إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩

آمين اللهم آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين،
اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

حتى لا أُطيل في المُقدِّمات خُطبة اليوم – بحول الله ومنه – ستكون مُحاوَلةً في جوابٍ عن سؤال ألحَّ به علىّ نفرٌ من أحبابي وإخواني وهو كيف يُمكِن أن تقسو تلك القسوةً كلها على فكرة وتُعرِب عن هذه الرحمةِ كلها إزاء صاحب الفكرة؟ أي كيف تشتد على الفكرة وتلين جداً مع صاحبها؟ باختصار ومن غير تعمية كيف تُنكِر على مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – مسائل في الاعتقاد تشرك في الإنكار عليه فيها جماهير أهل السُنة والجماعة من الشافعية والمالكية والحنفية الذين رأوا أنه زلَّ زلَّاتٍ عظيمة وفظيعة في باب الاعتقادِ والأصول ما تأدَّى به إلى أن يجلس بين يدي القضاة أكثر من مرة وأن يُحاكَم وأن يكتب بخط يده اعترافاً وإقراراً بتوبته ورجوعه عما زلَّت فيه قدمه وانتهى به الأمر غير مرة إلى أن يُسجَن – رحمة الله تعالى عليه – حتى قضى في سجنه في المرة الأخيرة؟ أنت تُنكِر مع جماهير أهل السُنة ما أنكروه على هذا الرجل من زلَّاتِ القدم في باب الاعتقاد والأصول وتشتد في الإنكار، وأيضاً تُنكِر عليه ما أنكره جماهير أهل السُنة والجماعة من غمزه الإمام عليّاً – عليه السلام – غير ما مرة في منهاج سُنته حتى اتهموه بأنه – والعياذ بالله – واقعٌ تحت تأثير نصب العداء لأهل البيت ومن ثم اتهموه بالنفاق، فبعض علماء أهل السُنة الكبار رموه على ما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة شيخ الإسلام من الدرر الكامنة بالنفاق والعياذ بالله، وأنت تعلم هذا وتعلم ما صح عن رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا – من قوله لعليّ إنه لعهد النبي الأمي إلىّ أن لا يُحِبني إلا مُؤمِن ولا يُبغِضني إلا مُنافِق، وقد تبرهَّن وثبت لديك أن الرجل مُبغِضٌ للإمام عليّ، فلم إذن لا تقطع بنفاقه؟ ولم لا تُريحنا في هذا الباب؟ بل تترحَّم عليه وترجو له العفو والصفح والمُسامَحة وهذا تناقض!

هم يرونني مُتناقِضاً في موقفي من الرجل وأفكاره ولست كذلك، وأنا مُصِرّ بعدما أُنكِرَ علىّ أكثر من مرة على ذكره بالرحمة – رحمة الله تعالى عليه – أيضاً، كيف؟ أولاً أُحِب أن أقول لإخواني الذين يعترضون علىّ وعلى أمثالي لو تفطنتم أيها الإخوة الأفاضل إلى لازمِ إنكاركم لرأيتم أنه لازمٌ فظيع، وأُراكم في مُجملكم تفرون منه فراراً أكيداً، لكنما هو هذا اللازم؟ تكفير الرجل، لأن الرحمة تجوز على كل مُوحِّد، فكل مَن مات على الإسلام والتوحيد الرحمة جائزة عليه وسائغة بل مندوبة ومُستحَبة، فإن رأيتم أنه كافر فهذه مسألةٌ أخرى وهذا أمرٌ فظيع، وشطر جهادنا العلمي والفكري هو في مُقارَعة ومُناضَلة ومُصاوَلة التكفيريين الذين يستخفون بالتكفير ويستهترون به، التكفير الذي ينتهي – كما علمتم وعلمتن أيها الإخوة والأخوات – إلى التقل والتفجير، فاليوم تكفير وغداً قتلٌ وتفجير، ولذا شطر جهادنا العلمي ضد التكفير ونزعات وشطحات بل لوثات – إنها لوثة – التكفير، فهل أنتم أيضاً من هؤلاء التكفيريين؟ وهل تلتزمون تكفير شيخ الإسلام؟ هذا مبحثٌ طويل إن كنتم كذلك وأعيذكم بالله من ذلك، وهذه واحدة.

الثانية: الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ماذا قال؟ قال إن بغض عليّ بلا شك علامة مُؤكَّدة على النفاق،وشيخ الإسلام الإمام أبو الثناء الشهابي الألوسي – رحمة الله تعالى عليه – صاحب التفسير الشهير روح المعاني قال – على ما أذكر – في تفسير سورة القتال – أي سورة محمد – صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً – بغض عليّ وبغض أهل البيت من أظهر علامات النفاق، فالألوسي يقول من أظهر ومن أقوى علامات النفاق بغض الإمام عليّ وأهل البيت – عليهم السلام أجمعين – والعياذ بالله، وهذا ثابت بالنصوص، فكيف ننفصل عن هذه الشُبهة؟ كيف أترحَّم على الرجل والرجل قد يكون مُنافِقاً والعياذ بالله؟

إليكم الجواب كما أعتقده وكما أنطوي عليه، ويعلم الله أنني لا أقول هذا ولا أُقرِّره إلا مرضاةً لربي، لأن هذا الذي يختلج في صدري، وقد عوَّدتكم أن كل ما يختلج في صدري أبثه إليكم في حينه وإبانه دون حسابٍ لشيئٍ آخر بإذن الله، وأسأل الله الدوام على هذه السيرة والحالة، لذلك لست من الذين يُقترَح عليهم ويُطلَب إليهم ويُطلَب منهم، فأنا لست كذلك ولم أكن وإن شاء الله أموت على هذه الحالة ولا أكون في يوم من الأيام هكذا، وإلا بئس الرجل أنا وبئس العلم الذي تعلَّمته، ولكن لا أستطيع أن أُخفي شيئاً يتخالجني والله يعلمه مني لكي لا يغضب مني بعض أحبابي وبعض مُؤيِّدي، فهذا كلام فارغ، إذن أنا عبدٌ لنفسي، لا أُعبِّد الناس لله وإنما أُعبِّدهم لنفسي ولشخصي كأنني سياسي أطلب مزيداً من الأصوات ولست ذلكم السياسي.

على كل حال الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – تكلَّم عن ماذا؟ تكلَّم عن عاطفة، ولا شك أن الحب والبغض من جُملة العواطف، بل أن من أخطرها وأهمها الحب والبغض، وسؤالي الذي يثور هنا هو هل استبصار المرء بعواطفه أوضح وأسهل أم استبصاره بأفكاره وقناعاته ومقبولاته ومُعتقَداته. الذي وضح لي وترجَّح عندي أن استبصار المرء بعواطفه أسهل وأيسر لأسباب كثيرة، فالعواطف تمت بسببٍ متين بل بألف سبب إلى الذاتِ وإلى التجربة الشخصية وهى محدودة في الجُملة بخلاف الأفكار، مَن منا يستطيع أن يُحدِّد لنفسه بعض المصادر الخفية الشعورية واللاشعورية لمقبولاته ومُعتقَداته مثل حظ العقل الجمعي في الإدلاء بهذه الأفكار والمقبولات إلا أن يكون فيلسوفاً تفكيكياً تحليلياً عظيماً جداً؟ مَن منا يزعم أنه ينطوي على أفكار ومُعتقَدات بدأها من الصفر. لا أحد ،لا أن يكون لا يدري ماذا يخرج من رأسه، فمَن منا كذلك؟ أنت أيها السُني الذي تُحِب عمر – رضيَ الله تعالى عن عمر – هل أحببته استدلالاً؟ هذا كذب، هل أحببته طيبةً، أي لأن نفسك طيبة – ما شاء الله – ومن معدن نزيه؟ وهذا الشيعي أخوك الذي يكره عمر ويُبغِضه هل كرهه استدلالاً أو تعليلاً أم كرهه خبث نفسٍ؟ لا هذا ولا هذا أبداً، أنت تُحِبه تقليداً وهو يكرهه تقليداً، هو وُلِدَ في بيئة لا تُعلِّمه إلا بغض عمر ولذا بغضه والعكس معك فأحببته، وطبعاً أرجو ألا يتدَّخل أحدٌ من أحبابنا الشيعة ليقول يا شيخ أنت تظلمنا فنحن لا نكره عمر، هذا غير صحيح، وأنا لاأُحِب أن أُغالِط في الحقائق، أنتم لا تُحِبون عمر ولا تُحِبون أبا بكر، ونحن نعرف هذا ونقرأ كتاباتكم، فلماذا؟ لماذا نُعمِّي على الحقائق؟ وعلى كل حال قد يقول هذا بعض عوام الشيعة مِمَن لا دراية لهم بكتبه، وأنا سعيد جداً بأن يُقسِم لي أكثر من أخ شيعي ويقول لي – وأُصدِّقه والله – أنا نشأت في بيئة لم أسمع يوماً أبي أو أمي أو أحداً في عائلتي سبَّ عمر أو أبا بكر، وأنا أُصدِّق هذا لكن ليس هذا المذهب الشيعي، المذهب الشيعي والكتب الشيعية إلى الآن إذا دُرِّسَت ستجد أنها تُعلِّم بغض عمر وأبا بكر، فأي طالب علم شيعي حوزوي يدرس هذا لابد أن يُبغِض عمر وأبا بكر، وهذا أمر طبيعي لأنه لا يتعلَّم علماً يُدنيه منهما بل بالعكس يتعلَّم علماً يُبغِّضه فيمها – رضيَ الله تعالى عنهما – وأنا أعرف هذا، فعلى الإخوة الشيعة ألا يشعروا بحرج أو بحريجة من كلامي هذا، أنا أُحِب أن أكون واضحاً مع الجميع، مع أهلي وإخواني السُنة ومع إخواني وأهلي الشيعة أيضاً، فأنا كذلك وأُحِب أن أبقى كذلك إن شاء الله تعالى، فأقول لا السُني أحبه طيبةً واستدلالاً ولا الشيعي كرهه وأبغضه خبثاً وتعليلاً، وإنما أحبه هذا تقليداً وأبغضه ذاكم تقليداً، ليس أكثر ولا أقل، ومَن أراد أن يستأنف ويبدأ من البداية فليعلم أن البداية صعبة، فهى أصعب مما يتخيَّل، والنظر في الأدلة من غير مرجعيات ومن غير نظارات ومن غير مُسبَقات ومفروضات ومقبولات قد يُنظَر إليها عند الخصم أو عند المُخالِف على أنها مرفوضات ومردودات، فلديك هذه مفروضات مُعيَّنة – هذه مفروضات وهذا من حقك وهذا هو المنهج العلمي – ومقبولات أيضاً لكنها عندي هى مرفوضات ومردودات، ومن ثم اختلف الوضع فانتبهوا إلى هذا!
سأضرب لكم مثالاً حتى لا أكون في التنظير فقط، وبالمثالِ تضح الأمور، في علم الفيزياء المُعاصِرة – فيزياء الكم – هناك ما يُعرَف بمبدأ اللاتعيين أو اللا تحديد Uncertainty Principle وهو مبدأ هايزنبرج Heisenberg، وباختصار هذا المبدأ في أبسط صوره بل في أشدها بساطة يقول إن المُراقِب بذاته وبما يتوسَّله أو يتوسَّط به من وسائل الرقابة إنما يعمل على تغيير ظروف المرقوب، وهايزنبرج Heisenberg نفسه شبَّه هذا ببساطة قائلاً كالرجل الأعمى – مثلاً – الذي يُريد أن يجس بيديه قطعة ثلج لكي يختبر حجمها وأبعادها ودرجة حرارتها أيضاً، فما هو إلا أن يضعها بين يديه حتى تتأثر مُباشَرةً، فتبدأ في الذوبان ويتشوَّه شكلها وحرارتها تزداد قليلاً، فهذا يحدث مُباشَرةً، ولا يستطيع أن يقول أنا أُيد أن أمسك هذه القطعة وتبقى كما هى لكي أراها وأُحِس بها كما هى، فهو لا يستطيع هذا، وهذا المثال الجيد الجذَّاب ضربه هايزنبرج Heisenberg نفسه صاحب Uncertainty Principle، وهذا شيئ جميل جداً، كذلكم الحال مع النصوص وكذلكم الحال مع الحقائق والمُعطيات – Daten – العلمية، فلا يُمكِن أن تبقى مُحايدة وموضوعية، هى مُحايدة مادامت في أماكنها، لكن حين يتلقَّاها السُني تُصبِح غير مُحايدة مُباشَرةً ومن أول خُطوة، وحين يتعاطى معها الشيعي تُصبِح غير مُحايدة، لماذا؟ لأننا لا نتعاطى معها على أنها بيِّنات ومُستنَدات بموضوعية تامة، فهذا غير صحيح وغير موجود هذا الشيئ، وإنما نتعاطى مع هذه المُعطيات والبيِّنات والأسانيد على أساس مرجعية ومفروضات مُعيَّنة وإطار فكري مُعيَّن وإطار إرشادي ونموذج مُعيَّن وهكذا!

لأضرب لكم مثالاً الآن أيضاً على التعيين يتعلَّق بحقيقة موجودة في بطون الكتب وفي سلاسل أسانيد المرويات والآثار، وهى الحقيقة التي أشار إليها العلَّامة الإمام إسحاق بن راهويه الحنظلي – أحد أئمة أهل السُنة رحمة الله تعالى عليه – الذي قال لم يُؤثَر لأحدٍ من الصحابة من الفضائلِ بالأسانيد الصحاح والحسان ما ثبت وأُثِرَ للإمام عليّ عليه السلام، وهذه حقيقة، سواء قالها إسحاق أو لم يقلها هذه حقيقة، اذهب الآن وجمِّع كل الفضائل – فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وبقية العشرة وغير العشرة – وستجد أن أكثر مَن يسعد بكم من الأحاديث الصحيحة والحسنة في فضائله هو الإمام عليّ، وهذا موجود لدينا نحن، فهذه حقيقة عند أهل السُنة، وهى طبعاً حقيقة عند إخواننا الشيعة، فهذه الحقيقة ثابتة وهذا أمر جميل، لكن هذه الحقيقة لا تفرض معنىً أو تفسيراً يتم التواطؤ عليه أبداً، وسوف نرى كيف يتلقَّاها الشيعي وكيف يتلقَّاها السُني وبمثال بسيط جداً، الأخ الشيعي كيف يتلقَّى هذه الحقيقة؟ يقول أولاً هذا يُثبِت أفضلية الإمام على سائر الأصحاب، فإذن هو الإمام رقم واحد وهو أفضل من الشيخين ومن غيرهما، لماذا؟ لأن فضائله أزيد وأكثر، وهذا قابل النقاش، فهذا استنتاج في الحقيقة وهذه ليست حقيقة مُعطاه، هذا استنتاج وتفسير لحقيقة وتفسير لمُعطى، المُعطى أن فضائله الثابتة بالأسانيد الصحاح والحسان فعلاً أكثر من فضائل غيره، لكن هل يعني هذا أنه أفضل بمُجرَّد كثرة هذه الأشياء وبمُجرَّد فائقيتها عدداً؟ لا، فانتبهوا إلى أن في المنهج العلمي هذا ليس شيئاً مُعطىً، هذا شيئ مُستنبَط مُستنتَج، لكن هل هو صحيح أو غير صحيح؟ هذا موضوع قابل للنقاش، ثم يُثنِّي الأخ الشيعي فيقول ليس هذا وحده بل هى أكثر وتفوق فضائل غيره عدداً رغم الحرب الضروس الشعواء النكراء على الإمام وشيعته ورغم الوسائل الجهنمية التي تعاطاتها السُلطة في وقتها لتمنع إسماع الناس والتحديث بفضائل الإمام، فكان الذي يُحدِّث بفضائله يُقتَل أو يُعرقَّب – تُقطَع عراقيبه – أو يُسجَن أو يُجلَد أو يُمنَع من العطاء طبعاً أو يُوقَف عليه في بيته إقامة جبرية، وهذا شيئ فظيع جداً جداً جداً والأدلة على ذلك كثيرة، يقول الأخ الشيعي ومع ذلك فضائله أكثر، فكيف لو كان العكس؟ لو كانت السُلطة في حالة مُصالَحة مع الإمام عليّ ولو كانت تُعبِّر عن عليّ والولاء لعليّ كم كانت ستكون أحاديث الإمام – أحاديث فضائل الإمام طبعاً أقصد – عن رسول الله؟ ستكون أكثر بكثير، وهذا أمر منطقي، وأنا أقول لكم مرة أخرى وبمنطق منهجي صارم أن هذه ليست حقيقة مُعطاه، هذا استنباط وهذا استنتاج، فكيف هو استنتاج؟ هو استنتاج ووضح أنه استنتاج، لكن نحن ينقصنا الكثير من الصرامة العلمية والمنهجية والمرونة!

أنا أُعرِّف الذكاء – علماً بأنني عرَّفته قبل السنين – بأن الذكاء هو مرونة، فهو ضرب من ضروب المرونة، وهذا ليس تعريفاً جامعاً مانعاً، ولكن لا يُمكِن أن تكون ذكياً وتكون جامداً – هذا مُستحيل – فضلاً عن أن تكون مُبدِعاً وعبقرياً – هذا مُستحيلان – طبعاً، فإذا أردت أن تكون ذكياً أو تكون مُبدِعاً لابد في البداية أن تطمئن على مرونتك، هل أنت مرن Flexible؟ كلما كنت مرناً أكثر كلما كانت لديك لياقة تعديد الفروض ،وبالتالي تعديد وتغيير زوايا النظر، لماذا؟ هل هذه حقيقة أم استنتاج؟ لابد أن السؤال يُطرَح ويقبل المُعالَجة، فهذا في نظرنا استنتاج، لكن كيف؟ يبرز لك الآن السُني في الجهة المُقابِلة ويقول لك نعم، حقيقة أن الفضائل الموجودة بين أيدينا للإمام عليّ – عليه السلام – أكثر من فضائل غيره – هذه حقيقة – طبعاً، ولكن لماذا كانت أكثر؟ يقول لك في نظر كسُني هذا ليس لأن الإمام عليّ أفضل من غيره حقيقةً، وهو الأفضل بلا مثنوية، لكن هذا قابل للتفسير، وأنا كسُني لا أُؤخِّره بالعكس هو مُتقدِّم جداً وهو عند جماهير أهل السُنة الرابع في الفضل وليس الأول، فأنا لا أُبغِضه ولا أُؤخِّره ولكن هذه مكانته حسبما ترجَّح لدينا من النظر في الأدلة، وهذا كله كلام قابل للنقاش أيضاً، وهذه ليست حقائق قطعية كما يُريد بعض علماء السُنة أن يُثبِتوا، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهذه المسائل كلها قابلة للنقاش وليست من صلب الدين ولا من صلب الاعتقاد بأي حالٍ من الأحوال، ولا أحسب أن عبداً سيتزلزل موقفه بين يدي الله غداً إن أتى الله بعقيدة أن عليّاً أفضل من أبي بكر وعمر أبداً، سيكون الأمر في هذه الحدود فقط،أما إن سبَّ أبا بكر وعمر وطعن فيهما فهذا على خطر عظيم وهذه مسألة أخرى، ومن ثم عليه أن يحترز لنفسه وعليه ألا يُصادِر على كل شيئ على أنه مُسلَّمات، والمُشكِلة اليوم أن الذين يزعمون أنهم يُريدون الحقائق في الطرفين في السُنة والشيعة هم كثيرون جداً، وأقل من القليل – أقل من الكبريت الأحمر – مَن يُريد هذا حقاً، فالكل يُريد أن يُدافِع عن مُسلَّماته فقط وأن يُثبِت أنه هو الأحق وهو الأصح وانتهى كل شيئ للأسف الشديد، وهذا تلاعب طبعاً، والناس ضائعة بين الحيين – كما يُقال – أو بين الطرفين، والشباب والناس طيبو النوايا يتراشقون السُباب والشتائم بل القنابل أيضاً والقتل والتذبيح للأسف الشديد، فإلى متى هذا؟! نسأل الله أن يُصلِح الحال، وعلى كل حال لماذا إذن؟ الآن يأتيك السُني يقول لك هذه حقيقة ولكن أنا أُفسِّرها بطريقة أخرى، والآن سيُصدَم أخي الشيعي كما سيُصدَم السُني وربما يفرح لأن هذه معركة مُجادَلة ومُساجَلة، لكن هذه طريقة علمية، فهو يقول لك لا تقل فاقت فضائل الأمام رغم الحرب الشعواء فأنا أختلف مع هذا وأقول فاقت الإمام عدداً فضائل غيره بسبب الحرب الشعواء وليس رغم الحرب الشعواء على الإمام وشيعة الإمام، فكيف هذا؟ كيف بسببها؟ يقول لك هذا حجث بسببها لا رغماً عنها، فتقول له وضِّح أكثر أيها السُني، يقول لك لأن أهل السُنة وهم الإسلام الأكثري كما يُقال – أكثر المسلمين على طريقة أهل السُنة والجماعة، وهؤلاء مسلمون من المسلمين، فيهم طيبة وفيهم تقوى لله وفيهم ورع وفيهم خوف ولا يُمكِن أن تقول لي أن كل مَن هو سُني هو إنسان فاسد وخبيث وعدو لأهل البيت، فهذا الكلام طبعاً واضح أن ليس فيه شيئ من الإنصاف، وطبعاً أئمة أهل السُنة أيضاً الذين أعربوا عن مواقف مُشرِّفة جداً جداً في التصدي للحكام ودفعوا أعناقهم، وثورات علماء أهل السُنة والذين ماتوا بالمئات وهى معروفة لدينا، فلا تقل لي كل سُني هو خبيث، هذا مُستحيل، فهذا ظلم والله لا يُحِب الظلم لكن الله يُحِب الإنصاف – وُجِدَ في علمائهم ومن رواتهم جماءٌ غفير لما شعروا بأثر هذه الحرب الشعواء الضروس على الإمام وأهل بيته استعصموا بأحاديث الفضائل هذه وضنوا بها وجعلوا يُبالِغون في حفظها وروايتها والبحث عنها والتفتيش حتى لا تضيع عملاً بعكس قصد السُلطة الحاكمة،وطبعاً هذه ردة فعل طبيعية، وبصرف النظر عن أنك ستقول لي هذا معقول أو غير معقول أنا أقول لك على الأقل هذا احتمال قابل للنظر فيه والنقاش، فانتبه إلى هذا، لأن هذه حقيقة واحدة لكن نُظِرَ إليها بطرق مُختلِفة، وهذا أمر عجيب، وعلى كل حال بقيت مسألة الفضائل، ويأتيك الآن مثل ابن تيمية – رحمة الله عليه – ويقول لك أنا أُسلِّم بهذه الفضائل وهى في صحاحنا، ولكنه يذهب يتأوَّلها ليقول هى فضائل لا خصائص، أي مُعظمها طبعاً، فهو يُثبِت بعض الخصائص ويقول مُعظمها فضائل لا خصائص، فما الفرق؟ الإمام النسائي ألَّف كتاباً إسمه خصائص أمير المُؤمِنين، فهو يقول خصائص وليست فضائل، أي مُختصَّات لا يَشركه – من شَرَكَ الثلاثي مفتوح الأول وليس يُشرِك من أشرك – فيها – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – غيره، لكن ابن تيمية يقول لك في نظري هذه فضائل وسأُثبِت لك هذا، فهذه الفضيلة ثبتت له وثبت مثلها لغيره وبأحديث صحيحة، إذا سلَّمت بهذا سلِّم بهذا، فهى فضائل ثبتت له وثبت مثلها لمثله أو ثبت مثلها لغيره، فهكذا قال ابن تيمية لكن أنا أقول لكم هذا قابل للنقاش، وأنا شخصياً عندي نقاش لشيخ الإسلام في أكثر ما قرأت وفي أكثر هذه المسائل لأنني غير مُقتنِع أنها مُجرَّد فضائل بل خصائص، وواضح كون كثير منها خصائص، ولكن هو يُدافِع عن وجهة نظر مُعيَّنة مُحتمَلة عند أهل السُنة، وهذا أمر عجيب، فالمسألة صعبة جداً والمسألة ليست كما يظن أحد العوام أو بعض العوام مِمَن يقولون بما أن هناك حديثاً أو أحاديث في المسألة فإذن انتهى الأمر وقُطِعَ على غيبها، فهذا غير صحيح وهذه المسائل عميقة.

أعود وأقول مَن ذا الذي يزعم لنفسه أو يُزعَم له وفيه أنه بدأ من الصفر وأنه بدأ من الأساسات؟ هذا غير صحيح، كلنا تابعنا وتلقَّينا، السُني في البيئة السُنية والشيعي في البيئة الشيعية وكذلك الحال مع الزيدي والإباضي وإلى آخره، ولن أقول أن هذا هو الحال مع المُعتزِلة، ومن هنا بعض الناس يقول لي لماذا تستثني المُعتزِلة؟ لكنني أقول لهم أين هم المُعتزِلة؟ هل هناك بلاد تدين بشريعة المُعتزِلة أو بطريقتهم؟ همغير موجودين يا أخي، وبالعكس أنا احترم المُعتزِلة وأُجِلهم بلا شك، وهم مسلمون ولهم جهود وأيادي بيضاء على الإسلام، وهذا لا يُنكِره إلا إنسان مُكابِر أيضاً مُغلَق ومُستغلِق، ونحن لا نُحِب لا الانغلاق ولا الاستغلاق ولا نُحِب الاستعصاء الثقافي والفكري، فالمُعتزِلة لهم أيادي بيضاء ومنهم علماء كبار وجهابذة في الدفاع عن الحقيقة على طريقتهم على أنهم مُنزِّهون مُوحِّدون, فرحمة الله على الجميع ونسأل الرحمة لجميع المسلمين والمسلمات.

نعود الآن إذن إلى قضية ابن تيمية والعواطف، الإنسان يكون أكثر استبصاراً بعاطفته منه بأفكاره، فالأفكار مسألة مُعقَّدة جداً جداً جداً وتتبع العقل الجمعي وتتبع آليات التطبيع الثقافي التي يخضع لها كل فرد في مُجتمَعه، وجزء من مأساة الإنسان أنه كائن عضوي نامٍ، يعني ماذا؟ يعني أنه لا يُولَد تاماً راشداً، يُولَد طفلاً صغيراً مثل قطعة لحم لا يعلم شيئاً، وبعد ذلك يبدأ في التدرّج شيئاً فشيئاً، وهو أطول الحيوانات طفوليةً، فيحتاج إلى التلّقين، علماً بأنه لا يُعلَّم بمقدار ما يُلقَّن، فهو يُلقَّن ويُدرَّب أن يعمل هذا وأن يفهم هذا وأن يُردِّد هذا، لأنه لا يستطيع طبعاً في طفوليته أن يُحاكِم الآراء والمذاهب والعقائد والعادات والعوائد، فالطفل لا يستطيع هذا ومن ثم يتلقَّاها هى كما هى، وهذه الأنماط الثقافية تختلف من حضارة إلى حضارة ومن بيئة إلى بيئة ومن عصر إلى عصر، وهذا أمر معروف، وحتى في الأمة الواحدة وفي الشعب الواحد تختلف من حقبقة إلى حقبة، ولذا ليس أي مُجتمَع عربي الآن كمثله قبل خمسين سنة أو مائة سنة، هذا مُستحيل طبعاً، فقبل خمسين سنة وُجِدَت معارك في بعض الدول العربية من أجل فقط تعليم المرأة وحُلَت بعض هذه المعارك بقرار أميري، أي أن يتدخَّل الحاكم أو الملك ويقول تُعلَّم فينتهى النقاش وهكذا، وإلا مُشكِلة كبيرة قضية تعليم المرأة، فهى كانت مُشكِلة كبيرة جداً، وكذلك الحال مع مُشكِلة مُكبِّرات الصوت في المساجد، فهذه كانت مُشكِلة كبيرة جداً جداً جداً، وبعض الناس رحلوا من مكة إلى الطائف وقالوا لا نمكث في هذا الخزي وهذا الرجس، كيف يُستعلَن في مُكبِّرات صوت بالأذان؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن هذا حدث قبل أقل من مائة سنة، وعلماء كبار قابلوا المسئولين وعملوا دوشة كبيرة وزيطة وزمبليطة كما يُقال، ونحن الآن – مثلاً – الشعوب العربية المسلمة مثل الشعوب الأوروبية وحتى الأمريكان أيضاً لا ننظر إلى الأعداد نظرة رسمية أبداً وإنما ننظر نظرة اعتباطية ونظرة تعسفية وليست نظرة رسمية، لكن ما معنى هذا؟ الأوربيون ليس عندهم مُشكِلة في الأعداد حسب مواضعها فقط باستثناء رقم ثلاثة عشر، فهذا عندهم رقم مشؤوم ولكن فيما عدا ذلك ليس عندهم أي مُشكِلة، لكن اليابان ليست كذلك، اليابانيون عندهم مُشكِلة كبيرة في الأعداد، فعندهم أعداد مسعودة وأعداد منحوسة، إذن الرقم نفسه إلى اليوم له دلالات كبيرة في الثقافة، ولذلك بعد الحرب العالمية الثانية شركة الهواتف اليابانية وجدت تحديات كُبرى، حيث تُوجَد أرقام مسعودة ومن ثم يزداد عليها الإقبال بشكل فظيع،وتُوجَد أرقام منحوسة كانت تُفرَض على الأجانب بالحيلة، وذلك على الاجانب المُغفَّلين الذين لا يعرفون أسرار الأرقام، وعلى كل حال هذه نظرة عندهم، وهنود النافاهو Navajo إلى اليوم لا يتعاطون مع الألوان اعتباطاً بل بطريقة رسمية، فاللون الأزرق أشرف والأحمر أقل شرفاً والأخضر غير مُحبَّب وهكذا، فالألوان دائماً هكذا لها مراتب، مراتب مثل ما عندنا أبو بكر وعمر، فهذه مراتب للأزرق ثم الأحمر ثم الأخضر – مثلاً – وهكذا، ولذلك بعض الخبثاء الأمريكان حين أرادوا أن يُحدِّثوا هذه المُجتمَعات القديمة الأشبه بالبدائية ذهبوا ولعبوا في انتخابات مجلس عمداء القبائل على هذه النُقطة، فهم يُريدون أن يفوز بعض الشيوخ وأن يخسر بعضهم، والذي يُريدون أن يخسر يُعطونه اللون الأخضر، فقالوا سوف نجعل ورقة الانتخاب باللون الأخضر، ومن ثم إذا سألوا أحدهم هل سوف تختار الشيخ هذا؟ فإنه سيقول لا مثل كل الناس، ومن ثم يخسر هذا المسكين لأنه لا يعرف اللعبة، لكنهم لعبوا بهذا، فإذن هذه ثقافة وهى قابلة لأن تتبدَّل وما إلى ذلك، وكذلك نحن تصورنا للأشياء وتعاطينا مع النصوص ومع الأفراد ومع الشخصيات ومع الأحداث فيه مرجعيات ثقافية أنت لا تدري كيف تسلَّلت إلى دماغك، فأنت لست على ذُكر ولا خُمر من مصيرك الثقافي يا مسكين، ومُعظم البشر هكذا، فقط الفلاسفة والدارسون الكبار الذين ليسوا كذلك، إن شاء الله نكون منهم نحن ومَن مثلنا لأننا نحاول أن نُفكِّك هذه المرجعيات ونُحاوِل أن نحفر تحت الأسس وأن نُخضِع كل شيئ للنقاش، لكنالآن يُوجَد أُناس يشغبون علينا بأشياء مثل هذه، وأنا بالأمس نمت وأنا أضحك وقلت والله لا يبقى إلا أن يقولوا انظروا إلى هذا الزنديق يقول على عبد الله بن أُبي أنه قرد، فهو يطعن في عبد الله بن أُبي، لكن هذا مُنافِق بل هو رأس النفاق وقرد القرود، فما المُشكِلة؟ هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة؟ هذا شيئ غريب، وكأنه لا يجوز لك أن تقول أن صحابياً أخطأ أو أن أم المُؤمِنين أخطأت وإلا فأنت زنديق، لكن هى خطَّأت نفسها، وهى – والله العظيم – أخطأت، فماذا أفعل؟ هى أخطأت بنسبة مائة في المائة بلا مثنوية، أخطأت السيدة – رضوان الله عليها – التي نترضَّى عليها ونستغفر لها الله وندعو لها، لكنهم قالوا قطع الله لسانك، فما هذا الجمود؟ ما هذا الاستعصاء؟ ما هذا الاستبلاه والاستغفال للناس؟ هذا استغفال ومن ثم فضطَّرونا أن نأتي بخمسين دليلاً من ابن تيمية وابن حزم أن عمر جهل وأبو بكر جهل ومُعاذ جهل، وسماهم شيخهم ابن تيمية جُهالاً، فهو قال كانوا جُهّالاً، وقد قرأنا هذا لكي نُقنِعهم بهذه البديهيات، ولذا – والله العظيم – أي إنسان أوروبي أو أمريكي سوف يضحك علينا من هذه المعارك السخيفة جداً جداً جداً، وسوف يقول هل هؤلاء الصحابة والصحابيات بمثابة آلهة عندكم أم أنهم بشر؟ ونحن سوف نقول له هؤلاء بشر، ومن ثم سيقول لنا ما المُشكِلة أن يُنسَب إليهم جهل في بعض المسائل؟ وأنا بدوري أقول له لا تسألني أنا، سل هؤلاء الذين أقاموا الدنيا ولا يقعدونها، فأنا قلت جهلت عائشة هذا الحكم وعقيدتها كانت بدائية لكن خرج مَن قال أنني أقول عقليتها كانت بدائية، فهذا كذب لأنني قلت عقيدتها ولم أقل عقليتها، وطبعاً عقيدتها كانت بدائية، أي إنسان يظن أن الله لا يعلم ما يُخفيه بالليل يكون لديه عقيدة بدائية في الله، وعظيم جداً وفظيع إن بقيَ عليها بعد أن تقوم الحُجة عليه، وحاشاها أم المُؤمِنين من ذلك، فهذا الشيئ طبيعي إذن، ما المُشكِلة؟ لكنهم أردوا أن يُحوِّلوا البشر إلى آلهة، فانتبهوا لأن هذا تأليه البشر، وكأنهم لا يُخطئون ولا يجهلون، فهم وُلِدوا من أرحام أمهاتهم وهم مُستجوِفون – أي في جوفهم – للمعارف كلها، وهذا غلو وهذه اعتقادات باطنية تُحوِّل البشر إلى آلهة، ولذلك اضطّررت أن أقول لهم وأنا أُناضِل في معركة تحرير هذا العقل المسلم المُغلَق والمُستغلِق – عند بعض الناس حالة استعصاء مثل الاستعصاء المرضي، لكن هذا استعصاء ثقافي وعلمي – لقد جعلتم الصحبة أعظم من النبوة بعد أن جعلتموها أعظم من الإيمان، وبمنطق بسيط جداً – أنا أُحِب البساطة – سأقول لكم مقولة فخذوها عني وأُثروها وهى: كُن صادقا مع ضميرك وستُكافأ بوضوح الفكر بإذن الله تعالى، فالوضوح قوة جبَّارة عكس ما يعتقد بعض الناس، لأن بعض الناس يعتقد أن في الإلغاز والتلغيم والتعمية والإغماض قوة، وهذا غير صحيح، هذا فيه تضليل وفيه ضلال، وهو بحد ذاته ضلال، لكن الوضوح قوة جبَّارة جداً جداً جداً، لأن بالوضوح يصل الناس إلى المُبتغى بسرعة فتعظم القناعة وترسخ العقيدة وينتهي كل شيئ، فهذا هو الوضوح، هل يُوجَد ما هو أجمل من الوضوح؟ يقول علماؤنا العلم نُقطة كثَّرها الجهل، وعلى كل حال هذا مذهب البساطة.

الآن فلسفة العلم من عشرات السنين تقوم على مبدأ من أيام أوكام Occam –
ويليام الأوكامي William of Occam في القرن الثالث عشر – وهو مبدأ موس أو شفرة أو نصل أوكام Occam’s Razor، فدائماً مهما كان التفسير أكثر وضوحاً وبساطة يكون تفسيراً أحق بالقبول، ومهما كان أكثر إغماضاً وتعقيداً وجعلكةً وخلبطةً فإنه يُعَد كلاماً فارغاً، فهذا تعمية وضلال وإضلال للناس، ولذا أنا أقول لك هل تُحِب أن تُكافأ من الله بوضوح الفكر؟ إذا أردت أن يكون لديك الفكر الواضح والحُجة الواضحة اصدق مع ضميرك، كُن صادقاً في نفسك مع الضمير فقط – افهموا هذه الكلمة كما تُريدون – وسوف تُكافأ بوضوح الفكر.

الإيمان بإجماع أهل السُنة والجماعة يزيد وينقص، فهو يزيد بالأعمال الصالحة وينقص بالأعمال الطالحة، لكنهم قالوا هذا لا ينطبق على الصحبة، فإن ثبتت صحبته لم يُؤثِّر فيه شيئ، وهذا أمر عجيب، فهل يُمكِن هذا حتى إن كذب وإن قتل الناس وإن دجَّل وإن شرب الخمر ،وإن تاجر في الخمر وإن وإن وإن وإن؟ قالوا لك نعم، فهذا لا يُؤثِّر، وهل هذا يُمكِن وإن قتل الصحابة الذين هم أجل منه يا ابن حجر مثل مروان بن الحكم – أبوه لعين رسول الله، وهو لعين ابن لعين كما قالت عائشة في الحديث الصحيح – الذي قتل طلحة بن عُبيد الله أحد العشرة؟ هو قتله في معركة الجمل، وقال الذهبي ونجا لا نُجّي، لكن كيف نقول رضيَ الله عنه – عن مروان – وأرضاه؟ ما هذه التناقضات؟ ولماذا؟ قالوا لأنه صحابي، فإن ثبتت صحبته لم يُؤثِّر فيه شيئ ولا تستطيع أن تتكلَّم فيه، وهذا معناه أن الصحبة أحسن من الإيمان وأن الصحبة أعظم من الإيمان، وكأن لدينا أي اعتبار للصحبة بغير إيمان، وعلى كل حال هذا التفكير الواضح – كما قلنا – كالسيف القاطع، وهذا ليس مدحاً لنفسي وإنما مدحاً للحقيقة، فهو كالسيف القاطع، لأن مِمَن صحب الرسول وكانوا معه بعض المُنافِقين، والنبي أخبر أنهم مُخلَّدون في جهنم، ف الصحبة بحد ذاتها وهى عريةً عن الإيمان لا وزن الله، فبالله بأي منطق جعلتم الصحبة أعظم من الإيمان؟ الإيمان يزيد وينقص لكن الصحبة أمرها مُختلِف، فإن ثبتت لا يُؤثِّر في مَن ثبتت له شيئ، ولكن أي منطق هذا؟ ولذلك يقولون مَن تمنطق فقد تزندق، فهم ضد المنطق، ولكي يبقى مشوار الاستغفال للأمة وتزوير الوعي لابد أن نُحارِب المنطق والمناهج العلمية والعقلية القوية، ونحن ندعو إلى العكس تماماً، ونقول تسلَّحوا بالمنطق وبالمناهج العلمية، وعلى كل حال دخلنا في موضوعات أخرى فسامحوني ونعود إلى ما كنا فيه، فهم جعلوا الصحبة أعظم من النبوة، وطبعاً لم يفعلوا هذا نظرياً، ومن هنا يأتيك أبله ويقول لك أين هذا أيها الكاذب لعنة الله عليك؟ لكن يا أخي هذا ليس نظرياً، أنتم عملياً تُعامِلونها أعظم من النبوة، لماذا؟ لأنكم تُرووننا وتروون لنا الأحاديث الصحاح والحسان – بل أن القرآن الكريم ناطق بهذ ، ما بالي أذهب إلى الأحاديث؟ القرآن ناطق صادع بهذا – التي تقول أن النبي ليس له ضمانة ولا حصانة إن هو تعدَّى وظلم، وحاشاه إلى انقطاع النفس، ولكن فرض المُحال ليس بمُحال كما نقول، وصدق الشرطية ليس رهناً بوقوع الشرط أصلاً، لكن القرآن ناطق وصادع بأن النبي لو تعدَّى وتجاوز على أحد ظلماً ليس له ضمانة ولا حصانة دون القصاص، أي أن يُقتَّص منه، ولذلك النبي طلب أن يُقتَّص منه في الدنيا إن كان ظلم، وما ظلم أحداً، فأنتم تروون هذا وتُرووننا إياه ثم تذهبون إلى القول الذي يقول إلا الصحابي، إن ثبتت صحبته ولكنه قتل وفعل الأفاعيل فإن هذا لا يُؤثِّر فيه، وقطع الله لسانك يا كذا وكذا، فما هذا؟ معناها الصحبة عملياً عندكم وفي ظنكم يا مَن لا منطق لكم أصلاً أعظم من النبوة، وفكِّروا – بالله عليكم – في هاتين الجملتين طويلاً طويلاً طويلاً، وأتمنى مَن يأتي ويرد علىّ بالدليل الواضح البيِّن، أتمنى هذا وأنا راجع عن خطأي من فوري والله، وعلى كل حال هذا المنطق عجيب معروف عنه أنه يخدم مَن!

نعود إلى ابن تيمية – رحمة الله تعالى عليه – وما يتعلَّق به، فالعواطف يكون الإنسان أكثر استبصاراً بها، لماذا؟ لأنها جزء من التجربة الشخصية المُباشِرة، فأنا أستطيع أن أعرف هل اُحِب هذا الشخص أم اُبغَضه وهل أهفو إليه أم أزّوَر عنه وهل أفرح بنجاحه أم أشمت بفشله، سهل جداً أن أعرف هذا – بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ – طبعاً، ولأجل بساطة العواطف ومتها إلى الخبرة الشخصية الذاتية بألف سبب وسبب أمكن أن تتغيَّر بسرعة، بخلاف الأفكار طبعاً، كما قال الله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ – المُعامَلة – فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩.

رجل إسمه صفوان بن أمية – رضوان الله عليه – صار صحابياً وحسن إسلامه – إن شاء الله – ولكنه في البداية لم يكن صحابياً وكان مُشرِكاً، وذهب إلى حنين مُشرِكاً، أي بعد فتح مكة، فهذا لم يُسلِم في فتح مكة، وهذا يُؤكِّد أن النبي لم يُخيِّر الناس يوم فتح المكة بين الإسلام والسيف، فانتبهوا إلى هذا، لأن هذا دين الحرية، والآية الكريمة تقول لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فلا تقل أنها منسوخة ولا تقولوا يا علماء أنها منسوخة، كيف تكون منسوخة وصفوان ابن أمية وافِرٌ موفور يذهب إلى حنين والنبي استعار منه أسلحته وأدراعه – الدروع – في القضية المشهورة الثابتة وذهب يُقاتِل إلى جانب المسلمين ضد هوازن مُشرِكاً؟ يقول وما زال النبي يُعطيني ويُعطيني ويُعطيني حتى صار أحب الناس إلىّ، أي أحببته، وأنا قلت هذا أسلم على خراف، وهذا معنى التأليف، لأن ما معنى تأليف القلوب؟ أن أعطيك خرافاً – مثلاً – وأُعطيك نوقاً وأُعطيك ذهباً وفضة حتى تُحبِني ومن ثم تُحِب الدين، بمعنى أن صفوان ابن أمية لم تفعل فيه بضعة آلاف من الآي الكريمات فعلها، والقرآن يُحاجِج ويُقال له قال الله وقال الله وقال الله وقال الله لكنه لم يقتنع ولم يُحِب محمداً ولم يُحِب الإسلام، لكن ببعض الخرفان وببعض النوق قال أنا أُحِبه، فأحلى شخص هو محمد ومن هنا أسلمت، وهذا المطلوب يا سيدي وليس عندنا مُشكِلة في هذا، سوف نُعطيك أموالاً وندخلك في الجنة أيضاً، فهذا – والله – دين عظيم وهذا نبيٌ رحيم، وعلى كل حال هو أسلم يوم حنين، لكنهم ألَّفوا قصة كبيرة لأننا قلنا أسلم على خراف، فهم ليس عندهم أي منطق في التفكير – أصلحني الله وإياهم – وهذا شيئ عجيب جداً، لكن الشاهد هنا هل هذا الرجل تحرَّك فكره بالأدلة القرآنية؟ لم يتحرَّك بهذا أبداً، عشرون سنة ولم يقتنع، ولكن بماذا تحرَّك قلبه وعاطفته فأصبحت المسألة عنده مسألة حب وكره وقال كنت لا أُحِب محمداً أبداً والآن أصبحت أُحِبه بشدة؟ بالخراف، فإذن هذه عاطفة، والعاطفة سهل جداً زحزحتها وسهل جداً أن تعمل لها Shifting، فيُمكِن أن تزحزحها بالمال، والإمام عليّ – عليه السلام – يقول أحسِن إلى مَن شئت تكن سيده، وقال الشاعر الذي يعرف هذه المعاني:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُم                     فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ.

إذن فرغنا من قضية وضوح العاطفة وغموض الفكرة، وظني الذي يعلمه الله مني أن شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان في نفسه مُبغِضاً لعليّ عليه السلام، حاشاه أن يكون كذلك، فابن تيمية ليس كالنواصب الذين أظهروا العداء، فالناصبي يقول لك أنا أكرهه ثم يسب عليّاً ويلعنه ويقول لك لو كنت في زمانه لقاتلته، فهذا هو الناصبي، لكن ابن تيمية ليس كذلك، ابن تيمية يقول كرَّم الله وجهه ورضوان الله عليه ويقول أنه أمير المُؤمِنين وأنه رابع الراشدين، ومُستحيل أن يكون شيخاً عالماً مثل ابن تيمية وأن يُغامِر بدينه وآخرته من أجل شيئ، من أجل ماذا سيُغامِر؟ ولماذا؟ هو لا يعيش في عصر عليّ أصلاً وليس في جيش معاوية، فمن ناحية العاطفية الذي يترجَّح لدينا أن الرجل كان عند نفسه مُحِباً لعليّ، لكن من ناحية الفكرة حدث الزلل، ومن هنا غمزه في مرة ومرتين وثلاثة وأربعة وثماني مرات غمزاً فظيعاً، وأنا شخصياً أتأذَّى – والله العظيم – من هذا الغمز جداً، وهو غمز يليق بالنواصب، ولكن متى يكتمل النصب؟ إن جاء هذا الغمز مع بغض القلب، أي أن يعلم عند نفسه ومن نفسه أنه يُبغَضه، فإذن ينتهي كل شيئ ويُقال له أنت البعيد من النواصب والمُنافِقين فعلاً، أما إن كان يُحِبه وهو عند نفسه مُحِباً له ولكن حين يجتهد فكرياً اختلف الأمر فهذا لا يعني أنه كان ناصبياً، وأُحِب هنا أن أفتح ظفرين أو قوسين وأقول على أي أساس ابن تيمية اجتهد؟ على أساس البيئة الثقافية الشامية، وهذه البيئة ليست مُوغِلة في حب عليّ وأهل البيت، بل بالعكس هى مُوغِلة في حب معاوية وأهل بيت معاوية، وهذا معروف لأنها بيئة أموية، وإلى الآن يُحِبون معاوية جداً جداً بسبب هذه المواريث، بخلاف أهل العراق مثلاً الذين يُحِبون عليّاً أكثر منهم بمراحل، باستثناء البصرة قديماً، وإن شاء الله الآن اختلف الوضع، وعلى كل حال هذه هى المواريث، ثم إن ابن تيمية – رحمة الله عليه – كان حرَّانياً، لكن ما معنى أنه كان حرَّانياً؟ حرَّان معروفة بمُبالَغتها في نصب العداء لأهل البيت، ولما قال الخليفة العباسي لعن عليّ ممنوع في كل مساجد الأمة وإلا سيُعاقَب مَن يلعن ويسب عليّاً قال أهل حرَّان ارجئونا إلى ما بعد الحج، أي أعطونا فرصة من عدة أشهر لكي نفش الغليل في عليّ وأهل بيت عليّ ونسبه ونلعنه، ثم نرجع – إن شاء الله – بعد ذلك إلى الأمر الخلافي، وهذا شيئ غريب، فما هذا الحقد؟ هذا حقد مُلتاث وحقد عبيط كما نقول بالعامية، وعلى كل حال ابن تيمية كان حرَّانياً – بلده حرَّان – طبعاً، وهذه الأشياء – المواريث والثقافة والبنية الموجودة في الداخل وما إلى ذلك – لها تأثير، وانت – كما قلت – لست على أمن من مصيرك الثقافي يا مسكين، وابن تيمية ليس بدعاً، ولذلك ابن تيمية هنا قطعاً أخطأ في مواضع من اجتهاده حين تناول عليّاً وحين رد عن غير عليّ وهو دائماً يتوسَّل عليّاً ويقول عليّ فعل كذا وكذا، في حين أن الكلام ليس في عليّ – الكلام في غير عليّ – لكنه يُمثِّل بعليّ دائماً ويغمزه بمُناسَبة وبغير مُناسَبة – سبحان الله – وهذا خطأ في الفكر، والخطأ في الفكر من غير بغضة القلب إن صدر من عالم مُجتهِد حسن النية عند نفسه دون أن يدري – كما قلت – العوامل الخفية الفاعلة فيه ثقافياً ودون أن يدري الحقيقة اللاشعورية لمرجعياته فإن هذا المسكين بإذن الله نرجو أن يكون مأجوراً بأجرٍ واحد، وهو أجر المُجتهِد، والله رب قصود ونوايا وليس رب ألسنة وظواهر فقط، فالله – لا إله إلا هو – رب هذه وهذه، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذا أنا يُعجِبني – والله يُعجِبني – كل اجتهاد وكل تفكير يفتح على وسيع من رحمة الله، فأنا أُحِب هذا ليس فقط في حق ابن تيمية أو حق السُنة والشيعة وإنما – والله – في حق غير المسلمين، وعندي اجتهادات مُعيَّنة وأشياء تُؤكِّد هذا، علماً بأنني ذات مرة توسَّلت أو اقتبست كلمة أبي حامد الغزالي التي قال فيها الذي انتهيت إليه – هذا أبو حامد الغزالي، وأبو حامد يقول هذا في آخر حياته، وهو غير مُتهَم على الإسلام، فلا تقل لي أنه باطني، لأنه هو الذي قرع الباطنية في أكثر من أربعة كتب، فلا تقل لي أنه باطني، ولا تقل لي أنه جاهل لأنه حُجة الإسلام، ووهو ليس فقيهاً فقط بل هو هو مُتكلِّم كبير – رحمة الله عليه – وعقل فيلسوف ومنطيق دقيق، ولذا كان من كبار المناطقة في عصره – أن مُعظم الخلق داخلون في رحمة الله تعالى، وطبعاً سهل جداً أن نُدافِع عن وجهة نظر أبي حامد، وصعب على عقل مُنغلِق نصوصي حروفي أن يفهم هذه المقولة، فهو سوف يقول لك هذه المقولة زنديقة أو زندقية، لكن كيف تقول أنها مقولة زندقية؟أنت مقولتك انغلاقية دون أن تدري، فاربَعْ عَلَى ظَلْعِكَ قليلاً ولا تتعجل في نقد الكبار فلست منهم، ليس هذا عشك فادرج، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وعلى كل حال نُحِب هذا ونُحِب أن نتعاطى بهذه الطريقة.

هل تعرفون ما الذي دغدَغ خيالات البشر حول العالم وأكسب أفكار التنويريين الأوربيين – وخاصة في القرن الثامن عشر بالذات – جاذبية خاصة علماً بأن أن إلى اليوم تُوجَد جاذبية خاصة لهؤلاء التنويريين؟ الذي أعطاهم هذا نزعتهم الكوزموبوليتانية أو العالمية، ومن هنا مونتسكيو Montesquieu يقول أنا إنسان بالضرورة وفرنسي بالمُصادَفة، أي قبل أن أكون فرنسياً أنا إنسان، ولذا أُفكِّر على مُستوى الإنسان وعلى مُستوى كرامة الإنسان وروح الإنسان وأشواق الإنسان، إذن هذا هو مونتسكيو Montesquieu، فلماذا لا يقول هذا مُفكِّر مسلم؟ لماذا لا يقوله مُفكِّر قرآني؟ لماذا؟ لأننا إلى اليوم لسنا لائقين ولسنا مُستعِدين ولا مُؤهَّلين أن نُترجِم عن خطاب أو نُبلوِر خطاباً يُثبِت قول الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، ولذا أنا فكَّرت في عنوان هذه الخُطبة الذي سيكون “كافر بالإنسان.. كافر بالرحمن”، فإذا كفرت بالإنسان فهذا يعني أنك كفرت بالرحمن،لا يُمكِن أن تكفر بالإنسان ثم تقول لي أنا مُؤمِن بالرحمن، لكن هل تعرفون لماذا؟ ما هو ومَن هو الرحمن الذي آمنت به؟ ما هو ومَن هو الرب الذي آمنت به؟ هو رب ماذا؟ هو رب الناس، فإذن لا يُمكِن أن تعرف مظاهر ربوبيته إلا بعلاقته بالناس، فهو رب الناس وهو رب العالمين، ونحن عالم من هاته العوالم، ومن ثم إذا أردت أن تختبر معرفتك وتحسسك لربوبية الله فإن هذا يكون عبر فهمك لشرع الله في خلق الله وفي ناس الله وفي عالم الله تبارك وتعالى، ومن هنا جاء عنوان هذه الخُطبة “كافر بالإنسان.. كافر بالرحمن”.

أحبار وحاخامات ورابيو بني إسرائيل في عهد المسيح عيسى – عليه السلام – كان أمرهم مُختلِف، ويُمكِن أن يُقال أن عيسى بالغ في نزعته التسامحية الحِبية أو الحُبية – نسبة إلى الحُب – لكن هل تعرفون لماذا؟ كرد فعل جاء مطلوباً وليس ناداً عن الصواب وليس ناداً عن مهيع الصواب، ولكنه كان رد فعلٍ مطلوباً للنزعة التي لا ترى وجوداً للدين خارج القسوة والفظاظة، فهناك مَن يظن أن الدين هو القسوة، واليوم   بعض المشائخ وبعض العلماء كل ما يفعلون وكل ما يقولون وكل ما يفتون تقريباً كله يُؤكِّد أنه لا وجود للدين في أذهانهم خارج القسوة والفظاظة والحصرية والانغلاقية والاستغلاقية، ولذلك – للأسف – خرج لدينا جيل من الرجال والنساء مُعثَّر بائس، ونحن – والله العظيم – نُشفِق عليه لأنه يُرثى له، فهو يظن أن كلما كان عالم الدين مُتجهِّماً أكثر ومُتشدِّداً أزيد ومُوغِلاً في التكفير وسب الناس وشتمهم والتشكيك في نواياهم ولعنهم ولعن آبائهم وأمهاتهم كان أكثر أماناً ومأمونية على الدين ومن ثم يُقال نحن نأمنه على ديننا فتمسكوا به، وهذا غير صحيح، هلكت وأهلكت يا مولانا، لا والله ليس هذا الصحيح، بل العكس هو الصحيح، قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، وأنا أنحاز بين كل تأويلين أو مائتي تأويل لحكمٍ شرعي أو لنصٍ شرعي دائماً إلى ما يُترجِم عن رحمة الله فقط، فأعرف أنه الأحسن وأعرف أنه الأوفق، وهذا الذي دغدَغ خيالات البشر في خطاب التنويريين، لقد كانوا عالميين وفكَّروا بحجم الإنسان وعلى قد الإنسان، علماً بأن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب، لكن التنويري الحقيقي – ولا زال إلى اليوم التنوير الحقيقي – هل تعرفون مَن هو؟ يُوجَد تعريف للتنويري بحسب ريجيس دوبريه Régis Debray وذلك حين تعاطى مع قضية صاحبه المُفكِّر اليهودي الكبير إدغار موران Edgar Morin، فموران Morin رجل يهودي وقد فقد بعض أفراد عائلته في المحرقة، أي في الهولوكوست Holocaust ولكن الحرب لا تزال شعواء عليه من صهاينة باريس، لماذا؟ لأنه يُناصِر قضايا المُستضعَفين وخاصة الفلسطينيين، فهو ضد عنف الصهيونية وضد عجرفة إسرائيل، ولذا تُوجَد حرب شعواء عليه مع أن هذا الرجل أحد المكروثين بالهولوكست Holocaust فلا يُمكِن لأي يهودي أن يُزايد عليه يهودي، والتقدمي ريجيس دوبريه Régis Debray كان ماركسياً والآن أصبحوا تقريباً يعتبرونه ضد الأنوار – آخر كتاب له الأنوار التي تُعمي – مع أنه ما زال تنويرياً ويعتد بالتنوير والأنوار – Aufklärung و Enlightenment – ولكنه بمنظور جديد قال أنا بعد قصة صاحبي المُفكِّر الكبير إدغار موران Edgar Morin خلصت إلى تعريف جديد للتنويري، فمَن هو التنويري؟ التنويري الذي يعمل على نقد ذاته وطائفته وعلى نقد عشيرته وأهله، كأنه يقول مللنا من الذين يُظهِرون البطولة الزائفة والبطولة الكاذبة في سب الآخرين ونقدهم، وهناك مَن يقول أنتم يا سُنة كذا كذا كذا وأنتم يا شيعة كذا كذا كذا، فالشيعي يقول هذا والسُني يقول هذا ونحن مللنا من هذا، ولا تُوجَد بطولة ولا جرأة ولا صدق – إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم – في أن تنتقد غيرك وأن تسكت عن عطبك وعن عفنك وعن أخطائك، فأن تنتقد غيرك هذا لا يُكلِّفك شيئاً طبعاً، لا معنوياً رمزياً ولا مادياً، بل بالعكس هو يُكسِبك مزيداً من التصفيق، تصفيق القطيع المُوافِق وتصفيق الطائفة والمذهب والحزب والتنظيم والإطار، والعكس صحيح طبعاً، فلو أنك انتقدت نفسك طلباً للحقيقة والإنصاف ستُذبَح – إن لم يكن مادياً فرمزياً ومعنوياً – وستجد نفسك في النهاية ضائعاً بين الغنمين وضائعاً بين الحيين، فلا يقبلك هذا ولا يقبلك هذا، لأن التعصب بنية، وكما هذا مُتعصِّب بطريقته فذاك مُتعصِّب بنفس الطريقة وإن اختلف المضمون، ومن هنا يقول دوبريه Debray أن التنويري الحقيقي هو الذي ينتقد ذاته وطائفته، فإدغار موران Edgar Morin   يقول عن هذا أنه تنويري حقيقي.

فولتير Voltaire انتقد اليسوعيين وقد تربَّى أو رُبِّى في كنفهم مننذ نعومة أظفاره، فالرجل – أي فولتير Voltaire – كان يتيماً وانتقد الطائفة اليسوعية الكاثوليكية فحرموه وأجروا عليه الحرم، وفولتير Voltaire رجل معروف وهو الآن في مقبرة العظماء، وعلى كل حال ديدرو Diderot – دنيس ديدرو Denis Diderot – صاحب الموسوعة قبل أن ينتهي إلى الإلحاد والنفي الكامل كان ثائراً على طائفته الكاثوليكية، وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau كان ثائراً على طائفته الأقلوية البروتستانت Protestant – كانت طائفته البروتستانت Protestant – فطبعاً حُرِمَ ولُعِنَ من الطائفتين، من الكاثوليكية لأنه بروتستانتي ملعون عند الكاثوليك ومن البروتستانت Protestant لأنه انتقدهم ومن ثم كان ملعوناً عندهم، وضاع جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau بينهما،وفعلاً الرجل قضى حياته وهو يفر من بلد إلى بلد ومن بلد إلى بلد لأنه ملعون عند الطائفتينوهو الأسوأ حالة، وهكذا كان الحال مع الآخرين، وعلى كل حال هذا هو التنويري الحقيقي.

نُريد الآن فكراً إسلامياً تنويرياً لديه الجرأة والصدقية والشفافية أن ينتقد ذاته قبل أن ينتقد الآخرين، وطبعاً بلا شك أنا سُني أعرف سُنيتي أكثر بكثير مما أعرف شيعية الشيعي، فأنا مطلوب مني بدرجة أولى أن أنتقد نفسي، ومطلوب من أخي الشيعي أيضاً بدرجة أولى أن ينتقد نفسه قبل أن ينتقدني، وبعد ذلك لا ابأس أن يتطرَّق الانتقاد والطرق ولكن بدرجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، أما بدرجة أولى يجب علىّ أنا أن أنتقد نفسي، فهذا الشيئ من التنوير.

في الخُطبة الثانية – إن شاء الله – سأُفضي بسرعة إليكم بجوهرة هذه الخُطبة كما أراها – بإذن الله تعالى – وأعز ما فتح الله علىّ به مع أن لي سابقة في هذا الموضوع، فأرجو أن يفتح الله علينا وعليكم – بإذن الله – وأن يتقبَّل عنا وعنكم أحسن ما عملنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

هل تجوز الرحمة إذن في حقِ مَن أخطأ؟ طبعاً بلا شك، فالرحمة أصالةً هى لمَن أخطأ وتجاوز، تقول الآية الكريمة قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، أليس كذلك؟ وفي القرآن الكريم أيضاً وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ ۩، فإن لم يرحمك الله لم يعف عنك ولم يُسامِحك ولم يغفر لك، أما إن تأذَّن برحمتك وإدخالك في رحمتك – اللهم إدخلنا برحمتك يا رحمن، يا رحيم، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها يا رب العالمين – فقد غفر لك وعفا عنك، تقول الآية الكريمة وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ ۩ لكن هل تعرفون لماذا؟ يقول القرآن الكريم فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً – هم لم يُصدِّقوا، وهؤلاء هم النضوة وهؤلاء هم وجه البسطة كما يُقال وهؤلاء هم الخيرة، أي خيرة بني إسرائيل، فهم سبعون وقد اختارهم موسى، لكنهم أتوا بحماقة كحماقة عبادة العجل وقالوا نُريد أن نرى الله –فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۩، أي صُعِقوا، تقول الآية الكريمة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ۩، وهذا أمر عجيب، فهو قال إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ۩، فإذن هل طلب الرحمة أو لم يطلب لمَن أرادوا أن يروا الله جهرة؟ هل نظرتم إلى دينكم وإلى قرآنكم كم هو واسع المنادح والأعطان وكم هو رحيم؟ لكنهم يقولون لقد أخطأ ابن تيمية ومن ثم لابد أن نلعنه، فماذا بعد؟ أين مسألة الاستقطابية؟ علماً بأن عندي خُطبة قريبة عن الاستقطاب، فأكثر ما أكره في الحياة وفي الدنيا هو الاستقطاب، فأين منطق التدرج؟ هذا منطق إما وأو، أي إما قديس وإما إبليس، إما جزاه الله خيراً وأحسن مثبوته وأجزل عطاءه وإما لعنة الله عليه، وهذا غير صحيح، لأن بينهما مساحة كبيرة، فيُوجَد في الطيف الواسع بين أجزل الله وشكر له وبين لعنة الله عليه أشياء مثل رحمه الله وغفر الله له وسامحه الله وتجاوز عنه ولا أخذه الله بكذا، أليس كذلك؟ هل هذا مازال موجوداً أم ضيَّعناه؟ على كل حال عندنا منطق استقطابي فنقول إما أنه قديس وإما أنه إبليس، إما قدَّس الله سره وإما لعنة الله على هذا البعيد وعلى ذريته، وهذا لا يصح أبداً في الدين، فهذا الدين كله رحمة، فإن صح لإخواني الحق أن يعتبوا علىّ وأن يلوموا فإن هذا يكون لو أنني بعد أن أُقرِّر خطأً كما أراه أو يراه العلماء أهل السُنة لابن تيمية – رحمة الله عليه – آتي وأقول أجزل الله مثبوته وشكر الله له، لأن في هذه الحالة سيُقال لي أنت مُتناقِض لأنك تخطَّئه ثم تقول بعد ذلك شكر الله له، فعلى ماذا تقول شكر الله له؟ هل تقول هذا على هذه الزلة في العقيدة وعلى هذا المغمز – مثلاً – في الإمام عليّ؟ كلامك غلط يا عدنان، وهذا فعلاً غلط لكنني لا أقول هذا، أنا أقول رحمه الله وعفا الله عنه وسامحه، وهذا يجوز طبعاً.

أختم بما وعدتكم به، فإذا كنا بشراً – كما قلت لكم – فإن جزء من الدرامانا أننا كائنات عضوية نامية ونتعلَّم بل نتلقَّن حتى إذا شببنا عن الطوق وبدأنن نرشد وجدنا أنفسنا مأسورين لـ ورازحين تحت ضغوط الأنماط والقوالب والنماذج الثقافية دون أن ندري، ونُمارِس بعد ذلك الفكر والاستنباط دون أن ندري، وهذه مأساة طبعاً، ولا يكسر هذا الطوق اللعين إلا المُفكِّرون الأحرار الجهابذة القادرون على أن يتجاوزوا ذواتهم وأنماطهم، فهؤلاء هم الأذكياء وهؤلاء هم العباقرة المُفكِّرون النجوميون كما يُقال، وعلى كل حال هذا جزء من الدراما الإنسانية وجزء من دراما الإنسان، وأعود وأقول بما أننا كذلك – ونحن كذلك، فنحن بشر – ضاق هامش الإعذار منا لبعضنا البعض واتسمت أحكامنا على بعضنا البعض بالقسوة والفظاظة، أليس كذلك؟ فصرنا نقول -كما قلت لكم – إما إبليس وإما قديس، طبعاً والأبالسة أكثر والزنادقة أكثر، ومن هنا قلت احذروا معاشر الأحرار فكلكم زنادقة، لأن كل مَن يتجرأ أن يستخدم عقله قد يُوصَم بالكفر والمروق والزندقة.

بخلاف رب العالمين – لا إله إلا هو – نحن نحكم على بعضنا أحكاماً ظرفية ونُغرِق في الظرفية، في حين أن للتجربة وللحكمة تأثير، وكما قال عيسى – عليه السلام – لا تدينوا لئلا تُدانوا، فكل مَن حكم على غيره ظرفياً يُوشِك أن يكون – سبحان الله – ضحيةً للظرفية، قبل بضع سنين حدث أمر مع المرحوم الشيخ الفاضل والأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين – رحمة الله عليه – الذي حرَّك ملف وقضية المرحوم نصر أبو زيد وتأدَّى الأمر إلى أبو زيد أن يُهاجِر من مصر وأن يموت في الخارج وإلى آخره، وقد طُلِب التفريق بينه وبين زوجه وحُكِمَ عليه بالردة وكانت قصة كبيرة، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ حدث نفس الشيئ، حيث وقع عبد الصبور شاهين ضحيةً للشيخ يوسف البدري، وأُريد أن يُستصدر حكماً بردته والتفريق بينه وبين زوجته، أي أنه نفس الملعوب ونفس النظرات الضيقة والحكم الظرفي على الأشخاص والعلماء وأهل الفكر، وهذا لا يجوز، ولذا قال عيسى – عليه السلام – لا تدينوا لئلا تُدانوا.

الآن هل تظنون أن رب العالمين – تبارك وتعالى – يحكم علينا بكذا وكذا من غير أن يُدخِل في الحساب – إن جاز التعبير – مشروطيتنا ومظروفيتنا؟ حاشا لله أن يفعل هذا، فالله يُدخِل هذا ويُراعيه تماماً في الحساب، وأُحِب هنا أن أستنبط معنىً جديداً وهو أن الله – تبارك وتعالى – وحده – لا يستطيع هذا لا جبريل ولا ميكال ولا أكبر فيلسوف وجودي أو عالم في النفس، هذا مُستحيل – يعلم المحض منا، فهو وحده يعلمكَ محضاً ويعلمني محضاً ويعلمكِ محضاً، لكن ما هو المحض منا؟ أستطيع أن أقول أن المحض منا هو أن الإنسان يُعادِل – هذا يحتاج إلى تفكير ففكِّروا فيه بعد الخُطبة – المُتوسِط الحسابي للإنسان مُجرَّداً أو استعداداً ولياقةً تحت الظروف المُمكِنة المفروضة المُختلِفة، بمعنى أن هذا الشيعي لو أُخِذ من بيته الشيعي منذ نعومة الأظفار ووُضِعَ في بيئة سُنية فإن الله وحده الذي يعلم كيف كان سيتصرّف ويسلك ويفهم ويدرج، فهو وحده الذي يعلم هذا، وكذلك لو وُضِعَ في بيئة إباضية أو مسيحية أو هندوسية وإلى آخره، وفي نهاية المطاف الله وحده هو القادر على هذا، لكن الفيلسوف الوجودي كافر بهذه الفكرة وسخر منها لأنه مُلحِد مادي وقال هل ثمة معنى أصلاً للشخصية خارج حدود البيئة والثقافة والتجريب؟ هذا مُستحيل، فحتى الاستعداد هو مفهوم أنا لا أُصادِق عليه، لكن رب العالمين الذي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩ قال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ۩ وقال أيضاً وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩، فهو يعلم هذا، ويعلم ماذا كنت ستكون وماذا كنت ستفعل وتجترح من أفكار وسلوكات في بيئة مُختلِفة إن قليلاً أو كثيراً، إذن هو يعلم هذا والآن ياتي المُتوسِط الحسابي، فالله يعلم أنك في هذه البيئة ستحتاز خمس درجات ولكن في هذه البيئة عشر درجات وفي هذه البيئة ثلاث درجات، فالمجموع – ثمانية عشر على ثلاثة – ستة، فإذن أنت عند الله محضاً تُساوي ستة، ولذلك يقول الله وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ ۩، فيا إخواني لا تكونوا قضاةً وكونوا رحماء ودعاةً وكونوا أهل حوار لكن وسِّعوا مساحات الرحمة في تفكيركم وفي تعاطيكم مع الآخر، فنحن نُريد خطاب رحمانياً أو رحموتياً ونُريد خطاباً مُتسامِحاً، نُريد خطاباً يقول للآخر حقك مكفول تماماً من عند آخره في أن تعبد الله بالطريقة التي تراها بل أن تعتقد فيه العقيدة التي تشتهيها، كأن تعبده على أنه مُجسَّم أو على أنه مُشبَّه أو على أن له حدود، فأنت حر يا سيدي، اضرب حتى أساس التقديس ولن تُلزم بشيئ لأنك حر ومن ثم ليس عندي مُشكِلة في هذا، أنت عندك الحرية أن تُحرِّم ما شئت على نفسك وأتباعك من طيبات الدنيا وعندك الحرية في مُمارَسة حقوقك، لكن ليس لديك الحرية ولا حقك مكفول في أن تمنعني من التمتع بمثل الحقوق وإن اختلفت المضمونات، فعندي حريتي أن أعبد الله على أساس التقديس والتنزيه التام الكامل على طريقتي وعلى طريق علمائي وأئمتي، فاتركني يا أخي أُقدِّس ربي كما أُريد، اتركني آخذ بفتاوى علمائي وأئمتي في استباحة الطيبات التي لم يقطع دليلٌ بحرمتها ولا تُفسِّقني وتُديِّثني، اتركني افعل هذا، وفي نهاية المطاف نتسامح مع كل ألوان التفكير والاجتهاد ما لم يستحل الاجتهاد إلى جريمة، لكن هل تعرفون متى يصير الاجتهاد جريمة؟ إذا حرَّض أو عمل أو انخرط في التحريض على قتل الآخر أو إهانة الآخر أو اغتيال حريات وحقوق الآخر، فهذا مُجرِم وليس مُجتهِداً، وهذا لا يُتساهَل معه، وقد يكون معطوباً في عقله أو نفسه فيحتاج إلى مصحة للأمراض العقلية والنفسية.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمَن توَّليت، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدنا واهد بنا وأصلِحنا وأصلِح بنا.

اللهم إنا نسألك أن تُصلِح حال المُسلِمين والمُسلِمات، اللهم أذهِب عنهم الفتن والمحن والبلاء ما ظهر منه وما بطن يا رب العالمين، وألِّف قلوبهم وأصلِح ذات بينهم، اللهم اجمع هذه الأمة المُحمَّدية المرحومة على أمرٍ يُرضيك عنها ومنها يا رب العالمين، وأبرِم لها أمر رُشدٍ يُعَز فيه أولياؤك ويُذَل فيه أعداؤك ويُعمَل فيه بطاعتك على ما ترضى وتُحِب ويُتناهى فيه عن معصيتك ويأمت فيه المُؤمِنون وبالمُؤمِنات برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: