إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ۩ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

جرى كثيرٌ من المُفكِّرين في الشرق والغرب على اتهام القرآن العظيم بأنه لا يُعنى إلا بالعقل العملي، العقل المُعبَّر عنه مرةً بالحِجر، من الحَجر وهو المنع والحرب، والمُعبَّر عنه مرةً أُخرى بالنُهى، جمع نُهية، لأنه ينهى صاحبه عن مُواقَعة ما لا يليق، والمُعبَّر عنه أصالةً بالعقل، من العقل وهو الربط، لأنه يمنع ويربط صاحبه أيضاً عن أن ينجر إلى ما لا يحسن ولا يجمل، أما العقل التأملي – عقل الفلسفة، عقل الفكر، عقل الإدراك العميق، وعقل مُقارَبة ومس جواهر المسائل والقضايا – فلا ورود له ولا أثر له في القرآن الكريم، وهذا نظر مُستعجِل وقد يكون مُتحيِّزاً في أحايين كثيرة.

أين هم من اللُب؟ وقد تكرَّر اللُب غير مرة في كتاب الله تبارك وتعالى، لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ۩، في مواضع كثيرة! الألباب جمع لُب، ويُجمَع اللُب على ألُب، ويُفَك في ضرورة الشعر على ألبب، هذا لضرورة الشعر، الألب والألبب مفكوكه، واللُب هو جوهر الشيئ، جوهر الشيئ ومُحصَّله وحقيقته.

وعادةً لا يُنفَذ إلى لُب الشيئ إلا بتجاوز قشره، إلا بتجاوز ظاهره، فحقيقة الإنسان – حقيقة الإنسان كحقيقة أي شيئ آخر – لا يُمكِن أن يُنفَذ إليها إلا باصطناع واستعمال وإعمال وتشغيل اللُب، واللُب يدل على هذا دلالة غير عادية، أن يُسمى العقل وهو الأداة التي يُنفَذ بها إلى لُب الشيئ لُباً شيئ عجيب ولا مثال له في كل لُغات العالم على ما أعلم، ليس له مثيل يُضاهيه في كل لُغات العالم، كأن هذه اللُغة الشاعرة – كما سماها أستاذنا العقّاد وهي لُغة القرآن في الوقت عينه – تقول الوظيفة الرئيسة والوظيفة الأشرف والوظيفة اللُب للعقل أن يكون لُباً، لماذا؟ لأنه ينفذ بذلكم إلى لُب الأشياء، إلى جواهر الأشياء، وإلى حقائق الأشياء.

إذا أردت أن تنفذ إلى لُب الثمرة فلابد أن تتخلى عن القشر، لكي تنفذ إلى لُب الثمرة لابد أن تتخلى عن القشر، أحياناً تُضطَر أن تكسر هذا القشر في اللوز والجوز وما إلى ذلكم من هذه المُتصلِّبات، لابد أن تكسر القشر، في أحيان أُخرى لابد ألا تعبأ به، أن تنبذه، لكي تصل إلى الجوهر، وإلى اللُب.

الله يقول هذا هو اللُب، وهذه هي وظيفته الرئيسة العتيدة، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ ۩… لماذا قدَّم الذكر على الفكر؟ سؤال لابد أن يُطرَح من زاوية جديدة، ولابد أن نتأتى للجواب عنه أيضاً من زوايا جديدة.

حين كنا صغاراً – على الأقل أتكلَّم عن تجربتي الشخصية، ويبدو أنها تجربة مُشابِهة تماماً لسائر تجاريبكم على ما نسمع ونتعاطى الاستماع أيضاً ومُحادَثة الإخوة والأذكياء من البشر والألباء – سلَّمنا بسلاسة وبسهولة ودون مُناكَدة ودون مُشاكَسة بأن الله موجود، سلَّمنا بهذه الحقيقة بسهولة عجيبة جداً جداً، أيقنا بهذا، وكنا أطفالاً صغاراً، حجم معارفنا جد ضئيل، أيقنا ولم نتشكَّك، نعم كانت لنا أسئلتنا الصغار، الأسئلة الصغيرة من مثل أين هو إذن؟ نُريد أن نراه، حتى الأنبياء تاقوا إلى أن يروه، أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۩، كانت لنا مثل هذه الأسئلة الصغيرة الكبيرة – إن جاز التعبير -، أما فيما عدا ذلك سلَّمنا تماماً بأنه موجود، أيقنا بهذا واسترحنا إليه ونحن صغار، وكنا نُنادِمه ونُناجيه ونطلب منه ونغضب على أشياء تتفق لنا بإزائه – لا إله إلا هو – ونطلب إليه أن يُغيِّرها، أشياء كثيرة! كنا مُتعبِّدين ومُتألِّهين دون أن ندري ونحن صبية صغار.

تُرى ما السبب في هذا؟ كيف؟ كيف يُمكِن لصبي صغير – وهذا مُدخَل عجيب جداً وبداية مُوفَّقة لطرح موضوعي هذا – لم يتحصَّل من المعارف على شيئ يُعبأ به أو يُبالى أن يتخذ هذا الموقف التسليمي بسلاسة ويُسر وطمأنينة نفسية ووجدانية؟ والسؤال مُتعجرِف، هذا السؤال مُتعجرِف! لماذا؟ لأن هذا السؤال يعني بطريقة أُخرى أننا نحن الكبارَ – منصوبة على الاختصاص طبعاً – نظن أننا قد تحصَّلنا على معلومات ومعارف ودرايات وتوفَّرنا على لياقات عقلية ونفسية ووجدانية يُمكِن أن تُؤهِّلنا للتعاطي مع الملأ الأعلى، وللتعاطي مع قضية الحق، لا إله إلا هو! وهذه عجرفة وعُنجهية، لماذا؟ سل نفسك ما هو حجمك؟ ليس ما هو حجم عقلك؟ ما هو حجمك – بكُلك هكذا وبكُليتك – بالنسبة إلى هذه الأرض أو إلى هذا الكوكب الضخم؟ لكن ما هو حجم هذا الكوكب الضخم قياساً إليك بالنسبة إلى مجموعته الشمسية الهائلة؟ ما حجم المجموعة الشمسية بالنسبة إلى المجرة؟ مائة ألف سنة ضوئية! ما حجم المجرة بأربعمائة ألف مليون نجم – الشمس نجم واحد منها – بالنسبة إلى المجموعة المحلية؟ ما حجم المجموعة المحلية بالنسبة إلى الكون؟ ثلاثة عشر ونصف ألف مليون سنة ضوئية! ما هو حجم عقلك إذن بالنسبة إلى هذا الكون؟ أنت تزعم وتظن أن عقلك هذا هو الذي استدل على الله؟ مسكين، أنت مُتعجرِف، لا! هذا غير صحيح، كيف؟ نعم ليس هذا العقل الذي استدل على الله، بضربة واحدة أقولها لك.

بعض الناس يقرأ مثل قوله – تبارك وتعالى – يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۩ ويأخذها من زاوية الجبرية، التسيير والتخيير! ليس هذا، إنها من زاوية التبعية ينبغي أن تُؤخَذ، إنها من زاوية المُلك، من زاوية الخالقية والتدبيرية والسيادة في هذا الوجود كله، له وحده، لا إله إلا هو! كيف؟ بعبارة بسيطة جداً لا تستطيع أن تقول إن وعيك وإن يقظتك أو إن إرادتك هي التي وفَّرت لك عوامل الحياة والاستمرار في الحياة، يستحيل! أنت مُكوَّن من أكثر من مائة بليون Billion خلية، تعمل بانتظام وفق برنامج مُهندَس، دقيق جداً، عجبٌ، وإعجازي، لو انقطع عن خلية من الخلايا أو عن عضو من الأعضاء أو عن جهاز من الأجهزة أو عنك كُلك مدد الحياة لُحيظة واحدة ستطب – كما نقول بالعالمية – واقعاً، ستسقط مُباشَرةً ميتاً.

طبعاً ويأتي المُتعجرِف – الإنسان المُتعجرِف – الطبيب ليقول سبب الوفاة كذا وكذا، هذه عجرفة، لماذا كان هذا السبب على هذه الشاكلة؟ لماذا توقَّف القلب؟ يقولون سبب الوفاة هو توقف القلب، لماذا توقف القلب؟ لأنه لم يأت إليه المدد بعد، انقطع عنه المدد، لم يأته مدد جديد، انقطع السيّال، مات! لا يُحِبون حتى أن نعترف بحقيقة أننا نموت، نموت لأنه – تبارك وتعالى – أنهى وظيفتنا في هذه الحياة، انتهى المشوار! لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩، قال لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩، لكل شيئ أجل مسمى، انتبه! كما لا تحيا بإرادتك ولا برغبتك ولا بيقظتك ولا بوعيك الذاتي أنت لا تهتدي إلى الله ولا تشعر به ولا تستشعره بوعيك وبيقظتك، بالنور المُرسَل منه إليك، لا إله إلا هو! يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۩.

بِمَ عرفت ربك يا عليّ، يا أبا الحسن – الإمام عليّ عليه السلام -؟ قال عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، ثم عرفت محمداً بربي، الله أكبر! ابنه وحفيده زين العابدين يقول بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت، هذا هو الحق، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، حتى البراهين الآيوية لا تأخذ مكانتها إلا بالإيمان بالله، انظر في الملأ الأعلى ثم في الملأ الأدنى وفي نفسك وفي الأشياء، كل هذه لا تأخذ مكانتها إلا بالإيمان بالله، قال سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، حتى على الآية وعلى البرهان الآيوي وعلى العقل الذي يستفيد من البرهان وعلى النتيجة المُتحصِّلة من البرهان المُستفاد بالعقل الناظر في البرهان الله من قبل ومن بعد، ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده وفوقه وفيه ومعه، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، لا إله إلا هو!

إذن نحن عرفناه به، لا إله إلا هو! نحن نهتدي إليه بنور واصل منه إلينا، وهكذا قال كبار العارفين، وحين أقول العارف اعلم أنه شيئ أعظم من الفيلسوف بمرات، أعني الفيلسوف الحقيقي مثل سقراط Socrates طيَّب الله ذكره وثراه، يُقال كان من النبيين، يظن بعض الناس أنه كان من الأنبياء هذا الرجل، سقراط Socrates – هذا الحكيم الكبير – كان مُتواضِعاً جداً، وقال أنا لست حكيماً، أنا مُحِب للحكمة، فالفلسفة ليست هي الحكمة، هي مُحاوَلة أن تقترب من الحكمة، مُقدِّمات! حين تكون فيلسوفاً فأنت تُحاوِل وتجتهد – وهذا اجتهاد محمود ومشكور من حيث المبدأ والأصل – أن تقترب وأن تُلامِس تخوم الحكمة، ما هي الحكمة؟ شيئ آخر وراء الفلسفة.

قد تكون فيلسوفاً عظيماً وأنت مُلحِد، إذن لست حكيماً، أحببت الحكمة ولما تُصبها، أنت أصبت الضلال، أصبت الفوضى، أصبت العبث، أصبت اللا معنى واللا دلالة، ولذلك في العصور التي عاش فيها سقراط Socrates وقبله وبعده أيضاً كان الفلاسفة الكبار بما فيهم سقراط Socrates وأفلاطون Plato وأرسطو Aristotle يُدرِّسون مُستويين، مُستوىً خارجياً وهو محبة الحكمة، أي الفلسفة – الــ Philosophy – المكتوبة، ومُستوىً داخلياً لطلّاب مخصوصين، لا يُسمَح لأي أحد بالالتحاق به، ويقول مُؤرِّخو الفلسفة إنهم كانوا يُدرِّسون الحكمة، لا يُدرِّسونها بالأحرى – أخطأت – وإنما يُحاوِلون أن يدلوك عليها وأن يُطعِموك شيئاً من ذوقها، لكن البقية عليك أنت، الحكمة لا تُؤخَذ من كُتب ولا على المنابر ولا بالكلام ولا بالتأمل السطحي ولا بالاستغراق في الشهوات والمُتع واللذائذ المُحَسة، لا! شيئ مُختلِف تماماً، إنها الجوهر، إنها اللُب.
لاحظ هؤلاء العارفون أن هذه القوة الهادية المُنيرة وأن هذا النور المُتشعشِع الإلهي موجود في كل زمان، لكنه يتقلَّص مع الدورات الروحية، يتحدَّثون عن أربعة أعصار، لا أتكلَّم في الجيولوجيا Geology الآن – انتبهوا – ولا في التأريخ العالي للفلسفة، وإنما في تأريخ الروح، كما يعرفها العارفون الكبار الواصلون حتى في هذا العصر بالذات، من أواخرهم عبد الواحد يحيى قدَّس الله سره، أي رينيه غينون René Guénon الفرنسي، الرجل الخطير، عديم المثيل تقريباً في عصره، الذي قيل في براهينه وكتاباته إنها لا تُنقَض، أعظم أدباء فرنسا أندريه جيد André Gide  يقول لو قرأت أو تسنى لي الوقوف على كتابات رينيه غينون René Guénon – أي عبد الواحد يحيى – في أول حياتي حتماً لاختلفت حياتي، لكنت عشت حياتي بمعنىً وفي مُستوىً وبكيفية مُختلِفة تماماً عما فعلت، لقد عاش عبثياً، طالباً للذائذ والمُتع، هذه تُوصَف بأنها Hedonic، أي حسية.

أحد الفلاسفة الكبار قال لما قرأت كتاباته أصابتني كالصاعقة، تحوَّلت حياتي، وانتقل إلى الإسلام طبعاً، مثل عبد الواحد يحيى، كيف كان يفهم عبد الواحد يحيى مسيرة الروح؟ كيف كان يتلقى الكتاب؟ كيف كان يُكب على كتاب الله؟ حتماً ليس مثلنا، ولا بأي شكل من الأشكال، لأننا مساكين، نحن الضحلون الجوف الفقراء الذين لا نفقه شيئاً، وإن زعمنا أن الحقيقة المُطلَقة طوع أيدينا وبناننا للأسف الشديد، هذا غرور الجهل والتجويف والفراغية والهوائية التي نفختنا.

هناك العصر الذهبي، يليه العصر الفضي، فالبرونزي، فالحديدي، نحن الآن في تاريخ الروح في العصر الحديدي، العجيب أن غينون Guénon – رحمة الله عليه وطيَّب الله ذكراه – يقول لم يحدث ولن يحدث يوماً أن قُدراً وإمكاناتٍ بشريةً مهما كانت مُتأبية وصُلبة وساخطة وضاجة وصاخبة – والتجديد كله من عندي – يُمكِن لها أن تجعل هذا النور الإلهي يتقلَّص، إنما يتقلَّص من تلقائه، وفق الخُطة الإلهية، لذلك كل الحُجج الفلسفية العُظمى المُعقَّدة شديدة التركيب على الإلحاد وعلى النفي وعلى المُشاغَبة على الحق الأعظم الأول الأوحد – لا إله إلا هو – تسقط في كل زمان، ونرى هذا في زمان هذه الحُجج التي يمدها العلم والتقنيات أيضاً أحياناً ببعض البراهين السخيفة التي لا علاقة لها بالبرهان أصلاً، ربما بالبرهان العقلي كما يفهمون وكما شاءوا أن يفهموا العقل، العقل الاستعمالي، عقل هايدجر Heidegger، العقل الأداتي، هذا هو! ربما يحدث هذا، وهذا لا يمنع من بروز عارفين كبار جداً جداً، في أزمانهم هم كالأنبياء في أزمانهم، لا عجب! الذي اختار الأنبياء والرُسل في أزمانهم هو الذي يختار المُصطفين الأخيار من عباده في كل زمان، نعم! النبوة مختومة، لذلك لا أنبياء جُدداً، لكن هناك العارفون، هناك المُستخلَصون، المُختارَون، عباد الله المُصطفون الكبار، بفضل النور الإلهي، انتبه! حين تجد عارفاً صغيراً هنا وعارفاً كبيراً هناك وشخصية فارعة القوام روحياً هناك اعلم أن هذا ليس بجُهدهم، ليس بحذقهم، وليس بشطارتهم، إنهم يُؤدون أدواراً، الخُطة الإلهية المرسومة تُريد أن تُؤدي هذه الأدوار، لكن هم عندهم لياقات مبدئية، عندهم فقر أكثر منا، عندهم تعرض لهذا النور أكثر منا، كل ما عليك أن تتعرَّض فقط بصدق، وستُصيب نصيبك، كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ۩، مسكين إذا كنت تعلم أو إذا كنت تظن وتحسب أن السبب هو الاجتهاد والتعب ومُواصَلة سواد الليل ببياض النهار وأن تحصيل هذه المعرفة الواحدية الأحدية إنما يكون بالجُهد والاجتهاد، مسكين أنت، لا تفقه شيئاً، وأنت طالب دُنيا وطالب مُتعة حسية أيضاً، طالب أن تُعلَّق عليك شارة، وأن تُعطى لقباً، وأن تلتحق بفصيلة العارفين، لن تكون منهم، أنت بعيد جداً، أنت صغير، مُستواك صغير جداً، طموحاتك صغيرة، أنت لست طالباً للحقيقة، أنت طالب للشهوة، لشهوة النفس، شهوة الظهور والبروز ومُقارَعة الأقران والمُتنافِسين، مسكين أنت، عينك ليست على الملأ الأعلى، بل على الملأ الأدنى، ليست على العرش، إنما على الحُش كما يقول العارفون، لكن يختلف الأمر حين تصدق النية وتمحض ربك فقرك وتتحقَّق بفقرك الحقيقي وكلك فقر، كلك فقر! كيف يُمكِن لنا أن نتلمَّس هذا الفقر؟ كيف نلتمس تعينات وتمظهرات هذا الفقر؟ والله في كل شيئ، في كل شيئ! لو كان لنا فكرة، لو كان لنا عبرة، لو كان لنا روح، لو كان لنا حساسية باطنية حقيقة وحدس إلهي روحاني.

زارني رجل وهو على كل حال من فصيلة مُعيَّنة من البشر، فصيلة الدنيويين المُتعيين الحسيين، الذين لا يكادون يفقهون مثل هذا المنطق، لا من قريب ولا من بعيد، مهما استمعوا إلىّ، يصكون آذانهم ثم ينحدرون مُباشَرةً عنها إلى حيث أقدامهم، لا يُمكِن! وقف سيّارته إزاء سيّارتي، وقال لي انظر، هذه سيّارتي، بخسة، لا تكاد تُساوي شيئاً، كأنه يقول لي وسيّارتك الجديدة، عمرها أربعة أشهر بالفعل، ركبت السيّارة، وإذا بمسند اليد انعطب، لم يعد يتحرَّك، قلت طبيعي، يتفق لي مثل هذه الأشياء مئات المرات، وأعجب من هذا بمئات المرات، شيئ طبيعي، وطبعاً هذا برهان أحسه تماماً، تداخل النفسي أو تداخل الروحي بالمادي، تداخل الغيب بالشهادة، برهان أن المادة ليست تكفي، أن الحس ليس يكفي، تركيب هذا الوجود أعقد بكثير، قد تقول أهذا عبر موضوع العين والحسد كما نُسميه؟ وهذا صحيح طبعاً، هذا برهان بسيط جداً جداً، تستشعره بيدك أنت، ونتحدى أكبر عالم، أنا اتفقت لي مئات الحوادث، لا يُمكِن أن تكون اتفاقية، ولم أُصِب لها تعليلاً مهما علَّلت النفس، إلا أنه تداخل الغيبي بالشهودي، تراكب هذا العالم العجيب، شعرت بالاستياء وبالتذمر قليلاً، واستأت من نفسي لشعوري بالاستياء، قلت إذن درجتي الروحية مُنخفِضة، ما معنى أن يعطب مسند يد السيّارة؟ فليذهب إلى الجحيم، ثم قلت لو أننا نستاء لفقدنا لخسائرنا الروحية – ليس أكثر – فقط بمقدار ما نستاء لخسائرنا المادية لكنا أحسن حالاً، لكننا لا نفعل، صدِّقوني!

اختبر نفسك حين تفقد خمسين يورو، كيف تُصبِح حالتك؟ بالله هل تُصبِح حالتك هذه حين تفوتك الصلاة في وقتها، حين تغتاب أحد الناس، حين تكذب عليه، حين تغشه، وحين تتملقه نفاقاً ودهاناً؟ أنا أُجيب عنك، لا! أنا مُتأكِّد من هذا، إلا مَن رحم الله، وقليل ما هم، كثَّرهم الله، لا! لأننا مُنخفِضون وواطئون جداً، نحن نازلون، مساكين نحن، نعبث، نعبث بالعبث، هذا الكلام عبث أحياناً إذا لم يُفهَم على وجهه ولم يكن خُطة جديدة.

بعد ذلك لا تزال طاحونة النفس تطحن، ضاجة، صاخبة، لا تُريد أن تتوقَّف، إذن لماذا لا تدعو ربك؟ ادع ربك، لم يُعوِّدك إلا الخير وإلا النوال والعطاء، كرم الكريم! ادع ربك، لكنني قلت لا، كلا! لا يليق، ليس يليق أن أتوجَّه إلى مالك المُلك في أمر تافه كهذا، وطاحونة النفس لا تزال تطحن، ويأتي سؤال مُباشَرةً، وهذا كله حدث اليوم في لحظات، خُطبة اليوم مُستوحاة من هذا الحدث حقيقةً، لا أكتمكم هذا، عجب! ويأتي السؤال، هذا تافه بالنسبة لمَن؟ هذا تافه بالنسبة له أو لك؟ قلت كلا، بالنسبة لي، إذا كان الأمر يتعلَّق به فالكون من عرشه إلى فرشه تافه، هين، لا قيمة له، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۩، ما النفس الواحدة عند الله؟ ما العرش؟ ما الفرش؟ لماذا؟ لأنك تقيس المقيس إلى ما لا يُقاس، تقيس النسبي إلى المُطلَق، تقيس المخلوق إلى الخالق، تقيس المحدود إلى اللا محدود، صفر! الحاصل صفر دائماً، هو صفر، أي عظمة مُتناهية إلى جانب العظمة اللا مُتناهية تُساوي صفراً دائماً، فالكون كله إلى الله تافه إذن، انتبه!

إذن تافه بالنسبة لمَن هذا الموضوع – مسند السيّارة -؟ بالنسبة لي أنا ينبغي أن يكون تافهاً، كذب! لم يكن تافهاً لأنك استأت وتذمرت، كل هذا الطحن والجرش بسبب المسند، قلت نعم، وهنا يقفز أمامي حديث رسول الله، سلوا الله حتى الملح، انتبه! يجب أن نكون واعين بفقرنا، هذا موضوع الوعي بالفقر، سلوا الله حتى الملح، ملح الطعام! سلوا الله إياه في دعائكم بإخلاص، وتأتي كلمة الحسن البِصري حين قيل له فلان يتأبى أن يأكل الأكلة الفلانية – نوع من الحلواء -، قال لِمَ؟ قالوا يخاف ألا يقوم بحق شُكرها، قال ما أحمقه! وهل يقوم بحق شُكر الماء البارد؟! الماء الذي يتحساه هل يقوم بشُكره؟ إذن لا يشرب الماء البارد حتى لا يُقصِّر في حق شُكره، مسكين! قال هذا جاهل، يتكلَّم باسم الزهد الفارغ والفقر المُرائي، ليس هكذا.

أنت تكون فقيراً وتكون زاهداً حين تُدرِك فقرك الحقيقي، فقرك الحقيقي إنك مُفتقِر إلى الله في كل شيئ، في نفسك، في حاجتك أن تتنفَّس أنت فقير إلى الله، في إرادتك أن تحتاج وأن تتوجَّه إليه بالدعاء أنت فقير إلى الله في هذا، أنت فقير في كل شيئ.

إذن أنا فقير إلى الله – نعم – أن يُصلِح هذا، ليُصلِح حالتي النفسية ومِزاجي، قلت نعم، إذن لابد أن أدعو ربي، ليس أبي، هو ربي وليس أبي، أبي لو سألته ذلك لم يكن ليمنعنيه، كان سيجتهد في أن يُصلِحه إذا استطاع، لكنني سأسأل ربي، ربي لا إله إلا هو! ربي الذي هو أرحم وأعظم وأكرم من أبي وأمي والخلق أجمعين، إنه ربي.

أعطى الأمير قباءً وأعطى الرب قداً، أعطى الأمير قلنسوةً وأعطى الرب رأساً، تنظر إلى نعم الناس، ماذا أعطاك هؤلاء؟ هم لم يُعطوك إلا بأمر الله، إلا بنور سارٍ من الله، Order من الله تبارك وتعالى، على كل حال ولهم الشُكر، تحدَّثنا عن شُكر الناس أيضاً، القضية موصولة! لكن حين يُعطيك أحدهم لباساً أو قباءً جميلاً تذكَّر مَن أعطاك القد الذي يليق عليه اللباس، وأين اللباس مِن القد يا إخواني؟ قال أعطى الأمير قباءً وأعطى الرب قداً، أعطى الأمير قلنسوةً – تعتمرها على رأسك – وأعطى الرب رأساً، مَن أعطى الرأس؟ الرب، لا إله إلا هو! وهذا أعطاك عمامة، أعطاك طاقية، قلنسوة، تذكَّر وضع الأشياء في مواضعها!

وساعتها بخعت وقرَّرت أن أتوجَّه إلى ربي، وتوجَّه قلبي يا رب أن أصلح لي هذا، لم أفعل هذا إزاء زوجي، أردت أن يكون هذا بيني وبين الله، أجَّلت الطلب باللسان، لكن عاجلني كرمه، قال تك، فوقعت فأُصلِحت في لحظة، فبكيت، افتُضِح السر، سألتني ما الذي حدث؟ قلت هذا الذي حدث، هكذا!

جان بول سارتر Jean-Paul Sartre في الوجودية مذهب إنساني تحدَّث بكل بله، أنا قرأت لهذا الفيلسوف الكبير، صاحب الوجود والعدم، ألف صفحة! والله لم أجده إلا إنساناً صغيراً جداً جداً، لم أجد إلا عقلاً حقيراً جداً جداً، لم أجد له منطقاً، حتى هذا المنطق الذي يتسلَّحون به لم أجده، لم أجد منطقاً ولا استدلالاً سليماً ولا عقلاً ولا تجربةً روحياً بعُشر بعُيشير هذا الذي نتحدَّث عنه، يُحدِّثنا شاحذاً سائلاً من كيركغور Kierkegaard قلق إبراهيم، يُحدِّثنا عن قلق إبراهيم، ما هو قلق إبراهيم – عليه السلام -؟ الحديث عن إبراهيم الخليل – عليه السلام – وعن قلق إبراهيم عند كيركغور Kierkegaard، وكان مُؤمِناً هذا الرجل، هذا فيلسوف دنماركي وجودي، أبو الوجودية الروحية، سارتر Sartre مُلحِد، تَلميذ هايدجر Heidegger المُلحِد مثله، كلاهما أتعس من الأخر، حدَّثنا عن قلق إبراهيم وقال لابد أن إبراهيم كان يقلق، وأنه قلق قلقاً حقيقياً حين أُمِر بذبح ابنه وحيده بكره إسماعيل، ولابد أنه تساءل مَن يُدريني وما يُدريني أن هذا الأمر توجَّه من الغيب حقاً؟ لِمَ لا يكون الذي أملاه علىّ خاطر نفساني عميق؟ الشيطان نفسه بطريقة أو بأُخرى قد يكون فعل هذا – لا يعرفون شيئاً عن عصمة الأنبياء، كيف نُبرهِن عصمة الأنبياء لهؤلاء؟ صعب جداً، انتبهوا -، ثم ما يُدريني ومَن يُدريني أنني أنا إبراهيم المطلوب منه أن يُلبي هذا الأمر؟ ما يُدريني ومَن يُدريني أن هذا إسماعيل؟ قلق على هذا المُستوى، على هذا المُستوى من الريبية والشكية، لأن التكليف صعب جداً، ويستل منه ويشتق منه سارتر Sartre أمثال هذه النتائج البالغة السخافة والجفاف والتصلب الروحي، جافة حتى آخر نُقطة من أثر الروح، من أثر الهداية الإلهية، من النور الوضّاء الشعشاني الذي مَن لم يعشه ولم يتنوَّر به ولم تستم جنبات روحه ونفسه به فهو مُظلِم، أشد إظلاماً من الفحم، وأشد سواداً من الفحم.

قال ما يُدريني إذن أن كل ما يتخالجني من شعور ليس شعوراً فاسداً وشعوراً باطلاً وشعوراً يدين للتقليد والتبعية ولكلام الناس وكلام رجال الدين؟ ما يُدريني؟ قال، يُبرِّر إلحاده السخيف! كان ينبغي عليه أن ينتظر ألا يموت وأن يسمع أمثال خُطبي هذه، لكن هذه عجرفة، لأن الآلاف قالوا مثلما أقول وأحسن، حتى من أصحاب الروح المسيحية، قالوا مثل هذا الكلام، لكن هو لم يستمع.

وأعود إلى موضوع فترة الصبا في حياتنا، تقبَّلنا تلكم الحقيقة العُليا العجيبة، وليس لدينا محصول معرفة ومعلومات أو بنك معلومات، هل تعرفون لماذا؟ لسببين، هكذا خطر لي، هناك سببان، السبب الأول أن حواسنا كانت تقذف بنا وتنفتح بنا على عالم فسيح وعجيب وساحر ومُعجِز ومُثير جداً من الكمال والجلال والبهاء والجمال، أشياء تسحر وتُدغدِغ الخيال والروح، من مرئيات مُبصَرات ومسموعات ومشمومات ومذوقات ومُحَسات وموجودات في الوجدان، أشياء عجيبة، علماً بأنني أتحدَّث عن طفولتي، هناك أمنية دائمة لي، والله أحياناً أشتاق إلى لقاء الله وإلى الجنة لكي أستعيد بعض ما كنت أشعر به وأنا صغير نحو العالم، وأنا صغير – أتحدَّث عن طفولتي بنت ثلاث سنوات – خبرت أشياء لن أنساها في حياتي، لن أنساها! ما هذا الجمال؟ ما هذا الجلال؟ ما هذا البهاء؟ لقد كانت تعمل حواسي بأقصى قدرتها وطاقتها، حتى آخر شوطها، إنها غنية وقوية وعنيفة جداً، لكن مِن أين؟ يتبع مَن هذا الجمال والبهاء والجلال كله؟ والسحر والإعجاب والإثارة لمَن؟ مَن الذي أبدع؟ مَن الذي صوَّر؟ يتبع مَن هذا؟ سيأتي الآن برهان التبعية، ثم كبرنا، كانت لنا أبصار – انتبهوا -، كانت لنا أسماع، كانت لنا أذواق، وكان لنا شم ووجدانات، ثم كبرنا ولم يبق لدينا إلا عيون وآذان وآناف وأفواه وألسنة ومكرورات وملفوظات ومُقلَّدات، انتبهوا! هذا ما كنا وهذا ما نحن عليه اليوم، ما معنى هذا؟ فرق كبير جداً جداً بين أن يكون لك سمع وأن يكون لك أذن، أذن لا تسمع! ولذلك كان يقف عيسى – روح الله – ويقول مَن كان له أذن فليسمع، ومَن كان له عين فليُبصِر، يُريد أن يُعيدنا إلى تلك الحالة الروحية، لا نقول الطفولية، بالعكس! الفطرية البريئة، حين لم تكن الأشياء ولا حتى المعاني قد تمادت حدودها، حالة انمياع وتداخل هيولاني عجيب!

ولذلك خيار الطفل في كل لحظة يتلقى الساكن على أنه مُتحرِّك، ويتلقى الشيئ على أنه شخص، وتعلمون هذا، تعلمون تماماً ما أعني، وكلكم كنتم أطفالاً، يستحيل الشيئ إلى شخص في لحظة، في لحظة! والشيئ الجامد إلى كائن حي نابض في لحظة، لأن حدود الأشياء لم تكن قد رُسِمت بعد، إنها (مُهِمة الثقافة والمُجتمَع)، لا! نحن كنا أطفالاً، كنا عيال الله، كنا أبناء الله، كنا أحباب الله، طيور الجنة كنا، هذا هو السبب.

وهذا يظل دائماً يعمل فينا دون أن نستطيع أن نصوغه كما نفعل الآن، أنا أحاول أن أصوغه، انتبهوا! هذا يفعل فينا، ولذلك قد تجد إيمان بعض العامة – مَن ندعوهم عامة – أعمق بكثير من إيمان بعض الفلاسفة، سواء كانوا إسلاميين أو مسيحيين أو يهوداً أو غير ذلك، أعمق بكثير! لماذا؟ يتكيء على براهين لا يُمكِن صياغتها، ليسوا واعين بها لكنها تُمارِس تأثيرها.

الشيئ الثاني الذي خطر لي هو أننا سلَّمنا بقضية الحق – لا إله إلا هو، حق الحق كله هو، لا إله إلا هو – لأننا كنا أطفالاً لهم أهلون، فقط! كيف؟ ما معنى هذا؟ نعم، كنا أطفالاً لهم أهلون، أول ما أدركنا أدركنا الأم عبر ثديها، ثم أدركنا الأم كلها، وأدركنا الأب، وأدركنا الإخوة والأخوات والمُحيط الصغير، لم نكن تائهين، لم نكن ضائعين، خرجنا من البيت، وجاء الناس إلى البيت، بدأنا نُدرِك اصطخاب المُجتمَع، ونرى وجوهاً كثيرة جداً جداً مُختلِفة الأشكال والألوان والسحنات، نرى الكبير والصغير والضعيف والنحيف والطويل والقصير والآسي أو الأسيان الحزين والسعيد الفرح المُبتهِج، نرى كل هؤلاء، نراهم في الأعياد، في الأحفال، في المواسم، وفي الأيام العادية، نراهم في الشوارع، تسيل بهم الطرقات والأزقة والأماكن والحواري، نراهم ونعلم ببساطة أن كلاً منهم أيضاً ليس تائهاً، ليس ضائعاً، إن له موئلاً يؤول إليه ومرجعاً يرجع إليه، إن له أهلين، إن له خاصة مسؤولين عنه أو هو مسؤول عنهم، أدركنا هذا، وحدثت قفزة، كان على الزمن أن ينتظر حتى ندرس العلم والفلسفة والفيزياء والفلك والكيمياء والجُزيئات لنُدرِك أيضاً أن الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والشجر والحجر وكل شيئ يتبع أيضاً شيئاً أكبر، ليس هناك شيئ تائه، ليس هناك شيئ مُلقىً هكذا، بتعبير هايدجر Heidegger مُلقىً ومقذوف، لا! لا يُوجَد شيئ مقذوف، كل شيئ في مكانه.

وعلمنا بعد ذلك من نتائج العلوم – ولنعم ما علمنا – أن الإلكترون Electron يتبع النواة، النواة تتبع الذرة، الذرة تتبع الجُزيء، الجُزيء يتبع ما هو أعظم، إن كان الكلام عن بنية حية فيتبع الــ Tissue، أي الأنسجة، الأنسجة تتبع ماذا؟ العضو، العضو يتبع الجهاز، الجهاز يتبع الجسم، الجسم يتبع ما هو أعلى، إلى آخره! وهكذا التدرج، كل شيئ يتبع شيئاً، نتبع الأرض، وتتبع مجموعتها، نتبع المجرة، وتتبع المجموعة المحلية، المجموعة المحلية تتبع الكون، والكون يتبع مَن؟ كل شيئ يتبع شيئاً، كل شيئ قائد ومقود ومسؤول ومسؤول عنه، أليس كذلك؟ إذن هذا الكون كله يتبع مَن؟ أدركنا هذا بفطرتنا حين كنا صغاراً، وسلَّمنا أن الله موجود، لماذا؟ لأننا كنا أطفالاً لنا أهلون.

هنا أنا أفتح مُزدوَجين أيضاً وأقول (هذه نصيحة لعلماء النفس ولطلّاب علم النفس، أن يعملوا دراسة ميدانية عن مُستوى الإيمان واليقين الروحي عند الأطفال الأنغال، للأسف هؤلاء ضحايا المُجتمَع، ضحايا الخطيئة، ضحايا الإثم، وضحايا الشهوة والمُتعة، يُمكِن أن يعملوا دراسة ميدانية عن مُستوى الاعتقاد عند الأطفال الأنغال، أولاد الحرام، غير الشرعيين، أنا مُتأكِّد مبدئياً أنه ضعيف جداً، فقدوا هذا الشعور بالتبعية وبالمركزية، إذن لماذا يكون الكون أيضاً تابعاً؟ لعل كل شيئ هكذا عبث! انتبهوا، عبث أبويهم جعلهم يصبغون الوجود كله بمنطق عبثي، مُتأكِّد مبدئياً أن مُستواهم اليقيني والاعتقادي مُنخفِض تماماً عن الأطفال الطبيعيين، كما هو مُنخفِض مُستوى تعاطفهم ورحمتهم بالآخرين، انتبهوا! مُعظَم المُرتزقة منهم، يقتل ويُدمِّر ويذبح هذا، من أجل الفلوس والمُتعة فقط، انتهى! ليس عنده قيم، ليس عنده مُحرَّمات، ليس عنده كذا، هذا هو! الأنغال طبيعتهم هكذا، واقرأوا كتاب آنا فرويد Anna Freud – ابنة سيغموند فرويد Sigmund Freud – عن الأطفال الأنغال وعن نفسياتهم، عالم آخر، انتبهوا إلى هذا).

لأننا أطفال لنا أهلون أدركنا أن الله موجود، هذا هو! هذا برهان عجيب جداً، الطفل يعيشه ويذوقه، ولا يستطيع أن يرسمه ولا أن يُعبِّر عنه، لم يُعبِّر عنه حتى الكبار، مع أن القرآن لم يتركه، القرآن ألح عليه في عشرات المرات، كيف؟ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩؟  لِمَنْ ۩؟ اسمه ماذا؟ أنا أسميه الآن برهان التبعية، يُسمونه برهان الملك، لا! هذه كلمة مُبتذلة، ليس عندها قدرة إضائية ساطعة، القدرة الإضائية والإضاحية الساطعة لغير المألوف عندها القدرة على الإثارة، هذا يستثير وعينا ويُغرى هذا الوعي الخامد النائم، هذه هي المُحاوَلة المُهِمة التي تُناط بذكر الله، لماذا نذكره؟ لكي يستيقظ الوعي، أما حين نذكره لكي نعد عشرة آلاف فهذا يعني أننا لم نذكره، لا! نحن ننساه أيضاً، نُمعِن في نسيانه، فلنفهم الذكر كيف يكون أيضاً، هكذا! لكن إنه برهان التبعية، كل شيئ يتبع شيئاً، لابد من هذا، لا يُوجَد شيئ ضائع الآن، جيد! وهذا الكون يتبع مَن إذن؟

انتبهوا، قد يقول لي أحدكم لا، هو كبير جداً، لكن انتبهوا، العجيب هنا علمياً هو الآتي، لأنه كبير جداً ينبغي أن يتبع متبوعاً، هل تعرفون لماذا؟ لأن الشيئ كلما كبر تعقَّد، كلما تعقَّد صار أقل اعتماداً على نفسه، ما رأيكم؟ أي الآلات أقرب إلى العطب: آلة دقيقة جداً مُكوَّنة من ملايين الأجزاء أو أُخرى مُكوَّنة من عشرات الأجزاء؟ الآلة المُكوَّنة من ملايين الأجزاء، لماذا؟ لأن عطب جُزء واحد من ملايين الأجزاء يُؤثِّر على البقية، وهو احتمال كبير جداً جداً، أليس كذلك؟ احتمال كبير جداً، لأن كل جُزيء عنده عمر افتراضي، يُمكِن أن يُصيبه العطب، لو جمَّعنا الإمكانيات سنجد أنها هائلة، علم الاحتمالات هذا، لذلك خراب هذا الجهاز العظيم مُحتمَل أكثر، وهذا علمياً وفلسفياً صحيح أيضاً، كيف هو صحيح فلسفياً؟ الجُزيء الذي لا يتجزأ – أي الــ Atom، ما يُسمى بالــ Atom، جُزيء لا يتجزأ – لا ينحل، يقولون لا يفسد، مُمكِن أن يكون خالداً، لأنه غير مُتركِّب، غير مُحتاج بلُغة علماء الكلام وحتى الفلاسفة العقليين الأرسطيين، غير مُحتاج! لكن جُزيء مُتجزئ ومُركَّب من جُزيئين ينحل، سينحل هذا، لماذا؟ لأن كلاً من الجُزيئين الصغيرين يعتمد الآخر، أليس كذلك؟ اعتماد مُتبادَل، إذن عُرضة للانهيار، أليس كذلك؟ عُرضة للانهيار!

الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ۩، كل جُزيء من الجُزيئين عنده مصالحه أيضاً، وعنده استقلاليته وعنده هُويته وعنده شخصيته، أليس كذلك؟ عنده قوة جاذبة وقوة نافرة، وهذا نفس الشيئ، يقول عيسى في الإنجيل البيت المُنقسِم على نفسه سيخرب حتماً، سيعود ويخرب هذا، انتبه! من أين زاوية أضأتها ستجدها هكذا، ستخرب! فكيف بالكون كله؟ كيف بالكوزموس Cosmos هذا؟ هو من بلايين بلايين بلايين بلايين بلايين النجوم، أما الأجسام أو الذرات وما إلى ذلك فلا أحد يستطيع أن يعرف عددها، شيئ لا يُعَد، لذلك الله لم يقل إن الله يُمسِك الإنسان أن يزول، لا يُدرِك هذا سارتر Sartre الغبي، لا يُدرِك هذا المعنى، لا! لم يقل إن الله يُمسِك الشجرة أن تزول، لم يقل إن الله يُمسِك الذرة أن تزول، لا! قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۩، قال هذا الكون كله ممسوك في قبضتي، يتبعني أنا، مسؤول مني، أنا مسؤول عنه، وأنا أُمسِكه لئلا يزول.

فكِّر في هذا، لماذا برهن على هذه القدرة الإمساكية الإمدادية بضربة واحدة على مُستوى الكون كله؟ لأن هذا أدخل في البرهان، أنا شرحت لكم هذا الآن علمياً وفلسفياً، عكس ما كنا نتوقَّع، نقول هو كبير جداً ولا يحتاج، لكن هذا غلط، لأنه كبير جداً يحتاج، هناك الأكبر، وحده واحد، لا إله إلا هو! هذا أكبر ولا يحتاج، لأنه الأكبر، ليس أكبر وإنما الأكبر، وحده لا يحتاج، ولذلك ضريبة كل كبير سواه أنه يحتاج مدد مُضاعَف من رب العزة، تقول لي هل هذا ينطبق على فرعون؟ نعم ينطبق على فرعون وعلى حسني مُبارَك ومحمود عباس وزين العابدين والقذّافي وجورج بوش George Bush وكلينتون Clinton وأوباما Obama وكل هؤلاء، كلهم يحتاجون عوناً كبيراً لو كانوا يعقلون، أكبر مما يحتاج أي واحد منا، ولذلك يقول تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ۩، وهو يستطيع أن يفعل هذا في لحظة وفي ساعة، يكون الآن رئيساً وبعد ساعة يكون مضروباً بالرصاص مثل تشاوشيسكو Ceaușescu في رومانيا، انتهى كل شيئ! أليس كذلك؟ هذا هو، لأنه كبير، لأنك كبير تحتاج إلى مُساعَدة أكبر يا مسكين، لأن هذه الأكبرية أو الكبروية ليست من ذاتك، إنها أيضاً مدد يُلقى عليك يا مسكين، مدد! أحتاج أنا إلى شعاع، أنت تحتاج إلى عشرة آلاف شعاع، مسكين! أنت تحتاج أكثر، أليس كذلك؟ في النهاية كلنا محتاجون.

علينا أن نُبرهِن فقرنا لأنفسنا، أُحِب جداً أن أقول لكم هذا، يا ليت أمتنا تُدمِن التفكير! يا ليت أمتنا تُدمِن التأمل! لست مُعجَباً بنفسي ولا بخطابي ولا بطريقتي، ولكن يُعجِبني أن نتأمَّل وأن نُفكِّر مهما ذهبنا، أنى ذهبنا، وكيف ذهبنا، يُعجِبني هذا، لا يُعجِبني أن نفقد أسماعنا وأبصارنا وحواسنا ووجداننا ونبدأ نُكرِّر ونلفظ بطريقة ببغائية، لا أقول طفولية، لأن هذه الطفولية، الطفولة يبدو أنها أعمق بكثير مما كنا نظن، الطفولة وفترة الصبا يبدو أنها أعمق وأقرب إلى الحكمة الحقيقية التي تُجاوِز الفلسفة وحُب الحكمة مما كنا نظن، والله العظيم! أليس كذلك؟ هكذا.

يكتب أحد الفلاسفة الكبار وهو كانط Kant – عمانوئيل كانط Immanuel Kant -، يقول بدأت حياتي ظاناً أن رُقي الإنسان وشرف الإنسان وحيثية الإنسان هي رهن ما يُحصِّله من معرفة، كم تفهم أنت؟ كم عندك من الشهادات؟ تعرف أي علوم؟ كم علماً درست؟ فأنت شريف وعظيم! قال إلى أن استيقظت في لحظة حين قرأت فلاناً، وعلمت أن الإنسان يكون كذلك بمقدار ما يكون إنساناً، وهذا الإنسان عنده ما هو؟ الكائن الجمالي، الذي يُدرِك جمال الوجود، جمال الخلق، بداعة البديع – لا إله إلا هو -، قال استيقظت من غفلتي، وبدأت أتعلَّم وأُعلِّم نفسي كيف أحترم إخواني بني الإنسان، إياك أن تُقوِّم الناس وفق هذه الأشياء السخيفة التي أكلتنا وفرَّغتنا وجعلتنا الرجال الفوج المُفرَغين الهوائيين، إياك! إياك من هذا وانتبه إليه، كما ظلمنا الطفولة نظلم حتى الكبر والرُشد دون أن ندري، فكيف إذا انحططنا وقوَّمنا الناس بما يلبسون وبماركة سيّاراتهم وبرقم حسابهم ومقدار ما في الحساب؟ لا، هذا معناه – أنا أقول لكم  – أننا حينئذ قد صُعِقنا وهوينا إلى مُستوى دون إنساني، والله العظيم دون إنساني! انفككنا وكففنا أن نكون بشراً، صرنا شيئاً آخر، صرنا مسوخاً، هذه المسوخ ستذهب ولن يكون لها أي أثر في هذا الوجود.

نسأل الله أن يجعلنا أرواحاً كبيرةً ونفوساً كبيرةً ماجدةً، لسبب أول وأخير، أن تُقارِبه وأن تتعرَّف عليه، أن تنعم بجواره، لا إله إلا هو! لأننا في الآخرة حتى وإن دخلنا الجنة – نسأل الله أن نكون أجمعين في الجنة – سننعم به وبجواره – لا إله إلا هو – بمقدار ما نحس به الآن، وبمقدار ما نشعر به الآن، لا إله إلا هو! اللهم آمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                 (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

سأختم خُطبتي أو أشرع في خُطبتي الثانية بسؤال أختم به، أجعله – إن شاء الله تبارك وتعالى – موضوع الخُطبة القادمة – إن كتب الله لنا أجلاً ومد في فُسحتنا أجمعين -، لا إله إلا الله، هذا جوهر ولُب الحقائق كلها، كل الحقائق والمعارف الروحية الصحيحة وغير الروحية تنبثق من هذه الحقيقة، من حقيقة لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، والسؤال الآن – هذه حقيقة عجيبة، تأمَّلت فيها بطريقة حدسية لأول مرة في حياتي، وعمري الآن فوق الأربعين، شيئ غريب، لم يقل أحد هذا أيضاً، تأمَّلت من زاوية غريبة جداً جداً، إنها من فضل الله – مَن المُستفيد مِن تقرير هذه الحقيقة حين تُحرَّر كما هي – أي استفادة بالإزاء، واحد بإزاء آخرين، واحد بإزاء مُجتمَع، مُجتمَع بإزاء مُجتمَع -؟ لا أحد، انتبهوا! لا أحد يستفيد من تقرير حقيقة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هذه معناها لا مالكاً، لا خالقاً، لا مُدبِّراً، لا رازقاً، ولا أحداً يُدان به وله بالوله والعشق والعبودية والخشوع والخضوع والبخوع والذل والانكسار والفقر والتوجه والنداء والدعاء والعبادة إلا هو، لا إله إلا هو!

مَن يستفيد إزاء مَن مِن هذه الحقيقة؟ لا أحد، وطبيعي ألا يستفيد منها أحد، لماذا؟ لأنها حقيقة الحقائق، فوق المصالح، فوق الأهداف، فوق الحسابات، وفوق كل شيئ، هي المصدر والمنبع، الذي حصل ويحصل في الأديان كلها – وليس الإسلام استثناءً، وإن كان أحسنها حالاً إن شاء الله، نأمل ونُجامِل أنفسنا – أن هناك مَن يستفيد مِن هذه الحقائق، انتبهوا! يُعاد إنتاج التوحيد ويُتكلَّم عن حقيقة لا إله إلا الله بطريقة يستفيد منها السياسي، يستفيد منها المُفكِّر العالم المُنظِّر، ويستفيد منها السادن – سادن القبور، وسادن الأضرحة والمقامات -، هؤلاء يستفيدون كثيراً جداً جداً جداً، هناك نذور وأموال وأشياء عجيبة، انتبهوا! يستفيد منها كثيرون، يستفيد منها أصحاب الفكر المذهبي والطائفي، نحن بإزاء الآخرين، نحن أفضل، نحن أقرب، نحن أولى بالدين، نحن نُمثِّل الدين، غيرنا لا، هؤلاء مُفرَغون، عجيب! 

وأقول لكم تماماً كما حدث ويحدث في كل الأديان حين تجدون مَن يُقرِّر هذه الحقيقة ليستفيد منها ولو على بُعد مائة ألف سنة ضوئية فاعلموا أنه لا يتم له ذلك إلا بالجناية عليها، والله عجب، إلا بالجناية عليها، على هذه الحقيقة، على حقيقة الحقائق، على أم الحقائق، بالجناية عليها، بتشويهها، بتأويلها، بليها، بتفريغها – نعم -، بإرغامها، بإكراهها، بانتقاصها، بتأجيلها، وبتفريقها صفقات، انتبهوا وهذا كله يحتاج إلى شرح، وهذا حدث ويحدث معنا، لسنا استثناءً، وأقول بالفم الملآن لا سُنةً ولا شيعةً، كلنا يفعل هذا، لماذا أحكي هذا؟ لا، ليس عندي هدف سياسي ولا مذهبي ولا فقهي ولا أصولي، لا! هدفي روحاني، أشعر بأنني أناني إن لم أقل هذا، تماماً كما بدأت أشعر بعمق – والله العظيم – أنني أناني إزاء هذه المُجتمَعات الكريمة التي أضافتنا – أضافتنا وليس ضافتنا، نحن ضفناها وهي أضافتنا – وأغدقت علينا بفضل الله، كله من منّ الله ولهم الشكر، ولكن وجدتني أنانياً في نهاية المطاف، هل تعرفون لماذا؟ لأنني آخذ من أطراف القضايا كلها أطيب ما فيها، آخذ من مُجتمَعاتهم ونُظمهم الأمن لي والاستقرار والمُساعَدة والدعم المالي لي ولأولادي، أليس كذلك؟ وأعيش هانئاً، أُمارِس تأملاتي الروحية والفكرية والفلسفية بلذة وانتشاء عجيب جداً جداً، يزداد مع الأيام، شيئ حسن! لكن هذه أنانية، لماذا؟ لأنني بالمُقابِل أُريد أن أعمل توليفة – طبخة هكذا فكرية وفلسفية – تُقرِّب بين الإسلام والحداثة، بين الإسلام والعلمانية، يُقال الإسلام ليس بعيداً وليس غريباً عما هم فيه، لكن هو غريب وبعيد جداً جداً بُعداً فلكياً، ليس الإسلام فقط، والمسيحية الحقة واليهودية الحقة أيضاً والهنودسية، بعيدة بُعداً عجيباً عن مبادئ كثيرة تقود هذه الحياة المادية المُتصلِّبة وهذه الحياة الجافة المُخيفة، هذه حياة مادية، لذا قيل آخر مراحل انحطاط العصر الحديدي نعيشها نحن الآن، انتبهوا!

ولذلك قدرة الإنسان لا تستطيع أن تسلب الوجود هذا النور الإلهي، يأتي النبي المُحمَّد ليقول الله يتكفَّل بهذا، حين تتصلَّب النفوس والوجدانات والعقول، وحين لا تعود أطباقها الفضائية مُوجَّهة نحو منبع الروح ومنبع النور الشعشعاني – كما قلت – ينتهي الأمر، يُرسِل الله ريحاً تقبض آخر نفوس المُوحِّدين، وتبقى الأرض مُتصلِّبة في الفترة الحديدية المُنحَطة، ليُطوى البساط بعد ذلك، تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۩.

العجيب أن ذلك يعني بضربة واحدة أيضاً أن هذا النور يتقلَّص ويعود إلى منبعه، لكنه النور الإلهي، إنه عطية الله، الله لا يعود في عطيته، يعود يتشعشع من جديد يوم ماذا؟ يوم وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ۩، يعود هذا النور، نفس هذه الأمثولة الخارقة للفكر والعادة نجدها في التراث الهندوسي، يقولون هذا يحدث في آخر الزمان، في دورة التصلب هذه والتحجر يُقبَض النور الإلهي، ويعيش في صدفة – بلُغة رمزية جداً، بالغة الرمزية – لكي يعود يتشعشع في عالم جديد، الله أكبر!  لأن المنبع واحد، المصدر واحد، لكن اختلفوا، اختلفوا لماذا؟ لأنه تم استعمال حقيقة الحقائق – لا إله إلا هو -، فتعدَّدت الآلهة، وزُيِّفت الآلهة، وانتُقِص من قدر الله، وغُيِّب عنا، وعُطِّلت الحقائق، وعُدنا طقوسيين شعائريين، أسوأ من بني إسرائيل عشية بعث المسيح، نُريد الدولة الإسلامية، نُريد شريعة الله تحكم في الأرض، عن أي شريعة وعن أي دولة نتكلَّم ونتحدَّث؟ ما الذي نهجس؟ ما الذي نقول؟ نحن مُتورِّطون من حيث لا ندري في تعتيم الحقائق وتشويه الروح والجناية على أم الحقائق، هذا يحتاج إلى خُطبة برأسها، إن شاء الله لعلها تكون الخُطبة المُقبِلة.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وكلماتك التامة أن تهدينا كما هديت عبادك المُصطفين الأخيار، اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، وافتح علينا فتوح العارفين بك يا رب العالمين، وأصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين لك، لا إله إلا أنت، سُبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلِح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا إلى أحد من خلقك ولا إلى شيئ من خلقك برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

 (25/9/2009)
http://fb.me/Dr.IbrahimAdnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • سلام لقلبك ..إن لنا جميعا حصة من إيمان أبا بكر الصديق أول من طار عشقاً في محبوبه حتى ذهب به الحال في الفناء بمحبوبه أن قال: وشرب رسول الله حتى ارتويت. هذا هو الحب… ومن هذا المعين شرب الرومي والجيلاني وسائر ساداتنا أهل الطريق. فمن أراد الحلاص عليه باﻹخلاص. أعلنوا الحب واكسروا أصنام اﻷنا واخلعوا ثياب الحسد والحقد وحتماُ سوف يكسيكم الحب بثياب من نور
    من لدُن نور النور موﻻنا الغفور

%d مدونون معجبون بهذه: