روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

لماذا نقلد؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، جئت اليوم لأشجب التقليد، ما من كتاب إلهي نعى على التقليد وأنحى باللائمة على المُقلِّدة كما فعل القرآن العظيم، في عشرات الآي أو الآيات – إخواني وأخواتي – القرآن يُصدِّر التقليد والآبائية في قائمة الأسباب التي كانت تعترض نجاح مُهِمة الأنبياء والمُرسَلين، حتى أنه – تبارك وتعالى – صاغ هذا السبب أو هذا المانع صياغة سُننية، صياغة قانونية، فأخبر أنه ما أرسل نبياً في قرية – والأنبياء دائماً كانوا يُرسَلون في الحواضر، وليس في البوادي، وهذا معنى قرية – إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ۩، بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ۩، إذن هذه صياغة قانونية، كل قرية كانت تُبرِز أو تُعرِب عن ردة الفعل هذه، لا نُريد أن نستمع ولا نُريد أن نتبع، لأن هذا يُخالِف ما وجدنا عليه آباءنا، قانون ودستور! اعتراض الرسالات واعتراض الإصلاح والتغيير بالتقليد، بذريعة التقليد‍!

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ۩، هذا أقوى شيئ يُمكِن أن يُرَد به على المُقلِّدة، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ۩، في المائدة لَا يَعْلَمُونَ ۩، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ۩، هناك لَا يَعْقِلُونَ ۩، وهنا لَا يَعْلَمُونَ ۩، لا علم ولا عقل، العقل أساس العلم، العلم يأتي بالتعقل، على مهاد من العقل، هؤلاء لا عقل لهم، وأولئكم لا علم لديهم، ومع ذلك هم المتبوعون، هم الأُسى والقدوات، هكذا يفعل التقليد بأصحابه، وكما قال شيخ الإسلام أبو الفرج بن الجوزي التقليد إبطال لمنفعة العقل.

أحياناً طبعاً بلا شك – أيها الإخوة والأخوات – يكون التقليد ذريعة ليستر ويُقنِّع دافعاً آخر لإنكار الحق ومُجاحَدته ومُكابَرته، إنه الكبر النفسي، الرغبة في الحيثية والظهور، الرغبة في أن نكون الأوائل، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ – قوم فرعون يُخاطِبون موسى وأخاه هارون عليهما السلام – وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ۩، إذن هذه هي! وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ ۩، ظن أن الدين وأن الهُدى الإلهي يُراد للعلو في الأرض، للتكبر في الأرض، وهذا غير صحيح أبداً، لا يُراد لهذا، إنما يُراد لإصلاح أحوال البشر وتزكية نفوسهم وترشيد مسالكهم وتبصيرهم بمقاطع الخير والهُدى والحق.

على كل حال لا نُريد أن نُطيل في هذه المُقدِّمات المعروفة للجميع، لكن نُريد – كما قلت لكم – أن نشجب التقليد بأكثر من وجه من الوجوه، لكن قبل أن نشرع في شجبه لابد أن نذكر أن قدراً معقولاً من التقليد ضروري للحياة، غير معقول – إخواني وأخواتي – أن نبدأ دائماً من الصفر، لأن البداية دائماً من الصفر تجعلنا في موقع الصفر، سنظل في موقع صفري، مُستحيل! هذا ليس منطق الحياة، منطق الحياة والأحياء ومنطق العقلاء أن نبني على ما بدأه غيرنا، أن نُكمِّل ما بدأه غيرنا، نبني على ما شرع فيه غيرنا، نُكمِل المسيرة بلا شك، لكن فيما ظهر وجه الصلاح فيه، لكن حين يجور التقليد على القدر أو المساحة التي من المفروض أن تكون مُخصَّصة للإبداع والابتكار تجمد الحياة وتأسن، يأسن ماؤها وتتعفن، وهذا ما يحدث في المُجتمَعات المُتخلِّفة والمُجتمَعات عدوة نفسها، لا تُتيح ولو هامشاً نحيفاً للابتكار، للإبداع، للتغيير، وللتجديد، لا تُريد! دائماً مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ۩، دائماً نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ۩.

إذن – إخواني وأخواتي – التقليد عقم وتشويه، عقم لأنه غير مُنتِج، بطبيعته التقليد لا يأتي بجديد، لا يمدنا بجديد، إنه يُحاوِل أن يستنسخ القديم، لكن لماذا هو تشويه؟ لماذا هو تشويه؟ فهمنا أنه عقم، لأنه لا يلد جديداً، وهو تشويه للقديم ذاته يا إخواني، تشويه للقديم ذاته! لأن القديم في زمانه وفي شروطه لم يكن قديماً، كان راهناً، ابن وقته، ابن زمانه، وأدى دوره، واشتغل جيداً.

أنت الآن تُقلِّد – نفترض – علماء وأئمة ورجالاً كانوا في عصرهم أعلاماً وقمماً وقادةً وزعماء روحيين وسياسيين وعسكريين، طيَّبوا الحياة وباركوها وأصلحوها يا إخواني في زمانهم، لكن أنت الآن تُقلِّدهم في هذا الزمان، فلا يصلح هذا التقليد، لأنك ستكون نُسخة باهتة، ناصلة اللون، حائلة اللون، فقدت لمعانها وبريقها، وفقدت ظرفها وشرطها، وبالتالي شرط استغالها، لن تشتغل!

تماما تخيَّلوا معي كتاباً من الكُتب طُبِع خمس طبعاً – مثلاً -، لكن هذه الطبعات يُؤخَذ بعضها عن بعض، صورة عن صورة، بحيث تكون الطبعة الخامسة مُصوَّرة عن الطبعة الرابعة، والرابعة عن الثالثة، وهكذا إلى الأولى.

هذا الكتاب إذا كان يحتوي على صور وجداول طبعته الأولى تكون ذات ألق، وذات لمعان وبريق، ذات ألوان جذّابة وجميلة وواضحة، الطبعة الخامسة ستكون الألوان حائلة، نصلت ألوانها، ذهب بريقها وألقها ولمعانها، وهكذا هو التشويه، فما بالكم حين تكون الطبعة المائة أو الطبعة المائة والخمسين؟! بينها وبين الطبعة الأولى ألف سنة أو تسعمائة سنة أو خمسمائة سنة أو أكثر أو أقل.

الآن بعض الناس هم مُجرَّد طبعات من أشخاص قدماء، طبعات لأشياء قديمة جداً، لا يدرون أنهم باهتون ناصلون، بلا لون، بلا طعم، وبلا رائحة، لا اشتغال لهم، ولا دور حقيقياً في الحياة، هذا هو التقليد، التقليد عقم وتشويه، تشويه للقديم نفسه، الذي حين يُعرَض كتراث يظل جميلاً، وحين يُراد له ان يُعرَض على أنه مُلهِم العصر وروح النصر فإنه لا يغدو كذلك، يغدو مسخرةً، يغدو موضوعاً للهزؤ، وهذا ما يفعله التقليد.

والتقليد قناعة صغيرة، التقليد يعكس روحاً قانعة صغيرة، مُصابة بالصغار الروحي والنفسي، يقول المُقلِّد لنفسه ولماذا أُتعِب نفسي؟ لماذا أتعنى؟ غيري قد جرَّب، غيري سلك هذه السبيل، وغيري فكَّر، فلأكتفي بتفكيره، ولأقنع بتجربته، وأنا سأسلك في الطريق التي سلك، وهكذا! قناعة صغيرة، تليق بالصغار، لا تليق بالكبار، لا تليق بالكبار أي كبار النفوس.

هناك فلسفتان – إخواني وأخواتي – في الحياة: فلسفة الكينونة، وفلسفة الفعل كما يُقال، إذن فلسفة الكينونة، وفلسفة الفعل.

فلسفة الكينونة تنطلق من فهم أو إدراك أن كل شيئ ناجز وجاهز وموجود وهو قيد الكشف عنه فقط، في كل شيئ! حتى في الحياة، في الأخلاقيات، في القيم، في المسالك، في العلم، وفي المعرفة، نموذج الكينونة النموذج المعرفي المُستمَد من رؤية تقوم على الكينونة، فلسفة الكينونة! يظن أن المعرفة أشياء تُحفَظ وأشياء موجودة في الكُتب وأشياء تُؤخَذ مُشافَهةً، فقط هذه هي! لا تُبنى، المعرفة لا تُبنى، لا تُخترَع، إنما تُحفَظ وتُلقَّن، لأنها موجودة، هذا نموذج كينوني في تلقي العلم والمعرفة، بخلاف فلسفة الفعل، ترى أن جُزءاً كبيراً من الحقائق لا يُكشَف عنه النقاب، بل يُبنى، نحن نبنيه، نحن نُنجِزه شيئاً فشيئاً ومرحلةً فمرحلةً، نوع من الإنجاز، نوع من البناء، هناك الــ Structure، نعطيه بنية مُحدَّدة أو بنية مُعيَّنة، لكن بالتدريج.

الفلسفة الأولى – إخواني وأخواتي – ترى أن الإنسان نتيجة، وليس سبباً، فلسفة الكينونة ترى أن الإنسان نتيجة، نتيجة للآباء، للأجداد، للثقافة السائدة، للموروث، للعادات، للأعراف، وللظروف الاجتماعية والظروف الاقتصادية والثقافية، فلسفة الفعل ترى أن الإنسان أو ترى في الإنسان سبباً أكثر منه نتيجةً، بلا شك أنه في جانب من جوانب وجوده هو نتيجة لأشياء، بلا شك أبداً، الإنسان لا يبدأ من الصفر، ولا يبدأ في المُطلَق، ولا يُوجَد في المُطلَق، يُوجَد في سياقات وفي ظروف مُشرَّطة بلا شك، ولكن فلسفة الفعل ترى في الإنسان سبباً، أكثر منه نتيجةً.

والعجيب أن الفلسفة الماركسية وهي الفلسفة التي زعم صاحبها ومُؤسِّسها أنه أراد للفلسفة أن تُغيِّر، للأسف استبطنت ربما بطريق ما – لا أدري كيف، لكن هنا يُوجَد طريق تناقض، في هذا الطريق تناقض مُعيَّن – فكرة أن الإنسان نتيجةً، أكثر منه سبباً طبعاً، فالإنسان في نهاية المطاف في التحليل الماركسي هو ابن ظروفه، لا يستطيع أن يُفكِّر خارج هذه الظروف، بل إنه يتكيَّف مع هذه الظروف، يُفكِّر وفقاً لما تُتيحه هذه الظروف، وبالذات الظروف الاقتصادية.

الماركسيون دأبوا على القول خُذ إنساناً وضعه في قصر، بعد فترة سيبدأ يُفكِّر كسكان القصور، خُذه وحوِّله إلى كوخ، بعد فترة قصيرة سيبدأ يُفكِّر كإنسان صعلوك يسكن في كوخ، هذا هو الإنسان! نمط تفكيره يعكس نمط حياته الاقتصادية، يعكس شرطه وظرفه الاقتصادي، وهذا كلام فيه تساهل شديد وفيه تبسيط يخدع عن الحقيقة، لا! وفق فلسفة الفعل الإنسان سبب، أكثر منه نتيجة، هو نتيجة وسبب، لكنه سبب، أكثر منه نتيجة، يُمكِن أن يُغيِّر أو يُمكِن أن يُساهِم على الأقل في تغيير الشروط والظروف، ويُمكِن أن يتعالى عليها، وهو بوعيه يتعالى عليها، ليس شرطاً أن يكون دائماً خاضعاً لها ومُتكيِّفاً معها.

لذلك ووفق فلسفة الكينونة الإنسان يرى أن من المنطقي والطبيعي أن يكون امتداداً لآبائه وأجداده، نُسخة منهم! ولنتذكَّر تقريباً في مُعظَم الحالات إذا كان ذا مِزاج تقليدي – أي يغلب عليه التقليد وحُب الاستنساخ – فسيكون نُسخة مُشوَّهة، كالرجل الذي سأل ابنه مثل مَن تُحِب أن تكون؟ قال مثلك يا أبتِ، قال بئس الرجل أنت، فإن أباك أحب أن يكون مثل الإمام عليّ، فما خرج منه إلا ما ترى، خرج منه أبوك، وأنت تُحِب أن تكون مثل أبيك، فستكون أسوأ من أبيك، فبئس الرجل أنت، وأصاب الرجل، نعم!

فلسفة الكينونة – إخواني وأخواتي – ترى أن المعنى جاثم كامن مُحايث للوجود، للمشهد، وللأشياء، كالمعرفة تماماً، وهو ينتظر مَن يكشف عنه، مَن يُعبِّر عنه فقط، مَن يُنادي باسمه، فلسفة الفعل ترى أن الإنسان هو المُرصَد والمُرشَّح والمندوب لكي يُضفي على المشهد وعلى الأشياء معنىً، ولذلك كما قال أحد الفيزيائيين العظام في القرن العشرين المُنصرِم وهو شرودنغر Schrödinger، قال هذا الكون بلا إنسان مثل مسرحية بلا مُشاهِدين، إذن لن تكون مسرحية، مثل مسرحية لكن بلا مُشاهِدين، الإنسان – إخواني وأخواتي – هو الذي يُضفي المعنى على الوجود وعلى المشهد، هذه فلسفة الفعل، على طول الخط وإلى نهاية الخط – إخواني وأخواتي – التقليد مُنحاز لفلسفة الكينونة، التقليد يعمل في الخط المُضاد للخط الذي تعمل فيه فلسفة الفعل، فعلينا أن نختار فلسفتنا في الحياة بشكل أو بآخر.

عاجلاً أو آجلاً سيكتشف المُقلِّد مهما كان مُحترِفاً – مهما كان يلبس الدور كما نقول، يلبس الدور بشكل جيد – أنه ليس أكثر من مُمثِّل، كل مُقلِّد هو ليس أكثر من مُمثِّل، لكن ما المُشكِلة في هذا؟ ما المُشكِلة في أن يكون مُمثِّلاً؟ لا! في نهاية المطاف سيكتشف اغترابه عن ذاته، تضييعه لإمكاناته الكامنة، التي كان يُمكِن أن يستغلها على نحو آخر، وتجعل منه خلقاً آخر، كائناً آخر، يُقدِّم الجديد للحياة، يُثري الحياة، له بصمة، له طابع خاص، لا يمر ولا يعبر كما يعبر الملايين وربما حتى أحياناً الملايير من البشر أبداً، للأسف!

فكِّروا فيمَن حولكم، أُناس يُعَدون عداً في الأخير، سواء كانوا بالألوف أو عشرات الألوف، هم الذين بنوا البشرية، يُقال لك بُناة البشرية، أي الــ Makers، الذين بنوا الإنسانية، يُعَدون عداً، بالألوف أو بعشرات الألوف.

برتراند راسل Bertrand Russell كان يزعم أن التطور العلمي والتقني كله يُعزى إلى خمسمائة دماغ، خمسمائة عقل، خمسمائة عقل من المُفكِّرين والعلماء، هم الذين تشعر البشرية بالامتنان إزاءهم في إنجاز مشروعها في العلم والتقنية، خمسمائة! قال خمسمائة، ويُمكِن أن يكون مُبالِغاً في هذا، ويُمكِن أن يكونوا أكثر من هذا، لكن حتى لو كانوا خمسة آلاف هذا عدد منزور وعدد قليل جداً إذا علمنا أن البشرية تعد بالملايير، الآن هي زُهاء سبعة ملايير، نعم يعبرون، هؤلاء العابرون، عابرون! يحيون ويموتون، ولا دور لهم تقريباً أبداً، وراء الأكل والشرب والإنجازات الصغيرة القنوعة.

إذن فيها شيئ كبير أن تكتشف أنك في نهاية المطاف مُمثِّل كمُقلِّد، مهما كنت كبيراً في نظر الناس، أنت مُجرَّد مُمثِّل، مَن هو المُمثِّل؟ عرفته مرة، المُمثِّل هو الذي ليس هو، المُمثِّل دائماً يعيش كما ليس هو، دائماً يعيش أدواراً ليست تعكس شخصيته هو، تعكس هذا لآخرين، تعكس شخصيات زعماء، شخصيات قادة، مشخصيات مهزولة كوميدية، لكن ليس هو، إذن متى يجد نفسه؟ متى نراه على حقيقته هو؟ لا! ليس شيئاً جيداً أن أكتشف أنني في الأخير عشت كمُمثِّل، عشت ومت كمُمثِّل!

أوسكار وايلد Oscar Wilde كتب مرة يقول مُعظَم الناس الذين تراهم هم أُناس آخرون، لا يقصد آخرون بالقياس إليك، لا! آخرون بالقياس إلى ذواتهم، هم ليسوا هم، هكذا يُريد أن يقول أوسكار وايلد Oscar Wilde، مُعظَم الناس الذين تراهم هم أُناس آخرون، ليسوا هم، أفكارهم آراء أشخاص آخرين، حياتهم تقليد، وعواطفهم اقتباس، هكذا يقول أوسكار وايلد Oscar Wilde، أفكارهم آراء أشخاص آخرين، حياتهم تقليد، وعواطفهم اقتباس، عجيب! حتى العواطف مقبوسة، وهذا أكبر اغتراب، هذا هو الاغتراب، حين يغترب الإنسان عن نفسه، ويُحدِّثونك عن الاغتراب، أي الــ Alienation، هذا هو الاغتراب، لا! أنا أُريد أن أكون ذاتي، أُريد أن أكون أنا، أُريد أن أكون نفسي، كيف؟ تخفَّف من التقليد، قلِّد في الحدود المعقولة اللازمة للحياة، لكن لا تُبالِغ، واترك بعد ذلك الفُرصة السانحة والفُرصة الوافرة والوافية للإبداع وللابتكار، لكن الإبداع والابتكار يشترط أول ما يشترط الحرية، والتقليد تقييد، فلابد أن تتحرَّر، لابد أن تتحرَّر!

التقليد – إخواني وأخواتي – أيضاً مسلك لاعقلاني، التقليد مسلك لاعقلاني، وحتماً هو مسلك لاعقلاني، لماذا؟ لأنه لو كان مسلكاً عقلانياً لساغ ولحاز نصاب شمولي وعمومي، يصح أن يُستنسَخ لكل بيئة ولكل ثقافة، أي للآخرين، ولكن نحن نعرف أن الآخرين أيضاً لهم آباء ولهم أجداد يتبعونهم ويُقلِّدونهم، كما لك آباء تُقلِّدهم وكما لك متبوعون تُقلِّدهم الآخرون لهم متبوعوهم أيضاً، لهم متبوعوهم! 

إذن هل يُمكِن أن يكون التقليد مرجعية حقيقية ذات حُجية؟ أبداً، إذا نظرنا إلى التقليد كتقليد على أنه ذو حُجية مُباشَرةً افتعلنا صراعاً كاسحاً، صراعاً كارثياً، لا يُوجَد أي جُزء هنا من العقلانية يا إخواني وأخواتي، إذن التقليد لا يُمكِن أن يكون بحد ذاته ذا حُجية أبداً، ولذلك هو مسلك لاعقلاني، باختلاف كل المسالك الحجاجية الحقيقية فيها نصاب عقلاني، وهو الذي يسمح للبشر مع اختلاف ثقافاتهم واختلاف أديانهم واختلاف لُغاتهم أن يتحاوروا وأن يتكلَّموا وأن يتفقوا وأن يختلفوا على أُسس أيضاً، لكن التقليد لا يسمح بهذا، ولذلك هو أكبر سد – كما قلت لكم -، هو سد منيع مُسلَّح خرساني ضد الإصلاح، ضد النبوات، وضد الرسالات، هذا هو التقليد!

لعلنا نلتفت الآن إلى أننا للأسف الشديد كأمة – أي الأمة المُسلِمة، وأنا حديثي إلى المُسلِمين بدرجة أولى – أولعنا بالتقليد، نحن كأمة مُسلِمة أيضاً أولعنا بالتقليد، وبالغنا فيه، وأعطيناه أيضاً أسماء أُخرى عجيبة، وبحُجة اتباع السلف صرنا أمة من المُقلِّدين، من المُقلِّدين بعناد وبحماس وبخنوع، ونظن أن هذا هو شيئ حميد وشيئ طيب، لأننا لا نُسميه تقليداً، نُسميه ماذا؟ اتباع السلف، انتبهوا! نقول اتباع السلف، لا! أنا قلت مرة نحن لدينا نبي واحد، إذا وجب أن نتبع فلنتبع مَن أُمِرنا باتباعه، لدينا نبي واحد، والنبي كان حريصاً – إخواني وأخواتي – كما قد سمعتم ربما في حلقات سابقة على أن يُنعِش في أصحابه عقلية الاجتهاد والإبداع، ليس عقلية التقليد والخنوع والاستتباع للغير أبداً، عليه الصلاة وأفضل السلام -، إذن علينا أن نُعيد النظر في هذا الولوع المُضِر بالتقليد، الذي أضر بحياتنا الثقافية، وحياتنا العقلية، وأيضاً حياتنا الاجتماعية.

كتب الفيلسوف الفرنسي الوجودي جبرائيل مارسيل Gabriel Marcel مرة يقول لا يُوجَد إنسانان ولا موقفان مُتكافئان تماماً أحدهما مع الآخر، مُستحيل أن يتكافأ إنسانان وأن يتطابق إنسانان بالكامل، لكن الأعجب من هذا أنه يقول ولا موقفان، حتى للإنسان نفسه، عجيب! أو لإنسانين، أو فضلاً عن إنسانين، لا يُوجَد موقفان مُتكافئان، هل تعرفون لماذا؟ لأن كل موقف يتبع ظروفاً وشروطاً تختلف عن الموقف الآخر، الزمن يسير يا إخواني، فالظروف تتغيَّر، العالم لا يقف.

تقفون والفلك المُحرِّك دائر                                  وتُقدِّرون فتضحك الأقدار.

في كل لحظة أنت تختار فيها شيئاً ما أنت تُغيِّر مُستقبَلك كما يُقال، تُغيِّر مُستقبَلك! أي مُستقبَل؟ المُستقبَل المُحتمَل، المُستقبَل المُمكِن، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، كان يُمكِن أن تختار شيئاً آخر، ولو اخترت شيئاً آخر لتغيَّر مُستقبَلك، وهكذا! إذن لا يُوجَد موقفان مُتكافئان من كل وجه.

يقول مارسيل Marcel الوعي بهذه الحقيقة يعني التعرض لأزمة حقيقية، غريب! ما معنى أن الوعي بهذه الحقيقة يُعرِّضنا لأزمة حقيقية؟ سوف نفهم، ويُمكِن أن تُشرَح هذه الجُملة من زوايات كثيرة جداً، وأنا سأذهب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه جبرائيل مارسيل Gabriel Marcel، فأقول – إخواني وأخواتي – الإنسان نفسه لا يتطابق مع ذاته، الإنسان نفسه يتناسخ باستمرار، ينسخ نفسه، ينسخ فكره، وينسخ قناعاته.

قد يقول لي أحدكم لا، هذا غير صحيح، لكن هذا الاعتراض ليس صحيحاً أبداً، فهذا صحيح حقيقةً، خاصة كلما كان هذا الإنسان إنساناً فاعلاً، ينطلق من فلسفة فعل، وليس فلسفة كينونة، وربما أذكى عبارة قرأتها على الأقل إلى الآن في قراءاتي اليسيرة تُعبِّر بذكاء ولطافة عن هذا المعنى عبارة للأديب المسرحي الأيرلندي جورج برنارد شو George Bernard Shaw.

ماذا قال شو Shaw؟ كونوا معي بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

ماذا قال الأديب والمُفكِّر الكبير الساخر جورج برنارد شو George Bernard Shaw؟ برنارد شو Bernard Shaw كتب مرة يقول الشخص الوحيد الذي أعرفه ويتصرَّف بعقلانية – بعقل مُحترَم، أحترمه – هو الخيّاط، أي الترزي، الخيّاط! لماذا؟ قال لأنه في كل مرة أقصده وأذهب إليه يأخذ مقاساتي من جديد، أي يعلم أنني أتغيَّر، فلا تبقى مقاساتي كما هي، أما سائر الناس فإنهم يُصِرون على استخدام المقاييس القديمة، ويُريدون مني أن أُناسِبها، أي أن أتناسب معها، لا! أنا تغيَّرت، شيئ جميل جداً، هو يقول حتى على المُستوى البدني – هذا على المُستوى البدني، والتغيير فيه يكون أبطأ يا إخواني وأخواتي – الإنسان يتغيَّر، فكيف على المُستوى الروحي والانفعالي والعقلي والعاطفي والثقافي؟! ينبغي أن يتغيَّر كثيراً، إلا أن يكون شخصاً آثر لنفسه أن يكون أشبه بحجر أو بشيئ جامد من الجمادات، لا يكاد يتغيَّر، ولذلك يقولون مُتحجِّر الفكر، هذا هو تقريباً، مثل حجر! ليس عنده دماغ، عنده حجر، لا يتغيَّر، يبقى كما هو، ولذلك فعلاً التقليد إبطال لمنفعة العقل.

كم – أي يالله – هو البون بين هذه الكلمة اللطيفة جداً لشو Shaw وبين مَن يعتقد أنه يُمكِن أن يتناسب مع مقاييس – أي يتطابق مع مقاييس – شخص عاش قبل خمسمائة سنة أو مع مقاييس جده – والد والده مثلاً -، غير معقول يا إخواني، فرق كبير جداً، لكن لماذا نُقلِّد؟ الآن الذي يطرح نفسه لماذا نُقلِّد؟ إذا كان التقليد بمثل هذه المشجوبية ومعيباً بكل هذه العيوب فلماذ يُصِر الناس أو مُعظَم الناس على الإطلاق على أن يكونوا مُقلِّدة؟ أن يُردِّدوا ما يقوله الآخرون، أن يسيروا في الطريق التي يسير فيها الآخرون، فلماذا يُصِرون على التقليد؟ لماذا يُصِرون على التقليد؟

أرسطو Aristotle كان يعتقد تقريباً أن هذه غريزة في الإنسان، أرسطو Aristotle سجَّل مُلاحَظ وهي مُلاحَظة وصفياً صحيحة مائة في المائة، أن الفارق الكبير بين الإنسان وبين سائر أنواع الحيوان أنه أكثر أنواع الحيوان تقليداً، عجيب! الكائن العاقل أكثر الحيوانات تقليداً؟ نعم، وهذه الحقيقة، بعد ذلك المُقلِّد رقم اثنين بعد الإنسان هو القرد، الشِمْبانزِي Chimpanzee! القرود هي الأكثر تقليداً بعد الإنسان، الإنسان مُقلِّد يا إخواني، رقم واحد! المُقلِّد رقم واحد.

أنا سأقترح بعض الأسباب، السبب الأول أعتقد الكسل، التقليد مُريح بلا شك، التفكير مُتعِب، العقلاء دائماً في تعب، تعب شديد! والجُهلاء في راحة ونعيم كما قال أبو الطيب، هذا هو! فالكسل، والناس يميلون إلى الدعة وإلى الكسل، ولذلك خير لهم أن يتبعوا ما قال الآباء والأجداد، ما قال الآخرون.

نستهدي دائماً – إخواني وأخواتي – بالأنماط، نستهدي دائماً بالأنماط! ماذا يفعل الآخرون؟ فنفعل مثلهم، أي إمعة، والنبي نهانا أن نكون إمعات، في الحديث المشهور – حديث ابن مسعود وحُذيفة بن اليمان – قال لا يكن أحدكم إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساء الناس أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إذا أحسن أن تُحسِنوا، وإذا أسأوا أن تجتنبوا إساءتهم، الإمعية أي أنا مع الناس، أنا مع الناس! هذا معنى الإمعية، ماذا تفعل الناس؟ أنا أفعل مثلهم، فماذا لو أصبحوا مُجرِمين؟ هل لو قتلوا أقتل؟ هذا الذي يحصل، هل لو سرقوا أسرق؟ هل لو أصبحوا سفلة وأوغاداً أُصبِح مثلهم؟ هذا طريق الإمعية – إخواني وأخواتي -، الإنسان يستهدي بالآخرين، يستهدي بالآخرين ويستهدي بالنمط.

ثمة تجربة قام بها بعض علماء النفس، وهي لطيفة جداً ولها دلالة، أتوا بمجموعة من الطلّاب، في الولايات المُتحِدة الأمريكية أتوا بمجموعة من الطلّاب، وعرضوا عليهم هذا السؤال: دولة صغيرة ديمقراطية، تم غزوها من دولة اعتدت عليها، الآن ما المطلوب فعله؟ هل يُمكِن أن يحدث Interference؟ أي تدخل، تأتي دولة قوية ترعى القيم الديمقراطية – طبعاً وفي البال ماذا؟ أمريكا، وفي البال أمريكا – فتتدخَّل لكي تُغيث وتُنقِذ الدولة الصغيرة الديمقراطية من براثن الدولة المُعتدية الواغلة في أراضيها والمُعتدية على سيادتها، أم ينبغي طلب المُساعَدة من الأمم المُتحِدة؟ أم لابد من اختيار الحياد؟ وهذا الخيار الثالث، أي لا نفعل شيئاً، نترك الأمور تجري في أعنتها، ونرضى بما حكم القضاء.

بعد ذلك قدَّموا – إخواني وأخواتي – لكل طالب من هؤلاء الطلّاب سيناريو، لديهم كان ثلاثة سيناريوهات، وقدَّموا لهم – أي لكل طالب – سيناريو، وزَّعوها على الطلّاب، وصيغ هذا السيناريو بحيث يُذكِّر بواحد من الأحداث الثلاثة المعروفة: حدث الموقف الأمريكي في الحرب العالمية الثانية – وتعرفون متى تدخلت أمريكا، في آخر سنة تقريباً، وبيرل هاربر Pearl Harbor والقصة هذه المشهورة – أو حرب فيتنام، أو حدث تاريخي مُحايد، وأنتم رأيتم ما الذي حصل، هذا يُقابِل هذا، وهذا يُقابِل هذا، قلنا تدخل أو أمم مُتحِدة أو الحياد، الآن لدينا أمريكا في الحرب العالم الثانية أو حرب فيتنام أو حديث مُحايد!

النتيجة كما تتوقَّعون أعتقد أن كل الطلّاب الذين أُعطوا السيناريو الذي يُذكِّر بتدخل أمريكا في الحرب العالمية الثانية رجَّحوا كحل لمشكِلة الدولة الصغيرة المُفترَضة هذه التدخل، رجَّحوا التدخل، أي الــ Interference، بمعنى أن الإنسان يستهدي بالسيناريو، إذا قدَّمت له سيناريو فأنت تُغريه مُباشَرةً.

هذا يُفسِّر لنا – إخواني وأخواتي – لماذا نذهب أو نحرص على أن نذهب – مثلاً غداً الجُمعة – لكي نُصلي صلاة الجُمعة في المسجد الذي يرتاده ويؤمه أُناس كثيرون خلف الخطيب الذي له جمهور كبير، لأنه جمهور كبير، بغض النظر هل هو خطيب جيد أو غير جيد وهل هو عالم كبير أم هو عالم مُتوسِّط أم هو حتى أقل من ذلك، جمهور كبير! أي هل كل هؤلاء الناس يذهبون هكذا اعتباطاً؟! أذهب حيث يذهبون، وكذلك نرتاد المطاعم – إخواني وأخواتي – التي أيضاً لها زبائن كثيرون، يقولون لك لابد أن تحجز قبل الموعد بيومين أو ثلاثة، فالكل يذهب، مع أن قد يكون هناك مطعم آخر مُنزوٍ في زاوية خدماته وطعامه أحسن من هذا المطعم، لكن لا، هذا مطعم كبير!

ولذلك البنوك – انظروا إلى الرأسمالية إذن وإلى الاقتصاد – ماذا تفعل؟ عكس ما تتوقَّعون الآن، لا تفتح فروعاً لها في أماكن ليس فيها مُنافَسة، ليس فيها بنوك أُخرى، لا! بالعكس، تأتي إلى الأماكن التي فيها بنوك أُخرى – يُوجَد طلب هناك – وتفتح لها فروعاً جديدة وتنجح، ثم تفتح لها فروعاً جديداً، هذا هو النمط، هذا هو! وسنتحدَّث، سنختم هذه الحلقة بحديث فيه إسهاب قليلاً عن النمط، حتى نفهم النمط والتنميط يا إخواني.

هذا السبب الأول، نأتي إلى السبب الثاني، لابد أن ننتبه يا إخواني إلى أن الأشياء التي يجري فيها التقليد كالعقائد والعادات والأعراف والتقاليد المُختلِفة، هذه الأشياء لا تعيش مُنعزِلة، لا تنشط وتشتغل معزولة، بالعكس! هي مُهيكَلة ومُمأسَسة، تقريباً تتخلل كامل النسيج الاجتماعي، تضرب بجذورها في كل المُؤسَّسات الاجتماعية، بطريقة أو بأُخرى! بطريقة مادية أو بطريقة رمزية، بطريقة جهيرة واضحة أو بطريقة غامضة مُستخفية.

ولذلك معنى أن تأتي وتُخالِف أنت هذا الشيئ السائد، الشيئ المُقرَّر، والشيئ المسلوك، معناه أنك تُغامِر تقريباً بإحداث تغيير ثوري وتغيير زلزالي في أشياء كثيرة جداً، لا أول لها من آخر، مَن الذي لديه استعداد أن يتحمَّل هذا الشيئ ويتحمَّل تبعات وعقابيل هذا الشيئ؟ يخاف، ويقول لك هذه مسألة كبيرة جداً جداً، أي هذا ليس كأي كلام، ولذلك الناس تُؤثِر السلامة، فهذا يُفضي إلى السبب الثالث، وهو طلب الأمان يا إخواني.

التقليد يُعطيك شعوراً بالأمان، أنا أسير في الطريق التي يسير فيها الآخرون، لماذا علىّ أن أُغامِر باختبار السير في طريق جديدة؟ قد يأكلني سبع أو ذئب، فلماذا؟ قد أضل وأتيه، ولا أعرف طريق العودة، لا! أنا أسير في الطريق الموجودة، هذا أفضل لي، ولذلك حاولوا أن تتخيَّلوا الآتي في التجمعات الكبيرة، حين يكون هناك حفل مثلاً أو أي شيئ، وبعد ذلك تحدث هيعة أو صيحة أو أي شيئ، فيُفتَح طريق مُعيَّن، الناس يُهرَعون إليه، والكل يسير فيه دون أن يدري، لأن الناس تسير فيه، كيف يتم التنظيم حتى في هذه التجمعات الحافلة الكبيرة؟ بطريقة التنميط والنمط أيضاً، ترى أن الناس مُنتظِمين في صفوف وفي جهات مُحدَّدة، بشكل جيد أو مُمتاز، إذا أرادوا أن يتحرَّكوا إلى الجهة المُقابِلة يتحرَّكون أيضاً ضمن نمط، في صفوف مُحدَّدة، والكل يلتزم بهذا، نمط!

كم مرةً – سؤال هذا – أنتَ أو أنتِ رأيت ناساً يحملقون أو ينظرون أو يُحدِّقون في شيئ ثم لم تُحملِق مثلهم أو على الأقل لم تسأل إلى ماذا وعلى ماذا تتفرَّجون؟ أنا أُجيبك، ولا مرة! دائماً أنت ستفعل مثل فعلهم، لابد أن تُحملِق مثلهم، إلى ماذا تنظرون؟ وجرِّب أنت هذا، قف مع أربعة أو خمسة من زملائك، وقفوا في مكان، ثم انظروا إلى علٍ، فسترى أن عشرات الناس بدأوا ينظرون إلى علٍ، نعم! هذا الإنسان المُقلِّد، وطبعاً هم يقولون الإنسان القردي، في الحقيقة ظلمنا القردة، لابد أن نصف القرد حين يُقلِّد بأنه هذا المُتأدِّم أو المُتأنسِن، يُقلِّد الإنسان، لأن الإنسان هو المُقلِّد رقم واحد، قبل القرود! نحن نقول الببغاوي والقردي، لا! نحن أكثر تقليداً من الببغاوات ومن القردة يا إخواني.

لذلك ليسأل أحدنا نفسه، من آرائي ومن مُعتقَداتي ما هي الآراء والمُعتقَدات والقناعات التي اخترتها أنا وعن قناعة وبعد دراسة؟ قليل جداً جداً جداً، أشياء مُعيَّنة غيرك اختارها لك، وأنت فعلت مثلما فعل الآخرون، فنحن المُقلِّدون رقم واحد، المُقلِّدون بامتياز – إخواني وأخواتي -، ومن هنا كان الابتكار والإبداع مُغامَرة، لا يقدر عليها كل أحد، أي Adventure، لا يقدر عليها – أي على هذه المُغامَرة – كل أحد، المُبدِعون العظام مُغامِرون من طراز فريد، رقم واحد في المُغامَرة المُبدِع المُبتكِر!

ولذلك مُعظَم المُبدِعين ومُعظَم المُبتكِرين خاصة في باب الأفكار والفلسفات والأيديولوجيات وحتى في العلوم إلى حد ما يموتون دون أن يُكرَّموا، بالعكس! يكونون منبوذين، لأنهم خالفوا السائد، وبعد ذلك يُكرَّمون، بعد أن يموتوا بعشرين أو بثلاثين أو بخمسين أو بمائة وأحياناً بمئات السنين.

أيضاً من أسباب التقليد – إخواني وأخواتي – قوة الوهم، وهم ماذا؟ وهم حقية ما تسالم عليه الناس، بما أن كل الناس يقولون هذا فواضح أنه سيكون حقاً، لا! ليس بالضرورة أبداً، لأن هناك كلاً آخر في بلد آخر وفي ثقافة أُخرى يقول عكس هذا، من أين ساغ عليك هذا الوهم؟ كيف ساغ عليك هذا الوهم؟ أن الناس إذا تسالموا على شيئ فلابد أن يكون صحيحاً ولابد أن يكون حقاً، وخاصة – انتبهوا – إذا كان قديماً، بمعنى تسالمت عليه أجيال وأجيال وأجيال، فهل سيتضح أنه غلط في الأخير؟! وطبعاً التاريخ هو الذي يُعلِّمنا أن هناك أشياء كثيرة تسالم عليها الناس لمئات السنين، ولأكثر حتى من ألف سنة ومن ألفي سنة، وفي الأخير اتضح أنها أشياء غالطة وأشياء خاطئة.

مَن هم أولئكم المُغامِرون الروّاد الذين تجاسروا وتجرأوا على أن يقولوا هذا غلط؟ فعلوها والله، وهم موجودون، موجودون! الناس لزُهاء ألفي سنة كانوا يظنون أن الأرض هي مركز الكون، الأرض هي المركز، والشمس تدور حولها، وسائر الكواكب والأقمار حول الأرض، لما جاء نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus قال لا، هذا غير صحيح، الشمس مركز الكون، وطبعاً هو حتى هنا أيضاً غلطان، ولا الشمس أيضاً مركز الكون، لكن على الأقل هذه الشمس مركز للكواكب، أي كواكب المجموعة الشمسية، والأرض كوكب حول الشمس، فجُنَّ جنون الناس، هذه يُسمونها الثورة الكوبرنيكية، أي الـــ Copernican Revolution، لأنها ثورة حقيقية، لكن الرجل لم يجرؤ حتى على نشر كتابه في حياته، نُشِر بعد وفاته مُباشَرةً، لأن كان من المُمكِن وبشكل عادي أن تحرقه الكنيسة، الكنيسة الكاثوليكية كان يُمكِن أن تحرقه، لأن هذا مُهرطِق وابتدع بدعة، مع أن هذا مبحث علمي، لكنه طبعاً يُخالِف التصور الموجود في الكتاب المُقدَّس، أن الأرض هي مركز الكون ومركز الوجود، تخيَّلوا! أكثر من ألفي سنة والبشرية كلها تتسالم على النظام البطلمي أو البطليموسي، أن الأرض هي مركز الوجود، فجاء هذا وقال لا، وهذا يحدث، يحدث! هذا صار ويصير، لكن هذا قليل يا إخواني – كما قلت لكم – على يد هؤلاء المُغامِرين.

أخيراً – حتى لا يُدرِكنا الوقت – الامتثالية، نحن نُقلِّد لغلبة الامتثالية علينا، ولأننا نُريد أن نكون امتثاليين، ما معنى الامتثالية – أي الــ Conformity -؟ الامتثالية بمعنى المُسايرة، نُحِب أن نُساير الآخرين، نُحِب أن نُشعِرهم وأن نشعر أننا مثلهم، لا نشذ عن طريقهم، لماذا؟ لأننا فهمنا بطريقة وبألف طريقة وبأُخرى مُذ كنا صغاراً أن المُمتثِل يفوز بالجائزة، يفوز بالمُكافأة، وطريق المُكافأة في الأخير قلت أو كثرت الامتثالية، الطاعة! التي أصبحت طاعوية، مطلوبة لذاتها، فضيلة بحد ذاتها، طاعة في الخير وطاعة في الشر أيضاً، طاعة في الصح وطاعة في الغلط، هذه هي الطاعوية! 

وأما الذي يخرج على الامتثالية – أي لا يمتثل ولا يُساير – فهذا طريقه اللعنة والنبذ، يُنبَذ يا إخواني، يُعتبَر مُتمرِّداً هذا، مع أنه قد لا يمتثل بأدب، قد لا يمتثل بحُجة، ويطلب أن يُحاجج، يطلب أن يُحاوَر وأن يُناقَش، لا! هذا لا خير فيه، هذا قليل الأدب، وقليل الإيمان، وقليل الخير، وعنصر شرير ومُخيف ومُضِر بالمُجتمَع، طُفيلي! لابد أن يُنبَذ، ولابد أن يُلعَن، فالناس تفهم هذا، ولذلك هم يمتثلون يا إخواني، القوانين مرعية ومعروفة.

يُوجَد مثل مشهور أو بالأحرى هي تجربة علمية لطيفة جداً أو سيناريو طُبِّق في تجربة علمية، وأعتقد الآن كل الشباب في العالم العربي يعرفونه، لكن لمَن لم يسمعه من قبل أقول من الخير أن يسمعه، وهو سيناريو القرود الخمسة!

باختصار – إخواني – سيناريو القرود الخمسة تم على النحو الآتي، ويُمكِن أنت أن تقوم بهذا إذا كان لديك إمكانات، ولكن غيرك قام بهذا، على الأقل في هذه نُقلِّد، كان هناك قفص كبير، أُحضِرت فيه خمسة قرود، في مُنتصَف القفص في الأعلى – أي في السقف – عُلِّقت حزمة موز، طبعاً بلا شك أحد القردة سارع إلى الحزمة، وهناك سلم يُمكِن أن يرتقيه ليأخذ الموز، سارع هذا القرد واعتلى السلم، المُجرِّب – أي صاحب التجربة – كان معه خرطوم ماء بارد، شديد البرودة! فمُباشَرةً رش به، لكن ليس القرد الشقي هذا، وإنما القردة الأربعة الباقية تحت، رشها بالماء، ثم نزل بعد قليل، حاول ثانٍ نفس المُحاوَلة، فرشها بالماء، يُوجَد نمط الآن، يُوجَد Pattern، هذا هو! هو هذا الــ Pattern أو هذا النمط، ما النمط إذن؟ كلما حاول أحدهم الوصول إلى حزمة الموز هو لن يُرَش، ولكن من تحت سوف يُرَشون، ففهموا النمط، القرود فهمت النمط! هل هذا واضح؟

طبعاً بعد قليل حين يُحاوِل أي واحد القردة تضربه، تردعه عن هذه المُحاوَلة، لأنها سترش هي، جميل! إلى الآن هذا شيئ طبيعي، وهذا يحدث، ماذا فعل هذا العالم؟ أخرج أحد القرود الخمسة، وأدخل عوضاً منه أو بدلاً منه قرداً آخر جديد، لم يعش هذه الخبرة، خبرة الرش وما إلى ذلك، وليس له أي علاقة، وطبعاً أول ما حاول أن يرتقي السلم لكي يأخذ الموز جاءت القردة تضربه وتردعه، وهو لم يفهم لماذا، الآن لم يرش، العالم لم يرش القردة الأربعة، لأنها ردعته وأنزلته، وهذا القرد المسكين لم يفهم لماذا يُضرَب، هذه قردة مجنونة، هذه قردة مجنونة غُلِبت على عقلها، أتضربني لأنني أُحِب الموز؟ نحن نُحِب الموز، نحن جماعة القردة!

تكرَّرت التجربة الآن، نترك هذا ونُخرِج القرد الثاني من الأربعة المُتبقية القديمة ثم نأتي بواحد جديد، ونفس الشيئ يتكرَّر، وطبعاً القرد الذي أتى من جديد ولم يعش خبرة الرش بالماء – لم يُرَش بالماء – أيضاً سيُشارِك القردة الثلاثة القديمة ويضرب القرد الجديد هذا، ممنوع أن تأخذ الموز، والآن أكملوا التجربة أنتم تخيلياً، كيف تكتمل؟ بعد قليل سيكون لدينا في القفص خمسة قردة، ولا واحد منها عاش خبرة الرش بالماء، هل فهمتم؟ أبداً! ومع ذلك القردة الخمسة تمنع أي قرد يتسلَّق السلم أو يصعد السلم لكي يأتي بحزمة الموز، وتضربه، ولا تعرف لماذا!

شيئ شبيه بهذا تماماً يحدث في المُجتمَعات الإنسانية، وهذا يُفسِّر لك بطريقة واضحة إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ ۩، لكن هذا ليس معناه أنه صحيح، هو هكذا! نحن وجدنا هذه القردة تفعل هذا، ونحن نفعل مثلما كانت تفعل أبداً، يُراد لنا أن نتحرَّر من هذه القردية، لكن – كما قلت لكم – نحن لا نزال أسوأ من ذلك.

ونختم الآن فيما تبقى من وقت كما وعدتكم بكلمة مُسهَبة عن النمط، النمط باختصار – وطبعاً له تعريفات كثيرة، حتى في علم مناهج النقد الأدبي – يا إخواني طريق مسلوكة، قانون يتكرَّر، فمثلاً إذا سمعك أحدهم وأنت تقول له اثنان، ستة، عشرة، أربعة عشر، ثمانية عشر، يعلم أنه يُوجَد نمط الآن، الطفل الصغير الذي يدرس في الابتدائية يعرف النمط، ما هو النمط؟ أنت الآن تعد وتأتي بأعداد زوجية، ليست أعداداً إفرادية أو وترية، زوجية! ولكن تقفز دائماً عدداً زوجياً بين كل عددين، أنت لم تقل اثنان، أربعة، ستة، ثمانية، أنت قلت اثنان، ستة، عشرة، أربعة عشر، ثمانية عشر، فإذن يُوجَد نمط، والآن الطفل أدرك هذا النمط، وطبعاً يُمكِن أن يكون هذا النمط أكثر تعقيداً من هذا حتى باللعب بالأعداد، هذا اسمه نمط، وهو واضح، إذن إدراك النمط.

الآن في عالم المُجتمَع – إخواني وأخواتي – يميل الإنسان دائماً إلى التنميط، لكي يقدر على أن يعيش حياته الاجتماعية ولكي يعيش حياة لها معنى وحياة تكون مفهومة حين يخلع عليها معنى يُنمِّط، الإنسان دائماً يميل إلى التنميط، ولن نستطيع أن نفهم مُعظَم الظواهر الاجتماعية إذا أصررنا على أن نفهمها على أنها سلوك أفراد، لن تُفهَم إطلاقاً، لكن إذا فهمت أنها سلوك نمطي يحكم الجماعات، يحكم الشعب، ويحكم الناس، مرة واحدة وجملة واحدة، فستفهم ما الذي يحدث، لكن كفرد واحد وتُريد تبريرات دينية وتبريرات فلسفية وتبريرات عقلية لا، لن تفهم، لن تفهم لماذا يفعل الناس هذا، يفعلون هذا لقوة النمط، كما قلت لكم كيف نذهب إلى المساجد الأكثر جمهوراً وإلى المطاعم الأكثر أيضاً زوّاراً وزبائن، وهكذا! هذا نمط، وهذه قوة النمط.

يقول العلماء المُختَصون في دراسة هذه المسائل حتى في عالم الطبيعة ليس المُهِم المادة التي تتكوَّن منها الأشياء في مُستوى الوحدة الأولى، على مُستوى الذرات – مثلاً – أو الجُزيئات، وإنما المُهِم كيف تسلك هذه مع بعضها البعض؟ كيف تتفاعل؟ وفق أي طريقة؟ ووفق أي نمط؟ هذا ما يُعطيها هويتها، هذا ما يُعطيها هويتها وكيانها الذي ندرسه، ليس المادة الوحدوية الأولى، لذلك الظواهر الاجتماعية لابد أن تُدرَس بمنطق اجتماعي، ليس بمنطق إفرادي أو فردي، والمنطق الاجتماعي في قلبه دائماً النمط.

لذلك العلماء يُؤكِّدون أننا ككائنات بشرية محدودو القدرة – يقولون قدرتنا مُتوسِّطة، هذا في المُتوسِّط – على التفكير الاستنتاجي والاستنباطي، لكننا فائقون جداً في إدراك الأنماط، الإنسان مُتفرِّد في إدراك ماذا؟ النمط، في إدراك النمط والخنوع لهذا النمط.

إذن التنميط ما هو؟ فهمنا النمط، والتنميط ما هو؟ التنميط هو الميل إلى إيجاد نمط، إلى تخيل نمط، وإلى افتراض نمط، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا أنماط – إخواني وأخواتي -، ولكن يُحذِّرنا العلماء أن الإنسان حين يميل إلى التنميط فإنه قد يُصيب وقد يُخطئ، حين يُصيب ويُدرِك النمط – هناك ثمة نمط ما – يُقال له أهلاً وسهلاً، لا تُوجَد مُشكِلة، لكن حين يُخطئ هذا الخطأ إما أن يكون خطأً إيجابياً زائفاً – أي False – وإما أن يكون خطأ سلبياً زائفاً، فكيف إذن؟ 

ما الخطأ الإيجابي؟ الخطأ الإيجابي يكون كالآتي، أنت تفترض وجود نمط، وفي الحقيقة وفي الواقع لا يُوجَد نمط، هذا يُسمونه خطأ إيجابي، خطأ إيجابي زائف، إذن ما الخطأ السلبي الزائف؟ حين تفترض عدم وجود نمط، تقول لا، النمط غير موجود، وتكون مُخطئاً، يكون النمط موجوداً، هذا خطأ سلبي زائف، جيد! لكن لم نستفد شيئاً، ماذا سنستفيد الآن؟

هناك مُعادَلة بسيطة جداً جداً تقول لك إن الإنسان دائماً يميل إلى الوقوع في الخطأ الإيجابي الزائف إذا كانت كُلفته أقل من كُلفة الخطأ السلبي الزائف، يُعبِّرون عنها ويقولون ماذا؟ P، أي Patternicity، وهو التنميط الذي يُرمَز له بــ P، يُساوي الــ Cost، أي C، بمعنى الخطأ الأول، وهو ماذا؟ الإيجابي الزائف، وسنسميه T1، أقل من الــ Cost، أي الكُلفة، الخاصة بــ T2، وهو الخطأ السلبي الزائف، فماذا يعني هذا؟ مثلاً الآن نفترض – لا قدَّر الله – أن هناك بلداً مُعيَّناً فيها حرب أهلية، اشتعلت بحرب أهلية، الكل فيها يقتل الكل، وكان هناك إنسان يمشي وهو مُسلَّح، كان يمشي فرأى جماعة من ثلاثة أو أربعة ينظرون إليه ويتهامسون، الآن هو سيفترض ماذا؟ سيفترض أنهم يتهامسون على قتله، سيفترض هذا، سيفترض هذا النمط! فإن هرب فقد لاذ بالفرار وربما ينجو، وإن لم يفعل – هو يُقدِّر – قد يُقتَل وقد لا يُقتَل، كيف إذن؟ إذا صح ما افترضه وفعلاً كانوا يتهامسون على قتله فسينجو، لكن ماذا إذا لم يصح؟ أيضاً سينجو، لذلك هو يرى أن كُلفة الخطأ الإيجابي أقل من كُلفة الخطأ السلبي، لو قال لا، لا يُوجَد نمط، وحمل الأمر على حُسن النية، ثم اتضح أن هناك نمطاً، ماذا سيحدث؟ سيُقتَل، ولن يعيش ليروي، عشت لأروي! لن يعيش ليروي.

ومن هنا يا إخواني للأسف الإنسان يتورَّط دائماً في التنميط، ويُخطئ كثيراً في التنميط، يميل إلى التنميط، لأن كُلفة افتراض وجود النمط حيث لا نمط أقل دائماً أو في تقديره – أي حين يُقدِّر هذا، تكون هكذا حين يُقدِّر – من كُلفة الخطأ السلبي بنفي النمط حيث يكون نمط في الواقع والفعل.

إذا بقيَ وقت أُحِب أن أقول – إخواني وأخواتي – كل إنسان فينا أيضاً لديه عتبة مُعيَّنة، أي Threshold، عتبة مُعيَّنة! عتبة يستطيع بها أو بمُوجبها أن يُتابِع النمط أو ينجو من النمط، كيف؟ لنفترض – مثلاً – أن إنساناً ما عتبته رقمها خمسة، سنُعطيها رقماً، وهو رقم خمسة، عتبته رقم خمسة! إذا بلغ هذه العتبة انبعث في فعل مُعيَّن، قبل أن يبلغها لا ينبعث، يبقى جامداً، هل هذا واضح؟ والعتبات تختلف طبعاً حسب قوة الشخصية والثقافة والعلم والتدين والضمير، هناك أشياء كثيرة جداً جداً.

فمثلاً الآن هناك أحداث شغب، مثل إلقاء زجاجات حارقة، رجم الآخرين – مثلاً -، رجم المُؤسَّسات بالحجارة، إلى آخره! يأتي واحد عتبته صفر، أي واحد مهووس ومجنون، فيبدأ بالرمي والتكسير وإشعال المحال والأشياء، عتبته صفر، انتبهوا! هذا الذي يحدث، الآن يأتي شخص آخر عتبته واحد، بمعنى يجب أن يكون قبله واحد يرمي حتى يرمي هو، أي واحد يكفي، يُغريه لكي يرمي، فمَن عتبته واحد هذا سيرمي معه، ثم يأتي آخر عتبته تحمل رقم اثنين … وهكذا! فهمنا القضية.

ماذا يقول العلماء؟ يقولون لو الذي عتبته صفر هذا – أي الراديكالي هذا – رمى، لكن ليس في المجموعة إلا شخص عتبته رقمها خمسة ستنطفئ شرارته في مكانها، بمعنى موجود لدينا عشرون من الأشخاص – مثلاً – أو ثلاثون، أقل شخص فيهم عتبة مَن عتبته رقمها خمسة، أي أقل شخص عتبةً هو صاحب عتبة خمسة، فلابد أن يُوجَد قبله أربعة لكي يرموا، لكن لا يُوجَد إلا واحد، وهكذا شرارة هذا الراديكالي ستنطفئ في مكانها.

هناك كلام كثير في النمط وكيف يشتغل، لكن أدركني الوقت، أكتفي بهذا القدر، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: