إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – عز وجل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

 

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

حم ۩ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۩ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۩ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۩ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ۩ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ۩

 

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۩ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ۩ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

روى الإمامان البخاري ومُسلِم – رضيَ الله عنهما – في صحيحهما، عن الصدّيقة أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، قالت كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – إذا دخل العشر – تعني الأواخر، العشر الأواخر -، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.

قال السادة العلماء قولها أحيا ليله، يحتمل أحياه كله، على غير عادته – صلوات الله وتسليماته عليه -، في غير رمضان. وقد ثبت عنها في صحيح مُسلِم – رضيَ الله عنها – أنها قالت ما أعلم قام رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – الليل بطوله. إنه يقوم الليل كله، قالت لا أعلم هذا. فلعلها تُريد في غير رمضان. قولها المذكور للتو والمُخرَّج في الصحيحين مُحتمِل، يحتمل أنه يُحيي الليل كله، قالت أحيا ليله. وهو يُحيي الليل دائماً، في غير رمضان، ولكن لا يُحييه كله، كما في صحيح مُسلِم.

فربما تُريد أحياه كله، ويشهد له ما أخرجه الإمام أحمد في مُسنده، عنها أيضاً – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قالت كانت – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يخلط في العشرين – العشر الأول والعشر الأوسط – نوماً وصلاةً – أي نوماً وقياماً، يقوم وينام -، فإذا كان العشر – تعني الآخر أو الأواخر، كلاهما صحيحان، قالت فإذا كان العشر، أي الآخر أو الأواخر -، قام الليل كله. واضح إذن هو كان لا ينام في العشر الأواخر – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

ومن الواضح لماذا كان يفعل هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -؛ ابتغاء ليلة القدر. وهو مَن هو؟ روحي وأرواح العالمين له الفداء، وهو مَن هو؟ مَن غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومَن خُتمت به النبوات والرسالات، ومَن قرن الله اسمه باسمه، وجعله وسيلته العُظمى إليه. ومع ذلك يجتهد هذا الاجتهاد كله، ابتغاء هذه الليلة، التي ورد فيها عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – وذكر رمضان، قال وفيه – أي وفي رمضان – ليلة مَن حُرم خيرها، فقد حُرم. يقول المحروم على التحقيق هو الذي لا يُوفَّق ليلة القدر، هو الذي تفوته ليلة القدر.

لِمَ تفوته؟ وكيف يُمكِن أن تفوت ليلة القدر مُسلِماً أو مُسلِمةً؟ بالتلفزيون Television، المُسلسَلات! جالس على المُسلسَلات، باللعب، بالتمشي في الشوارع والتنزه، بحديث الدنيا والكلام الذي لا طائل تحته، بالنوم، بالنوم تفوته، تفوته!

تخيَّلوا يا أحبابي – يا إخواني وأخواتي – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – كان لشدة حرصه على ألا يفوته جُزءٌ، ولو سويعة يسيرة، من هذه الليلة، كان في العشر الأواخر يُؤخِّر فطره. كان لا يفطر إلا فقط ربما على ماء أو تمرة، ولكن لا يأكل بعد ذلك، ويجعل فطره سحوراً، يتسحَّر! فالفطر والسحور وجبة واحدة في العشر الأواخر، وهذا ثابت عنه، روته أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها -، رواه أبو هُريرة، ورواه الإمام عليّ – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

النبي كان يجعل فطره سُحوراً أو سَحوراً – إذا أردت الاسم أو المصدرية، عليه الصلاة وأفضل السلام -، لئلا يفوته جُزءٌ من هذه الليلة، لأنها قد تُوافِق عند الإفطار، انتبهوا! لذلك العارفون والصالحون يستعدون لهذه الليلة من العصر.

من العصر يبدأ التهيؤ الكامل، وأول ما يقول الله أكبر، فقط يأخذ تمرة أو ماءً، ثم يفزع إلى الصلاة، ويبدأ في الذكر والدعاء والعبادة إلى الفكر. لا يُضيّع لُحيظة يا إخواني، كلها لحظات نفيسة جداً جداً. المحروم مَن حُرِم خيرها، مَن حُرم خيرها، فهو المحروم، فقد حُرم. ليلة واحدة يا إخواني، والعبرة بماذا؟ العبرة ليست بالعمل، والعمل مطلوب، لكن ليست العبرة به، لو لم يكن مطلوباً، لما اجتهد المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – هذا الاجتهاد كله، العمل مطلوب، لكن العبرة (العبرة الحقيقية) ليست بالعمل، العبرة بالقبول.

ولذلك إذا أردت أن يُقبَل عملك وتُقبَل منك وعنك طاعاتك، في هذه الأيام والليالي المُرتجاة المُبارَكة، جدِّد التوبة، التوبة النصوح، التي تُزيّن بها باطنك لله، كما تجتهد أن تُزيّن ظاهرك لله – تبارك وتعالى -. لا فائدة في تزيين الظاهر، حتى بالعبادة والطاعة، ما دام الباطن خراباً – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

إذن زيّن الباطن، ليكون محلاً لنظر الكريم – لا إله إلا هو – بالتوبة الصادقة، وتطهير النفس من البغضاء والإثم والبغي والشحناء والخصومات وسوء الظن بالناس، وانخلع من حقوق الناس، انخلع من حقوق الناس! إياك، إياك وحقوق الناس، انخلع من كل حقوق الناس، حتى لو أجلسك هذا على الحصير، هذه حقوق الناس! لكي تظفر بهذه الليلة، فتسعد سعادة الأبد – بإذن الله تبارك وتعالى -. العمل فيها إن قُبل، قُبل على أنه عمل في أكثر من ثمانين سنة، على أنه عمل ماذا؟ صالح مقبول، صالح مقبول! هذه هي، هذه هي العبرة يا إخواني.

أي لو عُمّر مُسلِم مائة سنة، قضى منها ثمانين في العبادة، هذه لا تُساوي عبادة ليلة القدر المقبولة، لماذا؟ لأنها مقبولة. هذه قُبلت! إذن هي تُساوي العمل في أكثر من ثمانين سنة، كعمل مقبول، مُتقبَّل! أما العمل في ثمانين سنة عادية، وحتى مع الصلاح والالتزام، فلا ندري القدر الذي قُبل منه والقدر الذي لم يُقبَل. العبرة بالقبول، العبرة بالقبول يا إخواني وأخواتي.

وكان من هديه – صلوات ربي وتسليماته عليه – في العشر الأواخر، أنه يغتسل كل ليلة بين المغرب والعشاء، فاعملوا بهذه السُنة. قال شيخ الإسلام أبو جعفر بن جرير الطبري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كانوا يستحبون الاغتسال في ليالي العشر الأواخر. والنبي كان يفعل هذا، من باب التزين والتطيب، لأن هناك ملائكة، أعداد هائلة قد تكون بالمليارات، مليارات الملائكة تنزل في هذه الليلة، والأهم من هذا جبريل، الروح الأمين! نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۩، جبريل (الروح) ينزل على رأس هذه الكبكبات وهذه الجحافل من الملائكة.

ولذلك كان الصحابة أو كان بعض الصحابة يدخر ثوباً جديداً ولباساً كريماً لهذه الليلة، يُخرِجه ويغتسل بين المغرب والعشاء، ثم يلبسه، يُطيّبه ويشهد به ماذا؟ هذه الليلة. حتى إذا كان، طواه إلى السنة القابلة. لم يلبسه أبداً، إلا في هذه الليلة. ليلة!

وانظروا الآن؛ يا للحسرة! يا للحسرة وعظيم الأسف، وعظيم الأسف! إذا قارنا أحوال مَن يقضي هذه الليالي – كما قلت لكم – أمام التلفاز، أو على الآيفون iPhone، أو في التواصل الفارغ مع الناس، أو في أحاديث الدنيا، أو في التلهي، أو في الكلام الفارغ، حسرة كبيرة، وانظروا إلى اجتهاد النبي وأصحابه – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً إلى أبد الآبدين، ورضيَ الله عن أصحابه وأرضاهم -. انظروا إلى الاجتهاد، انظروا إلى  هذا الاجتهاد، اجتهاد عجيب يا إخواني.

قال الإمام الكوفي الجليل، المُقرئ، العلّامة اللُغوي، والمُحدِّث الكبير، والمُخضرَم – أدرك الجاهلية والإسلام – زر بن حُبيش – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، المُتوفى – على ما أذكر – سنة إحدى وثمانين للهجرة، قال إذا استطعت ألا تُفطِر ليلة السابع والعشرين – لأن مذهبه أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، أي لسبع مضينا من العشر الأواخر -، فافعل. يقول إن استطعت ألا تُفطِر، فافعل. أي افعل مثل النبي وأخّر إفطارك إلى السحور. لا يُوجَد وقت، لا يُوجَد وقت لأكل يستغرق تناوله عشر دقائق أو رُبع ساعة، لا يُوجَد وقت، لا يُوجَد وقت! انتبهوا، الأمر جِد، الأمر جِد وهذا كنز.

بعض الناس لو قيل له أنت ستبحث في ساعة فقط – أمامك ساعة واحدة – عن كنز قيمته مليون يورو – ليس ملياراً، وإنما مليون يورو -، لترك كل شيء، لترك لباسه أصلاً، لم يلبس لباساً لائقاً، ولخرج بثياب البِذلة – ثياب النوم وما إلى ذلك -، يبحث ويحفر في كل مكان. وهذا عن مليار، أو عن مليون – أو حتى مليار -، كلام فارغ! ليلة القدر خيرٌ من الدنيا وما فيها. هي خير من الدنيا وما فيها! تشتري بها الجنة – بإذن الله – والفوز في الآخرة، النعيم المُقيم! ليلة؟ لماذا؟ لأنه رب رحيم – لا إله إلا هو -، يُريد أن يستنقذنا، يُريد أن يُسعِدنا. وبعضنا لا يُريد، كلكم يدخل الجنة إلا مَن أبى. بعضنا يأبى، لا يُريد.

أرأيتم لو أن أستاذاً، أعد امتحاناً للطلّاب، في كل سؤال أجابوا عنه بشكل صحيح، ضاعف درجاته سبعة أضعاف، أو عشرة أضعاف – في الحقيقة هي عشرة، بعشر أمثالها -، وفي كل سؤال أخطأوا في إجابته، فقط نقَّص منهم درجة واحدة. ثم بعد ذلك ربما ضاعف الأضعاف العشرة إلى سبعين أو سبعمائة، مَن الذي يرسب بين يدي هذا الأستاذ؟ أبلد الخلق، أبلد التلاميذ يرسب. وإلا أي تلميذ عادي بحد أدنى من الفهم والزكانة ينجح، أليس كذلك؟

ولذلك كيف لا ننجح في امتحان الآخرة؟ إذا كنا لا نُريد، مُصرِون! إذا كنا مُصرِين على ألا ننجح. والذين يقضون هذه الليالي – كما قلت لكم – أمام كذا وكذا وكذا، يبدو أنهم مُصِرون على ألا ينجحوا، لا يُريدون هذا، وليس عندهم إرادة، ليس عنده إرادة أن ينجحوا، لا تُحرِّكهم هذه المسائل. اللهم غوثك، اللهم رحمتك، اللهم لُطفك. لأن الهداية من الله، لأن الهداية من الله!

هل تعرفون ماذا كان يقول المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين يرفع من ركوعه – بعد سمع الله لمَن حمده -؟ أحق ما قال العبد – هذا من ضمن قوله، كان يقول كذا وكذا، وكان يقول أحق ما قال العبد – وكلنا لك العبد.. ما هو؟ ما هو أحق ما قال العبد؟ اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. يققول ولا ينفع ذا الجد منك الجد. النبي يقول هذا المعنى، هذه الحقيقة المُقرَّرة الإلهية، أحق ما قال العبد، أحق ما نطق العبد. لا مانع لما أعطى الله، ولا مُعطي لما منع الله، ولا ينفع صاحب الحظ من الله الحظ. أبداً!

ولذلك أنت تستطيع أن تُعيِّر نفسك، هل أنت مِمَن أرادهم الله بالخير؟ إذا يسَّرك لليُسرى، إذا حبَّبك في الطاعات، إذا أعانك على مُغانَمة الأوقات، هذه أوقات لا بد من مُغانَمتها، لا بد من انتهازها، لا بد من استثمارها وتوظيفها يا إخواني، أليس كذلك؟ إذا أعانك الله على ذلك، فأنت مِمَن أراد الله أن يُعطيهم الخير – إن شاء الله تعالى -؟ اللهم اجعلنا منهم – بفضلك ومنّك – ولا تحرمنا، وجميع عبادك الصالحين، يا رب العالمين.

يقول زر بن حُبيش التابعي الكوفي الجليل إن استطعت ألا تُفطِر في هذه الليلة – في ليلة السابع والعشرين، وذكرنا أن هذا مذهبه -، فافعل واكتف بضياح لبن. لبن خاثر، ممزوج بالماء، اشربه وينتهي الأمر. أي هذا يأخذ منك ثانية واحدة، فلم يقل حتى تمرة، مع أن السُنة تمرة، وهو يعلم ذلك، هو راو من كبار رواة الأحاديث، يعلم! لكن هو يعلم أن التمرة ربما تستغرق وقتاً، عشر ثوانٍ أو عشرين ثانية، فقال لك لا، ضياح لبن، اكتف بضياح لبن. أي بكوب من اللبن الخاثر، الممزوج بالماء، اشربه ثم افزع إلى العبادة والذكر والدعاء، في هذه الساعات الكريمات المُرتجاة يا إخواني. وهكذا كانوا – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -.

كيف كان يقضي النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام، ونعود إلى الحديث – هذه الليالي الكريمة؟ تقول شد المئئز. قيل شد المئزر كناية عن عدم قُربانه أهله. وهذا هو الأرجح، وهو قول مُعظَم الشرّاح، كان لا يقرب أهله، وذلكم أن الحق – تبارك وتعالى – حين قال فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، أباح للمُسلِمين والمُسلِمات، ومن بينهم رسول الله طبعاً – أي أباح لأهل الإسلام -، إتيان الأهل في ليالي رمضان، في الليل! وفي البداية كان هذا ممنوعاً – لن نُفصِّل -، ثم أباح لهم، في واقعة عمر بن الخطاب المشهورة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، واقعة الاختيان! أباح لهم، لكن بوافر ووفور رحمته – لا إله إلا هو – علم أنه لما أباح لهم إتيان الأهل، قد يضيع عليهم باستعمال هذه المُباحات – مُباحات هذه في ليالي رمضان، يُمكِن أن تأتي أهلك – نشدان ليلة القدر، قد يضيع عليهم باستعمال وتعاطي هذا المُباح في العشر الأواخر ماذا؟ نُشدان ليلة القدر. فقال وَابْتَغُوا ۩. قال فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩. قالوا ليلة القدر. الإشارة بقوله وَابْتَغُوا ۩ أي ليلة القدر. والنبي أعطانا إشارة، في حديث الإمام أحمد، عن عُبادة بن الصامت – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن قامها ابتغاءها. النبي يُشير إلى ذلك، إذن وَابْتَغُوا ۩ أي ليلة القدر، قال مَن قامها ابتغاءها. أي لم يقمها تزيناً للناس، ولا رياءً، ولا تسميعاً، لا! قامها يُريد الأجر، يُريد أن يسعد بمُوافَقتها – إن شاء الله تعالى -.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن قامها ابتغاءها، ثم وقعت له. وهذا أيضاً يحتمل معنيين: يُشير بطريقة واضحة إلى حدٍ ما بــ ثم وقعت له، إلى أنه أدرك أنه وافقها. كيف؟ برؤية علائمها أو بعضها، سواء الملائكة أو الأنوار أو استطراق الأرض أو عذوبة الماء أو رؤية الأشياء ساجدة أو رؤية باب مفتوح في السماء، هناك أشياء كثيرة! وكل هذا رآه الصالحون على فكرة عبر القرون، ويرونه إلى الآن. ولا تُنكِر ما لم تسعد بمثله، انتبه! بعض الناس عندهم أنانية جهولة، أنانية طفولية صبيانية. يميل إلى إنكار كل شيء لم يُكرِمه الله به، شيء عجيب جداً جداً، وهذا مُؤذِن بالحرمان، هذا مُؤذِن باستمرار الحرمان، سيمتد ماذا؟ حرمانك. فقل اللهم كما أعطيتهم أعطنا. وليس أن تُنكِر وتقول وكيف يا أخي هذا؟ وهذا لا يدخل في العقل. عقل ماذا يا رجل؟ أنت تتحدَّث عن دين، دين هذا، فيه مُعجِزات وفيه كرامات وفيه خوارق، شغل رباني هذا، غيب يتصل بالشهادة، عقل! لا، أتتحدَّث أنت عن أمور مادية؟ ما الكلام الفارغ هذا؟ حرمان، حرمان وحسد في بعض المرات وغل على بعض الصالحين والناس، يُنكِره ويقول لك لا. لأنه لم يتفق له، لكنه اتفق للألوف، للألوف – بفضل الله تبارك وتعالى -! وكل سنة يتفق لصالحين، وبالذات في هذه الليلة، يرون هذه الأشياء أو بعضها.

هذا معنى، ونحن نسأل الله ألا يكون هو المقصود، حتى لا نُحجِّر رحمة الله. ويحتمل أيضاً قوله ثم وقعت له، أي أنه صادفها وإن لم ير علائمها المخصوصة، صادفها! أي في علم الله، فعلاً أنت قمت الليلة هذه – ليلة الثالث والعشرين مثلاً -، وكانت هي هذه السنة ليلة الثالث والعشرين، فمعناها أن الأمر انتهى وأنك فزت، لأنك لم تنم هذه الليلة، ولم تله عنها. لم تله عنها، وإنما قُمتها واجتهدت فيها، إذن وقعت لك. نسأل أن يكون هذا هو المُراد، وإن شاء الله الظن برحمة الله ورحمة رسول الله بأمته أن هذا هو المُراد – إن شاء الله تعالى -.

ويُستأنس له بمثل قول سعيد بن المُسيب – رضوان الله عليه، فقيه المدينة الأعظم، أحد الفقهاء السبعة، وهو أعظمهم -. قال سعيد بن المُسيب مَن شهد العشاء ليلة القدر – شهد بمعنى ماذا؟ أي في جماعة، وليس مَن صلى، شهد أي صلاها في جماعة، قال مَن شهد العشاء ليلة القدر -، فقد أخذ بحظه منها. لم يفته حظها، قال أخذ بحظه. ليس كل الحظ، لكن – بعون الله – عنده جُزء من فضل ليلة القدر. أرأيتم؟ جُزء!

قال الإمام الشافعي الآتي في المذهب القديم – مذهبه العراقي، قبل أن ينتقل إلى مصر، طيَّب الله ذكره، وروَّح روحه في عليين -، قال إمامنا أبو عبد الله الشافعي مَن شهد العشاء والصبح في جماعة، أخذ حظه من ليلة القدر.

وورد عن رسول الله في حديث أبي الشيخ ابن حبان ومن طريقه أبو موسى المديني، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام –  مَن صلى العشاء في رمضان في جماعة، فقد أصاب بحظه، أو أصاب حظه، من ليلة القدر. أي طوال رمضان، وذكرناه – على ما أعتقد – في الخُطبة السابقة، أي هذا المعنى النبوي.

على كل حال الله أعلم أي ذلك هو الحق، فالإنسان يا إخواني يضن بهذه الأوقات الشريفة أن تفوته، ويحرص على أن يملأها كلها بالطاعات، العشر الأواخر هذا انتبهوا إليه، لا تُفرِّطوا في دقيقة فيه، أوقفوا كل النشاطات التي لا معنى لها، والتي لستم محووجين أو ملزوزين إليها، أوقفوها وانقطعوا للعبادة والذكر والرغبة فيما عند الملك – لا إله إلا هو -، لعل الله أن يُسعِدنا – إن شاء الله تعالى – بُموافَقة هذه الليلة والقبول فيها، فنقطع في ليلة ما لا يُقطَع في ثمانين سنة، وهذا من رحمة الله، نصل! انتهى، نصل، نلتحق بالكبار، نلتحق بالصالحين، في ليلة – بإذن الله تعالى -. اللهم وفِّقنا لذلك ولا تحرمنا.

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩، لماذا سُميت ليلة القدر بهذا الاسم؟ أقوال كثيرة. قال بعض العلماء القدر هو الشرف والمثابة العالية، العظمة! يُقال فلان ذو قدر. ويقول لك أحدهم هذا لا يُقدِّره، أي لا يحترمه، لا يُعطيه شرفه القدر اللائق به، فلان ذو قدر! ولا جرم ليلة القدر ذات قدر، وأي قدر؟ فهي ليلة ذات قدر، ذات شرف، ذات عظمة سامقة باذخة، أُنزِل فيها كتاب ذو قدر، وهو القرآن العظيم الكريم، والكريم هو النفيس في بابه، الذي ليس له ضريع أو ضريب، هذا الكريم! كتاب كريم وكتاب عظيم وكتاب ذو قدر، على نبي ذي قدر، فهو الخاتم ومالك أزمة الأنبياء والمُرسَلين – صلوات ربي وتسليماته عليه إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -، لأمة ذات قدر، والله شرف أننا من هذه الأمة. اللهم إنا نسألك ونرغب إليك أن تُحقِّقنا بشرف الانتساب لهذه الأمة، وأن نكون مُستأهلين لهذا الشرف. شرف سيق إلينا على غير رغبة وعلى غير إرادة منا، هكذا نحن وجدنا أنفسنا من هذه الأمة المرحومة، شرف كبير يا أحبتي.

تحد نفسك أن تُحقِّق معنى هذا الشرف، ليس شيئاً عادياً أنك من أمة محمد، والله ليس شيئاً عادياً إطلاقاً! فاستحضر هذا المعنى، استحضر أنك مُميِّز، مخصوص، لأنك من هذه الأمة العظيمة، وأثبِت هذا وحقِّقه في نفسك، كيف تُحقِّقه؟ بأن تسير في خُطى محمد، بأن تُقِر عينيه بك. هو هذا! ليس كل واحد عنده هذا الشرف العظيم، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۩، والذكر هو الشرف أيضاً. وَإِنَّهُ۩، أي القرآن، لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۩، أي شرف ومنزلة عالية، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ۩، انظر إلى هذا، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ۩، ستُسأل عن شرف هذا الانتساب، هل تحقَّقت به؟ هل برهنت أنك حقيق بشرف الانتساب إلى أمة محمد، ام اكتفيت فقط بحمل العنوان – اسمي محمد، اسمي محمود، اسمي أحمد، اسمي عمر، اسمي عليّ، اسمي عثمان، وهكذا! وفقط -؟

إذن هذا القول، وقيل ليلة القدر يا إخواني سُميت بليلة القدر، لأن الطاعات فيها ذات منزلة عظيمة عند الله. وهذا يعود إلى المعنى نفسه لكلمة القدر، أي المنزلة والشرف، لماذا؟ لأن الطاعات فيها ذات منزلة كبيرة عند الله، وهذا صحيح وثابت، ثابت أن الطاعات فيها – ما شاء الله – عظيمة الأجر.

ولذلك جمهرة السلف على أن معنى قوله – تبارك وتعالى – لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، أن العمل الصالح فيها، خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. حتى لا يلزم ماذا؟ الدور، والتكرار. العمل في ليلة وهي ليلة القدر، خير من العمل الصالح في ألف شهر – ليس في ألف ليلة، وإنما في ألف شهر – ليس فيها ليلة القدر، تخلو من ليلة القدر، فهذا أفضل. إذن العمل فيها له قدر كبير وشرف، وهذا صحيح.

وقيل سُميت ليلة الشرف – ليلة القدر ليلة الشرف – لأن الطائع فيها يسمو ويشرف ويُصبِح ذا قدر عند الله – إذا قُبل -. تخيَّل! أي في ليلة واحدة – بعون الله – يُمكِن أن ينقلك الله من المهانة إلى العز – بإذن الله تعالى -، من الوضاعة إلى الرفعة (رفعة الطاعة)، بالقبول! هذا إذا قبلك، فكما قلنا يقبلك كأنك عبدته ثمانين سنة، عبادة مقبولة، تلتحق بالصالحين، فيصير لك ماذا؟ قدر عند الله وشرف. قالوا هذا المعنى.

وقيل ليلة القدر ليست من القدر بمعنى الشرف، إنما بمعنى التضييق والتقتير. تضييق وتقتير؟ قالوا نعم. وهذه لُغة معروفة، كما قال – تبارك وتعالى – وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ۩، أي ضُيق وقُتر، وَمَنْ قُدِرَ ۩، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ۩، يونس – عليه السلام -، ذو النون، أي بماذا؟ أي لن نُضيق عليه بعقوبة. وليس من القُدرة بمعنى التمكن أبداً، إنما من ماذا؟ من القدر. أي لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ۩، أي لن نُضيق عليه بعقوبة. فإذن لماذا سُميت ليلة القدر بليلة التضييق والتقتير؟ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، ملايير الملائكة تنزل، ملايير، ملايير، ملايير!

ولذلك ذكر العلماء في تفسير الآية والعلامة التي صحت عن المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه – أن الشمس تطلع صبيحتها مُستويةً، ليس لها شعاع، واضحة، بيضاء، بلجأ، ليس لها شعاع، كالقمر ليلة التمام، أي البدر. ذكر العلماء هذا، قالوا هذه علامة، جعلها الله كذلك. هذا أولاً.

هناك تعليل ثانٍ، قالوا لكثرة أنوار الملائكة. فكأن نور الشمس هذا يطفأ، يبقى منه ماذا؟ هالة بيضاء بسيطة. وينكسر حدة الشعاع بالأنوار الملائكية، يغص بها العالم، سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ۩. لا إله إلا الله!

إذن ليلة القدر ليلة الضيق، تضيق الأرض بالملائكة النازلة، ملائكة – لا إله إلا الله – من أجلنا، تنزل من أجل أمة محمد، لكي يُسلِّموا علينا ويُصافِحونا، نحن لا نشعر، ولكن الصالحون يشعرون بهذا. ورد في بعض الآثار أن جبريل يمسح بجناحه على قلوب المُؤمِنين المُوفَّقين في هذه الليلة، فإذا فعل، اعترت المُؤمِن على غير إرادة منه رعدة شديدة وبكاء وخشوع وانكشاف في لُحيظة. يكون في حالة، تعتريه رعدة شديدة وبكاء وخشوع وانكشاف، شيء عجيب! مَن اتفق له هذا، فقد عاشه. أي يعرف كيف يحدث هذا، في لحظة! وأنت لا تدري لماذا؟ يكون جبريل قد جاء، مر ومسح بجناحه. لا إله إلا الله! وطبعاً هو لا يفعل هذا بالطريقة التي يُمكِن أن نظنها. لو هناك ليس مليار مُسلِم، لو كان هناك مئتا مليار مُسلِم، يُمكِن لجبريل أن يفعل هذا بالجميع في وقت واحد. هذا من عالم الروح! وخُذوا المثل من ملك الموت، الذي يقبض ألف وعشرة آلاف ومائة ألف نفس في وقت واحد، لا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلكم – يقول السادة العارفون والعلماء – مشغول مُستغرَق في الذكر والتسبيح والتمجيد. لا إله إلا الله! هذا هو، فهذه عجائب عالم الروح وعالم الآخرة وعالم الغيب، هذا هو! وليس عالم المادة الضيق البسيط، المحكوم بقوانين ضيقة وبسيطة.

فإذن هذا هو المعنى الثاني يا إخواني. وقيل – ونكتفي بهذا الثالث – ليلة القدر من التقدير. القدر من التقدير! لماذا؟ لأنه يُقدَّر في هذه الليلة من أعمال العباد وأرزاقهم ومصائرهم وحيواتهم وموتهم، إلى القابل. إلى العام القابل! من سنة إلى سنة، من ليلة إلى ليلة، كله. وقد يقول لي أحدكم أليس مُقدَّراً؟ هو مُقدَّر ومكتوب في اللوح المحفوظ وسبق به العلم الأزلي، لكن يُظهَر ويُفصَل، يُؤخَذ هذا من جُملة اللوح المحفوظ – أي الجُزء هذا -، لسنة كاملة. قيل ويُطلَع عليه الملائكة الأربعة العام: جبريل، وميكال، وإسرافيل، وملك الموت – عليهم السلام -. لأنهم يتولون بعد ذلك تنفيذ هذه المهام الكونية بجنودهم من الملائكة التي لا يعلم عدتها إلا هو – لا إله إلا هو -.

وإليه الإشارة بقوله في حم ۩ – الدخان – فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩. قال السادة العلماء يُفْرَقُ ۩ أي يُفصَل ويُظهَر. قال عبد الله بن عباس (الحبر) – رضيَ الله تعالى عنهما – فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩، أي يُكتَب من اللوح المحفوظ. نُسخة! تُؤخَذ نُسخة من اللوح المحفوظ في هذه الليلة، تقدير الأعمال والمصائر والأرزاق – كما قلنا -، لسنة كاملة. لذلك هي ليلة التقدير، ليلة التقدير!

إذن هل ليلة القدر المذكورة في سورتها – في المُفصَّل، في أواخر المُفصَّل – هي ليلة التقدير المذكورة في حم ۩ – الدخان -؟ حم ۩ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۩ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ۩. قال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ۩؟ طبعاً. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، إذن هو الشهر نفسه، إذن هي الليلة التي نزل فيها القرآن، لعلها هي، لعلها هي! أقوال كثيرة، قال سيدنا الإمام العارف بالله، المُحدِّث العلّامة المُفسِّر الفقيه، الشيخ عبد الله سراج الدين الحلبي – قدَّس الله سره الكريم، وأعاد الله علينا من بركاته ومن نفحاته -، قال وقد قال بعض المُحقِّقين من العارفين بالله – تبارك وتعالى، عرَّفنا الله به ودلنا عليه دلالة الصادقين العارفين – ليلة القدر تُطلَق على ليلتين: ليلة القدر بمعنى الشرف، وهي المذكورة والمنعوتة في سورة القدر بأنها  خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، وليلة القدر بمعنى ليلة التقدير – وشرحنا للتو معنى التقدير وقلنا هو تقدير لماذا -، وهذه دوّارة في السنة كلها، وإن كان يغلب عليها أن تكون في النصف من شعبان، ولكن هذا ليس دائماً. الأولى طبعاً تكون في العشر الأواخر من رمضان – يقول هذا العارف المُحقِّق -، وأما ليلة التقدير فهي دوّارة في السنة كلها، وإن كان يغلب عليها أن تكون في النصف من شعبان، ولكن هذا ليس دائماً، في بعض المرات تكون في غير النصف من شعبان. هل هذا واضح؟

قال هذا العارف المُحقِّق، قال وقد قدَّر الله أن تتفق الليلتان وتلتقيا في الليلة التي أُنزِل فيها القرآن، فكانت هي ليلة القدر وليلة التقدير. قال مولانا الشيخ سراج الدين – قدَّس الله سره – وهذا فصل الخطاب. وإذا قال الشيخ سراج الدين هذا، فهو العالم اللُغوي الفقيه الأصولي المُفسِّر المُحدِّث العارف بالله، أي لا يُلقي الكلام على عواهنه، يقول هذا بعد استقصاء وتقصٍ دقيق جداً لكل الأقوال والتأويلات. قال وهذا فصل الخطاب في المسألة.

لكن هناك سؤال يا إخواني؛ سُئل عنه الحبر ابن عباس – رضيَ الله عنهما -، كيف قال الله – تبارك وتعالى – أي ما معنى أن يقول الله عز وجل – إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩ – من رمضان طبعاً ليلة القدر – وقد نزل في شوال وفي شعبان وفي ذي الحجة وفي ذي القعدة وفي صفر وفي المُحرّم وفي ربيع، في كل الأشهر! على مدى ثلاث وعشرين سنة؟

أجاب الحبر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بأن إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۩، معناه أن الله – تبارك وتعالى – أنزل القرآن جُملة واحدة (كل القرآن) من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة، في السماء الدنيا أو سماء الدنيا، في هذه الليلة. هذا هو، هذا المعنى! ثم بعد ذلك نجّمه – أي وزّعه وفرّقه – بحسب الوقائع والكوائن. فهذا معنى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ۩، أي جُملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة، في السماء الدنيا.

وثمة قول آخر؛ ابتدأ الله – تبارك وتعالى – إنزاله على رسوله في هذه الليلة، ثم والاه في سائر الأيام والليالي والأوقات بحسب الكوائن. والأول أظهر وأشهر، الأول أظهر وأشهر – والله تبارك وتعالى أعلم – يا إخواني وأخواتي.

لكن بعضكم يقول كلام جميل هذا، وكله فيه فوائد نفيسة وعالية وشريفة، لكن يا أخي عيّن لنا ليلة القدر. لا، ومَن يملك أن يُعيّنها؟ وقد غضب النبي غضباً شديداً على أبي ذر الغفاري، وهو خليله! كان يقول قال لي خليلي، أوصاني خليلي. النبي كان يُحِب أبا ذر حُباً جماً. أبو ذر ألح عليه، متى هي يا رسول الله؟ فغضب. قال غضب غضباً لم يغضبه علىّ مُذ أسلمت. قال لو أذن الله لي لأخبرتكم؟ غير مأذون أنا، فلن أقول لكم. والنبي يعرف، يعرف متى هي، يعرف تماماً! يعرف ضابطها، ولكن هذا ممنوع، لماذا؟ إرادة الخير بأمته، إرادة الخير بأمته! ما شاء الله مُعظَم الناس على الإطلاق، إلا المُوفَّقين – اللهم اجعلنا منهم، بتوفيقك يا رب وإكرامك، لكن هكذا مُعظَم الناس – لو علم أنها الليلة الفلانية، ما قام إلا هذه الليلة. مُعظَم الناس! ولقصَّر في قيام باقي أو سائر الليالي، ولقال لك انتهى، الحمد لله، حصَّلنا نحن البُغية، ظفرنا بالبُغية، هذه ثمانون سنة ولا علينا بعد ذلك، أليس كذلك؟ فيفقدون خيراً كثيراً، ولعل قيامهم وعبادتهم غير مقبولة في هذه الليلة، ولعلهم لو قاموا ليلة أُخرى، يُقبَل عملهم، أليس كذلك؟ حرموا أنفسهم.

النبي يُحِب الخير لهذه الأمة، يُحِب الخير والنجاة والإسعاد يا إخواني، ولذلك غضب غضباً شديداً، ولذلك إذا عُلم هذا، فعجبي، عجبي مِمَن يتجرأ على تحديدها، سواء من أهل العلم، أو من غير أهل العلم، لن نصفهم بأقسى من هذا، أي ليسوا من أهل العلم، لا يعرفون لا قرآنا ولا سُنة ولا لُغة ولا قواعد أصول الفقه ولا أي شيء، شيء غريب يا أخي، وملأوا اليوتيوب YouTube، يقول أحدهم أنا سأقول لكم قولاً فصلاً. وبعضهم ربما حتى أشهد الله أو أكَّد، يقول متى هي؟ هي آخر ليلة كل سنة من رمضان. يقول آخر لا، هي ليلة كذا. يا رجل! يا رجل أنت تُغامِر بنفسك والله العظيم، والله أنت تُعرِّض نفسك لغضب كبير جداً من الله، لا تقوم له السماوات والأرض. هل تعرف لماذا؟ لأن كل مَن صدَّقك، فتساهل وتسامح ولم يقم إلا تلك الليلة، إثمه عليك. لأنك نبي، أنت نبي يُوحى إليك، وفعلاً بالوحي الذي نزل عليك أخبرك أنها آخر ليلة من رمضان، وأنت أتيت لكي تقول للناس! يا رجل الذي يُوحى إليه ويعلمها قال لك أنا غير مأذون. فها أنت لا يُوحى إليك ولا تعلمها، أأتيت لكي تقول للناس هي ليلة كذا، أو هي آخر جُمعة في رمضان؟ هناك مَن يقول يا جماعة انتهى الأمر، اتركوا كل شيء، هي آخر جُمعة. قال هذا لماذا؟ لأن أحد العارفين قال هذا يا جماعة. على كل حال نسأل الله الهداية والإسعاد والتوفيق والحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۩.

يا سيدي الذين يُسعِدهم الله بُموافاة ومُوافَقة ليلة القدر في سنين كثيرة لا يجهرون بعد ذلك للناس أنها في ليلة كذا وكذا، من أجل ألا يحزن المُسلِمون، قد يقول أحدهم هل هي في الليلة هذه؟ للأسف أنا لم أكن أتعبَّد كثيراً، كنت مُسافِراً، أو كنت نائماً، أو كنت مريضاً مُعتلاً. فيحزن الناس! أو لأجل ألا يذهب بعضهم إلى قيام هذه الليلة من كل سنة، ولعلها تدور. وهذا قول، وهو قول قوي، أي ليس ضعيفاً، أنها تدور في العشر الأواخر، في الأوتار، وبعضهم قال وفي الأشفاع.

ولذلك الحسن البِصري، والإمام مالك، وقال به فريق من الحنابلة، قالوا تُطلَب ليلة القدر في العشر الأواخر أشفاعه وأوتاره. وعندهم أدلة على ذلك، في الأشفاع وفي الأوتار! لا تُركّز فقط على الأوتار، وفقط! عندهم أدلة يضيق المقام عند ذكرها الآن، أكيد لا نستطيع ذكرها، وليس هذا هو المُراد، فالمُهِم أن تجتهد في العشر الأواخر كلها كما كان يفعل سيدك رسول الله.

كان يعتكف النبي، كان يعتكف كل رمضان العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن أمنا عائشة. بل في البخاري عن أبي هُريرة، أنه كان يعتكف العشر الأواخر من كل رمضان، فلما كان العام الذي توفاه الله فيه اعتكف العشرين. هذا في البخاري عن أبي هُريرة، اعتكف آخر عشرين ليلة. وسوف تستغرب؛ لأن هناك بعض الأقوال التي تُفيد بأنها تكون قبل العشر الأواخر أيضاً. الأقوال في ليلة القدر زُهاء أربعين قولاً، أضعفها وأغربها قول مَن قال لقد الارتفعت وانتهى الأمر. لا! هذا ضعيف جداً جداً جداً، هناك مَن قال ارتفعت ولا تعود. هي ارتفعت مرة عن ليلتها، من أجل اختصام اثنين من الصحابة، تلاحيا، وهذا في الصحيح، فغضب النبي، وقال كنت خرجت لأُخبركم بها. هي كانت نازلة! لكي تسعدوا، فتلاحى فلان وفلان، فارتفعت.

سوف تقول لي يا الله! يا الله ويا لله! يا لله لأمة محمد! كيف ستُوفَّق؟ وكيف ستسعد؟ وكيف ستُنصَر، إذا ليلة القدر ارتفعت وهي بتلك البركة والعظمة والشرف، من أجل تخاصم اثنين من الصحابة، في مسألة ربما علمية أو اجتماعية؟ الآن أمة محمد يلعن بعضها بعضاً، ويسب بعضها بعضاً، ويطعن بعضها في بعض، وهناك شحناء وبغضاء وكره وتأليب وتحريض ودماء وسفك، لا! وقال لك هذا. نسأل الله غوثه ونصره يا إخواني، نحن مساكين! ولا يُقال لنا هذا، كل مَن يتكلَّم يُؤيِّد عُصبته وحزبه وجماعته وناسه، كأنهم هم المُوحى إليهم، وهم فقط سلّاك طريق الله، وهم فقط عُمّار الجنة، والبقية في الهلاك! كيف سيُسعِدنا الله؟ كيف سيُبارِكنا؟ ترتفع من أجل تلاحي صحابيين جليلين؟ قال لك نعم. وغضب النبي، ارتفعت – قال لهم -، فالتمسوها في كذا وكذا.

ولذلك اجتهدوا في العشر الأواخر كلها. الإمام مالك والحسن البِصري وفريق من الحنابلة، قالوا لك في الأشفاع والأوتار، لا فرق. ولديهم الأدلة.

طبعاً هناك مَن قال هي في رمضان كله. يُمكِن أن تكون في أي ليلة! وهناك مَن قال في أول ليلة من رمضان. ليلة النظر! حين ينظر الله إلى عباده. ومَن نظر الله إليه، لم يُعذّبه أبداً. عجيب! وهناك مَن قال إنها ليلة بدر، ليلة الفُرقان، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ۩. قالوا لك ليلة الفُرقان. على اختلاف هل ليلة بدر كانت ليلة السابع عشر أو ليلة التاسع عشر؟ فقولان إذن، قولان إذن! وهناك مَن قال تدور في السنة كلها. ويُروى عن أبي حنيفة، وليس في رمضان فقط.

أقوال ضعيفة! هذه أقول ضعيفة، ولكن أقوى الأقوال أنها في العشر الأواخر – إن شاء الله تعالى -، أنها في العشر الأواخر! وهذا يجعلها محدودة، عشر ليال! وهذا ليس كثيراً – بفضل الله -، ليس كثيراً أن نجتهد فقط في عشر ليال – بإذن الله تبارك وتعالى – يا إخواني، لكي نُصيب هذا الأجر الجزيل وهذا الثواب الخطير الكبير العميم، هذا هو.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۩، النبي يدري، قال السادة العلماء كل ما ورد فيه وَمَا أَدْرَاكَ ۩ فقد أدراه النبي، أما ما ورد فيه وَمَا يُدْرِيكَ ۩ فلم يدره النبي. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ۩، النبي لا يعرف، لا يدري! ولكن وَمَا أَدْرَاكَ ۩، تختلف، يدري، هو يعرف ما هي ليلة القدر وما شرفها وما عظمتها وما أسرارها، يعرف النبي، ويعرف تعيينها – صلى الله عليه وآله إلى أبد الآبدين -.

ثم قال لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ۩ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ۩. هناك تنزل وهناك سلام، سَلَامٌ هِيَ ۩، لم يقل هي سلام. تقديم المُسنَد إليه على المُسنَد، مُشعِر بماذا؟ مُشعِر بالحصر والقصر. كأنه يقول إن هي إلا سلام، ما هي إلا سلام. وهذا الفرق بين ما لو قال هي سلام حتى، وبين قوله سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ ۩، أي ليست إلا سلاماً. ما المُراد بالسلام؟ التسليم. المُراد بالسلام هنا التسليم. جبريل – عليه السلام – والملائكة يُسلِّمون على المُؤمِنين.

روى الإمام أبو بكر البيهقي، والإمام أبو حاتم بن حبان – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا كان ليلةُ القدرِ – كان تامة هنا، إذا كان ليلةُ القدرِ -، أمر الله – تبارك وتعالى – جبريل، فنزل في كبكبة من الملائكة، إلى الأرض، يُسلِّمون ويُصافِحون كل مُؤمِن ومُؤمِنة من قائم وقاعد، من مُصلٍ وذاكر. أما النائم، فيُمكِن أن تكون (راحت عليه)، لم يذكر هنا النائم، لم يذكر هنا النائم! إلا إن كان نام لثقل في رأسه، من كثرة السهر في العبادة. وقد اتفق لكثيرين أنهم حظوا بليلة القدر وبأسرارها وهو نوّم. كما قلت لكم العبرة بالقبول. فكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر! كم من قائم محروم! وكم من نائم مرحوم! قال العارفون هذا قام وقلبه فاجر، وذاك نام وقلبه ذاكر. لا إله إلا الله، هذا مرحوم، وهذا محروم. هذا قلب فاجر، وهذا قلب ذاكر وهو نائم. الله، اللهم أيقظنا إلى طاعاتك، واسع بنا إليها، شداً شداً، جهداً جهداً، اللهم آمين، ولا تخذلنا. هذا هو.

يُصافِحونهم إذن ويُسلِّمون عليهم، حتى يطلع الفجر. لا إله إلا الله! ويستغفرون لهم، يقول ويُؤمِّنون على دعائهم. الله! أي جبريل والملائكة، تدعو ويُؤمِّنون، يقولون آمين، آمين، آمين. نعم! وهذا يجعل الدعاء مقبولاً. هذا يجعل الدعاء مقبولاً، أي إذا أمَّن جبريل والملائكة، هذا معنى أنهم يُؤمِّنون على دعائك. حتى يطلع الفجر! فيقول جبريل يُنادي بالملائكة معاشر الملائكة الرحيل الرحيل. انتهى الأمر، انتهى! انتهت هذه الجولة، نعود إلى العالم العلوي، سعد مَن سعد، وحُرم مَن حُرم. لا إله إلا الله، هي ليلة. معاشر الملائكة الرحيل الرحيل. فتقول الملائكة يا جبريل فما فعل الله بحوائج المُؤمِنين من أمة محمد – صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً -؟ فيقول – عليه السلام – نظر الله إليهم، فعفا عنهم وغفر لهم، إلا لمُشاحِن أو مُدمِن خمر أو قاطع رحم أو عاق لوالديه.

المُشاحِن هو الذي بينه وبين إخوانه أو المُسلِمين شحناء، خصومات وبغضاء. وعاق والديه – والعياذ بالله – معروف، إلى آخره. أربعة! أربعة الله لا ينظر إليهم ولا يعفو عنهم ولا يغفر لهم ولا يقبل دعاءهم: مُدمِن الخمر، وعاق الوالدين، وقاطع الرحم، والمُشاحِن. نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

قبل أن نمضي إلى الصلاة – إخواني وأخواتي -، قد يسأل بعضهم فما هو سر اهتمام السادة الحنفية والإخوة الأحناف من الأتراك وغير الأتراك، كل سنة، بليلة السابع والعشرين؟

في الحقيقة هذا الاهتمام ليس ناشئاً وليس ناجماً من فراغ، هذا اهتمام له ما يُؤيده وله ما يشهد له، لأن ليلة السابع والعشرين في الحقيقة لها خصوصية ولها ميزة، وهناك من الأولياء مَن ضبط ليلة القدر بضوابط مُعيَّنة بحسب الكشف، وسُبحان الله! يتفق أن تكون ليلة السابع والعشرين، حتى وفق هذه الضوابط التي لا أُريد أن أذكرها لكم؛ حتى لا أفتن بعض الناس. سُبحان الله! يتفق أن تكون وفق ضابطه، أيضاً ليلة السابع والعشرين، في أكثر السنوات. فيبدو أن ليلة السابع والعشرين ليلة فعلاً مخصوصة بأسرار مُعيَّنة.

لئلاً نُطيل أيها الإخوة؛ روى زر بن حُبيش الكوفي الذي ذكرته اليوم، قال كان عمر وحُذيفة – وذكر أُناساً آخرين من أصحاب رسول الله – لا يشكون أنها ليلة السابع والعشرين. وهو مذهب الكوفيين، ومذهب الأحناف، فأبو حنيفة كوفي، ومذهب الزر بن حُبيش، ومذهب سُفيان الثوري، فهو كوفي أيضاً، سُفيان كوفي – رضوان الله عليهم أجمعين -. وكان صاحب رسول الله وصاحب القرآن أُبي بن كعب يحلف بالله، لا يستثني، أنها ليلة السابع والعشرين. فكيف تحلف أنت إذن؟ يقول بالعلامة، أو الأمارة، التي ذكرها لنا رسول الله. أن الشمس تطلع في صبيحتها مُستوية، ليس لها شعاع. قال هذا أنا جرَّبته، وكل سنة يحدث هكذا، ليلة السابع العشرين. أي يوم السابعة والعشرين، تطلع هكذا. قال هذا واضح، النبي ذكر لنا لها علامة، ونحن تحقَّقنا من هذه العلامة، باستمرار! ويحلف بالله، يحلف بالله!

روى عبد الرزّاق بن همام الصنعاني – رحمة الله عليه، أستاذ الإمام أحمد – في مُصنَّفه، أن عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حين كان خليفة، جمع جماعة من علماء الصحابة، مُهاجِرين وأنصاراً، فسألهم عن ليلة القدر. أي متى ليلة القدر؟ وكذا. قال فاتفقوا جميعاً على أنها في العشر الأواخر. لم يقل أحد في النصف الأول وما إلى ذلك أبداً. كلهم قالوا في العشر الأواخر.

فانتدب عبد الله بن عباس وهو أصغرهم سناً وليس علماً، وقال يا أمير المُؤمِنين إني لأعلم أي ليلة هي. قال أي ليلة هي؟ قال إني لأعلم أي ليلة هي. قال أي ليلة هي؟ قال السابعة تمضي أو السابعة تبقى. إذا السابعة تمضي، فستكون السابع والعشرين، وإذا السابعة تبقى – من الشهر المُتيقَّن، وما هو المُتيقَّن؟ التاسع والعشرين. لأن غير مُتقين أن يكون ثلاثين، إذن يكون تسعة وعشرين، ولن يكون ثمانية وعشرين، فهذا مُتيقَّن. وخُذوا هذه القاعدة، لكي تفهموا حتى الكثير من الأحاديث، بقينا ومضينا وكذا. التاسع والعشرين مُتيقَّن -، فستكون ليلة ماذا؟ الثالث والعشرين.

بعض الناس رووه عن ابن عباس دون أن يذكروا هذا. إذن هو قال ماذا؟ لسبع تمضي أو سبع تبقى. سبع تبقى! من التسعة والعشرين، فتكون الثالث والعشرين. وإلا فستكون السابع والعشرين.

قال له ومن أين لك هذا؟ من أين علمت هذا؟ قال له، على ماذا استندت؟ إلى ما اتكأت؟ قال له يا أمير المُؤمِنين نظرت، فوجدت الله – تبارك وتعالى – خلق السماوات سبعاً، وخلق الأراضين سبعاً، والطواف سبع، والسعي سبع، ورمي الجمار سبع، والإنسان يسجد على سبعة أعضاء – الجبهة، اليدان، الركبتان، الرجلان، صحيح! وهذا في الصحاح طبعاً، سبعة أعضاء، سبعة أعظم، سبعة آراب، وكلها واردة في الصحاح -، وخُلق من سبع، ويأكل من سبع. قال خُلق من سبع؛ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۩. هذه واحدة! ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۩، هذه الثانية، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ۩، هذه الثالثة، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ۩، هذه الرابعة، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ۩، هذه الخامسة، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ۩، هذه السادسة، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۩، هذه السابعة. إذن سبعة!

ولذلك قال الإمام عليّ – عليه السلام – لا تكون مؤودة، حتى تمر بالتارات السبع. هذا حين ذكروا أن الذي يعزل عن زوجته، إنما هي المؤودة الصُغرى. قال لا تكون مؤودة حتى تمر بالتارات السبع. أي بالأطوار، الــ Phases، قال حتى تمر بالتارات السبع. وهذه هي التارات السبع.

قال وخُلق من سبع، ويأكل من سبع. انظر إلى ابن عباس، وانظر إلى التقصي والاستقراء، اسمه الاستقراء هذا، هذا استقراء، استقراء علمي دقيق للسبع وخواص السبع. قال ويأكل من سبع. قالوا هو قوله – تبارك وتعالى – فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ۩ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ۩ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ۩ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ۩ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ۩ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ۩ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ۩ وَفَاكِهَةً۩… والأب للحيوان. حَبًّا ۩، هذه واحدة، وَعِنَبًا ۩، هذه الثانية، وَقَضْبًا ۩، هذه الثالثة، وَزَيْتُونًا ۩، هذه الرابعة، وَنَخْلًا ۩، هذه الخامسة، وَحَدَائِقَ غُلْبًا ۩، هذه السادسة، وَفَاكِهَةً۩، هذه السابعة، والأب للحيوان، في قول جماهير المُفسِّرين، الأب ما تأكله الحيوانات. إذن طعام الإنسان من سبع، طعام الإنسان من سبع!

قال له والأيام سبعة، والدهر يدور على سبعة. سبعة أيام الأسبوع، والدهر يدور على سبعة! وذكر له عند غير أيضاً عبد الرزّاق سبعاً أُخرى، قال وأُنزل على النبي المُحمَّد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أو وأوتيَ النبي، ماذا؟ السبع المثاني. وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۩ في الحجر. إذن سبع أيضاً، سبع مثانٍ، لماذا سبع؟ سبع مثانٍ. قال والميراث على سبعة. قسمة الميراث! التركة كلها، هذه واحدة، وهذه في أحوال مُعيَّنة، وهذه نادرة، ثم الثُلاثان، وهذه الثانية، ثم الثُلث، وهذه الثالثة، ثم السُدس، وهذه الرابعة، ثم النُصف، وهذه الخامسة، ثم الرُبع، وهذه السادسة، ثم الثُمن، وهذه السابعة. سبعة! قسمة التركة على سبعة، هل هذا واضح؟ قال والتركة على السبعة.

وحُرّم على الإنسان من قراباته نكاح سبع. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ۩. أُمَّهَاتُكُمْ ۩، هذه واحدة، وَبَنَاتُكُمْ ۩، هذه الثانية، وَأَخَوَاتُكُمْ ۩، هذه الثالثة، وَعَمَّاتُكُمْ ۩، هذه الرابعة، وَخَالَاتُكُمْ ۩، هذه الخامسة، وَبَنَاتُ الْأَخِ ۩، هذه السادسة، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ۩، هذه السابعة. سبعة! بعد ذلك الأمهات الرضاعيات وما إلى ذلك، وهذا شيء ثانٍ، لكن هذا من القرابات، من قراباته سبع.

قال له سبع… سبع… سبع… سبع… فأُعجب عمر جداً، وقال لقد فطنت يا عبد الله بن عباس لما لم نفطن له. أنت فهمت شيئاً وتلمحت شيئاً لم نفطن إليه.

أخيراً أختم يا إخواني بالآتي من مُلح العلم، ولا أدري لماذا يُقال إنه من مُلح العلم، أنا أنقل هذا عن ابن عطية عبد الحق، ابن عطية الغرناطي، صاحب المُحرَّر الوجيز، وقد أيَّده العلماء كابن رجب، وفي القلب شيء، أي أكاد أقول هذا أدخل في متين العلم، هذا ليس مُجرَّد مُلح علم. قال لك هذا من مُلح العلم، وليس من متين العلم. وعلى كل حال الله أعلم بالحقيقة.

سورة القدر يا إخواني، تعرفون كم كلمة؟ احصوها. ثلاثون كلمة، على عدد أيام ماذا؟ الشهر إذا تم. سورة القدر ثلاثون كلمة. وهناك المُركَّب الإضافي ليلة القدر – هناك مُضاف ومُضاف إليه، ولكن اسمه المُركَّب هذا -، هذا المُركَّب الإضافي يتكوَّن من تسعة أحرف؛ ل ي ل ة ا ل ق د ر، تسعة أحرف! تكرَّر في السورة ثلاث مرات. وتسعة حين نضربها في ثلاث، يُساوي الناتج سبعة وعشرين. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۩ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۩… فقط ثلاث مرات! ثلاث في تسعة، تُساوي سبعة وعشرين.

وما هو أعجب من هذا كله، أن السورة ثلاثون كلمة، والإشارة إلى الليلة بقوله هِيَ ۩ رقمها سبعة وعشرون. هذه الكلمة رقمها سبعة وعشرون.

أي معنى هذا أن هناك سراً، هذه ليس اتفاقات هكذا وليست مُصادَفة، كلمة هِيَ ۩ رقمها سبعة وعشرون. عد من أول السورة، اقرأ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ۩… كلمة هِيَ ۩ رقمها سبعة وعشرون، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ۩، تمت الثلاثون. أي بعدها بثلاث كلمات فقط.

لاحظت شيئاً وأسأل الله أن أكون مُصيباً فيه، ولا أدري هل لاحظه أحد آخر أم لا، لاحظت هذا أمس لأول مرة! هناك الحواميم السبعة يا إخواني، الحواميم السبعة جاءت في القرآن ولاءً، جاءت في القرآن ولاءً بمعنى ماذا؟ أي مُرتَّبة هذا الترتيب. أولاً غافر، ثم فُصلت، ثم الشورى، ثم الزُخرف، ثم حم ۩ الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف. سبعة حواميم! الأدنى منها إلى المُفصَّل، والمُفصَّل فيه سورة القدر، ما هي؟ الدخان. وهي الثالثة من تحت، أي الثالثة التي تبقى، الثالثة التي تبقى، أي السابع والعشرين، وهي سورة حم ۩ – الدخان – إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ۩ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩.

اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. واجعلنا من عبادك المقبولين المبرورين المسعودين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

يا أحد مَن لا أحد له، يا كهف مَن لا كهف له، يا حرز مَن لا حرز له، يا غوث مَن لا غوث له، إلهنا ومولانا رب العالمين، أغثنا، أغثنا، أغثنا، أغثنا، أغثنا، أغثنا، أغثنا – قالها سبعاً -، يا رب العالمين، بغوثك القريب.

ارحم أمة حبيبك محمد، اللهم اجمع شملها، اللهم لُم شعثها، اللهم وحِّد صفها، اللهم ألِّف بين قلوبها، اللهم وحِّد كلمتها، اللهم عُد بها إليك وإلى دينك عوداً حميداً، بشبابنا وشوابنا وكهولنا وشيوخنا وعجائزنا وبنا أجمعين، يا رب العالمين، واغفر لنا ما كان منا في الدهر الأول.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، يا مَن يكتفي عن جميع خلقه ولا يكتفي عنه أحد من خلقه، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

ارحمنا في شهر رمضان، واغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، باطنه وظاهره، قديمه وحديثه، كبيره وصغيره، في شهر رمضان، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم وأعتق فيه رقابنا من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وأولادنا وذرارينا وأحبابنا ومشايخنا وأساتيذنا وكل مَن له حق علينا والمُسلِمين والمُسلِمات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ووفِّقنا إلى مُصادَفة ليلة القدر، وأعظِم لنا فيها الثواب الجزيل والأجر، واجعلنا فيها من المقبولين المسعودين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، لا تُؤاخذنا بما فعل السُفهاء منا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم وأعِد علينا رمضان أعواماً عديدة وسنين مديدة، واجعلنا فيه دائماً مِمَن وفَّقته إلى طاعتك وأحسنت قبول عمله، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 24/5/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: