إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ۩ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ۩ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ۩ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ۩ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ۩ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ۩ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

وقع لي سؤال، من أحد الإخوة الأحباب المُشتغِلين بالعلم الشرعي، قبل أيام. امتحن الله – تبارك وتعالى – آدم كما امتحن إبليس؛ امتحن إبليس حين أمره بالسجود لآدم، على أن إبليس مُتقدِّم في النشأة، مُتقدِّم في الوجود والخلق، وقضى سنوات – لا يعلمها إلا الله، إذا ابتعدنا عن الإسرائيليات – في عبادة الله وطاعته ألحقته بالملأ الأعلى من الملائكة، على أنه من الجن، وليس من جنس الملائكة، لشدة تألهه وحُسن عبادته وحُسن ما أظهر من طاعة الرب الجليل – لا إله إلا هو -. وامتحن آدم – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعدم الأكل والتناول من الشجرة، وكلاهما أخطأ وعصى، كلاهما أخطأ وعصى! إلا أن آدم نجا، وإبليس هلك. وطبعاً السؤال الذي قد تتوقعون ثورانه عند هذه المرحلة من الكلام هو لِمَ نجا هذا، ولِمَ هلك هذا؟ وأن هذا السؤال يُعتبَر ناجز الجواب، لأن هذا اعترف، وهذا أصر. لا! ليس هذا سؤال هذا الرجل الفاضل من أهل العلم، سؤاله أبعد من هذا وأعمق من هذه بدرجة أو حتى بدرجات. لِمَ كان إبليس على ما كان عليه؟ لِمَ جُبل بحيث يستكبر ويعلو، وآدم خُلق وجُبل بحيث يتطامن ويخشع ويعترف، والاعتراف يهدم الاقتراف؟

سؤال مرة أُخرى كأنه يمس سر القدر، الله هو الذي أوجد هذا وهو الذي أوجد هذا، وبلا شك أن هذا السؤال مثار شُبهة، وهو سؤال عميق، قد يُشوِّش بحسب هذا الرجل الفاضل، قال لي مُنذ بضع سنين شوشني هذا الأمر جداً، وأُحاوِل أن أبتعد عنه، وكلما ابتعدت عنه، عُدت إليه. وكان جوابي على هذا النحو، الذي سأُفصِّله فيما نستقبل من حديث – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

يا إخواني، الفكرة التي استسلفناها والتي سلَّمناها – نُرسِلها إرسال المُسلَّمات – أن ماهياتنا وحقائقنا ناجزة مُبتدأً، حتى قبل خلقنا، وهذه المُسلَّمة التي نُرسِلها مُؤسَّسة على ماذا؟ على فهم غير دقيق ومغلوط لمسألة القدر، ومسألة العلم الإلهي. بلا شك كل شيء يجري في علم الله، ولا شيء يُمكِن أصلاً أن يخرج عن علم الله، وإلا لحق الجهل بالعلم الأزلي والعلم القدوسي، وهذا مُستحيل، لكن هذا التصور غالط أيضاً مُبتدأً ومُنتهىً. لن نُفيض في مسألة العلم وأنه لا يقتضي الجبر ولا الإلزام ولا الاضطرار، وإنما طبيعته الكشف فقط، لكن سنتناول المسألة من زاوية تُجليها مزيد تجلية، وهي:

بما أن ماهياتنا يا إخواني إمكانات أو إمكانيات مفتوحة برسم التحقق، التحقق الذي لا يكون إلا بعد اتخاذ القرار، أو اجتراح القرار، فهذا بدوره يُؤكِّد حقيقة أُخرى عميقة، وهي الأهم في القضية الابتلائية كلها. أهم قضية على الإطلاق في القضية الابتلائية في حق الإنس والجن، في حق المُكلَّفين، في حق الثقلين، قضية ماذا؟ الحرية. أنهم أوتوا حرية حقيقية، بمُوجِبها يُمكِن أن يختاروا، وأن يجترحوا قرارات، وبالتالي أن يُخرِجوا هذه الإمكانيات إلى عالم وأنوار الوجود والتحقق الفعلية العينية، أي التشخص، سموها كما شئتم وكما تُحِبون.

بمعنى يا إخواني أن إبليس كان إمكانية محضة في البداية، كآدم تماماً، ومثلي ومثل أي واحد فينا؛ مثلي، مثلك، مثلها، مثل أي واحد! في البداية أنت إمكانيات مفتوحة، إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ۩. ولعلكم سمعتم في خُطب سابقة من سنين بعيدة الإشارة القرآنية الأكثر من رائعة في هذا الصدد، أنا أزعم أن أي فيلسوف وجودي – وأتحدَّث بالذات عن الفلسفة الوجودية، مُؤمِنة كانت أو مُلحِدة – لو وقف على هذه اللفتة القرآنية، سيكون مذهولاً حتى الثمالة، حتى الثمالة! لماذا؟ لأن اللاهوت اليهودي والمسيحي والإسلامي في وهم مُعظَم الناس مبني على المُغالَطة التي حذَّرت منها ولفت إليها؛ أن الماهيات ناجزة، لأنها تجري في العلم الإلهي. غير صحيح، غير صحيح! ناجزة في العلم؟ أكيد. كل شيء ناجز في علم الله، وعلم الله لا يخضع للزمان أصلاً، لا يخضع للزمان! علم الله لا ينتظر، لكي تعقد الأشياء فيه. ولكنها ليست ناجزة في حاق الوجود وفي ساحة الوجود، وبالتالي نحن مسؤولون مسئولية كاملة وتامة عما نحن. أنت تبني نفسك، أنت تستثمر في ماهيتك كما تُريد وبمحض اختيارك وحريتك، والله لا يخدعنا، وأستغفر الله العظيم وأعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان، الله لا يخدع ولا يكذب على عباده، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۩. حين نسب أفعالنا إلينا، وجعلنا مسؤولين عن أفعالنا المُبتناة على قراراتنا، وبالتالي سنخضع للمُحاسَبة والمُحاقَقة، كل هذا لم يكن خداعاً، ولم يكن مسرحةً ولا تمويهاً، كل هذا حقيقة.

لو سمع أي فيلسوف وجودي هذه اللفتة القرآنية – كما قلت -، لأسكرته. في سورة الشمس وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۩ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۩ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۩… إلى آخر هذه أو هاته المُقسَم بها، وكلها أتت ماذا؟ مُعرَّفة. إلى أن قال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩، لا إله إلا الله! وطبعاً مَن يقرأ الفلسفة الوجودية ويفهم على ماذا هي مبنية، يُدرِك المعنى. باختصار الفلسفة الوجودية ترى أن الإنسان يُوجَد كإمكانية مُنذ البداية، إمكانية مفتوحة، لا يُوجَد كماهية ناجزة مُقرَّرة أبداً. والقرآن يُوافِق على هذا، وهذا شيء غريب، يُوافِق على هذا! وَنَفْسٍ ۩، هذه نفس، لم يقل والنفس التي سواها. قال وَنَفْسٍ ۩. بالتنكير! قال فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، ثم قال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ۩. يأتي التحقق بعد ذلك والخروج من الإمكان إلى الفعل بعد ذلك. ما الذي يُبرِّر هذا الخروج؟ الإرادة الإنسانية، التي تجترح القرارات، بحرية تامة، بحرية حقيقية، ليست موهومة، ولا خداعية، ولا مسرحية، حرية حقيقية! أنت تصنع نفسك، أنت تبني ماهيتك. نعم، وهذا لا يخرج عن العلم الإلهي، شأن العلم أن يُحيط بكل شيء، ولكن هذا لا يجبرك ولا يلغي إرادتك أصلاً، وهذه قضية مُسلَّمة عند مُعظَم الفلاسفة والمُتكلِّمين الذاهبين مذهب الاختيار، والمُضادين لفلسفة الجبر والإكراه. جميل جداً!

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩. إذن أنت مُنذ البداية تستطيع أن تخط مسارك، أن تأخذ سمتك، أن تُحدِّد طريقك. ما الذي حصل الآن مع إبليس ومع آدم؟ هنا القضية الخطيرة، وهذه فائدة وثمرة هذه الخُطبة. للأسف واضح من النتيجة التي آل إليها إبليس، وهي الرسوب في الامتحان، أنه أخفق إخفاقاً ذريعاً. الملائكة كلهم من عند آخرهم سجدوا مُباشَرةً، عن رضا وسماح وطواعية. إما إبليس فقال؛ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ۩. تُشتَم مُنذ الآن، من هذا الجواب ابتداءً، ماذا؟ رائحة ماذا؟ رائحة لا علاقة لها بالعبودية. هذا ليس منطق عبد، هذا ليس منطق عبد يُخاطِب ربه – لا إله إلا هو -، ليس منطق عبد يعود به إلى الرب الجليل – لا إله إلا هو -، هذا منطق رجل أو خلق وقع في وثنية النفس وفي توثين النفس، ووقع في لعنة التأله. وهو يُريد – كما قلت في خُطبة سابقة لها علاقة بهذا المعنى أيضاً، ولكن هذا موضوع آخر ومن زوايا أُخرى – أن يكون حاكماً، ولا يُريد أن يكون محكوماً، لا يُريد أن يُحتكَم عليه. والذي لا يُحتكَم عليه فقط هو واحد أحد – لا إله إلا هو -، الله الذي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۩، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۩ – لا إله إلا هو – أبداً. وكل خلق يُحاوِل أن يُطاوِل الله – وأستغفر الله العظيم – في هذه المنزلة وفي هذه الخصيصة هو مُتألِّه، محض الكفر! هذا محض الكفر، ومحض الوثنية، وسميته محض الجنون طبعاً، لأن الخلق لا يُمكِن – لا يُمكِن أصلاً هذا له – أن يُطاوِل وأن يتطاول وأن يشرئب إلى مثل هذه المثابة، التي لا تليق إلا بالخالق الأبدي الأزلي – لا إله إلا هو -. حاكم على كل شيء، وليس محكوماً لشيء ولا بشيء.

هو مُنذ البداية قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ۩. إذن ما الذي حصل الآن؟ هذه النتيجة البائسة التاعسة الخائبة، كشفت عن مسار إبليس، عن تأسيس المسار. أسَّس المسار على غلط، لم يُؤسِّس مسار عبوديته وعبادته لله – تبارك وتعالى – على الحق، الذي هو أن العبد عبد والرب رب، لا! أراد أن يستثمر هو اعترافه بالله وتألهه لله – تبارك وتعالى – وعبادته لله، في ماذا؟ في تزكية وتعظيم وتكبير وثنيته، وثنيته ودعواه الإلهية الباطنة. هو عنده هذه اللعنة، وأكيد هو أعلم بها، والله أعلم بها، لكن الله لا يحكم علينا إلا بالحق، النهايات حين تحق وتثبت وتُصبِح واضحة جلية، كما وضحت هنا؛ أَأَسْجُدُ ۩، هكذا يعود إلى ربه! لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ۩.

ثم ظهر أن مثل هذا التأسيس اللعين، الذي لا يليق بالمخلوقية – أي مخلوق من الإنس أو الجن لا يليق به أن يظن أنه يكون حاكماً، غير محكوم، وأن يتطاول إلى شيء من خصائص الإلهية. مثل هذا التأسيس يفعل الآتي – يجعل العبد والمخلوق لعنةً على بني جنسه وعلى العالم والأكوان كلها أصلا، لعنة حقيقية! لكن انظروا: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ۩، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ۩… قال كَرَّمْتَ عَلَيَّ ۩. إذن القضية كلها ليست قضية أمر يُطاع أو لا يُطاع، لا! القضية كيف أؤمر بأن أسجد لمثل هذا؟ أنا أسجد لمثل هذا؟ هذه القضية.

الرجل غير مُتحقِّق، غير مُستهلَك، في ماذا؟ في العبودية لله. ومَن استُهلِك في العبودية لله، لم ير نفسه أصلاً. وإن رآها، لا يراها إلا عبدةً مُفتقِرة من جميع جهاتها وجوانبها لله. لا! هو لا يرى هذا. هو مع كل ركعة ركعها ربما، مع كل سجدة، مع كل تسبيحة وتحميدة، مع كل ذكر، مع كل تمثيل للتأله والتدله والعبادة والعشق للرب الجليل، هو كان يُغذي ماذا؟ دعواه الإلهية الباطنية – والعياذ بالله -. أراد التميز، أراد الاستكبار، حتى على الملائكة طبعاً. وهو لم يقل لنفسه الملائكة من حيث الجنس نورانية، أشرف مني على الأقل. لا! لم يقل هذا، لم ينظر، لأنه يرى نفسه أصلاً فوق الملائكة. وهذه لفتة مُهِمة، الآن خطرت لي للتو. أي إبليس لم ير نفسه فقط فوق آدم، بل فوق الملائكة، بدليل أنه لم ير في سجودهم ومُبادَرتهم ومُسارَعتهم إلى السجود قدوةً له؛ إذا كان هؤلاء النورانيون المعصومون من النزغات والأهواء والأميال النفسانية، الذين لا يعصون الله طرفة عين، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ۩، قد بادروا وهُرعوا إلى السجود، فلِمَ لا أفعل؟ لا، لأنه يرى نفسه فوقهم أيضاً، هو يرى نفسه فوقهم وفوق آدم، هو أسَّس على غلط.

ومن هنا خطورة قضية التأسيس، المحكومة بكلمة واحدة: النية. النية! النية في كل شيء يا إخواني قالب. القالب إذا اعتراه نقص أو طرأ عليه عطب، يأتي كل ما يُنتِجه وما يُقولَب فيه معطوباً ناقصاً. فكِّر في أي قالب، أي قالب! حتى ولو كان قالب تورتة Tart، أي قالب تُريده، يصنع سيارة أو طيارة أو جزءاً طبعاً من سيارة أو من طائرة أو من صاروخ فضائي أو حتى تورتة Tart (كعكة العيد)، هذا القالب إذا كان فيه نقص، فيه اعوجاج، فيه خطأ، فيه شيء خاطئ أو ناقص، كل المقولبات وكل المنتوجات، تأتي ماذا؟ ناقصة وخاطئة، باستمرار! ولا يُمكِن غير هذا. هكذا النية!

أو خذوا هذا المجاز، إليكم هذا المجاز، مجاز آخر: مجاز التوجه. النية توجه، النية بوصلة، هي بوصلة – Compass – وتوجه. أي خلل في التوجه، ولو بمقدار مليمتر واحد، سينتهي بك إلى مكان آخر، وطبعاً ولكم في الــ Navigator عبرة كما يُقال. أي خطأ ولو بمقدار مليمتر واحد في البداية، ولذلك أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩،  فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ ۩… لأن هذه الحقيقة، أن الله لا يقبل من الدين إلا ما خلص، طبعاً! الربوبية لا تقبل الشركة يا إخواني، مُستحيل. لو كان يُوجَد – أستغفر الله، فرض المُحال ليس بمُحال – من الله ألف إله مثله، وهو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، لكان من المُمكِن أن نقول نعم. لكن هذا لا يوجد، هناك واحد أحد، ليس له نظير، الأكوان كلها مُكوَّنة عن أمره، بحرفي الكاف والنون، كل الأكوان! وتُعدَم وتدثر وتذوي وتُدمَّر وتتداعى بكلمة أيضاً ماذا؟ كُن فَيَكُونُ ۩. لا إله إلا الله! فكيف يقبل الشركة هذا؟ غير معقول، هذا غير معقول بالمرة. لا! أنت بنيت أمرك على الشركة، لم تُشرِك معه هُبل واللات والعُزى والحاكم والقائد والشيخ، لا! فماذا إذن؟ أشركت نفسك. الشيء نفسه، الشيء نفسه! سوءا كان هذا الشريك النفس أو اللات أو العُزى أو فرعون أو عيسى أو الشمس أو القمر أو الحجر أو البشر، أياً كان! الشيء نفسه، الله لا يقبل الشركة أصلاً. فالنية توجه، خُذ النية الآن ليس كقالب، وإنما خُذها كتوجه. أي خطأ مهما كان ضيئلاً في التوجه الابتدائي، مُستحيل أن ينتهي إلى اعتدال واستقامة ونتيجة مرجوة، مُستحيل! بالعكس، كلما أمعنا في السير، ابتعدنا. وما هو السير الآن؟ العبادة، الصلاة، الذكر، والعمل الصالح (فيما – أقول هذا بين قوسين – يبدو لنا وللناس أنه عمل صالح)، ولكن كله مُؤسَّس على ماذا؟ على نية مدغولة، على نية خاطئة، نية شركية؛ أنت وأنا، وأنا وأنت. الله أكبر! شيء مُخيف، شيء مُخيف طبعاً. وهذا الدرس ليس لإبليس فقط، هذا الدرس لنا كلنا، لكل واحد منا، من ذكر أو أُنثى، كبير أو صغير، أن يُفتِّش نفسه باستمرار؛ ما الذي أُريده بطاعتي لله؟ ما الذي أُريده بالعبادة وبالعبودية لله؟ ما الذي أُريده بذكري لله وبعملي الصالحات؟ ما الذي أُريده حقاً؟

وحذاري ثم حذاري ثم حذاري من الشرك! نسأل الله أن يُعيذنا منه. النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – كان يستغفر الله ويستعيذ به من أن يُشرِك، يستعيذ بالله أن يُشرِك به شيئاً يعلمه، ويستغفره لما لا يعلمه. يقول يُمكِن أن يكون هناك شيء بسيط، وأنا لا أعرفه، فأستغفرك لهذا، فاعف وتجاوز. ولكن هو يُمحِّض النية بقدر المُستطاع – عليه الصلاة وأفضل السلام -. وهذا هو على فكرة! هذه الآدمية، هنا عظمة الآدمية. ومن هنا أُريد لآدم أن يكون مسجود الملائكة. الله يعلم أن بني آدم فيهم مثل هؤلاء على عصيانهم وخطئهم ونقصهم وتقصيرهم، ويعلم أن سيكون منهم الكافر والمُلحِد وما إلى ذلك، لكن فيهم مثل هؤلاء، الكواكب الدراري، النجوم اللامعة في سمت السماء، موجودة في ظُلمة الليل البهيم. موجود هؤلاء، وبكثرة – بفضل الله تبارك وتعالى – في كل زمان ومكان. كثرة نسبية طبعاً، ولكنهم موجودون – اللهم اجعلنا منهم -. وكان رهان الغيب عليهم؛ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩. على هؤلاء! هذه الآدمية يا إخواني تحقَّق بالعبودية بدرجة عجيبة مُعجِبة ومُذهِلة، على أنها ضعيفة وهشة؛ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، ومُفتقِرة طبعاً ككل مخلوقية، ومُحتاجة، لكن فيها هذا الاستعداد. طبعاً بسر ماذا؟ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩. فيها هذا الاستعداد، هذا الاستعداد للتأله الحقيقي، وللتحقق التام الكامل بالعبودية لله وحده – لا إله إلا هو -. ومن هنا كل الجمال الذي يُطالِعنا، من أفعال البشر، والجمال هذا لا نهاية له، لا نهاية له! أشهد بالله أن من البشر، كل البشر، مَن يأتون أفعالاً هي قمة وذروة يا إخواني سامقة وعالية من الجمال والنُبل والعظمة، شيء عجيب مُدهِش، نعم! الغيب كان يعلم هذا، الله كان يعلم هذا؛ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩.

وقد نجح آدم بعد أول زلة، نجح في الاختبار، حين اعترف واستغفر وتاب وأناب واستهدى واستعتب مُباشَرةً، فمُن عليه بالعُتبى والرضا والهداية، وأوتيَ المنهج، ونحن أبناء آدم، والمنهج لا يزال بأيدينا؛ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۩ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ – والعياذ بالله – مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۩. لا نزال أبناء آدم، وفينا هذه الروح، وفينا هذه الإشراقات والإضاءات والالتماعات القدوسية. إبليس ليس فيه هذا، لماذا؟ لأنه بنى على غلط، انحرف ولو بمقدار يسير، لكنه كان ملحوظاً له، وهو يعلم أنه ملحوظ له، وهو يعلم! بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ۩. كلٌ من الخلق أعلم بنفسه وأعلم بدخيلته وخبيئته ونيته ومُراده وقصده، كلٌ! والله أعلم بالكل من الكل، وبالنفس من النفس، لا إله إلا هو.

فإذن انحرف انحرافاً يسيراً. كلما أمعن – مع كل سنة زائدة في حياة إبليس، مع كل لحظة، مع كل يوم، في العبادة -، ازداد ماذا؟ بُعداً عن رب العزة – لا إله إلا هو -. لماذا؟ خطورة النية، لأن النية توجه. أنت لم تبدأ هكذا مُستقيماً. قال وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۩. اتبعوه حال كونه مُستقيماً، كأنه يقول استقيموا على الصراط المُستقيم. لأنك إن لم تستقم على الصراط المُستقيم، اعوججت وانحرفت. فدخلت في السُبل، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۩. أنت تُريد تلك الغاية، لكنك لن تصل إليها، إذا انحرفت عليها بمقدار ملي واحد مُنذ البداية، خاصة كلما أمعنت.

إذن هل هناك فُرصة؟ هناك فُرصة، اسمها التوبة، وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩. حال ولحظة وساعة تُدرِك أنك أسَّست على غلط، انقطع. قل لا، سأستأنف وسأبدأ من جديد. واعتبر ما كان منك لاغياً، وعسى الله أن يعفو ويتوب ويغفر – لا إله إلا هو -، حتى الصلوات والصوم والذكر والحج والصدقات، كلٌ لاغي، لم يُرد به وجه الله، أُريد به شيء آخر يا مسكين، فضاع عليك، أنت أضعته، ولكن ابدأ من جديد.

وإليه الإشارة أيضاً بغير آية وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ۩، فالنية توجه، صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ۩، انتهى! النية توجه، غير مسموح أن تنحرف قليلاً هكذا أو هكذا. مع كل إمعان، تجد نفسك في عالم آخر، تنتهي إلى غاية أُخرى، خاصة مع الإمعان بعد سنوات، ولذلك يُلاحظ مولانا الجلال الرومي – قدَّس الله سره – الآتي، يقول بعد أربعين سنة لا تزال مخازننا فارغة، من البُر – من القمح -. ما الذي يحصل؟ أين ذهب كل هذا؟ لأن التأسيس على غلط، يُوجَد ثقب، يُوجَد ثقب! ثقب الشركية هذا، يُفسِد الخزين باستمرار، يسرقه منك، لا شيء، لا شيء يبقى لك. هذا الشيء نفسه، وكلها مجازات، كلها مجازات في خطورة النية والتأسيس.

ولذلك يقول – تبارك وتعالى – إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ۩. قال مِنْ قَرِيبٍ ۩. يُدرِك! بعد سماعي هذه الموعظة، بعد سماعي هذه الآية، بعد إلهام الله لي هذا المعنى في الآية الكريمة، أدركت وفهمت أنني أسَّست عملي واجتهادي في العبادة على غلط، لست مُخلِصاً لله، لم أُخلِص له الدين، اللهم غفرك، اللهم غفرانك، رحمتك، عفوك، وتسامحك، وسأبدأ من جديد. الله قال كلما بدأت مِنْ قَرِيبٍ ۩، هناك توبة. فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩.

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۩، وأمعنوا وأمعنوا، عبر عشر وعشرين وثلاثين وأربعين سنة، التوجه كله غالط، غالط غالط غالط غالط! أراد الشرق، ووجد نفسه في أقصى الغرب، وهذا ليس له علاقة بالشرق أبداً. أراد مكة، ووجد نفسه في لاهاي، وهذا موضوع آخر تماماً. قال عن هذا ماذا؟ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۩.

تعرفون؛ هذا نجده يا إخواني بالضرورة من تجاربنا الفردية المعيشة. كلما أمعنت في الغلط، عز عليك بعد ذلك ماذا؟ أن تعود عنه. طبعاً! لأن عندك إنتاج وإنجاز وسنوات، وربما هناك شهادات على هذا، وهناك الثناء الحسن وحُسن المحمدة على ألسنة الناس وفلان وفلان. وأنت تعرف أن هذا كله غلط، فيعز عليك أن تهدم كل هذه الأهرامات من الشُهرة والمجد وظاهر العمل الصالح، وتقول لهم لا، أنا أسَّست على غلط، نرجع ونبدأ من المرحلة الابتدائية. ونحن كنا تجاوزنا الجامعية وما بعد الجامعية، ولكننا سنبدأ من جديد. صعب جداً!

ولذلك قال علماؤنا وصلّاحنا المُؤمِن بخير ما لم يعثر. احذر العثار، احذر، احذر! فإذا عثرت، أقالك الله وأقال عثرتك. لعا لك، لعا لك، أقال الله عثرتك. استرشد بالله كما استرشد أبوك مُباشَرةً، واستعتب وعُد مُباشَرةً، واعترف، ولا تأخذك اللجاجة والعناد، لا تقل لا، هذا ليس قصدي، وكان قصدي غير ذلك، والله أعلم بي. الله أعلم وأنت أعلم، إياك واللجاجة، مثل إبليس؛ أَرَأَيْتَك ۩، وبدأ يدخل في اللجاجة، وإلا ستنتهي، إياك! قالوا لك المُؤمِن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر، لج به العثار. ونعوذ بالله، نعوذ بالله أن يلج بنا العثار.

هناك قصة رمزية في الأدب العالمي جميلة جداً، في الكشف عن هذا المعنى وتضويئه وإنارته. تقول الحكاية رجلٌ اعتاد أن يعود كل يوم من محل عمله إلى بيته الذي يبعد بُعداً قليلاً نسبياً من طريق مُعيَّنة، سنوات يسير فيها ويعرفها. ذات يوم عرض له رجل لا يعرفه، وقال له إلى أين يا فلان؟ قال انتهيت وفرغت من شغلي – أو من عملي -، وأنا آخذ طريق بيتي. قال أين يقع بيتك؟ قال في المحلة الفلانية. قال لا، أنا أدلك على طريق أقصر. قال يا رجل، هذه أقصر طريق، وأعرفها. قال لا، أنا أدلك، أنا أعرف منك. أي إبليس هذا، إبليس! أو النفس المُشرِكة.

فقال على بركة الله. وأخذ معه، انقضت المُدة التي يكون في مثلها وصل إلى بيته، ولم يصل. قال أين؟ قال لا، أوشكنا على الوصول. يا رجل – قال – أنا كنت سأصل في مثل هذه المُدة. قال لا، أنا أعرف طريق مُمتازة. وواصل معه! تضاعفت المُدة، يا رجل – قال له – أبعدتني عن بيتي، مضى ضعف المُدة التي أصل في مثلها إلى بيتي. قال لا، لكن عليك بالصبر، عليك بالصبر.

تقول الحكاية وتختتم لما طال عليه الأمر جداً، أقنع نفسه أنه لا بُد أن يُواصِل. قال سنصل بطريقة أو بأُخرى، حتى لا نُضيع كل هذا. كنا نصل في عشر دقائق، لكن الآن أضعنا أربع ساعات، فهل سنضيع كل هذا مرة ثانية؟ دعونا نُكمِل، ربما في عشر دقائق أُخرى أصل إلى بيت. وهو لن يصل.

قصة رمزية، عميقة جداً، في الأدب الروسي. أي فعلاً الذي وضع هذه الحكاية يفهم هذا المعنى، ولذلك القرآن الكريم عرض لهذا المعنى، قال طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۩، لا إله إلا الله! حين يطول العمر، القرآن يقول إذن بلُغة حديثة وواضحة جداً تكون زاوية الانحراف قد انفرجت جداً، ولج العثار بصاحبه، وعز عليه أن يعود إلى البداية، يقول لا، لا أقدر. ولذلك القرآن قال هذا، انظر إلى القرآن الكريم، بشكل واضح قال لك يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ۩. كأن التوبة لا تتهيأ إلا إن كانت من قريب، ونسأل ألا يُيئسنا من أنفسنا ولا من توبة نصوح صادقة ولو في آخر أعمارنا، لكن كأن القرآن يقول لك انتبه، هذه قاعدة خطيرة، في ماذا؟ في التوبة. هذه هي التوبة التي تكون نصوحاً وتُقبَل وتتهيأ لصاحبها أصلاً؛ لأن ما إن تهيأت التوبة، الله يقبل. لا يُوجَد مَن هو أرحم منه ولا أحرص منه علينا وعلى نجاتنا. المُشكِلة أنها لا تتهيأ، إن كانت من بعيد. بعد انفراج الزاوية جداً، لا تتهيأ. وهذا الذي نلحظه في البشر حولنا ليل نهار. تجده على انحراف واضح – فمثلاً بعضهم لا يُصلي، وصار عمره خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة -، وقال له الطبيب أنت مُصاب بالسرطان، وعندك مُهلة من ستة أشهر إلى سنة، ثم سترتحل يا أخي. ومع ذلك لا فائدة، لا يُصلي! ويقول لك الله غفور رحيم، والإيمان في القلب، والقلب الأبيض والقلب الأسود! يا رجل ما هذا؟ غير قادر، هو غير قادر! مسكين، نرثي له، لا ندعو عليه، حاشا لله، نحزن له، نرثي له – والله -، وتتقطع قلوبنا، يا رجل متى؟ لم تتهيَّأ، ومن الصعب أن تتهيَّأ. لماذا؟ ابتعد به السبيل جدا، بل تفرقته السُبل جدا، اتسعت الزاوية، اتسعت الزاوية!

هذا الذي حدث مع إبليس، إذن السؤال الآن ينقلب، بعد الجواب – إن وضح الجواب – يُصبِح السؤال سهلاً جداً، أي كيف لم يتسن لإبليس أن يبخع للأمر وأن يخشع للأمر الإلهي بعد أن قضى سنوات لا يعلم عددها إلا الله؟ قيل مئات السنين. والله أعلم! سنوات طويلة في عبادة الله وذكره والتأله والتدله. بالعكس؛ هو طيلة هذه السنوات كان يبتعد، أي لعل إبليس لو أُمِر في أول نشأته، لربما سجد لآدم. مُشكِلته ليست هذه، مُشكِلته أنه طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۩، تقادم به الخلق، وهو يستثمر في هذه الفترة الطويلة المُتمادية، في ماذا؟ في وثنية النفس، أنا وأنا وأنا! يستغل العبادة ومظاهر الطاعة، لبناء ماذا؟ وثن النفس، لبناء وثن النفس! يقول المسيح من ثمارهم تعرفونهم. مجاز رابع! والقرآن قال الشيء نفسه، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ۩، الشيء نفسه! مجاز ماذا؟ البَذرة، مجاز البَذرة. الشيء نفسه! من ثمارهم تعرفونهم. والبَذرة يا إخواني هي النية، لأن البَذرة هي النية، ونيتك هي بَذرتك. إذا كانت هذه البَذرة طيبة كريمة، تفتقت عن شجرة كريمة، وثمار أكرم وأطيب. والعكس، إن كانت خبيثة. والشيء نفسه في سورة إبراهيم، هذا كمثل شجرة، والشجرة من بَذرة، والنية أيضاً هي البَذرة، والمسيح يقول من ثمارهم تعرفونهم. الشيء نفسه! كما في علم الأحياء أيضاً الجينوتايب Genotype والفينوتايب Phenotype. أي لماذا هذا طويل، وهذا قصير، وهذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أزرق، وهذا مُفلفَل الشعر، وهذا جعد، وهذا سبط، وهذا كذا، وهذا كذا… وهكذا، إلى آخره؟ كل الصفات الظاهرية، المعروفة بالنمط المظهري، أو الطراز الظاهري أو المظهري، أي الفينوتايب Phenotype. والفينوتايب Phenotype ترجمة الجينوتايب Genotype، أي للبرنامج الوراثي، Making up لهذه التشكيلة الجينية. الجينوتايب Genotype هو النية، الجينوتايب Genotype – النمط الجيني أو النمط الوراثي أو الطراز الجيني – هو النية، وتُترجَم في ماذا؟ في الفينوتايب Phenotype. وما هو؟ الأعمال، الأعمال التي قد تبدو طيبةً وصالحةً وجميلةً، إلا أنها في عُمقها خبيثة وسيئة. تماماً كما ترى رجلاً طويلاً أيداً قوياً شديداً، فإذا اقتربت منه وكشفته، قال لك بقيَ لي أيام، جسمي منخور، كل شيء عندي خربان. عجيب! عنده هذا الشكل الجميل، ودماء الحياة تسري في وجهه، ويقول لك لا، بقيَ لي أيام، سأنتقل إلى الدار الأُخرى، الجسم كله تعبان. ولذلك عند الله – تبارك وتعالى – لا يجوز ولا يُقبَل ولا يسوغ إلا ماذا؟ إلا الحقائق. المظاهر انسها، المظاهر عندنا، نُخادِع بها أنفسنا ونضحك بها على أنفسنا ونتسلى بها ونتعزى بها، مظاهر العبادة والذكر والتدين والتمشيخ، مظاهر! عند الله كل هذا لا يجوز.

ومن هنا الدين – وأختم هذه الخُطبة بهذه الفكرة – أكَّد في نصوص كثيرة، وبصياغات مُختلِفة، على مُفارَقات النهاية. هكذا يُمكِن أن تُسمى، مُفارَقات النهاية! ما مُفارَقات النهاية؟ رجل طيلة حياته يعمل الأعمال الصالحة، ويُختَم له بخاتمة سيئة، حتى إذا لم يبق بينه وبين الجنة – هذا ما بينه وبينها – إلا ذراع، سبق عليه الكتاب. ما معنى سبق الكتاب؟ سبق الكتاب أنه لا يُقبَل عند الله ولا يسوغ ولا يمضي إلا الحق، وهو الحق – لا إله إلا هو -، ليس مقبول عنده إلا الحق، والحق أن هذا كذّاب، بنى على غلط. أنتم خُدعتم فيه، وهذه مُشكِلتكم. وهو خُدِع في نفسه، وأكثر ما يُخدَع في النفس النفس على فكرة، النفس أكثر ما تُخدَع في نفسها. وهي فيلسوفة – أي النفس – في خداع نفسها وتبرير المعاصي والمُخالَفات والكبر والاستعلاء وكل الأشكال القبيحة السيئة التي تُهلِك الإنسان وتُرديه في الدنيا والآخرة. الله يقول لكم مُشكِلتكم هذه، أنا عندي هذا لا يمشي، لا تُوجَد فيزا Visa وما إلى ذلك إذن إلا للحق. هل هذا واضح؟ هذا معنى سبق الكتاب. أي وليس أنه مجبور أن يدخل النار، مع أنه صالح باطناً. وحاشا لله، الله لا يظلم، وقد أمننا من الظلم – لا إله إلا هو -، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ۩، أبداً! و: مَنْ يَعْمَل سُوءًا يُجْزَ بِهِ ۩، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ – أيضاً – وَهُوَ مُؤْمِنٌ ۩، أيضاً يُجز به، الشيء نفسه! حاشا لله أن يظلمنا. إذن يجب أن نفهم الأحاديث على وجهها. الأحاديث تلفتنا إلى أمر عميق جداً، أمر له علاقة بجوهر الآدمية وبجوهر الإبليسية يا إخواني، هو هذا، هو هذا!

ولذلك أيضاً حديث أنتم شهداء الله في الأرض يسري في هذا المهيع وفي هذه الطريق أيضاً، المعنى نفسه! والحديث مُخرَّج في الصحيحين وعند الترمذي وعند النسائي وعند الإمام أحمد وعند غيرهم. النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يقول أبو هُريرة، مُر عليه بجِنازة. وهو جالس مع الصحابة مُر بجِنازة! فالصحابة أثنوا عليها – أي على صاحب الجِنازة – خيرا، أي كأنهم قالوا ما شاء الله عليه، كان رجلاً طيباً، كان رجلاً صالحاً، سنفتقده، غفر الله له… إلى آخره، أثنوا عليها خيراً. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – وجبت. وفي رواية وجبت وجبت. يُؤكِّد! ما التي وجبت؟ الله أعلم. ثم مُر عليه بجِنازة – واحدة أُخرى -، فأثنوا عليها شراً. وهذا من باب المُشاكَلة، الأصل في اللُغة أن الثناء في الخير، لغة شاذة أن يكون في الخير وفي الشر، لُغة شاذة! ولكن هو من باب وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۩، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ۩، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ۩، وكل هذا مُشاكَلة، اسمه ماذا في اللُغة وفي علم البيان؟ المُشاكَلة. الثناء لا يكون إلا في الخير، ولكن هذا يجوز مجازاً. إذن فأثنوا عليها شراً، أي كأنهم قالوا أعوذ بالله، أراح الله منه البلاد والعباد والشجر والطير والحجر. وهناك حديث هكذا أيضاً، أن الفاجر، الفاسق، الكافر إذا مات، تستريح منه العباد والبلاد والطير والحجر والشجر. النبي مُر عليه، فقال مُستريح ومُستراح منه. المُستريح هو المُؤمِن، يستريح من لغوب الدنيا، من نصبها، ومن تعب العبادة والمُجاهَدة في الله – اللهم اجعلنا كذلك -، إلى ماذا؟ جائزة الله ونعيمه وكرامته. المُستراح منه – النبي يقول – هو هذا، أي الفاجر والكافر، تستريح منه البلاد والعباد والحجر والشجر والطير، الخلق كلهم يستريحون منه، كافر! لا يرقب الله في شيء ولا في أحد. إذن فأثنوا عليها شراً، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وجبت. وفي رواية وجبت وجبت.

قالوا يا رسول الله، هذه أثنينا عليها خيراً، فقلت وجبت، وهذه أثنينا عليها شراً، فقلت وجبت! كيف؟ ما المعنى؟ قال هذا أثنيتم عليه بالخير، فقلت وجبت، أي وجبت له الجنة، وذاك أثنيتم عليه شراً، فقلت وجبت، أي وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض. عند مُسلِم ثلاث مرار كررها؛ أنتم شهداء الله في الأرض (مرة ثانية)، أنتم شهداء الله في الأرض. مُفارَقة عجيبة! أي كيف هذا؟

نعم، العلماء قالوا الآتي هو الصحيح الراجح في معنى هذا الحديث، كالنووي في المنهاج على مُسلِم. قال الصحيح الراجح أن الله – تبارك وتعالى – يشاء أن يُعطي الناس إشارة ودلالة على مصير العبد بموته. بين قوسين أقول – والله تبارك وتعالى – يُمكِن أن يكون هذا أيضاً من إشارة قوله – عز من قائل – وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۩، لا إله إلا الله! يموت العبد، وطبعاً قال بِالْحَقِّ ۩، الباء قد تكون للمُلابَسة، ويكون الحق هو الموت نفسه، وقد تكون للتعدية، ويكون الحق شؤون الآخرة والاعتقاد والثواب والعقاب، وقد يكون أيضاً مثل هذا الشأن الذي أنا بصدد اللفت إليه، وهذا حصل، وأعتقد أنه حصل مع كل واحد منكم، ولكن بعض الناس لا يلتفت إلى حقيقة ما يحصل معه، حصل معنا جميعاً! تسمع عن شخص أنه مات، وقد يكون زعيماً أو قائداً، وقد يكون إنساناً عادياً، وقد يكون رجل دنيا، أي يعمل في أمر دنيوي، وليس في شأن ديني وعلمي ودعوي وتذكيري، لا! أبداً أبداً أبداً، أي من أهل الدنيا فيما يبدو؛ زعيماً أو وزيراً أو تاجراً أو كبيراً. يموت، حين يبلغك نبأ موته، يبكي منك القلب قبل العينين، أليس كذلك؟ تبكي وتحزن، ثم تلتفت، فترى أن ألوف وربما ملايين الناس شأنهم مثل شأنك، يقولون رحمة الله عليه، غفر الله له، رضيَ الله عنه. وتمكث على ذلك أحياناً أياماً وأسابيع، الله أكبر! ما الذي يحصل؟ يا أخي هذا ليس شيخاً وليس رجلا عابداً، هذا رجل دنيوي! ثم بعد ذلك تتسرب بعض الأشياء، كيف كان في حياته الخاصة، التي لا يعلمها إلا الله، كيف كان كفّالاً لليتامى، حمّالاً للديون والمغارم عن الناس، طيب السريرة، طيب القلب، مُتواضِعاً جداً، خاشعاً لله. وأنت ترى أنه زعيم، أو هذا وزير أو مليونير، وهذا غير بيّن. إذن ما الذي حرَّك قلوبنا لهذا الرجل؟ الحق – لا إله إلا هو -، الله. ولذلك النبي قال أنتم شهداء الله في الأرض. والعلماء كالمناوي وغيره، قالوا المقصود الصالحون. طبعاً! الفاسق والمُنافِق يكون على العكس، حين يموت الصالح، يقول له خله، يستأهل. يشمت فيه! ونحن لا نتحدَّث عن الفسقة والمُؤمِنين والكفرة، نتحدَّث عن الصلحاء من المُؤمِنين، عن صلحاء المُؤمِنين! تتحرَّك ويتعطف أو يُعطِّف الله قلوبهم وعيونهم، على عبده الذي يعلم أنه من زُمرة الصالحين، حين يموت.

الإمام أحمد بن حنبل مثلا واحد من مئات العلماء، لكن نبأه مشهور جداً – رضوان الله عليه -. أحمد كان له أعداء كُثر وخصوم أيضاً، مثل كل عالم نبيل وإمام جليل، فكان يكتفي بأن يقول فقط لبعض الناس – لأنهم يُبلِّغونه، يا فلان يقولون عنك كذا وكذا، يسبونك – الآتي. يقول قولوا لهم بيننا وبينهم يوم الجنائز. لأنه وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۩. يوم مات أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رضوان الله عليه -، تقريباً لم يبق أحد في بغداد إلا خرج، عدهم بعض الناس، قالوا ألف ألف. وبعضهم قال ألف ألف وخمسائة ألف. أي مليون ونصف، وبغداد كلها كان فيها أقل من مليونين. وأسلم عدد من اليهود والنصارى، لما رأوا هذا المشهد العظيم. والأسواق عُطلت، والبيوت والمحال فرغت من الناس، والدموع انهمرت. شيء عجيب! فما معنى هذا؟ هل هو نبي؟ انتهى، هذا من الله، الله عطَّف القلوب عليه، وأظهر مكانته.

هذا قد يكون تفسيراً إشارياً، من إشارة قوله – عز من قائل – وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۩. هذه حقيقته، هذه حقيقته! هل هذا واضح يا إخواني؟ ولذلك هذه الأحاديث لا بُد أن تُفهَم من هذه الزاوية. حسن وجميل أن تُفهَم من هذه الزاوية وأن نعرف كيف يُختَم لأحدهم.

وحدَّثتكم مرة بقصة عجيبة غريبة، عن ماذا؟ عن رجلين، قيدا إلى المحرقة؛ الهولوكوست Holocaust، في مُعسكَر أوشفيتز Auschwitz. أحدهم كان حاخاماً من حاخامت اليهود، أي رجل دين، يُعلِّم الناس اللاهوت والدين والتسليم لقضاء الله والرضا بقضائه وأقداره. والآخر كان مُلحِداً؛ لا يُؤمِن بوجود الله، مُتفلسِف، رجل فيلسوف. وذهبا إلى المحرقة! حتى آخر لحظة كان لدى كل منهم أمل، أمل في وقوع مُعجِزة، أن تقع مُعجِزة بطريقة ما، تحول دون ماذا؟ دون إعدامهما. يحدث شيء إعجازي، بأي طريقة. أي وكل واحد بطريقته يُفكِّر في خارق وخارج حدود التوقع. ولما لم تقع المُعجِزة، وأُمِر بهما إلى الدخول إلى غُرفة الغاز، في آخر لحظة أعلن الحاخام إلحاده، جدَّف على الله وسب، وأعلن أنه لا يُؤمِن به، وأنه لم يكن موجوداً. أما المُلحِد فتطامن، وتكلَّم بكلمات، كانت اعترافاً بأن الله موجود، وله المجد، وأنا مُنساق الآن لقضائك، وراضٍ به.

حقيقية! قصة مُؤثِّرة عجيبة، صدمت كل مَن كان شهوداً عليها، حتى من ضباط النازيين. ما الذي حصل؟ لا إله إلا الله! هذا الذي أخبرنا به رسول الله، وواضح إذن أن هذا الحاخام كان أسَّس على ماذا؟ على دغل، وعلى غلط. وهذا المسكين واضح أنه أسَّس على حق، يُريد الحقيقة، يتبع الحقيقة بدليلها، ولكن – كما نقول دائماً – هناك ذهن مُشوَّش Confused، معلومات مغلوطة، الآلة غير مُتوفِّرة، الآلة الفلسفية المنطقية، وكذلك التجربة الروحية، ليس عنده هذه الأشياء، تجارب كثيرة مر بها في حياته، ربما اعتداء من بعض رجال الدين عليه حتى حين كان صغيراً أو على وديد له أو حبيب، تقع أشياء كهذه! ألوف ألوف المعاذير، والله أعلم، لكن في اللحظة المُناسِبة، أظهر جوهره وحقيقته، ودان لله بماذا؟ بالوجود وبالمجد، وأنه يستسلم لقضائه – لا إله إلا هو -. انقلبت! مُفارَقة النهاية، شيء يقشعر له البدن.

نسأل الله – عز وجل – بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا، أن يختم لها بخير خاتمة وأسعدها وأبركها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

إبليس ماذا قال؟ قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ۩. هو يُريد أن يُضِلهم، توعَّد بأنهم سيأتيهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۩، وأن الله لن يجد أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩، لن يجدهم طائعين، بل سيجدهم شاردين تائهين عاصين مُتمرِّدين، أراد هذا، وحرص على هذا، ولا يزال يعمل في هذا ولهذا إلى الآن – والعياذ بالله منه، أعاذنا الله من شره وذُريته أجمعين -.

أيضاً هذا نتيجة الإمعان فيما أُسِّس على باطل وعلى خطأ. والله وعزة الله، لو أسَّس اللعين على عبودية حقيقية لله، لأحب الخير لكل الخلق، ولحزن عليهم. ستقول لي هذا شيء خطير، هذا معيار الآن سيكشفنا أمام أنفسنا. نعم، وسيكشفني أول الناس أمام نفسي، وسيكشف كل واحد أمام نفسه. هل تحزن أنت لشرود الشاردين، وتيه التائهين، ومعصية العاصين، وتدعو لهم بالليل وبالأسحار، كما تدعو لابنك وابنتك، أم تشمت، وتفرح؟ إن كنت الثانية – أُعيذني وإياكم بالله من أن نكون ذوي الثانية، من أصحاب الثانية -، أو إن كان الأبعد من أصحاب الثانية، فحتماً هو مُؤسِّس على غلط، مُؤسِّس على غلط! مُؤسِّس دائماً على غلط. ومع كل ركعة جديدة يركعها، وكل درهم يُنفِقه، وكل تسبيحة يفوه بها، هو يقول أنا أفضل منهم، أنا أتقى، أنا أصلح، هم عُصاة، هم فسقة، هم أنكاد مناجيس، وأعوذ بالله منهم. هذه إبليس، نعم! صورة أُخرى من البشر، إبليس البشر، دون أن يدري المسكين، دون أن يدري، القضية خطيرة، القضية خطيرة!

ولذلك أمثال هؤلاء ديدنهم ماذا؟ الشماتة، الحقد، إفشاء فضائح الناس، التندر بفضائحهم، قبول التُهمة من غير تحقق في الناس. مسلك إبليسي! لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ۩، مسلك إبليسي! عكس مسلك العارفين – اللهم اجعلنا منهم – والصُلحاء والطيبين، ورّاث الفردوس، ورّاث الفردوس، أرض الجنة. العكس تماماً، بالعكس! لا يرون ناقصاً إلا أنفسهم، ولا يرون هالكاً إلا أنفسهم، ودائماً يلتمسون المعاذير للآخرين، أنهم خلق هش ضعيف، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، وأن ظروفهم تختلف، ولعلي لو كنت في مثل ظروفهم، لكنت أسوأ منهم، و… و… و… هذا الصالح، وهكذا يفعل دائماً.

ولذلك الصالح الحقيقي يا إخواني – كما قلت لكم -، ليس شرطاً أنه يتزيا بزي تديني ظاهري، أي يُظهِر أنه شيخ أو عالم، لا، أبداً أبداً! قد يكون رجلاً دنيوياً بسيطاً، يعمل عملاً دنيوياً. وسأقص عليكم هذه القصة، التي أزعم أن كل واحد منكم أو منكن، إذا سمعها أو قرأها وهو وحده، سيستعبر، سيبكي! لا يُمكِن أن تُمسِك عينيك. قصة قصيرة، نختم بها، ثم نمضي إلى صلاتنا – إن شاء الله تعالى -.

في حفل زفاف لأحد الناس، التقى رجل أصبح من ذوي الهيئات – من علية المُجتمَع -، التقى بأستاذه القديم، الذي درَّس له في المرحلة الابتدائية بطولها، فأقبل عليه بحميمية، صافحه وعانقه بتوقير بالغ، ثم قال له يا أستاذي ألا تتذكرني؟ والأستاذ استجابته باردة، لم يعرفه. يا أستاذي – قال – ألا تتذكرني؟ ألم تعرفني؟ قال والله لا أعرفك، آسف، اعذرني. قال أنا فلان، درَّست لي في الابتدائية كذا سنة. قال لا أزال لا أعرفك. قال أنا يا أستاذي فلان، كيف؟ كيف نسيت؟ أنا الذي سرقت ساعة زميلي، حين كنت في الصف الفلاني – ربما الثاني الابتدائي أو الثالث -. سرقت ساعة زميلي، ولما دخلت الفصل، شكا زميلي، فأنت ألزمتنا بأن نقف جميعاً ووجوهنا إلى الحائط، مُغمضي الأعين، ففعلنا هذا، وبدأت في تفتيشنا. قال وسقط قلبي بين رجلي، من الفزع والخوف، لأنني علمت أنني لا محالة سأُفتضَح، أمامك وأمام المُعلِّمين وإدارة المدرسة وأمام زملائي، ولا محالة ولا مناص، لا بد سيبلغ الخبر حارتي، وسيعلم أهلي وجيراني والناس، وسأُصبِح مسخرة، يتندر الناس بي، ينعتونني باللص وبالحرامي. وطبعاً هذا المسكين طفل صغير! قال ولما أتيت لي وفتشت في جيوبي، وجدتها.

وهنا – قال – تقريباً كادت الأرض تسيخ بي، من تحت رجلي، وأدركت أن صاعقة ستحيق بي، ولأشد ما كانت دهشتي! لم يبدر منك أي شيء، بل استشعرت بعد ذلك أنك واصلت الخطوات، وقلت لآخر افتح يا ابني ما معك، ارفع يديك. وواصلت التفتيش، الله! قال حتى بلغت آخر طالب، ثم أمرت بأن نفتح أعيننا وأن نعود إلى مقاعدنا، ففعلنا، وأنا أكاد أموت من الفزع ومن هول الصدمة الآن التي ستحيق بي، إلا أنك اكتفيت بأن قدَّمت الساعة إلى الولد، الذي بكى شاكراً لك، ومضى الأمر على هذا النحو. ومرت الأيام، ولم تُبادِرني، لم تستدعني، لم تنفرد بي، لكي تُعاتبني وتؤنبني وتُذكِّرني، لم تفعل يا أستاذي، طيلة الفترة الابتدائية بعد ذلك، عبر سنوات درَّست لي! الآن بالحري تذكرتني؟ قال لا يا بُني. الله أكبر، كيف يا أستاذي؟ قال الواقعة أتذكرها بتفاصيلها، لكنني لا أتذكرك، لأنني حين فتشتكم، فتشتكم أيضاً وأنا مُغمض العينين.

عمل مثل هذا يا إخواني – والله العظيم – قد يبلغ بالعبد درجة لا تُبلَغ بعمل عادي، هذا جوهر الآدمية، قصة مثل هذه، أزعم أن الله سيُفاخِر بها، وهي قصة بسيطة من أستاذ ابتدائية، لم يحمل دكتوراة ولم يُؤلِّف كُتباً في الدين والعرفان والتصوف والتروحن، أبداً أبداً! ولم يحتكر الكلام باسم السماء. قصة مثل هذه أزعم – والله تبارك وتعالى أعلم – أن الله كان – وقد يكون فعل – سيُفاخِر بها، هناك ما هو أروع منها بمئات المرات، ولكنها على بساطتها رائعة جداً جداً، وتُرسِل رسالة إلينا جميعاً، كل واحد منكم يُمكِن أن يكون عبد الله العارف الصالح، إذا تحقَّق بماذا؟ بتواضع الآدمية، والعبودية الحقة الكاملة لله، وحرص على أن نمضي جميعاً عباداً؛ الصالح منا والطالح، المُستقيم والتائه، المُتوجِّه والشارد، إلى الله، بفقرنا وحاجتنا وافتياقنا إلى رحماته وعفوه.

اللهم اغفر لنا، وارحمنا، وتُب علينا، يا توّاب، يا غفور، يا رحيم، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين. اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا في مَن توليت. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. اللهم أعِذنا شرور أنفسنا، اللهم ألهِمنا مراشدنا، وأعِذنا من شرور أنفسنا.

نعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن عمل لا يُرفَع، ومن دعوة لا تُسمَع. ونعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة، فإنها بئست البطانة.

اللهم أكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أخرانا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم أدخِلنا يوم الحساب والدين أعلى المقامات، أنزِلنا أعلى المقامات في جنات النعيم، من غير حساب ولا سابقة عذاب وعتاب، يا أرحم الراحمين، يا ولي المُتقين، يا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تكملة مُفيدة للموضوع

 

خطرت لي خاطرة بعد الصلاة الآن أن أذكرها. أولاً هناك بُشرى نعرفها جميعا، لكن لا بُد أن نستحضرها في مثل هذه الساعات، بعد مثل هذه الخُطب والإلقاءات، وهي موضوع كما أن الإسلام – بحمد الله تبارك وتعالى – يجب ما قبله، التوبة أيضاً تجب ما قبلها. وتعرفون أن أي واحد إذا كان كافراً، وأسلم، فإن الإسلام يجب ما قبله. أجمل بُشرى أن التوبة أيضاً تجب ما قبلها. شيء جميل – بفضل الله -، حتى لا نيأس، ولا يأتي الشيطان ويدخل من هذا المدخل أيضاً، الشيء نفسه!

كل إنسان بعد لحظة مُحاقَقة ومُحاسَبة لنفسه، يرى أنه كان مُخطئاً في شيء مُعيَن، أسَّس على خطأ، مشى على خطأ، أمعن في خطأ، يُمكِن أن يقول لا بأس، سأضع نُقطة. بداية جديدة، والتوبة تجب ما قبلها، عفا الله عما سلف، ونبدأ من جديد. جائزة عظيمة جداً – بفضل الله تبارك وتعالى -. ولا يُوجَد مثل هذا في الامتحانات الدنيوية على فكرة، ولا يُوجَد الكلام هذا، ما قدَّمته لا بُد وأن تأخذ درجة عليه، لا يُوجَد هذا، لا يُمكِن أن تقول توقفت عن هذا، وأُريد أن أرجع لكي أُجيب من أول وجديد. لا، لا يُوجَد الكلام هذا، أليس كذلك؟ عند ربنا هذا موجود، وهذا موجود باستمرار، لا إله إلا الله! ولكن تبقى خطورة ماذا؟ خطورة أن تتهيأ لك التوبة، ولذلك لا تُرجئها ولا تُمعِن في الخطأ، هذا هو! لأنك إذا أرجأتها، أمعنت – كما قلنا – في الانحراف وفي الخطأ، فيصعب أن تتهيأ لك بعد ذلك، يُشرَب قلبك – والعياذ بالله – ماذا؟ تبرير المعصية، بل حُب المعصية. تكون هناك أشياء، وهي معاصي بلا مثنوية، معاصي معاصي! ولكنك تقول لا، هذا لا يهم. وتدخل حتى في الزندقة، أن هذه حرام على الناس العاديين، أنا بيني وبين ربي الأمر يختلف. وأكيد تعرفون أُناساً على هذا النحو، هناك أصدقاء ربما أو معارف، حين تقعد معهم، تعلم أنهم يرتكبون الفواحش، كالزنا! الزنا، الفاحشة، الخبث، النجس، أقذر شيء. يرتكبون الفواحش، ويقول لك الواحد منهم لا، أنا قلبي أبيض، ولا أؤذي أحداً، وما إلى ذلك. شيء غريب! هو كالمُعتقِد أن هذا بينه وبين ربه وهو مغفور له، أي أن الله يُبيح لي هذا. ما هذا؟ أبلسة تامة، أبلسة وزندقة، وهذه هي الزندقة على فكرة، وعند الله لا يُوجَد الكلام هذا، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن نكون من الذين يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ۩.

الشيء الثاني له علاقة وثيقة بهذا المعنى؛ ما الفرق بين مبدأ الإبليسية وجوهر الإبليسية، والإصرار على المعصية؟ وطبعاً مبدأ الإبليسية كشفت عنه الخُطبة، مبدأ الإبليسية التأسيس على غلط، التأسيس على شيء يخدم ماذا؟ وثنية النفس. وهذا هو مبدأ الإبليسية، هذا المبدأ! أساس الإبليسية، جوهر الإبليسية. إذن السؤال الثاني ما الفرق بين الإبليسية وبين الإصرار على المعصية؟ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩. هناك أصرار، انتبهوا! يُوجَد فرق، هذا لا يعني أن كل مُصِر على المعصية هو إبليس أو داخل في الإبليسية، لا! الإصرار على المعصية يُوشِك أن يُتاخِم الإبليسية، وأحياناً يتطابق معها ويتعادل معها، في حالة ماذا؟ في حالة مشروطة. أولاً ضعف الدواعي أو حتى انتفاء الدواعي. وهذا موضوع طويل، تفصيله يطول جداً، بمعنى ماذا؟

أي أنا لا أقدر على أن أفهم أن رجلاً أصبح على مشارف السبعين أو الثمانين – كبير في السن -، وقضى حياته على أساس أنه في العبادة والدين والمساجد والذكر والقرآن، ومع ذلك تبقى عنده بقية من الأنا القوية. أقدر على أن أفهم هذا عند الشاب، شاب لا يزال في مُقتبل عمره، عمره عشرون سنة أو خمس وعشرون سنة أو ثلاثون سنة أو خمس وثلاثون سنة، عنده أنا، فهو يقول أنا وكيف ولماذا يُخطئ في حقي ولا بُد أن آخذ بثأري وبحقي! أقدر على أن أفهم هذا، شاب والشباب شُعلة من الجنون، ولكن أنت رجل تتصرَّف على أساس أن لك في الدين سبعين سنة أو ستين سنة، فأين التواضع؟ أين التطامن؟ أين الذل لله؟ أين ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩؟ ما الذي استفدته؟ وهكذا!

إذن القضية خطيرة، داعية الشاب إلى الانتصار لنفسه وإلى الانتقام لها وما إلى ذلك، أقوى من داعية مَن؟ الشيخ. والشيء نفسه في قضية الفاحشة، وذكرناها قبل قليل. داعية الشاب إلى الفاحشة أقوى، والفاحشة فاحشة، لا يُمكِن تسويغها، ولكن أيضاً هناك فرق بين شاب يرتكب الفاحشة، وبين رجل عمره ستون أو سبعون أو ثمانون سنة ويرتكب الفاحشة. الداعية هنا أضعف، أأتيت لكي تُفهِمني أن داعيتك الآن الشهوية في مثل قوة داعية ابن عشرين أو ثلاثين؟ مُستحيل، لن يُصدِّق هذا أي طبيب وأي مُختَص، وأنت لا تُصدِّق نفسك. فالداعية ضعيفة، لماذا تُصِر؟ لا تزال تُصِر على المعصية، على الكبيرة، على الفاحشة، شيء خطير!

انظروا الآن؛ إذا الإصرار صار في قُبال الأمر الإلهي مع التذكير والمَواجَهة، واستمر الإصرار، يُوشِك أن ينقلب إلى إبليسية. بمعنى أن واحداً كبيراً في السن، قضى حياته في الدين، ونقول له يا أخي الذي حصل بينك وبين فلان هذا غلط وسوء تفاهم، أخوك أتى إليك ليعتذر، يُريد أن يعتذر، يُريد أن يُصلِح ما بينكما، اقبل وأقله عثرته، وانتهى الأمر، انتهى. ولكنه يقول لك لا، لن أرضى. ولكن الله قال ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩. فيقول لك حتى ولو قال. أستغفر الله العظيم، هذا هو! وعلى فكرة ستقول لي نعم، هذا يقع منا جميعاً تقريباً في بعض المرات، أشياء خطيرة! يُذكَّر المُؤمِن بقول الله، أن الله قال هذا، فيقول لك حتى ولو قال يا أخي. أف! هذا ليس منطق ابن آدم، هذا ليس منطق آدم، هذا ليس منطق أبينا، هذا منطق إبليس، قال له حتى ولو أنت أمرت وهم سجدوا، أنا لن أسجد، لأن كذا وكذا. انتهينا، انتهينا ودخلنا في الأبلسة، خطير جداً هذا الشيء!

الإصرار إذا وصل إلى هذه المرحلة، بل إلى هذه الوهدة، يُوشِك أن ينقلب إلى ماذا؟ إلى تأبلس، إلى إبليسية. ويُوشِك أن تحيق اللعنة بصاحبه، يُلعَن! يُختَم له بخاتمة سيئة، ويحبط عمله دون أن يدري. فانتبهوا، هذه ليست قضية لعب، وليست قضية عزة نفسي وكرامة نفسي ومَن هو ولينظر إلى نفسه ليعرف مَن هو ومَن أنا. ما هذا الكلام؟ ولماذا؟ دخلت في الأبلسة أنت إذن؟ هو وأنا؟ أنت من تراب وهو من تراب، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، اسكت، ولا يُوجَد غير هذا، هذا منطق الله، أليس كذلك؟ هذا منطق القرآن الكريم، ما معنى هو وأنا؟ مَن؟ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، أكرمكما أتقاكما، ولن يُقيم الله وزناً لكونك ابن القبيلة الفلانية أو ابن الشعب الفلاني أو لأنك حامل الشهادة الكذائية أو لأنك حافظ القرآن أو من الحفظة، هذا ليس له وزن عند الله، عند الله الوزن بالتقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، وقد يكون هو أتقى لله منك، ما هذا المنطق الذي تستعلن به في وجه النصوص الإلهية، في وجه الأمر الإلهي؟ نقول لك قال الله، وتقول لنا فلينظر إلى نفسه ليعرف مَن هو ومَن أنا ومَن هم ومَن نحن؟ ما هذا؟ ما هذا يا رجل؟ ما هذه الجاهلية؟

هذه قضايا خطيرة، لا بُد أن نقف عندها تماماً، ونُطيل النظر ونُمعِنه، في قضية ماذا؟ في قضية مُتاخَمة الإصرار، في ظروف مُعيَّنة، وبشروط مُعيَّنة، للإبليسية ولجوهر الإبليسية، شيء خطير! لأن طالما لم تبلغ هذه المرحلة، فأنت تظل – بعون الله – في قيد الرحمة، ويُمكِن في أي لحظة أن تتهيأ لك التوبة، وترجع وتُرحَم – بإذن الله تعالى -. لكن إن انحططت إلى هذه الوهدة، يُمكِن – والعياذ بالله – أن تحيق بك، أو تحيق بهذا الأبعد، لعنة إلهية، كما يحدث من بعض الناس.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 25/10/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: