إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائلٍ – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ۩ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ۩ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ۩ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ۩ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

قبل أسابيع منَّ اللهُ – تبارك وتعالى – علىّ ورزقني بطفلة فرحتُ بها فرحاً عظيماً ولكأنما هى أول مولودٍ يُولَدُ لي، هذا الكلام لو سمعه أجنبيٌ ليس فيه ما يُستغرَب بل الغريب ذكره، حريٌ به أن يسأل ولم تذكر هذا؟ ما الغريبُ في هذا؟ نعمةٌ عظيمة وجسيمة وجليلة أن تُرزَق بطفلة، لكن العرب الذين لا يزال أكثرهم للأسف يقفون موقفاً تمييزياً ضد الإناث يفهمون هذا، بالأمس – فقط بالأمس – حدَّثني أحدهم قائلاً كانت أمي تقول الأُنثى أصحنها وأجعلها دواءاً للذكر، الأم هى التي تقول هذا وليس الأب، فانظروا كيف فعلت الثقافة تحريفاً وتشويهاً لفطر البشر، هذه أُنثى وتقول هذا، يقول هذا الشخص أمي تقول هذا وليس أبي، ولكن أنتِ في البداية والنهاية أُنثى أيضاً، لكنها مُتحيزة ضد نفسها، الثقافة أعمتها حتى عن نفسها، فهذه هى الثقافة والناس يحترمون هذا المنطق في بلاد العرب وفي تقاليد العرب.

ما الجديد وما العبرة من هذا الموضوع؟ العبرة من هذا الموضوع كالتالي: لم لم تتحرَّف فطرتي على الأقل في هذا الباب؟ لا أخضع مُطلَقاً للتمييز بين الذكور والإناث، أفرح بهذا كما أفرح بهذا، فطرياً في نهاية المطاف هو ابني، لحمي ودمي، فطرياً يجب أن أهواه وأن أعشقه وأن أُحِبه، كائن ضعيف مهيض الجناح ليس له بعد الله إلا ما كان من رعاية أبيه وأمه فطرياً، لكن كما ألمعت في الخُطبة السابقة نحن نُمعِن أيضاً في الهرب من ذواتنا فنغترب عن أنفسنا وعن مشاعرنا، فحتى المشاعر تتزيَّف علينا، لو تركت نفسك على هينتها – هى كما هى هكذا – ستجد هذه النفس تُحِب هذه الطفلة جداً كما تُحِب أخاها، إنها ابنتك، لحمك وعظمك ودمك، أليس كذلك؟ هى جزء منك ومن أمها أيضاً، لكن الهروب ليس فقط من الأفكار وإنما أيضاً من المشاعر والوجدانات، فنحن نهرب دائماً، نهرب لكي نُصدِّق توقعات الآخرين منا، كأن الواحد منا يقول لأنكم تُبغِضون الإناث فأنا أُبغِضهن أيضاً ولأنكم تحقرون الإناث فأنا أحقرهن، وهذه جاهلية كالجاهلية الأولى، إذن يبدو أن الدين حين أتى وأن الإيمان حين سطع وتشعشع نوره كان رداً للإنسان إلى سواء فطرته، هذا هو الإيمان، ولذلك الإيمان عند النفوس المُستقيمة سهلٌ جداً، لأنه يُناسِبها ويُلائمها، النفوس المُستقيمة لا يُمكِن أن تجد غناءاً عن الإيمان، إنه هو ذاتها.

أبيت إذن أن أخضع للنظر من زاوية التقاليد والعادات والثقافة المُهيمنة، كفرت بهذا في هذا الباب وفي أبواب كثيرة، ونظرت من أي زاوية؟ نظرت من زاوية الله تبارك وتعالى، فأنا في نهاية المطاف رجل مُؤمِن – إن شاء الله تعالى على طريقة الشافعية في الاستثناء، وأسأل الله أن يُحيينا وأن يُميتنا جميعاً وجمعاوات على الإيمان واليقين – فأحببتُ وأردتُ بوعيٍ كامل أن أنظر إلى الموضوع من زاوية الله تبارك وتعالى، الله أكبر كما نقول دائماً، الله أكبر ليس في باب القدرة فقط – أنه أقدر منا وأقوى منا – وإنما أيضاً في باب العلم والحكمة وحُسن التقدير، إذن ما قدَّره لك وما أراده لك هو الأعلم والأحكم وبالتالي هو الأخير والأفضل، فأن تكون أُنثى هذا هو الأفضل قطعاً، ولذلك اجتمعت كلمتي وكلمة أمها على أننا لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما استعضنا منها بكل أطفال العالم، هى وفقط لأننا لا نُريد غيرها، لو أتاح لنا القدر أن تدور عجلةُ الزمان إلى الوراء وقيل لنا ها أنتم الآن في الساعة الأخيرة قبل الميلاد أو قبل الوضع فهل تُريدون أُنثى أو ذكر؟ فإننا سوف نقول له نُريد ملاك، نُريد هذه الأُنثى التي أعطيتنا، وهذا معنى ومَن رضيَ فله الرضا ومَن سخط فله السخط والعياذ بالله، ولذلك يعيش بعض الناس في حال مسخوطية، يعيشون مسخوطاً عليهم دون أن يفهموا لماذا، وبالعكس يُشكِلون على إيمانهم، يقول أحدهم ها نحن أولاء نُصلي ونصوم ونُزكي ونحج ونعتمر ونتصدَّق ونختم كتاب الله ختمات في السنة فما بال الأمور تُشاغِبنا وتُعاكِسنا ولا تأتي على هوانا؟ يا رجل الإيمان ليس هوية، الإيمان ليس شعاراً، الإيمان ليس عنواناً، لكن الإيمان حياة، الإيمان تكيف تام للمدارك وللوجدانات، الإيمان هيمنة تامة على البدن كما على الشعور وعلى العقل أيضاً، هذا هو الإيمان ومن ثم يجب أن تُكيِّف أفكارك ومشاعرك وحتى بدنك مع الإيمان ومُقتضيات الإيمان، فحتى البدن يجب أن يتكيِّف معه.

قبل أيام كنا في مجلس عامر بالإخوة الأحباء فذكرت لهم عبارة للشاعر الإنجليزي الشهير كولردج Coleridge كان يقول فيها أنا أعمل وأسعى على أن أقترب من الله وأن أذكره وأزدلف إليه لكن بالفكر وحده – أي بالتأمل – لأن لا تُعجِبني طريقة أهل الأديان، أي الطريقة البدنية بالركوع والسجود وما إلى ذلك، فهو لا يُريد هذا، لا يُريد لبدنه أن يتكيَّف مع مُقتضيات الإيمان، وإنما يُريد هذا للعقل فقط، وطبعاً هذه نزغة بلا شك كانت من إيحاء إبليس وكشفها ذكاء الإيمان أيضاً وذكاء المُؤمِنين، فردَّ عليه العبقري سي. إس. لويس C. S. Lewis قائلاً الشاعر الكبير فاته أن يُدرِك وأن يُلاحِظ أننا حيوانات في نهاية المطاف، فينا جزء حيواني بلا شك، وليس معنى أننا حيوانات وأن فينا جزءاً حيوانياً أن هذه كامل حقيقتنا، هذا جزء حقيقتنا، الطائرة تمشي على الأرض، أليس كذلك؟ وتمشي أسرع من السيارة، يُمكِنها أن تمشي بسرعة مائة كيلو متر، لكن في نهاية المطاف يُمكِنها أن تطير، فالطائرة فيها جزء هو الموجود في السيارة – الحركة على الأرض – لكنها تستطيع أن تتجاوز هذا وأن تطير، نحن تلكم الطائرة، أي طائرة الروح، فينا جزء يسعى على الأرض ويدب على الأرض، وهو الجزء البهائمي الحيواني، فهو موجود ولكنه ليس كامل حقيقتنا، فين جزءٌ آخر يُمكِن أن نطير به إلى ملكوت رب العالمين، عليك ألا تنسى وأنت تطير أنك في نهاية المطاف – ضربة لازب – تحمل وتشتمل وتتضمَّن جزءاً حيوانياً، هل في هذا الجواب على كلمة كولردج Coleridge؟ نعم جواب وأي جواب، يقول سي. إس. لويس C. S. Lewis والحيوان يتكيَّف المعنى والشعور فيه بدنياً، الكلب – أعزكم الله – حين يُريد أن يعتذر منك أو يُعرِب عن رضاه وسعادته لابد أن يُكيِّف هذا بدنياً وأن يُبصبِص بذنبه، الجمل حين يغضب منك وتغضب عليه لابد أن يُكيِّف خضوعه بالحركة المعروفة وبإرخاء الزبد وإصدار الصوت المعروف بحيث ينخ لك، إن لم يفعل هذا فإنه يبقى حاقداً عليك ولابد أن ينتقم منك، والأعراب يعرفون هذا وأصحاب الجمال يعرفون هذا تماماً، فالخضوع لا يأتي بأي حركة وإنما يأتي بحركة مُعيِّنة يُكيِّف بها الجمل معنى الخضوع، فهكذا هى الحيوانات، وحتى الإنسان ينطبق عليه هذا، ولذلك قلت لإخوتي جرِّبوا أن تدعوا حين يكون أحدكم بالذات وحده كما كان رسول الله يدعو، كيف كان النبي يدعو؟ لا يدعو هكذا، وإنما يرفع يديه ويستمطر ويستعطي ويستقبل ويرفع يديه أحياناً ويمُدها بتواضع مثل شحّاذ يشحذ من خزائن القدرة، ويتوسَّل إلى ربه ويقول له يا الله يا الله، فجرِّب أن تفعل هذا وسوف يُلابِسك خشوعٌ عظيم، سوف يقف شعر بدنك في أحيان كثيرة، سوف تدمع وربما تأتي الإجابة، لأن الله ما يُريده منك هو هذا الذل والخشوع، أن تتبرأ من هذا الكبر الإنساني الواهم ومن هذا التأله والاستغناء الزائف، فلست مَن يستغني، كُن ملِكاً أو كُن أميراً أو كُن وزيراً أو كُن مليارديراً أو كُن عالماً كبيراً أو كُن شخصاً مُسلَّطاً أو كُن ما تشاء ومَن تُحِب لكنك لست مَن يستغني، حصاة صغيرة تتحرَّك في الكلية يُمكِن أن تُحدِث لك جنوناً ومن ثم تتلوَّى كالأفعى وتفقد كل رزانتك، أليس كذلك؟ وإن لم يرفع الله هذا البأس ويكشفه عنك انتهيت، تقول الآية الكريمة وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، فأنت في نهاية المطاف عبد ضعيف، تعيش بروح من سر الغيب، نفحة ونفخة من روح الله – تبارك وتعالى – تسمو إلى آفاق عُليا وإلى ذُرا سامقة جداً، فتغرك عن نفسك في أكثر الأحيان هذه الروح، لكن حكمة الله شاءت أن يجعلها عاملة في أرض هذا البدن ومُستخلَفة في ميدان هذا البدن، هذا البدن الذي يخضع للحاجات والضرورات، فهذا يجوع ويعطش ويغلبه سُلطان النوم ويمرض ويعتل ويتألَّم ويتبَّرح ألماً ووجعاً، وهذا من حكمة الله لا إله إلا هو، الله أكبر، تخيَّلوا الإنسان لو كان ينطوي على هذه الروح ببدن فولاذي لا يتألَّم ولا يجوع ولا يتعب ولا ينام، لو حدث هذا لكفر مُعظَم الناس ولشعروا أنهم آلهة مع أن علمهم ليس إلهياً وقدرتهم ليست مُطلَقة بلا حدود، لكن هذا هو الإنسان، أسهل شيئ أن يغر نفسه، فهو مسكين ولذلك تقول الآية الكريمة يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، فقال عمر – رضوان الله عليه – غره – والله – جهل، أي لأنه جاهل، ومن ثم يعوم الإنسان في شبر ماء، فهو في شبر ماء يعوم ويظنه مُحيطه ولذا هو مغرور، علماً بأن الغرور هو الجهل وليس الكبر كما أقول دائماً، فانتبهوا لأن هذا من أخطاء العامة، الغرور ليس الكبر، الكبر شيئ والغرور شيئ آخر، الغررو هو الجهل ولذلك المغرور هو الجاهل لأنه يجهل الحقائق.

إذن آثرت أن أنظر من زاوية الله وليس من زاوية الثقافة والتقليد والقطيع والقوم والآخرين، وإنما من زاوية الله، ما رضيه لي أرضاه لنفسي، ما أحبه لي أُحِبه لنفسي، طفر بي الفكر بعد أن تيقَّنت هذه الحقيقة إلى حقيقة أبدع منها وهى أنني حين أُحِب الله – تبارك وتعالى – وأرضى عنه أُحِب نفسي وأرضى عنها، وانظروا إلى هذا المقام العجيب الذي خوَّلكم الله إياه، تقول الآية الكريمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩، الله يُريدك أن ترضى عنه ليس لكي يستكمل حاجة، هو الغني عنك، ولكن لماذا يُريدك أن ترضى عنه؟ لك، أي من أجلك أنت، لأنك إن رضيت عنه كافأك برضا منه لا إله إلا هو، وأين رضاك عنه من رضاه عنك؟ ترضى عنه ولا تُعطيه شيئاً فأنت لا تستطيع لأنه لا يحتاج ولا يُريد شيئاً لا إله إلا هو، هو الغني المُطلَق عن العوالم وما فيها ومَن فيها، لكن إن رضيَ عنك أعطاك الرضا كله في الدنيا والآخرة، تقول الآية الكريمة وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ۩، أكبر من جنات النعيم وما فيها لأن الله يقول وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ۩. فاللهم ارض عنا في الدنيا والآخرة ولا تغضب علينا يا رب العالمين، لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
إذن يُريدك أن ترضى عنه لك، وهذه الـ (لك) مُقتضياتها ماذا؟ ما هى نتائجها وتوابعها؟ إن رضيت عنه ورضيَ عنك أحببت نفسك، لن تسخط على نفسك، لكن كثيرٌ منا دون أن يدري لا يُحِب أن يُواجِه هذه الحقيقة، هو غير راضٍ عن نفسه، بمعنى آخر هو مُبغِضٌ لنفسه، فبعضنا لا يُعجِبه شكله أو لا يُعجِبه طوله أو لا يُعجِبه لونه أو لا يُعجِبه عرضه أو لا تُعجِبه خلفيته الاجتماعية، مثل أنه من بني فلان أو من آل فلان وأن هذا أبوه وهذه أمه، لماذا لم يكن ابناً – مثلاً – لشخص مشهور أو غني أو عالم أو مُتنفِّذ؟ لماذا هو من عائلة مُتواضِعة؟ فخلفيته لا تُعجِبه، وبعض الناس قوميته لا تُعجِبه، أي أنه عربي – مثلاً – أو تُركي أو أو أمازيغي أو فارسي وإلى آخره، فهو لا تُعجِبه خلفيته هذه ويُريد خلفيةً أُخرى، وطبعاً في هذا العصر يُريد الخلفية الغربية، فأكثر شيئ يُراد الخلفيات الغربية لأنها تستلب الناس وكأنهم من شيئ آخر، كأنهم من ذهب ونحن من خشب، كلا في نهاية المطاف كل هذا لا يُغني عنك ليس من الله فقط بل في الدنيا حتى شيئاً، لا طولك ولا عرضك ولا لونك ولا خلفيتك، يُغني عنك شخصيتك ومدى رضاك عن نفسك ومدى حُبك لنفسك، هل تُحِبُ نفسك؟ وبالتالي مَن أحب نفسه فقط وفقط وفقط هو القادر أن يُحِب غيره، يكذب عليكم مَن يقول لكم أنه غير راضٍ عن نفسه وساخط عليها ومُتبرِّم بها ورافض لها ومع ذلك هو مُحِبٌ للآخرين، هذا غير صحيح، هذا كذب بنسبة مائة في المائة.

ذكرت لكم مرة كلمة مَيستر إكهَرت Meister Eckhart – المُعلِّم الصوفي الألماني العظيم مَيستر إكهَرت Meister Eckhart – حين قال الذين لا يُحِبون أنفسهم أعجز مِن أن يُحِبوا الآخرين، قال بالضبط كل مَن يكرهون الآخرين هم كارهون لأنفسهم، وهذا عمق الكلمة الآن التي أعتقد أنها أصبحت واضحة جداً بهذا الشرح، إن أحببت الله ورضيت عنه أحببت نفسك ورضيت عن نفسك، فهل تعرف لماذا؟ سوف تقول لي هل هذا يحدث حتى لو كنت قميئاً مُعاقاً أو مُعوَّقاً وحتى لو كنت بكذا وكذا؟ نعم يحدث في أي حالة كنت، إن نظرت إلى نفسك على أنك اختيار الله وقلت الله اختار لي ان أكون هكذا والله أحب هذا فسوف تقول أنا أُحِب هذا، انتبه لأن الله ليس شريراً، هذا مُستحيل، هو يُمكِن أن يكون غامضاً وهذا مُؤكَّد، فمن المُؤكَّد أن طرائق الله وأفعال الله وتقديرات الله فيها غموض شديد جداً بالنسبة إلينا، ما مُنخل الإنسان – يُريد عقله – هذا وما زاوية عدسة الإنسان هذه لكي تُدرِك حكمة الله؟ هذا صعب جداً، لكن إجمالياً لدينا إدراك إجمالي، علماً بأن هذه فائدة الوحي وهذه فائدة القرآن، هذه فائدة قال الله وقال الرسول، فالوحي يُعطيك إدراكاً إجمالياً ويُعطيك إطاراً للتفكير لكي يُؤطِّر تفكيرك، فانتبه يا أخي إلى هذا، أنت دائماً تُفكِّر ضمن هذا الإطار، والذي لا يتوفَّر على هذا الإطار هو مُعرَّض طبعاً للتورط والانخراط في التفكير كيف ما عن له، فقد يتهم الله في حكمته وفي قدرته وفي خيريته، قد يعن له أن الله شرير ويلتذ بتعذيب البشر وبإيلامهم، ويقول ما الذي يمنع أن يكون كذلك؟ في الكون ملايين المظاهر التي يُمكِن أن يُساء تفسيرها لتكون تجليات لوهم أن الله يلتذ بتعذيبنا، لكن يأتيك الوحي بفضل الله – والحمد لله على نعمة الوحي – لكي يُعطيك إطاراً لإدراك هذا، هذا الوحي لا يُغني عنه لا فيلسوف ولا مُفكِّر ولا كل الدنيا، فانتبه إلى أن الإنسان الواعي الذي قرأ الوحي وقرأ الفلسلفات لو خُيِّر بينهما فإنه يقول لك قليلٌ من الوحي يكفيني عن كل فلسفات المُتفلسِفين عبر العصور، وكل فلسفاتهم لا تُغني عن هذا الوحي الإلهي، هذا لا يُمكِن لأنك ستضل بها، حتماً ستضل فما رأيك؟ إن أصبت في مسألة ستضل في مسألةٍ أخرى، لكن مع الوحي يتأطَّر الأمر، تفكيرك سوف يُصبِح مُؤطَّراً، في هذه القضية لديك إطار وأنت مُوقِن به ومُطمئن، وهذه فائدة الإيمان، والإيمان عزاء والإيمان استقرار وسكينة، فأنت لديك إدراك يقيني أن الله خيِّر ومُحِب ورحيم – لا إله إلا هو – وأنه حكيم لا يفعل عبثاً ولا يترك خلقه سُدىً، فهذه قواطع ومُقرَّرات في مُدوَنة المُسلِم الاعتقادية، والمُهِم بعد ذلك أن يعيشها لا أن يُقرِّرها فقط كما تقرَّرت بل أن يعيشها وأن ينطلق من خلالها وأن تُمازِج لحمه ودمه وشعوره وعقله وأن يُكيِّف – كما قلت – نفسه وذاته بهذه العقائد الإلهية الوحيانية، أي عقائد الوحي.

إذن في هذا الإطار أُدرِك أن الله خيِّر – لا إله إلا هو – ومُحِب ورحيم، فإذن أنا انعكاس أيضاً في ذاتي وبهذه الذات لخيريته ومحبته ورحمته وحكمته، حذاري أن ننظر إلى أفعال الله وإلى خلق الله فقط من زاوية حاجتنا نحن وأهوائنا الضيقة، هذا مُستحيل، مَن الإله؟ أنت أم هو؟ هو، أنت العبد ومن هنا عليك دائماً أن تنظر في مرآته لا في مرآتك أنت، لكنك قد تقول أين هى مرآة الله؟ الوحي، وهذا في القرآن، افهم القرآن وتعمَّق القرآن وآمن بالقرآن، وسوف يستحيل هذا القرآن مرآةً ترى فيها نفسك والأشياء والأحداث والوجود، وسوف تراه مُستقيماً – بإذن الله – ولن ترى فيه عوجاً ولا أمتاً ولن ترى فيه تفاوتاً، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ۩، فهذا في مرآة الله، لكن مرآتك أنت – ومرآتك ذاتية وبسيطة جداً ومحدودة – ناظرة ولاحظة من لحاظ ماذا وبلحاظ ماذا؟ لحاظ المصلحة، أي مصلحتي وحاجاتي وما أحتاج وما لا أحتاج، وهذا الشيئ قميء وصغير جداً جداً جداً، ومن ثم سيتشوَّه كل شيئ وربما ترى الله شريراً أو عابثاً أو حتى ظالماً لعباده، أليس كذلك؟ فإياك من هذا وحذاري من هذا، وعلى كل حال هذا هو الفرق.

طبعاً مرآة الذات يُمكِن أن تكون للذات المجموعية، أي مرآة للطائفة أو المذهب أو القبيلة أو القومية أو الثقافة، فهى ينطبق عليها نفس الشيئ ومن ثم يحدث تشوه فإياك من هذا، وهذه رسالة الدين أيضاً، تحرَّر من هذه الأشياء حين تتناكد مع الوحي وتتناقض معه، يجب أن أشطب عليها وآخذ بالوحي، لا يعنيني أن أُصوَّر وأن أُنعت بأنني خارج عن السرب وخارج عن الخط العام ومُشاكِس وشاذ في أفكاري، أنا مع الوحي وأنا أستلهم الوحي ولا أستلهم ثقافةً عليلة وثقافةً رثة بالية، هذه الثقافة مريضة ومُعتَلة، وهى ثقافة لا إنسانية في هذا الباب على الأقل وفي هذه القضية، لكن الوحي لن أقول إنساني وإنما سوف أقول رباني، هذا الوحي رباني، هذا أعلى معيار يُمكِن أن يتشبَّث به الإنسان وهو يثق تماماً وهو مُؤمِن، فإذن انظر إلى هذه الأمور والأحداث وأفعال الله وخلق الله ضمن مرآة الله عز وجل، أي ضمن الوحي وليس مرآتك أنت التي تعكس حاجاتك وإدراكك البسيط النسبي الضعيف المُتغيِّر الهش والمحدود، هو هذا.

أعتقد بهذا المنظار يُمكِن أن يستحيل الإيمان إلى قوة جسيمة خطيرة فاعلة في التغيير، فهذا يحدث بهذا المنظار، لكن ليس تغيير العالم ابتداءاً وفقط بل تغيير النفس أولاً، كل مَن يفشل أن يُغيِّر نفسه بالإيمان هو مُخادِع وكذّاب وغشّاش حين يذهب يزعم أنه يُريد أن يُغيِّر العالم، هذا كذب وهذا أخطر شيئ في العمل الديني وفي كل عمل مُؤسَّس على دعوة دينية أو هوية دينية أو شعار دينية، إن لم تنتفع أنت به ما نفع الناس بك؟ هذا كذب ودجل وتقليد وترداد وافتعال وتمثيل، ومن ثم هذا مُستحيل، أقبل من طبيب أن ينصحني بالإقلاع عن التدخين – أقبل هذا منه لأن لديه مُسوِّغات ومُبرِّرات علمية مُقنِعة جداً – مع أنه يُدخِّن ومُبتلىً ومُعتَل وصحته مُنحرِفة، فأنا أقبل لأن الأمرين في الحقيقة مُنفصِلان ويُمكِن أن ينفصلا في أحيان كثيرة، لكن لا أقبل مِمَن يدعو إلى نمو الروح وإنضاج النفس وإلى القيم والمعنى وخاصة الدينية الإلهية وهو خالٍ منها وعُطلٌ منها، لا أقبل هذا لأنني سأشك مبدئياً أن هذه القيم والمعاني صالحة وفاعلة، ومن هنا سوف أقول لو كانت صالحة وفاعلة ما باله لم تفعل فيه؟ ما باله خلوٌ منها تماماً؟ سوف تقول ما الفرق بين هذا المثال ومثال الطبيب؟ ومن ثم أنا أقول لك الطبيب إنما يتعلَّم ويُطبِّب من أجل الآخرين – هو يُطبِّب الآخرين – ومن أجل أن يكسب ومن أجل أن يعيش، فهذا هو الطبيب، لكن الدين لم يأت أصلاً لكي تُغيِّر به الآخرين، الدين جاء أساساً وأصالة لكي تُغيِّر به نفسك، فالدين لك، كيف تدّعي أن الدين جاء وتقول أنا عالم في الدين وداعية في الدين ومُبشِّر بالدين وأُبشِّركم وأدعوكم وأنا خلوٌ وعُطل من هذا؟ هذا كلام فارغ وهو غير مُقنِع بالمرة، هو غير مُقنِع حتى على المُستوى المعرفي، بمعنى ماذا؟ لن نقنع أنك فهمت الدين وإلا كيف تُعطينا حتى معلومات بالدين بهذه الطريقة؟ لن نقنع لأن أثرها غير بادٍ عليك، كيف نقنع؟ لكن انتبهوا إلى أن الدين الذي تحوَّل إلى مُؤسَّسة وتحوَّل إلى وسائل للتسلط على الناس والهيمنة على الناس أكثره يُمكِن أن يُصبِح مُدوَنات معرفية يتلوها حتى مُستشرِق غير مُسلِم، فهذا مُمكِن جداً، لكن الدين في جوهره – كما قلت – وحقيقته الذي هو صلة بالله – تبارك وتعالى – وإنماء – أي تنمية – وإنضاج وعلو وارتقاء وسمو بالروح لا يُمكِن إلا أن يكون ابن التجربة، هذا لا يُمكِن إلا أن يكون ابن التجربة فما رأيكم؟ لكن ماذا عن دور النص؟ الإطار، فهو يُؤطِّر ويُعطيك الخط العام والإطار العام، لكن ضمن هذا الإطار لكلٌ منا خصوصيته، أليس كذلك؟ ولذلك حتى الطريق إلى الله – تبارك وتعالى – من الصعب أن تُعلَّم بطريق العموم، فيها خصوصيات وفرادات كثيرة جداً، والعموم ينفع ولكن لا يُمكِن أن نصل به، فهو ينفع – كما قلت – في تحديد الإطار وخط السير العام والوجهة لكن بعد ذلك لا يُجدي كثيراً.

ماذا نُريد من وراء هذا الكلام؟ أنتم تعلمون يا أيها الإخوة أننا مُختلِفون، هذا شخصٌ بطبعه حليم صبور وهذا غضوب انفعالي، فما يصلح لهذا لا يصلح لهذا، طريق هذا إلى الله غير طريق هذا، فما رأيكم؟ وهذا صحيح طبعاً، فالتحديات والرهانات أمام هذا غير التحديات والرهانات إزاء هذا، هذا انطوائي يجد نفسه في العُزلة والخلوة والعمل التأملي وهذا انبساطي يجد نفسه في المجموع ومع المجموع وبالمجموع وطريقه إلى الله يكون هكذا أيضاً عبر العمل مع المجموع والتفاني أيضاً والإيثار والصدق في خدمة المجموع والعمل بالمجموع ومع المجموع، فهذا طريقه غير طريق هذا، هذا الشخص بطبعه تقليدي رموزي يُحِب الأشياء الثابتة والأشياء المُرمَّزة والكليشيهات وهذا شخص مُبدِع خلّاق لا يُحِب الثبات، فهذا طريقه إلى الله غير طريق هذا، وسيجد في شرع الله وفي وحي الله ما يتلئم بنزعته، فالناس نزعات طبعاً، إذا لم تفهموا يا إخواني واخواتي أن الناس فعلاً أمزجة ونزعات سيصعب جداً جداً جداً عليكم مُناقَشة كثير جداً من الأفكار والفلسلفات والاتجاهات الفكرية والأيدولوجية، فما رأيكم؟ بمعنى أن بعض الناس مطبوع ومجبول على نزوع غرائبي أو نزوع روحاني، فهو يُحِب الأشياء الغريبة والخارجة عن المألوف واللاحسية بل الخارقة للحس وقوانين الحس، عنده استعداد غير طبيعي لتصديق الخوارق والمعاجز المنسوبة إلى كل مَن هب ودب، فهو مزاجه هكذا، وقد يكون مُسلِماً صالحاً طبعاً، لكن في المُقابِل تجد مُسلِماً وأيضاً تجده صالحاً لكنه أقرب إلى المادية إلا أن الوحي أنقذه، ولولا الوحي لكان مادياً مُغلَقاً لا يكاد يُسلِّم بأي شيئ خارج عن المألوف وعن الدستوري وعن القانوني، علماً بأن مثل هذا يكون حتى التزامه بالقوانين الوضعية شديداً جداً، فهو شخص امتثالي وشخص التزامي وجامد وقاسٍ ومشاعره جامدة إلى حد بعيد جداً، فهو نزوعه هكذا، ومن هنا هذا طريقه إلى الله غير طريق هذا، شخص مُتردِّد خوّاف ضعيف وخوّار – النبي قال المُؤمِن قد يكون جباناً ولكنه مُؤمِن – وشخص آخر مُندفِع شجاع وقد يكون مُتهوِّراً، فطريق هذا غير طريق هذا، وهذا الكلام يُعَد كلاماً عادياً لأن ليس فيه أي إضافة، لكن الآن نتساءل هل فكَّرتم مرة أن الله – تبارك وتعالى – قد يُحاسِبنا يوم القيامة ويُسائلنا على كثير من وجوه الضعف فينا؟ علماً بأنني لا أجزم بهذا ولكن هذا يترجَّح عندي، فقد فكَّرت فيه طويلاً ورأيت أنه يترجَّح، لكن هذا أمر عجيب، وقد تقول لي أنا مجبول على هذا، أنا مجبول على الحياة والتردد والخجل واحتشام الناس، فأنا مجبول طبعاً على هذا كما ذاك مجبول على التهور الذي قد يجره إلى عدم توفير كرامة الكريم من الناس وحشمة المُحتشِم – أي مَن ينبغي أن يُحتشَم – من الناس ومن ثم هو يتورَّط ويُورِّط نفسه، لكن ليست القضية عند الله أنك مجبول، القضية ماذا صنع الإيمان بك وبالأحرى ماذا صنعت أنت بإيمانك؟ ماذا صنعت في نفسك ومن نفسك بإيمانك؟ الإيمان رقية تغيير ورُقية تختزن قدرة لا نهائية على التغيير، لكن بمعنى ماذا؟ بمعنى – حتى أكون واضحاً – أن هناك سؤالاً يقول هل يُمكِن أن يُفاجأ أحدنا يوم القيامة بأن الله سيسأله لم كنت خوّافاً ومُتردِّداً وضعيف الشخصية إزاء مُديرك في العمل حين رفض أن يُعطيك حقك وأن يُرقيه في السنة الفلانية رغم أنك كنت تستحق الترقية؟ فالمُدير قال لك يا فلان نحن أجرينا حساباتنا وراجعنا أشياء كثيرة ومن ثم نحن نرى أنك ستنتظر إلى السنة المُقبِلة، فهل تُوافِق على هذا؟ وأنت قلت نعم يا سيدي وذهبت، فأنت ستُسأل عن هذا، ومن هنا سوف تقول لي هذا أمر عجيب، هل سوف أُسأل عن هذا رغم أنني كنت مُتسامِحاً وغفرت له؟ هذا غير صحيح لأنك الآن مُخادِع، أنت الآن تلعب دور المُخادِع، جمعت إلى الضعف والتردد الخداع والكذب، المُسامَحة لا تأتي من الضعيف للقوي، هو أقوى منك وأنت أكَّدت قوته عليك للأسف الشديد، لكن المُسامَحة تأتي من قوي لضعيف، والمغفرة تأتي من قادر لمَن يستحقها وليس من الضعيف للقوي ومن المُتسلَّط عليه للمُتسلِّط، هذه ليست مغفرة بل هذا ضعف شخصية وهذا تردد وهذا خوف، هذا الخوف لو فككته ستجد في قلبه ما يشي بضعف الإيمان، فأنت عندك مُشكِلة في الإيمان الآن لأنك لم تستثمر إيمانك جيداً، أنت لست مُؤمِناً جيداً، ولكنك سوف تقول لي لماذا؟ لأن المُؤمِن الجيد كل اعتماده وكل ثقته وكل توكله في مَن وعلى مَن؟ في الله وعلى الله، وهو يعلم أن ما هو مُقدَّرٌ له سيأتيه رُغماً عن العالمين، أما هذا المُتردِّد الخوّاف سوف يقول لو أنني أصررت على موقفي وجادلت هذا المُدير ربما يغضب مني وربما يطردني، والناس في حال بطالة شديدة جداً ومن ثم ربما يستغني عني، وهذا غير مقبول يا رجل، أنت تُؤمِن بمَن؟ هل تُؤمِن بالمدير أم بالله؟ هل تُؤمِن بالظروف أم بالله؟ بالله، الله أمرك أن تكون صادقاً وأن تكون مُؤمِناً قوياً به، والله – تبارك وتعالى – لا يُبغِض شيئاً بُغضه الظلم، وسوف تقول لي وماذا عن الشرك؟ الشرك ظُلم، قال الله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩، علماً بأن هذه تحتاج إلى مُحاضَرة لنعلم لماذا الشرك ظلم، فهذا موضوع ثانٍ، لكن هنا نرى فلسفة القرآن، وعلى كل حال أكثر شيئ يُبغِضه الله الظلم، وطبعاً نحن نُفكِّر أيضاً بطريقة الخوّافين كأن يقول أحدنا أنا لا أظلم أحداً، وهذا صحيح لأن مثل هذا المُتردِّد الخجل الوجل تقريباً لا يظلم أحداً، مُتوقَّع منه ألا يظلم أحداً، لكن لا يُسمحَ لك فقط أن تظلم أحداً بل بدرجة أولى لا يُسمَح لك أن تظلم نفسك، والقرآن سمى الذين يظلمون أنفسهم ظالمين.
على كل حال ابحثوا وفتِّشوا وقولوا لي هل تجدون في التراث الديني – لا أدري لأنني لم أستقص هذا لكن لا يحضرني شيئ عن هذا – أو في الكتاب المُقدَّس – مثلاً – بعهديه القديم والجديد مُصطلَح ظلم النفس؟ قد يكون هذا من مُبتكَرات القرآن الكريم، فالله تحدَّث عن ظلم النفس، تقول الآية الكريمة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، هل تعتقد أن الخير للناس فقط؟ ليس فقط للناس، بالعكس الخير أولاً وابتداءاً في أن تبدأ بنفسك، إن كنت عاجزاً أن تفعل الخير لنفسك هل تقدر على أن تفعله للآخرين؟ لا يُمكِن هذا، ومن ثم نحن أمام مُشكِلة نفسية الآن، فالأمر لا يتعلَّق فقط بالخير والشر هنا، إن كنت عاجزاً أن تنتصف لنفسك وأن ترد الظلم عن نفسك وأن تدمغ الظلم حاول أن تدمغه، كل ما عليك أن تقول هذا ظلم، لماذا يا سيدي المُدير؟ قل له بكل احترام واحتشام هذا، لا بأس أن تقول له يا سيدي لكن قل له لماذا يا سيدي المدير؟ لماذا يا سيدي تفعل هذا؟ أنا حقي أن أترقى الآن، أُريد مُبرِّراً معقولاً، وألِح واجعل ثقتك في الله وتكلَّم بأدب وطالِب بحقك، يترجَّح لدي أن الله سيسألك في هذه المسائل أيضاً، هذا هو الإيمان، الإيمان لا يُنتِج شخصيات خوّارة ضعيفة مُتردِّدة ثم غشاشة مُخادِعة لنفسها وللآخرين بإسم أنني عفوت عنه وأنني تسامحت وأنني كذا وكذا، فهذا موضوع آخر، وطبعاً هناك تفاصيل أيضاً، أحياناً قد يظلمك أحدهم – هذا يحدث معنا جميعاً – لكي تنتصف لابد أن تذهب إلى المحاكم، وإن دخلت طريق المحاكم لن تنتهي من هذا في سنتين أو ثلاث، ومن ثم لن أذهب ولكنني سوف أقول له أنت ظلمتني والله – عز وجل – حسيبي وحتى أكون صادقاً معك لا أستشعر في قلبي أنني صفحت عنك وأنني أسقطت حقي، وحقي سوف آخذه يوم الدينونة، في الدنيا لن أذهب إلى المحكمة لأن وقتي أجل فعلاً – احسبها أيضاً – وأنفس من أن أُضيِّعه في المحاكم من أجل ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف يورو لكنني لن أقول لك سامحك الله، لن أقولها إلا إذا شعرت بها، والآن أنا لا أشعر بها، قل له هذا ثم امض على طيتك، هكذا يجب أن يكون المُؤمِن واضحاً قوياً ماضياً كالسيف في أدب وفي وثوق بالله تبارك وتعالى، لابد من الوثوق بالله، وهذه هى قوة الإيمان على التغيير وهذه هى التجربة، نحن نظن أن التجربة وإيمان التجربة فقط في الشهوات، فيُقول أحدنا أنني شاب وربما غير مُتزوِّج ورأيت امرأة جميلة جداً – فهذه تجربة طبعاً بلا شك – أو أنني يجب أن أصدع بكلمة الحق أمام سلطان ظالم – طبعاً هذه تجربة – أو أو، لكن أيضاً هناك تجربة في أن تنتصر لنفسك وأن تدمغ مَن ظلمك وأن ترفض هذا الظلم، وأنا أقول هذا أيضاً للزوجة التي يمتهن زوجها كرامتها في ظل ثقافة تجعل المرأة أمة – عبدة – ويُقال لها كوني عنده أمة، وهذا غير صحيح، لا يُوجَد شيئ إسمه أمة وسيد، هذا كلام فارغ، هذه أختك في الإنسانية وأختك في الدين وهى أيضاً شريكة حياتك، هذه ينبغي أن تكون من أكثر الناس قرباً منك وتوقيراً عندك واهتماماً واعتباراً وليس إهداراً لكرامتها كما نقول بالعامية على الحامي وعلى البارد، هذا غير صحيح، فنحن نُعلِّمها ونقول لها طالبي بحقك ولكن بأدب أيضاً وبقوة المُؤمِنة وبعزة المُؤمِنة، إذا لم تفعلي ربما ستُسألين عن هذا يوم القيامة، ومن ثم هى سوف تقول هذه مُصيبة، وطبعاً هذه الطريقة مُصيبة، علماً بأن الأكبر من هذه المُصيبة ما فعلناه بأنفسنا بإسم الكذب على الإيمان والدين حيث أحلنا أنفسنا – كما قلت قُبيل قليل – إلى كائنات عاجزة خوّارة ضعيفة مُتردِّدة وبالتالي مُنافِقة، فنقول الشيئ الآن في وجه أحدهم وفي ظهره نقول عكسه تماماً لأننا أعجز من أن نُواجِهه بالحقيقة، فلماذا؟ المُؤمِن لديه يقين بالله، ويقينه بالله يجعله أقوى من أن يتردد، وهذه ثقة في الله، لأن الرزق عند الله والعمر بيد الله.

هناك جنبة أُخرى أيضاً لهذا الموضوع مُهِمة جداً، الإيمان بهذا المعنى إذا عشناه وعشنا به وعشنا فيه هو صُلحٌ عظيم مع البشر أيضاً، فكِّروا في الناس، مُعظَم مشاكل الناس بين بعضهم البعض – مشاكل الأصدقاء مع بعضهم أو مشاكل الإخوة والأخوات أو مشاكل الأقرباء أو مشاكل المعارف أو مشاكل الجيران أو مشاكل المُوظَّفين والمُدراء وإلى آخره، وهى طبعاً لها أسباب كثيرة جداً لكننا نتحدَّث عنها في مُعظمها – ما أسبابها؟ الإحباطات، وسوف تقول لي هذا صحيح، إحباطات بسبب ماذا؟ إحباطات بسبب فشل التوقعات، والتوقعات مبنية دائماً على ماذا؟ على طمع وعلى رجاء، لك صديق أو لك مُدير أو لك جار أو لك أخ – أخوك ابن أمك وأبيك – فتح الله عليه باباً من أبواب الرزق فهنا يحدث ماذا؟ توقع، عندك توقع وتقول أنه سيُعطيني وسيُسدِّد دَيني وسيُغنيني وسيشتري لي عمارة أو فيلا على الأقل أو كذا وكذا، فأنت عندك توقعات كثيرة، وحين لا يحدث شيئٌ من هذا أو يحدث شيئٌ يسير منه تشعر بمرارة عجيبة جداً جداً جداً وتشعر بأن هذا الإنسان قد انقلب، وفي الحقيقة هو لم ينقلب لكن التوقعات هى التي خابت، تشعر أنه لئيم جداً وأنه إنسان حقير وأنه إنسان أناني وأنه كذا وكذا، وطبعاً أنت لا يخطر على بالك أن تسأله لماذا لم يفعله، لأن – كما قلنا – ليس عندك القدرة أن تقول له في الحقيقة أنا مُحبَط وأنا توقعت منك كذا وكذا، بالعكس أنت قد تلعب معه دور المُعتَز الذي لا يُريد وتقول له أنا فرحان لك ويعلم الله أنني لا أُريد شيئاً، ومن ثم أنت تكذب، فلماذا تكذب وتحلف وتُشهِد الله؟ أنت تُريد هذا وتُفكِّر فيه على مدار الأربع والعشرين ساعة فما هذا الكذب؟ وطبعاً هو يُصدِّق هذا ويرى أنك مُستغنٍ عنه وهو عنده ربما مشاغل أُخرى ومصاريف أُخرى كثيرة ولذلك ربما لا يتلفت إليك لأنه ربما غُرَّ بهذا الكلام، فأنت قلت أنك مُستغنٍ وأنك بخير وبألف ألف خير فلم يُعطِك إلا أقل القليل، ومن هنا تراه شيطاناً وباطل الأباطيل وتكره كُرهاً شديداً وطبعاً تنقطع العلاقة، ونفس الشيئ يحدث مع الزوجة في عيد ميلادها أو في عيد زواجها من زوجها، فهى تتوقَّع شيئاً مُعيَّناً لأنها رأت فيلماً مع زوجها وكان فيه رومانسية عالية جداً جداً جداً وكان فيه هدية فارهة، وزوجها عنده القدرة ولكنه واجهها أو صدمها بهدية أقل من هذا بكثير، ومن ثم هذا قد يُفسِد العلاقة وقد يمضي بهما إلى الطلاق، وهذا شيئ غريب، فمُعظَم مشاكل البشر بسبب الإحباطات، وهذا سبب الإحباطات، لكن في القلب لماذا تحدث الإحباطات والخيبات والمرارات؟ لأن الثقة ليست في الله والتعويل على عباد الله، فيا رجل لا تُعوِّل إلا على الله، وهذا هو الإيمان، جرِّب أن تكون غنياً بالله، جرِّب هذا، والغني بالله سيختلف منظوره طبعاً، لن تكون غنياً بالله وأنت لا ترضى إلا إن صار لك مثل ما لفلان، كأن تقول فلان عنده فيلل وسيارات وملايين فإذا لم يكن لدي مثله سوف أكون ساخطاً وسأعود إلى السخط على الله – أستغفر – ولن أرضى عن لله بل سأسخط الآن على قدري، هذا غير مُمكِن، فالغنى إن تحقَّق فعلاً وكنت غنياً بالله سوف يكفيك هذا الغنى عن العالمين، عن الدنيا والآخرة صدقاً، لو خُوطِبت هل يُمكِن أن تعيش بهذه المشاعر وبهذه العلاقة مع الله – تبارك وتعالى – دون جنة؟ سوف تقول وما حاجتي بالجنة؟ أنا لا أُريدها لأنني في أعظم جنة، إن كانت الجنة كالذي أنا فيه إنها إذن لنعيمٌ طيب، علماً بأن هكذا كان يقول العارفون بالله، كانوا يقولون تمر بنا أحوال نقول إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه من النعيم إنهم لفي عيشٍ طيب، لأن الغنى بالله تشعر به طبعاً، لكنك قد تقول لي ما هى حقيقة الإيمان بالله؟ الغنى بالله يستند على الشعور بالله، لكنك قد تقول لي ومَن جرَّب هذا الشعور؟ جرَّبه ويُجرِّبه كثيرون – اللهم اجعلنا منهم – جداً.

هل فكَّرتم في كتاب الله حين لا يفتأ الله يُذكِّرنا بأنه معنا أينما كنا وهو ثالث الاثنين وخامس الأربعة وسادس الخمسة وأقرب إلينا من حبل الوريد؟ هل فكَّرتم أن هذه الآيات كلها تُريد أن تُفهِمنا أن حضوره أشد وأعمق مما نتخيَّل؟ الله – لا إله إلا هو – حضوره أشد وأعمق وأوضح مما نتخيَّل، فما بالنا – يا ويلنا – لا نشعر به إذن رغم هذا الحضور القوي جداً والعميق؟ بسبب عدم الأهلية، القلب غير مُؤهَّل وغير نظيف، ويوم يتطهَّر وينظف ويتنقى سيشعر بهذا الحضور الإلهي على الدوام – بإذن الله تعالى – وسيسعد سعادة الأبد، سعادة لا شقاء بعدها. اللهم أسعِدنا بك ولا تُشقِنا بمعاصيك يا رب العالمين.

أتى أحدهم إلى صائغ يعمل في الفضة فقال له أيه الصائغ كيف تعلم أن هذه الفضة نقية – Pure – ليس فيها شوائب؟ قال إذا عكست صورتي، إذا عكست فهى فضة نقية، وكذلكم فضة هذا القلب إذ عكست الله لا إله إلا هو، إذا عكست رحمانية الله وكرم الله وجلال الله وجمال الله، فإذن هذا القلب نقي، ما لم يعكس هذا القلب ربه فهذا القلب ليس نقياً.

إذَا سَكَن الغَديرُ على صَفَاء                       وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ.

ترى فيه السَّمَاء بَلا امْترَاء                   كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ.

كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي                     يُرَى في صَفْوها اللهُ العَظيمُ.

هو هذا إذن، هذه هى الفضة النقية، فهذا الصائغ قال إذا عكست صورتي فهى فضة نقية، ومن ثم يجب أن يعكس القلب ما قلنا، إذا لم يعكس فهو يحتاج إلى عمل، ولعل هذ العمل يا أحبابي لا يبدأ من تغيير العالم كما دائماً نقفز، فنحن نقفز ونفشل دائماً ومن ثم لا غيَّرنا العالم ولا غيَّرنا أنفسنا، وحتى حين نُفلِح في تغيير العالم ربما نُغيِّره بحيث نُشقيه بعد حين، أي لا نُغيِّره في السبيل الصحيح، لكن يجب أن يحدث التغيير دون أن نقفز، فلا يُوجَد لدينا حرق مراحل.

انظروا إلى الواعين والعُرفاء بالله، كل مَن تكلَّم عن التجربة الإلهية والتجربة الروحية حذَّرنا من ماذا؟ حذَّرنا من الطرق القصيرة، وطبعاً حياتنا هى مُسلسَل مُتواصِل من الاختبار، وهذا – كما قلت لكم وربما لم أُكمِل – لا يتعلَّق فقط باختبار إزاء امرأة جميلة لشاب عازب قوي الاندفاع ولا باختبار أمام سُلطان ظالم لابد أن نصكه بكلمة الحق – ليس هذا فقط وإن كانت هذه اختبارات – وإنما يتعلَّق أيضاً – كما قلنا – بالاختبار إزاء نفسك وإزاء وجوه ضعفك وضعفاتك إن جاز التعبير كما صاروا يجمعون جمالاتك وضعفاتك لكن هذا جمع غير صرفي أصلاً، وهذه الوجوه لابد أن تُعالَج برُقية ماذا؟ الإيمان، هذا يحدث طبعاً بالإيمان وليس بشيئ آخر، فبرُقية الإيمان كما أُعالِج بُخلي وجُبني وخوفي وحقدي وغشي وتهوري وعدم صبري – لابد أن أُعالِج هذا كله بالإيمان لكن لابد أن أُعالِج ماذا أيضاً؟ – لابد أن أُعالِج عدم ثقتي بالله التي تتجلى في خوفي من الناس وظني أنهم يتحكَّمون في مصيري وفي رزقي وفي وظيفتي وفي حياتي أيضاً ومماتي، هذا غير صحيح، لا أحد يفعل هذا ولا أحد يستطيع أن يفعل هذا، فهذا هو الإيمان، الإيمان يُعطيك هذا بيقين، فلا أحد يستطيع أن يفعل هذا، كُن قوياً جريئاً بأدب – كما قلنا – وليس بتوقح وصفاقة، كُن قوياً لكي تنجح في هذا الاختبار، لكن على كل حال ربما نتحدَّث – إن شاء الله – عن التجربة وفلسفة التجربة دينياً في خُطبة أُخرى لأن إذا ذُكِرَت التجربة يحضر إبليس مُباشَرةً في كل تجربة، وحياتنا مشوار مُتواصِل ومُسلسِل من التجارب ومن هنا يأتي الحضور الإبليسي، فإبليس يأتي باستمرار طبعاً لوجود امتحان، وهذا الامتحان تجربة خطيرة جداً لكن لابد منها، قوام الامتحان الأكبر هو هذه التجارب المُستمِرة، ولذا الرسول يقول سلوا الله العافية، ما سُئل الله – تبارك وتعالى – شيئ أحب إليه من العافية، والمسيح يقول لا تُدخِلنا في تجربة وأنقِذنا من الشرير، أي من إبليس، لأن كل تجربة فيها شرير طبعاً مُباشَرةً، وعلى كل حال سيأتيكم – إن شاء الله – الحديث عن التجارب والحضور الإبليسي والإغراء بالطرق المُختصَرة، فالروح لكي تنمو وتنضج تحتاج إلى أمد كالبدن، أطول الحيوانات طفولة الإنسان، فنحن نحتاج إلى سنوات لكي نُراهِق البلوغ، وكذلك الروح لا تنضج في سنة أو سنتين وما إلى ذلك، وإنما تحتاج إلى أمد طويل مع الجهاد والعمل المُتواصِل والوعي ومع الفكر والذكر – يقول الله يَتَفَكَّرُونَ ۩ ويقول أيضاً يَذْكُرُونَ ۩ – فهذا – كما قلنا – تكييف لكامل الكيان، للبدن وللمشاعر وللعقل بعيداً عن الابتذال الذي يُصيب تقريباً كل الأديان والمُتدينين إلا الفئة القليلة المُستنيرة اليقظة، والمسيح – عليه السلام – يقول ماذا؟ يقول الذي يذكر الله ويعبد الله بغير فكرة – هكذا يُردِّد كلاماً وكليشيهات يحفظها – إنما يُردِّد الكلام باطلاً، فهكذا يقول المسيح، قال يُردِّد الكلام باطلاً ولم يقل يُردِّد الكلام الباطل، فذكر الله ليس باطلاً والعبادة في حد ذاتها ليست باطلاً ولكن قد يكون فعلك لها باطلاً، فما معنى باطل؟ لا يأتي بنتيجة، فأنت تتحرَّك في فراغ كالذي يطحن الهواء أو يمضغ الماء، فهو يتحرَّك في فراغ ومن ثم لا نتيجة لأنك تبتذل، فعليك لا تبتذل، عليك أن تتكيَّف وأن تُكيِّف – كما قلت – ذاتك كلها نفساً ومشاعراً وعقلاً – المدارك والوعي – وبدناً بالإيمان وبالعبادة فكراً وذكراً لكي ترى ولكي تُصقَل ولكي تُطالِع ويُكشَف لك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

إذن جرِّبوا أن تُحِبوا الله – تبارك وتعالى – لكي تُحِبوا أنفسكم وترضوا عن أنفسكم، فإن أنتم فعلتم – أحببتم أنفسكم ورضيتم عنها – أحسنتم الاستثمار فيها، لماذا؟ لأن مُعظَم الناس يُهدِرون مُعظَم أعمالهم في ماذا؟ في الحُزن والخوف وفي الأسى والفرح، والدين أيضاً يُنقِذنا من هذه المُحبِطات ومن هذه المُهدِرات، ولذلك المُؤمِن في الدنيا كما في الآخرة بعيدٌ جداً في الدنيا وفي الآخرة بعيدٌ تماماً عن المخاوف والأحزان، لا يخاف من الآتي – أي مما سيأتي – ولا يحزن على الفائت والواقع، عنده فلسفة إيمانية تجعله يتعالى على هذا وهذا، أقوى من أن يُحطِّمه الخوف والحزن، ومن هنا قد تقول لي هل معنى أنه لا يخاف ولا يحزن أنه لا يخبر هذه الأشياء؟ لا ليس هذا المعنى، فهو سوف يخبر هذه التجارب لكنها لن تُحطِّمها ولن تعوقه ولن تستهلكه، وأيضاً هو لا يأسى، قال الله لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ۩، لكن مُعظَم الناس مشلولون بالمخاوف والأحزان وبالأسى والفرح، والإيمان مرة أُخرى ومرة جديدة وللمرة الألف وأكثر من الألف رُقية نافعة ضد هذه المُهدِرات، وهو يجعلك تستثمر في الإمكانات التي خوَّلك الله – تبارك وتعالى – لأنك لا تتطلَّع الآن إلى أحسن منها فتقضي حياتك بالحسرات والمرار، بالعكس أنت تقول أنا راضٍ عن نفسي في حدود ما آتاني وسأُثبِت أنني عبدٌ صالحٌ لله تبارك وتعالى، أنا سأُري الله هذا، أنا أُريد أن يرى مني أنني العبد الذي يُسَر به ويفرح به الله تبارك وتعالى، فالله يفرح – والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة – وفي الحديث النبوي الجليل فأروا – أروا من الفعل أرى، أي شوِّفوا كما نقول بالعامية – الله من أنفسكم خيراً، فاجعل هذا التحدي أمامك، يا الله ما أجمل هذا الحديث حين أُفكِّر فيه وكأنني لأول مرة أسمعه، فنحن مُعظَم سعينا هو أن يرانا الناس، فإذا بنا نُشرِك دون أن ندري، ندّعي أننا نُمجِّد الله في العبادة ونحن ما نُريد إلا تمجيد أنفسنا، كأن يقول الواحد منا انظروا إلىّ لأنني العابد الصادق، وهذا شيئ سخيف وحقير جداً، فالعظمة في العكس تماماً، العظمة في أن تُري الله أنك العبد الذي يُريده الله – إن جاز التعبير- وأنك العبد الذي نعت الله، ولن أقول – أستغفر الله العظيم – الذي راهن الله عليه فهذا عيب، لأن الله لا يُراهِن وهو عليم بكل شيئ، تقول الآية الكريمة قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩.

هذا العبد الصالح الذي كما يُريده الله وكما يُحِبه الله – لا إله إلا هو – ويرضاه رغم كل التجليات والابتلاءات والامتحانات والتحديات التي استطاع أن يتجاوزها وأن ينجح وأن يُحصِّل ربما النهاية العُظمى المُشرِّفة من أجله الله – تبارك وتعالى – أخبرنا على لسان رسوله أنه يُمكِن أن يخلق الدُنيا من أجله ويُمكِن أن يبعث رسولاً – رسول يصنعه على عينه ويُنبِّئه ويُرسِله – من أجل أن يخرج بهذا العبد، علماً بأنني ذكرت لكم هذا مرة، لكن هذه هى دلالة الحديث الصحيح الذي يقول يأتي النبي يوم القيامة وليس معه إلا الرجل الواحد، فالله يعلم هذا لأنه يستأهل هذا، ما دام يُوجَد رجل يُمكِن أن يستجيب سوف نبعث له نبياً له وحده دون أي مُشكِلة، حتى وإن رسبت البقية، وهذا – سبحان الله – أذكرني الآن بالفتاة اليابانية التي أقاموا لها مدرسة لها وحدها وأتوا لها بمُدرِّسين لها وحدها فضلاً عن وجود قطار يذهب ويروح كل يوم لكي يأخذ هذه البنت من قريتها لكي تذهب إلى المدرسة، فانظروا إلى أي درجة وصلت هذه الأمم المُتحضِرة، لكن هذه طريقة تفكير إلهي، فالإنسان يستأهل هذا ويُمكِن أن يُراهِن عليه حتى ولو كان واحداً، فكَن أنت هذا العبد الرباني، أر الله من نفسك خيراً، لا تجعل رهانك أن يراك الناس وأن يقول الناس، فهذا كله كلام فارغ، نحن تُراب وأبناء التراب وكلنا كذلك، فأنا تُراب وأنت تُراب ولا يُغني أحدٌ عن أحدٍ شيئاً، أر الله المجيد العليّ الباقي – لا إله إلا الله هو – والباقي جزاؤه وشكره وإنعامه من نفسك خيراً، انجح في الاختبارات، انجح دائماً في هذا، لكنك قد تقول لي هناك وساوس كثيرة وشيطنة، وأنا أقول لك لا أحد ينجو من الوساوس ولا حتى الصحابة أنفسهم، هناك وساوس رهيبة لكن لا تستسلِم لها، استعن بالله ولا تعجِز وثق بنفسك، الإيمان يُعطيك ثقةً بالله تنعكس ثقةً بنفسك، فالإيمان بالله ينعكس إيماناً بنفسك، النفس التي أودعها الله وأبدعها الله، فهو أودعها سره وأبدعها في خلقه وأراد أن تنجح وأن تسمق وأن تتعالى، فانجح وراهن على نفسك واستعن بالله ولا تعجِز وسيحصل هذا بإذن الله – تبارك وتعالى – ومن ثم سوف تكون العبد الذي ترضى عنه في النهاية الرضا الأعظم لأن الله قدر رضيَ عنه. نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم وعن سائر إخواننا المُسلِمين والمُسلِمات.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت وتولنا فيمَن توليت، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مهموماً ومحزوناً ومكروباً إلا فرَّجتع عنه ونفَّست عنه همه وحزنه وكربه يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، نسـألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادك فتنة فاقضبنا إليك غير مفتونين، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (7/10/2016)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 5

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: