إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۩ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۩ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

لو كان العقل الإنساني الذي هو في رأس ومُقدَّم هبات الله الثمينة والغالية للنوع الإنساني ملكة أو فاعلية تعكس الحقائق والوقائع كما هي بموضوعية تامة لكان يُمكِن أن يُقال إن إشكالية العقل في مُقابِل النص الإلهي أو نص الوحي ستزداد تعقيداً بلا شك وستكون أكثر حراجة!

أما وحقيقة الحال أن العقل ليس بهذا المُستوى من الموضوعية ومن القدرة على النفاذ إلى لُب الأشياء وحقائق الموضوعات لأنه في جُزء كبير منه – لا نقول العقل كله ولكن في جُزء لا يُستهان به – هو عبارة عن دوائر – كما يُقال – عصبية أو دوائر سيكولوجية – كما يُحِب بعض العلماء أن يدعوها – نرثها من آبائنا وأمهاتنا، أي هي قضية وراثية أو قضية جينية، تعكس تكيفات بعيدة في ماضينا القديم بل القديم جداً، أي في ماضي أسلافنا، تكيفات مُعيَّنة!

بعض الناس قد يقول هذا خبر سار، هذا ليس خبراً سيئاً، هذا خبر جيد وخبر سار، لماذا؟ لأن العقل إن كان في جُزء عظيم منه بهذه المثابة وفق هذا التوصيف فهو بلا شك سيُوفِّر علينا وقتاً طائلاً ووقتاً طويلاً كان ينبغي أن نستنزفه وأن نستغرقه في مُعالَجة وفي الاستجابة للتحديات التي واجهت أسلافنا البعيدين، ومن ثم نصنع العجلة مُجدَّداً في كل مرة، الخبر السار أننا لا نفعل، بمعنى أو بقول أكثر تبسيطاً يا إخواني نحن مُبرمَجون، عقلنا هذا في جُزء كبير منه مُبرمَج، يأتيك جاهزاً مُبرمَجاً، أي مع الــ Softwares، يأتيك جاهزاً وأنت مُباشَرةً تُنشِّط وتُشغِّل وتُفعِّل هذه البرامج.

بالمُناسَبة قد يقول بعض الناس هذه هي الغريزة، وهذا صحيح، هذه هي الغريزة، لكن هذا توصيف أكثر دقة لما كان يُسمى بضبابية وغموض كبير الغريزة، الغريزة! هذا هو التوصيف العصبي الدقيق لمسألة الغريزة أو لأكثر مسائل ما يُسمى بالغريزة.

ما المُشكِلة في هذا؟ المُشكِلة في هذا يا إخواني – وهذا الجُزء غير السار من الخبر كما يُقال – أن هذه البرمجة وهذه الوراثة تجعلنا مُؤهَّلين وذوي استعداد لأشياء في غاية البشاعة والشناعة، في رأسها طبعاً – كما تعلمون – القتل، نحن كائنات قاتلة، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، عجيب أن الملائكة أول ما ذهبت تُعرِّف البشر عرَّفتهم من هذه الزاوية، قالت خليفة من هذا الجنس! أي جنس الهومو Homo، معروف! أي البشر، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۩، طبعاً لأنه سُبِق، واضح من السياق أنه سُبِق، مرة أُخرى إذن من هذا الجنس! جنس الهومو Homo، أي البشر، الذي يسفك الدماء والمُفسِد في الأرض، هذا مُفسِد وقاتل، عنده نزعة عجيبة للقتل.

سيقول أحدكم لكن أليست نظرة الملائكة هذه تشاؤمية؟ لا، ليست تشاؤمية، لأن الإنسان عبر تاريخه كان ولا يزال قاتلاً، وربما القاتل الأكبر طبعاً بلا شك، ضحايا الإنسان التي يجترمها أخوه الإنسان لا تُقارَن بها ضحايا الفهود والنمور وسمك القرش – Sharks – والثعابين والحيات والعقارب، كلام فارغ! كل هذه لا شيئ، في الحربين العالميتين الأولى والثانية سقط من الضحايا زُهاء مائة مليون، في الحرب الأولى أكثر من عشرين مليوناً، في الحرب الثانية أكثر من سبعين مليوناً، زُهاء مائة مليون في هذا النطاق الضيق!

أما الضحايا الذين راحوا ضحايا لجرائم فردية مُنظَّمة أو غير مُنظَّمة فكثر، وطبعاً هذا تعبير الإف بي آي FBI، الجرائم المُنظَّمة والجرائم غير المُنظَّمة هذا اصطلاح ليس في علم النفس ولا في علم الاجتماع، هذا اصطلاح من الإف بي آي FBI، أي الشرطة الاتحادية الأمريكية، هي التي قرَّرت أن تستخدم هذا المُصطلَح، وظل دارجاً إلى اليوم على كل حال، مع أنه مُصطلَح تبسيطي ولا يتناول الجرائم التي هي Intermediate types، أي نماذج مُختلَطة، نماذج مُتوسِّطة أو وسيطة بين المُنظَّمة وغير المُنظَّمة، أي الــ Mixed crimes، الجرائم المُختلَطة! موجودة هذه، موجودة كثيراً أيضاً، وصدَّعت علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء النفس التطوري بالذات، الإف بي آي FBI طبعاً لا علاقة لهم بهذا، هم أخذوا بهذا التبسيط، على كل حال ضحايا هذه الأنواع من الجرائم – أي شخص يقتل شخصاً، مجموعة أو عصابة أو مافيا Mafia تقتل أشخاصاً آخرين تعرفهم أو لا تعرفهم، وفي الغالب طبعاً في الجرائم المُنظَّمة الأساس أنها لا تعرفهم، هذا هو ضابط الجريمة المُنظَّمة – في القرن العشرين أيضاً وحول العالم في الحد الأدنى مائة مليون أيضاً، كثير جداً! ما هذا؟ ما هذا العالم؟

طبعاً أنت تعيش في عمرك الضيق وفي نطاقك الضيق – في حارتك من هذه المدينة الصغيرة أو القرية – وتقريباً يُمكِن أن تمر عليك الحياة كلها ولا تسمع إلا بجريمة أو جريمتين، وربما لا تسمع أحياناً في نطاقك الضيق، فتظن أن العالم فضاء آمن مُسالِم جداً، ليس كذلك! فضاء مُروِّع ومُخيف، تُسفَك فيه الدماء وتُفسَد فيه الأرض والكوكب يا إخواني، مائة مليون كثير جداً! مائة مليون من ضحايا الجرائم شخصية وغير الشخصية، هكذا! ليست حروباً، هذه غير الحروب، مائة مليون كحد أدنى، يقول العلماء المُختصَون في هذه الموضوعات لك أن تضرب في اثنين أو ثلاثة، قد يكون الرقم الحقيقي هو مائتا مليون أو ثلاثمائة مليون، شيئ مُخيف ومُرعِب يا إخواني، مُرعِب!

الدوافع كثيرة جداً جداً جداً، طبيعة الجُناة وأنماط الجُناة كثيرة جداً، جُزء أيضاً من تعزيز الجانب غير السار في هذا الخبر هو إفساد أو ضرب على الوهم الذي ساد وشاع بين أكثرنا في الشرق والغرب، أن المُجرِمين لا يكونون إلا مذهونين، أي مُصابين بماذا؟ بالذُهان، أي هم مُختَلون عقلياً، لا يكونون إلا مُختَلين عقلياً، المُجرِم مُختَل عقلياً، شخص غير طبيعي، أي مجنون! بالعبارة البسيطة هكذا مجنون، علماء الطب النفسي لا يُحِبون كلمة مجنون، ما عادوا يستعملونها، يقولون هو مذهون، مُصاب بالذُهان، اختلال عقلي، انشطار في الشخصية، ما سوف لن يُعجِبكم أن هذا غير صحيح، غير صحيح! المُذهونون الذين يرتكبون جرائم القتل تتراوح نسبتهم بين الثلاثة إلى الخمسة في المائة فقط، هذا يعني أن عندك حوالي خمسة وتسعين في المائة، جرائم القتل نرتكبها نحن، أنا وأنت وهو وهي، الطبيب والمُهندِس والمُحامي والمُتعلِّم وابن الناس والمُتديِّن والشيخ والقسيس والحاخام والمُحترَم جداً وذو الحيثية في المُجتمَع، بشر عاديون جداً! وهذا المُرعِب في القضية بالمُناسَبة، هذا المُرعَب في القضية! هذا حُقَّ له أن يكون مُرعِباً لكل إنسان لا يزال عنده بقضية من تمسك بجوهر إنسانيته، بقية من ضمير، وبقية من خوف لله – تبارك وتعالى – إن كان من جماعة المُؤمِنين، اللهم ثبِّت علينا إيماننا، حُقَّ أن يكون مرعوباً حقيقةً من هذا، لأن هذا معناه أنه قد يكون في يوم من الأيام وقد ينتهي به الحال والمطاف أن يكون قاتلاً، لأن هؤلاء – الخمسة والتسعين في المائة – من القتلة لم يكونوا مذهونين، لم يكونوا مجانين، لم يكونوا مشروخي الشخصية ومفصومي الشخصية أبداً، كانوا أُناساً طبيعيين جداً جداً جداً، في ظروف مُعيَّنة قتلوا، ارتكبوا جريمة القتل في حق أزواجهم، زوجاتهم، أصدقائهم، جيرانهم، مُنافِسيهم، خصومهم، وربما الذين استفزوهم في قضايا تافهة جداً جداً جداً، جاوزوهم بالسيارة – مثلاً – وعملوا لهم إشارة بالأُصبع وما إلى ذلك أو بصقوا عليهم، فانتهت المسألة بالقتل، هذا يحدث كثيراً جداً، عجيب! هذا هو الإنسان، وكما قلت لكم الصادم أن القاتل قد يكون أحياناً مُحامياً كبيراً أو مُتعلِّماً أو مُفكِّراً، شيئ غير طبيعي! وارتكب جريمة قتل في هذه الحالة، ما الذي يحدث هنا؟ وليس مجنوناً!

البروفيسورة كارول هولدن Carol Holden
البروفيسورة كارول هولدن Carol Holden

البروفيسورة Professor كارول هولدن Carol Holden – هذه عالمة كبيرة أمريكية في الطب الشرعي أو في علم النفس الشرعي بالأحرى، أي الــ Forensic Psychology، عالمة كبيرة – بعد ثماني عشرة سنة من لقاءات مُتواصِلة مع القتلة لخَّصت تجربتها بطريقة مُفزِعة لنا، بالقول ليس هناك ثمة خط فاصل بيننا وبينهم، أُناس طبيعيون تماماً، أي القتلة، مثلنا! فما الرسالة من وراء هذه التجربة المُخيفة؟ أننا قتلة، هذا الجنس قاتل، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، نحن أبناء قابيل في نهاية المطاف، نحن أبناء ذُرية قابيل، وقبل قابيل – قبل أن يأتي آدم وقابيل وهابيل – كان هذا الجنس – أي الهومو Homo – قتلة أيضاً، هذا جنس القتلة، جنس الهومو Homo! النياندرتال Neanderthalensis – مثلاً – ليس من الجنس العاقل الخاص بنا، وهو موجود، لا تقل لي هذه أساطير، موجود! حفرياته بالمئات حول العالم، بالمئات! وهي كاملة، لأنه – أي النياندرتال Neanderthalensis – دفن أفراده، كان يدفن، لا تقل لي هذه أوهام تطورية ومُجرَّد كلام، تظن أن هذه لُعبة، لا! هناك هياكل موجودة تامة وهي تختلف عنا، حين تأخذ الجمجمة تجد أنها تختلف عن جمجمة الإنسان العاقل، نوع آخر من جنس الهومو Homo، هذا إنسان النياندرتال Neanderthalensis، نحن الإنسان العاقل، هذا أيضاً كان قاتلاً، الآن تُوجَد بعض الأدلة والتلميحات التي تُؤكِّد أن النياندرتال Neanderthalensis كان يأكل البشر مثله، النياندرتال Neanderthalensis يأكل النياندرتال Neanderthalensis! يُقطِّعه، يشويه، ويحرقه، ثم يأكله، نفس الشيئ! قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، قالوا هذا الجنس! هذا جنس ملعون، جنس قاتل، لا خط فاصل بيننا وبين القتلة، الدكتور كارول هولدن Carol Holden قالت هذا، لا خط فاصل قالت، لم أستطع أن أضع هذا الخط.

تشيزري لومبروزو
تشيزري لومبروزو

فإذن التفسير المُريح هذا انتهى يا إخواني، التفسير المريح انتهى، أي التفسير اللومبروزو – نسبة إلى لومبروزو Lombroso – في القرن التاسع عشر، قرن العنصريات والعرقيات والــ Social darwinism، أي الداروينية الاجتماعية، أن المُتخلِّفين والزنوج والبرابرة والهمج وغير المُتعلِّمين والطبقات الكذا والكذا هم الذين يقتلون ويجرمون، نظرية لومبروزو Lombroso الإيطالي! وهي غير صحيحة، غير صحيحة بالمرة، أسطورة في العلم، كلام فارغ! أثَّرت في كثيرين حول العالم، مِمَن أثَّرت فيهم الأستاذ الكبير عباس العقاد، هو تأثَّر كثيراً بنظرية لومبروزو Lombroso، أعني إلى حد بعيد، ليس بالكامل وإنما إلى حد بعيد، لكنها غير صحيحة بالمرة، أسطورة من أساطير العلم، الدراسات الإحصائية الآن تُكذِّب مثل هذه الأوهام العلمية.

ديفيد إم. باس David M. Buss
ديفيد إم. باس David M. Buss

لماذا؟ إذا كنا كذلك هل يُمكِن أن يُقال إننا كذلك لأسباب أُخرى غير أننا مجانين؟ لن نُؤمِن بأننا مجانين فنقتل أو أننا قتلة لأننا مجانين، ربما لأننا فقراء، لأننا مُضطهَدون، لأننا من طبقات اجتماعية مسحوقة، التفسيرات الاجتماعية! هذا غير صحيح، هذه تُفسِّر في نطاق ضيق، قدرتها التفسيرية محدودة جداً، فقيرة! قدرة هذه النماذج الاجتماعية فقيرة جداً، أيضاً إحصائياً لم يثبت أن الثقافات الاشتراكية أو المُجتمَعات الاشتراكية ترتفع فيها منسوبات أو مُعدَّلات القتل أكثر من الثقافات الرأسمالية والمُجتمَعات الرأسمالية، غير صحيح! الإنسان هو هنا هو هنا، نفس المُعدَّلات، وهذه مُجتمَعات اشتراكية – أي التفاوت فيها محدود – وهذه مُجتمَعات رأسمالية – أي التفاوت فيها ساحق بين الذين يملكون كل شيئ والذي لا يملكون أي شيئ – ومع ذلك نفس مُعدَّل الجريمة هنا وهنا، فإذن هذا لا يُفسِّر كل شيئ، مُؤشِّر ضعيف! الفقر والتفاوت مُؤشِّر ضعيف لمعرفة الجريمة، لتفسير لغز الجريمة، ما يُسمى أو ما يُسميه بعضهم اللغز السيكولوجي، ما اللغز النفسي العجيب هذا؟ لماذا؟ لماذا نقتل؟ لماذا نحن هكذا؟ بعضهم قال نحن مُصمَّمون على القتل، أحد كبار العلماء – وهو عالم نفس تطوري، ربما يكون رقم واحد في العالم – وهو ديفيد م.باس David M. Buss ألَّف كُتباً كثيرة، من آخرها ومن أفضلها كتابه The Murderer Next Door: Why the Mind Is Designed to Kill، أي القاتل الذي بجوارك – في الباب الذي بجانبك مُباشَرةً -: لماذا العقل مُصمَّم للقتل؟ هو قال العقل مُصمَّم للقتل، كأن العقل مُبرمَج، كما قلت لكم نحن مُبرمَجون، عندنا دوائر أو مسارات Paths، أي هناك دوائر وطرق في دماغك، هذه – كما قلنا – غريزة، هذه الغريزة مُبرمَجة للقتل، لماذا؟ لأن أسلافك البعيدين اكتشفوا أن القتل يُمكِن أن يكون في حالات كثيرة حلاً مُلائماً ومُناسِباً للاستجابة لتحديات مُعيَّنة، أي الحل تكيفي، Adaptive solution! شيئ غير معقول، حل تكيفي، والحل التكيفي يعني أنه نافع، عنده منافع، يا ورطتنا! يا خيبتنا! يا خيبة هذا الجنس! ما هذا الجنس إذن؟ إلى الآن لا يزال حدس الملائكة وظن الملائكة السيء فينا ماذا؟ صحيحاً، أننا جنس مُفسِد في الأرض، سافك للدماء، حريص على إراقة دماء إخوانه من البشر، شيئ مُخيف، برنامج! نحن نرث هذا البرنامج اللعين، كيف ديفيد إم. باس David M. Buss توصَّل إلى هذا؟

القاتل بجوارك كيف ان عقولنا صممت لتقتل The Murderer Next Door Why the mind is designed to kill

قال أنا اشتغلت بشكل هوسي، أي Manic، قال أنا اشتغلت بشكل هوسي، هو هُوِس! لأنه لم يقتنع بالنماذج الباثولوجية، أي الــ Pathological theories، وهي أن القتلة – كما قلنا – مذهونين، عندهم الــ Frontal lobes – الفصوص الجبهية أو الأمامية – عندهم خربانة، حين تكون معطوبة هذه الفصوص الأمامية الإنسان يُصبِح مُسطَّح المشاعر، مُسطَّح العواطف، ضعيف الضمير باللُغة العادية المفهومة، وأيضاً تقريباً قليل أو ضئيل أو عديم الاكتراث لمُعاناة الآخرين، لا يهتم! أن يرى الناس يحترقون، يذوبون، يموتون، يُعانون، يعرون، ويجوعون، لا يهمه! قالوا لأن الــ Frontal lobe عنده معطوبة أو الــ Amygdala – وهي اللوزة في المُخ الحوفي، أي في الــ Limbic system، وقد تحدَّثنا عنها مرة في خُطبة عن هذا الموضوع – معطوبة، اللوزة فيها عطب أيضاً، وهذا يجعله شخص فاقد للتعاطف مع الآخرين، لا يشعر بالآخرين، هذه كلها نماذج نظريات مرضية، تُفسِّر أشياء بسيطة، كم تُفسِّر؟ كما قلنا من ثلاثة إلى خمسة في المائة، حالات الجرائم التي يرتكبها أُناس مُعتَلون ومرضى كم هي؟ من ثلاثة إلى خمسة في المائة فقط، ولا تُفسِّر لنا هذه النظريات الباثولوجية خمسة وتسعين في المائة من وقائع القتل.

ألبرت باندورا Albert Bandura
ألبرت باندورا Albert Bandura

هناك نظريات التشريط الاجتماعي والتشريط الثقافي، تُوجَد نظريات التعليم الاجتماعي، أي الــ Social learning، الخاصة بألبرت باندورا Albert Bandura مثلاً، نظرية مشهورة جداً جداً! قال لأن المُجتمَعات هكذا تُعلِّم أطفالها ويتلقَّن أطفالها مع حليب الأمهات ومع النفس في كل لحظة وساعة وآن نماذج سلوكية مُعيَّنة، سلوكات مُعيَّنة تُكافأ وسلوكات تُعاقب، كل المُجتمَعات تقريباً – وخاصة المُجتمَعات الحديثة التي نعيش فيها – مثلاً يُربى فيها الأطفال الذكور على أن تُقدَّم لهم ألعاب ماذا؟ العنف والقوة، الرشاشات والأسلحة والدبابات والسيارات، والإناث يُقدَّم لهن ماذا؟ المشط وأدوات التجميل والثياب والفساتين والعرائس – الــ Dolls – الصغيرة، هذا تشريط اجتماعي وهذا يجعل هؤلاء يُصبِحون على ما هم عليه، لكن أيضاً هذه قدرة محدودة على التفسير، قدرة محدودة على التفسير! لن نقول لماذا، للأسف اليوم الوقت معنا ضيق جداً، في حدود نصف ساعة فقط.

على كل حال باس Buss ماذا فعل؟ قال أنا اشتغلت على مدى سبع سنوات وبشكل هوسي بقضية القتل، ماذا فعل؟ قال أنجزت أعظم دراسة من نوعها في التاريخ الإنساني، على أكثر من خمسة آلاف شخص ينتمون إلى ثقافات عالمية من هنا وهناك، من الشرق والغرب، فريق كامل يشتغل معه في المعمل، أي مع عالم النفس التطوري الشهير ديفيد إم. باس David M. Buss، قال اشتغلنا على موضوعة ماذا؟ على موضوعة مُحدَّدة، وهي خيالات القتل، خيالات القتل! هنا طبعاً سنُدمَغ جميعاً، كلنا بلا استثناء، سنُدمَغ جميعاً، كان من ضمن الأسئلة التي قُدِّمت في الاستبيان لهؤلاء الأشخاص هل فكَّرت في يوم من الأيام أن تقتل أحدهم؟ هل فكَّرت في هذا؟ الآن بعض التفاصيل عن خيالات هذا القتل، كيف؟ هل فكَّرت في إخفاء الجُثة مثلاً؟ هل فكَّرت في حُجة الغياب كما يُقال سواء كنت تشتغل أو في أي مكان؟ حُجة الغياب مثل أين كُنت في الساعة الفلانية؟ طبعاً خيال كله هذا! هل فكَّرت فيما لو كُشِفت جريمتك ماذا ستكون العواقب والتوالي والأكلاف – أي ثمن هذه الجريمة – مثلاً؟ هل فكَّرت في هذا؟

الصادم جداً أن حوالي واحد وتسعين في المائة من الناس أجابوا بنعم، من الذكور! قالوا نعم، مَن فينا يقول لا، أنا في حياتي لم تخطر لي ساعة فكَّرت فيها في قتل أحدهم؟ وطبعاً الأسباب مُختلِفة جداً جداً جداً، ليس فقط الكره، والحسد والحقد والجشع والغضب والغيرة – الغيرة بالذات – وما إلى ذلك، باس Buss هذا وفريقه سُمِح لهم أن ينفذوا – أي أن يعملوا Access كما نقول الآن – إلى قاعدة بيانات الإف بي آي FBI، قاعدة بيانات الإف بي آي FBI هذه فيها مُوثَّق تقريباً أربعمائة وخمسين ألف حالة قتل، مَن قتل مَن وكيف وما إلى ذلك، هذه الإف بي آي FBI! فدخلوا ووجدوا من بين أربعمائة وخمسين ألف – بل أكثر بقليل طبعاً – حوالي أربعة عشر ألف حالة قتل أزواج لزوجاتهم، كثير! هذا في أمريكا – USA – وحدها، أربعة عشر ألف حالة! ما الدوافع دائماً؟ الغيرة، أي الــ Jealousy، الغيرة! عشقت غيره أو رافقت غيره أو خانته أو شك فيها، وما إلى ذلك بأي طريقة! تُريد الطلاق مثلاً، تُريد الانفصال، ومن ثم يقع القتل، يقتل! هذا أحد الأسباب، سبب! ولذلك هذا الذي يقتل بدافع الغيرة قد يكون ماذا؟ بروفيسوراً – Professor – كبيراً في الجامعة، وهذا حصل! حصل مع مُفكِّرين وفلاسفة، تخيَّل! وقد يكون إنساناً عادياً بلا تعليم، وقد يكون مُتوسِّط التعليم، وقد يكون غير ذلك، عادي! وهذا يحدث من الإناث لكن بقدر أقل.

أربعة وثمانون في المائة من الإناث أيضاً أجبن بنعم، أربعة وثمانون في المائة من النساء قلن نعم، فكَّرت في القتل ودبَّرت أن أقتل، لكن طبعاً – بفضل الله وهذا لحُسن الحظ – مُعظَم هؤلاء لا يُنفِّذون، لماذا؟ لأن في نهاية المطاف تبقى جرائم القتل جرائم محدودة، وهي الأقل بالقياس إلى أنواع الجرائم الأُخرى، كالسطو والسرقة والحرائق المُتعمَّدة، القتل أقل! لماذا طبعاً؟ ليس لأن الإنسان عنده نزعة سلامية أبداً أبداً، لأن أيضاً من حُسن الحظ جرائم القتل هي الأعظم إزالةً من بين الجرائم، أي الــ Clearance rate أو ما يُسمونه الـــ Solving rate، مُعدَّل الإزالة فيها مُرتفَّع، ما المقصود بمُعدَّل الإزالة باختصار؟ أن تُكتشَف وتُعرَف، أي لا ينجو المُجرَم، هذا معناها! يُقبَض على المُجرِم، أكثر الجرائم مُعدَّل إزالة هي جرائم ماذا؟ القتل بفضل الله عز وجل، مثلاً جرائم السطو – أحياناً السطو يكون سطواً مُسلَّحاً في أكثر الحالات أو مُموَّهاً – مُعدَّل الإزالة فيها أربعة عشر في المائة، الحرائق المُتعمَّدة مُعدَّل الإزالة فيها خمسة عشر في المائة، السرقة العادية مُعدَّل الإزالة فيها عشرون في المائة، القتل مُعدَّل الإزالة فيه تسعة وستون في المائة، وهذا جميل، سبعون في المائة! من كل عشر جرائم ثلاث فقط تُنفَذ، تُسجَّل ضد مجهول في النهاية، لا يُعرَف الجاني أو الجارم، سبعون في المائة! سيقول أحدكم هذا بفضل الجهود لأن هذه جريمة قتل، وهذا أكيد، أكيد هناك جهود مُضاعَفة طبعاً من الشرطة والتحقيق وما إلى ذلك، يدخل فيها علماء النفس وغيرهم، الكل! الكل يتعاون لكي يعرف الجاني، أحياناً يُدخِلون العرّافين، هذا يحدث في الولايات المُتحِدة الأمريكية – الــ USA – بالذات، يأتون حتى بعرّافين ووسطاء روحيين، وأحياناً تُحَل القضية فعلاً، يأتي الوسيط الروحي ويقول أنا أرى الجثة في بُحيرة مُعيَّنة بجانب كذا وكذا، تقريباً قد تكون على بُعد عشرين كيلو، ثم يتضح أن هذا صحيح، شيئ غريب، سُبحان الله! هذه قدرات، وهذا يحدث في أمريكا، يحدث هناك!

على كل حال لكن ليست هذه الأسباب الرئيسة لجعل مُعدَّل الإزالة هو الأعلى، يُوجَد سبب أقوى من هذه الأسباب، هل تعرفون ما هو؟ أنه في مُعظَم هذه الجرائم – وهي جرائم يُسمونها جرائم غير مُنظَّمة أو يُسمونها الــ Normal killing، أي القتل الطبيعي، العادي! ولا يرتكبها إنسان مجنون، جرائم المجانين قليلة، يتركبها أُناس عاديون مثلنا – تكون ثمة علاقة بين الجارم وبين الضحية، طبعاً – كما قلنا – يُوجَد سبب مُعيَّن، خاصة لو كان مديره الذي طرده من الشغل، وهو كان أحوج ما يكون للفلوس، عنده مشروع مُعيَّن لتعليم، أمل حياته أضاعه هذا حين طرده من الشغل، فذهب وقتل المُدير، خانته زوجته أو خانها فقتلته، تُوجَد علاقة، تُوجَد علاقة مُعيَّنة بين الجارم وبين المجني عليه، أي بين الجاني وبين الضحية، وهنا طبعاً تُفيد كثيراً في التحقيقات التلميحات التي يُدلي بها الأقرباء والجيران والأصدقاء وذوو العلاقة، هذا يُعطي معلومة، هذا يُعطي حدساً مُعيَّناً، هذا يُعطي شيئاً، كل هذه التلميحات مُفيدة، وتجعل الموضوع تتكامل خيوطه، ثم يصلون إلى المُجرِم.

والعجيب طبعاً أن في الجرائم مثل هذه – ليست المُنظَّمة – الجثث عموماً في الغالب لا تُزال فيها، يقتله ثم يتركه، متى تُزال الجثة في الأغلب؟ في الجرائم المُنظَّمة، هناك جرائم مُنظَّمة وتُوجَد خُطة مُنذ البداية لإعدام الجُثة أو إخفائها بشكل مُتقَن، على كل حال هذا يحدث، ولذلك ربما هذا السبب الثالث الذي يجعل البشر يُفكِّرون ثم لا يفعلون، ما منا أحد تقريباً إلا فكَّر في يوم من الأيام أن يرتكب جريمة قتل، ما منا أحد تقريباً إلا فكَّر في هذا باستثناء التسعة في المائة من الذكور والستة عشر في المائة من الإناث، فهؤلاء قالوا لا، نحن لم نُفكِّر في هذا في يوم من الأيام، الحمد لله، اللهم اجعلنا منهم، قليل! لكن يُوشِك ألا يكون منا أحد إلا فكَّر في يوم من الأيام أن يرتكب جريمة قتل وتخيَّل، الذي يحول دون ذلك أيضاً هل تعرفون ما هو؟ العقل هذا، الدماغ الكبير عندك! هذا الدماغ الكبير يُتيح للإنسان أن يعيش تجربة مُتخيَّلة، خيالات القتل يا إخواني أحياناً تتضمن سيناريوهات دقيقة جداً جداً للقتل، وأحياناً تستغرق صاحبها أشهراً – العلماء يقولون – وأحياناً سنوات، لذلك لا تقل لي القتل يحدث دائماً حين تغلب العاطفة العقل، هذه نظريات أيضاً في تفسير القتل، لكنها نظريات شديدة السذاجة، هل تعرفون لماذا؟ لأن حوالي أيضاً سبعة وتسعين في المائة من الجرائم – جرائم القتل – هي جرائم ماذا؟ مُدبَّرة، التي يُسمونها بلُغتنا مع سبق الإصرار، عمدية مع سبق الإصرار والترصد! سبق الإصرار هذا قد يستغرق دقائق أو ساعات وأحياناً سنوات، سنوات يُخطِّط للضحية، تخيَّل! سنوات وهو يضع سيناريوهات مُخيفة دقيقة، لكن ضمن السيناريوهات العقل أيضاً قادر على تخيل ماذا؟ الفشل، أن تفشل المُهِمة، أن تخيب المُهِمة، وفي حال فشلت وقُبِض علىّ سوف يحدث كذا وكذا وكذا، سأُودَع في السجن لعشرين أو خمس عشرين سنة، بعض الولايات في أمريكا وبعض الدول الثانية تُعاقِب بالشنق، بالإعدام، بالرمي بالرصاص ربما، هناك عقوبة وهناك قصاص، شيئ مُخيف! ماذا سيحدث لزوجتي التي أُحِبها جداً؟ ماذا سيحدث لأبنائي وهم قطع لحم وما إلى ذلك؟ سوف يضيعون وسوف يُشرَّدون في المُجتمَع، كل هذا العقل يعيشه، سيناريوهات مُتخيَّلة! ويقوم بحسابات دقيقة للربح والخسارة ثم يُقرِّر بعد ذلك، مُعظَم البشر لا يفعلون، فكَّروا أن يقتلوا لكن بحمد الله وبفضل الله أنهم لا يفعلون، لمجموع هذه الأسباب، لا لأنهم سلميون أو لأنهم يخافون الله للأسف الشديد.

من هنا الحاجة إلى الهداية الربانية، وكان هذا موضوع الخُطبة، لكن أدركنا الوقت للأسف الشديد، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ۩، أُريد أن أقول لعلاج مثل هذه الموضوعات لا تُوجَد قوة ربما أكثر نفاذاً ونفوذيةً وفاعليةً من قوة ماذا؟ الإيمان، عندك العقل – العقل المُبرمَج، العقل المُتكيِّف، العقل بدوائره، والعقل باستعداداته – وعندك ماذا؟ الإيمان، أن أُسلِّم بشيئ، أن أخضع لشيئ، وإن لم أفهمه، وإن لم يدخل حتى في حساباته، وإن لم يتسق مع كل حساباتي، فقط قضية إيمان! لأن الله أمر، لأن الله نهى، لأن الله وعد، لأن الله توعَّد، ولأن الله لا يرغب في هذا، لذلك في آخر السياق فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إذن – إخواني وأخواتي – إذا كانت الحضارة والمدنية تبدأ بربط وضبط والتحكم في الغرائز فالحضارة الحقة إذن أكثر ما تبدأ وأكثر ما تُرشَّح لأن تبدأ مع ماذا؟ مع الدين، لأن الدين من هذه الزاوية ومن هذا المنظور هو أكبر ضبط لماذا؟ للغرائز، هناك الغرائز العقلية إن شئتم الآن، هذه التكيفات التي أخذت شكل هذه الغرائز العقلية، وفي مُقابِلها هناك ماذا؟ الوحي الإلهي، الذي يأتي أحياناً ضداً على هذه الغرائز، لاجماً لهذه الغرائز، يعترف بواقعيتها، لكنه لا يُقِر مُمارَساتها – كل مُمارَساتها – إلا في أضيق الحدود، في النطاق الضيق جداً الذي سمح فيه – مثلاً – الوحي القرآني بمُمارَسة هذا الفعل المُخيف الفظيع، القتل وسفك الدم! وأنتم تعرفون هذا النطاق الضيق.

فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يقينا شر نفوسنا، وأن يُلهِمنا رُشدنا، وأن يُجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة من هذا البيت ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 فيينا (17/11/2017)

 

 

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

  • شكر الله لك ما تقدمه من طرح وعلم ولكن عليك ان تتجرد من الكتب الغربية وعقلك والتي تبني بها اطروحاتك وما تقدمه من خطبك وانما العلم عند الله وعنده ام الكتاب وشكرا

%d مدونون معجبون بهذه: