حين أُريد، ما معنى أنها بشكل هندسي – مثلاً -؟ مثلاً نفترض أنها تبدأ من الشمال إلى اليمين ثم تأخذ الوتر ثم تعود إلى أقصى ثم ترجع إلى جهة أُخرى، وهكذا بشكل مُعيَّن أنت تحفظه، ستجد مَن يفك هذه الشيفرة، ستُفَك بعد عشر سنين أو بعد عشر ساعات أو بعد كذا، الآن بالكمبيوتر Computer يُمكِن أن تُفَك بعد عشر دقائق، يحطون نماذج هم وافتراضات، ما الافتراض الذي بُنيت عليه هذه الشيفرة – الكود Code -؟ وطبعاً هناك رؤوس قُطِعت بسبب فك هذه الشيفرات في القرون الوسيطة، وهذا معروف، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا ذكاء إنساني، مَن شفَّر هذا ومَن صنع هذا المبدأ الذي انطلق منه وبنى عليه مبدأ قام به عقل إنساني، عقل من مقاسنا، نستطيع أن نفكه وأن نفهم لماذا وكيف، لكن كل شيئ صنعه الله – أنا أقول لكم – يختلف أمره، وهذا شيئ عجيب، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، في الأخير أنت في مشوار الفهم والتعليل الخاص بك – أي الــ Begründung الخاص بك، أنت تُعلِّل وتقول لماذا هذا؟ ولماذا هذا؟ ولماذا هذا؟ – ستصل دائماً في أصغر الظواهر وفي أكبر الظواهر إلى جدار، يقول لك Stop، لن تفهم، دخلت الآن إلى المرحلة الأكثر حراجة والأكثر أهمية لكي أفهم وأرتاح، لماذا هي هكذا؟ كيف تم هذا؟

ولذلك الفلاسفة العظام من العارفين في الشرق والغرب – حتى من المسيحيين، ليس من المُسلِمين فقط – يقولون لك أعظم سؤال على الإطلاق ولا يُوجَد أي جواب مُقنِع عليه هو لماذا كان الشيئ؟ فقط! كان هنا هي كان التامة، أي لماذا الشيئ كان شيئاً؟ وهذا – تفاصيل هذا السؤال – في كل ظاهرة، لماذا هذا بالطريقة هذه؟ لماذا ترددات مُعيَّنة تنعكس علينا وتُترجَم في الدماغ بلون أبيض في حين أن تردادت أُخرى نراها بلون أحمر وترددات أخرى نراها بلون آخر؟ لماذا؟ هو هكذا، لماذا؟ لماذا لا يكون هذا التردد هو الأحمر وليس الأبيض؟ لا تعرف لماذا، هو هكذا! الذي جعله – عز وجل – جعله كذلك، جعل دماغك يستقبل هذا الشيئ كذلك، وهذا يعني أن مفهوم اللون نفسه – أنا أقول لك – مسألة إلهية، ليست بشرية، وليست مفهومة، ومفهوم الصوت مسألة إلهية، ليست بشرية، وليست مفهومة، وكذلك مفهوم الضغط والانضغاط والقطع والاجتياز، وكل المفاهيم هذه الفيزيقية وغير الفيزيقية – نبدأ بالفيزيقي – سيتضح في الأخير أنها مفاهيم إلهية، وهي غير مفهومة، نُمارِسها ونتمتع بها ونفرح بها ونتسلى بها ونظن أننا فلاسفة وعلماء ونقول هذا فسيولوجي وهذا طبيب وهذا مُشرِّح وهذا هستولوجي وهذا كذا وكذا، ثم اتضح أننا لا نفهم شيئاً، نحن لا نفهم شيئاً! 

دائماً ننتهي إلى جدار الجعل، جُعِل كذلك، خُلِق كذلك، اختير كذلك، إذن وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩، صار معنى الآية في هذا السياق ما كان لهم أن يفهموا سر الخيرة وحكمة الخيرة، وليس ما كان لهم أن يختاروا في الخلق، لا! لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد مَن هو يشترك معه في الخلق، هذا معروف، والله يُخاطِب أُناساً أقروا له بالواحدية والفرادة في الخالقية، يُخاطِب هؤلاء، لكنه يقول أيضاً مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩، لن تفهم لماذا، يا ربي! هذا عجيب.

لماذا البيجبنت إذا كان مُتموضِعاً بحجم مُعيَّن يصير اللون غامقاً ويصير اللون فاتحاً إذا كان أقل؟ هو هكذا، لماذا لا يكون العكس؟ لا نعرف، هو هكذا، نحن نصف فقط، لذلك كبار فلاسفة العلم الذين يفهمون هذه الحقيقة – هم عركوها وعركتهم – قالوا لك نحن كعلماء لا نُعلِّل، مَن يقول لك أنا أُعلِّل هذا جاهل، أهبل هذا! هذا مشى خُطوة، ويظن أنه وصل إلى الصين بالخُطوة هذه، مشى خُطوة في طريق الصين فظن أنه وصل إلى الصين، أنت لم تخط إلا خُطوة من بليون Billion خُطوة، تخيَّل! وبعد ذلك حين تصل ستجد أنها أيضاً خُطوة وستعلم أنك لم تصل إلى الصين، لأن هذا الصين جدار إلهي، في الفيزياء اعترفوا، وقالوا لك نعم، هناك شيئ اسمه جدار بلانك Planck’s wall، نسبة إلى ماكس بلانك Max Planck، قالوا لك نعم، هناك شيئ اسمه جدار بلانك Planck’s wall، ما المقصود بجدار بلانك Planck’s wall؟ جدار بلانك Planck’s wall هو جدار يتوقَّف عنده العقل، انتهى الأمر، انتهى! يتوَّقف كل شيئ، لا تُوجَد لا رياضيات ولا قوانين فيزيائية، الكل سيصير صفراً ومن ثم ستقف وسترجع، لم يعد هناك مزيد فهم، لأن عقلك مُركَّب مخلوق ومصنوع لكي يتعامل مع العالم الطبيعي هذا في حدوده، ما بعد ذلك وما دون ذلك لا تقدر على فهمه، انتهى الأمر، هل فهمت؟

الآن – مثلاً – كلنا ببساطة لدينا مشاكل، وهذه مأساة الإنسان، هل تعرفون أننا إذا فهمنا هذا بعُمق تنحل قضايا ثيولوجية وعرفانية وفلسفية من أعمق ما يكون؟ بهذه الطريقة! أذكر مرة أنني عرضت شيئاً من هذا أمام أستاذنا الكبير الفيلسوف المسيري، فقام من فرحته، وقال مُستحيل، هذا يحل مشاكل أزلية، فقلت له طبعاً، وأنا أعرف هذا، يحل مشاكل أزلية لمَن يفهم هذا، هو كان يتحدَّث عن أزمته الفلسفية لأنه غير قادر على أن يحل مسألة مُعيَّنة، فقلت له هذا مفتاح الحل، فاستغرب! وهذا بسبب قصور العقل الإنساني، انتبهوا، كلما كنا أدرى وأكثر اطلاعاً بــ وعلى قصورنا كلما اقتربنا من المعرفة الحقيقية، وإلا نبقى ندور مكاننا للأسف الشديد.

سأختم بمثالين اثنين، كيف نتعاطى كلنا وتعوَّدنا وربما نُشِّئنا مع الأبدية على أنها زمان لا ينتهي؟ غير صحيح! الأبدية لا زمانية أصلاً، إذا تحدَّث عن الأبدية فأنت تتحدَّث عن شيئ لا مُتزمِّن، انتبه! إذن انتهى الأمر، ستقول لي هذا لا أستوعبه، ولا أنا أستوعبه، ولا أحد يستوعبه، كيف تستوعب هذا؟ نحن كائنات مُتزمِّنة، ونفكِّر – كما قال كانط Kant – ضمن مقولة الزمان والفضاء، رُغماً عنا هناك مقولات مُعيَّنة – أي Categories – نحن نُفكِّر ضمنها، لكن الأبدية شيئ خارج الزمان كله.

مثال آخر من علم العقيدة، وبه أرد على علماء ومشايخ إسلام، رحمة الله عليهم أجمعين، أنا أترضى على كل علماء الدين – إن شاء الله -، ولكل مُجتهِد أجر – بإذن الله -، علينا أن نكون رحيمين ومُتواضِعين، ولكن هذا ردي عليهم وعلى أمثالهم، إنقاذاً للحقائق من أن تشتبه بالأضاليل والأغاليط باسم الاجتهاد، لكن هو اجتهاد وصاحبه مأجور – إن شاء الله -، موضوع طبيعة علاقة الله بالكون وعلاقة الكون بالله من أكثر الموضوعات العرفانية واللاهوتية تعقيداً على الإطلاق، مُحيِّر! وسأُعطيكم الآن – بإذن الله تبارك وتعالى – مُحاوَلة، فإن تكن حقاً فهي من نعمة الله، وله الحمد والفضل على هذه المنّة، وإلا فهي من نفسي ومن الشيطان، الله بريء من ذلك ورسوله، مُحاوَلة سوف تجدون الآن أنها معقولة إلى حد بعيد جداً – إن شاء الله -، ما هي؟ 

انتبه، إذا أردت أن تتكلَّم عن طبيعة علاقة شيئين مُحدَثين من عالم الخلق – هما مخلوقان، هما مخلوقان لله – فنعم لابد أن تكون هذه العلاقة ضمن هذا السلم الاحتمالي، إما أنهما مُتداخِلان وإما أنهما مُتخارِجان، التداخل يبدأ بالتجاور والتلامس، وينتهي بالتمازج والتماهي، التخارج يبدأ بالتباعد، وينتهي بالتناقض، هذا صحيح، باختصار – باختصار فلسفي – هذا مُمكِن وهو صحيح، هذه علاقة الأشياء، لكن إياك أن تُفكِّر في علاقة مُبدِع الأشياء بأي شيئ أو بالأشياء أو بالكون كله ضمن هذه المقولات المادية، وإلا تكون ألحدت في الله، أنت لا تتحدَّث عن الله كشيئ، وبالتالي عن علاقة شيئ بشيئ، انتبه! لأنك قد تقول لي هذا بالعقل يا أخي، الله كان ولم يكن كون، هذا صحيح، وهذا نُؤمِن به نحن، لسنا وحدويين – وحدة الوجود – طبعاً، لا! ماذا بعد أن أبدع الكون؟ أين الكون؟ أين وضعه الله؟ إما أن يكون وضعه خارج ذاته، فالله محدود وله حدود – انظر إلى الكلام هذا، كلام فارغ هذا، هذا كلام إنسان ليس عنده ذرة تفكير فلسفي حقيقي -، وإما أن يكون وضعه داخل ذاته، فهو وهو مُتداخِلان، فهذه وحدة الوجود، هذا كله كلام فارغ، هذا الكلام يصح في حالة واحدة، انتبه! إذا كان الله شيئاً كالأشياء، لكن أنا سأقول لك الآن الله شيئ لا كالأشياء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، ألا يُؤشِّر هذا إلى احتمال مبدئي – مُباشَرةً يفرض نفسه عليك، يصرعك هذا، يصرعك هذا الاحتمال مُباشَرةً، من أول نظرة – كإمكانية – مثلاً – أن العالم لا يستطيع أن يتميَّز من الله؟ طبعاً، لأن العالم يقوم بالله، هذا صحيح، ولكن الله يتميَّز من العالم، تفضَّل! كيف هذا؟ نعم، هذا شيئ جديد، تتحدَّث عن لا شيئ، عن مُبدِع الأشياء، ولا تقل لي الله شيئ بالمعنى اللُغوي، الله قال قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۩، هذا كلام فارغ، أنا أتحدَّث بأُفق فلسفي ميتافيزيقي وهو أعمق قليلاً فانتبه، في نهاية المطاف الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، ولكن هذا جُزء الجواب عمَن وقع في ورطة تجسيم الله، وأتى ببعض البراهين وظن أنها مُقنِعة، ربما سنُلحِق – إن شاء الله – الجُزء الآخر لأن أدركنا الوقت في فُرصة أُخرى.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين، وأن يُعلِّمنا التأويل، وأن يفتح مسامع قلوبنا وأرواحنا ونفوسنا لمعارفه وألطافه الإلهية الصمدانية، وأن يجعلنا من خواص عباده العارفين به – سُبحانه وتعالى -، المُنزِّهين له حق تنزيهه، سُبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والكافرون علواً كبيراً.

أقول هذا القيل وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

وبعد، أيها الإخوة:

قبل أن أُغادِر ربما يسأل بعضكم ما دليلك على أن العالم لا يتميَّز من مُحدِثه – لا إله إلا هو – ولكن الله – عز وجل – يتميَّز من العالم الذي أحدثه؟ دليلي قوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩، به يقوم كل شيئ، ولا يقوم هو شيئ، فإذن كل شيئ لا يستطيع أن يتميَّز من ربه، والله يتميَّز من كل شيئ، علاقة عجيبة! غير كل العلاقات التي يُدرِكها العقل الهندسي والمنطقي والفلسفي العادي والميتافيزيقي الزائف، الميتافيزيقيا Metaphysics الحقيقية تُدرِك هذا، انتبهوا! حتى في الأديان الأُخرى الميتافيزيقا Metaphysics الحقيقية والميتافيزيقا Metaphysics الكاملة – أي الــ Perfect metaphysics – تُدرِك هذا، فنحن كأهل أديان علينا أن نكون على الأقل في مثل رقي هذا الفكر، لأننا أهل شعار  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩.

اللهم إنا نسألك أن تدلنا عليك دلالة الصادقين، وأن تهدينا إليك هداية المُهتدين، وأن ترفعنا إليك في مقام العارفين، هبنا الجد في خدمتك والصدق في خشيتك يا رب العالمين، اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أبرِم لهذه الأمة المرحومة المُصطفوية أمر رشد، تُعِز فيه أولياءك، وتُذِل فيه أعداءك، يُعمَل فيه بكتابك وسُنة نبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، وتأمن فيه سُبل المُؤمِين، يُتآمر فيه بالمعروف، ويُتناهى فيه عن المُنكَر، ويُدعى فيه إليك على بصيرة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يُزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(30/10/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: