أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.

ثم أما بعد، أيها الإخوة الأحباب:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، بقيت بلا شك بقية لها تعلق أو اعتلاق بتحديات وظروف واشتراطات عصرنا، زماننا هذا! بما يتعلَّق طبعاً كما تعلمون بالنظام السياسي الإسلامي، حديثنا ما زال مُتواصِلاً حول النظام السياسي الإسلامي.

أُريد أن أتناول بعض هذه المسائل المُستحدَثة أو المُستجِدة، على رأس هذه المسائل مسألة الرقابة على الحكّام، طبعاً كما تعلمون الزعم السائد للأسف في الأوساط الأُخرى – أوساط العلمانيين حتى يزعل أخونا عمر وأمثالهم – أن الدولة الإسلامية لا تُفسِح صدرها ولا تُفسِح مجالاً لهذه المسألة أو لهذه القضية، لماذا؟ لأنها دولة دينية، دولة ثيوقراطية، دولة تحكم باسم الحق الإلهي، ومَن كان يحكم باسم الحق الإلهي لا يُمكِن لبشر أن يكون لهم في المُقابِل الحق أن ينتقدوه، أن يتعقَّبوه، أن يُحاسِبوه، وأن يُراقِبوه.

طبعاً بداهة أنتم الآن ستكونون مصدومين وستأخذون موقف المُمناعة والرفض مُباشَرةً، أن هذا الكلام غير صحيح، أنت كمُسلِم ترفض هذا، وقراءتك للتاريخ مهما كانت يسيرة ومهما كانت قليلة تُؤكِّد أن هذا الفهم غير صحيح ولم يكن واقعاً في يوم من الأيام، ومن هنا المُغالَطة، مُغالَطة إصرار هؤلاء! لديهم إصرار عجيب على أن يُسموا الدولة الإسلامية دولة دينية بالمعنى الغربي للكلمة، دولة ثيوقراطية! وقد قلنا في الدرس السابق إن الفرق بين الدولة الإسلامية وبين الدولة الدينية أن الدولة الدينية يُحكَم فيها فعلاً باسم الحق الإلهي، هناك تفويض سماوي ووصاية ربانية، ولذلك الحاكم أو هيئة الحكّام تكون بمثابة ظل الله على الأرض، معصومون! معصومون ولهم وصاية وصلاحية، لهم وصاية على ماذا؟ على عقائد الناس، على مكنونات الناس، وعلى ضمائر الناس، هذه هي الدولة الثيوقراطية، الدولة الدينية! لا يُوجَد ثمة مجال للمُراجَعة أو المُحاسَبة أو المُراقَبة في الدولة الدينية، لكن في المُقابِل سواء عُدنا إلى النصوص الإسلامية المُحكَمة أو حتى إلى تجارب التاريخ في أسوأ عصور وأكثر عصور هذا التاريخ إظلاماً فضلاً عن عصوره المُزدهية أو الزاهية سنجد أن الحقيقة على الضد تماماً من هذا التصوير الشنيع.

فرسول الله مثلاً – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما تعلمون كثر ما كان يعود إليه أصحابه ويرجعون عليه بالسؤال، يا رسول الله هذا رأيك الشخصي أو وحي سماوي؟ يُفرِّقون بين الرسول مُبلِّغاً وبين الرسول كبشر مثلنا، وكما قلنا بإزاء الله – تبارك وتعالى – لا تُوجَد أغلبية، لا تُوجَد أصوات، ولا تُوجَد شورى، بإزاء حُكم الله – إذا قال الله – الكل يسكت، انتهى! حتى الرسول، لكن إذا كان هذا رأياً شخصياً لك يا رسول الله فأنت لك رأيك ونحن لنا آراؤنا، وهذا شيئ عجيب! الآن حتى الذهنية المُسلِمة المُعاصِرة مهما ادّعت الاستنارة والتفتح تستغرب من هذا، لم تتعوَّده! نحن لم نتعوَّد هذا بإزاء المشايخ الكبار، أليس كذلك؟ فكيف بإزاء رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام؟

طبعاً لن نُطوِّل بذكر قصة الحُباب بن المُنذِر الأنصاري مع رسول الله في وقعة بدر، معروف! أهذا منزل أنزلكه الله يا رسول الله أم هي الحرب والخدعة والمكيدة؟ قال لا، هي الحرب والخدعة والمكيدة، قال لا، أنا عندي رأي آخر، وتعرفون القصة، أليس كذلك؟ هذا واحد هكذا من الأنصار!

في قصة الخندق النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ثبت عنه أنه واثق وعاهد تميماً – قبيلة تميم – على أن يعودوا – لكي يُنفِّس عن المُسلِمين ويُخفِّف الضغط الشديد، الأحزاب في الخندق – ولهم ثُلث ثمار المدينة، وكُتِب العهد لكن الرسول لم يُوقِّع بعد، فقط ينقص خاتم رسول الله، التوقيع! وجاء النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – واستشار المعنيين بدرجة أولى بالقضية وهم الأنصار، المدينة مدينتهم والثمار ثمارهم والأرض أرضهم، فقالوا له باختصار كما في ابن إسحاق وغيره يا رسول الله أهذا شيئ أمرك الله به أو شيئ تُحِب أن تصنعه لنا؟ أي هل هذا الشيئ وحي أو شيئ تُحِب أن تصنعه لنا وتُريده لنا؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – بل رأيت الناس قد رموكم عن قوس واحدة – أي تألَّبوا عليكم إلباً واحداً – فأحببت أن أُنفِّس عنكم إلى حين، تنفيس! هذا من أجلكم، وهو رأيي واجتهادي الشخصي، قالوا لا والله يا رسول الله، لا نُعطيهم إلا السلاح، انتهى! ومشى أمر الناس.

انتبهوا! يُؤسِفنا جداً جداً أن الذين تكلَّموا كفرج فودة – رحم الله وغفر له إذا كان الرجل مُسلِماً – وأمثاله كانوا مُصِرين إلى آخر رمق وإلى آخر نفس أنها دولة ثيوقراطية يُحكَم فيها باسم الحق الإلهي، وهذا كان أول إمام – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهكذا كانت مواقفه، الذي يقول لصاحبيه الجليلين – الشيخيين الأجلين أبي بكر وعمر رضوان الله تعالى عليهما – إذا اجتمعتما على أمر لم أُخالِفكما فيه، كما رواه أحمد وإسناده صحيح، في مُسنَد أحمد! ماذا يعني؟ ما معنى ذلك؟ أن صوتين مُقابِل صوت يرجحان، عجيب! حتى ولو كان هذا الصوت صوت رسول الله؟ نعم، في غير وحي، في غير وحي حتى ولو كان صوت رسول الله، إذا اجتمعتما على أمر لم أُخالِفكما فيه، عجيب جداً هذا الشيئ!

إذن من أين أتت أو انبثقت أسطورة الدولة الدينية – الدولة الثيوقراطية – وأن المُسلِمين والإسلاميين يعدون الناس بدولة دينية، فانتبهوا أيها الناس وخذوا حذركم، لأن هذه الدولة إذا قامت فإنها ستتسلَّط بالحتم وبالحري على رقاب البلاد، وسيكون لها سُلطة وصلاحية التنقيب والتنقير والتفتيش عن مكانين أو مكنونات الضمائر والنفوس، وسوف تُلغي الرأي الآخر والآخر بكل صوره؟ هذا الكلام غير صحيح كما قلنا، بالنسبة للنصوص غير صحيح، بالنسبة للتجربة التاريخية في أسوأ عصورها – في العهد العثماني وما بعد العهد العثماني – هذا الكلام لم يكن صحيحاً في يوم من الأيام، وسنأتي بأمثلة سريعة من كل تاريخنا.

إذن فمن أين أتت هذه الأسطورة وهذه الخُرافة؟ يستندون على أشياء بأعيانها أو بعينها، الشيئ الأول يستندون على مقولة الحاكمية، وأنه لا حُكم إلا لله، وهذه دولة الحاكمية! طبعاً أكثر مَن تكلَّم وأفاض واستوعب الحديث جداً في تفاصيل هذه المسألة أو مقولة الحاكمية أبو الأعلى المودودي – رحمة الله عليه – ثم الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه رحمة واسعة، طبعاً سيد قطب تأثَّر جداً بالمودودي، هو استبطن المودودي، خاصة في السجن، في مرحلة السجن! استبطن كل أفكار المودودي، فالمودودي وسيد قطب تكلَّما جداً عن هذا، طبعاً نحن وعدنا قبل ذلك أن نتكلَّم – إن شاء الله – بالتفصيل عن مسألة الحاكمية، هذه تحتاج إلى مُحاضَرة مُوسَّعة لأربع أو خمس ساعات، حتى – إن شاء الله – نضع النقاط على الحروف، لكن الآن نتكلَّم فيها بسرعة بإذن الله، وأرجو ألا تكون مُخِلة.

مسألة الحاكمية، هذا أول دليل، يقولون انظر: لا حُكم إلا لله، هذا يعني أن الأمر انتهى، لا رأي للبشر، وأنت تُمثِّل حُكم الله فأنت تحكم باسم الله إذن، هكذا يُبسِّطون المسألة بسذاجة لا تخفى على ناقد، الحُكم لله وليس إلا لله ونحن نحكم بحُكم الله، باسم  الله إذن! إذن نحن نوّاب عن الله، وكلاء عن الله! نحن ظل الله، نحن أوصياء على البشر باسم الله، فهي دولة ثيوقراطية، دولة دينية! قالوا هذه هي الحُجة الأولى.

والحُجة الثانية ماذا عنها؟ هل لديكم حُجج أُخرى؟ قالوا نعم، العبارة التي – إذا استعرنا تعبير فرج فودة – قسم بها سيدنا عثمان – هكذا يقول هو: سيدنا عثمان، يعترف بسيادته لكنه طبعاً يُسدِّد إليه سهماً قاتلاً في مقتل – وشقَّ وفرَّق بها التاريخ الإسلامي قسمين، ما قبل وما بعد العبارة! حين قال لا والله لا أخلع قميصاً سربلنيه الله، في رواية قمصنيه الله، نفس الشيئ! السربال سربلنيه والقميص قمصنيه، نفس الشيئ! قال سربلنيه أو قمصنيه الله تبارك وتعالى، فقال هذا هو، الرجل يرى أنه يحكم باسم الله، هو الذي جعله حاكماً، إذن دولة ثيوقراطية!

هل لديكم حُجج أُخرى؟ طبعاً لم يأتوا بشيئ من التاريخ، لا تُوجَد وقائع تاريخية تُؤكِّد ذلك، كلمات يلتقطونها من هنا ومن هنا ومن هنا، وطبعاً مع إغراض، وفعلاً يضح لنا تماماً عند دراسة أمثال هذه المسائل أن الغرض مرض للأسف، أن يكون من أبناء العروبة والإسلام أُناس مُغرِضون إلى هذه الدرجة، إلى هذا الحد! أي كل الوثائق وكل الدلائل تقف – سُبحان الله – أكواماً كالجبال شاهقة في جانب، ثم يلتقطون كلمات لا معنى لها – الآن سوف ترون أنه لا يُوجَد فيها حتى شُبهة من حُجة، شُبهة! شيئ أو شيئان أو ثلاثة – ثم يُكوِّنون نظرية عن دينية الدولة الإسلامية، كلام فارغ طبعاً، مهزلة! مهزلة فكرية، عيب! للأسف الشديد لديهم هكذا، عندهم – سُبحان الله – غرام شديد بتقليد الغربيين، نفس ما وجَّه الغربيون من نقود – جمع نقد، أي Critique – إلى كنيستهم وتاريخهم يُريدون أن يجتافوه، أنا أُسميه الاجتياف، أي يبلعون! يجتاف الشيئ أي يبلع الشيئ، لُغة الاجتياف الفكري! يبلعونها كما هي ثم يرجعونها علينا، يقيئونها عليها! ما الطريقة الفكرية هذه؟ تعيسة جداً جداً، ادرس تاريخك، ادرس أفكارك، وادرس نُظمك في سياقها يا رجل، لا تكن مُقلِّداً إلى هذه الدرجة القردية المشنوعة، شيئ مشنوع جداً من التقليد!

والعبارة الثالثة والأخيرة قالوا عبارة أبي جعفر المنصور، أبو جعفر المنصور قال عبارة موجودة عندنا، ماذا قال؟ قال إنما أنا أسوسكم بأمر الله وتسديده وتأييده، الله – عز وجل – هو الذي أعطاني هذا الحُكم، إنما أنا أسوسكم بأمر الله وتسديده وتأييده، وأسير فيكم في مال الله – تبارك وتعالى – بإذنه وأمره، فقد جعلني قفلاً عليه، فإن شاء أن يفتحني فتحني على أرزاقكم، وإن شاء الله أن يُقفِلني – من أقفل وليس قفل – أقفلني، هذا الحاكم إلهي! من الله مُخوَّل – Directly – من الله تبارك وتعالى، أي بشكل مُباشِر! 

فلنُناقِش هذه الشُبهات السخيفة، هذا أقصي ما لديهم من تاريخنا، أولاً قضية الحاكمية لابد أن أتكلَّم فيها كما قلنا بكلمة فصل سريعة على استعجال ليس مُخِلاً إن شاء الله تعالى، وبالمُناسَبة الجماعات الإسلامية أيضاً منهم مَن يُخِل بفهم هذه المسألة خللاً فظيعاً، الحاكمية غير واضحة لديهم، أول مَن استحدث اللَبس – اللَبس، أي الالتباس، لكن اللُبس هو أن تلبس الشيئ، ليس اللُبس وإنما اللَبس – في فهم هذه المسألة هم الخوارج، وأول مَن رفع شعار الحاكمية الخوارج، حين قالوا للإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – لا حُكم إلا لله، طبعاً تعلمون أنتم تفاصيل القصة وحيثياتها، هم الذين ألجأوه بالذات – هؤلاء الذين صاروا خوارج بعد هم الذين ألجأوه – إلى قضية التحكيم، الإمام عليّ كان يعلم أنها خُدعة، ولم تنطل عليه، وهو أراد أن يُواصِل القتال، رُغم أن المصاحف على أسنة الرماح، هذا القضية لا يُمكِن أن يُخدَع بها مثل الإمام عليّ عليه السلام، ما معنى أن تضع المصاحف على أسنة الرماح؟ نحن نعرف موقفك، الموقف لا يكون برفع المصاحف، وإنما برفع مبادئ المصاحف، تماماً كما لا يكون ببناء المساجد والكلام على المنابر، وإنما بتجسيد مبادئ القرآن على المنابر وليس اغتيالها، هكذا! فالإمام عليّ كان يعلم، لكنهم قالوا له كيف؟ كيف نُقاتِلهم وقد رفعوا المصاحف؟ لابد أن تقف القتال، فقال فليكن هذا، نزل على رأي الأغلبية، وقف القتال عليه السلام، وبعد ذلك كانت القضية المشهورة، لا نتكلَّم فيها، قضية التحكيم! وهي أيضاً تحتاج إلى تدقيق تاريخي وتدقيق علمي، مسألة أُخرى!

بعد ذلك قالوا لا، أنت الذي حكَّمت الرجال، ونتيجة الحُكم لم تُعجِبهم، أليس كذلك؟ نتيجة الحُكم لم تجعل إمامهم يبقى هو الإمام الذي بايعوه من قبل، هذا يعني أنك الذي خرَّبت علينا كل شيئ، هكذا زعموا! فتبرأوا منه وقالوا أنت كفرت – والعياذ بالله كفَّروه عليه السلام – بتحكيمك الرجال في دين الله، والله قال إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩، وكيف تُحكِّم غير الله؟ إذن أول مَن أطلق ورفع هذا الشعار – لا حُكم إلا لله، إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩ – هم الخوارج، بماذا علَّق عليهم هذا الإمام الجليل عليه السلام وكرَّم الله وجهه؟ بعبارة صارت مثلاً، ذهبت مثلاً! قال إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩، يقولون كلمة حق يُراد بها باطل، نعم إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩ ولكن لابد للناس من إمام برٍ أو فاجرٍ، لكن هؤلاء يقولون لا أمير إلا الله، لا إمام إلا الله! قال جهلة، أي الإمام عليّ، هذا الرجل عبقري بلا شك، بلا شك الإمام عليّ شخصية عبقرية نادرة المثال، من أي زاوية درست هذه الشخصية تُعجَب، فعلاً يبرهك شُعاع هذه الشخصية، شخصية غير عادية!

انظروا إلى هذه القضية، أي قضية الحاكمية، والله أنا شخصياً شغلتني سنوات، وقرأت فيها الكثير الكثير، في النهاية وفي المُحصِّلة أقصى ما تتوصَّل إليه لخَّصه الإمام عليّ بهذه الكلمة والله! ولا أقول هذا مُبالَغةً، والله كلمة واحدة! كل ما وصل إليه الفكر في هذه المسألة – الفكر الإسلامي والعلماني وما إلى ذلك – وتحقيق الحق فيها هو لخَّصه بكلمة، الآن إذا أردنا أن نُعبِّر بأحسن تعبير عن هذه القضية العلمية – بتعبير علمي – ماذا نقول؟ نقول خلطوا بين نوعين من الحاكمية، وباللُغة الأجنبية بين الــ Government وبين الــ Judgement، تماماً هذه هي المسألة! وإذا تكلَّم أي إنسان دستوري أو أي فقيه يفهم فسيقول نعم هذا صحيح، يُوجَد فرق كبير بين الحُكم والحاكمية بمعنى Government وبمعنى Judgement، فرق كبير جداً! وهو قال هذا، أي الإمام عليّ، هو قال هذا بلُغة عصره، بخصوصية الخطاب العربي الإسلامي! ماذا قال عليه السلام؟ قال إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩ حق، لكن حق يُراد به باطل، حرَّفوا في المعنى، هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، كيف؟ الأمير يكون من الناس، الله لا ينزل ويتسربل – أستغفر الله العظيم، اللهم عياذاً من الكفر – بسربال إمام وخليفة ويحكم الناس، هذه أفكار تلمودية يهودية، أليس كذلك؟ أفكار فارغة، لا يُمكِن! وهذا لم يحدث أصلاً في التاريخ، هذه محض خُرافات! ومعروف هذا ولا يقول به الخوارج أصلاً.

إذن الحُكم لله والإمرة للناس، ماذا يقول الإمام عليّ إذن؟ يقول الحاكمية التشريعية لله، والحاكمية التنفيذية السُلطوية للبشر، إذن – كما قلنا في الدرس السابق – هذا هو، وهذا – سُبحان الله – انتهى، هذه الكلمة تحل لك الكثير من الإشكالات، مفتاح سحري هذه، فعلاً مفتاح سحري! ويا ليت كثير من شباب الصحوة الإسلامية الذين انحرفت بهم أفكارهم وشطت بهم وشذت بهم عن سواء السبيل يفهمون هذه الحقيقة الصغيرة الهائلة، صغيرة في التعبير عنها، هائلة في نجاعتها الفكرية، فيها نجاعة غير عادية، تجعلك تقف فعلاً على سواء السبيل وتفهم مقطع الحق، أين هو مقطع الحق في هذه القضية؟ فالحاكمية التشريعية لرب العالمين، صحيح! لا يستطيع أن يأمر وأن ينهى وأن يُحلِّل وأن يُحرِّم إلا مَن؟ إلا مَن له الخلق، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩، إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩، ولكن الحاكمية بمعنى القيام على حراسة وتنفيذ أحكام الله وشرع الله وتطبيقها وتصريفها وتكييف الوقائع والواقع بحسبها ووفقها لمَن؟ للحاكم البشري منا، أليس كذلك؟ الحكم لله – تبارك وتعالى – ثابت وله مصادره العتيدة في الكتاب والسُنة، وما دل عليه – ودرسنا هذا بالتفصيل في علم أصول الفقه – واضح، هذا أولاً.

ثانياً ما مصدر شرعية هذا الحاكم لكي يصل ويصير حاكماً علينا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور الناس، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مُؤكِّداً الناس ثم استتلى قائلاً إذن مصدر القانون ما هو؟ الكتاب والسُنة، الدين! أي مصدر الشرع، الدين! ومصدر السُلطة ما هو؟ الناس، هذا هو فقط، انتهت هذه المسألة! فمسألة الإمارة بين الناس، من شؤون المعاش، ليست من شؤون الدين المحضة وإنما من شؤون المعاش، أمر مدني هذا وسياسي، تدبير الدنيا وحراسة الدين، هذا شأن بشري أيضاً، لكن مصدر القانون، مصدر التشريع، ومصدر الأحكام: الله تبارك وتعالى.

إذا أردنا أن نتوسَّع خُطوة واحدة – فقط من ناحية علمية – فنقول حاكمية الله تبارك وتعالى – أيها الإخوة الأفاضل والأخوات – نوعان بحسب ما دل عليه الكتاب العزيز: هناك حاكمية كونية قدرية، إذا شاء الله شيئاً هل تقف مشيئة دون مشيئة الله أو بإزاء مشيئة الله أو أمام مشيئة الله أو تقف مشيئة الله تبارك وتعالى؟ طبعاً يُقال وقفه يقفه وليس أوقفه، أوقفني البوليس Police غلط، لا يُوجَد أوقفني، الصحيح وقفني، قفوا هذا العبث، أي أوقفوه، لا يُوجَد في اللُغة أوقفوه، هذه الهمزة لحن، هل تستطيع مشيئة أن تقف مشيئة الله تبارك وتعالى؟ مُستحيل! قال – تبارك وتعالى – أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، أي حُكم هنا هو المعني؟ الحُكم الكوني القدري، إذا الله أراد شيئاً فمُستحيل أن يُوقِفه أحد، إذا أراد أي حدث في عالم الناس أو في عالم الطبيعة والكون فلن تستطيع أي إرادة أو مشيئة أن تقف مشيئة الله، إذن هذه الحاكمية هنا – وَاللَّهُ يَحْكُمُ ۩ – حاكمية قدرية أو شرعية؟ قدرية، لكن هناك حاكمية شرعية وردت في آيات كثيرة جداً جداً، مثل آيات إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۩، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۩، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۩، إلى آخره! هذه كلها الحاكمية التشريعية.

انتبهوا أيضاً، هنا تُوجَد نُقطة مُهِمة جداً، بعض الناس يقول الشارع وقد قضى الشارع ويُريد به الشارع الوضعي، الإنسان المُجتهِد القانوني في الشريعة أو حتى في القانون الوضعي، ويُسمون المُشترِعين، هكذا! أي الشارعين طبعاً، فهل هناك مندوحة أو مسافة أو مساحة يتحرَّك فيها العقل الاجتهادي، العقل الفقهي، وعقل العالم المُسلِم المُجتهِد لكي يُشرِّع؟ انتبهوا، التشريع ابتداءً ليس إلا لله، كلام فارغ! أن تقول لي واحد يُشرِّع ابتداءً هذا كفر، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – قد احتاز واستبد بالحاكمية التشريعية، لأن مَن له الخلق له الأمر، هذا تبرير قرآني عجيب جداً، مَن له الخلق له الأمر، طبيعي جداً هذا يا أخي، طبيعي! لا يُمكِن أن يُعطيك الكتالوج Catalogue أو الدليل – Guide – الذي يُشغِّل آلة مُعيَّنة إلا مَن هندسها وركَّبها، هو الذي يعرف! هو الذي يعرف كيف ينبغي أن تسير، أليس كذلك؟ ويُعطيك المحاذير، ممنوع أن يحدث لها كذا وكذا وكذا، ولابد من صيانة وخدمة Service بعد كذا وكذا وكذا، الذي خلقها، الذي صنعها، والذي ركَّبها! أليس كذلك؟ فالذي خلقك وركَّبك هو الوحيد الذي عنده الحق أن يأمر وينهى، ويعرف ماذا يُصلِحك وماذا يُفسِدك، وقلنا نحن هذا، واستخدمنا الفكرة هذه في نقد مسار الحداثة كل الحداثة المفتوح على إمكان لا نهائي، إمكان تجريبي لكل شيئ لا نهائي، غير مُمكِن! طبعاً حتى فلسفياً هذا في النهاية انتهى بأن الحداثة نفسها قد اغتالت نفسها، هذه المُشكِلة! معروف الآن أن عندنا أزمة ما بعد الحداثة، أليس كذلك؟ وهي أزمة قيمية بدرجة أولى، وهذا شيئ طبيعي، لن نُفسِّر هذا فلسفياً، فهذا موضوع ثانٍ.

إذن أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩ تبارك وتعالى، لا إله إلا هو! فما نُريد أن نقوله من ناحية ابتدائية ومن ناحية الأصالة التشريع لله، لكن هناك مسائل يُسميها العلماء منطقة العفو، أخذاً من الحديث الصحيح – الحديث النبوي عن رسول الله – وترك أشياء رحمةً بكم غير نسيان – أي من غير نسيان – فلا تسألوا عنها، وما سكت عنه – في حديث آخر – فهو عفو، فاقبلوه من الله عافيته، هناك أشياء مسكوت عنها! هذه الأشياء المسكوت عنها لم يُفصِّل فيها، علماً بأن ما نحن بصدده من هذا القبيل، كل ما يتعلَّق بالإمامة – أي بالنظام السياسي الإسلامي – من قبيل المسكوت عنه، (ملحوظة) قال أحد الحضور من المسكوت عنه، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، ليس من المسكوت عنه وإنما هو من قبيل المسكوت عنه، فهناك نصوص وهناك أشياء طبعاً، لكن كيف هذه النصوص؟ هل هي مُطلَقة أم إجمالية؟ عامة، تحتاج إلى تقييد، تحتاج إلى تبيان، أي تبيين، تحتاج إلى تخصيص، تحتاج إلى تكييف وتصريف بالوقائع والظروف المُستجِدة، وقد أحسن رجلٌ من أئمة المُسلِمين الأجلاء وهو صاحب تقريباً أروع وأجل كتاب في السياسة الشرعية، (ملحوظة) قال أحد الحضور الماوردي، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، ليس الماوردي، الماوردي كتابه عادي، فقط مشهور هو، مشهور عند المُعاصِرين! وإنما الإمام أبو المعالي الجويني، إمام الحرمين، وشيخ الإمام أبي حامد الغزّالي، عنده كتاب ضخم كبير، عجيب! طبعاً هذا كان ثروة، حين نُشِر العلماء ابتهجوا بنشره أي ابتهاج! اسمه الغياثي، يُلخَّص هكذا بالغياثي، لأن اسمه الأصلي غياث الأمم في التياث الظُلم، كله في السياسة الشرعية، كتاب ضخم، مُجلَّد ضخم كبير! عجيب هذا الكتاب، عجيب جداً وينم عن إمامة هذا الرجل، بلا شك مُنقطِعة النظير، كان وحيد دهره فعلاً وفريد عصره بلا شك، ماذا يقول؟ أيضاً بعبارة عبقرية جداً يقول عُظم مسائل الإمامية خلية عن مسائل القطع ومدارك اليقين، صحيح! أكثر مسائل الإمامة – أي السياسة الشرعية – ليس فيها أشياء قطعية وأشياء نقول من خلال هذه وجهة نظر واحدة وانتهى الأمر، للأسف يا ليت بعض المُعاصِرين من الإسلاميين يفهمون هذه الحقيقة، مَن يُعطون فتاوى ويقولون لا يجوز تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية، قولاً واحداً، انتهى! لا يجوز ترشيح المرأة أو كذا وكذا، لا يجوز ترشيح غير المُسلِمين، لا يجوز… لا يجوز…

قبل أيام كنت أقرأ في رسالة لأحد الإخوة المُعاصِرين، للأسف يتكلَّم الرجل ويقول سأقول فيها – بإذن الله – كلمة الحق التي تفصل في النزاع، فضحكت والله، ضحكت فعلاً! تُوجَد راحة لدى هذا الجاهل المسكين، العالم الجاهل أو المُتعلِّم الجاهل، طالب العلم الجاهل، مسكين! وتكلَّم في أشياء بمُنتهى السذاجة، ألَّف كتاباً ونشره في السياسة الشرعية، سذاجة! سذاجة كُبرى لدى هذا المسكين، لو قرأ فقط عشرة كُتب لما تكلَّم الكلام هذا، فقط عشرة كُتب! لو قرأها لما تكلَّم بالطريقة هذه أبداً، لكن يبدو أنه لم يقرأ شيئاً في كتاب كله على بعضه من ثلاثين صفحة، هذه المُحاضَرة قده أربع مرات، ثلاثون صفحة للأسف الشديد! وقال سأقول كلمة الحق، انتهى! سأفصل النزاع بين المُسلِمين، لكن نحن لا نُريد هذا، بالعكس! نحن نُريد فكراً كفكر صاحب الغياثي، كفكر شيخ الدنيا في عصره أبي المعالي الجويني، هذه مسائل خلية عن مسائل القطع ومدارك اليقين، ليس فيها هذا، ليست قطعيات، كلها تقبل الاجتهاد! وهذا من رحمة الله ومن مرونة النص الإسلامي.

مثلاً مسألة الشورى، نحن نفهم – كما قلنا في الدرس السابق – أن الشورى مبدأ دستوري، ولابد من دسترة هذا المبدأ، أي لابد أن يرتقي إلى رُتبة المبادئ الدستورية، لماذا إذن؟ حتى لا نلعب به، انتهى! لأن أعلى شيئ سُلطة الدستور، فالشورى مبدأ دستوري، لا تقل لي لا تُوجَد شورى ويُوجَد استبداد وأنا أُؤيِّد حُكم الفرد وحُكم الاستبداد وحُكم الأقلية، مرفوض في الدين الإسلامي هذا، هذا مبدأ دستوري! لكن الآن كيفية تنظيم عمل المبدأ وتشغيل هذا المبدأ – يُسمونه التشغيل – متروك لنا ومتروك للحياة، وليس متروكاً للخلفاء الراشدين، لا تقل لي المسألة فيها إجماع، هذا كلام فارغ! أن المسألة فيها إجماع، كيف يُقال فيها إجماع؟ هذه المسألة لا فيها إجماع ولا فيها غير إجماع، هذه مسألة تتبع كل عصر، للخلفاء الراشدين أن يُنظِّموا وأن يُشغِّلوا هذا المبدأ وفق احتياجات عصرهم، وفق اشتراطات الزمان والمكان الذين يعيشون فيه، حتى إذا اختلفت هذه الاشتراطات لابد أن يختلف تشغيل المبدأ، أليس كذلك؟ هذه هي، ومن هنا الأمر مفتوح فعلاً على الاستفادة من تجارب كل البشر وكل الناس، بما فيهم طبعاً أصالةً المُسلِمون، هذا صحيح! فلا تقل لي – مثلاً – الفاروق أخذ من الأعاجم نظام الديوان – مثلاً – وسكت الصحابة فكان إجماعاً فيجب أن نأخذ نفس نظام الديوان الذي أخذه الفاروق، هذا كلام فارغ! اليوم تطوَّر علم الإدارة تطوراً فلكياً، يُوجَد تطور مُخيف جداً، فهل تُريد أن تُرجِعنا لكي نُنظِّم شؤون الناس وفق نظام الديوان فقط؟ بالعكس! الآن عندنا في الإدارة الغربية بالذات تراث لابد أن يُؤخَذ فعلاً بشكر، تراث مشكور فعلاً وغير عادي، بالذات في الإدارة! لماذا لا نأخذه؟ فلا تقل لي نظام الديوان عليه إجماع – أجمعت عليه الأمة – فنأخذه، هذا كلام فارغ، كلام مَن لم يفهم حتى حقيقة الإجماع، أليس كذلك؟ وهذه مسائل دنيوية، مصالح مُرسَلة! لا تقل لي تتبع الإجماع، تتبع المصلحة.

ولذلك حين تكلَّمنا في دروس الإجماع تكلَّمنا عن الإجماع وقلنا هناك مُستنَد الإجماع، إجماع مُستنَده النص، إجماع مُستنَده الاستحسان، إجماع مُستنَده المصلحة المُرسَلة، أليس كذلك؟ فالإجماع الذي يكون مُستنَده المصلحة المُرسَلة يتغيَّر بتغير المصالح، فهذه المسألة ليست بهذه البساطة، ولذلك هناك أُناس يُحرِّمون أشياء كثيرة ويقولون تُخالِف إجماع الصحابة، هؤلاء لا يفهمون أصول الفقه ولا حتى روح الفقه الإسلامي للأسف الشديد، لأن لا يُوجَد أي تعمق في الدرس العلمي حقيقة، لو وُجِد التعمق لما وقع صاحبه في هذه الأشياء البسيطة، كما يُقال يغرق في شبر ماء، أنت غارق في شبر ماء بسبب شُبهة بسيطة، وتُعسِّر على عباد الله ما يسَّر الله وتُغلِق ما فتح الله لأن الذهن للأسف ضيق جداً، وتغرق في شبر ماء وتُحرِّم كل شيئ، هذا مُحرَّم، هذا مُحرَّم، هذا مُحرَّم، وهذا مُحرَّم!

أُريد أن أقول شيئاً أيها الإخوة، انتبهوا! هذا الشيئ حري بنا أن نقف عنده طويلاً، ليست البطولة أو الشطارة كما يُقال أن نبني بناءً نظرياً هنا في المساجد وفي الكُتب الإسلامية أو في الساحات الأكاديمية حتى الإسلامية، فتقول هذه النظرية الإسلامية في السياسة: واحد، اثنان، ثلاثة، وعشرة! مثلاً، ليست هذه البطولة، البطولة عند التطبيق، أن نُقنِع الجماهير وأن نُقنِع الناس – مُختلِف أطياف الناس أو أكثر هذه الأطياف – بصلوحية هذه النظرية لهم، كيف؟ لا تزال الفكرة غير واضحة، قلنا في الدرس الماضي تعلمون دائماً أن الخلافة في أشهر تعاريفها – عندها تعاريف كثيرة لكن هذا تعريف الماوردي وتعريف ابن خلدون، ابن خلدون له تعريفان في المُقدِّمة، وهما تعريفان حازا على قبول جماهير الدارسين – هي نيابة عن صاحب الشرع، في ماذا؟ في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ونحن قلنا به، أي هي حراسة وسياسة، انتبهوا!

إذن شطر الخلافة – إي شطر السياسة الشرعية، أي شطر النشاط أو المناشط أو الفاعلية السياسية للمُسلِم، ولا نقول للإسلاميين وإنما للمُسلِمين – هي سياسة الدنيا، تدبير الدنيا! ما معنى تدبير الدنيا؟ هل تُقيم الحدود وتضع وتفرض على الناس النقاب والحجاب ثم ينتهي الأمر؟ هل هذا مُنتهى المُراد من رب العباد؟ بالعكس! تدبير الدنيا يدخل فيها مسائل الإدارة، مسائل الاقتصاد، مسائل الثقافة، مسائل التعليم، ومسائل العلاقات الدولية، كل مهام الدولة الآن! أليس كذلك؟ تدخل في الفعل السياسي، فهذا التحدي إذن أمام الإسلاميين – انتبهوا – في كل مكان بعد أن يصلوا إلى السُلطة، وأنا أعتقد أن طريق وصول الإسلاميين إلى السُلطة سهل جداً لو تُرِكت الناس وحرية ما تُريد، أي لو لم يكن هناك أي تدخل من سُلطات غاشمة داخلية أو من تآمر دولي على قرار الأمم للأسف الإسلامية، اتركوا الشعوب كما تُريد، أسهل شيئ هو وصول الإسلاميين إلى السُلطة، معروف! لا يُكابِر أحد على الحقيقة هذه، لكن هنا بداية التحدي، التحدي يبدأ بعد انتهاء المرحلة الأولى، إذا حُدِّدت المرحلة الأولى بأربع سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات بحسب ما يُريد الناس، ليس لنا علاقة، نأتي إلى صندوق الانتخاب مرة أُخرى، هنا التحدي! أن الناس سيُعطونك أصواتهم أو لا يُعطون هذه المرة، في المرة السابقة أخذت سبعين في المائة ويُمكِن أن تأخذ في المرة الحالية خمسة في المائة، لماذا إذن؟ على أي أساس؟ إذا كان نحسب أن الناس سيُعطونا أصواتهم لأننا ألزمناهم بالحجاب والنقاب وحرَّمنا التلفزيون Television – مثلاً – أو حرَّمنا – مثلاً – دور الخيال أو السينما Cinema أو فعلنا كذا وكذا أو – مثلاً – أقمنا الصلوات أو كثَّرنا المساجد فسنكون مُغفَّلين، كل الناس! حتى المُسلِمين منهم، حتى الأتقياء من المُسلِمين! الناس سوف تبحث عن مصالحها الحقيقية، ما ذُكِر نعم من مصالح الناس الدينية – الحجاب، النقاب، والصلاة، هذا جيد والناس تطلبه – لكنه ليس كل شيئ، بالعكس! كما قال حُجة الإسلام وفيلسوف الإسلام أبو حامد الغزّالي نظام الدين لا يتم ولا يستقيم إلا بانتظام أمر الدنيا، العكس غير صحيح، أرأيت؟ إذا نظام دنياك غير صحيح وغير كامل فحتى الدين لن يتم لك، دينك لن يتم لك، غير مُمكِن! كما قال أبو حامد الغزّالي – بمعنى كلامه، هذا مُحصِّل كلامه – فمَن كان مشغولاً بتحصيل قوته أو معاش يومه من أيادي الظلمة والمُجرِمين فمتى يتفرَّغ هذا لعبادة الله؟ متى يتفرَّغ مَن يجلس على مدار الأربع والعشرين ساعة من أجل تحصيل خُبزه؟ مثل الدول العربية اليوم! المسكين مُستهلَك، كما يقولون “سبع صنايع والبخت ضايع“، من أجل أن يأتي فقط برغيف الخُبز!

حدَّثني أحد الإخوة في دولة عربية شهيرة – دولة حضارية قديمة – عن مثل هذا، وبالورقة والقلم حسبناها، أنا وهو ومجموعة إخوة! قال لي والله مُرتَّبات المُوظَّفين الرسميين – قال لي والله – لا تكفي لأن تُطعِم هذا المُوظَّف وأهله وأولاده في أسرة مُتوسِّطة الخُبز الحاف، لا تكفي! حسبنا هذا بالورقة، فضروري أن تنتشر الرشاوى والإجرام والسرقة والمحسوبية واستهلاك الإنسان أيضاً، يشتغل أربعة أو خمسة أشياء المسكين ولا يفرغ لشيئ، تُحدِّثه عن حُكم إسلامي فيقول لك حُكم إسلامي ماذا؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ إلا إذا وعدته بأن هذا الحُكم سوف يُرفِّه حياته، سوف يُعطيه فُرصة أكبر، سوف يُحسِّن حياته الاقتصادية!

قال – تبارك وتعالى – على لسان إبراهيم الخليل الحنيف المُسلِم – أبو الحُنفاء عليه السلام – رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۩، أتُريد أن يُقيموا الصلاة؟ أتُريد أن يتفرَّغوا لعبادتك؟ أعطهم مُجتمَعاً جيداً آمناً فيه تواصلية، أعطه مُجتمَعاً فيه الخُبز وفيه الماء وفيه الضرورات، فيه الحد الأدنى للحياة الكريمة! إذا فعلت هذا يا رب – قال له – فسيشكرونك – إن شاء الله – وسيعبدونك، أرأيت؟ أرأيت الدلالة الغريبة للآية؟ فسِّر الآية حضارياً، فسِّرها اجتماعياً وتنموياً، وسوف ترى فيها بُعداً غير طبيعي، قال له رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ ۩، افعل لهم هذا وإن شاء الله سوف يُقيمون الصلاة، صحيح! من هنا فيلسوف الإسلام أبو حامد الغزّالي فهم هذه الحقيقة، هذه لمحة قرآنية لخَّصها الله في هذه الآية من سورة إبراهيم، نظام الدين لا يتم ولا يستقيم ولا يكون إلا بانتظام أمر المعاش، أمر الدنيا! فالتحدي الحقيقي أمام الإسلاميين ليس في شقشقة الكلام كما نفعل الآن، سهل جداً هذا، فنُحاضِر، نتكلَّم، نكتب، نُؤلِّف، ونبني نظريات وهمية أو حقيقية، سهل جداً هذا، أسهل شيئ! التحدي يكون باختبار هذه النظريات واختبار أدائنا الفعلي على أرض الواقع، فإذا سُوسنا – وهذه هي وظيفة الخليفة، وظيفة أمير المُؤمِنين، وظيفة رئيس الدولة الإسلامي، وظيفة الحزب الإسلامي الذي يحكم، وظيفة أي شيئ! وظيفة الإسلام حين يحكم الحياة – الناس حقاً ودبَّرنا – السياسة هي التدبير – أمور دنياهم على ما يُحقِّق لهم الأمن والحد على الأقل الكريم من شؤون المعاش بلا شك سيُعطوننا أصواتهم مرة أُخرى، وسيثبت أن المشروع الإسلامي ناجح وقادر على سياسة الدنيا وتدبيرها، هل فهمتم كيف هذا؟ لكن نحن لسنا كذلك للأسف، اختزلنا القضية فقط في أن نحكم الناس لكي نردهم إلى طاعة الله، إلى التقوى، إلى الزُهد، وإلى كذا وكذا، غير صحيح! الناس لا تطلب هذا فقط، الناس تطلب قبله وبعده أشياء هي أولى منه في نظر الناس، أليس كذلك؟ هل تعرف لماذا؟ لأن عبادة الله بهذا المعنى الطقوسي وبهذا المعنى الطقوسي أستطيعها في ظلم نظام دولة علماني أيضاً، أقدر أن أعبد الله في بيتي وما إلى ذلك، وأقدر حتى أن أُحجِّب النساء، لم نر إلى الآن تقريباً مَن يمنع هذا إلا في بعض الدول المُجرِمة التي فيها العلمانية الوحشية، علماً بأن هذا المُصطلَح غير موجود لكن يُمكِن أن ننحته، هناك رأسمالية وحشية وهناك أيضاً علمانية وحشية، مثل بعض الدول العربية، دول واحدة على الأقل! هي التي تُرغِم الفتيات والنساء إرغاماً على أن ينزعن حجاب الرأس بدعوى أنه حجاب سياسي، ما هذا؟ ما هذه المُصيبة؟ يقولون هذا زي سياسي، يحمل أو مُحمَّل بحمولة سياسية، ما شاء الله! والصلاة لماذا لا تكون سياسية؟ طبعاً هي سياسة عندهم لكنهم لم يُصرِّحوا بهذا، ولذلك يقولون ضُبِط مُتلبِّساً بصلاة الفجر خمس مرات، سياسة! لكنهم لا يقدرون أن يقولوا هذا، هذا كفر! هذا كفر صحيح، هذا يعني أن الأمر انتهى، أنت ضد الصلاة  وهذا يعني أنك ضد الدين كله، لكن هذا مكتوب ومعروف، وأنا رأيت إخوة – والله – حقيقيين، أحدهم قال لي أنا سُجِنت وهكذا قيل في تُهمتي، الأخ الذي حدَّثني قال لي صليت في مرتين، راقبوني وقالوا ضُبِط مُتلبِّساً بصلاة الفجر في مرتين مُتواليتين، ما شاء الله عليهم، على التوالي! هذا يعني أن الصلاة عندهم سياسة والحجاب سياسة، الدين كله سياسة! إذن هم كذبوا حين قالوا لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أنتم كذّابون، اتركوا لنا ديننا إذن، خرَّب الله بيوتكم، اتركوا لنا ديننا، دعونا نُصلي ونتحجَّب وما إلى ذلك، لا نُريد حُكمكم ولا نُريد السياسة هذه، لكنهم قالوا لا، هذا الدين السياسة، هل تعرفون لماذا؟ لأن فعلاً ديننا هكذا، وهم صدقوا في ذلك، صدقك وهو الكذوب، يعرفون طبيعة هذا الدين لا يُمكِن أن تُجرِّد منها السياسي، أي المُكوِّن السياسي، مُستحيل! تُوجَد مسألة نسقية، تُوجَد مسألة سدى ولُحمة، مُستحيل الفصل،  كيف هذا معمول؟ هناك سدى وهناك لُحمة، هكذا الدين! الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الحضاري، التنموي، والاقتصادي فيه سدى ولُحمة، مُستحيل! كذلك مع العقدي، مع العبادي، مع الأُخروي، يستحيل أن تفصل، لو فصلت سيأتي إلينا شيئ ليس هو الإسلام، ليس هو دين الإسلام، لا نعرفه ولن نعرفه!

أنت حين تأتي وتقنت في الصلاة وتقول اللهم أهلك اليهود تكون سياسة هذه أو لا تكون سياسة؟ هذه سياسة، مُستحيل أن تقول غير هذا، لا تقدر! أليس كذلك؟ يوم الجُمعة كل خُطباء الدين يقولون اللهم عليك بأعدائنا، أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، هذه سياسة! هذا صحيح ومضبوط، صحيح كلامهم، هذه سياسة! لكنك لا تقدر على الفصل، والمُسلِمون طيلة حياتهم يفعلون هذا، أليس كذلك؟ هذا القنوت من الدين، وهو حين شُرِّع كان هذا سياسة، أليس كذلك؟ النبي قنت على قبائل ظلموا أصحابه وقتلوهم، وظل يلعنهم أكثر من شهر، أليس كذلك؟ سياسة! هذه جُزء ـ لأن هذا الدين جاء ليُوجِّه الحياة، ليقود الحياة، فلا يُمكِن أن تفصل السياسي منه عن غير السياسي، مُستحيل وصعب! ولذلك مقولة الدين والسياسة أنا كمُسلِم لا أفهمها حقيقةً، الغربي يفهمها جيداً لكنني لا أقدر على أن أفهمها، كمُسلِم فاهم ديني لا يُمكِن، لا أقدر على أن أتصوَّرها، كيف تفصل السياسي وتقول أنا مُتدين؟ لا أقدر على أن أفهم هذا، مُستحيل! كأنك تفصل الروح عن الجسد ثم تتحدَّث عن كائن حي، هذا مُستحيل، انتهى! لا الروح قيمة بغير جسد يُعطيها العيانية والتشخيصية والواقعية – أليس كذلك؟ – ولا الجسد بغير روح يُمكِن أن يُعطي الكيانية العضوية الحية، غير مُمكِن! لا هذا ولا هذا، انتهى! لكن الاثنان مع بعضهما يُعطيان كيانية عضوية حيوية، صحيح! يُمكِن أن نتحدَّث عن هذا ككائن وكوجود حقيقي كياني، هذه مسألة الدين!

اللهم صل على سيدنا محمد، أقول التحدي الحقيقي ليس في اجتراح نظريات وبناء نظريات في فراغ أكاديمي وفي فراغ تخيلي، بالعكس! في اختبار النظريات في الواقع، يا ليت نحن كإسلاميين نفهم هذا جيداً، ولذلك لابد أن نُولي مسألة تدبير دنيا الناس أكبر اهتمام ثم نفرغ، انتهى! نفرغ من استهلاك أنفسنا، استهلاك المنابر، استهلاك الشباب، واستهلاك المُستمِعين والقارئين في مسائل ليس لها مدخلية واضحة في سياسة دنيا الناس، كما قلنا مسائل كذا وكذا، لا! هذا ليس له علاقة، بالعكس! لابد أن نستهلك أنفسنا في مسائل الاقتصاد، مسائل السياسة، مسائل الإدارة، مسائل السياسة الدولية، ومسائل الفقه الدستوري، التي تُحرِّك حياة الناس، وكذلك مسائل تحرير المُستضعَفين، هذه هي المسائل! أليس كذلك؟ إنصاف الناس والعدالة الاجتماعية، أليس كذلك؟ الحريات بكل أنواعها، سياسية وغير سياسية، هذه المسائل التي نُريدها، ونكتب فيها ونُنظِّر ليل نهار، ونحمل أنفسنا ونُمارِس حتى التجريب ولو في أُطر ضيقة جيداً، حتى إذا صرنا إلى مرحلة الحُكم استطعنا أن نُقدِّم للناس شيئاً، ونُثبِت أن الإسلام قادر على قيادة الحياة، ليس فقط في إطار اجتراح نظريات محضة وهمية، هذا تحدٍ وتحدٍ خطير بالمُناسَبة، بصراحة الذي أوحى إلىّ به اليوم النتيجة التي سمعتها عما تحصَّل عليه إخواننا في حزب الإصلاح والتجديد في المغرب، استأت في الأول وصُدِمت، لأن هذه بالنسبة إلى النتائج السابقة تُعتبَر للأسف نتيجة كارثية، فلماذا؟ فخطرت لي هذه الفكرة، قلت ربما يكون هذا السبب إذا كانت طبعاً الانتخابات غير مُزوَّرة، لأن في النهاية – كما قلنا – هذا غير كافٍ.

على كل حال نترك هذه النُقطة، في ماذا كنا نتكلَّم؟ اللهم صل على سيدنا محمد، مسألة الحاكمية! هناك حاكمية قدرية وهناك حاكمية تشريعية، في منطقة العفو ومنطقة الإجمال ومنطقة الإقلاق ومنطقة العموم هل تُوجَد مدخلية للعقل الفقهي لكي يتحرَّك أم لا تُوجَد مدخلية؟ تُوجَد مدخلية واسعة، أليس كذلك؟ منطقة الاستحسان، منطقة الاستصلاح، وتحكيم أعراف الناس بالشروط الأصولية طبعاً، موجودة! إذن عندنا هذا.

بعد ذلك يُمكِن أن نتحدَّث عن منطقة الاستصلاح بالذات، الآن اجتراح – مثلاً – أو تقنين قوانين إدارية، في عالم الإدارة! هل يُخالِف شرع الله – تبارك وتعالى – هذا وهو يُحقِّق للناس بالمصلحة؟ بالعكس! أنت مأمور أن تتحرَّك هنا وأن تختط الخُطة الأنسب، لأن قوانين المرور – مثلاً – هل هي تتناقض مع الشريعة؟ هي تُحقِّق فائدة كبيرة جداً جداً جداً للناس، للراكب وللسائر! أليس كذلك؟ ولأشياء كثيرة، إدارة المدينة مُواصلاتياً ليس لها علاقة، وهنا يتحرَّك فيها العقل الاجتهادي، لا تُوجَد مُشكِلة! حتى المسائل هذه – مسائل الفقه السياسي الإسلامي، حق الانتخاب، حق الترشيح، أهل الذمة، غير المُسلِمين، أو المُواطَنة بإزاء الذمية، وأشياء مثل هذه – كلها مسائل غير قطعية حقيقة، للإنسان أن يتحرَّك فيها الآن، أنا سأضرب حتى أمثلة اليوم حرجة جداً جداً، أنا عندي – الحمد لله – الجرأة والشجاعة، لا يهمنا شيئ ونُريد أن نُناقِش إن شاء الله، بعض الناس يخاف ويقول لا، قد يُكفِّرونني بعد ذلك، لكن هذا لا يهمنا، لأن هذه المسائل ليست قطعية، أنا لا أخاف من أن يُكفِّرني أحدهم أو لا يُكفِّرني، ولا يعنيني حتى إن كفَّرني جاهل، لا يعنيني! يعنيني أن نُحاوِل أن نصل إلى الحق ونُقارِب الحقيقة – إن شاء الله – في هذه المسائل، وهذه مُجرَّد مُقارَبات، الحقيقة عند الله تبارك وتعالى، نحن نُحاوِل قدر المُستطاع في ضوء المبادئ الدستورية الإسلامية والتي عرضنا خمسة منها في المرحلة السابقة من هذه المُحاضَرة إن شاء الله تبارك وتعالى.

فهذا موضوع الحاكمية، ليس لهم حُجة مُطلَقة في قضية الحاكمية، إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩، بالعكس! الحاكم كمُشرِّع هو الله، والبشر لهم حق التشريع في منطقة العفو وفي مناطق أُخرى قريبة منها ذكرناها في أصول الفقه بتوسع حول هذه المسائل، لا تُوجَد مُشكِلة! لكن الذي يحكم ويسوس ويُنفِّذ أحكام الله هم البشر، ومرجعيتهم في ذلك هي الناس، سُلطة الناس! فالسُلطة الحقيقية في آخر المطاف لمَن؟ للأمة، للشعب، وللجمهور، ليست لهذا الرأس أبداً! السُلطة للناس.

بالمُناسَبة أيضاً التوصيف الفقهي القديم – وهذا شيئ عجيب، استفتوا واستشيروا المراجع السياسية الإسلامية – للخليفة ولأمير المُؤمِنين هل كانت توصيفاً يُفيد بأنه نائب عن الله – تبارك وتعالى – أو أنه ظل الله أو وصي الله على البشرية وعلى الناس؟ أبداً أبداً، تفاوت بين كلمتين: وكيل أو أجير، الله أكبر! انظر إلى أين بلغت العظمى، هذا من قديم!

دخل أبو موسى الخولاني – الفقيه التابعي الجليل، من أسياد التابعين – على مُعاوية بن أبي سُفيان رحمة الله عليهما، دخل عليه وقال السلام عليك أيها الأجير، فأُناس قالوا له كيف تقول هذا؟ لم يكونوا مُتعوِّدين طبعاً كما تعرفون هؤلاء الجنود، كيف يقول هذا؟ ومُعاوية كان ملكاً، يلبس كملك ويجلس كملك وعنده حرّاس وما إلى ذلك، كان يفعل هذا، وعنده طبعاً عُذر لأنه قريب من الروم، هذا في بلاد الشام! فلابد أن يتخذ هذه الهيئات لكي يُثبِّت هيبته وسُلطانه، هكذا كان يعتذر، على كل حال اجتهاده هذا! فكيف يقول له أجير؟ هذا ملك في نظرهم، فهموا به! فقال له السلام عليك أيها الأجير، مرة ثانية! نعم أنا قصدت ما قلت، لست أهبل، أفهم ماذا أقول، أنت أجير، أجير عند الأمة! فهو جاء لكي ينتقد، هل جاء لكي ينتقد ظل الله في الأرض؟ ينتقد حاكم بشري يعرف أنه قاصر، العصمة للرسول فقط، العصمة للمعصوم، والعصمة في ماذا أيضاً؟ في التبليغ، فالآراء البشرية تظل نسبية، قد يكون رأي الرسول بلا شك صحيحاً، لكن غيره يرى أن رأيه أصح من رأيه، مثلما رأينا اليوم في بعض المسائل، أليس كذلك؟ هذا رأيك يا رسول الله وهو صحيح، لكن رأينا أقرب إلى الصحة من رأيك، وقال لهم النبي لا بأس، هذا جميل وهو صحيح، صوتان ضد صوت وأنا أُرجِّح الصوتين، تخيَّلوا! عظمة في الدين، فمَن بعد ذلك يقول عكس هاذا؟ إذا الرسول معصوم وغيره بشر فالبشر عُرضة للخطأ والنسيان، وكل واحد لابد وأن يُقوَّم، أليس كذلك؟ أبو بكر في أول خُطبة له قال هذا، وبالمُناسَبة للأسف لا أعرف لماذا هذه الكلمة لا تشيع كثيراً في الناس ككلمة عمر مثلاً، والله هي أعظم حتى من كلمة عمر حقيقة، أبو بكر هو الذي اجترح هذه الخُطة بشكل غير طبيعي، واقتفى فيها بشكل أمين جداً خُطى رسول الله، كان يقول لهم وليت عليكم ولست بخيركم، كلمة عظيمة جداً! واحد منكم أنا، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، من أول يوم! أنا لا سُلطة إلهية ولا غير هذا أبداً أبداً، بشر نسبي ضعيف تماماً، مُعرَّض للخطأ والنسيان، فأنتم راقبوني وحاسبوني، يُغريهم بمُعارَضته، يُغريهم بالتنقيد عليه، ويُغريهم بمُحاسَبته، عجيب جداً! والكلمة الأعظم منها أو مثلها في العظمة ما هي؟ ماذا يقول لهم؟ الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، هذه كلمة عظيمة جداً، هذه المفروض تُشتهَر في العالم حتى بين الغربيين، مثل كلمة استعبدتم الناس وقد ولدتهم أماتهم أحراراً؟ والله لا تقل عنها إذا لم تكن أعظم منها حقيقةً، أعظم منها حقيقة! لأن متى استعبدتم الناس كلمة مثالية، جميلة جداً! لكن هذه – الضعيف فيكم والقوي فيكم عندي – فيها رائحة تنفيذية، أنا كسُلطة هذا دوري، أنا كسُلطة – يقول لهم – هذا دوري عملياً، أرأيتم؟ تُحيل إلى عمل هذه، تُحيل إلى تنفيذ، تُحيل إلى بلورة دور السُلطة الحقيقي، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، الله أكبر! باللُغة الدستورية كيف نُترجِم الكلمة هذه؟ سيادة الدستور على الجميع، قانون العدل والنصفة والمُساواة على الجميع، لا تقل لي أنا ابن القبيلة الفلانية أو أنا عمر أو أنا عليّ، لا يُمكِن! الكل لابد وأن يخضع للقانون، الكل بلا استثناء، كما قلنا أمس بلا مثنوية، لا يُوجَد استثناء! قال حتى آخذ الحق منه، الله أكبر! عظمة هذه، وهكذا سار رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا أبو بكر! عمر كلماته مشهورة جداً جداً، عمر بن عبد العزيز كلماته أيضاً مشهورة.

بعد ذلك صلاح الدين الأيوبي في عهده ماذا يقول؟ إنما أنا عبد الشرع وشِحنته، الشِحنة هذه مُصطلَح في عهد الأيوبيين والمماليك معناه الشُرطي، وهناك مُؤرِّخ شافعي كبير جداً اسمه ابن الشِحنة، الشِحنة هو الشُرطي، كان يقول إنما أنا عبد الشرع وشِحنته، عبد – قال – أنا! والشِحنة تعني الشُرطي، أي أنا أُنفِّذ، عبد أُنفِّذ! أسمع وأُطيع، وأُنفِّذ وأحرس، أرأيتم؟ كان عندهم بلاغة، كلمتان! أنا أُنفِّذ شرع الله وأحرس شرع الله، أحرسه! لأن شرع الله هو الضمانة الوحيدة لإنصاف الجميع، الضمانة الوحيدة!

بالمُناسَبة هناك أُناس أيضاً مِن المُتأثِّرين بالطروحات الأُخرى يستمعون ويقولون كيف؟ لماذا تقول شرع الله؟ اجعل هذا شرعاً بشرياً، اجعلها مسألة دنيوية علمانية البشر يختطون فيها لأنفسهم ما يُريدون، غير صحيح، دمار! والله لا يُمكِن، كما قلنا أمس لا يُمكِن، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ اليوم سوف أُفسِّرها من ناحية قانونية، ما دمنا نتحدَّث في قضايا قانونية دستوية فسنُفسِّرها من ناحية قانونية، أي بلُغة القانون، لعل بعضكم اطلع على مساعي القانونيين الكبار العالميين، في العالم كله!  مساعيهم في البحث عن ماذا؟ عن الأُسس والمبادئ والأصول، وحين نقول المبادئ – Principles – ماذا نعني؟ ما معنى المبادئ؟ ما المقصود بالمبادئ؟ لا يُطلَب تبريرها، انتبهوا! أي شيئ مبدئي ممنوع تبريره، لو برَّرته لا يكون مبدأ، أليس كذلك؟ يصير هذا التبرير نفسه مبدأ المُبرَّر، وهكذا! سوف تقول لي التبرير هذا نفسه سأطلب تبريره أو لا أطلب؟ إذا طلبت تبريره فالقضية ستتسلسل أيضاً، ستتسلسل! وفي النهاية لابد في التقنين بالذات وفي التشريع – اسأل أي قانوني فاهم أو فيلسوف قانون – أن تصل إلى أرضية مبادئ Principles أو أصول أو أُسس – Foundations – أو أي شيئ كما يُسمونه، وهي لا تقبل التبرير، وهذه تُحقِّق صالح الإنسان، صالح الحاكم والمحكوم، ماذا يُسمونها في القانون الغربي؟ الــ Natural law، أي القانون الطبيعي، ومثالها ما هو؟ مبادئ حقوق الإنسان، قالوا هذه المبادئ تُمثِّل صيغة مُمتازة جداً للقانون الطبيعي، يُولَد الناس أحراراً، ولا يجوز استعبادهم، هذه مسألة مُعطاة وهي عيانية فعلاً، أليس كذلك؟ وأمثال هذه الأشياء والحقوق والحريات والضمانات كلها، فقالوا هذا اسمه القانون الطبيعي، لكن إلى الآن لم يصلوا، قالوا عندنا مُعضِلة كبيرة، عندنا مُعضِلة خطيرة جداً! ليس عندنا أي ضمانة تُفيد بأن هذه المبادئ – (ملحوظة) قال أحد الحضور تُطبَّق، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، ليس تُطبَّق، هذا غير التطبيق – لا يُلعَب عليها، لا تُتجاوَز، لا تُبدَّل، لا تُستبدَل، ولا تُلغى! ليس عندنا هذا قالوا، لأنها تظل مسعى بشرياً، نفس المبادئ! كذلك التطبيق حتى في الدين، ليس عندنا ضمانة أن تُطبَّق مبادئ الإسلام كاملة، أليس كذلك؟ لا تُوجَد عندنا ضمانة، نُحاوِل أن نخلق ضمانات نحن كأمة في فكرنا، أليس كذلك؟ وهذا حصل في تاريخنا، لو كانت هناك ضمانات كفاية لما حصل ما حصل، لم تكن هناك ضمانات، لكن النص شيئ والضمانات شيئ ثانٍ، هذا مطلوب منك كأمة.

لكن انظر إلى الشريعة الإسلامية، النُقطة هذه عندنا مأمونة بفضل الله تبارك وتعالى، ليس عندنا مُشكِلة بالمرة فيها! لماذا؟ ومن هنا نستطيع أن نقول بلُغة قانونية إن مبدأ سيادة الشريعة أكثر وفاءً ونجاعةً من مبدأ سيادة القانون الوضعي البشري بكثير، لماذا إذن؟ مبدأ سيادة الشريعة ألا ترون أنه يُحدِّد السُلطات المُختَصة بالتشريع في الدولة الإسلامية؟ هناك ما يُسمونه البرلمان – مثلاً – الآن، أليس كذلك؟ البرلمان! سمه البرلمان أو المجلس النيابي، ليس لنا علاقة بهذا، لكن مَن يُشرِّع هذا مُحدَّد أو غير مُحدَّد عندنا؟ مُحدَّد بالثوابت والقواطع الشرعية، لا تقدر على غير هذا، من الأول أصلاً لا تُوجَد إمكانية لأن يعقد هذا البرلمان لكي يُصوِّت على مسألة الزنا حلال أو حرام، لا يُمكِن! مُستحيل، لماذا إذن؟ لماذا؟ لأن سيادة الشريعة هذه سيادة يُمكِن أن تُسميها دستورية إذا أردت لكن هي أعلى حتى من دستورية، أي مبادئ الدستور نفسها المفروض تُستمَد من روح الشريعة ومن نصوصها العتيدة الثابتة، أي أعلى من سُلطة دستورية، القرآن الكريم والسُنة الصحيحة، شيئ خطير جداً!

ولذلك الحالة الوحيدة – سُبحان الله – في تاريخ الحُكم البشري – هذه الحالة الوحيدة في تاريخ الحُكم البشري – هي الحالة الإسلامية التي وُضِعت فيها قيود حقيقة للسُلطة التشريعية، قيود حقيقية! هم يُحاوِلون أن يأتوا بهذه القيود تحت اسم القانون الطبيعي، وإلى الآن – قالوا – ليس عندنا أي ضمانة، وفعلاً ليس عندهم أي ضمانة حتى لا يُلعَب عليها، لا تُتجاوَز، لا تُلغى، ولا تُستبدَل بغيرها! ليس عندهم هذا، لكن نحن كأمة إسلامية – بحمد الله – تُطبِّق الشريعة أو تقول السيادة للشريعة من القرآن الكريم عندنا الضمانة هذه، وليس عندنا أي مُشكِلة! ولذلك عبر أربعة عشر قرناً لم يحدث أن أي حاكم مُسلِم حكم هذه الأمة – ظالماً كان أو عادلاً – استطاع أن يُصدِر قانوناً يتناقض مع هذه القضية، لم يحدث هذا! لم يفعل هذا أي واحد، ستقول لي اليوم فعلوا هذا، وسأقول لأن هؤلاء الحكّام غير إسلاميين، بل هم حتى غير مُسلِمين، أنا أقول لك الحاكم الذي يُشرِّع ويُعطي الضوء الأخضر ويسكت عن تشريع استحلال الزنا والربا والخمر كافر، أنا سأقولها بملء الفم، وقلتها الف مرة قبل ذلك، لا أقدر – والله العظيم – أن أقول غير هذا، أنا أُحِب الاعتدال وأحب التوسط، لا أُحِب الآراء المُتطرِّفة، لكن ليس عندي أي شُبهة – أتمنى – تجعلني أقول كلاماً غير هذا، لا يُوجَد! لا أقول حُجة وإنما شُبهة، ليس عندي حتى شُبهة! ومُتأكِّد إذا قلت في يوم من الأيام عكس ذلك فأنا سأكون كافراً أمام الله، سأُغامِر بديني كله، لا أقدر أن أُغامِر بديني لكي أُرضي بعض هؤلاء الطواغيت المُجرِمين، فهؤلاء حُكّام غير إسلاميين أصلاً وليس لهم علاقة بالإسلام، كذّابون وإن صلوا كما قال الرسول، وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مُسلِمون.

في المرة السابقة بالمُناسَبة أخونا عمر قال نقداً جميلاً وأحببت أن أُعلِّق لكنني نسيت، هناك مَن يقول مسألة التكفير هذه دعها لله، غير صحيح! هذا غير صحيح بصراحة، لماذا يُطالَب فقط المُجتمَع المُسلِم وسُلطات مُعيَّنة في المُجتمَع المُسلِم ألا تُصدِر أحكاماً على مواقف الناس الأيديولوجية؟ لماذا؟ وهذا تُمارِسه كل المُجتمَعات، أليس كذلك؟ كل المُجتمَعات! حتى الماركسيين يقولون هذا ارتد عن الفكر الماركسي، أي كافر بماركس Marx، أليس كذلك؟ عندهم هذا! كيف إذن؟ من خلال كلامه، حين يكون كلامك مُناقِضاً تماماً لمبادئ الاشتراكية العلمية وتفعل العكس تماماً لابد أن نعترف بأنك كفرت بالماركسية، إلا الإسلام! يُريدون منا كمُسلِمين أن تكفر الناس بالقرآن وبالله وبالرسول وبالتشريع وبكل شيئ وتقلب الأمر رأساً على عقب ثم نقول بعد ذلك لا يا أخي، هو يقول لك أنا مُسلِم فلابد أن تسكت عنه، انتهى الأمر وهو يبقى مُسلِماً، هذا عبث! عبث أيديولوجي عقدي فكري يجعل المُجتمَع في معمعان لا أول له من آخر، وهذا كلام فارغ! وبالمُناسَبة أنا قلت هذا من قبل، ستقول لي لا، كيف تقول هذا؟ هل نقَّبت عن قلوب الناس؟ لا، لم أُنقِّب ولا أقدر أن أُنقِّب، ليس عندي هذه السُلطة أو الصلاحية، الله – عز وجل – وحده مَن يفعل هذا، لكن أنا أحكم على الناس من أفعالهم وأقوالهم، أليس كذلك؟ والفعل والقول هذا نفسه هو الذي خوَّلني أن أحكم عليك بأنك مُؤمِن، لست زنديقاً، لست مجوسياً، لست هندوسياً، قد يقول لي أحدهم كيف هذا يا أخي وقد يكون هذا هندوسياً؟ والله هذا مُمكِن، لكن أنا أرى أن صلاته وصيامه وتعاطيه مع المسائل والشهادتين اللاتين يقولوهما أشياء جعلتني أقول هذا مُسلِم وأمره إلى الله، قد يكون زنديقاً في الداخل، لكن أنا سأعترف بأنه مُسلِم حتى يتبيَّن العكس، فلماذا أنت خوَّلت نفسك وأعطيت نفسك الصلاحية هذه فحكمت عليه بأنه مُسلِم لكن حين قال الكفر وتلبَّس بالكفر وجاهر بالكفر وفجر بكفره ولم يستح منه سلبتنا حق أن نحكم عليه بأنه كافر؟ أليس كذلك؟ وهو نفسه مُنافِق كبير، كما قلت في درس سابق، مُنافِق ومُخادِع للأسف الشديد ويقول ما لا يعتقد، ونحن الآن بحاجة إلى ملاحدة عندهم جرأة بصراحة، يا ليت! أحد أسباب هزيمتنا أن عندنا ملاحدة مُنافِقون، لدينا ملاحدة مُنافِقون! نحن نُريد ملاحدة شُجعان، نُريد مُلحِدين يقول الواحد منهم – مثل ملاحدة الغرب – أنا كافر، كافر بالقرآن وكافر بالدين! أنا سأقول له سأضرب لك تحية الآن بسبب هذه الشجاعة فقط وليس بسبب رأيك، لن تُخربِطني، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ۩، لابد أن يكون هناك وضوحاً في المبادئ ووضوحاً في المواقف الفكرية، لكن لا تلعب بالبيضة والحجر، لا تكن زنديقاً فعلاً ومُنافِقاً فتقول ما لا تعتقد وتعتقد ما لا تقول، مُشكِلة هذه! يعمل إرباكاً للضعفاء، لكن ليس للنُقّاد وللناس الواعين، الناس الواعيون لا يحدث معهم هذا، ولذلك النبي أعطاك هذه القاعدة، قال وإن صلى وصام وزعم أنه مُسلِم، لا يهمني! حين يأتي بُمكفِّر حقيقي لن ينفعه أنه يُصلي ويصوم، يزعم! هو يقول أنا مُسلِم يا أخي، ويقول الشهادتين، لكننا سنقول له لا، في الأول تُب إلى الله من كفرك هذا، وقل أنا أعترف بأنني قلت كذا وكذا وكذا، وأعتقد أن قولي هذا أخرجني من الإيمان إلى الكفر، حين حلَّلت ما حرَّم، حين سخرت من كتاب الله، حين سخرت من القرآن الكريم، حين قلت يضرب عليه بالأحمر، ما الكلام الفارغ هذا يا أخي؟ ما هذه المُصيبة؟ تطاول! تطاول كبير على رب العزة عز وجل،ومع ذلك أنا مُسلِم أيضاً، لا! لست مُسلِماً وإن زعمت أنك مُسلِم، لست مُسلِماً، فقط هذه المسألة!

اللهم صل على سيدنا محمد، نرجع إلى مسألة الحاكمية كما قلنا، هذا ما حصل مع رسول الله وهذا ما حصل مع أصحابه عبر التاريخ، إذن لا معصوم إلا المعصوم! المسألة الثانية مسألة الكلمة التي قالها سيدنا عمر، طبعاً لو أردنا أن نتكلَّم عن موضوع الرقابة حتى على الحكّام ومُحاسَبة الحكّام وما إلى ذلك سيكون هذا موضوعاً طويلاً جداً جداً، علماً بأن هذا أُلِّفت فيه رسائل دكتوراة وهي موجودة في المكتبة الإسلامية، رسائل دكتوراة ومُجلَّدات ضخمة في مُحاسَبة الحكّام والمُراقَبة عليهم، وتُوجَد – كما قلنا – نماذج مثالية مُشرِّفة عبر التاريخ بحمد الله تبارك وتعالى، والنبي شرَّع لنا هذا الموضوع بعد القرآن، القرآن كيف شرَّعه؟ ماذا قال؟ تذكَّروا كلمة محمد عبده وغيره أيضاً! كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۩، وبالمُناسَبة هنا لم يقل تأمرون وتنهون العامة، بشكل عام! الأمر والنهي للكل، بالعكس! كلما علا منصب الإنسان ووظيفة الإنسان أصبح الأمر والنهي في حقه أكثر تأكداً، لماذا؟ لأن فعله لا يتوقَّف على دائرته الضيقة، فعله يُؤثِّر على الأمة، خطير جداً جداً، ولذلك هؤلاء بالذات – الناس الكبار – يتأكَّد هذا في حقهم، حتى العالم عُرضة للنقد أكثر من الجاهل، هل هذا مضبوط؟ الوزير عُرضة للنقد أكثر من الغفير، الرئيس عُرضة للنقد أكثر من الوزير، وهكذا! أمير المُؤمِنين عُرضة للنقد أكثر من رئيس الدولة، لأن طبعاً في النهاية أقواله وقراراته ومواقفه لها تأثير على مُجمَل الأمة وكاملها، خطير جداً! فلابد هذا بالذات يُنقَد، قال – صلى الله عليه وسلم – الدين النصيحة في حديث تميم الداري وهو حديث صحيح، لمَن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المُسلِمين وعامتهم، الأئمة! لابد أن تُؤدي لهم النصيحة وتنظر، وقال إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم، ماتت! صلوا عليها الجنازة، انتهت الأمة هذه، أرأيتم؟ يُحذِّرنا النبي، يقول لنا إياكم، إياكم أن تسكتوا على مظالم الظلمة، نعم لم يقل لنا أخرجوا بالسلاح وما إلى ذلك – موضوع ثانٍ هذا – لكنه قال لنا لا تسكتوا، لماذا؟ لكي يبقى الحق مأنوساً والباطل مُستوحِشاً، لابد أن يكون الباطل مُستوحِشاً دائماً، لابد أن نُحاصِره، لابد أن نُحاصِر الباطل! مُشكِلة لو الأمور قُلِبت، فيُصبِح الباطل هو المأنوس والآنس ويُصبِح الحق هو المُستوحِش، خجلان مُستحٍ خزيان، لا! هذا غلط، كيف يحصل هذا؟ كيف يخزى الحق ويأنس الباطل؟ بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، لذلك النبي ماذا قال؟ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المُنكَر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً – وفي رواية بزيادة ولتقصرنه على الحق قصراً – أو ليُخالِفن الله بين قلوبكم ثم يدعو صلحائكم فلا يُستجاب لهم، لن ينفع هذا! سيصير عندنا الدين التقليدي هذا، الدعاء والبكاء والعويل على المنابر والصراخ والعبارات البليغة الإنشائية في مُخاطَبة رب العزة، كل هذا كلام فارغ، لن ينفع لأنك قصَّرت في الأمر والنهي.

أبو بكر صعد على المنبر وقال لهم أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتأوَّلونها على غير تأويلها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم – هذا الحديث من راوية قيس بن أبي حازم، وهو حديث صحيح – يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، لا تقل لي نفسي ونفسي، العقاب على الجميع! إذن تُوجَد سُنة هنا شرعية وهي سُنة قدرية طبعاً، في الحقيقة هي سُنة قدرية، كشف عنها الشرع، انتبهوا لكي نُفرِّق بين السُنة الشرعية والقدرية، هذه سُنة قدرية في الخلق كشف عنها الشارع، أي النص الديني! ماذا تقول السُنة؟ إذا وُجِد ظُلِم والناس سكتوا على هذا الظلم ولم يُحاصِروه ولم يستبشعوه ولم يستنكروه ولم يُغيِّروه فما الذي سيحدث هنا؟ ستعم العقوبة، إذن متى تعم العقوبة؟ فقط بهذا الشرط، انتبهوا! لو وُجِدَت جماعة – بإذن الله – كانت تُنكِر دائماً – جماعة طبعاً حدها لا نعرفه، لكن هذا عند الله، قال الله وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ۩، هذه الأمة لم تسكت، هناك جماعة الله أمر بأن تكون موجودة دائماً، هذه الأمة مجموعة من الناس، أنكرت ودخلت السجون وتبهدلت – ستتأخَّر العقوبة إن شاء الله، لن تعم العقوبة، لكن متى تعم العقوبة؟ إذا لم تُوجَد حتى هذه الجماعة، الناس كلها سكتت، حالة صمت كاملة، ثقافة سادت في الناس، فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ۩، من سورة هود! الله قال لو كانت هذه البقية موجودة لما أهلكناهم، لكن هذه البقية حتى فُقِدت، فاستحقوا الهلاك الماحق الساحق والجامع للكل، فإذن هذا هو شرط أن تعم العقوبة، أن يسكت الكل، لكن ما دام هناك أُناس دائماً – إن شاء الله – تُندِّد وتُنكِر وتُحاصِر هذا الباطل فستتأخَّر العقوبة إلى ما شاء الله تبارك وتعالى، هذا عند الله عز وجل، وهكذا! فالنصوص في هذا الموضوع كثيرة جداً جداً.

يُوجَد حديث رواه الإمام الطبراني وأبو بكر البزّار في مُسنَده عن بُريدة كما أذكر، حين عاد جعفر بن أبي طالب من الحبشة – تعرفون أنه كان من المُهاجِرين في الهجرة الأولى، عليه الرضوان والرحمة هذا الشهيد السعيد – سأله النبي، قال له ما أعجب ما رأيت يا جعفر في الحبشة؟ وانظروا إلى الحس – سُبحان الله – الذي رباه الإسلام في الناس، وقد علَّقت على هذا الحديث مرة، لم يقل له رأيت هناك بنايات عجيبة ليس عندنا في مكة مثلها، وطبعاً الحبشة كانت دولة مُتطوِّرة حضارياً، دولة ومملكة! لم يقل له رأيت أشياء ليست عندنا هنا كناطحات السحاب التي في العصر الحديث وما إلى ذلك، لا! قال له أعجب ما رأيت يا رسول الله امرأة كبيرة ضعيفة تحمل مكتلاً على رأسها فيه طعام، وفارس يركب فرسه، إذ ركضه – أي ضربه، ركض الفرس بمعنى أسرعه – وضرب المكتل بيده فسقط، سقط فسقط الطعام، هكذا للأسف! نوع من الظلم، قوة استقدار على هذه المرأة الضعيفة المسكينة، قال له هذا المشهد أكثر ما أثَّر في، ما معنى أعجبني؟ أثار عجبي، ليس معنى أعجبني راقني، لا! أعجبني بمعنى أثار عجبي، استغربت من هذا الشيئ، كيف هذا الظلم؟ أيحدث هذا ببساطة لأنه قوي وفارس وهي امرأة عجوز ومسكينة وضعيفة؟ فجعلت تلم طعامها وتقول ويلٌ لك إذا وضع الجبّار كرسيه – تبارك وتعالى – يوم القيامة وأخذ للمظلوم من الظالم، يا ويلك قالت له، يا ويلك بسبب الظلم هذا! فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُقدِّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها غير مُتعتع، هذا لفظ هذا الحديث، قال لا تُقدَّس الأمة، ليس لها قدسية! أنا أُفسِّر كلمة لا تُقدَّس أمة ولا قُدِّست أمة ولا قدَّس الله أمة كالآتي، وهذا الحديث عنده روايات كثيرة بالمُناسَبة، عند أحمد وعند الطبراني أيضاً بالذات وغيرهما، كل الروايات هذه موجودة، ما معنى نفي التقديس فيها؟ ما معنى التقديس؟ لا عصمة لأمة، لا تُوجَد عصمة! لا تُوجَد عصمة من الاستئصال، من الذبح، من الحرب الداخلية، من تسليط العدو الخارجي، من الفقر، ومن الجدب، من عقوبة الله لا تُوجَد عصمة، لا تُوجَد أي ضمانة النبي يقول، لا! إذا كانت الأمر على هذا النحو فلن يكون عندها أي ضمانة، والآن نحن نسأل لماذا ربنا سمح هذا؟ يا ربي نرى شارون Sharon وهو يتحدانا، وفعلاً هذا يغيظنا، أنا حقيقة لا أقدر، حين يتكلَّم بالكلام هذا يغيظني غيظاً شديداً جداً فأظل أدعو عليه وما إلى ذلك، لكنني أعرف أن هذا في النهاية هراء، أعرف أن موقفي هراء والله العظيم، ويُزعِجني فهمي لهذه المسائل أيضاً شخصياً، لأنه لا يُعطيني عزاءً، لكن هناك أُناس يُعطيهم عزاء وينبسطون، كما أقول ماريجوانا Marijuana، ينبسطون! يقولون دعونا عليه وبكينا قليلاً والله سوف يأخذه، ويتوقَّعون أنهم بدعواتهم هذه يُمكِن – إن شاء الله – أن يُستجاب لهم، كرامة لهذه الدعوات في أسبوعين من الزمان سوف يقص الله شارون Sharon قصاً، كلام فارغ! هو لا يزال يقص فينا، ويُمكِن أن يقص فينا أكثر، لعنة الله عليه وعلى أمثاله، لماذا؟ لأن ليس عندنا ضمانات تُفيد بأن الله سينصرنا، نحن لا نزال أمة ظلمها لنفسها أشد من ظلم عدوها لها، أليس كذلك؟ صدِّقوني! ماذا أقول؟ هذا الكلام أحياناً يبعث على اليأس، طبعاً أنا كفلسطيني يُسعِدني جداً – وأدعو الله ليل نهار بهذا – أن نتخلَّص من الاحتلال ولو حتى في حدود السابع والستين، لا تُوجَد مُشكِلة يا أخي، ومن ثم نقوم ببناء دولتنا، لكن – والله العظيم – يدي على قلبي، هذا أكثر شيئ أخاف منه، قسماً بالله! هنا التحدي، بعد أن تقوم ببناء دولتك هل ستكون أحسن كثيراً من دولة الفلانية والكذائية والعلانية أم أسوأ بكثير أم مثلهم؟ كل هذا مُحتمَل، الكل مُحتمَل! أليس كذلك؟ لكن للأسف مُحتمَل أكثر أن نكون مثلهم أو أسوأ، أن نكون أحسن لا يزال مُستبعَداً، لا يزال غير موجود عندنا الثقافة العامة أو الوعي العام الذي نقدر من خلاله أن نقول لا، نحن عندنا الشروط و- إن شاء الله – الشعب الفلسطيني سيكون أحسن – بإذن الله – وستكون الدولة فعلاً ديمقراطية وفيها سيادة القانون وفيها الحريات وفيها كذا وكذا، أي – ما شاء الله – سيكون هذا بشكل قطعي، صعب! ليس عندنا ضمانات إلى الآن، والتحدي يبدأ من هذه المرحلة، ولذلك تصرف الله في الخلق وفي الكون غير أوهامنا وغير أحلامنا، أليس كذلك؟ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۩ تبارك وتعالى، فلابد أن نبدأ بأنفسنا أيضاً، نُجاهِد العدو ونعرفه وفي نفس الوقت أيضاً لابد أن نُجاهِد أنفسنا، فهذا معنى لا قُدِّست أمة، لا عصمة لها، لا ضمانة من الاستئصال ومن كذا وكذا من كل ما ذُكِر كما قال عليه الصلاة وأفضل السلام، بعد ذلك ماذا قال؟ غير مُتعتع، انتبه! الحكاية لا تتوقف على أن يأخذ، فلابد أن يكون غير مُتعتع.

حدَّثني أحد الإخوة اليوم بنُكتة، هي واقعة طبعاً لكن فعلاً كما قال المُتنبي:

وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ                                    وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا.

على كل حال قال لي جاء الرئيس وزار منطقة مُعيَّنة في بلادهم، فخرج له جماعة يتظلَّمون، المُهِم جماعة من التجّار وأصحاب الأموال ظُلِموا كثيراً في الدولة فقالوا يا سيادة الرئيس حصل كذا وكذا، فوعدهم بالحل، قلت له وما النتيجة؟ قال لي جاءهم في نفس الليلة رجال من الاستخبارات، دخلوا إليه وضربوهم لأسبوع كامل، كسَّروهم تكسيراً ثم رجَّعوهم، حتى لا تُفكِّروا في حياتكم أن المسائل جد، الرئيس حين وعدكم بالعدل وبكذا وكذا، لكن لا تُصدِّقوا، إياكم أن تُصدِّقوا هذا، لابد أن تفهموا اللعبة كما هي، كل هذا لعب، كلام فارغ كل هذا، كلام تلفزيون Television! هذا تصدير للخارج فقط وضحك على الذقون، أتأخذون هذا بجد؟ هل تظنون أنني سأعد فعلاً وما إلى ذلك؟ فقلت له الله أعلم هل هو مَن بعثهم أم أتوا دون علمه، لكن هذا موجود، قال لي المساكين أُخِذوا لأسبوع كامل، كسَّروهم قال لي، وطبعاً هذا في البلد التي هو فيها بحسب ما قال لي، أي هؤلاء الناس من جيرانه، هو يعرفهم أو يعرف جماعة منهم، قال لي تكسَّروا تكسيراً ولم يقدروا أن يتكلَّموا، فقط لأنهم تظلَّموا! قالوا نحن عندنا ظلامة، تخيَّل! فظاعة يا أخي للأسف، وهذه الدولة ليست ثيوقراطية، هذه هي الدولة الثيوقراطية! هذه هي الدولة العلمانية الثيوقراطية، أليس كذلك؟ هذه هي العلمانية الثيوقراطية، هل هذه الدولة مُشرِّفة؟ هل هذا جيد؟ أهذه أحسن دولة إسلامية؟

نحن نُريد أن نرى الحُجة الثانية، قال عثمان بن عفان قال لا أنزع سربالاً أوقميصاً سربلنيه الله أو قمصنيه الله، قال عثمان قال هذا، يا أخي سُبحان الله! التقطت هذه العبارة وأسأت تفسيرها إغراضاً، ولم تلتقط عيناك العلميتان الناقدتان عشرات المواقف الأُخرى لعثمان! أولاً هذه العبارة قالها عثمان، كلمةٌ هو قائلها كما يُقال، ثانياً كيف بُويع عثمان؟ هل بُويع أم أخذ حقاً إلهياً؟ هل عنده صك زعم أنه من الله أو من الرسول بالوصاية؟ هل الرسول وصى له؟ غير موجود الكلام هذا، عثمان بُويع بيعة عامة، الناس هم الذين بايعوه، وكان هو والإمام عليّ – عليه السلام – كفرسي رهان، هما الاثنان! وطبعاً كان المفروض أن عليّاً يفوز فعلاً، وأصوات الكثير من الناس كانت مع عليّ، لكن في النهاية عليّ رفض أن يخضع لشرط واحد، وعنده الحق وأنا أُجِل فيه هذا الشيئ، وأنا مع موقف الإمام عليّ، والتاريخ أثبت أن موقفه كان أصح من موقف سيدنا عثمان، عثمان لم يستطع أن يفي للناس بما وعد، المسكين اجتهد لكنه لم يقدر، ما هو؟ (ملحوظة) ذكر أحد الحضور أن البيعة كانت من ستة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا! ليس هكذا، ليست بيعة، هذا اسمه ترشيح، البيعة من الناس، اقرأ التاريخ، وسوف أذكر هذا سريعاً، ثم استتلى قائلاً عبد الرحمن بن عوف ماذا قال له؟ قال للإمام عليّ تُبايع على كتاب الله وسُنة رسوله وسُنة الشيخين، أن تسير بالناس بسُنة وسيرة الشيخين أيضاً وهما أبو بكر وعمر، فقال على كتاب الله وسُنة رسوله نعم، على سيرة الشيخين لا قال له، لماذا يا حبيبي؟ أبو بكر وعمر هما رجال وأنا رجل أيضاً، وكانا يستعينان بي وبقضائي وبعلمي، لماذا تُريد مني هذا؟

بعد ذلك الإمام عليّ عنده الحق وكان يُخالِف أبا بكر وعمر في أشياء كثيرة من آرائهم الفقهية ومن اجتهاداتهم، أليس كذلك؟ عنده الحق! كيف تُلزِمني برأي البشر؟ انظروا إلى أين بلغت الحرية، الإسلام أعطى الإنسان هذا وجعله يستشعر حريته الفكرية، عندي حرية فكرية اجتهادية لا يقدر أحد أن يُصادِرها، وضحى بالخلافة من أجل أن يحتفظ بحريته الاجتهادية، رضيَ الله عنه وأرضاه، نعم الرجل، عظمة هذه! عظمة في شخص الإمام عليّ، قال لا أُريد الخلافة، دعوها لكم، لكنني سأظل اجتهد بما أُريد وبحسب قناعتي، عندي مصداقية، لا أقدر أن أقول نعم أُريد أن أمشي مع أبي بكر وعمر في كل شيئ رُغم أنني غير مُقتنِع ببعض المسالك الخاصة بهما، لابد من اجتهادي، شيئ عظيم هذا، شيئ من مكارم الإمام عليّ!

سيدنا عثمان وافق، قال لا تُوجَد مُشكِلة، سنسير لأن الناس راضيين بسيرة أبي بكر وعمر، وسنسير بنفس السيرة! الآن سؤال التاريخ: هل استطاع أن يسير بسيرة أبي بكر وعمر؟ باعترافه نفسه قال لم أقدر، وسبَّب مُشكِلة، وسبَّب فتنة وذهب شهيداً، رضيَ الله عنه وأرضاه، أليس كذلك؟ فموقف عليّ كان أصح تاريخياً، لكن لا علاقة بهذا.

بالنسبة للبيعة سيدي الكريم – الأخ عمر – أقول لا، كما قلنا في الدروس ونعيد مائة مرة كل ما حصل دائماً كان يحصل على مرتين: مرحلة ترشيح ومرحلة اقتراع أو تصويت أو انتخاب، تصويت على هذا الترشيح، ودائماً الكرة في المرحلة الثانية تكون في ملعب الأمة، هي التي تقول أُريد هذا أو لا أُريد، وحتى بالمُناسَبة في موضوع الستة أقول مَن هم الستة؟ الذين تُوفيَ رسول الله وهو عنهم راضٍ، أتعلمون مَن هم؟ بقية العشرة، هم بقية العشرة المُبشَّرين بالجنة، أتعرفون العشرة المُبشَّرين بالجنة؟ هؤلاء بقيتهم، وهم الإمام عليّ عليه السلام، سيدنا عثمان، عبد الرحمن بن عوف، طلحة، الزُبير، وسعد بن أبي وقاص، رضوان الله عليهم أجمعين، هؤلاء بقية العشرة المُبشَّرين بالجنة، عمر رشَّحهم، قال أنا أرى الأمر يبقى في الستة الذين تُوفيَ الرسول وهو عنهم راضٍ، وليس هذا فحسب، ليست مسألة ترشيح فقط، وإنما سيدنا عمر – قدَّس الله سره الكريم – جعل الأمر فعلاً شوروياً، أي بلُغة العصر ديمقراطي حقيقي، ماذا قال لهم إذن؟ كيف يصير الأمر؟ الترجيح بالأغلبية، إذا أربعوا رجَّحوا – مثلاً – واحداً ضد ثلاثة فنحن مع رأي الأربعة، إذا استووا – ثلاثة لواحد وثلاثة لواحد آخر، وهو منهم طبعاً، أي الواحد – فسنأخذ بمُرجِّح خارجي بحسب ما قال، انظروا إلى هذا، رجل عجيب! يقول هذا وهو يستشهد، تفيض أنفاسه الأخيرة وعنده هذا الفكر وعنده هذه الأمانة على مبادئ الإسلام الدستورية، على الشورى! تخيَّلوا، حتى في الترجيح أيضاً يُرجِّح واحداً بطريقة فعلاً شوروية، لابد من مُرجِّح شوروي، وهو مُرجِّح بالأغلبية، تخيَّلوا! بالأغلبية الترجيح، قال لهم إذا استوى ثلاثة ضد ثلاثة فسنأتي بواحد من الخارج، وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه ففي الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، رجل غني وليس عنده طمع في السُلطة من أجل المال أو غير المال أبداً، نزيه جداً عن الأشياء هذه، سيدنا عمر عنده آراء غريبة جداً، فالمسألة دائماً مسألة ترجيح بالأغلبية.

بالمُناسَبة دعونا الآن نفتح مُزدوَجين لكي نقول الآتي: (عندنا بعض المُعاصِرين الذين يُؤلِّفون رسائل في الكفر وبيان أن كذا وكذا خروج عن المِلة وبيان أن كذا يُخالِف الإيمان وأشياء غريبة ضد المسائل هذه، قالوا لا يُوجَد ترجيح بالأغلبية، كفر هذا! هل هذا كفر؟ قالوا نعم، هذا بالديمقراطية الغربية وهو كفر، الديمقراطية تجعل الاعتبار للأكثرية، وماذا في ذلك؟ روح الدين تقول هذا! قالوا لا، قال – تبارك وتعالى – وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۩، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ۩، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ۩، وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۩، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، وأتوا بنصوص كلها ضد الأكثرية، وهذا الكلام فيه مُغالَطة وسفه، سفه في فهم كتاب الله! هل تعرفون لماذا؟ عن أي أكثرية القرآن يتحدَّث هنا؟ عن أكثرية الكفّار، واضح أن الحديث عن الكفّار، ليس عن مُجتمَع مُسلِم المفروض أن أكثر مَن فيه يُؤمِنون ويعلمون ويعقلون ويشكرون الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ هذه هي، هو يتحدَّث عن هذا، لكن الحكاية كلها عندهم كبيض في سلة واحدة فكسَّروه كله، لا! الأكثرية هنا أكثرية كفّار لا يعلمون كذا وكذا، وإلا كيف تقول لي بعد ذلك النبي قال لو اجتمعتما على أمرٍ لم أُخالِفكما؟ أليس كذلك؟ كيف يأخذ بمشورة أصحابه؟ وما معنى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩؟ وسُئل الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – كما ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن مردويه – أبو بكر مردويه هو مُخرِّج الحديث – ما معنى فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩؟ قال مُشاوَرة – أي المُراد هنا – أهل الرأي ثم اتباع رأيهم، هذا العزم! وبالمُناسَبة أعتقد أي مُسلِم بعيداً عن تأثيرات كُتب التفسير التقليدية وبعيداً عن مُعترَك الآراء حول هذه الآية لو قرأ الآية لن تثور – بإذن الله – هذه الشُبهة في ذهنه، ما هي؟ الله يقول له وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩، بالله عليكم بحسب سياق الآية وتركيبها بلاغياً ماذا تفهمون منها؟ أن العزم يأتي نتيجة للشورى، أليس كذلك؟ هكذا الآية تقول، وهي واضحة جداً يا إخواني، سُبحان الله! فالله يقول له لن يصير عندك العزم إلا بعد الشورى، تُشاوِرهم وبعد ذلك تعزم، الآن ما مُبرِّر العزم؟ ما مُتكأ وما مُستنَد العزم؟ ماذا لابد أن يكون؟ رأي الأكثرية، لأنه يُشاِورهم، وفي الحقيقة إذا لا أُريد أن آخذ برأي الأغلبية فلماذا إذن شاورتهم؟ لماذا؟ بالعكس! الأولى إذن أن آخذ برأي نفسي، هنا قد تقول لي لا يا أخي، لماذا؟ بالعكس! هو يستشير لكي يتنوَّر، لكي يستبصر، فربما عن له من رأي جديد، أي رأي جديد من آراء هؤلاء صار إليه هو، لكن هنا أنت دخلت أيضاً في مسألة أخلاقية فلسفية قانونية وليس لها أي مخرج، أنت ورَّطت نفسك بالكلام هذا، لأن هناك أُناساً قالوه أيضاً، من الفقهاء المُعاصِرين للأسف الشديد، وهم ضد أن الشورى مُلزِمة، قالوا الكلام هذا! وحتى مِن القدماء للأسف وهم الجمهور للأسف، نقول لهم كيف؟ كيف تُجيبون عن هذه الإشكالية الآن؟ إذن المُرجِّح هنا لابد أن يكون رأي الفرد نفسه، الحاكم – مثلاً – المُستشير، هو الذي يُريد أن يرى هذا، فهل رأي الفرد عندنا في التجربة التاريخية وحتى في النصوص الدينية معصوم؟ هل عندنا أي ضمانة لعصمة هذا الرأي من الخطأ؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور لا، ثم استتلى الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً ما المُبرِّر لأن يكون رأي الفرد في النهاية هو الصحيح؟ قل لي ما المُبرِّر؟ نحن عندنا مُبرِّر واحد في حق الرسول لأنه معصوم تبليغباً، فيما عدا ذلك لا أيضاً، أليس كذلك؟ وهو نفسه لم يأخذ برأي نفسه في هذه المسائل أبداً، فما نُريد أن نقوله المُرجِّح الحقيقي لابد أن يكون خارجياً، إذن إذا الآراء اختلفت فإذن لابد من مُرجِّح، لأن هناك آراء، هل تُغتال الآراء لمُجرَّد أنني في السُلطة؟ نفترض الآن أن هناك حزباً إسلامياً – مثلاً – وصل إلى السُلطة، وهذا الحزب الإسلامي يتبنى مقولات مُعيَّنة – كما قلنا – بإزاء أهل الذمة، بإزاء الترشيخ والانتخاب، بإزاء – مثلاً – حقوق المرأة السياسية، بإزاء الشورى وهل هي مُعلِمة أو مُلزِمة؟ وبإزاء مسائل اقتصادية، أشياء كثيرة! عنده هذا الحزب آراء، إذا وصل إلى الحكم هذا الحزب الآن سيكون من حقه أن يُطبِّق آراءه، أليس كذلك؟ الناس وصَّلوه، جيد! لكن ما مصير الآراء الأُخرى؟ هل يُهال عليها التراب؟ هل تُعدَم بمُبرِّر فقط أنها لم تصل إلى السُلطة؟ وصلنا إذن إلى الاستئصال، إلى فلسفة استئصالية جديدة، خطيرة جداً جداً! ولذلك لا تُوجَد ضمانة في هذه المسألة إلا ضمانة واحدة: السماح بتعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية، وسنعرض بعد ذلك لهذه، بحيث يكون عند كل حزب الفُرصة في يوم من الأيام لكي يُمارِس تطبيق أفكاره، والأمة تُجرِّب وتنظر، والأفكار التي تكون أكثر مردودية وأكثر نجاعة هي التي سيُكتَب لها أن تعيش، أليس كذلك؟ لا يُهال عليها التراب لأنها لم تصل في يوم من الأيام إلى السُلطة وانتهى الموضوع إلى الأبد، لا! خطر جداً جداً، وهذه مسائل اجتهادية كلها، ليس فيها قطع وليس فيها يقين).

إذن لابد أن تتعايش فيها كل الآراء، ولابد أن تأخذ كل الآراء فُرصة أن تصل إلى التطبيق وإلى الحياة العملية، هذا العدل! فالمُرجِّح لابد أن يكون خارجياً، فإذا كان المُرجِّح خارجياً فما الذي سيحصل؟ لن نجد أعدل من مُرجِّح الأغلبية، الكثرة! هذه عقول وهذه عقول، مَن قال هذه العقول أرجح من هذه؟ كلها عقول! وهم أهل الذكر، هم أهل الشورى، أي هؤلاء الناس، فلابد أن يكون الأكثر عدالة هو رأي الأغلبية، فما نُريد أن نقوله هذا الكلام كلام سفهي للأسف الشديد ولا يستند، وأين كلام رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام؟ قال يد الله على الجماعة هكذا وعليكم بالسواد الأعظم ومَن شذ شذ في النار، ما معنى عليكم بالسواد الأعظم؟ السواد الأعظم الأكثرية، أهذه أكثرية الذين لَا يَعْلَمُونَ ۩ لَا يُؤْمِنُونَ ۩ لَا يَعْقِلُونَ ۩؟ لا! أكثرية الذين يُؤمِنون ويعقلون ويعلمون، أي أكثرية المُسلِمين، النبي قال عليكم بالسواد الأعظم، أليس كذلك؟ فلا يُوجَد تناقض بين السواد الأعظم وبين وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۩،  الأخيرة في الكفّار، لكن أكثر المُسلِمين يعلمون ويُؤمِنون، فعلينا بسوادهم، علينا بأغلبيتهم، وعلينا بأكثريتهم، واضحة تماماً! وقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن بني إسرائيل قد افترقت على إحدى وسبعين وفرقة وفي رواية على ثنتين وسبعين فرقة وإن هذا الأمة ستزيد عليها فرقةً فعليكم بالسواد الأعظم، أي بالفرقة التي تستحوذ على أكثرية المُسلِمين، لأن في الحديث الثابت الأخير قال إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة، صعب أن أمة محمد تجتمع على ضلالة، هل تعرفون لماذا؟ لو أكثر أمة محمد اجتمعت على ضلالة لن تكون عندنا عصمة، أين هو الحق؟ وكيف نُعيِّر الحق؟ أليس كذلك؟ ستضيع الموازين كلها، لكن حاشا لله، وخاصة أن هذه الأمة خالدة وأن هذا الدين خالد، وهو رحمة للعالمين، فلابد أن تبقى ضمانة في الحفاظ على الحق، وهو أن تهفو إليه عقول وقلوب أكثرية هذه الأمة إن شاء الله تعالى، ولذلك هذه الأمة في مجموعها مأمونة من الشرك بإذن الله تعالى، مأمونة من الردة، مأمونة من أن تُغيِّر وأن تُبدِّل وأن تنكص عن دين الله في مجموعها، وإلى اليوم – سُبحان الله – هذا، انظروا إليه، لأول مرة في التاريخ من ألف وأربعمائة سنة تُسام الخسف والذل من هؤلاء الحكّام الخونة العملاء العلمانيين اللادينيين اللاإسلاميين بشكل فظيع، ويتألَّب عليها مَن بأقطار الأرض، سُبحان الله! من هنود عبّاد البقر، من يهود صهاينة، ومن أمريكان، شيئ غريب يا رجل! والأمة لا نقول فيها نفس – كيف نقولفيها نفس؟ – بل فيها نبض إسلامي حي قوي لم يسبق له مثيل في القرن السابق، أي في القرن العشرين، أليس كذلك؟ غريب جداً والله العظيم، الحمد لله قديماً كان الإنسان أحياناً يُخامِره اليأس لكن ما يحدث الآن – بالعكس – يجعل الإنسان – بفضل الله – مُرتاحاً ومُوقِناً بأن العز والتمكين والنصر لهذه الأمة ولو بعد حين، ما يحصل في فلسطين هذا – ما شاء الله -، ما يحصل في العراق – ما شاء الله -، وما يحصل في أفغانستان وفي كل مكان يُؤكِّد أن هذه الأمة حية، هذه الأمة قوية، هذه الأمة مُتحدية والله، فصدِّقوني ما جرأهم علينا فجاءوا إلى العراق وما إلى ذلك إلا ظنهم أن هذه الأمة قد ماتت، ليس فيها حتى نفس مُقاوَمة أو نفس أن تقول لا، لكنهم وجدوا العكس تماماً بفضل الله تبارك وتعالى، تماماً! وليس عندنا ما نخسره، لا يُوجَد! لكن ما سر هذا النفس؟ ما سر هذه الروح الجهادية؟ ما سر هذه المُمانَعة؟ وما سر هذه المُقاوَمة العجيبة الأسطورية عند الأمة الإسلامية؟ دينها، ليس عندنا أي منبع آخر إلا هذا الدين والله العظيم، وهم أذكياء! هم يعرفون هذا من الأول، لذلك اقرأ دراسات المُستشرِقين ودراسات حتى الاستعماريين، كلها كانت تُؤكِّد أنه لا سبيل للاستحواذ الكامل على هذه الأمة إلا إذا فرَّغناها من كتابها، كلهم! كلهم يُؤكِّدون الكلام هذا، هم يفهمون ويدرسون القرآن ويعرفون قيمته أكثر منا للأسف الشديد، يعرفون أكثر منا تأثير القرآن فينا، لكن هذا التأثير أيضاً موجود فينا بفضل الله – تبارك وتعالى – شئنا أم أبينا، كما قال ذات مرة أحد المُستشرِقين إن أمة تُردِّد كلمات كتابها أو على الأقل الفاتحة – وقد ذكرت لكم هذا من قبل – في اليوم خمس مرات من الصعب أن تكون أُمية، فاهم هذا الرجل! كيف يُقال أمة محمد أُمية؟ بالعكس! أمة محمد عندها الحد الأدنى من الوعي السياسي والثوري والتحرري وما إلى ذلك، وهذا الحد الأدنى لا يُمكِن حتى اغتياله بفضل الله تبارك وتعالى، بفضل قرآنها، وبفضل عبوديتها لله، هي تعرف أن لا استعباد إلا لله.

ذات مرة سُئل عالم كبير جداً من أحد الطُغاة، والطاغية هذا أُعجِب من شجاعة هذا العالم وإقدامه، لم يهمه أي شيئ، وضع روحه على كفه! قال له – أي هذا الطاغية وهو من حكّام الأندلس – يا رجل ما الذي جرأك علىّ هذه الجرأة كلها؟ قال له أمران أيها الأمير، شيئان! فقال له ما هما؟ قال له علمت أن أجلي بيد الله، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر ساعة، وعلمت أن رزقي من خزائن الله وبيد الله، فعلام أخشى؟ قال له، لن أموت إلا في حيني وفي ساعتي، والرزق من الله، يستحيل أن تُجوِّعني أو تُشبِعني، من الله رزقي ولابد أن يأتي إلىّ، فتأثَّر هذا الأمير الظالم، أحسنت – قال له – وتوكَّل على الله، لكن – سُبحان الله – لا أدري – هو عالم عادي – هل كان يعلم الحديث أو لا يعلم الحديث؟ الأرجح أنه لا يعلم، لأنه لو كان يعلم لاستشهد به، لكن بفهمه لروح الإسلام هو استطاع أن يصوغ حديثاً نبوياً صحيحاً بطريقته الصحيحة والقريبة جداً من لفظ رسول الله، يُوجَد حديث عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول فيه لا يمنعن أحدكم شيئ أن يقول بحق يعلمه – أي شيئ ممنوع أن يمنعك عن قول الحق الذي تعلمه، لماذا إذن؟ ما أكثر شيئ سيمنعك؟ شيئان، انظر إلى البلاغة النبوية – فإنه لا يُقرِّب له أجلاً – إذا تكلَّمت بالحق إن شاء الله فلن يُقرِّب هذا أجلك، تكلَّم وقل، والله لن تموت إلا في اللحظة التي ستموت فيها، لا تخف النبي قال، تكلَّم! وهذا صحيح، سُبحان الله – ولا ينقص له رزقاً، لن يذهب رزقك، رُغماً عنه – رُغماً عن هذا الخليفة أو الأمير الظالم – سوف يأتي إليك رزقك، لأن هذه مسألة إلهية الله تكفَّل بها لعباده، أليس كذلك؟ لا يقدر أحد أن يمنعه، وإذا الله كتب أنه سيمنعك الرزق فسيمنعك، سواء بواسطة هذا الأمير الظالم أو بغيره، فلا تخف وتكلَّم، الله أكبر! النبي اعتبر هذا من الحقارة، كثيراً ما نستخدم لفظ الحقارة والحقير! أتعرفون الحقير في الدين مَن هو؟ ليس الفقير، الفقير ليس حقيراً، بالعكس! الفقير عزيز، النبي كان فقيراً وكان يتمنى وكان يُحِب هذا الشيئ، ويُحِب أن يكون مسكيناً وأن تكون حياته مُتواضَعة، لكن الحقارة هل تعرفون ما هي بحسب ما قال النبي؟ قال لا ينبغي للمُؤمِن أن يحقر نفسه، قالوا كيف يحقر يا رسول الله نفسه؟ قال يرى أمراً لله فيه مقال فتمنعه خشية الناس أن يقول، يقول له الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة لِمَ لَمْ تقل؟ فيقول يا رب الناس كنت أخشى، فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى، أتخاف من الناس؟ قال له، خف من رب العزة قبل الناس، تذكَّر الله وتذكَّر عظمة الله.

العز بن عبد السلام خرج إلى القلعة في مصر وتكلَّم مع الصالح أيوب – الملك الأيوبي – وقال له يا أيوب، فالناس استغربوا، أتُخاطِب الخليفة أو السُلطان بالطريقة هذه؟ فقال له نعم يا سيدنا، الله أخذ هكذا بالهيبة، دفع بالهيبة في قلبه، قذفها في قلبه! قال له ما هذه الخمّارات ودور الفساد؟ فقال له يا مولانا من أيام أبينا، قال له وأنت من الذين قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا ۩؟ فقال له نأمر – إن شاء الله – بإغلاقها، فيقول أحد تَلامذة الإمام العز – اسمه الباجي، ليس أبا الوليد الباجي المالكي، هذا شخص آخر اسمه الباجي – فأتينا إلى مولان العز بن عبد السلام – وهذا كان يوم عيد، عيد الفطر – وقلنا له يا مولانا كيف تجرأت أن تُخاطِبه وباسمه؟ أتُحدِّثه هكذا باسمه؟ هذا رجل مُخيف وهو كان حتى ظالماً! فقال لهم والله لقد هبته – في الأول حين خرجت رأيته طبعاً، يوم العيد كيف سيخرج مع الحرس وما إلى ذلك؟ هيبة رهيبة! قال والله لقد هبته – فلم ألبث أن تذكَّرت عظمة فرنوت إليه كالهر، مثل قط صغير! بعد أن تذكَّرت عظمة الله الذي عنده المُلك كله والدنيا وجدته أنه لا شيئ، لم يهمه! وفعلاً لا تراه أنه يمثِّل أي شيئ، ترى أنه أحقر الحقراء، قال له هذا هو، وهو فعل هذا لله طبعاً، لم يفعل هذا لغير الله، ولذلك الله ثبَّته ولذلك الله لم يُسلِّط عليه حتى هذا الظالم، وحتى إذا سلَّطه فهي من كرامته على الله أن يموت شهيداً، أليس كذلك؟ والنبي قال هذا، فهذا ليس شرطاً! كل هذا كرامة إن شاء الله تعالى، وهكذا! هذه هي الحقارة، الحقارة أن تكون ضعيفاً فلا تقول بكلمة الحق، حينها تكون حقيراً، هذه الحقارة الدينية، أي بالمعنى الديني النبوي، تكون حقيراً حين لا تتكلَّم، تقول ما علاقتي؟ أنا أخاف! إذن أنت حقير كما قال النبي، هذه حقارة! لماذا تُحقِّر نفسك؟ قال، لماذا تُصغِّر نفسك؟ قل وتكلَّم، هذه روح عجيبة عندنا، ثم يقولون حكومة ثيوقراطية! كذبوا على الله وعلى رسوله وعلى التاريخ، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ ۩، افتروا والله، هذا أكبر افتراء!

نُريد أن نرى كلمة عثمان، عثمان كيف بُويع أيها الإخوة؟ ليس بحق إلهي، الناس بايعوه، هذا أولاً! ثانياً عثمان له كلمة مشهورة، كان يقول للناس إنما أمري تبعٌ لأمركم، لماذا لم يستشهدوا بها؟ أليس كذلك؟ لأن هذه الكلمة التي قالها للجماهير – إنما أمري تبعٌ لأمركم – ليس فيها ثيوقراطية ولا حق إلهي ولا وصاية ربانية على الناس، هذه تركوها وأخذوا حكاية سربلنيه الله، ثالثاً عثمان بن عفان كان يقول إنما أنا عبد الله، والله لئن أمرني أو نهاني عبد – هذا بمعنى كلامه – بأمر الله ونهيه لائتمرت له كما يئتمر العبد، حين يأتي إلىّ عبد من الناس ويقول لي الله يقول له كذا وكذا سأقول له نعم، لأن في النهاية أنا نفسي عبد الله تبارك وتعالى، أنا عبد لله، هذه الكلمة غض عنها الطرف فرج فودة وغيره، لم يتكلَّموا فيها! أليس كذلك؟ رابعاً هذا عثمان – وهذه هي القاسمة لهم بصراحة، قاسمة الظهور، الفاقرة – الذي ضحى بنفسه، أين نجد مثل هذه الشخصية؟ والله العظيم! عثمان بلا شك عنده تجاوزات، وأنا أقول هذا بشكل واضح، وقد قرأت التاريخ وما إلى ذلك، هناك أشياء مُعيَّنة وهو غير معصوم، لكن بصراحة يُغفَر له فعلاً بأُخرى، والنبي بشَّره، قال ما على ابن عفان ما فعل بعدها، ليس فقط النفقات التي أنفقها وما إلى ذلك، النبي قال هذا، وصدق النبي فيما قال، وعد من الله هذا! لكن يا رجل انظر إلى الخاتمة، خاتمة حياة عثمان! ليس القرآن الذي كان يختمه كل يوم في الصلاة – كان يختم القرآن كله في ركعة الوتر، كل ليلة هذا الرجل يفعل هذا، ومات وهو يقرأ القرآن الكريم – فقط الذي سيغفر له كل شيئ إن شاء الله تعالى، وهو من العشرة المُبشِّرين، الذي سيغفر له نهايته، فضَّل أن يموت وأن يُضحي بنفسه الشريفة على أن تُسفَك محجمة دم من امرئٍ مُسلِم، وما المقصود بامرئٍ مُسلِم؟ هؤلاء الثوّار المجانين، الثوّار الذين خرجوا عليه! أوباش الناس أتوا، أوباش من البصرة والكوفة ومن مصر، الأوباش تجمَّعوا وأتوا إليه، تسعة آلاف واحد من أمة محمد كلها التي كانت بالملايين، أوباش عباد الله جاءوا إليه وقتلوه قتل الأوباش والعياذ بالله منهم، أتقتلون رجلاً يقرأ كتاب الله؟ هو أمير ورفض أن يقتلك، وعنده جيش – ما شاء الله – في المدينة، ومُعاوية قال له سأبعث لك جيشاً أوله عندك وآخره عندي، ماذا تُريد؟ أتُريد مائة ألف أو مائتين ألف أو ثلاثمائة ألف؟ مُعاوية كان يغزو الروم، هو كان إمبراطوراً وملكاً، قال له سأبعث لك جيشاً، ما قدر التسعة آلاف؟ سنمسحهم مسحاً، وفعلاً كان يُمكِن أن يُمسَح هؤلاء الناس في لحظة، لكن ماذا قال له عثمان؟ قال له لا والله، لا أُقابِل الله وقد سُفِك محجمة من دم امرئٍ مُسلِم، نعم أنا أموت لكن لا يموت المُسلِمون بسببي، حتى الثوّار لا أُريد هذا لهم، يا إلهي! يا إلهي! هل هذا لم يشفع لعثمان أن يقولوا إنه لم يكن ثيوقراطياً؟ يقولون هو الذي أسَّس للناس حكومة دينية وادّعى أنه ظل الله في الأرض، هل عثمان ظل الله في الأرض وقد فعل هذا؟ فعلاً وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ ۩، هؤلاء الناس مُفترون، والله مُفترون ومُغرضون! تُدرِك حقيقة الأمر بهذا، كم عندهم غرض في قلوبهم بشكل غير عادي – والعياذ بالله – أو جهل! إذا أردنا أن نُحسِّن الظن فيهم فسنقول هؤلاء جاهلون، لم يقرأوا التاريخ، فقط قرأوا كلمات سمعوها من بعضهم ومن مُستشرِقين ويُردِّدونها، هذا أحسن شيئ نقوله فيهم، أما إذا قرأوا وعرفوا التاريخ فهؤلاء مُغرِضون، عندهم شنآن – والعياذ بالله – وعندهم حقد على الإسلام وعلى رجال الإسلام وعلى تاريخ الإسلام – والعياذ بالله – وعلى مكارم حتى رجالات المُسلِمين.

بعد ذلك نأتي حتى إلى هذه الكلمة، هناك حديث رواه الإمام الترمذي والإمام أحمد، وبعض العلماء صحَّحه وبعضهم توقَّف فيه، يقول إن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في يوم من الأيام – وهذه نبوءة غيبية الله أجراها على لسان رسول الله – قال له يا عثمان إن الله لعله أن يُقمِّصك قميصاً فإن أرادك أحدٌ على خلعه فلا تخلعه، نبوءة! نبوءة كما تنبأ النبي بشهادته على جبل حراء وقال إنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان، وكان هناك عثمان وعمر وأبو بكر والرسول، نبوءة غريبة! الصديق معروف، وشهيدان! وفعلاً عمر كان شهيداً وعثمان كان شهيداً، الإمام عليّ – عليه السلام – لم يكن هناك، هو طبعاً شهيد بلا شك وهو سيد الشهداء لكنه لم يكن موجوداً، نبوءة! والنبي كان عنده نبوءات للإمام عليّ في عدة مرات، وقال له قاتلك أشقى الآخرين والعياذ بالله، أشقى واحد في هذه الأمة قاتل الإمام عليّ عليه السلام، فهذا موجود لكن في مُناسَبة، وهذا يعني أن هذه كانت نبوءة نبوية ووصية من رسول الله، سيحدث أمر لك وسيُحاوِلون أن يخلعوك من هذا المنصب فلا ترض، وبالمُناسَبة الآن بلُغة سياسية ولُغة أيضاً تاريخية هل  تصرف عثمان لو أنه خلع الخلافة – قال تسعة آلاف يُطالِبون باستبعادي ويأتون من أنحاء الدنيا فهيا نستجيب لهم – سيكون تصرفاً صحيحاً؟ لا، لماذا؟ (ملحوظة) ذكر أحد الحضور الشورى، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، إذا أردنا أن نكون شورويين وديمقراطيين فالمفروض كما أن السُلطة في تولية عثمان الخلافة كانت هي الأغلبية ورأي الأمة الأرجح فكذلك لا ينزعه من منصب الخلافة إلا أغلبية الأمة، الأمة إذا رأت ذلك فلتفعله، لكن الأوباش الذين جمعهم عبد الله بن سبأ – الحقير اليهودي الزنديق والمُتسربِل بالإسلام كذباً – ليس لهم هذا، بعضهم من الكوفة، بعضهم من البصرة، وبعضهم من مصر! ومَن هم؟ المحدودون، مَن قُطِعَ يده في سرقة، مَن جُلِدَ في حد، ومَن حدث له كذا وكذا، هؤلاء حاقدون على الدولة الإسلامية!

عمر بن الخطاب لما قُتِل قُتِل عدلاً أو ظلماً؟ ظلماً، ومَن الذي قتله؟ رجل فارسي زنديق كان مزعوجاً من نصر الله للمُسلِمين ومن فتحهم لممالك فارس، وماذا كان يقول؟ أكل كبدي هؤلاء العرب، لم يُؤمِن، ادّعى أنه مُسلِم كذباً، كان يقول أكل كبدي هؤلاء العرب، حين يرى الأسرى وما إلى ذلك يُزعَج جداً من أجل قومه، عنده عصبية وشوفينية فارسية، رجل شوفيني! وفي النهاية باء بإثم سيدنا عمر وقتله، وعمر قال له أُريد أن أعرف فقط شيئاً واحداً، مَن الذي قتلني؟ مُسلِم – قال لهم – أو غير مُسلِم؟ فقالوا له لا، ليس مُسلِماً، هو رجل كذا وكذا وهو مجوسي، فقال الله أكبر، الحمد لله الذي لم يجعلها على يد رجل مُسلِم يُحاجِجني يوم القيامة بركعة ركعها لله، قد يكون مُسلِماً مَن قتلني وهذا المُسلِم قد يكون عنده تأويل، ربما قتلني بتأويل وعلى الأقل ربما عنده صلاة يُمكِن أن تشفع له ويُمكِن أن يُحاجِجني بها عند الله، لكن هذا لم يحدث، هذا كافر! الحمد لله قال عمر، يا أخي ما العظمة هذه؟ ما هذا الرجل؟ شيئ عجيب! فهذا ما حصل مع سيدنا عمر.

الإمام عليّ قُتِل ظلماً، عمر قُتِل ظلماً، وعثمان قُتِل ظلماً، فالتصرف السليم للأمة، تبقى الكرة في ملعب الأمة، الأمة هي التي بايعت والأمة هي التي تنزع هذا الرجل من منصبه، وليس تسعة آلاف من الأوباش تجمَّعوا من هنا ومن هناك، وهذا سر وصية النبي، النبي قال له لا، إن صح الحديث وقد صحَّحه جماعة، وإن لم يصح فالأمر كما قد سمعتم، كله يُؤكِّد هذا، سيرة عثمان ووضع عثمان مُبتدأً ومُنتهىً يُؤكِّدان أنه لم يكن يرى لنفسه حقاً إلهياً في الحُكم، غير موجود هذا الكلام، محض كذب!

نأتي أخيراً – ونختم إن شاء الله المُحاضَرة – إلى الكذبة – ليس الحُجة وإنما الكذبة – أو الشُبهة الثالثة التي تتعلَّق بأي جعفر المنصور، أبو جعفر قال إنما أنا أسوسكم بأمر الله وتسديده وتأييده، لانُريد أن نُعيد الكلام، قالوا هذه الكلمة حُجة، أولاً هذه الكلمة موجودة – صحيح – لكن أين مرجعها؟ العقد الفريد لابن عبد ربه، ربما بعضكم سمع به أو قرأه، العقد الفريد مرجع من مراجع الأدب والمُسامَرات، مثل الكشكول للعاملي ومثل المُبرِّد للكامل، أي فيه قصص وأشياء وما إلى ذلك، ومتى كانت كُتب الأدب مصادر للتأريخ؟ غير صحيح أبداً! والعجيب بالمُناسَبة أن حتى عليّ عبد الرازق الذي كتب الإسلام وأصول الحُكم – والله – في أول فصل في كتابه يستشهد على أشياء كثيرة لكي يقول الدين شيئ والسياسة شيئ بأشياء مرجعها العقد الفريد لابن عبد ربه، ولا يُعقِّب عليها، كأن هذا مصدر عتيد صالح للاستشهاد به، وبعد ذلك يأتي يطعن حين يستشهد بالبخاري، ولو عرضت منهج البخاري ومنهج العقد الفريد على أي مُستشرِق يهودي صهيوني في العالم لقال لك أين السُهى من شمس الضُحى؟ أليس كذلك؟ مُستحيل! منهج البخاري منهج علمي توثيقي، علماً بأن هذا ليس منهج البخاري فقط، هو منهج المُحدِّثين بشكل عام، منهج المُحدِّثين منهج مُعجِز مُعجِب في التوثيق العلمي والتدقيق، شيئ غريب وعجيب، عجيب جداً! 

حدَّثتكم مرة عن مُؤرِّخ لبناني كبير جداً – كان علّامة كبير في علم التاريخ وهو مسيحي، أرمني مسيحي – اسمه أسد رُستم، هذا الرجل سمع بشيئ اسمه علم التاريخ عند المُسلِمين وعلم مُصطلَح الحديث، فجاء ونزل إلى الشام لكي يبدأ في تعلم هذا العلم، ومن حُسن حظه أنه تعلَّمه على يد علّامة المُسلِمين في عصره وشيخ بلاد الشام بدر الدين الحسني قدَّس الله سره الكريم، هذا كان شيخ المُحدِّثين، كان مُحدِّث الشام، شيئ عجيب! تعلَّم منه علم مُصطلَح الحديث، فاندهش أسد رُستم وقال مُستحيل، ما الأمة هذه؟ كيف فعلت هذا؟ وذهب مُباشَرةً هذا الرجل واستخدم قواعد التحديث ليُؤسِّس عليها علماً جديداً أصولاً – وضع أصولاً لعلم جديد – اسمه مُصطلَح التأريخ، الغرب لم يعرف هذا الشيئ وليس عندهم القدرة التنظيرية التي تُمكِّنهم من أن يعملوا مُصطلَح التأريخ، واعتبر أن المُسلِمين كانوا الأمة الأولى – هذا أسد رُستم المسيحي اللباني – في العالم التي نهجت نهجاً علمياً توثيقياً قريباً من الكمال لعلم التأريخ، كيف؟ بمنهج المُحدِّثين، وعنده كتاب صغير جيد جداً جداً، من حُسن حظنا – الحمد لله – أُعيد طبعه قبل بضع سنوات في المكتبة العصرية ببيروت، لم يكن موجوداً من خمسين سنة للأسف، وهو كتاب عظيم جداً جداً، أنا لسنوات كنت أبحث عنه، زُهاء عشرين سنة! فطُبِع – الحمد لله – قبل سنتين وهو موجود، اسمه مُصطلَح التاريخ لأسد رُستم، فهذا هو!

حين نأتي إلى عليّ عبد الرازق وأمثال عليّ عبد الرازق وفرج فودة نجد أنهم كانوا مُعجَبين بنقول – وكانوا واثقين جداً ما شاء الله، يأتون واثقين بهذه النقول – ابن عبد ربه، مثل العقد الفريد، وهذا كتاب في الأدب وليس في التاريخ حتى، لكن هناك أشياء في البخاري ومُسلِم يطعنون فيها، يقولون لا، وهؤلاء المُحدِّثون عندهم أخطاء وعندهم كذا وكذا، الله أكبر! هل ابن عبد ربه – مُؤرِّخ الأدب – في العقد الفريد ليس عنده أخطاء والبخاري عنده أخطاء وكلامه غير مقبول؟ ما هذا؟ غرض! الغرض مرض، نرجع ونقول هذا مرة ثانية، فهذا أولاً، إذن الكلمة قد لا تثبت عن المنصور أصلاً، وإن ثبتت فإنما هي كلمةٌ هو قائلها، لا هي مرجعية ولا تُمثِّل شيئاً، أليس كذلك؟

ثانياً نُريد أن نرى طرفاً يسيراً جداً مما ذكره الإمام السيوطي في كتابه تاريخ الخُلفاء، والسيوطي ليس مُتحيِّزاً، بالعكس! السيوطي تقدر أن تقول فيه نفس شديد على الخلفاء الظلمة، ويذكر مثالبهم كثيراً حقيقةً، الكثير من المثالب التي أذكرها في خُطبي أخذتها من السيوطي في تاريخ الخلفاء، لكن هنا السيوطي أيضاً ذكر عن أبي جعفر المنصور إلى جانب مثالبه وظلمه هذه الروايات، وسأذكر منها ثلاثاً تقريباً إن شاء الله، أي ثلاث روايات!

أولاً ذكر السيوطي عن محمد بن نُمير، قال أتى أبو جعفر المنصور وكان على البصرة قاضيها محمد بن عمران الطلحي وأنا كاتبه – محمد بن نُمير يقول وأنا كاتبه – فأتى الحمّالون واستعدوا القاضي على أبي جعفر – أي على أمير المُؤمِنين، وهؤلاء حمّالون، جماعة من الحمّالين، أصحاب هذه المهنة قالوا يُوجَد ظلم، ولم يذكر السيوطي ما هو، قالوا يُوجَد ظلم، يتظلَّمون -، فقال لي – مَن؟ القاضي، محمد بن عمران الطلحي قال لمحمد بن نُمير – اكتب – يكتب ماذا؟ يكتب ليستجلب الخليفة، الخليفة يأتي ويجلس أمام القضاء، وهو خليفة يُقال له تعال، اجلس مع الخصوم، وهم حمّالون عتّالون، يُقال له تعال واجلس معهم -، فقلت اعفني أيها القاضي، فقال لا والله لا أعفيك – خاف وقال لا أُعفيك، هذه مُصيبة، قد تُقطَع رأسي -، اكتب، قال فكتبت ثم ختمته بالخاتم، قال اذهب، والله لا يذهب به إلا أنت – ما دمت جباناً هكذا فأنت ستذهب أيضاً وستُوصِّل الكتاب، ورطة زائدة -، قال فذهبت فدخلت على الربيع – حاجب المنصور، معروف الربيع – فأخذه فسلَّمه للمنصور، فقام المنصور وقال أيها الناس قد آتاني كتابٌ من القاضي لمُقاضتي فلا يلحقن بي أحدٌ منكم – لا يُريد أن تأتي الناس وما إلى ذلك، حتى لا يُبهدَل كخليفة، لكنه قام -، وأتى هو وحاجبه الربيع إلى مجلس القاضي، قال والله ما قام القاضي – لم يقم للأمير، ظل جالساً، قال له أنت أتيت كخصم الآن وليس كأمير المُؤمِنين – ولكنه حل لباسه واحتبى به – فعل هذا القاضي -، وقضاهم ثم قضى لهم على أمير المُؤمِنين – قال له الغلط معك وفي صفك، هم مُحِقون -، فما كان من المنصور إلا أن قال له جزاك الله عنا خير الجزاء – فقط هذا هو، قال له مُمتاز أنت، بارك الله فيك -، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار.

تخيَّلوا! المنصور المشهور في التاريخ الإسلامي بالشُح والبُخل فعل هذا، وهذا بالمُناسَبة قد يكون فيه مُبالَغة أو سوء تصوير للمسألة، مَن يُعطي لقاضٍ عالم عشرة آلاف دينار لا يكون بخيلاً، والدينار يترواح في بعض المراجع من ستة وفي بعضها من ثلاثة عشر إلى خمسة عشر أو ستة عشر درهماً، أي هذا مبلغ طائل جداً جداً، حوالي مائة وستين ألف درهم فضية، عشرة آلاف دينار ذهبية على الأكثر طبعاً أو ستة آلاف على الأقل مبلغ طائل، هذا لا يكون بخيلاً، يُعطي هذا لمَن؟ لقاضٍ عادل، لأنه عدل، وعدل في حق مَن أيضاً؟ في حق أمير المُؤمِنين، القضية فيها أمير المُؤمِنين! لكن مع الناس الآخرين من الوزراء والجيش والعسكر وما إلى ذلك كانوا يُسمونه أبا الدوانيق، لأنه يُحاسِب على الدانق، الدانق سُدس الدرهم، السُدس! فسُمي في التاريخ أبا الدوانيق، بالعكس! يبدو أن الرجل كان رجل دولة، كان حريصاً على تدبير أمور المال أكثر من غيره، غير مُبذِّر! لكن قاضٍ عادل أعطاه عشرة آلاف لأنه عدل، لم يقطع رأسه، هذه رواية! فهل تقول لي هذا حق إلهي أو إنه يرى نفسه ظل الله في الأرض؟ بالعكس! كان يرى نفسه خليفة ويخضع لما قلت.

الشيئ الثاني قصته مع قاضي البصرة عبد الله بن سوار، قصة غريبة جداً! قاضي البصرة هذا مشهور، من مشاهير القُضاة عبد الله بن سوار، كتب إليه أيها القاضي ترى الأرض التي بالمكان الفلاني وقد تنازع فيها القائد الفلاني مع التاجر الفلاني، فإن أتاك كتابي هذا فادفعها إلى القائد والسلام، فكتب إليه عبد الله بن سوار – قاضي البصرة – إلى أمير المُؤمِنين، من عبد الله بن سوار، قال له الأرض قامت عندي البيّنة أنها للتاجر، فلا أدفعها إلا ببيّنة والسلام، هذا رأيك كخليفة لكن أنا عندي بيّنة، هناك شهود! هذه ليست للقائد، فغضب المنصور وبعث له قائلاً والله الذي لا إله إلا هو – هذا في الكتاب – لتدفعنها إلى القائد والسلام، فبعث له والله الذي لا إله إلا هو لا أدفعنها إليه إلا ببيّنة والسلام، هل أذهب إلى جهنم من أجلك؟ فلما أتاه هذا الكتاب – انظروا إلى هذا، وهو خليفة، ليس رئيس دولة وإنما خليفة، عظيم السُلطان وواسع النفوذ، يحلف وهذا يحلف في وجهه، يقول له لا، لن أدفعها إلا ببيّنة، فماذا قال المنصور حين أتاه هذا الكتاب؟ – ضحك وقال الحمد لله قد ملأتها عدلاً حتى صارت قضاتي إلى الحق، الله أكبر يا أخي! والله رضيَ الله عنه إذا فعل هذا، أي أترضى عنه بهذا الاعتبار، مثلما قال ابن تيمية نترضى عنهم بأشياء أصلحوا فيها ويُمكِن أن نلعنهم بأشياء أساءوا فيها، ابن تيمية يقول هذا، هذا جائز، بسبب هذا الشيئ نقول رضيَ الله عنه والله، مثل الناصر الاندلسي، شيئ عجيب! هذه الأشياء فعلاً محسوبة.

أخيراً – هذه رواية أخيرة – عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي – مشهور هذا الرجل – يقول كنت أطلب العلم مع أبي جعفر قبل توليته للخلافة – كان يطلب معه العلم الشرعي – فدعاني يوماً إلى بيته، فدخلنا فدعا بالطعام فأُوتينا بطعام لا لحم فيه – كان فقيراً، فقر! قال ليس عنده شيئ، كان إنساناً عادياً – ثم قال يا جارية حلوى؟ قالت ليس ثمة، لا تُوجَد حلوى، قال شيئ من تمر؟ قال ليس ثمة، لا يُوجَد تمر، لا لحم ولا حلوى ولا تمر، فقر! طعامه حتى ليس فيه لحم، قال فاستلقى ثم قال عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩، قال يُمكِن! كان في باله مُخطَّط مع العباسيين، كان يُوجَد تنظيم باطني رهيب من أجل الانقلاب على الخلافة الأموية، وهو كان يفهم هذا، المُهِم قال ثم آلت إليه الخلافة فأتيته – صاحبه في العلم، كان طالباً للعلم معه، كانا يطلبان العلم عند المشايخ، قال فأتيته – فدخلت عليه، قال يا عبد الرحمن كيف ترى سُلطاني من سُلطان بني أُمية؟ أي كيف نحن؟ هل نحن أعظم وأحسن؟ قال فقلت له والله ما رأيت شيئاً من ظلم في سُلطانهم إلا رأيت مثله في سُلطانك، أتسأل؟ نفس الشيئ قال له، نفس الظلم، نفس الشيئ تفعله أنت! قال فقال لي يا عبد الرحمم ليس لنا أعوان، نحن نُحِب الحق ونُحِب العدل لكن ليس عندنا أعوان، البطانة كلها سيئة، وفعلاً البطانة سيئة! قال فقلت له قال عمر بن عبد العزيز – استشهد بواحد من أعدائه، لكن سُبحان الله حتى هذه فيها ملحظ هنا، فأبو جعفر حتى بلاشك فعلاً يُصغي ويُصيخ إذا كان القول لعمر بن عبد العزيز، وهو من القوم الذين هم أعداؤه وهم الأمويون، لماذا؟ أصبح مرجعية ابن عبد العزيز، نعم هو أموي ومن أعداء العباسيين لكنه مرجعية بعدله، صحيح! هو مرجعية على العباسيين وغير العباسيين، وإلى اليوم! هذا في كم؟ في سنتين وأربعة أشهر فقط، رجل يحكم سنتين وأربع شهر ويفعل كل هذا، فعلاً مَن يُريد الخير الله عز وجل يُيسِّره له، ولو أي حاكم عنده نية صادقة فعلاً لله عز وجل في نُصرة هذه الدين والله سيُسِّر الله له الأمر من كل أبوابه، مع أن عمر بن عبد العزيز أخذ الناس بالتدرج، أليس كذلك؟ لم يأخذ المسألة مرة واحدة أبداً، تدرج! وبالتدرَّج هذا غيَّر الدنيا كلها، ما شاء الله عليه، فعلاً ملأها عدلاً بعد أن مُئلت جوراً، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا الخليفة المهدي – إنما السُلطان كالسوق يُجلَب إليها ما ينفق فيها – السُلطان كالسوق! يُجلَب إليها أي بضاعة؟ التي تنفق -، فإن كان براً – أي السُلطان – أتوه ببرهم، وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم، انظروا إلى هذه الكلمة! قطع رأسه بها، قال له أنت تقول لي ليس عندك أعوان وهذا يعني أنك فاجر، هم يعرفون أنك هكذا ويُعطونك ما تُريد، قال فأطرق، سكت! أي أنه أفحمه بكلمة عمر بن عبد العزيز، سُبحان الله! هل هذا يعتبر نفسه ظل في الأرض؟ وُجِّه إليه هذا النقد! في مرة كان يخطب – المنصور كان يخطب في يوم جُمعة – فقام له رجل وذكَّره بالله، فقال له مرحباً، لقد ذكَّرت عظيماً وخوَّفت جليلاً، وأعوذ بالله أن أكون مِمَن قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۩، اجلس، شيئ رهيب! قال له كلمتين على السريع، قام وذكَّره بالله فقال له مرحباً، أي أهلاً وسهلاً، أهلا! مرحباً، لقد ذكَّرت عظيماً وخوَّفت جليلاً، وأعوذ بالله أن أكون مِمَن قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۩، اجلس، هيا اقعد، أنت أنهيت ما عندك فاسكت.

فهذا أبو جعفر المنصور، مثل هذا الرجل لا يُقال إنه كان يرى نفسه يحكم بحق إلهي وإنه يرى نفسه ظل الله في الأرض وأنه فوق المُحاسَبة والمُساءلة، هذا محض افتراء، إنها فرية بلا مرية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أيها الإخوة:

إن شاء الله نُعطي حوالي عشرين دقيقة أو نصف ساعة على الأكثر – بإذن الله – للأسئلة، لكن في هذه المرة سنختط خُطة جديدة في الأسئلة من باب إنصافكم أيضاً – أتحدَّث عن الإنصاف والعدل – حتى لا تضيع الفُرصة، نطرح – إن شاء الله – بضعة أسئلة – أربعة أو خمسة – ونكتبها، وبعد ذلك نُجيب بحسب أولوية السؤال، السؤال الذي عنده اعتلاق بموضوع المُحاضَرة أكثر سنُقدِّمه، لكننا سنُجيب عن الأسئلة كلها إن شاء الله، وستطرحون أربعة أو خمسة – إن شاء الله – لكي يأخذ الكل فُرصته في السؤال بإذن الله، تفضَّل يا أخي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ملحوظة) طرح بعض الحضور أسئلة تتعلَّق بموضوع المُحاضَرة، وكانت تدور حول عدة نقاط، وهي: تعدد الخليفة، المُشارَكة في البرلمان والتصويت، والخروج على الحكام واعتزالهم.

عبَّر أحدهم عن تخوفه – وهو الأستاذ عمر – من بقاء بعض المفاهيم المطروحة بشكل نادر ومُستوحِش في الفكر السياسي الإسلامي، مُشيراً إلى عدم وجود طرح موضوعي مُتنوِّر لمثل هذه المفاهيم في العالم العربي وإلى واقعة مقتل الإمام أبي حنيفة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مُعلِّقاً على كلامه هذا معروف، ونحن قلنا حتى حديث عبد الرحمن بن زياد، قال له كل ظلم بني أُمية أنا رأيته فيك، موجود! لكن – كما قلنا في الدرس السابق – من العدل والله يُحِب العدل إذا ذكرنا مثالبهم أن نذكر أيضاً محاسنهم، وطبعاً هذه المثالب وهذه المساوئ – كما قلنا – نحن نراها ونُضخِّمها أحياناً للأسف وأحياناً تطغى حتى على داعي أو ضرورة ذكر محاسنهم لما ذكرته أمس في الخُطبة، لأننا كمُسلِمين حقيقة نكون دائماً مشدودين إلى أُفق المثال، وهذا بالمُناسَبة يُؤكِّد أيضاً أن تخريب الدولة الإسلامية وتخريب الظلمة في تاريخنا لمنظومة القيم لدينا وخاصة في الميدان حتى السياسي ظل محدوداً، لم ينل من التصور المثالي ومن الرؤية المثالية الصحيحة لدور الحاكم ودور المحكومين في ظل الدولة الإسلامين، إلى الآن – سُبحان الله – هذا، عندنا الشيئ هذا بفضل الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ فدعونا نُجيب عن الإسئلة – إن شاء الله – كما هي وبنفس الترتيب – بإذن الله – لكن بسرعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالنسبة لتعدد الخليفة أو الحاكم المسألة فيها قولان، إذا ادّعى بعض الناس مسألة إجماعية فهذا غير صحيح، ليس فيها إجماع، لكن رأي الجماهير – ونحن نرتاح إلى هذا الرأي أكثر – أن الأصل في الخليفة أن يكون واحداً، يتعدَّد الولاة، فيكون هذا رئيساً لمصر، رئيساً للعراق، ورئيساً لكذا وكذا، لا بأس! وهذا كان أيام عمر وما إلى ذلك، لكن الخليفة كسُلطة في النهاية واحدة عامة على الجميع – ولاية عامة مُطلَقة – واحد، هذا الأصل! لكن هناك آراء تُخالِف، هناك بعض الآراء تُخالِف وخاصة لدى المُتأخِّرين قليلاً، فالشوكاني – رحمة الله عليه – كما أذكر في كتابه السيل الجرّار المُتدفِّق على حدائق الأزهار من فقه الزيدية مع الرأي الثاني، إذا انداحت بلاد المُسلِمين واتسعت جداً بحيث يصعب عودها إلى حكومة مركزية واحدة فقال يجوز في هذه الحالة أن يتعدَّد الخليفة، يكون هناك أكثر من خليفة، علماً بأن تاريخياً حصل الشيئ هذا، كان عندنا خليفة بالأندلس وخليفة في المشرق، بعد ذلك في المشرق انقسم الأمر إلى قسمين للأسف: الخلافة الفاطمية الباطنية والخلافة العباسية، وهكذا! فتاريخياً حصل هذا، لكن دائماً السوابق أو الحوادث التاريخية لا تكون مُبرِّرات، ليست مرجعية تشريعية، لكن لابد أيضاً من دراستها بطريقة علمية، ويُوجَد طبعاً توسيع، أنا عندي نظرة حتى في هذا الموضوع مُوسَّعة جداً لكنها تحتاج إلى مُحاضَرة، ويُمكِن الاستفادة من كتاب العلّامة الكبير والقانوني الدكتور السنهوري، عبد الرزّاق السنهوري عنده كتاب اسمه فقه الخلافة، وهو رسالة دكتوراة قام بها في فرنسا، فهو عنده تصور، طبعاً يُمكِن حتى أن نُخالِف في بعض الأشياء ويُمكِن الاستفادة في تعميق هذا الفكر بشكل أكثر إن شاء الله، لكن المسألة أيضاً فيها خلاف، أي ليست إجماعية، هذا أولاً.

ثانياً المُشارَكة في البرلمان والتصويت، طبعاً مسألة المُشارَكة في البرلمان لا تعني البرلمان الإسلامي، لو هناك برلمان إسلامي أو مجلس تشريعي إسلامي أو مجلس نيابي إسلامي سيصير طبعاً هذا واجباً، سيصير واجباً أن تُشارِك، كيف تكون المُشارَكة؟ قبل أن نتكلَّم نُريد أن نُعطي فكرة عامة بسرعة عن الموضوع هذا، لأن هناك أُناساً مُتشدِّدين أيضاً، هناك أُناس يرون أن هذا ممنوع بالكامل، وحتى في ظل الدولة الإسلامية ممنوع على المرأة أن تُرشَّح لعضوية البرلمان، وممنوع أن ينتخبها أي واحد لو رُشِّحت، وممنوع كذا وكذا، إلى آخره! فممنوع – مثلاً – ترشيح غير المُسلِمين، هناك جماعات إسلامية ترى أن من الممنوع أن يُرشَّح طبعاً يهودي ذمي أو مسيحي ذمي وهكذا، ممنوع! حتى لا تكون له ولاية على المُسلِمين، قالوا هذه ولاية، بل زعم بعضهم أن ولاية البرلماني أو النائب أو المُمثِّل – كلها أسماء لمُسمى واحد – أعظم من ولاية أمير المُؤمِنين، وهذا الكلام طبعاً فارغ، لماذا؟ قالوا لأن هؤلاء يستطيعون أن يعزلوا أمير المُؤمِنين، هؤلاء كأهل رأي لو أجمعوا على عزل الخيلفة سيُعزَل، فهؤلاء أعلى سُلطة منه، وهم يُحاسِبونه، أي لديهم صلاحية أن يُحاسِبوا السُلطة الأعلى في الدولة الإسلامية، فكيف يكون أحدهم يهودياً أو نصرانياً؟ هكذا صوَّروا المسألة، فلذلك لابد أولاً أن نعرف طبيعة العمل البرلماني، وهذا باختصار طبعاً مُخِل إلى حدٍ ما.

العمل البرلماني له وظيفتان رئيستان ضمن وظائف كثيرة، الوظيفة الأولى التشريع، وله وظيفة ثانية وهي المُحاسَبة والمُراقَبة، أليس كذلك؟ السُلطة التنفيذية! السُلطة التنفيذية باختصار كالآتي، نحن نقول هناك ثلاث سُلط أو سُلطات: هناك سُلطة تشريعية، هناك سُلطة قضائية، وهناك سُلطة تنفيذية، السُلطة التشريعية البرلمان، أليس كذلك؟ في الدول الحديثة! ليس شرطاً في الإسلام أن تبقى في البرلمان فقط، عندنا صور أُخرى كثيرة، ومَن يقرأ كتاب العلّامة النمساوي المرحوم محمد أسد منهاج الإسلام في الحُكم أيضاً سيُوسِّع أيضاً أفكاره حول التعاطي مع هذه المسائل في غير حدود النموذج الغربي الكامل، بالعكس! يُمكِن أن يُوسِّع أكثر لكن هذا موضوع ثانٍ، لا علينا منه، السُلطة القضائية معروفة، الجهاز القضائي! السُلطة التنفيذية الرئيس أو الخليفة – مثلاً – والمجلس الوزاري، هذه اسمها السُلطة التنفيذية باختصار.

بالنسبة للوظيفتين الرئيسيتين – وظيفة التشريع ووظيفة المُحاسَبة والمُراقَبة – أقول وظيفة التشريع معروفة، وذكرنا اليوم كيف هذا، ضمن القواطع والثوابت لا يُوجَد كلام أصلاً، لا يُوجَد تصويت هنا، يحدث هذا في المسائل – كما قلنا – التي يُمكِن أن يتحرَّك فيها العقل الاجتهادي الإسلامي، هذا أولاً، ثانياً وظيفة المُحاسَبة في السُلطة التنفيذية، أليس كذلك؟ باختصار الآن سنرى موضوع الذمة وموضوع المرأة، حتى أُعطيكم فكرة كاملة عن الموضوع كله، لكن باختصار شديد جداً – إن شاء الله – سنتحدَّث عن موضوع المرأة، هناك أُناس منعوا أن تُرشَّح المرأة لعضوية البرلمان أصلاً، (ملحوظة) رغب بعض الحضور في إجراء مُداخَلة حول موضوع ترشح المرأة للبرلمان فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إنه يفهم الكلام هذا، ثم استتلى قائلاً لكن أنا أُريد أن أُعطي للإخوة طبعاً فكرة عن الموضوع بسرعة، على أساس أن يفهموا ما البرلمان وما وضيعته وحتى الفتاوى حول هذا الموضوع بشكل مُتكامِل وسريع طبعاً من غير حتى إغراق في الاستدلال، هناك أُناس منعوا المرأة، وطبعاً في الدولة الإسلامية منعوها، فمن باب أولى أن يُشنِّعوا أكثر في الدولة العلمانية طبعاً، ففي الدولة الإسلامية ممنوع هذا عندهم، ونقول لِمَ؟ هل اشترط أحد من الأصوليين والفقهاء في الاجتهاد والمُجتهِد الذكورة؟ لا، إذن يُمكِن في الاجتهاد أن تكون المُجتهِدة امرأة، إذن حتى التشريع ثابت للرجال وثابت للنساء، تقدر أن تدخل البرلمان وتكون مُشرِّعة، تقول أنا عندي رأي كذا وأُرجِّح كذا أو فعلت دراسة ورأيي كذا، أليس كذلك؟ لأن لم يذكر أحد من الأصوليين والفقهاء الذكورة شرطاً في الاجتهاد، أليس كذلك؟ انتهى! موضوع التشريع بالنسبة للمرأة انتهى، بعد ذلك المُحاسَبة، هل اشترط أحد ألا يُؤدي النصيحة لأمير المُؤمِنين أو لأي سُلطة إلا الذكور؟ بالعكس! هذا ضد النصوص، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۩، في سورة التوبة! أرأيتم؟ الله قال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ۩، وبالمُناسَبة القاعدة في هذه المسائل لتسهيل الطريق أيضاً أن المرأة شقيقة الرجل وقسيمته ونظيرته في كل هذه الحقوق والواجبات إلا ما استُثنيت فيه ومنه، القاعدة! قال – صلى الله عليه وسلم – في حديث الإمام أحمد وهو حديث صحيح إنما النساء شقائق الرجال، أليس كذلك؟ أم سلمة – أم المُؤمِنين عليها الرضوان والرحمة – ذات مرة سمعت النبي يقول أيها الناس، فخرجت فكانت أول الناس، حتى علموا هذا من سرعة إجابتها، النبي قال أيها الناس، قالت إنما أنا من الناس، ألا تفهمون أنتم؟ ما القصة عندكم؟ هل الأمر يقتصر على الرجال عندكم؟ نحن من النساء، نُلبي مُباشَرةً! وهذا وعي، كان عندها وعي سياسي، قالت إنما أنا من الناس، أول واحدة لبت، وهذا صحيح! هذا الفهم الصحيح، إلا ما استُثنيَ، فواجب على المرأة هذا، علماً بأن سيدنا عمر هو الذي قال أصابت امرأة وأخطأ عمر، وابن كثير ذكر هذا ووثَّق إسناده، قال إسناد هذا جيد، قال أصابت امرأة وأخطأ عمر، لأن بعضهم حاول يطعن في إسناده، رواه  أبو يعلى لكن ابن كثير على الأقل حافظ كبير وما إلى ذلك، قال إسناده جيد، قال أصابت امرأة وأخطأ عمر، أليس كذلك؟ وهي امرأة.

كان من المرأة تدخل كبير في شؤون التشريع بحيث أن سيدنا عمر – مثلاً – في قراره بألا يُجمِّر الجنود المُسلِمين في الثغور أكثر من أربعة أشهر أو ستة أشهر في رواية، اعتمد على ماذا؟ على مشورة امرأة، على نصيحة وعلى رأي امرأة، وهي ابنته حفصة، سألها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت له أربعة أشهر وفي رواية ستة أشهر، ونحن نرى أن أربعة أقرب، لماذا؟ لآية الإيلاء، آية الإيلاء في سورة البقرة، وهذه قضية اجتهادية.

بعد ذلك مسألة تعميم العطية لكل وليد في الإسلام، كانت بناء على رأي امرأة، موقف من امرأة! كيف؟ مر على امرأة وهي تُحاوِل أن تُسكِّت طفلاً لها يبكي، يبكي بكاءً مُراً! فقال ما له؟ فقالت فطمناه قبل أوانه، كان عمره ربما سنة ونصف أو سنة وقليل لكنها فطمته قبل أوانه، قال لماذا يا أمة الله؟ قالت لكي يأخذ العطاء، فإن عمر لا يفرض عطاء إلا لمَن فُطِم، حين يُفطَم الطفل يبدأ عطاؤه، حين يُدرِك! فقال ويح عمر كم قتل من أبناء المُسلِمين! ثم مُباشَرةً فرض العطاء لكل وليد في الإسلام، من يوم يُولَد! لكي تُرضِّعه أمه لسنتين كاملتين، انظروا إلى هذا الرجل! فهذا بناء على رأي امرأة، موقف من امرأة! فهي لها اعتبارها وتعلم أشياء كثيرة.

هم عندهم حُجة، قالوا لا، هذه ولاية! عندهم حُجة ثانية الآن نظرية، الاعتبارات التي ذكرتها اعتبارات عملية، أليس كذلك؟ البرلمان هو للتشريع والمُحاسَبة، هل لها أن تُشرِّع؟ لها، هل لها أن تُحاسِب؟ يجب عليها أن تُحاسِب كالذكور، هذه اعتبارات عملية، أليس كذلك؟ وبالمُناسَبة هذا مُهِم لمَن قرأ القانون بالذات، كلما قرأتم في القانون أكثر – القانون الوضعي – كلما علمتم هذا، وهناك كتاب قمنا ببيعه هنا في المعرض كان جيداً، يُعطيكم فكرة مُمتازة عن المسائل هذه، وهو كتاب ضخم في ألف ومائتي صفحة تقريباً، كتاب لمحمد كامل ليلة رئيس مجلس الشعب المصري، اسمه النُظم السياسية، لو قرأتم هذا الكتاب – في زُهاء ألف ومائتي صفحة، يُقرأ بسهولة لأنه سلس وجميل، وفيه فوائدة كثيرة – تستطيعون أن تخرجوا بانطباع أن دائماً في الفكر القانوني من الصعب جداً إخضاع كل نظرية وكل تفريع نظري لمُبرِّر نظري، أكثر المُبرِّرات عملية، عملية! سُبحان الله، في القانون أكثر المُبرِّرات تكون عملية، فما ذكرناه هو إجراء عملي، مُجرَّد إجراء فكري عملي.

نُريد أن نرى الشيئ الثاني وهو مسألة الولاية، قالوا هذه ولاية، ولا ولاية للمرأة على الرجال، كيف نُعطيها ولاية؟ نُريد أن نُناقِش المسألة هذه وبعد ذلك سنأتي بالجواب عنها، ما هي الولاية أصلاً؟ لأن هناك أُناساً لأول مرة يسمعون هذا، وهذه اصطلاحات ثقيلة، ما الولاية؟ الولاية باختصار إنفاذ القول على الغير شاء أو أبى، هذا التعريف الفقهي لها، اعلم أن هذا هو المعنى حين تسمع كلمة ولاية، ولاية عامة، ولاية خاصة، ولاية على النفس، وولاية على المال، أربعة أقسام للولاية! ما هي الولاية باختصار؟ يقولون الولاية، لا ولاية لكافر على مُؤمِن، لا ولاية لامرأة على رجل! الولاية هي إنفاذ القول على الغير – في الفقه – شاء أو أبى، وتنقسم بحسب عمومها وخصوصها إلى قسمين: ولاية عامة وولاية خاصة، الولاية العامة كولاية أمير المُؤمِنين، ولاية رؤوساء الدول، الولاة! ولاية القُضاة، وولاية شيخ القبيلة في الصحراء المُنقطِع في قبيلته، هذا عنده ولاية عامة، هذه اسمها الولاية العامة! فحتى القاضي عنده ولاية عامة، أعم هذه الولايات ولاية مَن؟ السُلطان، الخليفة، أمير المُؤمِنين، رئيس الدولة الآن، ثم يأتي الأصغر منه، الولاية الخاصة كولاية الأب،الجد، الزوج على زوجته، إلى آخره! كلها ولايات خاصة، بحسب محلها أو موضوعها: ولاية على النفس وولاية على المال، تتصرَّف فيما يخص الآخر كالوالد وما إلى ذلك أو فيما يخص ماله، أي على النفس وعلى المال، هل هذا واضح؟ هذا المعنى الفقهي السريع للولاية، فقالوا هذه ولاية، ولا ولاية للمرأة على الرجل، هنا نقول لماذا لا ولاية؟ قالوا لأن الله قال الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ۩، نقول لهم القوامة هذه في حدود الحياة الزوجية، أنا لست قوّاماً على امرأتك، أليس كذلك؟ ولا على أُختك، مُستحيل! ولا أنت قوّام على ابنتي مثلاً، مُستحيل أن تقول لي أنا قوّام عليها لأنني رجل، الله قال الرِّجَالُ – يقصد الأزواج – قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۩، والله أنت لا تُطعِم بناتي لكي تقول أنا عندي ولاية على بناتي، هذا غير موجود! ولايتك على بناتك أنت وعلى زوجتك أنت، هل هذا واضح؟ فكيف تقول لي هذا وتُدخِله في البرلمان؟ كيف تقول لي ليس لها ولاية علىّ وما إلى ذلك؟ لا! أنت ليس لك ولاية عليها، هذا الكلام غير صحيح، (ملحوظة) ذكر أحد الحضور شيئاً فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا موضوع ثانٍ، هذا في الولاية العامة، وسنذكره لكن جيد أنك ذكرته، هذا في الولاية العامة المُطلَقة كالخلافة وهذا معروف، سنذكره وجيد أنك ذكرته على كل حال، فهذا سياق الآية، والأصل في حقوق المرأة والرجل هو قوله – تبارك وتعالى – وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۩، ما هي الدرجة؟ القوامة، هل هذا واضح؟ الدرجة هي القوامة، مُبرِّر القوامة تفضيل فطري والإنفاق، مُبرِّران! هل هذا واضح؟ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۩، فقط هذه المسألة! فهذه في نطاق الحياة الزوجية، ثم إذا أردنا أيضاً أن نتعمَّق حقيقة حتى في نطاق الحياة الزوجية هذه القوامة لا تُلغي حقها ولا تغتال حقها في أن يكون لها رأي، أليس كذلك؟ قال – تبارك وتعالى – في مسألة فصال أو فطام الرضيع فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۩، لا تقدر أن تقول لها افطميه، لا يُمكِن أن تقول لها افطميه، ينبغي أن تتناقش معها لكي تصلا إلى الأصلح للولد والأصلح للعائلة، أليس كذلك؟ فهذه المسألة حتى غير صحيحة.

وقد روى الإمام أحمد بإسناد جيد آمروا النساء في بناتهن، أي في موضوع الزواج، النبي قال آمروا، خُذ أمرها، لا تقل أنا الأب وأنا عندي ولاية على البنت وسأزوِّجها، لا! أيضاً خُذ رأي أمها حتى في هذه المسألة، عندك قوامة وهي لها رأي ولها شوراها، فإذن هذه الآية سقطت الآن وهنا كدليل في هذا الموضوع بالذات، لا تقل لي لدينا هذا الدليل، أليس كذلك؟ وبعد ذلك لو أردنا التوصيف الدقيق لوجدنا أن عمل هذا المُمثِّل أو النائب وما إلى ذلك في البرلمان يُوشِك ألا يُسمى ولاية، بدليل أنه يُحاسِب ولا يُحاسَب، ومَن لا يُحاسَب هو الذي لا ولاية له، أليس كذلك؟ لأنه لا يلي شيئاً يُحاسَب عليه، لا يُوجَد! هو لا يُحاسَب، هو سُلطته أن يُحاسِب، لكن هو لا يُحاسَب، وهذا الكلام اجتهادي لكن لنا أن نُناقِش فيه على كل حال، هذا كلام بعض العلماء لكن هو قابل للنقاش.

ما أُريد أن أقوله بالنسبة للحديث أبي بكرة – هذا حديث في صحيح البخاري، عن أبي بكرة نُفيع بن الحارث صاحب رسول الله المشهور – إن الرسول لما سمع بأن الفرس مات كسراهم وولوا ابنته قال لن يُفلِح قومٌ ولوا أمرهم امرأة، فالعلماء – جماهير العلماء بحمد الله تبارك وتعالى – حملوا هذا الحديث على ماذا؟ على الولاية الأكثر عموميةً، على الخلافة! بدليل أن أبا حنيفة – رضيَ الله عنه وأرضاه – أجاز أن تلي المرأة القضاء، والقضاء ولاية عامة أو خاصة؟ عامة كما رأينا قبل قليل في مُقدِّمة الحديث عن الولاية، القضاء ولاية عامة طبعاً، يُقضى على الناس وما إلى ذلك، فهذا القضاء! أبو حنيفة جوَّز أن تلي المرأة القضاء لكن ليس في كل شيئ، فيما تجوز شهادتها فيه، وشهادة المرأة عند الأحناف وعند غيرهم تجوز في كل شيئ إلا في الحدود والقصاص، أي فيما عدا ذلك تقضي المرأة، تكون قاضية، وهذه ولاية عامة!

أبلغ من ذلك الإمام الحسن البِصري والإمام أبو جعفر بن جرير الطبري – وهو صاحب المذهب الخامس في الإسلام والإمام ابن حزم – رحمة الله عليه، الإمام الجليل الذي لا يتبع إلا حروف النصوص، حتى العقل لا يعبأ به كثيراً، لا تقل له العقل أو القياس وما إلى ذلك، فقط النصوص، النص! فالرجل حرفي جداً، أليس كذلك؟ الظاهري! ابن حزم الظاهري رحمة الله عليه – ثلاثتهم ماذا قالوا؟ المرأة تلي القضاء ولاية مُطلَقة، في الحدود، في القصاص، وفي كل شيئ، تخيَّلوا! وهي ولاية عامة، فمن أين لكم أن المراة لا تلي وليس لها ولاية على الرجال؟ هذا كلام فارغ ومُخالِف للفقهاء، وهناك فرقة من الخوارج – هؤلاء فقط وحدهم – من الذين أعطوا المرأة ولاية عامة حتى جوَّزوا لها أن تكون أميراً للمُؤمِنين، فرقة من الخوارج! الخوارج بالمُناسَبة عصريون جداً جداً وحداثيون في موضوع الدولة، عندهم هذا كثير بشكل غير طبيعي، قالوا القرشية كلام فارغ، لا قيمة للقرشية، بالعكس! حتى ضرار بن عمرو قال إذا كان هناك رجل قرشي ورجل عجمي سُنعطيها للعجمي، لماذا يا رجل؟ قال لأن القرشي عنده عصبية وما إلى ذلك، لو جار أو ظلم سيكون من الصعب أن تخعله، لكن الرجل العجمي لو جار سنخلع رأسه، ليس معه أحد وليس عنده عصبية، فهم عنده هذه الأشياء، وقالوا المرأة كالرجل.

بالمُناسَبة غزالة بنت شبيب – الفرقة الشببية في الخوارج – بايعوها بالإمارة، كانت خليفتهم وهي امرأة، وهي التي حاربت الحجّاج وأبلت بلاءً حسناً، وفيها يقول الشاعر للحجّاج البيت المشهور جداً جداً:

أسَـدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَــةٌ      رَبْداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ.

البيت هذا قيل في الحجّاج، لماذا؟ لأن غزالة هذه هزمته مرة، وهذه المرأة هرب منها وهي أميرة المُؤمِنين للخوارج، فقال له الشاعر:

أسَـدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَــةٌ      رَبْداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ.

هَلّا بَرَزتَ إِلى غَزالَة في الوَغى       بَل كانَ قَلبُكَ في جَناحَي طائِـرِ.

قال له هَلّا بَرَزتَ إِلى غَزالَة في الوَغى، مَن غزالة هذه؟ بنت شبيب، أميرة الخوارج في فترة من الفترات، هذا أيام الأمويين.

هَلّا بَرَزتَ إِلى غَزالَة في الوَغى       بَل كانَ قَلبُكَ في جَناحَي طائِـرِ.

قال له أنت جبان، وغزالة هذه هزمتك، فالخوارج عندهم المنزع هذا، هم الوحيدون الذين قالوا المرأة تتولى حتى إمرة المُؤمِنين، فقط هؤلاء! ومن المُعاصِرين الفقيه الدستوري الكبير المصري – علّامة كبير وفقيه دستوري، هذا خرَّج أجيالاً – عبد الحميد متولى رحمة الله عليه، هذا جوَّز أن المرأة تكون أميرة مُؤمِنين، والأستاذ ظافر القاسمي – ابن إمام الشام محمد جمال الدين القاسمي، هذا ابنه ظافر القاسمي، وكان نقيب المُحامين في سوريا كلها – جوَّز أن تكون المرأة أميرة للمُؤمِنين، لكن هذا الكلام فيه نظر على كل حال، فيه نظر! هذا اجتهاد، لا نعني أننا ضده أو معه لكن هذا فيه كلام.

نرجع الآن إلى السؤال المُباشِر الخاص بك، هل فهمت كيف هو الجواب عن الحديث؟ هنا، ليس في كل شيئ كالبرلمان وما إلى ذلك، وإنما فقط في الشيئ هذا، نأتي إلى البرلمان في دولة غير إسلامية، دولة علمانية مثل الدول العربية اليوم، دول علمانية هذه! هل يجوز الدخول في هذه البرلمانات أو لا يجوز؟ هذه المسائل نذكر فيها أمرين، الأمر الأول لا ينبغي أن نخلط فيها بين العمل والنظر، أي بين العقيدة والعمل، للأسف بعض الإخوة المُتشدِّدين ألَّف رسالة يُبيِّن فيها أن دخول المجلس النيابي لا يجوز، قال القول السديد في بيان أن دخول المجلس مُنافٍ للتوحيد, ما الكلام هذا؟ هذا خلط شنيع بين العمل والاعتقاد، هذا عمل! أنا دخلت يا سيدي، دخلت حتى طلباً للمنصب وطمعاً في أي شيئ، لكن أنا لن أُشرِّع أي شيئ ضد شرع الله، ولن أُوافِق ولن أُصوِّت بالمُوافَقة على أي شرع ضد شرع الله، بل سأفعل العكس أيضاً، هل أنا كفرت؟ هل أنت كفَّرتني؟ كيف هذا؟ يخلطون بين العمل وبين الاعتقاد – شيئ فظيع جداً جداً – من غير تفصيل في المسائل، فما نُريد أن نقوله هذا الأمر الأول، الأمر الثاني بعد هذا الخلط في هذه المسائل حقيقة نحتاج إلى فقه للأسف، هو فقه جيد وفقه مُثمِر ونادر للأسف الآن، بالعكس! أنا قرأت كتابات تسخر من هذا الفقه، في بعض دول الخليج ألَّفوا كُتيبات يسخرون من هذا الفقه، والذي اطلع على تاريخ الفقه الإسلامي وعلى مُدوَّنات الفقهاء الكبار العظام مثل الغزّالي والشاطبي والإمام العز بن عبد السلام وابن تيمية – رحمة الله عليهم أجمعين، بالذات هؤلاء الأربعة – يعلم أن هذا الفقه الأصيل وقد أخذ منه هؤلاء الأجلاء بنصيب وافر وضربوا في غنيمته بسهم مُفلِج، كيف؟ اسمه فقه المُوازَنات، لابد أن تقوم بعمل مُوازَنات، وكما قلت اليوم في أول المُحاضَرة لا تكن نظرياً، لا تُهوِّم في نظريات، سهل جداً التهويم في النظريات، لكن لابد من إصلاح الواقع، لابد إصلاح دنيا الناس، هذا هو التحدي، إصلاح دنيا الناس هو التحدي! فالآن بفقه المُوازَنات هب أننا تجنَّبنا البرلمان وغير البرلمان، ما الذي سيحدث في الواقع؟ سنُحكَم – والعياذ بالله – بآراء غير إسلاميين، وسيُشرِّع لنا علمانيون، غير إسلاميين! و… و… و… إلى آخره! لا يُمثِّلون في الحقيقة جوهر الأمة ولا هوية الأمة، ستقول لي كيف لا يُمثِّلون والأمة انتخبتهم؟ انتخبتهم لأنك جالس في بيتك، لكن انظر – كما حدث في المغرب وفي الأردن وفي أكثر من مكان – حين يخرج هذا الإسلامي إلى الشارع ويرفع لافتته، الكل ينحاز إليه، أليس كذلك؟ وهذا يُزعِج الآخرين، فأنا من مصلحتي أن أغزو هذه الأشياء كما أغزو الجامعات أيضاً وأتعلَّم تعليماً علمانياً فيها ضد الدين، أغزو الجامعات، أغزو الكليات، أغزو المدارس، أغزو البرلمان، وأغزو كل مكان، بحيث تُصبِح في النهاية الغلبة لي، فحين يكون هناك تشريع لن ينفذ أي تشريع إلا ما وافق شرع الله، وستسقط كل الأفكار الأُخرى، وبالتالي أكون قدَّمت خدمة كبيرة للأمة، لكن طبعاً هناك محاذير هنا، مثل الدخول في برلمان صوري شكلي لن يكون للإسلاميين فيه دور حقيقي في التغيير ولا النصيحة ولا المُحاسَبة ولا أي شيئ – شكلي فقط هكذا – في دولة كُلية شمولية توتالية كما يُقال، فهذا الدخول قد يكون مفسدته أعظم من مصلحته، وقد يكون ترقيعاً وتزييناً وزخرفةً لهذا الحاكم الطاغوت، الأفضل ألا نفعلها، لا! ونظل نأخذ حتى بنص الحديث، لو أن الناس اعتزلوهم، نعتزل ونقعد في بيوتنا حتى نُجرِّم هذا النظام قدر المُستطاع، لكن في نظام فيه شيئ من الديمقراطية ولا يُعادى الإسلام مُعاداة حقيقية شرسة دموية ويُعطي الفُرصة ويفتح الأبواب كما يُقال للجميع – بالعكس – علىّ أن أستغل هذه الفُرصة، وأعلم أن هذا الكلام قد لا يُقنِع كثيراً من الناس، لكن أنا أُريد أن أحضر بعض الأدلة السريعة.

يُوجَد قانون – قانون رباني، سُبحان الله – شرعي وقدري اسمه قانون التدرج، الكمال أن تصنعه نظرياً سهل، لكن أن تصنعه عملياً صعب جداً جداً جداً، الله – عز وجل – علم ذلك، وقد تحدَّث عن الخمر في أربع آيات، ذمها وحذَّر منها وكرَّهها في ثلاث آيات ثم حرَّمها في الرابعة، أليس كذلك؟ وبين الأولى والرابعة تسع عشرة سنة، أعظم سُلطة مُطلَقة في الكون الله عز وجل، يعلم أن ليس من الحكمة وليس من العملي أن يُحرِّم الخمر من أول ضربة، لن تستجيب الناس كما قالت عائشة في حديث البخاري، ولو فعل ذلك – قالت عائشة في البخاري – لا ندع شربها أبداً، سنظل نشرب ونحن كفرنا! ضد طبائع الأشياء، هل فهمت كيف؟ كل شيئ يُولَد صغيراً ثم ينمو حتى يُصبِح قوياً فتياً، فلا تطلب الكمال مرة واحدة، أليس كذلك؟ خُذ المُستطاع، ابدأ اصلح، ارفع الظلم قدر ما تستطيع، حقِّق العدل قدر ما تستطيع، قال تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ۩، وهناك أحاديث عن هذا، الإمام ابن رجب الحنبلي – رحمة الله عليه، وهو مُحدِّث كبير جداً جداً ومن أوثق علماء الحديث، وله شرح على البخاري للأسف وصلتنا قطعة منه، قال العلماء تقريباً ندر مثاله، ويُمكِن ألا يُقارَن به حتى شرح ابن حجر قالوا، شيئ عجيب رحمة الله عليه، إن شاء الله يصل كل هذا الشرح – في جامع العلوم والحكم – شرح الأربعين النووية – ذكر جُملة من الأحاديث عزَّز أسانيد بعضها أسانيد البعض الآخر ثم علَّق عليها بقوله وفي هذا كله دليل على أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد قبل الإسلام مع الشرط الفاسد، تخيَّلوا! الإسلام – العقيدة، الدين، والتوحيد – النبي يقبله مع الشرط الفاسد، كيف؟ جاء جماعة وقالوا لرسول الله نفعل كذا وكذا دون أن نُصلي! فقال لا خير في دين لا صلاة فيه، قالوا دون أن نصوم، فقال يُمكِن هذا، قالوا دون كذا وكذا، فقال يُمكِن هذا، إلا الصلاة! الصلاة شدَّد فيها النبي، لكن كيف هذا يا رسول الله؟ هل أسقطت عنهم الصيام؟ النبي لا يقدر أن يُسقِطه، هذه فريضة إلهية، قالوا نحن غير قادرين على أن نصوم في المرحلة هذه، لا نُريد أن نصوم الآن، فقال لهم أسلموا، لا تُوجَد مُشكِلة، أسلموا من غير صيام، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – إن الخير لا يأتي إلا بالخير، سيصلون ويصومون، إن شاء الله في المرحلة اللاحقة سوف يصومون.

الآن تأتي إلىّ أخت نمساوية – وهذا حصل معنا عدة مرات – وتقول لي أُريد أن أُسلِم لكنني لن أتحجَّب، فأقول لها على الرحب والسعة، لا تُوجَد مُشكِلة، لكنني لن أقول لها عدم الحجاب حلال لو سألتني، سأقول لها هذا حرام، لكن هذا الحرام لن يُدخِلك جهنم بنسبة مائة في المائة، حرام صغير! وأن تُسلِمي وتأخذي بعقيدة التوحيد أفضل لك مليون مرة، ولو مت مآلك الجنة إن شاء الله تعالى، وقد تُغفَر لكِ خطيئة الحجاب، وبعد فترة سوف ترون أنها سوف تتحجَّب وحدها، أليس كذلك؟ سُبحان الله! حين تتشبَّع بروح الإسلام وتُخالِط بشاشة الإيمان قلبها سوف تتحجَّب وحدها، وهذا حدث في قصص كثيرة لكننا لن نُطوِّل بذكر القصص، النبي فهم الشيئ هذا، التدرج! هذه سُنة التدرج.

التشريع – انظروا إلى التشريع – في مكة تقريباً لم يكن عنده بُعد اجتماعي، بُعد فردي! أليس كذلك؟ لماذا إذن؟ لو القرآن شرَّع اجتماعياً في غير قضية التوحيد والعقيدة ستحدث مُشكِلة، سيتشقَّق المُجتمَع وبعد ذلك سيكون حتى الخاسر الأول الأقلية المُسلِمة، لكن حين صار عندهم مُجتمَع بحياله وبرأسه جاء التشريع على أصوله في كل شيئ، اجتماع، سياسة، اقتصاد، وكل شيئ! لكن في مكة لم يحدث هذا، تدرج! هذه السُنة لابد أن نُراعيها.

انظروا إلى هذه الفتوى الجريئة للإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وقد ذكرت هذا الكتاب في مرات كثيرة، كتاب عظيم جليل، لا يُمكِن أن نُقدِّره حق قدره، أي الكتاب هذا، شيئ عجيب! من أصول الفكر المقاصدي في الإسلام، العز بن عبد السلام سُلطان العلماء، ماذا قال؟ قال هكذا: لو أن الكفّار استولوا على جُملة بلد للمُسلِمين – أخذوا بلداً، أي استعمروه واحتلوه – ثم أقاموا في القضاء مَن يُقيم مصالح المُسلِمين العامة – أي يُراعي المُسلِمين أكثر من غيرهم، وبالمُناسَبة أنا فكَّرت في كلام العز، هل يقصد من المُسلِمين أو من الظلمة أو حتى من الكفّار؟ كل هذا وارد، حتى يبدو من ظاهر كلامه أنه منهم، أي رجل كافر منهم وهو قاضٍ، قاضٍ يقضي وهو كافر، لكنه سيُحقِّق مصالحنا بشكل عام أكثر من غيرنا ويدرأ المفاسد، ما القول في ذلك؟ انظروا إلى هذه الفتوى الخطيرة، هذه أخطر من سؤالك مليون مرة، لكن هذا ليس له علاقة بالعراق حتى لا يسمع بهذا الأمريكان، هذا خطر لي الآن، ليس له علاقة بالعراق، أعوذ بالله! موضوع ثانٍ هذا، مُشكِلة هذه، سوف يطبع الأمريكان هذه الفتوى ويقولون سوف نُعطي العز جائزة نوبل Nobel للسلام، فماذا قال العز رحمة الله عليه؟ قال المُختار أن ذلك كله ينفذ، كله صحيح، فليكن! لماذا؟ – فإن من البعيد – انظروا إلى العقل، حين تقرأون إلى الفقهاء القدماء ترون كم هي عقول المُحدَثين صغيرة، فعلاً عقول صغيرة مثل حواصل الطير، لكن حين تقرأ لابن تيمية أو العز أو أبي حامد الغزّالي أو الشاطبي تجد نفسك أمام أئمة، أمام بحور، ولا يُوجَد بحمد الله واحد من هؤلاء مُتهَم على دينه، بالعكس! هؤلاء هم منابع ومصادر الفكر الإسلامي الصحيح بهذه العملقة الإمامية التي عندهم في العلم، ها هو سُلطان العلماء الذي تصدى للأمراء، أي أنه رجل لا يخشى في الله لومة لائم، وهو ليس رجلاً محلول أو دقيق الدين، هو رجل من أولياء الله، لكنه فقيه، فقيه مقاصدي – من عدل الله ورحمته – وأفصح أن نقول دائماً بعيد من وليس بعيد عن، انتبهوا! حتى لا تظنوا أن هذا لحن وما إلى ذلك، قال فإن البعيد من عدل الله ورحمته، ماذا؟ – أن تُضيَّع المصالح العامة وتحصل المفاسد العامة لأنه لا يُوجَد مَن يلي ذلك من الأكفاء على وجهه كما يستحق، قال لا يُوجَد! لا يُوجَد مُسلِم أو حُكم إسلامي يعمل هذه الأشياء بالوجه الذي نُريده، فنحن نُضيِّع هذا ونقول لا نُريد قضاء، سندع الناس تتهارج وتتظالم حتى لا ينفذ قضاء لأناس كفّار، قال لا! لو هذا القضاء الخاص بهذه الحكومة الكافرة سواء وضعه مُسلِم أو غير مُسلِم – هو لم يقل هذا، ظاهر كلامه أنه واحد منهم، وضعه واحداً منهم – سيُراعي المصالح العامة للمُسلِمين – سيُعطينا حقوقاً وسيُعطينا بعض الأشياء وبعض الضمانات – سنقول له أهلاً وسهلاً، خُذه! خُذ منهم مصالحك يا رجل، لِمَ لا؟ لا ينبغي أن تُضيِّع كل شيئ، رحمة الله على هذا الإمام الجليل، أرأيت؟ عنده فقه مُوازَنات، لم يقل كل شيئ أو لا شيئ، أليس كذلك؟ اسمها فلسفة الرفض الكامل، إما كل شيئ أو لا، ذهبت بنا في داهية هذه، والله العظيم! حتى في السياسة بالمُناسَبة، في السياسة حدث هذا! أنا اقتربت الآن من الأربعين – في السابعة والثلاثين – ولم أقدر أن أفهم هذا إلا في آخر ربما سبع سنوات، بدأت أفهم المسائل هذه، والله العظيم! لأن الفكر الإسلامي الحديث للأسف لم يكن فيه هذا الوعي، للأسف لم يكن فيه هذا! الكل يتلقى كلاماً، إسلام أو لا إسلام، كله أو لا، لم أقدر أن استوعب يوماً أن من المُمكِن أن نتعاطى مع القضية الفلسطينية فعلاً على النحو الآتي، إذا اعترفتم لنا بالسابع والستين فأهلاً وسهلا، أعطونا السابع والستين، وخُذوا كذا، لا! كنت أرى أن هذا كفر وأقول هذه أراضي إسلامية ومن النهر إلى البحر وما إلى ذلك، هذا اسمه هبل! باختصار – لا تزعلوا مني – هذا اسمه هبل أو استهبال، هذه ليس اسمها سياسة، لكي تقول الكل أو لا لابد أن تكون الأقوى في العالم، أليس كذلك؟ لابد أن تكون أمريكا الدنيا ثم بعد ذلك قل هذا، لكن حين تكون الأضعف ويكون الكل ضدك سيُسمى كلامك هذا هبلاً أو استهبالاً، سوف تخسر كل شيئ، وقد خسرت كل شيئ،  صلاح الدين لم يكن – الحمد لله – أهبل، صلاح الدين لم يكن عنده مُشكِلة، مئات المُعاهَدات عقدها، أليس كذلك؟ اقرأوا عن صلاح الدين، ونحن لأن ليس عندنا أي فكر نقدي لا نقدر أن نفهم العبرة، كم مرة حضرنا أفلاماً عن صلاح الدين وقرأنا كُتباً عنه وما إلى ذلك؟ لم نفهم يوماً كيف نستفيد من سياسة صلاح الدين في تحرير الأرض المُقدَّسة، صلاح الدين ليس عنده مُشكِلة، أنتم أخذتم الجانب الجنوبي هذا؟ خُذوه – قال لهم – لكن امضوا لنا على هذه المُعاهَدة التي تُفيد بأن هذا لنا وهذا لكم لخمس سنين وسوف ننظر فيما بعد، أليس كذلك؟ قوّى نفسه ووحَّد مصر والشام ثم ضرب ضربته، هيا اخرجوا! ثم عقد مُعاهَدة ثانية وتقوّى، وهكذا! مثل الذي فعله اليهود الخبثاء فينا بالضبط، أليس كذلك؟ يأخذون شيئاً ثم يُوقِّعون ويقولون هذا صار لنا، هيا! يأخذون شيئاً ثم يُوقِّعون وهكذا، إلى أن أخذوا كل شيئ بعد ذلك ونحن ضعنا، لكن نحن لسنا كذلك خاصة الإسلاميين، لأننا من الأيديولوجيين.

أمس زوجتي كانت تسألني عن هذا، في لقاء قال أحدهم أبو علاء أكثر براجماتية، فقالت لي ما معنى أنه أكثر براجماتية؟ وهذه مسألة طويلة جداً! هذا مذهب فلسفي – باختصار – له ناحية سياسية، في السياسة إما أن تكون مبدئياً أيديولوجياً وإما أن تكون براجماتياً عملياً، حين تكون أيديولوجياً يكون عنده المنطق هذا، كله أو لا، لا يُمكِن غير هذا، إما كله وإما لا، إذن ابق قاعداً، لا يهم! لكنك سوف تضيع طبعاً مع كله أو لا، سوف تجمد وسوف تُحاوِل المُستحيل، بالمُناسَبة هل تعرفون ما اسم هذا في منطق فلسفة السياسة؟ أسطرة الواقع، أسطرة من أسطورة Myth، هل تعرفون ما معنى أسطرة الواقع؟ تسمعون بكلمة الأسطورة في الفكر الغربي، هذا الكلام الآن نقدي، تسمعون بعضهم يقول التفكير الأسطوري أو الأسطورة أو دور الأسطورة في الأدب، في السياسة، في النقد، وفي كل شيئ، ببساطة هل تعرفون ما هي الأسطورة؟ الأسطورة أن تخلع عالمك المُتخيَّل – Virtual – ونظرياتك وأفكارك على الواقع وتتعامل مع الواقع على هذا الأساس، هذا سيكون واقعاً أسطورياً، ليس الواقع الحقيقي العياني المُشخَّص، أليس كذلك؟ اسمه الواقع الأسطوري، وأنت تتعامل مع واقع موهوم أنت أسطرته، أليس كذلك؟ تعتقد أن يُمكِنك التعامل معه، وهذا كله غلط! تضرب في عماء أنت، فالتعامل الحقيقي مع الواقع كما هو، وهنا مطلوب منا أكبر قدر من الحيدة والموضوعية، نعترف بالواقع مثلما هو، واعترافنا لا يعني أننا نُعطيه مشروعية، لا نُشرعِن الواقع، لا! لكننا سنعترف به لكي نقدر أن ندرسه وأن ننقده، أليس كذلك؟ كما هو في الأول، وبعد ذلك نأخذ موقفاً، لكن لا تُنزِّلوا عليه آراءكم وأُمنياتكم ومبادئكم ثم تقولون هذا هو الواقع، لا ليس هذا هو الواقع، هذا اسمه واقع أسطوري في السياسة، فنحن نُؤسطِّر الواقع سياسياً ونفشل في كل معاركنا، أليس كذلك؟ للأسف بعض الناس يتساءلون ما سر هزائمنا المُتتالية؟ لا يُوجَد نصر من خمسين سنة، لا يُوجَد أي نصر! كله فقط هزيمة إلا النصر الصوري في أكتوبر وقد تحوَّل إلى هزيمة أيضاً، معروف! هو نفسه تحوَّل إلى هزيمة مُباشَرةً بعد يومين، فهذا ما نُريد أن نقوله، نرجع إلى موضوع صلاح الدين، هو كان يعترف بهذا، كيف كان يعترف؟ يعترف اعترافاً مُؤقَّتاً، هذا الآن أمر واقع، أنتم في الجنوب، صحيح! ونحن الشمال لنا، وسنعقد هُدنة لخمس سنوات، فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۩، أليس كذلك؟ لا تُوجَد مُشكِلة، اعقد هُدنة، لا تقل لا فهذه أرض الإسلام وقد احتلوها، بيت المقدس من أرض الإسلام واحتله الصليبيون، لكن الواقع أنهم احتلوه وهم فيه، أليس كذلك؟ هل تقدر أن تُخرِجهم الآن؟ لو كنت قادراً افعل هذا، هيا تفضَّل، لا تتأخَّر ولو لساعة، ممنوع أن تتأخَّر شرعاً، لكن لو كنت غير قادر خُذ طريقاً ثانية، تفاوض وافعل شيئاً، لا تقعد! لا تقل لي سأقعد صامتاً، إذا صمت فالتاريخ لن يصمت، الواقع لن يصمت، وغيرك لن يصمت، أليس كذلك؟ إذا سكت فغيرك سوف يتحرَّك، سوف يبتلعك، وسوف يُغيِّر كل شيئ، سوف يُغيِّر معالم الجغرافيا والديموغرافيا وكل شيئ، فلابد أن تتحرَّك، لا تُوجَد حركة عسكرية لكن تُوجَد حركة سياسة، أليس كذلك؟ لكن المُهِم ألا تسبت، من السبوت، أي السكون، ومنها السبت، لا تسبت ولا تسكن، تحرَّك باستمرار!

(ملحوظة) ألمع أحد الحضور إلى ما يحصل في فلسطين وإلى ضرورة وجود بعض التقييدات، مُشيراً إلى ضرورة عدم تضييع أي حق لأن هذا هو الأصل، فما يحدث في فلسطين من مُفاوَضات وما حدث في عملية السلام لا ينطبق عليه الكلام المطروح الآن، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم طبعاً لا ينطبق، وأنا لم أقل الكلام هذا، أعوذ بالله، بالعكس! أوسلو هذه كارثة بالمُناسَبة، والآن حتى جُزء كبير من المُنظَّمة نفسها أدركت أنها كارثة، بدأت كارثة وانتهت كارثة بنا، إلى الآن للأسف! لم تكن شيئاً جيدا، وبالعكس! أنت قلت هناك التقييد، ولابد من التقييد، واليوم حديثنا عن الديمقراطية والأمة وحقوق الأمة، أول قيد هل تعرف ما هو؟ لا يُفاوِض أحد من خلف ظهر الأمة، ولا يفتئت أحد على الأمة، مَن يُريد أن يُفاوِض فليُفاوِض بتفويض من الأمة، الأمة بالانتخاب تقول نعم، الأغلبية تقول نحن نرى أننا مع هذا المشروع، أليس كذلك؟ مع هذا المشروع! وتكون حتى الصيغة نفسها واضحة جداً جداً جداً، ولا يكون هناك أي ملاحق سرية، ولا يكون هناك أشياء أنت نفسك وقَّعت عليها وأنت لا تفهمها، أليس كذلك؟ فما حصل كارثة، لا نُريد أن نتكلَّم ونفتح هذا، لا نُريد كما يقولون أن ننكأ الجرح، ما حصل كارثة وأسلم إلى كوارث للأسف الشديد، ونحن ندفع الثمن الآن، ندفع الثمن! لو بدأنا قبل أوسلوا بداية صحيحة – والله – لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، ولحصَّلنا أكثر بكثير مما تتحلَّب كما يُقال شفاهنا عليه الآن، بكثير! لكن هذا موضوع ثانٍ، فأنا أتحدَّث بشكل عام، لا أُريد أن أُشخِّص المسائل هذه.

نأتي الآن إلى فتوى أُخرى لابن تيمية رحمة الله تعالى عليه، وهي أروع من فتوى العز بن عبد السلام، فتوى عجيبة! ما شاء الله، المشهور أن فقهاء الأحناف – خاصة الإمام ابن عابدين رحمة الله عليه في الحاشية وهي مرجع الفقهاء المُتأخِّرين في المذهب الحنفي – هم الذين جوَّزوا أن يلي المُسلِم التقي العدل – أن يلي ماذا؟ – ولايات للظلمة، ومن أسوأها جباية المكوس، الضرائب! هذا كان أظلم شيئ يظلمون به الناس للأسف، كانوا يمتصون دماء الفقراء والمساكين، الأحناف جوَّزوا ذلك، إذا كنت مُسلِماً عدلاً ترى أنك بولايتك الضرائب والمكوس هذه على الناس ستُقلِّل – أنت لن تستطيع أن تمنع الظلم كله لكن ستُقلِّل – فلتفعل، ولو لم تفعل، ما الذي سيحدث؟ سيستمر الظلم ويزداد، الأحناف قالوا لا، الأفضل أن تأخذ الولاية هذه كمُسلِم عدل، وقلِّل الظلم ما استطعت، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ۩، هذا ليس قول الأحناف فقط، ابن تيمية بالمُناسَبة – ومَن عنده مجموع فتاوى ابن تيمية فليقرأه، أنا أنصح والله بهذا، حين قرأت هذا الكلام – يشهد الله – ترضيت على هذا الرجل كثيراً، مكثت فترة طويلة وأنا أترضى عليه، ربما هذه مرة نادرة قدرت أن أستشعر فيها كم هذا الرجل فعلاً إمام عبقري! رجل غير طبيعي، عجيب! عنده فتوى غريبة، غريبة جداً، سُبحان الله، وتنطبق اليوم على أحوالنا هذه خير انطباق، في المُجلَّد الثلاثين في مجموع الفتاوى، من أجمل ما يكون! وعنده فصل جامع في الحسنات والسيئات، أي في تعارض الحسنات والسيئات، وهذا أيضاً له علاقة بالموضوع هذا، اقرأوه! من أجمل ومن أبدع ما يكون، هذه الإمامة في العلم حقيقة، هذه الإمامة! ليس مُجرَّد فقيه أو مُفتٍ، هذه إمامة! ماذا قال؟ سُئل – رحمة الله تعالى عليه – عن رجل أقطعه أحد الحكّام الظلمة إقطاعاً، وهو يعمل في هذا الإقطاع بالسُنة المُتبَعة، لا بسُنة الله ورسوله، أي بسُنة الظلمة! أليس كذلك؟ خُذ كذا وكذا وكذا وهناك التزامات على الناس وأشياء، كله ظلم في ظلم طبعاً، معروف! مظالم مُركَّبة على الناس، فهو يعمل بالسُنة المُتبَعة، أي في ظلم الحكّام والمُتنفِّذين، لكن هذا الرجل المُسلِم – فحوى الاستفتاء – سيعمل جهده لتقليل الظلم ما استطاع ورفعه عن الناس، لكن يبقى شطرٌ منه مصاريف، لا يستطيع أن يرفعها، يُوجَد حد أدنى لابد ان يأخذه من الناس، لأن هذه مصاريف، هو لا يقدر ولا يستطيع أن يرفعها، وطبعاً لو كُشِف أمره سيذهب وسيأتي غيره ومن ثم سيرجع الظلم، فماذا يفعل؟ وهذا الرجل خائف ومُتحرِّج، هل أبقى هنا وأُخفِّف الظلم عن الناس قدر المُستطاع؟ فأتى إليه بفتوى طويلة، سأختار منها بعض الأشياء، رائعة جداً جداً، قال يجوز له ذلك مع حُسن النية، إذا كانت نيته فعلاً حسنة، ليست نيته فقط أن يأخذ ولاية وأن يتنفَّذ على الناس، لا! نيته أن يرفع الظلم عن الناس، يُنفِّس، ويُخفِّف قدر ما استطاع، قال يُقيم العدل ويدفع الظلم بقدر ما استطاع، قال هذا حسنٌ وجيدٌ، بل قد يكون واجباً، أحياناً لا يكون جائزاً فقط بل يصير من الواجب عليك أن تعمل الشيئ هذا، ادخل وخفِّف الظلم، قال بل قد يكون واجباً، ثم أفاض – رحمة الله تعالى عليه – الشيخ ابن تيمية بضرب الأمثلة، ومنها قال وبعض الذين ينهون عن مثل هذا الشيئ – الذي جوَّزه بل أوجبه هو، لماذا؟ حفاظاً على الحق القليل ألا يُعطى للظلمة – مُؤدى كلامهم أن يذهب القليل والكثير، فمنطقه هنا واقعي أو طوباوي؟ واقعي، منطقه واقعي! تقول لي لا يا أخي، أنا غير مُستعِد أن أُعطي فلساً واحداً ظلماً لظالم، ما شاء الله عليك، تقي جداً! والنتيجة أنهم لن يأخذوا فلساً وإنما مائة فلس، كل شيئ سوف يذهب، قال مثلهم كمثل قافلة سائرة فخرج عليها قطّاع الطريق – المسالح هؤلاء – وفوَّضوهم على مبلغ ما – أعطونا مثلاً عشرة آلاف درهم وسنترككم، وإلا سنأخذ القافلة بمَن فيها -، فإن خرج منهم مَن يرفض إعطاء هذا القليل – الرجل عندي مُستنَد شرعي، قال لا نُضحي بحقوقنا وإن كان قليلاً، هؤلاء ظلمة ولا نُعطي – فمآل قول هذا القائل أن يأخذ القليل والكثير، ثم قال ابن تيمية – رحمة الله عليه – وكما يُقال ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر – يُمكِن أن يُوجَد عقلاء كثر يعرفون الخير من الشر – ولكن العاقل الذي يعرف خير الخيرين ويُميِّز شر الشرين، عندك خير وخير، لابد أن ترى أين الأخير ثم تأخذه، واترك الخير الصغير، لا يهم! وعندك شران، فيُمكِن أن تتلبَّس – والعياذ بالله – بالشر الأصغر حتى لا تقع في الشر الأكبر، هذا العقل! ثم ينشد، قال هذا العقل، ثم فصَّل – كما قلت لكم – في فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات، هذه هي المُشكِلة! ولذلك هذا يُسمى فقه ماذا؟ المُوازَنات، وهو سماه هكذا، قال هذه المُوازَنات الدينية، أي أن هذه الكلمة من عنده أيضاً، وغيره أيضاً سماه هكذا، وحتى مُحي الدين بن عربي من قبل سماه المُوازَنات والتراجيح، ومع أبي حامد الغزّالي كان هذا اسمه، المُهِم هذا الفقه قديم ومعروف، سُبحان الله! وقل مَن يُحسِنه، لأنه يحتاج – كما قلنا – سعة دائرة وجرأة مع تقوى – إن شاء الله – وطلب للحق بإذن الله تعالى.

قال فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات، يُمكِن أن تتعارض حسنتان، أليس كذلك؟ بحيث أن كسب إحداهما يُضيِّع الأُخرى، يُوجَد تعارض بين حسنتين، مثل ماذا؟ مثل الجهاد والحج، هذه حسنة وهذه حسنة، حين تذهب لكي تحج لن تُجاهِد، وحين تذهب لكي تُجاهِد لن تحج، أليس كذلك؟ أحياناً مثل الجهاد في سبيل الله وبر الوالدين، لا يُوجَد – مثلاً – غيرك، قال له أحي والداك؟ لا يُوجَد غيرك! لا يُوجَد مَن يقوم بالشيئ هذا غيرك، سوف تُضيِّع واحدة منهما، إما الجهاد أو بر الوالدين، وهكذا! فنُريد أن نرى كيف يتم الترجيح بين الأشياء هذه، أليس كذلك؟ هذا له مراتب، أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة على ميقاتها وفي رواية مواقيتها، ثم أي؟ قال بر الوالدين، ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله، وطبعاً المقصود الجهاد الذي لم يتعيَّن، أي ليس جهاد فرض العين، إنما جهاد فرض الكفاية، لها مراتب هذه الأعمال في شرع الله تبارك وتعالى، وعندك تعارض سيئتين، بحيث أنك إذا ارتكبت سيئة فلن تقع السيئة الثانية، وهناك واحدة صغيرة وواحدة كبيرة، وقد يكونا مُتماثِلتين، ويُوجَد عندك تعارض بين حسنة وسيئة، ولا ينفك الأمر عن وقوع إحداهما، لو فعلت السيئة ستضيع الحسنة، لكن وقعت سيئة، لو فعلت الحسنة ستُوجَد السيئة، لابد أن تُوجَد! لا تنفك، لابد! فماذا تفعل؟ عندك أشياء كثيرة، مثلاً نُريد أن نرى ماذا تفعل بين سيئتين، إما أن تفعل هذه أو هذه، لا يُوجَد حل عندك، مثل أم كلثوم بنت عقبة بن مُعيط، هذه أسلمت في مكة كما تعلمون وهاجرت وحدها من غير محرم، أيجوز هذا في شرع الله؟ ممنوع! لا يحل لامرأة تُؤمِن بالله واليوم الآخر أن تُسافِر مسافة يوم وليلة وفي رواية ثلاثة أيام بلياليها من غير ذي محرم، ممنوع – قال – أن تفعل المُؤمِنة هذا، لكن هي الآن وقعت بين نارين كما يُقال، بين شرين، وبين سيئتين! سيئة الهجرة من غير محرم – يُمكِن أن تتعرَّض للأذية أو للفتنة أو لأي شيئ، يُمكِن أن يحدث هذا – وسيئة البقاء بين الكفّار والفتنة في الدين، فرجَّحت هي أن السيئة الثانية أعظم وأسوأ، يُمكِن أن أرتكب أدنى السيئتين لدفع وللهروب من الأسوأ، فعلت هذا! والله صحَّح هذا المسلك ولم يعتب عليها، وفيها نزلت آيات الامتحان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۩، الآية من سورة المُمتحنة! أليس كذلك؟ ولم يُعلِّق القرآن ويقل كيف تأتي هذه مُهاجِرة وليس معها أي محرم؟ أليس كذلك؟ يُمكِن! علماً بأننا لا نُريد أن نُطيل بضرب الأمثلة حتى في الأشياء التي بعض الناس يتساءل عنها وذكرنا اليوم كالحج والجهاد أو الحج وبر الوالدين، إلى آخره! هنا يُوجَد ترجيح باعتبارات كثيرة منها العينية والكفائية، إذا تعارض واجب عيني مع واجب كفائي، نُقدِّم مَن؟ العيني على الكفائي، لكن ماذا لو الاثنان كانا عينيين هذا عيني وهذا عيني، تفعل أيهما؟ الأعظم، الأعظم منفعةً ومصلحةً أفعله، وأُضيِّع الأقل، من عبقرية ابن تيمية أنه قال فمَن ضيَّع واجباً لواجب أعلى وأجل وأكثر مصلحةً لا يُقال إنه في هذه الحالة ترك واجباً، فهذا لم يعد في حقه واجباً وإن سُميَ واجباً مجازاً، يُسمى واجباً مجازاً! قال ومَن ارتكب أدنى السيئتين هروباً من أسوأئهما أو أكبرهما لا يُقال في هذه الحالة أنه ارتكب سيئةً، بالعكس! فعله هذا حسن، لأن أصلاً كان لابد أن يفعل هذا أو يفعل هذا، فماذا يفعل إذن؟ فعل الأدنى وهو مُضطَر، ليس مُخيَّراً، لو كان مُخيَّراً سيكون هذا ممنوعاً وهذا ممنوعاً، لكنه مُضطَر! هل فهمتم كيف؟ وهكذا! ماذا قال – العبارة التي جعلتني فعلاً أتأثَّر، شدتني وحرَّكت وأثارت عجبي – ابن تيمية؟ قال وهذا باب واسع – الباب هذا المُتعلِّق بالترجيح وما إلى ذلك، هذا فقه واسع جداً جداً، لا ينتهي الكلام فيه – يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وكلما نقص ميراث رسول الله من سُنته وهديه كلما زادت حاجة الناس إلى هذا الباب، صح والله! كلما ابتعدنا عن الدين وعن صفو الدين وعن الشِرب – أي المنبع – الأصيل كلما زادت حاجة الناس إلى فقه والمُوازَنات، يصير عندنا هذا بكثرة كلما ابتعدنا، وكلما اقتربنا من السُنة كلما نقصت حاجتنا إلى هذا الباب، فسُبحان الله! تذكَّرت عصرنا، نحن بعيدون كثيراً نسبياً عن هدي رسول الله وعن صفو الدين وعن شِرب هذا الدين، فسُبحان الله! وماذا قال ابن تيمية؟ قال ويقع بسبب ذلك للأمة فتنة، ستحدث فتنة وبالذات فتنة اجتهادية، أُناس يُحلِّلون وأناس يُحرِّمون، أُناس يُجوِّزون وأُناس يمنعون، تحدث فتنة حتى علمية بين الناس بسبب هذا الشيئ، فقه المُوازَنات!

إذن هذه المسألة يا أخي الكريم في نظري – والله تبارك وتعالى أعلم – وفي نظر كثير من العلماء تخضع في نهاية المطاف إلى مسألة مُوازَنات، فإن رأينا أن مصلحة المُجتمَع المُسلِم ومصلحة المُسلِمين ومصلحة الدين ومصلحة التمكين للدين – إن شاء الله – ولو على المدى البعيد في هذا السلوك سلكناه بإذن الله – تبارك وتعالى – مع قيود، كما قال الأخ الفاضل هناك قيود كثيرة جداً، لن نذكرها لأنها بديهيات طبعاً، مثل ألا يُصوِّت المُسلِم على شيئ ضد الشريعة، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكِر، يُنكِر ولو على الحكّام، يقول ولا يخش شيئاً، لا يكن طرطوراً وصورة، كل هذا طبعاً واجب ومعروف، لن نُطيل فيه.

الخروج وعدم الخروج، لو أن الناس اعتزلوهم، الأخ إبراهيم يقول كلامنا اليوم يرى أنه يتناقض مع الخُطبة التي ألقيناها قبل فترة عن موضوع العصيان المدني، العصيان السلمي! أنا لا أرى أنه يتناقض بالمرة، بالعكس! أكَّدت عدة مرات عليه، فموضوع الرقابة على الحكّام واجب، موضوع قول كلمة الحق – وذكرنا هذا في خُطبة بشكل واضح – تحدَّثنا عنه، النبي قال لو أن الناس اعتزلوهم، واعتزلوهم لا تعني تركوهم، بالعكس! وأنا فسَّرت هذا يومها وفي الدرس الذي بعدها تقريباً، معنى اعتزلوهم ضيَّقوا عليهم النطاق لتجريمهم وتطويقهم، لكن هل كلمة لو أن الناس اعتزلوهم تعني ألا أنطق بكلمة الحق، ألا أُجرِّم الباطل، ألا أنهى عن المُنكَر، وألا أقول للظالم أنت ظالم؟ بالعكس! هذا واجبي، واجب الذكور وواجب الإناث، واجب العلماء وواجب العامة، واجب الجميع! ينبغي أن يضطلع الجميع بهذا العبء، ولكن النبي حين قال لو أن الناس اعتزلوهم – كما قلنا – فعلاً قصد هذا، أي إذا هذا أمكن! والنبي – انظروا إلى هذا – قال لو أن الناس اعتزلوهم، انظروا كم في العبارة من دقة! لأنه يعلم أن هذا أحياناً يكون بحسب الظروف غير مُمكِن، الآن ماذا – مثلاً – لو أخذنا القول هذا بالاعتبار – لو أن الناس اعتزلوهم – ودعونا دعوة عامة قائلين يا ناس هذه حكومة علمانية، غادروا جيشها وشرطتها وأجهزة أمنها وبرلمانها وبنوكها ومدارسها وجامعاتها – كما فعلت جماعات في مصر وغيرها، أليس كذلك – واقعياً هل ستجد هذه الدعوة استجابة؟ كلام فارغ! هذه كما يُقال نفخة في رماد أو صيحة في واد، لن تجد أي استجابة، والذي سيحدث – تماماً كما حدث مع إخواننا في مصر – ما هو؟ أنت في النهاية مَن سيُغادِر كل شيئ، الناس لن تُغادِر، أنت ستُغادِر! ستُغادِر المُجتمَع، وكما حدث في مصر سوف تعيش في شعب الجبال والبعض سوف يعيش في الصحراء لكي يبني مُجتمَعه المُسلِم، وهذه كانت تجربة فاشلة طبعاً والآن راجعوا أنفسهم، هذا كله كلام طوباوي خيالي، آليات المُجتمَع أعقد من ذلك بكثير.

لذلك النبي أعطانا مُقترَحاً وقال لو أن الناس اعتزلوهم، أي إذا أمكن اعتزالهم، وبالمُناسَبة لو أردنا أن المسألة دراسة سوسيولوجية وثقافية وتاريخية سنتساءل متى يُمكِن ذلك لكي يكون ناجعاً جداً؟ في البداية، في بداية الظلم، مع أي حاكم مُتغلِّب جاء على الأمة بالقوة، يُوجَد حاكم بحق مثلاً، حاكم ببيعة! ثم جاء رجل وقام بانقلاب، ظالم! بسبع دبابات أو بسبعين دبابة أخذ الحُكم، الآن الناس الذين بايعوه هذا الإمام الصالح الأول أو الإمام العادل عليهم مُباشَرةً أن يتخذوا وسيلة العصيان المدني في كل المجالات والصور، لا جيش، لا شرطة، ولا أي شيئ! مُقاطَعة كاملة، تسقط هذه الحكومة الجائرة من أول ليلة، أليس كذلك؟ ينتهي كل شيئ، هنا يأتي اقتراح الرسول مُفيداً جداً جداً، لكن حين تتمكَّن هذه الحكومة المُتغلِّبة – يُسمونها حكومة الغلب – وتستشري وتضرب بجذورها – عندها جيش، عندها سُلطة، وعندها علماء، هذه حكومة رسمية تقريباً أو شبه رسمية – لن تنفع الدعوة إلى الانسحاب من كل أجهزتها، صعب! لن تجد آذاناً صاغية، يا ليت! لو يعرف أكثر رجال العلم والفكر أن من المُمكِن أن تستجيب الناس لفعلوا ذلك، لكن هذه دعوات خيالية، في هذه المرحلة المُتقدِّمة من عمر الدولة المُتغوِّلة هذه والمُتغلِّبة، ومن هنا حتى الفقه الإسلامي كما نقول لم يكن فقهاً تبريراً، أحياناً كان فقهياً واقعياً، وذلك حين تعامل مع الحكومة المُتغلِّبة، وسجل ذلك الماوردي وأبو يعلى والجويني، أكثر حكومات المُسلِمين كانت حكومات غلب، أليس كذلك؟ لم تكن حكومات عادية، والبيعة كانت صورية كما قال الماوردي، يعرفون أنها كانت بيعة شكلية، كذب وكلام فارغ! الحقيقة أن هذا الحاكم جاء بالسيف، جاء على ظهر فرس، والآن على ظهر دبابة، هم يعرفون هذا، لكن هي ضرب بجذورها واستمر الوضع، فماذا تفعل الآن؟ فكانوا يقولون ما أقاموا العدل وأقاموا الصلاة ونافحوا ضد العدو وحفظوا البيضة والحوزة وما إلى ذلك سنكون معهم، لكن لو استشرى ظلمهم بحيث عم وطم وغلب لن يحدث هذا، والفقهاء كلهم كان عندهم موقف مُخالِف بحمد الله تبارك وتعالى، يطول الحديث بذكر هذا الموقف.

أخيراً أخونا عمر يقول هذه المفاهيم التي طرحتها اليوم وفي الحلقتين السابقتين نادرة في الفكر السياسي الإسلامي الآن وليس لها ربما جمهور عريض، والتخوف من أن تبقى هذه الأفكار في النهاية مُستوحشة وقليلة، أنا أُريد أن أُطمئنه بموضوعية وليس لأنني أُريد أن أجيب، أقول لك بكل موضوعية – بحمد الله تبارك وتعالى – هذه الأفكار ليست من عندياتي بكل تواضع، تسعون في المائة على الأقل من هذه الأفكار ليست من عندياتي، أنا فيها مُجرَّد ناقل، قرأت فيها كتابات إسلاميين ومُحدَثين كثيرين بحمد الله تبارك وتعالى، ربما ما عندي يُمثِّل عشرة في المائة أو خمسة في المائة أو أقل حتى، فهذه موجودة، في الكُتب موجودة وهي لكثيرين جداً جداً، ودعنا نأخذ هذا بشكل واضح الآن، هناك جماعات إسلامية كثيرة، وعندي كتاب لرجال ألماني درس فيه تسعين جماعة إسلامية في مصر فقط، جماعات ربما بعضها يتكوَّن من بضعة آلاف في دولة فيها سبعون مليوناً وهي مصر، هؤلاء ليس عندهم كلام لكنهم صاروا جماعة، كلام فارغ هذا! وعندك جماعات ضاربة بجذورها وهي جماعات أُفقياً مُنتشِرة بشكل غير عادي، ورأسياً – أي زمانياً – عمرها يصل إلى خمسين أو ستين أو سبعين سنة، موجوة! أعظم الجماعات في رُقعة العالم الإسلامي قاطبةً هي الجماعة الإسلامية بالديار الهندية والباكستان، هذه فيها المودودي ويتبعها عشرات الملايين، معروفة! وجماعة الإخوان المُسلِمين في العالم العربي، وعندنا أيضاً حزب التحرير، طبعاً هو أقل انتشاراً بكثير لكنه موجود، وهو حزب له ظهوره وكتاباته وأدبياته، بلا شك مُعتبَر بتأثيره الفكري، لو أخذنا مسائل مُنتخَبة لوجدنا – سُبحان الله – بحسب ما أعتقد أن أكثر المسائل حراجة مسألة التعدد الحزبي، هل يجوز تعدد الأحزاب الإسلامية من حيث الأصل؟ طبعاً هناك تفريعات وتقييدات كثيرة، حزب التحرير جوَّز ذلك، جماعة الإخوان جوَّزت ذلك بعد أن كانت تُحرِّمه، الشيخ البنا نفسه – رحمة الله عليه – في الرسائل حرَّم تعدد الأحزاب، قال حزب واحد فقط، الآن جماعة الإخوان صار لها عقود وهي تقول نعم لتعدد الأحزاب ونحن نُنادي به، وتكتب في ذلك وتُنظِّر، الجماعة الإسلامية في الباكستان – نفس الشيئ – كانت تمنع والآن هي من السبعينيات تدعو إلى ذلك، أي إلى تعدد الأحزاب، وهاتان لهما أتباع بمئات الملايين، أعظم الجماعات في العالم الإسلامي، تخيَّلوا! كلهم على نفس الخط هذا بحمد الله تبارك وتعالى، وما عندهم من أفكار في مُختلَف هذه الشؤون السياسية قريب من قريب من قريب مما ذُكِر اليوم وفي الحلقات الماضية، اقرأ وسوف ترى هذا، شيئ غير عادي! وما احتججت به أو تخوَّفت منه قرأت مثله لكثير من العلمانيين، محمد نور فرحات – هذا علماني مصر كبير وعنده فكر قانوني مُمتاز، صاحب كتاب البحث عن العدل – قال نفس الشيئ، وأنا أعجبني هذا الإنصاف من هذا الرجل، وبالأحرى هذا نصف إنصاف، ماذا قال؟ تحدَّث طبعاً عن سُلطة الفكر الديني وكيف هو فكر تغيبي وظلامي واستبدادي ويُشرعِن للاستبداد وما إلى ذلك – هذا كلام نظري – ثم استثنى بعد ذلك وقال فعلاً يُوجَد قطاع مُستنير في الفكر الإسلامي، وأشاد به إشادة مُمتازة، قال هذا القطاع فعلاً جيد، ولو أن هذا الفكر وُجِد سأكون معه، مثلما قلت اليوم! سأُويِّده وليس عندي أي تخوف منه، وليصل إلى السُلطة وإلى كذا وكذا، أنا أقول له – سُبحان الله – مثلما قلت لك، هذا القطاع ليس قطاعاً مُستوحِشاً وليس قطاعاً صغيراً.

الذي حدث ويحدث للأسف الشديد أن الآلة الإعلامية الغربية والمحلية للأسف حريصة جداً على تضخيم الجانب المُقابِل والإيحاء للناس بأن هذا هو الإسلام، وقطاعات الإسلاميين تتبادل الكلام هذا، لا للذميين، لا للمرأة، لا لكذا، ولا لكذا! أشياء مُخيفة طبعاً، تُخيف الناس وتُخيفني شخصياً، أنا أقول لك والله العظيم اليوم تقريباً شككت في إيماني، قلت هل أنا مُؤمِن أو مُنافِق؟ ربما تكون مُنافِقاً يا ولد، كنت أقول هذا لنفسي، هل تعرف لماذا؟ أن حين أرى أحياناً الإخوة هؤلاء الذين يأخذون بمظاهر ورسوم الدين شخصياً أنفر منهم ونفسياً، أُعامِلهم بالإخوة لكنني قلبياً أنفر منهم، أي لا أُحِب أن أراهم بصراحة، ولا أُحِب أن أقف معهم، هناك مَن يقف في الصلاة بطريقة مُعيَّنة وما إلى ذلك، من شكله تتوجَّس – سُبحان الله – داخلياً، قلت ربما أكون مُنافِقاً، هذا الرجل ما الذي فعله أكثر من أنه حاول أن يأخذ بحروف سُنة رسول الله؟ لماذا أتوجَّس منه؟ أنا لا أتوجَّس منه بسبب السُنة، بالعكس! أتوجَّس من طريقته، وبدأت – سُبحان الله – في معركة ضمائرية مع نفسي، هل أنا مُؤمِن أو مُنافِق؟ لماذا أنا هكذا؟ لماذا الموقف هذا؟ وهذا كان اليوم في المسجد هنا! بعد ذلك قلت لا، أنا – إن شاء الله – لست مُنافِقاً بإذن الله، أرجو! لماذا؟ لأن النبي هو الذي قال لا تُمِلوا إلى أنفسكم عبادة الله، الإنسان نفسه يُمكِن أحياناً أن يُمِل لنفسه عبادة الله، ولا يكون مُنافِقاً! إذن متى هذا؟ إذا بدأ يُبالِغ في هذه العبادة في غير أوانها وبغير قدرها، أي بشكل زائد عن اللزوم، ومن ثم سوف يكرها، ليس لأنه من الأصل مُنافِق يكره العبادة، لكن وضع الشيئ في غير موضعه وبغير قدره يُكرِّهك في الشيئ، أليس كذلك؟ تقول لي أنا أُريد أن أضع أصابع رجلي على القبلة وهذه السُنة وعندنا حديث ابن عمر في الصحيح، هذه السُنة على العين والرأس يا أخي، لكن لا يُمكِن أن تجعلها كل الدين ثم تبدأ تُصلي وتنظر لي أثناء الصلاة وتقول هذا يدّعي أنه شيخ وهو غير فاهم أو هذا خطيب وهو لا يفهم، أنا لا أرتاح وأتعب، حين أفعل هذا أتعب جداً جداً، لم أتعوَّد! لم أتعوَّد من صغري، ما هذه المسألة الظاهرية البسيطة؟ هو يُقوِّمك كلك على بعضك بصراحة من خلال هذه المسائل، فهو جعلني أكره بصراحة هذه المسائل، ليس لأنني أكره السُنة، أعوذ بالله! ولا أكره الدعوة إلى السُنة، لكنني أكره هذا الأسلوب في الدعوة إلى السُنة، أليس كذلك؟ فأنا كرهت الأسلوب وكرهت صاحب الأسلوب، لكنني لم أكره سُنة الرسول، أعوذ بالله! وإلا أكون مُنافِقاً فعلاً، وكذلك الحال حين يقيسني باللحية، وهذا حدث معي شخصياً – مع العبد الفقير – والله العظيم، دُعيت إلى مُناقَشة ثم قالوا لا، نرفض أن نُناقِشه، لماذا؟ قالوا لحيته ليست على السُنة، أي Modern cut، ليست بالطول اللازم، غير مُمكِن يا أخي، يا أُخي لا أُريد اللحية كلها وناقشني، أنا حليق وناقشني، أنا شيوعي وناقشني، أنا ماركسي وناقشني، ما المُشكِلة؟ يقولون لا، هو مُبتدِع ويُقاطَع! ما هذا الأسلوب المُتعجرِف؟ أنا إسلامي وغير قادر أن أستوعب الصيغة هذه، فكيف سيستوعبها الماركسي غداً والعلماني والإسلامي المُنحَل أو المُسلِم المُنحَل؟ لن يستوعبوها، وسوف يرفضون هذا الحكم الإسلامي، ولو حكم في النهاية عبر صندوق الاقتراعات سوف تخسرون، سوف تخسرون فعلاً وسوف تُسحَقون سحقاً، أليس كذلك؟ وإذا أردتم أن تُعيدوها جذعة مثل القوميين والاشتراكيين وغيرهم من أصحاب هذه الأشياء الفارغة – وربما يكون هذا بوضع السلاح على الناس أيضاً وبذبح الناس – فلتفعلوا هذا وسوف تخسرون أيضاً، أليس كذلك؟ ليس هذا الأسلوب الصحيح، ما هكذا تُقاد الحياة، والدين أوسع من هذا بكثير.

(ملحوظة) أشار أحد الحضور إلى وجود فرق، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا يُوجَد فرق، بل هذا أسوأ، لأن هذا باسم الدين، أنا أقول لك الاستبداد باسم الدين أسوأ من الاستبداد بغير الدين، لأن هذا تشويه للإسلام، تشويه لعظمة الدين، وتعويق وتوعير لطريق المُخلِصين، طريق التمكين لهذا الدين، هم وعَّروه علينا، أليس كذلك؟ سوف تقول الناس لا نُريد الدين هذا بالله عليكم، دعوا عنا هذا الدين كله! اليوم أعتقد لو استُفتيَ أهل الجزائر سوف يقولون بالله عليكم أعطونا نفساً لخمس سنوات، لا نُريد الإسلام ولا غير الإسلام، أعطونا الأمن فقط، أهل العراق اليوم يقولون أرجعوا إلينا صدّام حُسين، نُريد أن يرجع صدّام حُسين لأنه أرحم، وهو فعلاً أرحم من الأمريكان، اليوم تحدث تفجيرات بالسيارات والناس تموت وما إلى ذلك، صدّام وهو ظالم لم يكن يفعل هذا، أليس كذلك؟ كان يذبح مَن يعترض عليه ومَن يشتم منه رائحة اعتراض، لكن الذبح لم يكن موجوداً هكذا بالجُملة والتفصيل، الناس كلها تُقتَل، الشُرطة تُقتَل والكل يُقتَل يا أخي، ومن هنا قال العلماء من قديم ماذا؟ قالوا ستون سنة من إمام ظالم خيرٌ من ليلة واحدة بلا إمام، لأنهم يعرفون ما معنى ألا يُوجَد حُكم، لا تُوجَد سُلطة مركزية تضبط الأمور وتضبط الأمن، الناس ستتهارش تهارش الوحوش، سيصير الوضع مُخيفاً كالغابة، ستصير هناك مُخيفة غابة جداً جداً، لا تُوجَد ضمانات ولا يُوجَد أمن، كل واحد يُمكِن أن يُقتَل، أضخم رأس وأقل رأس يُمكِن أن يُقتَل، كل واحد يُمكِن أن يُقتَل! الزعيم 2:31:44@@ قُتِل، الكل يُمكِن أن يُقتَل، لا تُوجَد ضمانة لأي واحد، أليس كذلك؟ الإمام عليّ قُتِل أيضاً، قتله هؤلاء الناس المُستوحِشون فكرياً، قتلوه! لا تُوجَد أي ضمانة، الوضع مُخيف.

فهذا ما نُريد أن نقوله، أُطمئنك بفضل الله، الوضع على غير ما تتصوَّر بحمد الله، وأنت قم بعمل استفتاء وسوف ترى هذا، قُم بعمل استفتاء للتيار الإسلامي وصنِّفه، قل ينتمي لأي فكر ولأي جماعات، هذا هو الفكر السائد الآن بحمد الله تبارك وتعالى، وهو يكتسح! انظر الآن إلى مصر مثلاً، مصر فيها سبعون مليوناً، الشيخ الغزّالي مرة – رحمة الله عليه – أخذ تقريباً الرقم الثاني أو الثالث حتى أكون صادقاً – الثاني أو الثالث – في المقروئية في مصر، أكثر كاتب مقروء في مصر كان الشيخ محمد الغزّالي كإسلامي، سبقه أُناس آخرون غير إسلاميين بأشياء أدبية وروايات وما إلى ذلك، لكن من ناحية إسلامية أكثر كاتب مقروء الشيخ الغزّالي، الشيخ الغزّالي رجل مُعتدِل حتى التطرف إن جاز هذا التعبير وربما لأول مرة أقوله، هو مُعتدِل بتطرف، أي مُعتدِل جداً الرجل، مُتسامِح جداً جداً في المُصطلَحات وفي الأفكار، وأنا مع اتجاهه وأُحِب هذا الاتجاه حقيقةً، وطبعاً هو غير معصوم، الرجل يُؤخَذ منه ويُرَد عليه أشياء – رحمة الله عليه – لكن اتجاهه العام صحيح، وهذا الاتجاه – انظر إلى هذا، فهو بالاستفتاء – أثبت هذا، بالاستفتاء حول عدد الكُتب، كُتب الرجل تُباع – ما شاء لله – بمئات الآلاف، رحمة الله عليه، وفي كل العالم العربي! كُتبه كانت تُطبَع في سوريا، دار القلم كانت يُمنَع فيها طبع كتابات الإسلاميين الكبار، وهذا كان أيام الأسد! لكن كانت تُطبَع كُتب الشيخ الغزّالي، ويُسميه الدكتور البوطي – لعل إن شاء الله الدكتور البوطي يأتي إلينا إن شاء الله في اليوم الثامن والعشرين – شيخ الدُعاة في القرن العشرين، العلّامة الشامي الكبير يُسميه شيخ الدُعاة في القرن العشرين، أي الشيخ الغزّالي! لماذا إذن؟ الشيخ الغزّالي لم يكن يوماً يتبع هذا أو ذاك أبداً، الشيخ الغزّالي رجل مُتنوِّر، رجل مُعتدِل، رجل مُنفسِح التفكير بشكل غير طبيعي، رحمة الله عليه رحمة واسعة وأنزله فسيح جناته، ومن هنا كان بالتصويت عليه أكثر الكتّاب الإسلاميين مقروئيةً، هذا يعني أن الناس لو تُرِكَت وشأنها لاختارت الاعتدال أو التطرف؟ الاعتدال، والفكر الإسلامي – الحمد لله – وحده أيضاً اختار الاعتدال، طبيعي! والإسلام عبر مساره هو دين مُعتدِل، مثلما قال ابن تيمية الإسلام بين الأديان وسط بين الأطراف، عندك اليهودية وعند النصرانية، الإسلام – قال – في الوسط، في كل القضايا خُذ قضية المسيح، اليهود قالوا هذا ابن زنا، أستغفر الله العظيم، لعنة الله عليهم، المسيحيون قالوا هو الله وابن الله، الإسلام قال لا، عبد الله ورسوله، وهو إنسان من أُولي العزم الخمسة، أي وسط، تخيَّل! فالإسلام دين مُتوسِّط بين الأديان، والفكر الإسلامي الآن فكر مُتوسِّط بين الأفكار بحمد الله تبارك وتعالى، فكر جيد فعلاً ووسطي، سُبحان الله! ليس فكراً علمانياً إلحادياً وليس فكراً إسلامياً مُتشدِّداً ومُنطوياً فعلاً وظلامياً، بالعكس! هو فكر إسلامي مُتنوِّر، يأخذ ما في العصر وما إلى ذلك وأحسن ما في التراث، وهو يحتكم إلى النصوص حقيقة وليس حتى إلى آراء الرجال والمُجتهِدين، فهو تحرَّر حتى من المذهبية، صار عنده نظرة أوسع من المذهبية الفقهية أيضاً والمذهبية العقدية الآن بفضل الله تبارك وتعالى، يُوجَد تحرر.

انظر إلى واحد مثل الشيخ شلتوت، الشيخ شلتوت من مدرسة المُعتدِلين، من المدرسة التي يُسميها المُتشدِّدون الآخرون المدرسة العقلية، قالوا هؤلاء يُحكِّمون العقل في الدين، لا! “اخس عليها”، نحن لا نُريدها، شلتوت كان منها، منها محمد عبده، الشيخ المدني، رشيد رضا، شلتوت، القرضاوي، الغزّالي، وكل هذه الكوكبة المُنيرة من رجال الفكر الإسلامي الذين أعز الله بهم هذا الفكر، شلتوت كان مُتسامِحاً جداً، كان مُنفتِحاً بشكل غير عادي الرجل، كان مع جماعة التقريب وكان يكتب مُدوَّنات محاضر التقريب مع الإخوة الشيعة الاثني عشرية، واعترف بفقههم واعترف بعلمهم، قال لا تُوجَد مشكِلة، وطبع حتى كُتبهم في التفسير وفي الفقه، كتبها في الأزهر وصارت تُدرَّس في الأزهر، وتعرَّف على الفكر الإباضي وتعرَّف على الفكر الزيدي، قال هذه خلافات عائلية، انظر إلى التعبير الجميل هذا! قال هذه خلافات عائلية، نحن عائلة واحدة – نحن كمُسلِمين عائلة واحدة، زيدي، إباضي، إمامي، سُني، وإلى آخره – وهذه كلها خلافات عائلية بين أولاد العم إن شاء الله، ليس أكثر من هذا، هذه ليست أديان، مَن يقول هذه أديان أو هذا دين آخر وهؤلاء ليس لهم كذا وكذا هو مُتطرِّف، فعلاً هذا فكر مُتطرِّف!

هذا ما أُريد أن أقوله، لكن ماكينة الإعلام تُفهِمنا العكس، بالمُناسَبة حين زرت لندن قبل ربما شهر لاحظت ظاهرة غريبة، الأخ الذي جاء وأوصلني هو أخ ينتمي إلى جماعة إسلامية مُعتدَلة، ينتمي إلى حزب النهضة الذي فيه الشيخ الغنوشي، هذه جماعة مُعتدِلة ومن يومها لا تُؤمِن بالعنف، بالعكس! الشيخ الغنوشي من قديم سألوه، قالوا له ماذا لو دخل حزبان – حزبكم الإسلامي هذا وحزب ماركسي – إلى الصناديق بنزاهة وفاز الحزب المُضاد لكم؟ قال لا تُوجَد مُشكِلة، هذا يعني أننا فشلنا في إيصال فكرتنا وما إلى ذلك، علينا أن نبدأ من جديد وأنا مع النتيجة، الشعب يُريد هذا، لن آتي بالحديد والنار لكي أقول لهم لا، سوف أحكمكم بالإسلام رُغماً عنكم، هم لا يُريدون، غير مُقتنِعين، أنت فاشل! أنت فشلت، وقطعاً ما دمت فشلت حتى في مرحلة الدعوة ستفشل بالحري في مرحلة الدولة ولن تقدر أن تفعل أي شيئ، وغداً أيضاً سوف تخرج وسوف تُسبِّب المشاكل، لا! اعترف وكُن مُتواضِعاً، اعترف بما حصل، نفس كلمة الغنوشي هذه قالها الدكتور القرضاوي، فهمي هويدي قال أنا كنت معه في جلسة شخصية – كتبها فهمي هويدي في الإسلام والديمقراطية – وسألته، قلت له يا مولانا – فقيه كبير الشيخ قرضاوي حفظه الله – ويا دكتور ماذا لو حصل كذا وكذا – نفس المسألة – وفاز غير الإسلاميين؟ قال معنى ذلك أننا لم نستوف ضرورات وواجبات مرحلة الدعوة، وعلينا أن نعود من جديد، نفس الفهم! سُبحان الله، هذه نفس العقلية، أمس قلت لأحد الإخوة بالمُناسَبة لا تجد مُفكِّراً إسلامياً – شيخاً كبيراً وعالماً – نشأ في الإسلام مُنذ نعومة أظفاره – له في العلم كم سنة مثلاً؟ في العلم من ثلاثين أو أربعين سنة – مُتطرِّفاً، صعب جداً، نادر! موجود لكنه نادر جداً، لكن ماذا تجد؟ شاباً من ثلاثين سنة مع الكأس وقلة الأدب، نعم عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۩ والإسلام يجب ما ما قبله – هذا جيد والإسلام يجب ما قبله – لكن لا تجعل نفسك بصراحة في سنتين إمام الإسلام بالله عليك، رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أنت من ثلاثين سنة في الكلام الفارغ، فهل صرت في سنتين إمام المُسلِمين يا رجل؟ وتُريد أن تُكفِّرنا وتُكفِّر غيرنا، تُكفِّر القرضاوي، تُكفِّر الألباني، وتُكفِّر ابن باز، غير مُمكِن الكلام هذا! الزم حدك يا رجل، هل أصبحت هكذا في سنتين؟ والله نحو اللُغة العربية أنت لا تعرفه أيضاً، أليس كذلك؟ النحو لا تعرفه، لو سألنك في مسألة نحوية لن تُجيب، أنت لا تستطيع أن تُعرِب آية، اسكت واحترم نفسك، فلا تأت لكي تصير إماماً، هذا الذي يأتي منه التطرف، من الذي له سنتان في الإسلام، أليس كذلك؟ يأخذ هذا بحماس وهو عمره خمسون سنة، مُشكِلة! في الثمانين – إن شاء الله – سوف ينتهي الاعتدال، سوف تخرب عمورية أو تُحرَق عمورية! لذلك نحن بصراحة نقول هذا، علماً بأن هذا الملحظ ليس من عندي، اقرأوا كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، يذكر جُملة آثار عن الصحابة وخاصة عن عبد الله بن مسعود جميلة جداً، هم كانوا يفهمون هذه الناحية الاجتماعية والدور حتى التاريخي الاجتماعي للثقافة والفكر، ماذا كان يقول ابن مسعود؟ كان يقول أمة محمد لا تزال بخير ما أخذت العلم عن كبرائها، فإن أخذته عن أحداث الأسنان – بعمنى الكلام – هلكت، كانوا يفهمون هذا، العلم يُؤخَذ عن الكبراء، ليس لاعتبار السن في ذاته، وإنما لاعتبار العلم في ذاته، العلم يحتاج إلى سُنة، الشافعي كان يقول:

أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلاَّ بِسِتَّةٍ                       سَأُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ.

ذَكَاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ                    وَصُحْبَةِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ.

العلم لا يأتي في يوم أو يومين، أليس كذلك؟ لا يُمكِن أن تدرس كتابين في الفقه ثم تقول إنك صرت فقيهاً يا حبيبي، هل بكتابين صرت فقيهاً؟ لا! العلم يحتاج إلى سنوات، يحتاج إلى عقود، تظل لعشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة في العلم، وليل نهار! تقرأ ليل نهار، الأمر لا يقتصر على الشهادة كأن تحمل شهادة دكتوراة أو ماجستير بعد أن تدرس خمس أو ست سنوات، لا! لا ينفعني الكلام هذا، لابد من العلم، لابد أن تكون طالب علم بشكل حقيقي، تقرأ ليل نهار، يذهب بصرك وقوتك ومُنتك في طلب العلم، بعد ذلك حين تأتي لكي تُعطيني فتوى سوف آخذها لأنها من ثقة، أعرف أنني أجلس مع إنسان عارف ما شاء الله، ما أعرفه هو يعرفه وما يعرفه أنا لا أعرفه، أليس كذلك؟ وقرأ هذا وهذا وهذا وهذا وقارن بينهم، لم يترك شيئاً، لكن لا يدرس إنسان لثلاث سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات أو عشر سنوات ثم يأتي وهو يحمل شهادة أو حتى لا يحمل شهادة لكي يفرض نفسه على الناس، هذه مُشكِلة! ولذلك الحمد لله – كما قلت لك – إذا تُرِك الأمر حتى للناس فالناس تعرف إلى مَن تنحاز وأن هذا الفقيه حقيق بأن يُتبَع، لهجته حتى العلمية ونفسه العلمي مُقنِع، أليس كذلك؟ والناس لا تعرف الأدلة، الناس ليس عندها أصول ولا عندها غير أصول، لكنهم يسمعون ويشعرون بأن فعلاً هذا الرجل أكثر إقناعيةً، خطابه راكز، كلامه له معنى، يشعرون بهذا، بالــ Common sense! وهذا الذي عنده لحية تنتفض وهو يُصرِّخ – يُريد أن يضرب بالبوكسات Boxes في التلفزيون Television كما ترون – ليس كذلك، يصرخ قائلاً يا رجل وهو يهز قبضته، لماذا يهز قبضته؟ والله العظيم يهز قبضته في التلفزيون Television، عيب عليكم يا مشايخ، قال يا رجل اتركني أُكمِل حُجتي، ما هذا يا أخي؟ المُهِم – لم أُكمِل لكم القصة – هذا حال صاحب هذه القبضة ومَن مثله في بريطانيا للأسف، فالأخ الذي أوصلني من جماعة الشيخ الغنوشي، هؤلاء أُناس هادئون وواعيون، الشيخ الغنوشي رسالته للدكتوراة ما هي؟ لم يُناقِشها ولكنه نشرها لأن هذا ممنوع، الحريات السياسية في الدولة الإسلامية، من أروع ما يكون! أنا أنصح بقرائتها، ومَن نشرها مركز قومي، هو عنده علاقة جيدة بالمركز هذا، وهو مركز دراسات الوحدة العربية، أليس كذلك؟ هم الذين نشروها، وهم ينشرون له دائماً، والرجل عضو دائم معهم، فقلت له أنت كيف حالك؟ كيف أحوالك؟ قال لي من أربع سنين وأنا هنا، فقلت له أكيد عندك الجنسية، فقال لا، ليس عندي إقامة إلى الآن، فقلت له ماذا؟ أربع سنوات وليس عندك إقامة في بريطانيا التي يُقال إنها أم الحريات وفيها القضاء الذي هو حصن الحريات! فقال لي أنا سأُحدِّثك بشيئ غريب، قلت له ما هو؟ قال كلنا – أبناء النهضة وهي أكثر حركة مُعتدِلة، سُبحان الله! والشيخ الغنوشي كان موجوداً في بريطانيا ومعروف فكره وما إلى ذلك – نُعامَل هذه المُعامَلة، انظروا إلى بريطانيا، هذه أم الخبائث في عالم الاستعمار، الناس يُمثِّلون فكراً إسلامياً راقياً وراكزاً وهادئاً ليس عندهم إقامات وجنسيات، “يُنشفِّون الماء في زورهم” كما يُقال، قال لي هكذا نبقى لأربع أو خمس أو ست سنوات وأحياناً نُطرَد، ليس عندنا إقامة، يُوجَد تعسف! والقانون في النهاية يُنصِفهم، لأن هناك استقلالاً حقيقياً – قال لي – لدى المُؤسَّسة القضائية، لكنه قال لي تضيع علينا سنوات، ونحن مُضطَربون ومُهدَّدون في حياتنا، قال لي واسأل الإخوة، سألت فعلاً واتضح أن هذه حقيقة، الكل أكَّدها لي والله، سألت أكثر من واحد لكي أعرف، فالمسألة تحتاج إلى التحري، لكن الذين يأتون من أفغانستان والبوسنة شأنهم مُختلِف، وأنا ليس عندي أي شك فيهم، بالعكس! مُتأكِّد من أن هؤلاء قد يكونون عند الله من الناحية الجهادية أفضل من أمثالنا، هؤلاء الناس يذهبون إلى هذا دائماً، لكنهم من الناحية الفكرية ليسوا أفضل من أمثالنا، دعونا نكون موضوعيين، هم أفضل من ناحية الجهاد ومُقاوَمة النفس، يرمون بأنفسهم في هذا، ما شاء الله عليهم بصراحة، لا يُوجَد كلام في هذا، يُجاهِدون من أجل أمتهم، ودعوا أمريكا تفعل ما تُريد، لكن هؤلاء أُناس مُجاهِدون، ولكن من الناحية الفكرية ليسوا أفضل من أمثالنا، نحن نعرفهم ونعرف ميزانهم في الناحية الفكرية والعلمية، قال لي هؤلاء مُباشَرة – في أسبوع – يأخذون الإقامة، قلت له ماذا؟ قال لي في أسبوع! أي واحد – قال لي – أتى من البوسنة أو من أفغانستان يُقال له تفضَّل، مُباشَرةً يأخذها، فقلت له هذا يعني أن العملية مقصودة، قال لي مقصودة بشكل واضح، وكلنا نفهم هذا قال لي، قلت له لذلك الجزيرة الخبيثة البريطانيا طبعاً – هذه البي بي سي BBC العربية – والأمريكية الجزيرة – رأينا فيها أكثر من خمسين مرة أبا حمزة وأبا قتادة وأبا فروة وما إلى ذلك، رأينا هؤلاء مائة مرة! لكن الغنوشي رأيته إلى الآن في مرتين أو ثلاث يا أخي، قال لي طبعاً يستبعدونه ويأتون بهؤلاء لكي يتكلَّموا، فقلت له لماذا؟ قال لي يلعبون بهم كورقة، نحن – كلنا كإسلاميين في بريطانيا – نفهم هذا، يلعبون بهم كورقة خبيثة! يأتون بهم ويُعطونهم كل شيئ ويُسهِّلون لهم الأمور، ووقتما يُريدون يلعبون بهم كورقة ضد الإسلام وضد المُسلِمين، فقلت له هذه هي السياسة الاستعمارية، لعنة الله عليهم، لكن لماذا نكون أغبياء وسذجاً إلى هذه الدرجة؟

سأُعلِّق بآخر تعليق على موضوع الجزيرة هذه، قبل يومين رأيتم الأشرطة التي أُذيعت لسعيد الغامدي رحمة الله عليه، وكذلك رأيتم أشرطة الشيخ ابن لادن حفظه الله، يُوجَد سؤال هنا، أنا زوجتي حتى تحيَّرت، قالت لي أنا مُتحيِّرة، أنت تقول لي الجزيرة كذا كذا، فلماذا حصل هذا؟ قلت لها أنتِ لا تفهمين اللُعبة، قالت لي يا أخي سُبحان الله، لِمَ هذا الشريط الآن أُبرِز في هذه المرحلة بالذات وفي تلك الأحداث؟ قلت لها هذه أنسب مرحلة، طبعاً أنا عندي يقين بأن الجزيرة لا تستطيع أن تبث شريطاً لصدّام أو لابن لادن أو لأي أحد إلا بعد المُوافَقة الخطية، لابد من هذا! يُقال لهذا نعم فيُبَث، معروف هذا وواضح طبعاً، ما شاء الله! معروفة قطر التي فيها مكتب لإسرائيل، لابد من هذا! فأنت الآن لا ينبغي أن تشك الثوابت فلا تخربط، والمفروض ألا تلتاث عليك الأمور، هذه ثابتة عندنا وهذا معروف، دولة تفتح مكتباً لإسرائيل وهي دولة تطبيع لا يُمكِن أن تكون – ما شاء الله – مع الإسلام، مع فلسطين، مع العراق، ومع قضايا المُسلمين، مُستحيل! واضح جداً هذا، فهي تنطلق من هذه الثابتة لتتساءل الآن عن التوقيت، عن الظرف، وعن المُناسَبة، لماذا؟ لماذا يُبَث هذا الشريط الآن؟ يُبَث ببساطة لأن المُستفيد الوحيد منه جورج دبليو بوش George W. Bush، ثم رامسفيلد Rumsfeld وهؤلاء القتلة من المُحافِظين، صحيح! لماذا إذن؟ وضعهم في العراق من أسوأ ما يكون، الوضع في فلسطين فشل، كله من أسوأ ما يكون! وكانت نسبته عالية ما شاء الله، والآن صارت أربع وخمسين في المائة بعد أن كانت ست وسبعين في المائة، انتكس بالكامل! لم يعد يطمح حتى في أن ينجح في انتخابات المرة القادمة إن شاء الله، وهذا كان مُتوقَّعاً له ولبلير Blair ولغيرهما، كلهم عندهم نفس النهاية التعيسة، ثم يأتي شريط ويقول ما رأيتموه كان مُجرَّد مُناوَشات، هذا الدكتور الظواهري، يقول مُناوَشات! وستأتي ضربة شديدة، هذا يجعل الشعب الأمريكي مُباشَرةً يلتف حول بوش Bush، ما هذا؟ هؤلاء لا يزالون موجودين، هم الآن موجودون، أرأيت؟ لكن قبل أشهر لم يكونوا موجودين ولم يظهر الشريط، الآن صاروا موجودين، وفي ظرف عصيب – ظرف الشموع وذكرى الضحايا والبكاء والكلمات – جاء هذا لكي يقول لهم انتبهوا، لا تنسوا! يتوعَّدوننا بضربة شديدة، رائحة هذه الفضيحة المُدبَّرة أمريكياً فاحت في العالم كله، الحمد لله! أنا – والله – كنت سعيداً جداً ببرنامج القاسم حين صوت ما يقرب من ست وثمانين في المائة على أن هذه العملية أمريكية، بدأ العرب يفهمون، في الأول فرحوا وقالوا ابن لادن والقاعدة، لكن حين ظهرت القرائن اختلف الأمر، الأدلة كثيرة جداً جداً يا أخي، وكلها لا تُفسِّر إلا بأن وراء هذا فعلاً أمريكان، هل هناك عرب مُتورِّطون؟ هناك عرب مُتورِّطون، ليس كل الذين ذُكِروا – التسعة عشر- لكن بعضهم عرب، لكن مَن الذي سهَّل؟ مَن الذي غض الطرف؟ ومَن الذي حيَّدت سلاح الجو الأمريكي لساعتين كاملتين في دولة المفروض أن يكون ردة فعل سلاحها خمس ثوانٍ؟ استراتيجياً – واسأل أي رجل خبير – ينبغي أن تأتي ردة الفعل في خمس ثوانٍ! لكن سلاح الجو تحيَّد لساعتين يا أخي، ما الهبل هذا؟ هل تضحكون علينا أنتم؟ مَن الذي ضارب في البورصة – ما شاء الله – على United Airlines وعلى American Airlines؟ مُضارَبة – قالوا – من خمسين سنة لم يُشهَد مثلها على أسهمهم، هذان ضُرِبا يوم الحادي عشر من سبتمبر، قبل ستة أيام ضارب عليهما يهود أمريكا، أليس كذلك؟ مَن… مَن… مَن…. وثبت في النهاية أن حوالي ستة من اليهود فقط ماتوا، ليس ثلاثمائة وستين وما إلى ذلك، ستة فقط! لم يكونوا في الأبراج، وهذه مصادر أمريكية، مَن؟ خمسون ألف قرينة ودليل، فاحت الرائحة، بدأ العرب يفهمون، بدأت الناس تقرأ وتفهم، هذا يعني أن الأمريكان وراء هذا، يأتي هم ويقولون لا، جاء الشيخ ابن لادن والشيخ الظواهري – حفظهما الله – وقالا سوف تأتي إليكم ضربة شديدة، ونحن كعرب عاطفيين بعضنا يفرح، يقول يا ليت، يا ليت تأتي! وطبعاً بالنسبة لي أقول يا ليت، يا ليت تأتي إليهم الضربة التي تُخلِّص البشرية من هذا الديناصور الأمريكي بصراحة، أقول هذا بشكل واضح، لعنة الله عليهم بصراحة، لكن هذا كلام فارغ، أُمنيات! كلامنا هذا أُمنيات، كل الذي حدث أننا أعطيناهم ورقة جديدة سترفع أسهم بوش Bush – وإن شاء الله لن يصلح هذا أيضاً – في الانتخابات، كأنه يقول انتبهوا والتفوا حولي، وهذه اسمها غريزة القطيع بالمُناسَبة أو غريزة الحيوان، أكثر الحيوانات حين تتهدَّد تلتف حول بعضها، انظروا إلى الفقمة هذه، حين يأتي إليها تهديد تقوم بعمل دائرة، وكذلك الثيران البرية حين يأتي إليها تهديد تقوم بعمل دائرة مُباشَرةً، غريزة الحيوان! يلتفون في حالة التهديد إلا العرب سُبحان الله، على غير غريزة الحيوان وعلى غير سُنة الله يمشون، حين يُوجَد تهديد أكثر يتفرَّقون أكثر، مع التهديد يتفرَّقون! كلما أتى إليهم تهديد أكثر تفرَّقوا أكثر، وحَّدهم الله وأصلح أحوالهم إن شاء الله.

(ملحوظة) تساءل أحد الحضور عن الشريط الذي بُث، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا من ابن لادن والظواهري، هذا احتمال طبعاً، أنا أقول لك هل رأيت شريط الغامدي رحمه الله؟ أرأيت كيف كانت اللقطات؟ تأتي لقطة وتذهب لقطة، مُركَّب! شريط الشيخ الغامدي كان واضحاً، هل فهمت كيف؟ في شريط الشيخ أسامة والدكتور الظواهري طبعاً الصورة غير مُرافِقة للصوت، الصورة مُلتقَطة في فصل الربيع وما إلى ذلك، والصوت أتى وحده، الصوت من السهل جداً جداً تركيبه كمبيوترياً، لا تُوجَد فيه مُشكِلة، عادي! وأنتم تُشاهِدون الأفلام الألمانية المُدبلَجة، غير مُمكِن يا أخي! سيلفستر ستالون Sylvester Stallone بالألمانية يتحدَّث، يلهج بالألمانية سيلفستر ستالون Sylvester Stallone نفسه، تُشاهِدون هذا، أليس كذلك؟ شاهد أي فيلم ألماني مُدبلَج أو أمريكي، شوارزنيجر Schwarzenegger نفسه بالألمانية، طبعاً هو يعرفها لأنه نمساوي، لكن ليس هو مَن فعل ذلك وإنما الكمبيوتر Computer، تصوَّر! نفس الشيئ يا أخي، نفسه! نفس اللحن ونفس الأكسنت Accent لكن بالألمانية، ولذلك بالمُناسَبة أكثر مَن انخدع بخُدعة الأشرطة العرب، الأوربيون هنا حين أخرجوا الأشرطة لم يُعلِّق أي واحد منهم عليها، يعتبرونها تفاهات، لا يعتبرونها ذات قيمة، ويظلون يُطالِبون بالأدلة، يا واشنطن هاتي الأدلة، ماذا عن الأشرطة؟ هذا هبل لا نقف عنه، كل هذا هبل، نُريد الأدلة، يتم استغلال هذا الشيئ وتركيبه، في شريط الغامدي هذا كان واضحاً جداً جداً، أرأيت كيف؟ تذهب الصورة وتأتي صورة ثانية مُباشَرةً، واضح! شغل كمبيوتر Computer، قاموا بتركيبه مع كلمات مُعيَّنة وما إلى ذلك.

الدكتور البوطي ها هو سيأتي إلينا في الثامن والعشرين، اسألوه عن هذا، قرأت كتابه اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية، حكى عن جماعة من الإخوة السلفيين، تعرفون أن كان بينهما مُناوَشات، بين جماعة الألباني – رحمة الله عليه  رحمة واسعة – وبين جماعة البوطي، لأن البوطي مذهبي وشافعي وأشعري وما إلى ذلك، وهم عندهم آراء أُخرى، فالمُهِم هناك خلافات بين الإخوة العلماء، لا بأس! لكن أحياناً تحدث تصرفات سيئة، ما الذي حصل؟ الدكتور البوطي نسبوه إليه شيئاً، وها هو سيأتي إليكم فاسألوه، هو فقيه شامي كبير ومُفكِّر جليل، قالوا له كيف تتحدَّث بالكلمات هذه؟ فقال أي كلمات؟ قالوا أنت قلت كذا وكذا وكذا، سباب وشتائم! فقال لهم أنا؟ أعوذ بالله، ليس من طبعي ولا ديدني ولا أقول هذا الشيئ، قالوا له تعال، أتوا إليه بشريط وفعلاً بصوته يقول الملعون، الحقير، وما إلى ذلك، فقال لهم ما هذا؟ ألهذه الدرجة؟ قال لهم، مثل مُحاضَرة لي اليوم تأخذها وتقتطع منها كلمات وتُركِّب كلمة على كلمة على كلمة، وقلت أنا اليوم عدة كلمات، يُمكِن أن تأخذها وتصف بها عالماً وما إلى ذلك وتقول قال عدنان، أليس كذلك؟ فعلوها مع الدكتور البوطي، ليس السي آي إيه CIA أو الإف بي أي FBI وإنما جماعة الشيخ الألباني في دمشق، البوطي تعقَّد، اتقوا الله يا جماعة قال لهم، ليس إلى هذه الدرجة! قال لهم إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم، غير مُمكِن أن تفتري علىّ بالدرجة هذه لأنك تُخاصِمني فكرياً، أنا هنا خاصمني أُناس من نفس الاتجاه في الواحد والتسعين، أخرجوا منشوراً وقالوا عندنا شريط بلسانه – شريط صوتي بلساني أنا – يلعن فيه مُعاوية، فأنا قلت للإخوة أُقسِم بالله ما لعنته، ولو لعنته لقلت، أنا جريء في الحق ولا يهمني شيئ إلى حد التهور أحياناً، قناعاتي الفكرية لا أرضى بها بدلاً إلى أن يُقنِعني أحد، ليس عندي هذا، لا أخاف ولا يهمني شيئ، كفِّرني أو بدِّعني، هذه قناعتي وأنا أُحِب الحرية الفكرية، فأنا لعنت يزيد، نعم! لكن مُعاوية لم ألعنه ولا ألعنه أبداً إن شاء الله، ليس عندي قناعة بلعنه، لو عندي قناعة لقلت، سألعنه وسأقول عندي قناعة وعندي أدلتي مثلاً، لكن ليس عندي، أعوذ بالله! فكيف قالوا عني هذا؟ قلت أكيد دبلجوا الصوت، أتوا بكلام وحطوه، إلى هذه الدرجة يا أخي وضد أُناس مُسلِمين مثلنا؟ لا ينفع! فهذا يفعله المُسلِمون مع بعضهم، وهم مُتخلِّفون لأن هذا ليس بطريقة كمبيوترية وإنما بطريقة التقطيع الصوتي، أي شريط مع شريط، فعلوا هذا مع الدكتور البوطي، وحدث هذا مع الغامدي، لكن هذه كانت مفضوحة، مَن سجَّل لم يفعلها جيداً، انظر كيف تذهب اللقطات، يُوجَد قطع، مقطوعة قطعاً! والكلام مُتصِل، الكلام مُتصِل لكن اللقطات مُقطَّعة، لأن الكلام أسهل، انتبهوا! الكلام أسهل في أن تُركِّبه، تفعل هذا بالكمبيوتر Computer دون أن يكون عندك أي مُشكِلة بالمرة، برامج بسيطة تفعل هذا، لكن الصورة صعب أن تفعل معها هذا، هناك العينان وبعض الحركات وما إلى ذلك، فكانت الصورة كلها مُقطَّعة، كانت كلها تتقطَّع! ما هذا؟ يُوجَد لعب هنا، يُوجَد لعب! فهذا السؤال لابد أن نسأله أنفسنا، لا ينبغي في كل شيئ أن تأخذنا النشوة والنصر فنقول سوف تُضرَب الآن أمريكا، لا! لماذا هذه الأشرطة بثتها الجزيرة في هذا الوقت بالذات؟ خدمة لجورج دبليو بوش George W. Bush، خدمة لهؤلاء القتلة الزنادقة من المُحافِظين الجدد في أمريكا، فقط! لكي تستمر الحرب على العراق وعلى الإسلام ككل، وها هي إيران، يبدو أن الحبل على الجرّار، أخرجوا لها لعبة، وانظروا بالمُناسَبة إلى موضوع إيران، قالوا عندها شهر – أعطوها Range، اسمعوا إلى هذا، هل رأيتم هذا التصريح؟ – لكي تُثبِت أن ليس عندها برنامج نووي، الله أكبر يا أخي! أي لُغة قانونية هذه؟ أين سمعتم بها في التاريخ؟ لكي تُثبِت أن ليس عندها! ما هذه التُهمة؟ وإلى يوم يُنقَر في الناقور – إن شاء الله – ويلد البغل العاقور كما يُقال في اللُغة أنا لن أستطيع أن أنفي هذا، قل – مثلاً – عدنان عنده في بيته برنامج نووي مُصغَّر، لن أقدر أن أنفي الشيئ هذا، لابد أن تُثبِت أن ليس عندك! أيُقال هذا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ثم قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم ما يُقال ببساطة إن هناك لجان تفتيش، فتِّشني يا أخي، إذا لم تجد عندي شيئاً فلتسكت أو فلتقل ليس عنده، فعلوا مع صدّام نفس اللعبة، قالوا فتَّشنا، قمنا باثني عشر ألف مُحاوَلة تفتيش، ولابد أن يُثبِت لنا أن ليس عنده، لعنة الله عليكم يا أخي، شيئ يُجنِّن والله، رحم الله شيخنا الغزّالي، سماه العُهر السياسي، أنا أُسميه الشرمطة السياسية، لأن لا يُمكِن أن تقول هذا، قسماً بالله عُهر! الشيخ الغزّالي سماه العُهر السياسي، هذا اسمه عُهر سياسي، عُهر أمريكي، عُهر حتى من العرب الذين معهم، عُهر سياسي عربي أيضاً، ما هذا يا أخي؟ إلى هذه الدرجة؟ أنا أمامك فتفضَّل فتَّشني، فتِّشني وصوَّر، فإذا لم تجد شيئاً فلتخرج، أعطني ما يُثبِت أنني بريء، لكنك تقول لابد أن تُثبِت أن ليس عندك، كيف أُثبِت لك؟ تفضَّل قل لي كيف؟ منطق غير مفهوم! قانونياً، فلسفياً، وعقلياً ببساطة لا يُفهَم، المنطق غير مفهوم بصراحة، ويُسرِّبونه اليوم في الخبر الإعلامي بشكل عادي، والناس تتلقاه بشكل عادي، يقولون يُوجَد شيئ على إيران وإيران لابد أن تُثبِت أن ليس عندها، لُغة غريبة! لغة أو خطاب – Speech كما يُسمونه – غريب، خطاب غريب! هذا خطاب أمريكا، خطاب الداعرة الكُبرى هذه، داعرة السياسة العالمية أمريكا، شيئ عجيب! فأين أمة محمد؟ أين أمة الإسلام؟ وما الذي نفعله الآن نحن؟ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، حسبي الله ونعم الوكيل، لكن يبدو أن لا فائدة، إلا أن يشاء الله ربنا شيئاً، لابد أن ندفع ثمن تخلفنا وثمن تمزقنا، بالذات الأمة العربية والإسلامية، لأنها مُتمزِّقة وفعلاً ليست على صراط واحد، ولذا لابد أن تدفع الثمن الآن، ويبدو أنه ثمن صعب، لن يُبقي ولن يذر إلا أن يشاء الله شيئاً، فنسأل الله اللطف، والله العظيم! 

الله – عز وجل – يقول الحق وهو يهدي السبيل، وبارك الله فيكم على حُسن استماعكم.

13/09/2003

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: