إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ وَ أمِينُهُ عَلى وَحْيهِ وَصَفِيُّهُ مِنْ عِبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۩ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ۩ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ۩ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ۩ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ۩ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ۩ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ۩ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

قبل ليالٍ كنا في زيارة أخ مُسلِم نمساوي – من أصل نمساوي – وفي أثناء سياق قصه علينا حكاية إيمانه وإسلامه ذكر أنه حين تعرَّف على عظمة القرآن وصدقية الإسلام وجلال هذا الدين وحقيته جُوبِه على الفور بسؤال حيَّره وأدهشه، كيف يكون دين بمثل هذا الجمال والجلال والقوة والصدقية والحقية وتكون أمته بمثل هذا الضعف والخواء والانحطاط؟ وهذا السؤال ليس مشروعاً بل هو مفروض، هذا السؤال مفروض! 

فذكرت له أن هذا السؤال عينه هو السؤال الذي جُوبِه به من بل بلديه الشهير محمد أسد رحمة الله تعالى عليه، ومَن قرأ كُتيبه الأشهر الإسلام على مُفترَق الطرق سيقف على هذه الحقيقة، نفس الشيئ! ومن هناك كانت البداية مع محمد أسد، كيف؟ كيف يُمكِن أن يجتمع دين بمثل هذا الخصب وهذا النماء وهذه العبقرية وهذا الجلال وهذه الصدقية وأمة بمثل هذا الوضع؟

هل هذا السؤال يستحيل الجواب عنه؟ كلا، بالعكس! بل يبدو أن الجواب عنه هو من أسهل الجوابات، لكن ليست المسألة في أن نعرف الجواب، في أن نعرف الحقيقة، ليست المسألة في المعرفة وفي العلم هنا، ونحن بصدد هذه القضية الحسّاسة، الجواب هو في لفظة واحدة، إنها مسألة الإيمان، ماذا أُريد أن أقول؟ هل نحن لسنا مُؤمِنين؟ هل نحن لسنا مُسلِمين؟ هل نحن لسنا جادين؟ ليس على هذا النحو، ولكن باختصار سنُقدِّم مُقدَّمة.

قال قائل يُخاطِب مُخاطَبه أيها العاقل عليك أن تلتمس ما فيه صلاحك في معاشك بسُبل الصدق والأمانة والنُصح للخلق، أيها العاقل عليك أن تكون مُقتصِداً وسطاً مُعتدِلاً في كل شأنك وأمرك، فهذا لن يُفضي بك إلى ندامة، ولن يؤول بك إلى خُسران، أيها العاقل عليك أن تجهد في احترام الآخرين وتوقيرهم كيما تُحافِظ على مثابتك واحترامك، أيها العاقل… أيها العاقل… أيها العاقل… لكننا وجدنا أن هذا المُخاطَب المُعنوَن بعنوان العقل لم يأت شيئاً من مضمون أو مضامين هذا الخطاب أو هذه الخطابات، السؤال الآن: ما عساه الذي يبقى له من العقل؟ وهل هو حقاً عاقل أم أن المسألة تعزٍ وتسلٍ وانتساب وانتماء؟ يتعزى بأنه من العقلاء، يتسلى بأنه محسوب في زُمرة العقلاء!

يبدو أنه لم يبق له شيئ ذو بال، شيئ طائل مما يُمكِن أن يُشرِّفه بشرف الانتساب والتحقق بحقيقة العقلاء أو العاقلين من الناس، على هذا النحو نفسه علينا أن نروز وأن نسبر وأن نزن أنفسنا وأحوالنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، نحن مُؤمِنون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، وعلينا أن نتساءل على الفور هل نحن مِمَن يتقي الله ومِمَن يُسدِّد في قوله ليُسدَّد في فعله؟ مَن سدَّد في قوله سدَّده الله في أفعاله! هل نحن على هذا الوصف؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ۩ هل نحن – أعني الَّذِينَ آمَنُوا ۩ – تحقَّقنا بهذه الحقائق وانتهينا عن هذه المقابح والمناكر؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۩، هل مهدنا لأنفسنا؟ هل نحن جادون في أن نُعمِّر آخرتنا أم أن كل وكدنا وجهدنا هو في تعمير دنيانا ولتذهب الآخرة إلى حيث ألقت؟ اللهم غفراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، الآية! هل نحن مِمَن يقول ويُبرهِن قوله بفعله أم مِمَن يُكثِر القول ولا يُحسِن شيئاً من الفعل؟ 

إذَا نُصِبُوا لِلْقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا                        وَلَكِنَّ حُسْنَ الْقَوْلِ خَالَفَهُ الْفِعْلُ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، إلى آخر هذه الآيات وتُعَد بالعشرات! تتوجَّه إلينا بعنوان الإيمان، ما عساه يبقى لنا من حقيقة الإيمان بل من عنوان الإيمان إن لم نأت شيئاً من مضامين الإيمان؟ مسألة بسيطة سهلة جداً، نسأل الله الستر والتوفيق في الدنيا والآخرة، وأظن أن الله – تبارك وتعالى – سيُجابِه كلاً منا بمثل هذا السؤال البسيط جداً: ألم أُنزِّل عليك قولاً من قولي وكلماً من كلامي وقلت لك كذا وكذا؟ ماذا فعلت؟ بماذا رجعت؟ هذا كان كلامي، سيقول لنا هذا كان كلامي، هذا أمري، هذا نهيي، ماذا فعلت؟  سيقول ماذا فعلت؟ سيقول الواحد منا كنت أُحسِن الكلام والترداد والتنظير والخطابة والوعظ والتدريس والتفلسف على الناس، لكن لم آخذ نفسي بشيئ من أمرك ونهيك، كنت أتسلى بأنني مُؤمِن.

لسنا جادين أيها الإخوة، لسنا جادين! لابد من الاهتمام، الحُب، الوله، والعشق، إذا سُئلت ما هي أكبر علائم الإيمان بل ما هو روح الإيمان الساري؟ فسأقول إنه الوله والحُب والعشق، بلا حُب وبلا وله لا إيمان، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه ۩، المسألة مُرتبِطة تماماً! مَن أحب الله ورسوله وكلام الله وسُنة رسوله أُصيب بحالة وله وتدله وتتيم وشُغِف، حالة شغف حقيقي، تحمله على الاهتمام، يكون مُهتَماً بكل صغيرة، وبكل كبيرة، ينتهز كل نُهزة، كل لحظة من حياته، وكل موقف، لكي يُبرهِن لنفسه، ولكي يُبرهِن لدعوى إيمانه أنه مُؤمِن حقاً.

يا إخواني الإيمان لا يُترَك، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۩، الإيمان لا يُترَك دعوى، لا يُترَك انتساباً وتسليةً وعزاءً هكذا، لا! يُفتَن ويُمتحَن ويُسأل ويُختبَر كل يوم كما نقول دائماً في الخُطب، كل يوم! في مواقف كثيرة، فتن صغيرة وفتن كبيرة دائماً، قال – تبارك وتعالى – وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ۩، والصحيح أن الآية على عمومها بصرف النظر عن خصوص سبب نزول هذه الآية الذي هو أن أبا جهل – لعنة الله عليه – والوليد بن المُغيرة والعاصي بن وائل – حسبك من شر سماعه، والعياذ بالله، العاصي! اسمه العاصي، حسبك من شر سماعه – اجتمعوا مرةً – وبئس الاجتماع ما اجتمعوه – فقالوا لو أنا أسلمنا فكيف وقد سبقنا بلال وعمّار وصُهيب؟ هؤلاء في نظرهم المُحقَّرون المنزورون المُذَلون، مَن هؤلاء؟ نحن علية القوم وأشرافهم وعيونهم، وقد سبقنا هؤلاء وفلان وفلان! إذن لأدلوا علينا بسابقتهم، هم طبعاً ينظرون إلى الناس من خلال منظارهم هم، يظنون أن بلالاً وإخوانه وأحبابه في الله من أهل الغطرسة، من أهل التعزي، ومن أهل الانتفاج والانتفاخ بدعاوى الإيمان والإسلام والسابقة وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ، ليس المُؤمِن هكذا، بالعكس! المُؤمِن يسعى ليل نهار في فكاك رقبته، المُؤمِن لا يخشى إلا نفسه، المُؤمِن لا يخشى إلا ذنبه، المُؤمِن ليس عنده وقت أصلاً، وليس عنده ترف، وليس عنده سُخرية أو مسخرة أن يلعب بإيمانه، إنه رجل جاد، مشغوف بحُب الله، يعمل ليل نهار لكي يدنو ويزدلف إلى الله تبارك وتعالى، لكن هم هكذا أسقطوا ما في أنفسهم الخبيثة من سواد ومن لوثة على الأكابر الأماجد، أسقطوها على بلال وإخوانه وعمّار وصُهيب وأمثال هؤلاء، قالوا إذن لأدلوا علينا بسابقتهم، سيقولون نحن أفضل منكم، نحن سبقناكم، جئتم بأخرة، أي أنتم مُتأخِّرون، هذا خصوص سبب النزول، لكن الراجح أن الآية على عمومها، وهذا ما رجَّحه ابن عطية – رحمة الله عليه – في المُحرَّر الوجيز وما رجَّحه أبو حيان وما مال إليه الآلوسي وكثيرٌ من المُفسِّرين، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.

وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ۩، الفتن كثيرة! الكافر فتنة للمُؤمِن، المُؤمِن فتنة للكافر، الكافر فتنة لك حين تراه وقد وُسِّع عليه في رزقه، وأُوتيَ الأمنة أو الأمان، وأُوتيَ العلم والتكنولوجيا والراحة والرفاه، أما أنت كمُؤمِن فقد قُدِر عليك رزقك، ضُيّقت عليك أحوالك، ابتُليت بشيئ من صنوف البلاء، تقول يا رب كيف؟ هذا كافر وهذه حاله، وأنا مُؤمِن وهذه حالي! إن كان فقهك قصيراً وعطنك الإيماني ضيقاً ومنادحك ليست واسعة ستُفكِّر هكذا، أما المُؤمِن الصحيح الكامل الإيمان فله منظور آخر، يكاد المُؤمِن – يكاد – لا يرى في هذا الوجود خيراً أو شراً إلا وله وجه – أي هذا الشر – من وجوه الخير، حتى إبليس لعنة الله عليه، إبليس جعله الله مرقاةً للمُوفَّقين من عباده، حين قال لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۩، فلم نفعل، ومن ثم ارتقينا في درج الإيمان، أليس كذلك؟ يُوجَد سبب هنا وهو إبليس، ارتقينا على جمجمة إبليس بفضل الله، أراد أن يُضِلنا فلم نستجب فارتقينا، لا نقول له فضل، لله فضل، الذي خلق هذا الإبليس لعنة الله عليه، وارتقينا هكذا!

الماء الذي أغرق فرعون هو الماء الذي نجّى موسى وبني إسرائيل، أليس كذلك؟ نفس الماء! إذن لا تقل لي هذا الماء خير، ولا تقل لي هذا الماء شر، ينبغي أن يكون هذا الماء مُحايداً، ولكن ما يُحدِّد صفته ووصفه هو علاقتك بسيده – لا إله إلا هو – وبخالقه، إن كنت من أوليائه، من خلصانه، من أحبابه، ومن رجال الله تبارك وتعالى، كان هذا الماء من جُندك، قطعاً! لن تنظر إليه على اعتبار أنه خير أو شر بل هو من جُندي، مُسخَّر لي، كل شيئ سيكون جُنداً لي كرجل من رجال الله، كولي من أولياء الله، كل شيئ بإذن الله تعالى! حتى وإن رآه الناس شراً، سأرتقي به إلى الله تبارك وتعالى، هكذا المُؤمِن يُفكِّر!

ولذلك هو يعبد الله الرافع الخافض، المُذِل المُعِز، الذي يُؤتي والذي يأخذ، يعبد الله هكذا! يعبد الله بكل هذه الصفات وبكل هذه المُتقابِلات وهذه الثنائيات، ولا يعرف الله إلا بها ومن خلالها، حين تعمل معاً، لا حين تعمل تفاريق وفرادى، هذا المُؤمِن الذي فقه القرآن وعرف الله – تبارك وتعالى – وتدرَّج في عرفانه سُبحانه وتعالى، أما المسكين منقوص الإيمان، منزوع اليقين، فسيري فيها فتنة وربما يرسب في الامتحان، المُؤمِن فتنة للكافر، لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۩، سيقول بالعكس! سيقول البعيد أو الأبعد عن نفسه إنه بروفيسور Professor كبير وعنده ثلاث أو أربع شهادات في العلوم وفلسفة العلوم، وسبعون مُؤلَّفاً، كيف لم يهتد إلى هذا الحق؟ ودرس الأديان المُقارَنة! أفيهتدي هذا الصعلوك العربي أو الزنجي الإفريقي أو الإندونيسي أو الماليزي أو الصيني إلى دين يُزعَم أنه حق وأضل عنه أنا؟ مُستحيل، هذا كلام فارغ، فتنة! قال – تبارك وتعالى – وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۩، أهؤلاء عرفوا ما لم نعرف وأدركوا ما لم نُدرِك؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ۩، المسألة ليست في الفلسفة وفي العقل وفي المعلومات، المسألة في هذه اللطيفة، في القلب! انتبهوا، هذه من حقائق الإيمان العالية، ليست في المعلومات ولا في العقل الوضيء الذكي مع ما له من شرف طبعاً ومثابة، قبل ذلك وبعد ذلك ومع ذلك في هذه اللطيفة.

حدَّثناكم مرة عن موسى – عليه السلام – حين سأله الله – تبارك وتعالى – يا كليمي أتدري بِمَ اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وجُعِلت من الشاكرين؟ قال لا يا رب، أنت أعلم، قال نظرت في قلوب العباد فلم أرد قلباً أشد انكساراً وأكثر تواضعاً من قلبك ولم أر امرأً أصغر في نفسه منك فاصطفيتك، كان يرى نفسه سيئاً، موسى! كان لا يرى نفسه شيئاً، يرى أن كل الناس أحسن منه، ومن هنا أحبه الله، هذه العبودية، هذا معنى أن تكون عبداً، أن تُدرِك ما معنى أن تكون عبداً، معنى أن تكون عبداً أنك لا شيئ، لا تملك شيئاً، ليس لك شيئ، ليس منك شيئ، ليس بك شيئ، ليس عندك شيئ، هذا معنى أن تكون عبداً، بدليل أنك يُمكِن أن تُسلَل كل شيئ في لا شيئ من الزمان، في لحظة! أليس كذلك؟ لماذا تتغطرس إذن؟ لماذا تعقد مُقارَنات بينك وبين الآخرين؟ لِمَ ترى نفسك والعياذ بالله؟ لِمَ؟ لأنك جاهل، لأنك لست عبداً لله، ضعيف! ضعيف بغرورك، بغطرستك، وبجهلك، حين تتعرَّف الله تكتسب قوة التواضع بالإيمان، قوة العبودية، أكبر ما يُشرَّف به الإنسان لقب العبودية.

نعود إلى قضيتنا، إذن هذه هي المسألة، مسألة الإيمان! لو كنا جادين في إيماننا لخلق هذا الإيمان مواجيده، لأوجد ذائقته، الإيمان له ذائقة، مُباشَرةً يُصبِح المُؤمِن له مِزاج خاص، ذائقة خاصة، لا يستحلي إلا ما استحلى الله تبارك وتعالى، لا يستحسن إلا ما استحسن الشرع، لا يُقبِّح إلا ما قبَّح الشرع، تستيقظ فطرته من غير تعليم، فقط بالإيمان الصادق، بالوله، بالعشق، بالمحبة لله تبارك وتعالى، وبصدق التوجه إلى رب العالمين ذي العزة والجلال، جل مجده وعز جاهه وعظم ثناؤه، سُبحانه وتعالى، هذا هو مُباشَرةً! علماً بأن هذا معنى ان تكون مُؤمِناً، هذا معنى أن تكون مُؤمِناً، الإيمان له منطقه أيضاً، له مُحاكَماته، وله مُوزَاناته وترجيحاته بذاته لو تحقَّقنا به.

والقضية التي شغلت أهل الأديان الأُخرى – اليهود، النصارى، اليهود، البوذيون، وأهل كل الأديان السماوية والأرضية – هي قضية إشكالية كُبرى، قضية الإيمان والعمل، لأيٍ منهما الأولوية؟ إلى أيٍ منهما ينبغي أن ننحاز؟ هذه القضية بالمنطق القرآني – ليس بمنطق المُرجِئة ومنطق الخوارج والمُعتزِلة أبداً، إنما بالمنطق القرآني – قضية فارغة لا معنى لها، وهي غير مطروحة في نطاق البحث، غير مطروحة على بسيط أو بساط البحث أصلاً! لماذا؟ لأن الإيمان لا يكاد يفترق عن العمل وعن مواجيده وذائقته ومُقتضياته في كتاب الله تبارك وتعالى، باستمرار! ائتوني بموضع جاء الإيمان فيه وحده هكذا، حتى حين يأتي وحده تأتي معه إشارات تدل على ما يقتضيه هذا الإيمان، باستمرار! قضيتنا أننا قمنا بهذا التفكيك عبر التاريخ، عبر الانحطاط الروحي، ليس الانحطاط الحضاري فقط وإنما الانحطاط الروحي أيضاً، والانحطاط الروحي يعني بالضرورة انحطاطاً حضارياً، وإن شهقت البنايات واستبحرت العلوم والمعارف والفلسفات، لا! هذا انحطاط حضاري أيضاً، كهذا الانحطاط الذي تعيشه البشرية الآن، انحطاط حقيقي والعياذ بالله، انحطاط حقيقي! لأنه يُترجِم انحطاطاً روحياً لهذا الإنسان التائه الضال، والذي يُمارِس الإضلال عن بينة وعن إرادة وعن خبث إبليسي، بل فاق إبليس نفسه والعياذ بالله تبارك وتعالى، قدر على ما لم يقدر عليه إبليس من قبل، هو لم يقدر وحده وبحياله، لكن قدر عليه هذا العقل المُفكِّر، عقل خليفة الله أو الذي ينبغي أن يتحقَّق بخلافة الله تبارك وتعالى، فهذه قضية الإيمان!

إذن نعود مرة أُخرى إلى ليس منا، ماذا أراد النبي بأمثال هذه الأحاديث المُبارَكة؟ ليس منا مَن فعل، ليس منا مَن اتصف بكذا، ليس منا مَن ترك كذا، كما قلنا أحاديث كثيرة تتدرج من مسائل الاعتقاد صعوداً إلى مسائل السلوك اليومي البسيط في القضايا الصغيرة نزولاً، ليس منا! في قضايا الاعتقاد، قضايا العبادة، قضايا التربية والأخلاق، وقضايا السلوك اليومي البسيط، كله: ليس منا، ليس منا، ليس منا!

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُريد أن يحكم على عقيدة الإنسان، يُريد أن يتحدَّث عن ماذا؟ عن روح المُجتمَع، عن روح الأمة، عن حضارة الأمة وثقافتها، أنا مُتأكِّد وأنا مُوقِن بهذا، وهذا لم يكن يخطر لنا على بال قبل سنوات طويلة، كنا نظن أن النبي مُجرَّد آلة، الله يُوحي إليه وهو ينطق بما يُوحى إليه، كأنه آلة سلبية، أعوذ بالله! حاشا لله يا أخي، وتنسب الفكر والعبقرية والرؤية والاختصاص لمَن؟ للمُفكِّرين والفلاسفة والمُجدِّدين، أعوذ بالله! كل هؤلاء يُنفِقون من كيس محمد صلى الله عليه وسلم، هو إمامهم وهو أمامهم، هو قائد الكل، هو مُقدَّم الركب، هو مُمسِك بالأزمة، صلى الله عليه وسلم، بالعكس! النبي قطعاً كان ينطلق من رؤية واضحة، تُريد أن تبني أمة وأن تُؤسِّس لثقافة وأن تُركِّن أركان حضارة سماوية أرضية، سماوية أرضية في نفس الوقت! إلهية ربانية بشرية، كان يعلم هذا!

وكان يعلم – صلى الله عليه وسلم – أن هذا رهن بترسيخ أُطر للقيم ومجموعات ومضمونات للقيم أيضاً، تتدرج – كما قلنا – مما هو أعلى إلى ما هو نازل، كان يعلم هذا ويُؤكِّده دائماً، ومن هنا تغليظه وإيثاره هذا التعبير الشاق الشديد الصادم: ليس منا، لست منهم، ليس مني مَن فعل كذا وكذا، حتى نعلم أن بقاء هذه الأمة وبقاء روحها وبقاء ثقافتها وحضارتها رهن  بالالتزام بالذات في أمثال هاته الشؤون والمسائل، والنبي يقصد هذا تماماً، صلى الله عليه وسلم.

قلنا في الخُطبة السابقة الإطار الجامع لكل أولئكم هو ماذا؟ هو الاعتصام بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وكل ما أنكره الشارع كتاباً وسُنةً فهو مُنكَر، لابد أن نتواصى بإنكاره، حتى نُحافِظ على ماذا؟ على كينونتنا الجماعية الأممية، على حضارتنا، على روح المُجتمَع، متى يضمحل المُجتمَع المُسلِم؟ متى تذوب الأمة المُوحِّدة المُسلِمة؟ حين تبدأ تنجم نواجم – نواجم جمع ناجمة، ناجمة من هنا وناجمة من هنا وناجمة من هناك وناجمة من هنالك – تنعزل وتعتزل ولا تفي بحق الوفاء لبعض هذه القيم الروحية، ثم يتطوَّر الأمر إلى تمرد على هذه القيم، ثم ينحط الشأن إلى استبدال – والعياذ بالله – قيم دُنيا – قيم أهوائية، شهوانية، مصلحية، عصبية، ونسبية – بهذه القيم الإلهية التي أسَّست للأمة، حينئذٍ لا يبقى من المُجتمَع المُسلِم إلا اسمه كما يُقال، وبقية آثار ضحلة مُضمحِلة لا تُساوي شيئاً، ولا تُجدي شيئاً، كحال الأمة اليوم تماماً إلا ما رحم الله، لسنا نتحدَّث عن أمة إسلامية حقيقية وعن جيل حقيقي، لا تستطيع! هناك فراغات كبيرة جداً لا تسمح لك بأن تُطلِق هذا القول التمجيدي الاحتفالي وأنت مُطمئن، لا! ليس لك ذلك، المسألة أصعب من هذا بكثير، والنبي أشار إلى هذا أيضاً في خُطة عامة حين قال – صلى الله عليه وسلم – أيها الناس كيف بكم إذا طغت نساؤكم وفسق فتيانكم؟ عجيب! طبعاً إذا المرأة – وهي الزوجة وهي الأم المُربية أيضاً، نصف المُجتمَع – طغت – والعياذ بالله – فسيختل الأمر، ليست تعرف التزاماً بحق ولا وفاءً لعفة ولا قياماً بالحقوق دين ودعوة، لا يهمها كل هذا! كل ما يهمها أن تقضي ثلاث ساعات أو أربع ساعات يومياً أمام المرآة، تأخذ زينتها لكي تكون امرأة الشارع وليست زوجة رجلها والعياذ بالله، شيئ عجيب! النبي قال هذا طغيان، أيها الناس كيف بكم إذا طغت نساؤكم وفسق فتيانكم؟ راع هذا الصحابة، لقد راعوا من هذا الحديث النبوئي، هذه نبوءة عجيبة، يا رسول الله أوكائنٌ هذا؟ قالوا هل هذا سيحصل والعياذ بالله؟ قال نعم، وأشد منه، أي سيكون، وأشد منه! كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؟ انظر إلى التدرج، كأنه يقول حينئذٍ لن تُبالوا بالةً بما تروه من طُغيان نسائكم وفسق فتيانكم، لن تهتموا حتى بهذا، يسمع أن ابنه – والعياذ بالله – يُصاحِب ولا تهتز فيه شعرة، يقول لك هذا شاب، وسيعود ويرجع، الفرع سيرجع إلى أصله، سيرجع إلى أصله، ما شاء الله! بئس الأصل، والله بئس الأصل، أهذا أصله؟ بئس الأصل، بعد ماذا يا أخي سيرجع؟ بعدما تجف المياه وتنمو ضفادع النهر سيرجع، بعد أن يكون احتقب كل الأوزار وتخرَّب ضميره وضاع دينه وضلت فطرته، بماذا سيرجع؟ قال الفرع سيرجع إلى أصله، كما رجع أبوه – ما شاء الله – بعد خمسين سنة هذه الرجعة السيئة التي أملت عليه ودفعته أن يقول سيرجع، ما شاء الله! أهذا دين؟ أهذا دين محمد؟ هذا كلام فارغ! لن يُبالي لأنه ليس من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر والنُصح لله ولرسوله وللمُؤمِنين، ليس من أهل الدين إذن، ليس من أهل الدين الحقيقي، ليس من أهل الإيمان الحقيقي، إيمان الوله والعشق والمحبة والشغف، أحياناً أقول – والله يا إخواني – واحسرتاه علينا، أحياناً أقول يا الله لو أنك تمن علينا بأن نُحِبك ونُحِب كتابك ودينك على الأقل نصف ما نُحِب المال، سأكون معكم صريحاً، نصف ما نُحِب المال! والله لكنا خير حالاً مما نحن الآن علينا مليون مرة، ستقولون لي إلى هذه الدرجة الوضع بئيس؟ والله وأبأس، والله نُحِب المال أكثر بكثير مما نُحِب الله ورسوله وكتابه ودينه، ونبيع الله والدين، لا أتحدَّث عن الجميع، أتحدَّث عن الكثيرين للأسف الشديد، ولذلك قلت لكم الإيمان يُمتحَن، يُمتحَن بالفقر والغنى، يُمتحَن بالرضا والغضب، المُؤمِن الذي إذا أغضبته نطق بالباطل ليس مُؤمِناً كاملاً، ليس كافراً لكنه ليس مُؤمِناً حقيقياً، النبي كان يبتهل إلى الله أن يُلهِمه النطق بالحق في الغضب والرضا، حتى حين أغضب منك وأغضب عليك لن أفوه بحقك إلا بما يُرضي الله، بعض الناس ليس كذلك، إن رضيَ عنك قال أحسن ما يعلم، وإن سخط قال أسوأ ما يعلم، إنه مُنافِق، هذه علامة المُنافِق، علائمه أربعة، منها إذا خاصم فجر والعياذ بالله! اختبر نفسك بهذه العلائم، هكذا يُمتحَن الإيمان، يُمتحَن الإيمان بالأمانات، هل نفي بالأمانات أم نخونها بما فيها أمانات الأسرار والمجالس؟ المجالس بالأمانات! هل نخون ونفشي ونأكل ونغل الأمانات؟ أكثر ما يُمتحَن به الإيمان هو المال والنساء، أنا أقول لكم هذا بوضوح، بالرغبة والرهبة، بالشهوة! هذا أكثر ما يُمتحَن به الإيمان، هنا يعرف المرء إيمانه، أيضاً بالحظوظ والقسم، بالحظوظ والقسم والأرزاق يُمتحَن، بعض الناس مُؤمِن، تقي، مُصلٍ، صائم، زكى، حج، اعتمر، وباسط اليد بالعطايا، لكنه مفتون أيضاً، بماذا مفتون المسكين؟ سقط في الامتحان! بماذا هو مفتون؟ بما رزق الله غيره مما لم يرزقه بمثله، ماذا تُريد يا أخي؟ أتُريد كل شيئ ما شاء الله؟ قل الحمد لله، منّ عليك بأن عرَّفك ودلك عليه، وأنت تُصلي وتصوم وعندك مال وتُزكي، الحمد لله، ماذا يُريد؟ يُريد علم فلان وجمال فلان وقوة فلان ومنصب فلان وشُهرة فلان وحظوة فلان عند الخلق، ماذا تُريد يا أخي؟ أتُريد أن تكون إلهاً صغيراً زائفاً؟ هذا كلام فارغ، ارض! إذن لست مُؤمِناً حقيقياً، المُؤمِن قانع، المُؤمِن راضٍ، المُؤمِن لا أقول يتسلى بل هو ينتشي، هو في حالة نشوة، في حالة عشق حقيقي مع الله تبارك وتعالى، أستغفر الله على هذا التعبير، ولكن أُريد أن أُقرِّب المعنى، هذا يُفنيه ويُلهيه عن كل الدنيا وما فيها، والله العظيم! لا يرى مَن هو أسعد ولا مَن هو أغنى منه، لا تهمه هذه المسائل، إذن هذه فتنة، يُمتحَن بها الإيمان، فإما ترسب وإما تنجح، انتبه!

كان الإمام عبد الرحمن بن القاسم من أكبر أئمة المالكية، وهو تَلميذ الإمام مالك، اختص به عشرين سنة، وله اليد الطُولى في نشر مذهب الإمام مالك، معروف ابن القاسم، ابن القاسم وابن وهب وأشهب، ثم بعد ذلك تأتي الطبقة الثانية، سحنون وأمثاله، هؤلاء معروفون! كان الإمام ابن القاسم هذا إذا رأى الإمام أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري – إذا رأى أشهب – يقول له شيئاً، وأشهب كان أصغر منه سناً، وكان أيضاً تتلمذ لمالك، لكنه كان يُسامي عبد الرحمن وربما بذه أحياناً في العلم، عطايا من الله تبارك وتعالى! جاء بعده ولكنه ساواه وربما أحياناً سبقه، سُئل سحنون – وقد تتلمذ لهم جميعاً، هو تَلميذ ابن القاسم وتَلميذ أشهب – أيهما أفقه؟ قال كانا كفرسي رهان، فربما وُفِّق هذا وخُذِل هذا، وربما خُذِل هذا وُوفِّق هذا، مرة هذا ومرة هذا! انظروا إلى الصدق والصدقية والإيمان الناجح في الاختبار، كان ابن القاسم إذا رأى أشهب يتلو أمام الناس وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۩، يقول هذا فتنة لي، أنا أعرف أنني مفتون به، ولكن – إن شاء الله – سأنجح، وفعلاً نجح في الامتحان، كان يعترف، لا يقول لا، بالعكس! هذا ما يُحرِّك في شيئ، أنا لا أهتم به، بالعكس! هذا جاء بعدي وأنا اعلم أنه كذا وكذا، لا يقول هذا، يقول فعلاً هو جاء بعدي وهو أصغر مني سناً لكن الله فتح عليه فتوحات وهذا حرَّك شيئاً في قلبي، يُريد أن ينفجر بركان الحسد، لكن أنا سأزمه، سأخطمه، ولن أسمح له!

بعض الناس – انتبهوا – يعيش عشرين سنة في الإسلام أو ثلاثين سنة في الإسلام دون أن يصل إلى شيئ، هذا الذي يُمرِّر كبد الإنسان، وأنا أولكم، أنا من هؤلاء الناس طبعاً، لست استتثناءً لأنني هنا أبداً أبداً، ولا أقول هذا تواضعاً، الذي يُمرِّر الإنسان ويُحزِنه حين يسأل نفسه هذا السؤال، أنا لي ثلاثون سنة في الإسلام، إلى ماذا وصلت؟ انتبه! لا تسأل نفسك كم ركعة ركعت، قل إلى ماذا وصلت مع الله؟ ما هي حالك الآن مع الله؟ والله لو كان الإنسان – أكرمكم الله جميعاً، لا أُحِب أن أقول كلباً – هرةً – أي قطة – ونشأت وترعرت في حجر واحد من الناس عشرين سنة لأحبها كما يُحِب أبناءه، وهي في ذلك وفية له طبعاً ومُخلِصة لعهده، فكيف بإنسان في حضرة رب العالمين من ثلاثين سنة؟ صلاة وقرآن وصيام وذكر وارتياد ومساجد وسماع علم وتعليم مع صدق وإخلاص وتحقق، أين سيبلغ؟ أين سيرتقي؟

أنا أعلم أنني أحزنتكم بهذا السؤال، لأنني حزين أيضاً به، أحزنتكم! وسيحزن كل صادق حين يسأل نفسه هذا السؤال، فعلاً سيقول نعم، بعد هذه السنوات أين أنا من الله؟ هل لي حال حقيقية مع الله؟ هل لي سر صادق مع الله تبارك وتعالى؟ هل بدأت اتحقَّق بالعرفان الحقيقي أم أنني كحمار الرحى يلف ويدور والمكان الذي انتقل إليه هو المكان الذي انتقل منه؟

يقول مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره – إن فأراً أحدث في مخزن غلالنا نقباً – افهموا هذا الشعر، طبعاً هذه ترجمة معنى، كان يشعر بالفارسية، وهو من أشعر شعراء الدُنى، قدَّس الله سره الكريم، لكن هذه ترجمة المعنى، مع أنها ترجمة غير شعرية والله تقف لها أشعار الفاقهين،  لمَن يفقه المعنى، تستنزف المآقي، لمَن يفقه المعنى، يقول إن فأراً أحدث في مخزن غلالنا نقباً -، وإلا فقل لي بعد أربعين سنة – وحدَّد هذه المُدة لأنها واردة في الأحاديث – ونحن نُخزِّن الغلال أين حبوبنا؟ أين حبوبنا؟ أربعون سنة على أساس أن لنا حالاً مع الله ومُعامَلة وعبادة، أين أحوالنا؟ أين مقاماتنا؟ أين دعوة مُستجابة لأحدنا؟ أين تلذاذ بمُناجاة الله؟ أين وله بحُب الله وبكلام الله؟ أين سطوة ونفاذ في قول الحق والقيام بالحق وتذكير الناس بالحق وإشعال مجامرهم وإلهام قلوبهم الجامدة المُتجلِّدة؟ أين؟ أربعون سنة! أين النتيجة؟

أنا أقول ليس هناك نقب واحد ولا ثقب يتيم، هناك نقوب وثقوب فينا، في مخزن قلوبنا! نحن مُثقَّبون دون أن ندري، على كل حال إن أصابنا الحزن الآن والوجد فنحن على خير، إن لم يعننا الأمر كله فنحن بئس مَن يقول أنا أو نحن والعياذ بالله، نسأل الله أن يمنّ علينا، نسأل الله أن يجذبنا إليه بجذبة تُنسينا حظوظ أنفسنا وتُفنينا عن الشهوات وتُبرئنا وتشفينا من أمراضنا وأدوائنا وعللنا وأسقامنا التي برَّحت بنا، أي والله! أفسدت علينا ديننا ودُنيانا.

نعود إلى ما كنا فيه أيها الإخوة، قال نعم، وأشد منه، أي سيكون، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؟ قالوا يا رسول الله أوكائنٌ هذا؟ مُستحيل هذا! كيف؟ هل سنُمسَخ؟ هل نحن سنكون بهائم؟ هل سنُمسَخ شياطين وأبالسة وقردة؟ هل سنترك الأمر والنهي؟ قال نعم، وأشد منه، كيف بكم إذا رأيتم المعروف مُنكَراً والمُنكَر معروفاً؟ والله والله بعض الناس يا إخواني – بعض المُسلِمين وبعض روّاد المساجد – يُنكِر على مَن يقول كلمة الحق، يقول لماذا هذا يُجازِف؟ لماذا هو مُتحمِّس؟ ماذا يُريد من هذا؟ ماذا يُريد؟! يُريد أن ينقذك من جُبنك ومن مصلحيتك ومن نفاقك ومن ضعفك وضعيف شخصيتك واضمحلال كينونتك ومن العبث الذي تعيشه، لكنه لا يُعجِبه! يقول لماذا يُجازِف؟ بعض الناس يقول لماذا يُشدِّد على أهله وعلى أولاده؟ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ۩، لا يُشدِّد! لا يُشدِّد لكي يُعنِتهم، يُريد لهم الخير، الراحة يُريد لهم، والطفل لا يُترَك وشأنه، لا يعرف خيره من شره، وأكثرنا أطفال ولكن لا يعلمون، ينبغي أن يُؤخَذ على أيديهم وأن يُذكَّروا وأن يُشدَّد عليهم، لأن الواحد منهم يفعل – والعياذ بالله – في إهلاك نفسه دون أن يدري، كالطفل الصغير! فلابد أن يُحمَلوا على هذا الخير بالزواجر، بالقوارع، وبالدمدمات والتثريبات، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، فبعض الناس هكذا، يرى المعروف مُنكَراً والمُنكَر معروفاً!

أكثر من أخت سمعت عنها وبعضهن قلن لي – والعياذ بالله – الآتي، انظروا إلى هذا، حيا الله هؤلاء الأخوات، كثَّر الله من أمثالهن، أمة محمد فيها خير والحمد لله، وإن ندر، لكن فيها! وأعرف إحداهن وهي على درجة فائقة من الجمال، عندها جمال فتّان والله! يتمناها كل عاقل، قالت خُطِبت وليس لي شرط إلا أن يكون ديّناً، لا أُريد لا مال ولا فيلا ولا سيارة ولا منصب ولا شهادة، أُريد أن يكون ديّناً فيتقي الله، قالت وإذا به هو يرفضني، لماذا؟ لأنني مُحجَّبة، يقول شرط أن أقبل بكِ أن تنزعي هذا الحجاب، بئس المُخنَّث أنت، بئس الديوث أنت أيها الديوث، أيها المُصاب بعُقدة نفسية، والعياذ بالله، هل هؤلاء رجال؟ هؤلاء أشباه الأوادم، أي أشباه بني آدم، هؤلاء ليسوا رجالاً أصلاً، ليسوا عرباً، أبو لهب أشرف منهم، أبو لهب لم يكن يرضى بهذا لزوجه أم جميل، مُستحيل أن يرضى لها أن تخرج مُتبرِّجة داعرة، ما هذا؟ ما هؤلاء الرجال؟ ثم يقول لك أحدهم بالعكس والله هو أحسن من الإمام أبو حامد الغزّالي، قلبه أبيض من قلب أبي حامد الغزّالي، هو شيخ الإسلام، أي هذا الديوث المُخنَّث، شبه الرجل! على الأقل لو سكت لكانت هذه نصف مُصيبة، لكن كيف يشترط عليها أن تنزع الحجاب؟ أن تكون زوجته بلا حجاب نصف مُصيبة، ربما هو يتمنى الحجاب لكنه يخاف من ألا ترضى هي، يخاف أن يشرط عليها فتطلب الطلاق، بعض النساء هكذا مُشاكِسات والعياذ بالله، شيطانات! فلا نتكلَّم عن هذا المسكين، نسأل الله له العفو والعافية في زوجه بالذات، هذا المسكين عنده فضل وعنده خير، لكن ينبغي أن يجتهد أيضاً في هذا الأمر، لكن أن يشترط أن تنزع حجابها أمر غير مفهوم، إذن صدق الصادق المصدوق الذي لا يقول إلا صدقاً وحقاً، قال هل أنتم مُستغرِبون من هذا؟ قال لا، سيأتي زمان يأتي فيه كذا وكذا.

هذا الحديث الذي تلوته أخرجه أبو يعلى المُوصلى في مُسنَده، وإسناده فيه ضعيف شديد وهذا واضح، وأخرجه الطبراني في الأوسط، لكي نكون صادقين علمياً، وهناك حديث الإمام أحمد الذي أخرجه عن أبي هُريرة، وقال فيه العلّامة المصري أحمد شاكر – رحمة الله عليه – إسناده حسن ومتنه صحيح، قال – صلى الله عليه وسلم – ستأتي على أُمتي سنون وفي رواية سنوات خدّاعة، في بعض ألفاظه قل سنون خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، كيف حدث هذا الانقلاب في القيم؟ انتبهوا! كيف حدث هذا الانقلاب في القيم؟ بترك الإطار، الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر! هذا إطار المُحافَظة وتعزيز القيم، تركناه فانقلب الأمر، حدث انعزال ثم تمرد ثم استبدال فانتهى كل شيئ، افتحوا التلفاز، أتحدى مَن عنده شرف وعنده عقل وعنده رؤية أن يمر فقط دقائق دون أن يتقزَّز، هو طبعاً لا يقف، المُؤمِن الصادق لا يقف، مُستحيل أن يقف على هذه التعاسة والبذاءة وقلة الأدب والمسخرة والوساخة والقرف، شيئ مُقزِّز، أُقسِم بالله أحياناً أشعر بأنني أُريد أن أتقيأ، أُقسِم بالله! من أفلام العرب، من كليبات – Clips – العرب، من أشكال العرب والعربيات الدعّار على التلفزيون Television، يا أخي دعارة، دعارة! ما هذه الدعارة والوساخة؟ أقول أهؤلاء هم العرب؟ أهؤلاء هم المُسلِمون؟ كيف وصلنا إلى هنا؟ أكثر ما أُشفِق عليه بعد عشرين سنة إلى أين سننحط؟ أحياناً نقول إذا كنا سننحط ولن يكون لنا دور فنسأل الله ألا نبلغ هذا، نسأل الله أن يأخذ وديعته، هذا أحسن! هذا أحسن من أن نعيش، ما هذا؟ شيئ غير معقول يا إخواني، غير معقول! لا نتكلَّم عن الأجانب، الأجانب أجانب، لكن هؤلاء مُسلِمون، الآن طبعاً أصبح من العاديأن ترى شيخاً كبيراً جليلاً ليس عنده أي مُشكِلة في أن يلتقي مع واحدة شبه عارية، لكي يقوم بعمل لقاء ديني عن تقوى الله وعن ولاية الله وعن الورع وعن مقامات العارفين، مع شبه عارية! حتى هو لا يستحي من نفسه، وهي لا تستحي ولا صاحب القناة ولا صاحب البرنامج ولا المُخرِج ولا المُنتِج ولا مَن يُشاهِد، أصبحنا أمة مجنونة حقيقةً! فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩، لِمَ لا نكون واضحين مع أنفسنا ومع غيرنا؟ لا يُوجَد وضوح، الأمور اختلطت بالكامل! قال ويُخوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، تصغير الرابض أو الرابضة، والتاء للمُبالَغة كداعية وعلّامة، الرابض! مَن هو الرابض أو الرابضة؟ القاعد عن معالي الأمور، إنسان فارغ، لا يُحِب أن يطلب العلم ولا أن يطلب الحق ولا أن يستزيد من عبادة ولا أن يفعل خيراً ولا أن يُساهِم في دعوة، ما هذا؟ قاعد كالبهيمة – أكرمكم الله – يأكل ويشرب ويُسافِد، لن نقول حتى أكثر من هذا، كالبهيمة! هناك بهائم كثيرون، هؤلاء أشباه بني آدم، كالرابض! وهذا الرابض ربما عنده بعض المال، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ۩ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ۩، عنده بعض المال، قاعد عليه وعلى ريحه كما يُقال، وهو شاطر في أن يغمز الناس، يقول هذا يُعجِبه وهذا لا يُعجِبه، هذا الشيخ يقول كلاماً فارغاً وهذا العلّامة جاهل، مَن أنت أيها الرابضة؟ 

دعِ المكارم لا تَرْحلْ لبُغْيتها                         واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي.

هذا هو! هو ماذا عنده؟ عنده كيس فلوس، كيس مقابح وسفالات، النبي قال وينطق الرويبضة، هذا يصير عنده منطق، يُمكِن أن يُصبِح رئيساً للوزراء، انتبهوا! يُمكِن أن يصير رئيساً بعد أن يترشَّح للرئاسة، يُمكِن أن يُعهَد إليه بمُلك، يُمكِن أن يضع دستوراً للأمة، هذا الرابضة! الآن اسأل العرب كيف تُشترى الأصوات؟ وسوف يقولون لك عادي، هل تُحِب أن تُصبِح برلمانياً؟ يُمكِن هذا بالفلوس، هل تُحِب أن تُصبِح وزيراً؟ يُمكِن هذا بالفلوس، هل تُحِب أن تُصبِح رئيساً للوزراء؟ يُمكِن هذا بالفلوس، ما هذا يا أخي؟ وما حرصك على أن تكون رئيساً للوزارة وأنت رابضة؟ يقول لك هذا منصب، يُريد أن يتصوَّر، مريض معلول! ستنتهي حياته وهو مريض، ولا يدري أنه مريض، ما هذا؟ لذلك هذه الأمة انحطت، ثم نسأل كيف انحططنا إلى هذه المُستوى؟ هذه الأمة مُنحَطة، قيمها، عقلها، تفكيره، ومِزاجها مُنحَط، المِزاج مُنحَط، أمة معلولة، مُصابة بكل الأمراض النفسية والعقلية دون أن تدري، قال وينطق الرويبضة، الصحابة لم يفهموا، قالوا يا رسول الله ما الرويبضة؟ هم يعرفون الرويبضة لُغةً، لكن ما المقصود بالرويبضة؟ قال الرجل السفيه يتكلَّم في أمر العامة، وفي رواية الرجل التافه يتكلَّم في أمر العامة، رجل تافه لم يذهب ولم يجئ لكنه يتكلَّم على مُستوى الأمة، يُريد أن يقوم بعمل خُطة خمسية ويقول إنها لرفع الأمة، مَن أنت؟ لماذا أنت بالذات؟ حتى أنا أقول مثل هذا الكلام في حق بعض الدُعاة، سيُقال لنا ولكن هذا الداعية يا أخي – إن شاء الله – على خير، الله هدى على يديه الكثيرون، هذا جميل وليس عندنا مُشكِلة، لكن لماذا يبرز هؤلاء ويسكت مَن لا يصح أن يكون ولا يجمل به أن يكون تَلميذاً عند تَلاميذ تَلاميذه؟ لماذا يسكت العلماء الكبار ولا يُسمَع لهم صوتاً؟ ثم يتكلَّم هؤلاء الجهلة باسم الدين ويفتنون الناس أحياناً بجهلم في دين الله، لأنهم جهلة، لأنهم جهلة وأدعياء!

أعجبني ما قاله أحد المشايخ الفضلاء، قال كنت مرة في زيارة فقالوا هذا فلان المُهتدي، هذا الفنان المُهتدي فلان الفلاني، فقلت يا حيهلاً، أهلاً وسهلاً، ثم قلت أسمع صوتاً بالداخل، فقالوا زوجته تُعطي درساً، فقلت غريب جداً، لماذا تُعطي درساً؟ هي فنانة، أكيد في الأشهر أو السنوات التي تابت فيها لم تُحسِن – ولا تزال إلى الآن لا تُحسِن – قراءة كلام الله فضلاً عن أن تُعرِبه، هذا يستحيل طبعاً، ولا تستطيع أن تُخرِّج الأحاديث وأن تحكم عليها، هذان يستحيلان، مائة مُستحيل! قال لماذا هو عنده درس وهي عندها في الداخل درس؟ قال هل هذا يعني أنهم كانوا مشاهير باسم الفن، وإذا صاروا إلى الدين فلابد وأن يكونوا أيضاً مشاهير؟ فالمسألة فيه قدح في الإخلاص، أنت كنت مشهوراً كفناناً، أنت الآن إنسان مُلتزِم، لست مشهوراً يا حبيبي، كُن إنساناً عادياً وتعلَّم من مشاهير العلم، أنت قضيت ثلاثين سنة في الفن وقلة الأدب، هذا قضى ثلاثين سنة في العلم، اجلس بين يديه وتعلَّم، كُن تَلميذاً وتشرَّف بهذا، لكن هو لا يُريد هذا، وهو فنان هو أستاذ، وهو مُهتدٍ جديد أيضاً هو شيخ وأستاذ، ما هذا العبث؟ هل فهمتم العبث الذي نعيشه؟ ونحن مبسوطون بأنفسنا، نقول هذا مُمتاز، الله هداهما، ما شاء الله، زوجته داعية، داعية ماذا يا أخي؟ نحن جهلة، نحن أمة جاهلة، والله أمة جاهلة! لم يبق إلا أن يخرج إبليس أو جحا حتى من قبره لكي يلوث عمامة على رأسه ثم يأتي ويُدرِّسنا ديننا! نقبل كل مَن تزّيَ بهذا الزي وترَّسم بهذا الرسم، ما هذا الفراغ؟ ما هذا الخواء؟ ما هذا العبث الذي عندنا؟ لأننا لسنا جادين، أعود مرة أُخرى وأقول لسنا جادين، لو كنا جادين لعرفنا هذا.

أنت لا يُمكِن أن تدفع بابنك الصغير – ولن أقول الوحيد – إلى طبيب له ثلاث سنوات فقط في المهنة، ستقول لا، ولد صغير هذا، عمره سبع وعشرون سنة، وله في المهنة ثلاث سنوات فقط، أنا سأذهب إلى هذا الرجل الكبير في السن، هو في هذه المُمارَسة من أربعين سنة، وعندك الحق بصراحة، أنا أفعل نفس الشيئ، أبحث عن الأطباء الذين علت سنهم، الشباب لهم الشباب، ليس عندنا مُشكِلة، ابني هذا! لا أضعه في يد أي أحد، فلماذا تضع صحة دينك وسعادتك ومُستقبَلك الأبدي في يد أي شخص؟ لأنك لست جاداً، غير مُهتَم! سواء أحياك أو أماتك الأمر عندك سيان، لست جاداً، لو كنت جاداً ستعرف تنتجع مَن وتترك نُجعة مَن، ستعرف!

إذن أيها الإخوة هذه هي المسألة، أختم هذه الخُطبة بحديث له أبلغ الأثر أو ينبغي أن يكون له أبلغ الأثر في حياتنا، يقول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه الإمام مُسلِم عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – مَن غشنا فليس منا، ومَن حمل علينا السلاح فليس منا، وهذا الحديث أخرجه مُسلِم أيضاً وابن ماجة والترمذي، وأخرجه أبو داود أيضاً، وغيرهم! هذا الحديث مروي عن بضعة عشر صحابياً، هذا المتن – مَن غشنا فليس منا، ليس منا مَن غش – مروي عن بضعة عشر صحابياً، مُتواتِر! هذا مُتواتِر معنوياً إن لم يكن لفظياً، النبي مر على رجل في السوق وأمامه صبرة طعام – كومة طعام هكذا – فأوحى الله إليه أن أدخل يدك، وحي! فأدخل – حتى نتعلَّم ونُعلَّم – يده فأصابت أصابعه بللاً، هذا الطعام فاسد من الأسفل، يُوجَد بلل! فقال ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال أصابته السماء يا رسول الله، فقال هلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ مَن غشنا فليس منا، ليس منا! لابد أن يكون المُؤمِن صادقاً.

جرير بن عبد الله حين بايع النبي على الإسلام مضى، فجذب النبي ثوبه وقال له مهلاً، النبي تعمَّد هذا، حتى لا ينسى هذا وحتى لا ننسى نحن، مشهد تعليمي! النبي كان عنده أساليب تعليمية وتربوية عالية جداً، فجذب النبي ثوبه ثم قال له ارجع، وعلى النُصح لكل مُسلِم، أُبايعك على الإسلام – على التوحيد – وعلى النُصح لكل مُسلِم، قال نعم يا رسول الله، فكان إذا قام بالسوق ووضع سلعته بيَّن عيبها، يقول يا جماعة هذه فاسدة وفيها كذا وكذا، هذه فاسدة، الناحية الفلانية فيها كذا وهو عاطب، فقيل له – هؤلاء من الصحابة – يا جرير إنك إذا ظللت تفعل هذا لا يكاد يتهيأ لك بيع شيئ، أي لن تبيع أي شيئ! فقال ولو، لقد بايعت النبي – أي وإن كان، لا أُريد أن أبيع – على النُصح لكل مُسلِم، وأنا رجل أفي بعهدي، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۩، هذا المُؤمِن! يفي ولا يزعل، يتحقَّق بعنوان الإيمان، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۩.

واثلة بن الأسقع كان يقف في سوق وجاء أبو سباع – رجل اسمه أبو سباع – يشتري ناقة، وواثلة يرقب، ثم غفل، فاشتراها بثلاثمائة درهم ومضى بها، فلما علم أنه مضى بها سعى في أثره، وقال بكم اشتريت؟ فقال بثلاثمائة، فقال للحم أو للظهر؟ أي كركوبة أو لكي تذبحها؟ إذا للحم فلن تُوجَد مُشكِلة، فقال لا، للظهر! فقال فإن في خفها نقباً قد رأيته، وهي لا تُتابِع السير، انتبه! هذه لا تصلح لكي تكون ركوبة، فعاد الرجل، فحط عنه البائع – أي نقص له – مائة درهم، ثم أقبل على واثلة وقال يا واثلة غفر الله لك، أفسدت علىّ بيعي، فقال يا أخي سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول لا يحل لأحدٍ أن يبيع بيعاً إلا بيَّن آفته، ولا يحل لمَن يعلم إلا أن يُبيِّن، وأنا علمت! سأُسأل أمام الله يوم القيامة، هل تُريد أن أُجامِلك على حساب ديني؟ لن أُجامِلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة باختصار للقصة، وفيه أن النبي قال ومَن باع بيعاً فيه عيبٌ لم يُبيِّنه لم يزل في مقت الله، في كره الله الشديد! انتبه، هذا الإيمان، هذا معنى ليس منا، تخاف أن تكون لست منا، لست مُتشرِّفاً بشرف أن تكون من هذه الأمة.

باع ابن سيرين جارية – محمد بن سيرين الذي أُوتيَ علم الأحاديث وتأويل الأحلام وتعبير الرؤى، باع جارية – فقال للمُشتري أبرأ إليك من عيب فيها، لقد تنخَّمت الدم عندنا مرة، في يوم من الأيام – أي ذات مرة – قذفت الدم عندنا، أبرأ إليك، أنا قلت لك، انظر إلى التقوى! هذا هو، هذا الإيمان، لم يقل هذه القضية عمرها أربع أو خمس سنوات، ما الذي حدث؟ لم يحدث شيئ، لم يقل هذا، ستُسأل!

رأى أبو هُريرة – رضيَ الله عنه وأرضاه – بناحية الحرة في المدينة المُنوَّرة رجلاً يبيع اللبن، فأقبل عليه فإذا هو قد مذقه بالماء، أي خلطه! فقال له يا صاحب اللبن كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة خلِّص الماء من اللبن؟ خلِّصه أو ستذهب إلى جهنم، هذا هو الدين! خلِّصه أو ستذهب إلى جهنم، ولن يُخلِّصه طبعاً، انتهى!

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يُنعِش قلوبنا بحُبه وبطاعته أن يُحيينا سُبحانه وتعالى، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين ومن أوليائك العارفين، ودلنا عليك دلالة الصادقين برحمتك يا أرحم الراحمين، نوِّر ضمائرنا وقدِّس سرائرنا.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا ولا في المُسلِمين والمُسلِمات شقياً ولا مطروداً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(9/11/2007)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: