إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل ثناؤه:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۩ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

في هذه السورة الجليلة (سورة البقرة) قبل ثلاث آيات من آية الخمر والميسر وإنفاق العفو، ورد قوله – جل مجده – يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ۩. هذه وردت قبل ثلاث آيٍ من آية الخمر والميسر، التي قال فيها – جل مجده – يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ ۩… قال وَيَسْأَلُونَكَ ۩، هذا سؤال آخر أيضاً، تلا وعقَّب السؤال السابق، قُبيل قليل، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۩، وأتى الجواب هذه المرة مُختلِفاً، قُلِ الْعَفْوَ ۩، وهذه قراءة مشهورة وصحيحة، وهناك قراءة الضم؛ قل العفوُ. إذن قُلِ الْعَفْوَ ۩.

السؤال الأول – إخواني وأخواتي – ورد مُتلمِّحاً المصارف، مصارف الإنفاق، أين نضع نفقاتنا؟ بدليل الجواب، قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩… الآية! بدليل الجواب، أن السؤال فيه تلمح إلى مواضع ومحال النفقة، أما هذا السؤال الآخر وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۩ فهو مُتلمِّح وناظر إلى ماهية وكمية المُنفَق، من أي شيئ نُنفِق؟ من أي شيئ نُنفِق؟ وكم؟ فأتى الجواب وجيزاً بليغاً مُكثَّفاً، وأيضاً صادماً – كما قلت في الخُطبة السابقة، وهذه الخُطبة جاءت تلبيةً لمَن طلب أن يُخص الموضوع، وقد كنت ألمحت إلى ذلك بخُطبة بحيالها -، قُلِ الْعَفْوَ ۩، كم تُنفِق؟ العفو.

والعفو هو الفاضل، وأصل العفو الزيادة، عفا يعفو عفواً، فهو عفوٌ، مصدرٌ واسمٌ! العفو أصله الزيادة، كما قال – عز من قائل – حَتَّى عَفَوْا ۩، في سورة الأعراف حَتَّى عَفَوْا ۩، أي زادوا، أي زاد عديدهم. فالعفو هو الزيادة، والفضل لا يكون إلا زيادة، ما فضل عن ضروراتك وحاجاتك وحاجات مَن تعول، لا يكون إلا ماذا؟ إلا زائداً. فلأنه زائد، قيل إنه فضل، وقيل إنه عفو. فما استفضله الإنسان عن نفقات نفسه ونفقات مَن هم في ولايته ومسؤوليته، يُقال إنه فضل وزيادة وعفو. والآية تقول أنفقوا العفو، الآية تقول أنفقوا العفو!

وفي صحيح مُسلِم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا ابن آدم إنك إن تُنفِق الفضل – والفضل هو العفو، هو الزيادة -، خيرٌ لك، وإن تُمسِكه، شرٌ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمَن تعول.

يا ابن آدم إنك إن تُنفِق الفضل، خيرٌ لك، وإن تُمسِكه – تُمسِك ما فضل عن حاجاتك وحاجات أهلك -، شرٌ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمَن تعول. قال وابدأ بمَن تعول. وفي صحيح البُخاري الحديث المشهور جداً، إن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمَن تعول. قال وابدأ بمَن تعول. مرة أُخرى!

إخواني وأخواتي:

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۩، الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه، ومأمور به، ومدعو محفوز إليه، الإنفاق في القرآن الكريم! وكلنا على علم وعلى ذُكر أن الإنفاق منه ما هو الواجب، كالزكوات. الزكاة المفروضة تدخل في عموم الإنفاق، تدخل في عموم الإنفاق ولكن في بعض السياقات والآيات القرآنية الجليلة ربما غاير القرآن بينهما، بالواو، والأصل في الواو أنها للمُغايرة. أي إذا ذكر الله الإنفاق، ثم قال وَآتُوا الزَّكَاةَ ۩، علمنا أن الإنفاق هنا غير الزكاة، فينطبق عليهما القاعدة المشهورة إذا اجتمعا، افترقا. وإذا افترقا، اجتمعا. إن أتى الإنفاق بحياله أو برأسه، دخلت فيه الزكاة. إن أتى الإنفاق في سياق واحد مع الزكاة، تغايرا. فتُصبِح الزكاة هي المفروضة الواجبة المُحتَّمة، ويُصبِح الإنفاق أو يبقى الإنفاق فيما يُتطوَّع به، فيما يُتطوَّع به وتسمح به النفس. قال – عز من قائل – في سورة البقرة أيضاً لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ۩، يتحدَّث هنا عن وجوه وصور عديدة من وجوه وصور الإنفاق، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩ مَن ذكر – تبارك وتعالى -، ثم عقَّب فقال وَآتَى الزَّكَاةَ ۩، إذن الزكاة هنا غير هذه الصور من صور الإنفاق، فهذه يُتطوَّع بها، ولكن قد تجب أيضاً.

ثمة مسألة مُهِمة لا يُمكِن أن ننفصل في تفسير هذه الآية الجليلة – أي آية قُلِ الْعَفْوَ ۩ – إلا بعد الفراغ من تحقيقها، وهي أفي المال حقوق سوى الزكاة؟ لأن بعض الناس غره ما يتردد على ألسنة بعض الفقهاء وربما الوعاظ والخُطباء، من أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وهو الحديث الذي أخرجه أبو عبد الله بن ماجة في جامعه – أي في سُننه – بسنده، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن فاطمة بنت قيس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم وآله – قال ليس في المال حق سوى الزكاة. فيغترون بهذا، يقول لك أحدهم أنا أخرجت زكاة مالي، فلا علىّ بعد ذلك في تصرفي في مالي بما أُحِب، أجعله كنزاً، أُتلِفه في شيئ آخر من المُباحات، أنا حر، ليس في المال حق سوى الزكاة، والرسول قال هذا.

ولكن علينا أن نلفت وأن ننتبه – إخواني وأخواتي – إلى أن هذا الحديث أيضاً أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي، والإمام الدارمي، والإمام الدارقطني، والإمام الطبراني في الكبير، والإمام البيهقي – رضيَ الله عنهم وأرضاهم -، من طرق أقوى من طريق ابن ماجة، بشكل واضح أقوى من طريق ابن ماجة. قالت فاطمة بنت قيس – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – سُئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الزكاة – فالسؤال كان عن ماذا؟ عن الزكاة -، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – إن في المال لحقاً سوى الزكاة. قال إن في المال لحقاً سوى الزكاة. قالت ثم تلا قوله – تبارك وتعالى – لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ۩… انظر إلى الرسول، هو سيد المُجتهِدين، سيد مَن استنبط المعاني من بعيد الأغوار وسبرها – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -.

تلا هذه الآية، ووجه الاحتجاج ربما ما تلمحتموه سريعاً، أن الله – تبارك وتعالى – بعد أن فرغ من ذكر صور من صور الإنفاق، عقَّب وقفَّى بقوله وَآتَى الزَّكَاةَ ۩، فعُلم أن هذه الوجوه غير الزكاة، غير الزكاة! وأنها تدخل في عموم البر، وأن مَن يُريد أن يصل إلى مرتبة الأبرار أو البررة، عليه ألا يغتر وألا يكتفي بمُجرَّد تقليب وجهه في المشارق والمغارب، أي يُصلي فقط. الآن نُصلي، الآن نتطوَّع. جميل! الصلاة عماد الدين، ولا حظ في الإسلام لمَن لا صلاة له. لكن صلاة بلا إنفاق، لا تُجدي كثيراً. أقبح قبيح مُسلِمٌ شحيح. أقبح قبيح مُسلِمٌ شحيح! الشحيح بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار – والعياذ بالله -، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فالقرآن يقول هذا هو البر، تُريد البر؟ هذا هو.

والبر أصلاً كلمة يُراد بها ماذا؟ يُراد بها التوسع في الخيور، أي التوسع في الخيرات، التوسع في الخيور! هذا هو التعريف الجامع لكلمة البر، ومن أحسن البر إنفاق المال، إنفاق المال في المحاويج وفي فروض الكفايات وفيما يعرض من الحاجات. في المحاويج، أي الفقراء والمُعتازين، والمُعدمين. في المحاويج وفروض الكفايات وفيما يعرض من الحاجات، هذا مُهِم جداً! وبهذا التأويل جمع السادة العلماء وكبار الفقهاء والمُحدِّثين بين حديثي الترمذي والآخرين من جهة، وبين حديث ابن ماجة من طريقه. في حديث ابن ماجة ليس في المال حق سوى الزكاة.

العلّامة أحمد شاكر – رحمة الله عليه – المصري، بعد تحقيق طويل رجَّح أن حديث الترمذي فيه خطأ ارتكبه النُسّاخ، وأن الحديث في المال حق سوى الزكاة. وهذا معقول جداً، لأنه مروي عند مَن ذكرت، الترمذي والآخرين، إن في المال لحقاً سوى الزكاة. وبالتأكيد، قال إن. إن في المال لحقاً سوى الزكاة. فيبدو أن بعض النُسّاخ أضاف ماذا؟ ليس في المال حق سوى الزكاة. أي ليس هذه جاءت تصحيفاً، خطأ من خطأ النُسّاخ.

على كل حال لو أخذنا بظاهر الحديث، سنفعل ما فعله الحافظ العراقي زين الدين – رحمة الله عليه – في شرح التبصرة والتذكرة للأسف وانتهى إلى أن هذا الحديث مُضطرب لفظه ومعناه. من باب الحديث المُضطرب! والعلماء عقَّبوا على موقف العراقي، قالوا غير دقيق. لماذا؟ لأن من شرط الحديث، لكي يُحكَم عليه بأنه مُضطرَب، في علم مُصطلَح الحديث وعلم الدراية… ماذا؟ أن تتساوى قوة طرقه. فيرد من طريقين قويين، بنفس الدرجة، ويحدث مثل هذا التعارض، فيُحكم عليه بماذا؟ بالاضطراب. يُوجَد حق أو لا يُوجَد حق؟ أقول لك فيه حق، ثم أقول لك لا، لا يُوجَد فيه حق. يُوجَد اضطراب إذن! ولكن نحن سمعنا للتو أن طريق ابن ماجة ضعيف، طريق الترمذي والآخرين أقوى، وإن كان فيه ضعف أصلاً، والترمذي نبَّه على ضعفه، ولكن هو أقوى من طريق ابن ماجه. إذن لا يُوجَد اضطراب، بحسب قواعد الدراية لا يُوجَد اضطراب، فهذا ليس من باب الحديث المُضطرِب – إن شاء الله تعالى -.

والعلماء جمعوا بينهما كالتالي:

شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه، وهذا جمع ذكي، في مُنتهى الذكاء – قال ليس في المال حق سوى الزكاة، لجهة المالية. أي بسبب المال، ما سبب المال؟ النماء المُقدَّر بالنصاب. هذا هو! أن يملك نصاباً، ويحول عليه الحول، وطبعاً النصاب فاضلاً عن ماذا؟ عن حاجاته وحاجات مَن يعول، فارغاً من الدين، أي لا يُوجَد عليه دين مُستحَق، مشغولة به ذمته. هذا المال فيه حق واجب، ما هو؟ الزكاة. لكن لغير المالية والنصاب ونماء النصاب، ماذا يُوجَد؟ يُوجَد عندي نفقات الأقربين، نفقات الوالدين، أليس كذلك؟ نفقات المعوزين، عندي فروض الكفاية، عندي سد مسد تحتاجه الأمة. أسباب كثيرة جداً، تُوجِب ماذا؟ الإنفاق. أحياناً على العين، وأحياناً على الكفاية، وإلا تأثم الأمة من عند آخرها، وهذا بالاتفاق.

ولذلك أبو بكر بن العربي – رحمة الله عليه – في أحكام القرآن قال الآتي، وهو الذي نسب هذا إلى مُعظَم الفقهاء، ولعله قال كافة الفقاء، وهذا غير صحيح بالمرة، قال كافة الفقهاء، على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة. هو نفسه الذي قال في كتابه نفسه ولكن إذا دهمت المُسلِمين أو نابتهم نائبة، وتحتاج إلى النفقة، يجب على المُسلِمين أن يُنفِقوا، حتى يخرجوا من هذه النائبة. أو كلاماً هذا معناه، وهو في معنى كلام الإمام مالك – إمام دار الهجرة، رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال يجب على المُسلِمين افتكاك أسراهم، بل قال الإمام مالك يجب على كافة المُسلِمين افتكاك أسراهم، وإن استغراق ذلك كل أموالهم. تخيَّل! هذه روح الأمة الواحدة. لما يقع بعض المُسلِمين أُسارى في أيدي العدو، ولا يُمكِن افتكاكهم إلا بمُفاداتهم – أي بدفع فدية، هذا بدل مالي -، يقول مالك يجب هذا، ولو استغرق هذا كل أموال الأمة. وطبعاً هذه حالة خيالية، ولكن هو يُبالِغ، أي يقول لك حتى لو استغرق كل أموال الأمة، يحرم أن يُترَك المُسلِم أسيراً في أيدي أعدائه.

إذن تُوجَد واجبات كثيرة في الأموال، غير موضوع الزكاة، والقضية خطيرة يا إخواني، احذقوها جيداً وافهموها، هذا ليس كلاماً هكذا، هذا يتعلَّق كل واحد منا بهذه المسألة خيره وشره وآخرته وعقابه أيضاً، ليست مسألة للترف هذه، هل تعرفون لماذا؟ كما قلت لكم لا ينبغي أن ترتاح وتقول أنا أديت زكاة مالي، وانتهى الأمر. لا! قد تُسأل، ومسألة عويصة، ليس لك منها مخرج ولا منجى. هناك واجبات أُخرى، في المال حقوق أُخرى سوى الزكاة. وقد تدخل تحت طائلة قوله – تبارك وتعالى – وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩.

بعض الناس قال لك الكنز ما لم تُؤد زكاته. فكل مال مهما كثر ومهما كان طائلاً، إن أُخرجت زكاته، فهو ليس بكنز. وهذا غير دقيق، وهذا ليس موضع إجماع ولا موضع حتى اتفاق عند الكبار من أئمتنا. وفي تفسير هذه الآية على ما أذكر – إن شاء الله تعالى – سبعة أقوال، آية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ ۩، ما هو الكنز؟

قيل الكنز ما جُمع من الأموال مُطلَقاً. أي من النقدين، ومن المال العيني، من المال العيني مثل الإبل والمعز والضأن والبيوت والسيارات والعقارات وأي شيئ، أي شيئ! كل ما يُتموَّل، كل ما يُتموَّل وليس من النقدين فقط، أي الذهب والفضة، والآن هناك الــ Banknotes، أي الدولارات واليوروات والدينارات أو الدنانير وما إلى ذلك، فهذا كله أوراق مالية، نقدية. لا! قال لك ما جُمع من المال مُطلَقاً، هو كنز. عجيب! وهذا قول ضعيف جداً طبعاً، فما هذا؟ أيكون ذلك من غير قيد وشرط؟ أهكذا يكون؟ فهل أي شيئ يُجمَع، يُقال عنه هذا كنز؟ لا. هذا قول ضعيف.

القول الثاني، ما جُمع من النقدين خصوصاً، وليس من سائر الأموال. فقط! أي الذهب والفضة، والآن هناك الــ Banknotes هذه، أو الــ Currencies، أي الأوراق النقدية، أي العِملة.

قيل لا، ما جُمع من النقدين غير الحُلي. باستثناء الحُلي! أي حُلي النساء، لأنه يُنتفَع به ويُستعمَل. فما جُمع فاضلاً؛ جُمع من النقدين غير الحُلي، هو الكنز، الذي سيُؤاخذ صاحبه هذه المُؤاخَذة الشديدة – والعياذ بالله -.

قيل لا، ما جُمع من النقدين دفيناً. أي ما دُفن، لكن هذا أيضاً قول ضعيف.

قيل ما جُمع – هذا الخامس – من النقدين، ولم تُخرَج زكاته. ووجيه هذا، وجيه وقال به كثير من الفقهاء، أي هذا القول الخامس.

سادساً، قيل ما جُمع من النقدين، ولم تُخرَج منه الحقوق. ليس فقط الزكاة، هناك حقوق، مثل نفقات على الأقارب، على الأرحام، على المحاويج، حين تدهم أو حين تنوب نائبة أو تعرض عارضة. قال لك هذا مُهِم.

أخيراً ما جُمع من النقدين، ولم يُتلَف ولم يُهلَك في ذات الله. وهذا أشد الأقوال. أي أي شيئ عندك زائداً – حال هذا – أو أي شيئ عندك يكون زائداً عن حاجتك وحاجة مَن تعول، يجب أن تُهلِكه كله في ذات الله، أخذاً بظاهر قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما رواه البُخاري ومُسلِم، لو أن عندي مثل أحد ذهباً، ما أحببت أن يمر عليه ثلاث ليالٍ، إلا شيئ – يقول – أُرصِده لدين. قال إذا كانت ذمتي مشغولة بدين، فنعم يُمكِن أن أُخرِج شيئاً أو أقتطع ديناً، لكي أؤدي ديني، أي أقضي ديني. جميل، وماذا بعد؟ ما أُحِب أن تمر عليه ثلاث ليالٍ، بهذا الاستثناء، إلا وقلت به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا. يقول الراوي عن يمينه وعن شماله ومن خلفه. النبي يقول هذا.

ولكن هذا مقام عظيم، هذا لائق برسول الله، وقد كان كذلك. الرسول كان لا يستفضل شيئاً إلا أهلكه في ذات الله، يُعطي باستمرار، باستمرار! كان لا يُحِب أن يبيت عنده عشاء، أو شيئ زائد من العشاء، يُنفَق أيضاً. والأحاديث في هذا كثيرة جداً وصحيحة. لكن هل هذا واجب ومُتعيِّن على كل مُسلِم ومُسلِمة، عنده شيئ فاضل عن حاجاته؟ هذا القول شديد جداً.

الآن أرجح الأقوال السبعة الخامس والسادس، أن الكنز ما جُمع من النقدين، وما في معناهما، فلا تقل لي لا يُوجَد عندي ذهب وفضة، اليوم الأوراق النقدية في معنى النقدين، هذا واضح وهذه القضية مفروغ منها – إن شاء الله -. إذن ما جُمع من النقود ولم تُخرَج زكاته، وخلونا نقول من النقود، لكي نُسهِّل، ما جُمع من النقود ولم تُخرَج زكاته، أو ما جُمع من النقود وأُخرجت زكاته ولكن لم تُخرَج منه ولم تُؤد به الحقوق، أي حتى وإن أخرجت زكاته. أي القولين أرجح؟ هذا يهمنا كمُسلِمين مُكلَّفين ومُسلِمات مُكلَّفات، يهمنا حتى نأثم، أي حتى لا نقع في الإثم والمُخالَفة التي فيها وعيد شديد مُغلَّظ في آية الكنز.

الأمر يتوقَّف على مسألة هل في المال حق سوى الزكاة؟ هذه هي! إن ثبت أن في المال حقاً سوى الزكاة، يكون الأرجح هو القول السادس. فيكون الكنز الذي تُوعد صاحبه بما ذُكر في كتاب الله، هو الأموال المجموعة وإن أُخرجت زكاتها، ولم يُقض بها الحقوق. كنز وستؤاخذ عليها! أرأيت؟ لا تقل مالي مالي، لا يُمكِن هذا، هناك حقوق، وفي المال حق سوى الزكاة. وإن رجحنا أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، كان القول الخامس هو الصحيح، فالكنز هو المال الذي جُمع ولم تُخرَج زكاته، فإن أُخرجت زكاته، فهو طاهر وليس بكنز، وهذا يُروى عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -.

لكننا نميل إلى ما ذكرت، والفروع الشرعية كثيرة، وتُؤكِّد يا إخواني أن في المال حقوقاً سوى الزكاة، فهذا واضح ومعروف، ويكفيكم فقط فرض الكفايات، هناك فروض الكفايات! فروض الكفايات عموماً – ولا نُحِب طبعاً أن نسهب في الحديث عن فروض الكفايات، لكن هذا في فروض الكفايات – تكليفها أنها فروض ترتقي بحال الأمة في مجموعها. أي بحال الجماعة، بحال الناس، بحال الشعب، هذه فروض الكفايات، هل هذا واضح؟ فإن قام بها بعض الناس، بعض المُكلَّفين، سقط الإثم عن الجميع. إن لم يقم بها أحد، لحق الإثم جميعهم.

فروض الكفايات أحد الموارد الكُبرى في سدادها وسد ثغورها العفو. المال الزائد عندكَ وعندي وعندها، المال الزائد عندنا، عندنا! عندنا أموال زائدة، عندنا بيوتنا وعندنا سياراتنا وعندنا طعام، أكلنا وما إلى ذلك، وهناك أموال زائدة، وأخرجنا زكاتها، ولكن هناك فروض كفايات، يجب أن نُعطي، حتى يُسَد فرض الكفاية، أي يتحقق فرض الكفاية.

وطبعاً الذي فعل هذا له مقام عظيم جداً عند الله – تبارك وتعالى -، أي إنفاق المال هذا من أعظم القُربات التي يُتقرَّب بها إلى الله – تبارك وتعالى -. من أصعب الأشياء على النفس لكن من أعظم القُربات عند الله – تبارك وتعالى – إنفاق المال يا إخواني، وكم يُوجَد من أحاديث وحتى كم يُوجَد من مرائي صالحة لمَن دخل الجنة أو أُدخل الجنة بالنفقة، وخاصة في مظانها!

فعندك فروض الكفايات، وعندك الواجبات الكثيرة، التي تتعلَّق بماذا؟ بالأهل والأقربين. أليس كذلك؟ بالأهل وبالأقربين! فكل هذا داخل أيضاً. إذن يبدو أن الراجح أن في المال حقاً سوى الزكاة، الراجح أن في المال حقاً سوى الزكاة، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وبالتالي يكون القول السادس هو الراجح.

إذن الآن هناك العفو، كيف نُنفِق هذا العفو؟ عندي مال زائد، أولاً هل يجب أن أُنفِقه كله، كما قد يفهم بعضنا من ظاهر الآية، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۩؟ وطبعاً ظاهر الآية ماذا؟ لا أقول أمر، هو ندب، لأن هذه القضية الفقهية دقيقة، هذا ندب إلى إنفاق كله، ترغيباً في الإنفاق، كما قال شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور – روَّح الله روحه في عليين -، أي قال هذا من باب الترغيب. من باب الترغيب! وإلا قواعد الشريعة وظواهر القرآن والأحاديث الصحيحة مُفهِمة بشكل واضح ولائح أنه ليس واجباً إنفاق كل الفاضل، لا! تُنفِق ما سمحت به النفس.

تُنفِق ما سمحت به النفس، بدليل ماذا؟ بدليل قول الحق – تبارك وتعالى – وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ۩، لا تكن مسيكاً، بخيلاً لا تُعطي شيئاً، وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ۩، كل ما زاد تُعطيه. الله قال لك لا، لا تعمل هذا. لأن القرآن ينهاك عن هذا، فَتَقْعُدَ ۩، هذه فاء السببية، فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ۩، قال لك هذا غلط. قال له ماذا؟ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۩. لا تقل لي طبعاً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۩. الإنفاق ليس فيه تبذير، حتى الذي يُعطي كل ماله لا يُقال عنه مُبذِّر، لا يُقال مُبذِّر! هل هذا واضح؟ إياك وهذا.

ولكن هل هذه الخُطة مرضية لله ورسوله، أن تُعطي كل مالك؟ لا أُحِب أن أقطع بجواب يا إخواني، وسأستشهد طبعاً ببعض النصوص، ولكن هذه المسألة قد تجمل وقد تحسن وتنبل من رجل من خاصة أولياء الله، ثقته بالله مُطلَقة، توكله على الله مُطلَق، وقد فعل هذا جمع من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن أئمة الدين ورؤوس الأولياء والعارفين، أنه يخرج عن كل ماله. وطبعاً يُبقي لأهله الحاجات، أي ما يسد الحاجة، ثم يخرج عن كل ماله. فعل هذا الحسن والحُسين – عليهما السلام – ابنا الإمام عليّ، وغير واحد من الصحابة، ولكن هؤلاء قلة، لكن مُعظَمنا لا يقوى على هذه الحالة، أي هذا الكلام بعيد جداً منا.

ولذلك روى الإمام أبو داود وأحمد في مُسنَده من قبل طبعاً، عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما -، أن رجلاً أتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بمثل البيضة ذهباً. أي حجر هكذا من ذهب، مثل البيضة! فدفعها إلى رسول الله، وقال يا رسول الله خُذها مني صدقةً. أي تصدَّق بها على المُسلِمين وافعل بها أي شيئ، لا أُريدها. قال أصبتها من الغنائم، والله ليس لي مال سواها. هذا هو، انظر، أي هذا الرجل عنده هذا المقام، يُريد أن يُخرِج كل ما عنده. فأعرض عنه النبي، لم يُعجِبه الشيئ هذا، أأتيت لي بكل مالك؟ لم يأخذها النبي وأعرض عنه. فأتاه من شقه الآخر. أي من جهة اليسار ربما. وقال يا رسول الله خُذها صدقة، فوالله كذا. فأعرض عنه، فأتاه من قبل وجهه. أي جاءه أمام وجهه. وقال يا رسول الله كذا. فأخذها النبي فحذفه بها حذفة، أرى لو أصابه – وبعضهم رواها أصابته، الشيئ نفسه! أي أصابه النبي بحذفه، أو أصابته هي، وهذا طبعاً مجاز عقلي – عقره. أو قال أوجعه. أو عقرته أو أوجعته.

ثم قال يأتي أحدكم إلى ماله، أو يأتي أحدكم إلى كل ماله – أي تأخذ كل مالك -، ويقول خُذه صدقة، ويترك أهله عالة يتكففون الناس. ما الذي سوف يحدث بعد ذلك؟ سوف تُصبِح شحّاذاً. قال له النبي، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. انظر، انظر إلى النبي – عليه السلام -، مُعلِّم الناس الخير، صلوات ربي – صلوا عليه – وآله وسلم إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. قال خير الصدقة. هذا الجُزء من الحديث في البُخاري، أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمَن تعول. في البُخاري، وهذا صحيح، لكن هذا حديث أحمد وأبي داود، قال خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. أي تصدَّق بشيئ من مالك، حتى ولو بشطر مالك. واترك ما يُغني أهلك.

ولذلك ورد في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص – أحد العشرة، رضيَ الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل، والفارس الكبير -، قال جاءني – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يعودني بمكة في حجة الوداع من وجع – أو مرض – ألم بي، أشفيت منه على الموت. أي كان يُوشِك أن يموت سعد، مرض شديد جداً! قال فقلت له يا رسول الله قد نزل بي من الداء ما قد ترى، وإن لي مالاً – الله عز وجل أعطاني مالاً كثيراً، أي موَّلني الله مالاً -، فيا رسول الله أفتصدَّق بثُلثيه؟ أي بخمسة وسبعين في المائة من المالي، هل أتبرع بهذا الجُزء كله لوجه الله؟ قال لا. قال يا رسول الله بشطره؟ أي بالنصف – بخمسين في المائة -، هل أُعطي هذا الجُزء لوجه الله؟ قال لا. قال قلت فالثُلث؟ قال فالثُلث. بالفاء! قال فالثُلث؟ قال فالثُلث، والثُلث كثير. أو قال – يقول الراوي – كبير. النبي قال إما كثير وإما كبير. والمعنى مُتقارِب.

قال فالثُلث، والثُلث كثير – أو قال كبير -. إنك أن – أن المصدرية، وليس إن الشرطية. تسمع للأسف بعضهم يقول لك إنك إن. لا! ليست إن هي، هذه أن المصدرية – تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. انظر إلى النبي، مُتوازِن!

معناها؛ بمثل هذه النصوص القرآنية والنبوية الشريفة، يبعد جداً أن تُؤخَذ الآية على ظاهرها، قُلِ الْعَفْوَ ۩، أي كل العفو. هل هذا واضح؟ كل العفو! وطبعاً الألف واللام في الْعَفْوَ ۩ يا إخواني هذه للاستغراق، لماذا؟ لأنها ألف ولام الجنس. يُسمونها ال أو ألف ولام الجنس. الشيئ نفسه! هذه ألف ولام – أي ال – الجنس، الجنس المعروف لهم. وهذا يُطلَق بالتشكيك، كما يقول المناطقة، أي هذا مُشكِّك وليس مُتواطئاً. بمعنى أن العفو عندي يختلف عن العفو عندك، يختلف عن العفو لديها، ولدى الرابع والخامس، هذا واضح! لماذا؟ لأنني بحسب مقامي ومثابتي الاجتماعية – مثلاً نفترض – أحتاج في الشهر لخمسة آلاف، وهو يحتاج إلى خمسة عشر ألفاً، وبعض الأغنياء يحتاج شهرياً إلى نفقات تصل إلى مئة وخمسين ألفاً أو مئتي ألفاً، والأمر نفسه مع أصحاب المليارات، هناك مَن عنده قصور وعنده خدم وعنده حشم. فإذن العفو في حقه غير العفو في حقنا، فلذلك الألف واللام وإن كانت للجنس استغراقية شمولية عامة، إلا أنها تُطلَق بالتشكيك، تُطلَق بالتشكيك على كل حال، ولكن هل يُنفَق كله؟ أعتقد أن هذا هو الجواب، لا يُنفَق العفو كله، وإنما يُنفَق منه ما لا يُؤذيك ولا يضر بأهلك ومَن هم في ولايتك. هل هذا واضح؟ أي حتى لا يُؤذيك هذا نفسياً، لأن بعض الناس يخرج عن شيئاً من ماله ثم يندم، يُعقِب ندماً! ولعل بعضهم – وقد حصل هذا في غير مُناسَبة – يأتي يستقيل – وهذا حادث في مساجد، تخيَّل! ليس في مسجدنا، ولكن في مساجد أُخرى – ويتبرَّع بشيئ، ثم يأتي يقول يا إمام من فضلك أعد لي بعض المال. أمام الناس! وهذا حدث للأسف ورآه للناس. لا! لا تستعجل.

ولذلك كلمة الْعَفْوَ ۩ عجيبة، انظر إلى هذا، شيئ عجيب! وردت في سورة الأعراف وفي سورة البقرة. أي هذه الكلمة – أي العفو هكذا، وليس المُشتقات الأُخرى، لا! وإنما العفو – وردت فقط في مرتين في كتاب الله: في هذه الآية من سورة البقرة، وفي أواخر الأعراف. خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩. وفي تفسير آية الأعراف – أي آية خُذِ الْعَفْوَ ۩ – قولان شهيران: القول الأول أعم من أن يقتصر فيه العفو على عفو المال. قالوا لا، العفو في المال والعفو في الحقوق، والمُسامَحة والتساهل في المُعامَلات والبياعات. أي أنت حتى حين تسمع كلمة العفو، تظن أن معناها اعف عمَن ظلمك أو تكلَّم عليك أو استفزك. اعف، اعف! وهناك العفو في المال، ولكن حقيقةً ظاهر الآية تُفيد الآتي، إذا سمعنا خُذِ ۩ – والأخذ هو التناول باليد، لُغةً الأخذ هو التناول باليد – أو خُذِ الْعَفْوَ ۩، علمنا أنه يُؤذِن بماذا؟ يُؤذِن بأن العفو المذكور هنا هو عفو المال، وبه قال جماعة من المُفسِّرين، قالوا تناول منهم ما عفوا لك عنه من أموالهم. أي بمعنى ماذا؟ أي ما أعطوك يا خيرتنا ويا حبيبنا من أموالهم سماحيةً وطواعيةً من غير استكراه. فطبعاً الإنسان يُعطي عن سماح نفس وهو رضي النفس، لا يعقبه الندم، لا يعقبه الندم ولا الشعور بالاستثقال وأنه أضر بنفسه أو أضر بأهله.

هذا معنى العفو. شيئ جميل، دين جميل، هذا دين جميل – والله – وتشريع جميل، كل شيئ فيه جميل، تخيَّل! لا تتحمس وأعط العفو الذي لا يُتعِبك ولا يُؤذيك حتى نفسياً وهو زائد عن حاجاتك، أعط منه، ولكن لا تبخل به، فربما تُعذَّب به، لا تبخل به، قال لك شر لك. وأن تُمسِك الفضل شر لك. ليس جيداً الإمساك هذا والشُح، وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۩.

فإذن كلمة خُذِ ۩ هنا تبقى على ماذا؟ على حقيقتها، وهي التناول باليد، معنى حسي! أما إن قلنا إنه يعم عفو المال وعفو الأخلاق والبياعات والتقاضي والتسامح والتساهل في المُعامَلات، فهنا تُستخدَم بمعنى أعم، بالمجاز وبالحقيقة. لكن هذه القضية أيضاً أصولية، هل يجوز أن يُستخدَم اللفظ في حقيقته ومجازه؟ القضية معروفة!

إذن هذا بالنسبة لتفسير الْعَفْوَ ۩ والقدر الذي يُنفَق، لكن ماذا عن مصارف العفو؟ كثيرة جداً، كثيرة جداً! كل ما يُتقرَّب به إلى الله ويسد مسداً من حوائج الأمة أو حوائج الناس أو حوائج المُحتاجين عموماً، فهو مرصد وهو مصرف للعفو.

النبي أراد أن يضرب فقط نماذج وأمثلة لمصارف العفو، فقال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في الحديث الصحيح أربعون خصلة – أي من خصال البر والخير -، أعلاها منيحة العنز. لا يعمل عبد أو لا يأتي عبد بخصلة منها، ابتغاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله الجنة. الله! أربعون – قال – خصلة، هنا وهنا وهنا وهنا وهنا. وطبعاً تستطيع أنت أن تُعدِّد الآن أربعمائة خصلة للخير في باب الإنفاق، جمعية – مثلاً – للأيتام، جمعية للأرامل، جمعية – مثلاً – لأبناء السبيل، جمعية للحيوانات الضالة والمفقودة، جمعية للأمر بالمعروف، جمعية للنهي عن المُنكَر، جمعية للتعليم المهني والفني، جمعية لـ… جمعيات، جمعيات، جمعيات! وهذه مُؤسَّسات، ويُمكِن أن تنفق عليها من العفو، ساهم من العفو بأي شيئ، فشيئ عظيم جداً هذا، والنبي علَّمنا هذا.

أي النبي وسَّع مفهوم العفو أصلاً، فجعله غير مُقتصِر على الأموال النقدية أو العينية، بل وسَّعه أيضاً إلى ماذا؟ إلى العفو في الجُهد والطاقة والزمن والوقت. قال على كل سُلامى – أي المَفصِل، السُلامى هي ماذا؟ المَفصِل. وفي حديث في البُخاري ابن آدم فيه ثلاثمائة وستون مَفصِلا، وفي الحديث هذا قال على كل سُلامى، وهو أيضاً في الصحيح – من ابن آدم حين يُصبِح صدقة. الله يطلبها منك طبعاً، الله أعطاك كل هذا الكيان، فتصدَّق. فالصحابة طبعاً هالهم الأمر، أف! ثلاثمائة وستون صدقة! من أين؟ وأكثرهم كانوا فقراء ومُعدمين، فقال كل تسبيحة صدقة، كل تكبيرة – هكذا بالترتيب هذا في هذه الرواية – صدقة، كل تحميدة صدقة، كل تهليلة صدقة، أمر بالمعروف صدقة، نهي عن المُنكَر صدقة… إلى آخره، كل هذه صدقات، تخيَّل!

في حديث آخر ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ قال إماطة الأذى عن الطريق صدقة. انظر إلى هذا، انظر! إماطة الأذى، كأن تبعد قعب سيجارة أو قطعة زجاج أو غير ذلك، بعض الناس مُصابون بالعمى، بعض الناس لا يدري أمامه؛ لأنه مُستعجِل،  وهناك أطفال، هذه صدقة، تخيَّل! إذن جمعيات أيضاً لتنظيف الشوارع وتنظيف المدينة وإعادة ترميمها، مثلاً هذا من العفو، وهذا مصرف عظيم جداً جداً، مصرف عظيم!

قال تُصلِح بين اثنين صدقة، تُعين الرجل في دابته، فتحملها عليها، أو تحمل متاعه عليها، صدقة. الله! كل هذه صدقات. كل معروف صدقة، عندنا في الإسلام كل معروف صدقة، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. أي تبش في وجه الناس وتتبسَّم لهم، هذه صدقة. آخر شيئ ما هو؟ طبعاً تصنع لأخرق، تصنع له! ومَن هو الأخرق – وليس الأحمق -؟ الأخرق هو الذي لا يُحسِن صنع ما. فمثلاً أنا أخرق في النجارة، لا أعرف كيف أنجر، أخرق! لأنني لا أُحسِن النجارة، وهو أخرق في الحدادة، وهذا أخر في الكهرباء، ولكن أنت مُهندس كهرباء، أنت صانع أو صناع، وهو أخرق. فهذا معنى الخُرق هنا، هذا ليس معناه الحُمق، هذا معناه عدم امتهان شيئ أو معرفة شيئ معرفة فنية مُتخصِّصة، هذا اسمه الخُرق. أن تصنع لأخرق! إذن جمعيات لتعليم الشباب والشابات المهن والحرف، هي تدخل أو هي أحد مصاديق تصنع لأخرق، تصنع لأخرق! هذه صدقة، ومن أعظم الصدقات.

فقال يا رسول الله فإن لم يجد؟ انظر إلى هذا، انظر إلى هذا الرجل، قال له لم يجد أي شيئ. قال له تكف شرك عن الناس. أمسِك لسانك – قال له – وأمسِك شرك. فهو لك صدقة على نفسك. النبي يقول هذا، الله! هل تعرفون لماذا؟ لأن الإنسان طاقة، أنت لديك طاقة، الوقت طاقة، وكذلك اللسان والحواس والقُدر والقُوى، كلها طاقة. إذا استطعت، أنفقها في سبيلها الله، صدقات! إذا لم تستطع ولم يُتح لك، إمسِك شرك عن الناس.

كما قال أبو الطيب أحمد المُتنبي:

إنا لفي زمنٍ ترك القبيح به                        من أكثر الناس إحسانٌ وإجمالُ.

قال لك:

إنا لفي زمنٍ ترك القبيح به                        من أكثر الناس إحسانٌ وإجمالُ.

فإذن يا إخواني النبي يقول أربعون خصلة، أعلاها منيحة العنز. ولكن ما المنيحة؟ ما منيحة العنز؟ المنيحة في لُغة الشرع وفي لُغة الفقهاء تُطلَق بإزاء معنيين، المنيحة! المنيحة هي العطاء بتلاءَ، هذا مُهِم لكي تفهموا هذا إذا قرأتموه، العطاء بتلاءً! ما معنى العطاء بتلاءً؟ العطاء على سبيل الهبة والهدية. أي خُذ هذا لك، انتهى! أعطاك أي شيئ، هذا اسمه ماذا؟ العطاء بتلاءً. هذه منيحة، والمنيحة في هذا السياق – في هذه الأحاديث وأمثالها – تُطلَق بالمعنى الثاني، هي أن تُعطي العين لأخيكَ أو لأختكِ، لينتفع بماذا؟ بغلتها. وبالذات هذه تُطلَق على شيئين: على الأرض الزراعية، وعلى ذوات اللبن – أي شاة، ماعز، ناقة حلوب، ذوات اللبن -. تمنحها، تبقى لك، العين لك – أي الناقة لك، العنز لك، الشاة لك -، ولكن هو ينتفع بماذا؟ ينتفع بلبنها، وبصوفها أو وبرها، أي يقصه وينتفع ويعمل منه أشياء. ثم يُعيدها إليك، بحسب الاتفاق. فقد تقول له خُذها، منحتها لك لأربعة أشهر أو لستة أشهر أو للموسم – في هذا الموسم الزراعي تبقى عندك – أو لسنة أو لسنتين، بحسب الاتفاق، بحسبه!

هذا شيئ عظيم، انظر إلى هذا، النبي كان يتفنن في تعليم الناس الخير. وفي صحيح مُسلِم النبي يتحدَّث عن امرئٍ يمنح ناقةً – أي حلوباً – تغدو بعُس وتروح بعُس. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أجرها لعظيم. انظر إلى هذا، قال إن. وبعد ذلك قال لعظيم. إن أجرها لعظيم. قال أجر كبير جداً جداً. ما معنى أن تمنح ناقةً تغدو بعُس وتروح بعُس؟ ناقة حلوب حافل – يُسمونها الحافل، الضرع كبير وفيه لبن، هذه حافل حلوب – في الصباح تُحلب، في الصباح يُحلَب منها ماذا؟ عُس، وهو القدح الكبير. أي ربما عشرون لتراً – مثلاً -، أي يُساوي عشرين لتراً أو أكثر أو أقل. عُس! وهو القدح الكبير، إناء كبير تملأه. وفي المغروب – في الرواح، وقت الروحة – أيضاً ماذا؟ تروح بعُس، أي يُحلَب منها قدح كبير، لمَن؟ لمَن يحتاجها، لمَن مُنحت له. والنبي يقول إن أجرها لعظيم. إن أجرها لعظيم! عجيب.

ولذلك سُئل – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن حق الإبل، فهل الإبل فيها حق غير الزكاة؟ في غير الزكاة، في كل ذود قعود، هل يوجد غير هذا؟ فقال نعم فيها، إعارة دلوها. أي الذي يُحلَب فيه ماذا؟ اللبن. أي وكأنه يُشير إلى إعارة دلوها بما فيه من اللبن، كأنه يُشير إلى المنيحة، بهذه الطريقة الوجيزة. يقول إعارة دلوها، وإطراق فحلها. ما معنى إطراق فحلها؟ إنزاء الفحل على الأُنثى، لوجه الله. وهذا طبعاً تُدفَع فيه أموال، مثل فحل الثيران وفحل الإبل، حين يكون فحلاً حقيقياً، الإطراق أو الإنزاء هذا تدفع فيها أموالاً، وأحياناً تكون أموالاً طائلة. فالنبي قال هذا لوجه الله. أنت تُطرِقه لوجه الله.

الأرض الزراعية شرحه كما يُقال بالعامية، شرحه! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إنما يزرع الأرض ثلاثة: رجل له أرض، فهو يزرعها. ورجل مُنح أرضاً، فهو يزرعها – إذن الأرض ماذا؟ الممنوحة. هذه الأرض الممنوحة -. ورجل يزرع أرضاً، على ما يخرج منها، أو على بعض ما يخرج منها – أي مُزارَعةً، أي يكتريها، أي يكتري أرضاً، فيزرعها -. إذن ثلاثة – النبي يقول – يزرعون الأرض. ولذلك ورد في الصحيح مَن كان له أرض، فليزرعها. فإن لم يزرعها – قصر أو ونى أو ضعف عن زراعتها -، فليمنحها أخاه، فليزرعها. قال فليمنحها أخاه، فليزرعها.

وأختم بوصية الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه -، فيما أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج له بإسناده، أن عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه -، كتب – أي إلى بعض ولاته – انظر إلى ما قِبلك – أي ما عندك ولديك – من أرض الصافية، فمُر بزراعتها. فإن لم تُزرَع، فمُر بمنحها مَن يزرعها بنصف ما يخرج منها – مُزارَعة! هذه المُزارَعة، بالنصف. خُذها لك وازرعها، خُذ غلتها وأعطنا النصف -. فإن لم يتهيأ، فبثُلث. فإن لم يتهيأ، حتى تبلغ بها العُشر – أي بعُشر ما يخرج منها -. فإن لم يتهيأ، فأنفق عليها من بيت مال المُسلِمين. الله!

أرأيتم يا إخواني؟ أرجو ان نقف هنا ولو نصف دقيقة، أرأيتم لماذا كان المُسلِمون بالأمس أمة عظيمة وسادوا الأرض وعمروها وتحوَّلت الأرض – رأيتم إسبانيا – إلى بساتين وقصور ومزارع وحضارة وعلم ومياه؟ المُسلِم إيجابي، المُسلِم ليس شحّاذاً ولا مُتكفِّفاً ولا يعيش على الإعالات ولا يعيش على ما يأتي هكذا عفواً، إنما يُنتِج ويعمل ويشتغل ولا يُعطِّل شيئاً، لا يُعطِّل نفسه ولا يُعطِّل وقته ولا يُعطِّل قُدره وإمكاناته ولا يُعطِّل ماله ولا يُعطِّل أرضه، لا يُوجَد في الإسلام شيئ مُعطَّل، كل شيئ! أنت خليفة الله في الأرض، لابد أن تعمل فيه بحق الاستخلاف، بحق الخلافة أو الاستخلاف!

ولذلك حدَّثت أمس بعض أحبابي، قلت لهم عبد الله بن عمرو زرع بيده مليون شجرة، وكان يفتخر بهذا. فهو رأى كيف كان ترغيب النبي في الزراعة وإحياء الأرض وإحياء الموات، فقال الحمد لله، وأنا أرجو ثوابها. قال ألف ألف خشبة، أنا وضعت ألف ألف خشبة. أي مليون! ألف ألف خشبة. وكل خشبة عندها شجرة تُثمِر. الله! وقال لك الإسلام ليس كذلك، واليوم انظر – ولن نحكي طبعاً – إلى حالنا. نحن نعيش هذه الحالة من الكسل والتواني والاستكانة والضعف والسلبية واللسان الطويل في النقد، ننقد أنفسنا وربنا وديننا وقرآننا وأمتنا والخاص والعام، ونحن جلوس، لا نعمل! هذه سلبية، الإسلام بريء منها البراء كله

معنى أن تكون مُسلِماً، أن تكون مُنتِجاً. معنى أن تكون مُؤمِناً، أن تكون إيجابياً. معنى أن تكون من هذه الأمة، أن تكون معطاءً لأمتك وللبشرية، لا أن تكون مُضافاً إضافة السالب، أي بالــ Minus، إنما إضافة المُوجب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

كل مال الشركاء فيه ثلاثة: أنت والحوادث والوارث. أنت والحوادث والوارث! كل مال عندك كذلك، أنت من أصحاب الملايير أو من أصحاب الملاليم، هناك شركاء ثلاثة في المال؛ أنت والحوادث والوارث. هذا ابنه مرض، هذا ابنته تسرطنت، هذا أصابته داهية أو أصابته علة! أنفق، أنفق، أنفق، أنفق، حتى تتعافى أو حتى تستصلح ما خرب. الحوادث! دواهي الدنيا، النوائب، والمصائب. وإذا لم تُوجَد حوادث والأمور رخاء، ما الذي يحدث؟ الموت. تموت، فيأتي الوارث، شريكك.

ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيكم مال وارثه – في البخاري أيكم مال وارثه  – أحب إليه من ماله؟ قالوا يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبد الآبدين – ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال فإن مالك ما أنفقت، ومال وارثك ما تركت. هذا هو! اخزن واخزن واخزن، سوف تموت وسوف يأتي الوارث، هذا الوارث سوف يتمتع به، سواء في حلال أو في حرام، الله أعلم كيف سوف يُهلكه، وسوف تُسأل عنه أنت، هذا التصرف غير طبيعي!

ولذلك ورد الآتي في حديث الإمام الترمذي – رضوان الله عليها -، عن أمنا عائشة، وكانت مشهورة بالكرم الشديد. عائشة ندية سخية سحاء اليد – رضوان الله عليها -، معروفة بالسخاء الشديد! ذُبح شاة لرسول الله، ومتى تُذبح الشاة؟ هو بالكاد يجد كل شهرين أو ثلاثة شيئاً غير الأسودين؛ أي التمر والماء. هو حياته كانت هكذا – عليه السلام -، زاهد! فذُبحت شاة، والنبي خرج في حوائج يقضيها، ثم عاد، وقال يا عائشة ما بقيَ منها؟ قالت يا رسول الله لم يبق غير كتفها. ذهبت كلها، غير كتفها! قال بل بقيت كلها غير كتفها. أي ذهبت، أنت أنفقتيها يا عائشة. والنبي يُسَر بهذا ويفرح، أنفقت هي الكثير، أعطت وأعطت وأعطت وأعطت وأعطت، وبقيَ الكتف فقط، لأن النبي كان يُحِب من الشاة الذراع، أي الكتف، فأبقته أو استبقته لرسول الله. فقالت له كلها ذهبت. هي قالت هذا! فقال لها لا، كلها بقيت. كلها بقيت، لأنها أُنفقت في سبيل الله.

في صحيح مُسلِم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول ابن آدم مالي مالي، مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت – أو قال أبقيت -؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه لغيرك. لا تقل مالي، هو هكذا! فما المال إذن؟ شيئ تأكله أو تلبسه وينتهي الأمر. إذا تصدقت، فهذا يبقى لك.

الآن في الدنيا يا أخي – سألتك بالله أجب بصدق – لو جاءك مُستثمِر ناجح من أصحاب الملايين، وقال لك يا أخي أحببتك هكذا لوجه الله، أُريد أن أنفعك بنافعة وأُريد أن أصلك بنافعة. فتقول له حيهلاً، تفضَّل، ماذا عندك؟ حيهلاً. فيقول لك عندك مال زائد؟ فتقول له عندي الكثير. فيقول لك ائتني بشيئ قليل منه، استثمره لك، وبعون الله يأتيك على رأس كل شهر كذا وكذا ألفاً. تفرح جداً، أليس كذلك؟ أنا أُعطي – مثلاً – عشرة آلاف، وبعد ذلك يأتيني كل شهر ألفان أو ثلاثة، كل شهر! شيئ عظيم. فكيف بالاستثمار مع الله في بنك الآخرة؟

يجب أن نعمل لآخرتنا يا إخواني، البُخلاء أحمق الناس، والله العظيم! أحمق الناس، وأبى الله بحكمته ومكره الخيّر إلا أن يجعلهم أسخى الناس على الرُغم منهم وعنهم. فكيف هو بخيل وهو أسخى الناس؟ قال لك:

إن الأشحاء أسخى الناس قاطبةً                        لأنهم ملكوا الدنيا وما انتفعوا.

لم يحرموا الناس من بعض الذى ملكوا                 إلا ليُعطوهم كل الذى جمعوا.

لأنه يكون – أي البخيل بالذات – كذلك، عكس المُتصدِّق.

أنا أعرف رجلاً صالحاً – أحسبه إن شاء الله من خيرة الصالحين -، وهو كبير، الآن قريب من المائة في عمره، وهو رجل مُتموِّل، عنده الكثير، لا أعلم ثروته، ولكن عنده ملايين كثيرة. ما شاء الله وتبارك الله، كم يكفل من أيتام! لا يعلم عدتهم إلا الله. وكيف تكون الكفالة؟ الكفالة من سني حياتهم الأولى، وبعد ذلك هناك تعليم في طب وهندسة وأشياء أُخرى راقية، ثم هناك فلل مبنية جاهزة، وتزويج. أنا رأيت هذا بعيني، رأيت مدينة كاملة تقريباً فيها فلل؛ فلل… فلل… فلل. قالوا الشيخ فلان فعل هذا، هؤلاء كلهم أيتام؛ ذكور وإناث، كفلهم مُنذ الصغر، ثم علَّمهم الطب والهندسة – ومُعظَمهم تعلَّم الطب والهندسة – وعلوماً أُخرى على حسابه، ثم ملكهم هذه الفلل وزوجهم. وهو يعمل هذا في الدول العربية وفي دول أُخرى، شيئ يقشعر له البدن! وقال لأولاده أنا لم أُقصر في حقكم، أعطيتكم كل شيئ، علَّمتكم، موَّلتكم، وجعلتكم أثرياء، اتركوا لي ثُلث ثروتي، لأن النبي لم يأذن في باب الوصية وما إلى ذلك بأكثر من الثُلث. قال أنا أُريد أن يُنفَق ثُلث ثروتي بعد موتي في سبيل الله على روحي. ذكي هذا!

نسأل الله – عز وجل – أن يُتِم علينا ديننا وعقلنا وحكمتنا، وأن يجعلنا من عباده أولي الألباب الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۩.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.

اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين. اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت.

واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 12/7/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: