إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ۩ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ۩ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

قبل أيام حدَّثني أحد إخواني في الله وأحبابي عن مجلس عزاء في رجل أنهى حياته مُنتحِراً، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، قال وهالني أن الجلّاس أو الجلوس في ذلكم العزاء – أي مجلس العزاء – أزجوا الوقت في الإعراب عن رد فعل ناقم وقاسٍ وشامت جداً بهذا الميت، هذا يُذكِّر بجهنم، وهذا يتوعَّد بالخلود فيها، وهذا يحرمه من رحمة الله، وذاك وذلك… إلى آخر ما هنالك.

فأثار هذا في نفسي تساؤلاً مُهِماً – أيها الإخوة والأخوات -، من أي زاوية نظر هؤلاء إلى هذا الحدث المُفجِع الأليم؟ من أي زاوية؟ طبعاً حين يتحدَّثون يتحدَّثون كلهم ويُفرِغون عن منطق ديني كما يفهمون الدين، عن منطق ديني! هم الآن ينتصرون لله – تبارك وتعالى – ولدين الله ولشرع الله إزاء هذا المُجرِم الأثيم، الذي أنهى حياته مُنتحِراً، تخلَّص من حياته!

فالسؤال يتعلَّق إذن بزاوية النظر التي اصطنعوها في تعاطيهم مع هذا الحدث الأليم المُفجِع، بل الكارثة والمُصيبة، زاوية النظر – ولنا فيها كلام كثير في مُناسَبات سابقة – لا تأتي هكذا عفواً، ولا يُمكِن لأحد أن يزعم أنها تُجسِّد وتُترجِم الدين نفسه أو تُفرِغ عن المنطق المُباشِر للنصوص، غير صحيح بالمرة! 

مُشكِلة الأديان والإسلام من بينها والشرائع أنها تُغتصَب، وأن الكل يتسوَّر على حماها، ويأتي بموروثه وخلفياته وإشكالاته وتعقيداته ومعارفه، ليزعم بعد ذلك أن هذا هو الفهم السديد، بالعكس! كثيرٌ منهم لا يزعم أن هذا فهم، بل يزعم أن هذا نص، النص يقول هذا، ألم يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أن مَن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مُخلَّداً فيها وأن مَن وجأ بطنه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في جهنم خالداً مُخلَّداً فيها – الحديث –؟ النص إذن يقول هذا، انتهى! هذا له جهنم خالداً مُخلَّداً فيها.

ورب العصور الوسطى كانت تتعاطى مع هذا الحدث الفاجع – أي الانتحار – من نفس الزاوية، كان المُنتحِر ملعوناً، وكما لدى بعض الفئات من المُسلِمين يُحرَم ويُحرَّم تحريماً مُؤكَّداً جازماً أن يُدفَن هذا المُنتحِر في مقابر الناس، في مقابر العامة، لأن اللعنة التي حاقت به ونزلت عليه ولا تزال ستمنع الآخرين من أن يرقدوا بسلام.

كان من جُملة المسائل التي أُنكِرت على المُصلِح الديني الشهير مارتن لوثر Martin Luther أنه صلى على مُنتحِر واحتفر قبره، كيف تفعل هذا؟ هذا مُخالِف للدين وللنصوص وللشرائع الكنسية وللبابا نفسه، ممنوع! هذا ملعون، لا تزال أمتنا تنظر من نفس الزاوية، هذا ملعون!

ليست المُشكِلة مُشكِلة فقط الانتحار والموقف من الانتحار، الموقف من المُذنِبين بعامة، الموقف من الخاطئين، الموقف من ضعفنا، من ضعف الإنسان، ومن زلات الإنسان، نفس الزاوية! الشماتة ورد الفعل الناقم والشديد، وهذا الذي يبلغ ببعض الناس إلى دركة أن يلتمسوا العيب للبرآء حتى، مَن يلتمس العيب للبرآء لا يُمكِن أن يرحم المعيبين، هو يلتمس العيب للبريء، فكيف إذا سنحت له فُرصة ووجد أحدهم قد عثر أو وقع أو زلت به القدم؟ لن يرحمه، وباسم الدين، باسم الله، باسم القرآن والسُنة، دفاعاً عن حُرمات الله، هكذا يظنون، هكذا يُصوِّرون لأنفسهم.

ومن هنا لابد أن نُصارِح أنفسنا بأننا في هذا الميدان، وهو ميدان خطير جداً، إنه الميدان الأكثر اندياحاً وسعةً للتواصل الإنساني، هكذا نحن نتواصل، وإذا كنا نتواصل بمثل هذه الكيفية ومن هذه الزوايا فهذا مُنذِر بخطر ماحق، إفقار علاقاتنا الاجتماعية، علاقات فقيرة ضحلة، إفقار أيضاً مُكتسَباتنا الروحية والنفسية، سنكون مُتصحِّرين وضحلين وفقراء مُجدِبين وقُساة، أصحاب جفاف وجفاء وقسوة وإبعاد، لا خير فينا، كالعود الجاف، كالعود الجاف لا ماء فيه، لا نداوة، ولا رطوبة، والكارثة كما سمعتم أن يكون هذا باسم الدين، دائماً باسم الدين.

بعض الناس يقول كل هذا الكلام الذي تفوه به فلسفة فارغة، أنت ذكَّرت بالحديث المُخرَّج في الصحاح، انتهى! النبي قال هذا، مسكين هذا، أنا سأُذكِّره ليس بحديث مُخرَّج في الصحاح، سأُذكِّره بآية قرآنية، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، هذه آية، وليست حديثاً، لكن هناك الحديث أيضاً المُخرَّج في الصحاح أو في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخُدري، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، وللاختصار هو في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، قتل تسعة وتسعين نفساً وأكملها بمائة، بالعالم الجاهل، الذي قنَّطه من رحمة الله، أنى لك التوبة؟ كيف تتوب؟ أقتلت تسعة وتسعين نفساً؟ انتهى كل شيئ، فقتله، فأوفى به على المائة، المُهِم للاختصار نتيجة أو نهاية مشوار هذا المسكين الذي أرَّقه الذنب وقلقله وزلزله أنه أصابته رحمة الله تبارك وتعالى، تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، بعد أن تاب توبةً قلبيةً، إلى الآن لم يفعل شيئاً ذا بال، لا يزال هو المُجرِم فيما يظهر، لكنه تاب بقلبه، أقلقه حاله، بسبب هذه التوبة مشفوعةً بخُطوات إلى أرض الصالحين – إلى أرض الصلاح، إلى أرض فيها خير – تنازعت فيه الرحمة، فكان من حظه ونصيبه الطيب أن نالته رحمة الله.

حديث البطاقة وهو حديث صحيح نعلمه جميعاً، وهو في مُوحِّد لم يلق الله – تبارك وتعالى – إلا بالتوحيد، واحتطب في حبل المعصية كل معصية وخطيئة، شاء الله – وهو في خطر مشيئة الله – أن يستنقذه على رؤوس الخلائق يوم القيامة بتوحيده، بالبطاقة! هذا حديث البطاقة، ذكرنا هذا وذكَّرنا به مرات عديدة، لكن أنا أعتقد أنه يجب دائماً أن نُذكِّر به وأن نُبدئ فيه ونُعيد، لماذا؟ هذا لا يُشكِّل ثقافةً لدينا، أنا أقول لكم بوضوح ولنفسي هذا لا يُشكِّل ثقافةً لدينا، نصوص مُفرَدة ومُبتسَرة ومُجتزأة لا تُسوَّق – إن جاز التعبير – أو لا تُسيَّق، أي لا تُوضَع في سياق، من ساق يسوق فنقول يُسوَّق، لا تُسوَّق، لا يُوضَع لها سياق ثقافي، ليست عقلية أمة، ليست مِزاج أمة.

عقلية الأمة اليوم هي عقلية بعيدة من هذا المنزع الإلهي الرباني الرحموتي، عقلية تقوم على الشماتة، على النقمة، على التشديد، على التشهير – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، وعلى الإسقاط، وشرحناه قبل أسبوعين، رمتني بدائها وانسلت، كلنا ذلكم الخاطئ، كلنا ذلكم الضعيف، لماذا نجلد هؤلاء الضعفاء – ضعفاء الخطيئة والذنب -؟ لماذا؟ لنُبرئ أنفسنا، نشعر بأننا فوقهم، بأننا أحسن منهم، والنبي حذَّر من هذا، وقال لنا قبل أن يُعلِّمنا علماء النفس هذه الحيل اللا شعورية، قال لنا انتبهوا من الذي يُكثِر من الشماتة بالناس ورمي الناس بالعظائم والصغائر والبوائق والقبائح ويقول لناس هلكى والناس فسقة والناس فجرة والناس لا خير فيهم والناس… والناس… النبي قال اعلموا أنه شرهم، ما معنى هذا؟ ما معنى أنه شرهم؟

هذا يُمكِن أن يُفهَم فهماً مُستقيماً جيداً في ضوء ما فهمناه من الحقائق النفسية، خاصة فيما يتعلَّق بحيلة الإسقاط أو الإلصاق، أي الــ Projection هذا، النبي يقول فهو أهلكهم، كأنه يقول لنا بل هو يقول لنا بعبارة واضحة لو لم يكن هو كذلك لما رأى الناس كذلك، لأنه هو هالك ومُجرِم وفاسق وكذّاب ومُنافِق ومُرائٍ، وهو يرى الجميع كذلك، وهو خوّان أثيم، النبي قال انتبهوا، احذروا منه، هذا شخص خطير، إنه كذلك، قال مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم، لأن الإنسان في نهاية المطاف لا يعيش في عالم تجريدي، إنما يعيش في عالم عياني، عالم مُشخَّص، من لحم ودم، من أحداث وشروط وظروف، من بشر ضعاف مثله، عالم جدلي، بل مُعقَّد إلى أبعد حدود التعقيد، لا يسير في خطوط مُستقيمة محسوبة أو قابلة للحساب حتى، ولذلك النبي يقول الإنسان ينظر إلى الآخر – إلى المُجتمَع وإلى الناس – من خلال منظاره الذاتي، من خلال نفسيته، إذا كانت صافية سيرى صفاءً، إذا كانت مُعتكِرة سيرى اعتكاراً وغبشاً وسواداً، وسيحكم على الجميع.

أبو الطيب المُتنبي صاغ هذا المعنى في بيت شعر من أروع شعره حين قال:

إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ – أي في الآخرين –                       وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ.

قال لأنه هو الخائن يرى الناس خونة ويُخوِّن، يُخوِّن حتى الأمناء الكبار، يُخوِّن النبي، وقد خُوِّن النبي في حياته من الخونة، لم يُخوِّنه الأمناء، الأمين لا يُخوِّن، الأمين المسكين يظن أن كل الناس أمناء، يفهم بالعقل – العقل المُجرَّد – أن هناك خيانةً، لكن لا يكاد يُصدِّق، حتى إن رآها ولمسها يعتذر عنها أحياناً، يقول لا، لعله – أي هذا الرجل – مُتأوِّل، لعله مُشتبِه، لديه شُبهة، لم يقصد الخيانة، لعله أراد، لعله يُريد، لعله سيُريد، أمين! لا يتصوَّر الخيانة في الناس.

الطاهر العفيف لا يتصوَّر ولا يستطيع أن يُفرِغ عن منطق العهّار الدعّار، لا يُمكِن أن يفهم هذا، وحين يرى في الحياة عُهراً ودعارةً وزعارةً وشيئاً مُشيناً قبيحاً يكون من الصعب عليه أن يستوعبه، هذا المسكين أسهل عليه أن يستوعب في أُفق مُجرَّد أن هناك إثماً، أن هناك انحلالاً، لكن لا يستطيع أن يُجسِّده في أشخاص، لا يستطيع أن يصف به أشخاصاً، من الصعب عليه هذا.

أعود، إذن زاوية النظر إلى أمر من الأمور، إلى معنى من المعاني، إلى شخص، إلى حدث، وإلى ظرف، هذه الزاوية ليست مسألة بسيطة، مسألة مُركَّبة ومُعقَّدة، تُفسَّر بأشياء كثيرة، تُفسَّر بمخاوفنا، بطموحاتنا، بأحلامنا، بضعفنا، باشتراطاتنا، بسياقنا، سواء منه السياق الاجتماعي الثقافي الواسع، أي الحضاري، أو السياق الفردي الذاتي، أي سياقي كفرد أنا، بخبراتي، بتجاربي، بنجاحاتي، بضعفي، بقوتي، بحلمي، بأملي، وبألمي كفرد، كل فرد منا عالم قائم بذاته، كون، أُفق، ومُحيط كبير قائم بذاته، هذا الذي يُحدِّد لك تلقائياً زاوية النظر.

وفي سبيل التبسيط نقول حين يركب أحدنا عربته أو سيّارته كما نقول، حين يركبها يشعر بالنقمة وبإثارة الأعصاب على أصحاب الدرّاجات، لأنهم يعوقونه ويُثيرون أعصابه، تباً لهم! ما الذي يجعلهم يُشارِكونه النصف الأيمن للطريق؟ فليذهبوا إلى الجحيم هم ودرّجاتهم، بعد ساعة يضطر إلى أن يمتطي درّاجته، فيشعر بالغضب والتغيظ والنقمة على أصحاب السيّارات المغرورين بقوة مُحرِّكاتهم، فليذهبوا إلى ألف جحيم، لماذا لا يتريَّثون قليلاً؟ يُريدون أن ينهبوا الأرض في لحظة، فليُعطونا المجال، هذا هو الإنسان، هو نفسه! قبل ساعة ينقم على أصحاب الدرّجات، بعد ساعة ينقم على أصحاب السيّارات، هو نفسه! حين يمتطي سيّارة يختلف منظوره، حين يمتطي درّاجة يختلف منظورة، ببساطة! هذا للتبسيط، ليس المُخِل، بالعكس! بل المُبين والمُوضِّح، إن شاء الله، هكذا! هكذا نحن، حين نغتني لنا منطق، حين نفتقر لنا منطق مُختلِف تماماً، انتبهوا! هذا هو المنظور.

كل هذا لا يحل المُشكِل، هذا يصف، لكن لا يحل، أين الحل؟ الحل لابد أن نقف وأن نتريَّث وأن نُطيل الفكرة، لأن المسألة جد، وليست بالهزل، ووجه الجدية فيها أن الإنسان ما لم يستثمر في أرض نفسه يبقى فقيراً ضحلاً مُجدِباً مُتصحِّراً، يخرج من الحياة أسوأ مما دخل فيها، وأفقر مما دخل فيها، يدخل الحياة بفطرة إلهية سوية، ويخرج من الحياة ويُغادِرها بنفسية وحصيلة شعورية وعقلية – تجربة حياة – من أسوأ ما يكون، من أكثر ما يكون ضحالةً ورقةً وسذاجةً، ليس هكذا الإنسان، لا ينبغي أن يكون الإنسان هكذا.

صارحتكم وصارحت نفسي أكثر من مرة، أشعر حقيقةً – وهذه ليست مسألة شعور فقط، بل وتحليل وتفكير أيضاً – أننا نُعاني ضحالة حقيقية في فهم ديننا، وفي خبرته، وفي العيش به، ضحالة حقيقية أشعرها في العلماء قبل العامة، حين أستمع إليهم أحياءً أو أحياءً حتى في الفضائيات وحين أقرأ لهم، ضحالة! هناك ضحالة، ويحتار المرء في البداية، ما سر هذه الضحالة؟ ما سر هذا الموقف من الحياة والأحياء والناس وضعف الإنسان؟ ما السر؟ وأستطيع أن أعزوه إلى جُملة أسباب مثلكم جميعاً، جُملة أسباب! ولكن في رأس وفي مُقدَّم هذه الأسباب ضحالة التجربة الإيمانية الذاتية، أنت تعيش ما تفقه وما تفهم، الكيفية التي تفقه بها إيمانك إن عشتها ستعيش وفقها، إذا كانت هذه الكيفية مُسطَّحة وبسيطة وساذجة وأشبه بالطقوسية – كالصلاة بالذات – فستعيش بتسطيح وبساطة وسذاجة وطقوسية، معيار هذه السذاجة والتسطيح صلاتنا، صلاة الطقوس، الصلاة الثقيلة على أفئدتنا وعلى أرواحنا، التي نشعر أننا بعدها تماماً كما كنا قبلها، وأحياناً أسوأ، لا نشعر بترقٍ روحي حقيقي، لا نشعر! ثلاثون سنة نُصلي ولا نشعر، لا نشعر بهذا، بالعكس! بعض الناس يقول أنا قبل ثلاثين سنة كنت خيراً بمراحل مني الآن، إذن ماذا علَّمتك الصلاة؟ ماذا علَّمك الدين؟ علَّمك أن تُدجِّل باسم الدين، علَّمك قسوة القلب وجمود العين، علَّمك العُجب والغرور بهذا الإنجاز الطقوسي التافه جداً، هذا يستوي فيه الجميع، إلا مَن رحم الله، وقليلٌ ما هم، جعلني الله وإياكم من ذلكم القليل.

بالكيفية التي نفقه بها ديننا نستطيع أن نعيش حين نعيش، فإذا كانت الكيفية بسيطة ومُسطَّحة فلن نجد هنا عزاء، هنا لا عزاء! لذلك علينا أن نكون جادين في إعادة طرح سؤال فهم الدين – كيف نفهم الدين؟ وكيف نُمارِسه؟ – وفق هذا الفهم الجديد.

أعتقد أنني عقدت خُطبتين قبل ربما نصف سنة عن أنسنة فهمنا للدين، هذه الخُطبة ستكون تواصلاً من جوانب أُخرى أيضاً مع تينك الخُطبتين، تواصلاً بوجه واضح جداً، إن شاء الله تبارك وتعالى.

ونعود، إذن زاوية النظر يُحدِّدها السياق، السياق الفردي والسياق الثقافي المُجتمَعي، هذا هو! لذلك علينا ألا نكون ضحايا لهذا السياق، وأن نُحاوِل أحياناً – وهذه مُحاوَلة صعبة جداً – أن نتعالى عليه، أن نكسره، أن نُعيد النظر فيه عبر السؤال، عبر طرح السؤال.

يسمع أحدنا بأن الرسول – عليه السلام – مات ودرعه مرهونة عند يهودي في خمسة أوسق من شعير، كلنا يفقه هذا الحديث من زاوية واحدة، وهي زُهد النبي، الفقر الاختياري للنبي، وهذا جميل، لأن السياق عموماً يُشير إلى هذا، الآن هنا سياق الحديث – سياق الخطاب المُباشِر، بمعنى سياق خطاب خُطبة أو مُحاضَرة أو درس أو صحيفة تُكتَب في علم الوعظ والتذكير – يكون مُتسلِّطاً ومُنصَباً على ماذا؟ على زُهدية النبي وفقره الاختياري، هكذا نفهم الحديث! لكن هناك زاوية فاقعة جداً.

لو جاء غربي – مثلاً – ليس يُعنى كثيراً بالزُهد والتقلل من الدنيا ولا يرى هذا نمطاً في الحياة سيُعجِبه الحديث جداً، ويُثير فيه أريحية، ويقول هذا نبي عظيم ومُتواضِع وكريم، سيفهم الحديث من زاوية سياسية اجتماعية، حرص النبي على الإدماج، إدماج الآخر المِلي في منطومة المُواطَنية، لماذا؟ لأن النبي كان بكل بساطة قادراً على ومُستطيعاً أن يقترض هذه الأوسق الخمسة من صاحب من الصحابة، هناك أغنياء الصحابة، أليس كذلك؟ هناك الزُبير وابن عوف وعثمان، قطعاً كانوا يستطيعون أن يمدوه بخمسة أوسق من شعير، لكن النبي لم يفعل هذا.

بعض الناس تكلَّف وقال متى كان هذا؟ وفي أي موسم؟ ولم تكن هناك حبوب، لكن كل هذا كلام فارغ، انتبهوا! ذكره بعض العلماء لكن كله كلام فارغ، مُستحيل أن المدينة خلت من الحبوب وخاصة من الشعير إلا عند هذا اليهودي، هذا كلام فارغ، انتبهوا! هذه تمحلات باطلة، النبي تقصَّد هذا تماماً، هو الزعيم السياسي والروحي لهذه الأمة، تقصَّد أن يقترض من يهودي، يُريد أن يُفعِّل هذا الإدماج، وهذه زاوية أُخرى.

إخوانان الشيعة يدلون بالحديث الذي يُردِّده وعاظهم ومُذكِّروهم كثيراً أمام عوامهم، بأن الإمام عليّاً – عليه السلام – تصدَّق وهو راكع – أي في حال ركوعه – بخاتمه على فقير جاء يسأله ولم يُعطه أحد شيئاً، تصدَّق بخاتمه عليه، ولكن ما أدراكم ما هذا الخاتم؟ لم يكن خاتماً من حديد أو من تنك كما نقول، بل كان خاتماً جوهرياً، تُعادِل قيمته خراج الشام أو العراق كذا وكذا مرة، جميل! إنهم يُريدون أن يفرضوا على العوام والمُستمِعين زاوية نظر تتعلَّق بالندى والكرم الحاتمي الذي متَّع الله به الإمام الجليل، بلا شك كان هو كذلك، ولكن هناك زاوية أُخرى يُمكِن أن يُنظَر إليها لهذه الرواية المكذوبة المصنوعة التافهة، وهي كفيلة مُباشَرةً بأن تجعلنا نحكم سراعاً أو مُسرِعين على الرواية بالوضع والكذب والاختلاق، إنها زاوية الترف والإسراف، أين زُهده؟ ضاع زُهده الآن، ضاع زُهد عليّ في مُقابِل كرم عليّ، ليكون كريماً الآن سيكون مُترَفاً ترفاً مُسرِفاً مُتلِفاً، أتضع خراج الشام أو العراق كذا وكذا سنة في خاتم واحد؟ سُليمان بن داود لم يفعلها، وعليّ لم يفعلها، هذا كلام فارغ، لكن هكذا الزوايا.

يقول مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره – عمل الدنيا عند الأنبياء جبر – بمعنى أن الأنبياء في عمل الدنيا جبريون -، وعمل الآخرة عند الكفّار جبر، عمل الآخرة لدى الأنبياء اختيار، وعمل الدنيا لدى الجهّال اختيار، إنها زوايا النظر طبعاً، ما معنى الكلام هذا؟ نفس ما أقول تماماً، يتحدَّث مولانا – قدَّس الله سره – عن النبي، وفي حكُم النبي الصُلّاح والمُوحِّدون العارفون والمُؤمِنون الصادقون الجادون الساعون إلى رحمات الله ورضوانه، يقول هؤلاء لأن وكدهم الآخرة وعمل الآخرة فإنهم يرون أنهم مُختارون في هذا، وأن عليهم أن يسعوا وأن يجدوا، لذلك يرون أن بإمكانهم الطاعة وأن الطاعة والإمهاد أو التمهيد للآخرة هو اختيار، لا يعتذرون عن تقصيرهم لأنهم ليسوا مُقصِّرين هنا، هم جادون في أن يصلوا إلى الله.

أما فشلهم أو تأخرهم في قضايا الدنيا فهم يرون أنفسهم في قضايا الدنيا مُجبَرين، يرون أنهم أنفسهم مُجبَرين! هذه زاوية نظر، والكافر العكس تماماً، إذا سألته عن الصلاة وعن الصيام وعن عبادة الله فسيقول لا، هذا جبر، لو شاء الله لهداني، لو شاء الله ما أشركت، لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۩، الله يقول دائماً هذه حُجة الكفّار، نحن مُجبَرون، نحن أشركنا وكفرنا وتركنا العبادة والتوحيد والإخلاص بجبر إلهي، لكن – ما شاء الله – ما أشطرهم! ما أحذقهم! ما أذكاهم! وما أزكنهم في شؤون الدنيا! إنهم هنا مُختارون، لا يعتلون بعلة الجبرية هذه، لا! الآن تسقط كل هذه الشقاشق والسفاسف والسفسطات الكلامية واللاهوتية، إنهم في عمل الدنيا الآن أهل اختيار، انقلبت الصورة، بحسب الزاوية وبحسب السياق الذي تُوضَع فيه والذي يُفسِّر وهو القادر على تفسير الزاوية التي تصطنعها في النظر إلى الأمور، هكذا!

من على هذا المنبر مرةً ذكرت مثال سعد بن الربيع، رضيَ الله عنه وأرضاه، ظللنا نسمع هذا المثل تقريباً أربعة عشر قرناً، وننظر إليه من زاوية واحدة، سعد بن الربيع يُخيِّر أخاه عبد الرحمن بن عوف في أحب نسائه الأربع إليه، ليُطلِّقها وينزل عنها له، ويتزوَّجها ابن عوف، من زاوية ماذا ننظر كلنا عبر أربعة عشر قرناً؟ من زاوية الإيثار، أليس كذلك؟ والغيرية والأخوة وصدق البذل والتضحية في سبيل أُخوة الدين، لكن هناك زاوية أُخرى، زاوية أُخرى ليست تُشرِّف، ليست جيدة بغض النظر عن أي شيئ، هذا صحابي، ليس ملكاً هذا، ليس إلهاً، ليس مُشرِّعاً، انتبهوا! ثقافتنا تفترض الآتي، بما أنه صحابي وأسلم فلابد من أول ساعة من ساعات إسلامه أن تغدو أفعاله تشريعاً، لكن هذا كلام فارغ، ثقافتنا تفترض أن كل مسالكه ستغدو حميدة، وهذا غير صحيح يا أخي، ما هذا؟ لأنه صحابي وفعل هذا من هذه الزاوية فالأمر مُنتهٍ، وهذا غير صحيح، هناك زاوية هي في مُنتهى الفقر والبؤس هنا، وهي مكانة المرأة، مكانة المرأة في نظرهم! ما هذا؟ هل أنت تتحدَّث عن أمة أو عن خادمة أو عن سلعة تشتريها وتبيعها؟ هذه امرأة حرة، وقد تكون سيدة بنت سيد وكريمة بنت كرام، هل أنت تُطلِّقها وتُزوِّجها دون حتى أن تأخذ خيارها؟ ما هذا؟ غير مقبول هذا، لكن هكذا كان مُجتمَعهم!

فإيانا وإياكم أن نظل نُردِّد هذا في عصرنا هذا بعد أن وعينا أشياء وفقهنا أشياء دون أن ندري ما نقول، انتبهوا! طبعاً هذا لا ينقص الإسلام شيئاً، هذا ليس الإسلام، هذا تصرف صحابي، وهذا الصحابي لا يزال يحمل بعض مواريث الجاهلية، وهذا شيئ طبيعي، شيئ طبيعي جداً أنه لا يزال يحمل بعض مواريث الجاهلية، النبي قال هذا لأبي ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هذا أبو ذر الذي حلاه بتاج بل بجوهرة التاج وواسطة العقد، ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة – أو من ذي لهجة أصدق – من أبي ذر، أبو ذر هذا، الصادق المصدوق، خليلي! خليل رسول الله هذا، ومع ذلك قال له لا، في هذه استثناء يا أبا ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هذه جاهلية، إنك امرؤٌ فيك جاهلية، وهذا شيئ طبيعي، لكن يُراد لنا بأمثلة كل تاريخنا وكل وقائعه أن نعتقد أن حتى الصحابة غدوا بمثابة أنبياء – عملياً وليس نظرياً -، كل ما يفعله وكل ما يقوله الصحابي هو الصحيح، وهذا غير صحيح، حتى في علم المُصطلَح غير صحيح، حديث الصحابي الموقوف في حُكم الضعيف، هذا في علم المُصطلَح وفي علم الحديث، مثل ماذا قال الصحابي وماذا فعل وماذا أقر، هذا ضعيف، له حُكم الضعيف، ما لم تشهد له الأدلة من كتاب وسُنة هو ضعيف، أي لا اعتبار له، خاصة إذا لم يُوافَق عليه، انتبهوا! لكن الحديث ليس عن هذه المسألة، عن زاوية النظر، أي الحديث عن زاوية النظر.

ولنعد إلى موضوعنا، كيف نتعاطى مع هذه الشؤون؟ كيف نتواصل؟ كيف نتواصل كبشر خاصة في لحظات ضعفنا وزللنا؟ نحتج بحديث، وفي المُقابِل عشرات الأحاديث وعشراتها تشهد لشيئ مُختلِف، لا! نحتج بأننا ننتصر للخير إزاء الشر والمكر والخطيئة، إذن سأسأل سؤالاً هنا دينياً بدرجة أولى ثم هو فلسفي بدرجة ثانية، هل هناك أولاً من مُعادَلة بين حُب الخير وكُره الشر؟ هذا سؤال، هل هذه مُعادَلة؟ إن كانت مُعادَلة فهي كارثة، انتبهوا! هذا أولاً، وسأُوضِّح هذا، ثانياً هل نُحِب الخير أكثر من كُرهنا للشر أم نكره الشر أكثر من حُبنا للخير؟ هذا سؤال ديني، الجواب عنه بحذق وذكاء وفهم وتجربة تعيشها أنت كمُؤمِن، انتبه! هذا الجواب سيتكفَّل – أنا أقول – بإعادة تصورك للدين، بإعادة تصورك لنفسك كمُتدين، ما أنت ومَن أنت كمُتدين؟

بعض الناس يقول الآتي، يُسارِع على طريقة بعض الظاهرية ويقول لا، كُرهنا للشر أكبر من حُبنا للخير، لماذا يا فيلسوف الإسلام؟ يقول أولاً القاعدة الفقهية تقول درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، إذن الأولوية لكُره الشر، لمنع الشر، قبل استجلاب الخير، وهذه قاعدة مُؤسَّسة على مئات النصوص الفرعية المُفرَدة، وهذا جميل! وبعد ذلك يقول في الحديث الشهير – وهو من أحاديث الأربعين – إذا أمرتكم بشيئ فأتوا منه ما استطعتم – حُب الخير هذا، هذا في الخير – وإذا نهيتكم عن شيئ فانتهوا، قال لا تساهل مع الشر، لا تساهل! ولذلك كُرهنا للشر أكبر من حُبنا للخير، هذا الصحيح، لكن هذه قسمة وهذا جانب من جوانب مُصيبة المُسلِمين المُعاصِرين ونحن منهم في فهم الدين، نحن نكره الشر أكثر مما نُحِب الخير، وسأجعل البداية من هنا، وهذه إن كانت مُعادَلة فهي خطيرة جداً، هي ليست مُعادَلة، لأننا نكره الشر أكثر مما نُحِب الخير، المُعادَلة ينبغي أن يكون طرفاها ماذا؟ مُتعادِلين، أن نُحِب هذا بمقدار ما نكره هذا، وهذه كارثة أيضاً، لكن أن نكره الشر أكثر مما نُحِب الخير فهذه كارثة الكوارث في فهم الدين، هذه مُصيبة المُسلِمين، هذا ما يُمكِن أن يُفسَّر به دينياً وروحياً وفلسفياً هذا الاستعداد الكامن لدى المُسلِمين، Potential هذا، هناك استعداد كامن لدى المُسلِمين، وهو مُخيف، وهو لدى كثير – ليس لدى البعض أو القلة وإنما لدى كثير – من المُسلِمين، استعداد كامن مُخيف جداً، أنه في اللحظة المواتية المُناسِبة التي تسوقها الظروف والسياقات يُمكِن لبعضنا أن يقتل بعضاً، وأن يذبح بعضنا بعضاً، وأن يحرق بعضنا بعضاً، وأن يخزق ويُثقِّب بعضنا بعضاً بالمثاقيب الكهربائية كما حدث ويحدث في العراق وغير العراق، شيئ مُخيف! وأن يُهشِّم بعضنا بعضاً في الشوارع العامة، وأن يُفجِّر بعضنا نفسه في بعض، استعداد مُخيف جداً!

ويُنبئ عنه ويدل عليه ويُؤشِّر إليه هذا الاندلاع العجيب وراء الرغبة في دينونة الناس والحُكم عليهم بالكفر والشرك والمروق والردة والخروج عن الدين وكذا وكذا، إلى آخره! بالجُملة وبالتفصيل أحياناً، أحياناً بالجُملة وأحياناً بالتفصيل، شيئ مُخيف جداً في فهم الدين، لذلك علينا أن نكون واقعيين، وأن نكون عادلين ومُنصِفين في تفهم مخاوف الآخرين، من أبناء الأمة، من علمانيين، ليبراليين، ومُسلِمين غير إسلاميين، هناك مُسلِمون يصلون ويصومون يا أخي لكنهم غير إسلاميين، ولا ينتمون إلى أحزاب وجماعات وتنظيمات وتشكيلات إسلامية، وليس عندهم قناعة ببعض ما تعتقده هذه الجماعات والتشكيلات، هم أحرار في هذا، وبالمُناسَبة عندهم مخاوف حقيقية من اليوم الموعود، يوم يحكم الإسلام بهؤلاء المُسلِمين، عندهم مخاوف، وأنا منهم، أنا عندي مخاوف حقيقية من هؤلاء وأمثالهم إذا حكموا، ولأكن واضحاً وصريحاً مع نفسي ومعكم، مخاوف حقيقية! كل السياقات والوقائع تدل عليها، لا تستبعدها بل تُؤكِّدها، شيئ مُخيف! علينا أن نكون واضحين، حتى لا نندم ندامة الكُسعي، ولات حين مندم! ويدفع الإسلام الضريبة، وتدفع حضارتنا ونهضتنا المأمولة والمرقوبة – إن شاء الله – الضريبة، وتتأخَّر هذه النهضة ربما ثلاثمائة أو أربعمائة سنة قادمة، علينا أن نكون واضحين.

طبعاً ضحالتنا أيضاً تُوجَد في جانب آخر، ضحالتنا المعرفية – غير الضحالة الروحية – تُساهِم في هذا، لا نستطيع أن نكون جرآء وجسراء وواضحين تماماً ومُتعمِّقين في طرح إشكالاتنا ومُواجَهتها، عندنا منطق عجيب في مُجامَلة الذات، يُجاوِره منطق عجيب في جلد الذات، ولا أدري كيف، تناقضات! تناقضات مُؤسَّسة على فهم غير مُستقِر وغير سليم وغير دقيق.

إذن لتكن هذه البداية، لتكن من هنا البداية، سأفتح مُزدوَجين ناعياً أختنا الشهيدة مروة الشربيني رحمة الله تعالى عليها، التي طالتها يد الغدر والخسة والدناءة والجنون التعصبي بلا شك، عاتباً على الجهات الرسمية في ألمانيا، التي لم تفه إلى اليوم باعتذار أو بتصريح يمسح أو يأسو جُرح المُسلِمين والمصريين بالذات، للأسف لم يفعلوها، نتأمَّل أن يفعلوها ولو في وقت قريب، أفضل للجميع هذا، لكن ما أُحِب أن أُذكِّر به في هذا السياق – لأن الخُطبة ليست عن هذا الموضوع المُؤلِم جداً للأسف والفاجعي، لكن أُحِب أن أهتبلها فُرصة لأُذكِّر – هو الآتي.

(انظروا إلى كم الغيظ والحنق والمرارة والألم الذي يعتصر قلوبنا بشهادة هذه السيدة الشهيدة! شهيدة الظلم والعصبية والعنصرية، أليس كذلك؟ كم عجيب جداً، تأدى بنا إلى الآتي، أنا استمعت في شاشات فضائيات مصرية إلى مُذيعات لسن مُلتزِمات حتى دينياً، لسن مُحجَّبات، علمانيات مُتبرِّجات على أحدث طراز، تصم الواحدة منهن ألمانيا كلها بالعنصرية والعصبية، وتُريد أن نُعيد طرح السؤال، مَن الإرهابي إذن؟ ما شاء الله! ما هذا؟ أي منطق هذا؟ انتبهوا، علينا أن نتفهم إذن وبوضوح منطق الآخر، نحن ضربنا ضربات إرهابية في أماكن كثيرة من العالم بلا رحمة، لم نستثن أحداً، لا الشيوخ ولا الذكور ولا الإناث، ضربنا الــ Subway أو الــ Underground في لندن، أليس كذلك؟ ذهب في هذه الضربات المُسلِم مع غير المُسلِم والكبير مع الصغير، في مدريد نفس الشيئ، وفي أماكن أُخرى، ثم بعد ذلك كبارنا قبل صغارنا قال نُطالِب الغرب بأن يكون مُنصِفاً وعادلاً، وألا يكون مُتعصِّباً إلى هذه الدرجة، وألا يُعمِّم، والضربات ذهب ضحيتها آلاف يا حبيبي، آلاف من البرآء، نحن الآن أمام ضحية واحدة، واحدة وحيدة، أليس كذلك؟ ذهبت ضحية التطرف، نُريد أن نصم الغرب كله وألمانيا بكل ديمقراطيتها وعراقتها، وهناك أربعة ملايين وثلاثمائة ألف مُسلِم يعيشون فيها بسلام ووئام، بلا شك يُعانون من بعض الأشياء، والكل يُعاني، كل إنسان يُعاني، يُعانون من أشياء بسيطة، ولكنهم يعيشون في الجُملة في وضع أكثر راحةً – لنكن واضحين – من أي بلد عربي أو إسلامي، وأتحدى! أتحدى مَن يقول لي لا، هذا غير صحيح، يعيشون في مصر أو في السعودية أو في فلسطين أو في تونس في وضع أريح وأحسن، أتحدى مَن يقول هذا، يعيشون في وضع أريح وأكثر احتراماً وأكثر مُوقَّريةً، بسبب ضحية واحدة نُريد أن نصم الغرب كله وألمانيا كلها، وليس فقط المُلتزِم منا، بل حتى غير المُلتزِم، حتى المُتبرِّجات قلن هذا، ألمانيا أصبحت عندهن هكذا، وهذا من الغيظ، الغيظ! هكذا تُفكِّر الشعوب، وهكذا تُفكِّر القُطعان، لأن هذه طبيعة الشعوب، فانتبهوا.

هناك فُرصة لكي نُحاوِل أن نمشي في حذاء الآخر، أن نصطنع منظور الآخر، إذا نحن بضحية واحدة عندنا الحق فهم إذن بخمسة آلاف ضحية عندهم خمسة آلاف حق أن يصموا العرب والإسلام والمُسلِمين بأنهم قتلة وإرهابيون ووحشيون، أليس كذلك؟ طبعاً هم ليس عندهم حق، وطبعاً من باب أولى خمسة آلاف مرة ليس عندنا الحق أن نتهم حضارات وسياقات ومُجتمَعات ودولاً بكذا وكذا من أجل شخص مجنون، هذا مجنون، فعله الذي فعله فعل جنون، هو دمَّر نفسه ودمَّر غيره طبعاً، واستل خنجره يضرب شمالاً ويميناً، ضرب تقريباً ثلاثة أو أربعة أشخاص، يضرب في كل مكان كالمجنون، كأبي لؤلؤة المجوسي حين اغتال سيدنا عمر، هذا شخص واحد، وهو مُختَل بطريق ةمُعيَّنة من طرق الاختلال، فلماذا نُعمِّم؟ انتبهوا.

ولذلك علينا أن نتفهَّم مخاوف الآخرين، لكي نستطيع أن نُفهِم الآخرين أيضاً مخاوفنا، انتبهوا! ينبغي أن نكون هكذا، إذا لم نكن هكذا فالآخرون ليسوا هكذا، جميل! هم على الأقل لا يتبجَّحون بدين كما نتبجَّح نحن بدين نزعم – وهو الحق – أنه أمرنا بالعدل حتى مع العدو وحتى في ساح الوغى، هذا دين عجيب بفضل الله، هذا الدين إلهي، نحن نقصر عنه، نصغر عنه، نحن أصغر منه بكثير، هذه مُشكِلتنا، ليست مُشكِلة الدين، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۩، حتى مع العدو، مع المُقاتِل، ومع الحربي اعدل، أنت مُطالَب بالعدل، كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۩، كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ۩، هذا هو! شيئ عجيب، أين تجد مثل هذا النص؟ في ديننا هذا موجود، في قرآننا بفضل الله تبارك وتعالى).

إذا أردنا أن يفهمنا الآخرون لابد أن نتفهَّم أيضاً مواقف الآخر، الآخر المِلي والآخر خارج المِلة، المُسلِم غير الإسلامي – بغض النظر عن أي شيئ هذا مُسلِم -، المُسلِم العلماني، والمُسلِم الليبرالي، لابد أن نتفهَّم مخاوفهم من اليوم الموعود، يوم يحكم الإسلام، انتبهوا! هذا شيئ مُخيف، أصبح يُنذِر بأشياء مُخيفة، طبعاً – كما قلت – من السهل إذن أن نعتذر عن هذه الزاوية واصطناعها وعن هذا المنطق بأحاديث من جنس كذا وكذا، إذن لنأخذ الطرف المُقابِل.

في الحديث الصحيح إن الله – تبارك وتعالى – كتب كتاباً قبل خلق الدنيا، قبل خلق السماوات والأرض، فهو عنده تحت عرشه، إن رحمتي تسبق غضبي، إذن حُب الخير أكثر أو كُره الشر؟ حُب الخير، إذا أردنا أن نكون إلهيين ربانيين علينا أن نتشبَّع وأن نُستهتَر بحُب الخير أكثر بكثير من كُرهنا للشر، أكثر بكثير! خاصة في العلاقات الإنسانية والعلاقات البشرية.

أحد الفلاسفة الإنسانيين قال – وما أبدع ما قال! – حاول ألا تفتقد الإنسان الذي أمامك، هذا إنسان، زميل في العمل أو جار في الجوار أو أخ في الدين أو أخ في النسب أو صهر أو صديق أو معرفة أو زميل دراسة، أياً كان! حاول ألا تفتقده، لأنك في مائة مليار مجرة لن تجد إنساناً آخر، الإنسان عملة نادرة، انتبهوا! الإنسان كونياً عملة نادرة جداً، هو يقول في مائة مليار ونحن نقول في مائتي وخمسين مليار، لأن في أحدث التوقعات العلمية النظرية الكون يعج بمائتي وخمسين مليار – وبعضهم يقول أكثر – مجرة، كل مجرة في المُتوسِّط يكون فيها أيضاً من مائتي وخمسين إلى ثلاثمائة مليار نجم، وفي كل خمسين ألف نجم نجم واحد له كوكب، مثل الأرض، أي بلايين الكواكب، بلايين إلى الآن! إلى الساعة لم يثبت أن هناك حياةً وأن هناك بشراً آخرين في مُستوانا في أي كوكب آخر، لم يثبت، ربما هذا موجود وقد يكون مُرجَّحاً لكنه لم يثبت، فيقول إذن في هذا الكون العجّاج السحيق البعيد الوسيع المُخيف الذي يحتوي على مائة مليار – هذا في ظنه والآن أكثر – مجرة لا يُوجَد بشر إلا هذا، إذن قليل جداً جداً أن يُوجَد كوكب عليه ستة مليارات، والله هؤلاء قليلون جداً هؤلاء يا أخي، الستة المليارات قليلون جداً جداً جداً، كل واحد هو مشروع خلافة عن الله في الأرض، كل واحد عالم مُكرَّم، عالم كبير، لزوال السماوات والأرض – النبي يقول – أهون من قتل امرئٍ بغير حق، الآدمي بُنيان ربه ملعون مَن هدمه، أعظم بنية هذه، أعظم تكوين هذا، نادر جداً هذا، ليس موجوداً في كل مكان، احتفظ به، احتفظ!

بعض الناس سريع التفريط بأقرب الناس إليه، بصديقه أو بأخيه أو بنسيبه أو بصهره أو بزميل دراسته أو بأخيه في المسجد، ببساطة! هل تعرفون لماذا؟ لأنه ضحل، هذا المُفرِّط إنسان ضحل، فقير، لم يفهم الحياة، إلى الآن لم يفهم الحياة، يظن أن اليورو والدولار والذهب والفضة أغلى من هذا الإنسان، لا يُوجَد ما هو أغلى من الإنسان، قد يقول لي أحدكم ما معنى أنه لا يُوجَد ما هو أغلى من الإنسان؟ هل ينبغي أن أُحِب الناس كلهم؟ طبعاً، لأن هذه المُشكِلة، لا تستطيع أنت تفعل هذا لأن لديك فقر وضحالة، أنت فقير وضحل.

انتبهوا يا إخواني، بعض الناس يظن أنه يُمكِن أن يُحِب الله أو يُمعِن في حُب الله بل قد يظن نفسه محبوباً لله ومن أحباب الله لكن من غير أن يعبر محطات حُب البشر بتجارب حقيقية صميمة مع البشر، أنا أقول لكم هذا مُستحيل، أنا شخصياً لا أستطيع أن أفهمه، ولن أستطيع، يستحيل أن تقول لي أنا أُحِب الله من غير محبة البشر، يستحيل! هذا غير مفهوم، لذلك انتبهوا، يُوجَد جُزء كبير قد يُفسِّر أيضاً الضحالة التي نُعانيها الموقف من المرأة، نقول المرأة، ولا تُوجَد مرأة مُجرَّدة، هناك المرأة، تلك المرأة، وهذه المرأة، وأختي، وزوجتي، وابنتي، وعمتي، وخالتي، وجدتي، هذه المرأة التي أعرفها، أليس كذلك؟ التجريد يخدعنا، الموقف من النساء إذن – هذا أحسن من أن نقول من المرأة، أي أن نقول الموقف من النساء – هو أيضاً أحد أسباب ضحالتنا الروحية، لماذا؟ لأنه موقف يقوم على التنكر لها ومُجافاتها وظلمها، وأنها الشر الذي لابد منه، وأن الشيطان أعارها عقله، وأنها كذا وكذا، وأن النساء كذا وكذا، وهذا كله غير صحيح، غير صحيح بالمرة! وطبعاً هذا نفاق، جُزء من النفاق الذي تعيشه العقلية العربية والإسلامية، نتبنى هذه الأشياء – في نفس الوقت – ونحن لدينا ولوع وتعلق عجيب بجوانب مُعيَّنة في المرأة، للأسف طبعاً ليس بالمرأة كإنسان، لا تستطيع أن تشعر شعور الإيمان ولا أن تخوض تجربة الإيمان – أنا أقول لك الكاملة التامة – إلا عبر المرأة أيضاً، لأنها شطر الإنسان الآخر، الإنسان هو رجل وامرأة، إذن عبر الشطرين تستطيع أن تعرف نفسك كإنسان لتعرف ربك، إذا عرفتَ نفسكَ كذكر فقط أو كرجل وإذا عرفتِ نفسكِ كامرأة فقط  فستخوض نصف تجربة الإيمان أو أقل حتى، أقل من هذا، انتبه! هذه مسألة مُهِمة جداً جداً بعيداً عن التسييقات الاجتماعية والأنثروبولوجية، أنا أتحدَّث عن الأُفق الروحي الآن للمسألة، الأُفق الروحي! الموقف من المرأة بما له علاقة بمسألة التجربة الروحية، يجب أن نكون واضحين هنا مع أنفسنا، التجربة الروحية!

إذن كُره الشر وحُب الخير، بعض الناس يقول لا، أيضاً هذه سفسطة عقيمة، لماذا يا سيدي؟ يقول المسألة واضحة، إذا كنا نكره الشر بالحري فنحن نُحِب الخير، واضح جداً! بمقدار كُرهنا للشر نحن نُحِب الخير، لماذا تُجادِل يا رجل؟ أقول له أنت لا تفهم الأمر جيداً، المسألة غير واضحة عندك، أنت تظن أنها واضحة، لكنها ليست واضحة بالمرة، ونُمارِسها في التباسها واشتباهها وفي لا وضوحها، كيف؟ 

يُمكِن أن نتقبَّل هذا لو كنا نعيش – أيها الإخوة والأخوات – في عالم منطقي، عالم مُجرَّد، يخضع للحساب الدقيق، محسوب ومُقدَّر بتقديرات صارمة، أي عالم الحواسيب، ويُمكِن تقبَّل هذا في المنطق، في المنطق الأرسطي – أي في الــ Formal logic هذا، في المنطق الأرسطي صحيح – لو قلت لي أكره الشر لانبغى بمقدار ما تكره الشر أن تُحِب الخير، ولو قلت لي أُحِب الخير  لانبغى بمقدار ما تُحِب الخير أن تكره الشر، هذا واضح جداً، لكن أنت لا تعيش في هذا العالم، وأنت لست كمبيوتر Computer، لست حاسوباً، ولست ملكاً، ولست كائناً مُجرَّداً كالعقل الفعّال والعقل الفيّاض والعقل الكذائي – عقول الفارابي وابن سينا والكلام الفارغ هذا -، لا! أنت بشر من لحم ودم، ابن نفسك، ابن تجربتك، وابن المُجتمَع، وسأُوضِّح لك حتى لا أكون مُلتبِساً أيضاً.

مَن منا يُحِب الجهل؟ لا أحد، مَن منا يُشرِّفه أن يُنسَب إلى الجهل – نقول له يا جاهل -؟ الكل يغضب من هذا حتى الجاهل، طبعاً هو جاهل، وحتى لا يفك الخط، لا يعرف كيف يقرأ الكلام العادي، يغضب إذا نُسِب إلى الجهل، حين تقول له يا جاهل يقول لك لماذا تقول لي يا جاهل؟ ويزعل، ويُمكِن أن يحدث بسببها أشياء أكبر من هذا، أي من الزعل أو الغضب، جميل جداً! كلنا نكره الجهل، أستطيع أن أجزم بهذا، صحيح! لكن مَن منا يُحِب العلم؟ أرني هذا، أين البراهين يا أخي؟ حُب علم ماذا؟ بعض الناس الآن حتى الخُطبة هذه تثقل عليه، يقول لك يا أخي أُريد ما قل ودل، هلكتنا يا رجل، اختم، لا يُريد! علم ماذا؟ وكلام فارغ ماذا؟ لكنه يكره الجهل، فانتبهوا! هل تعرفون لماذا؟ لأنه ليس حاسوباً، ليس كائناً أرسطياً، ليس عالماً من منطق وحساب، هو بشر بكل تعقيداته، بكل تجاربه، بكل هشاشته، بكل دوافعه الواعية واللا واعية، انتبهوا! هو يكره الجهل ويكره أن يُنسَب إليه لاعتبارات نفسية، يعي بعضها ويجهل أكثرها، ولذلك هو يكره الجهل ولا يُحِب العلم، واضح! يُمكِن في عالمنا هذا أن يحدث، يحدث! في عالم المنطق والحساب هذا لا يحدث، انتبهوا! هذا يحدث في عالمنا.

ولذلك سأُوضِّح لكم ما نحن بصدد شرحه وتبيانه، يقول أكره الشر، تكره الشر ولا تُحِب الخير، كيف يا سيدي؟ نعم، تكره الشر، أنت لا تكره الشر لذاته، أنت تكرهه لكرهك البشر الذين تود أن تنعتهم دائماً بالأشرار، لكي ترى اعتذاراً وتبريراً، لكي تُترجِم عن اعتذار وتبرير، تُوجِد وتُبلوِر اعتذاراً وتبريراً لكُرهك للبشر، بعض الناس لا يُعجِبه العجب ولا الصوم في رجب، وهو غير مشروع، أي الصوم في رجب، خلافاً للعامة، على كل حال مشروعاً كان أو غير مشروع – أي الصوم في الرجب – لا يُعجِبه أي شيئ، وطبعاً يتوسَّل الحُجة الدينية والنص الديني وكُره الشر، يكرههم لأنهم لا يُصلون، يكرههم لأنهم… لأنهم… لأنهم… إلى آخره! ويقضي عليهم، ويحكم عليهم، ويا ويل أحدهم – كما قلنا لكم – إذا ضُبِط مُتلبِّساً بكبيرة، خاصة كبيرة الانتحار هذه أو غير الانتحار، انتهى! هذا من أهل جهنم، هذا لا أمل له، لعنة الله على هذا البعيد، انتهى، والأحسن ألا يُصلى عليه، فظاعة! فظاعة مُخيفة جداً جداً، أين هذا؟ أين العشق؟ أين الحُب؟ أين الرحمة؟ وأين التحنان؟ مَن لا يَرْحمْ لاَ يُرْحَمْ، هو غير مرحوم، انتبهوا! هو غير مرحوم، صدِّقوني! هو فقير حتى من كثير من رحمة الله، قد يقول لي أحدكم كيف؟ كلنا في رحمة الله! طبعاً هذه الرحمة العامة، وهو رحمن رحيم، بالمُؤمِنين رحيم، ورحمن بالدنيا وما فيها – بكل ما فيها – وبالأكوان كلها، صحيح! لكن هو فقير إلى رحمات خاصة من رحمات الله، في رأس هذه الرحمات رقة القلب، جودة العين التسكاب الهتون، هذا ليس عنده، لا يمتلك عيناً هتوناً سكّابةً بالدمع، لا! أين هو؟ جافة، قلبه قاسٍ غليظ والعياذ بالله، لسانه سليط كالمبرد أو كالسكين الماضية والعياذ بالله، غير مرحوم! من أين أخذت هذا المعنى؟ من قول النبي عليه السلام، النبي قال هذا، حين رأوه يبكي على ابنه قالوا له أتبكي وأنت رسول الله؟ أي كأنهم رأوا أن هناك تعارضاً بين أن يكون رسولاً يُناجي الملأ الأعلى ويُنادِم الصفيح الأرقى وأن يسكب الدمع على ابنه إبراهيم عليه السلام، قال هذه رحمة، ولا تُنزَع الرحمة إلا من شقي، رحمة! جعلها الله في قلبي وفي عيني، فأنا أحمد الله عليها.

لذلك لو سألنا سائل ما هو أنبل شيئ في الإنسان؟ لقلنا دموعه، أنا أقول لكم إنها دموعه، دموع الرحمة فيه، أنبل شيئ في الإنسان! لا تقل لي عقله، إياك أن تقول لي عقله، كيف تقول عقله؟ هذا العقل وصفه فيلسوف الإسلام محمد إقبال، رحمة الله عليه، وروَّح الله روحه، هذا العالم الكبير من الفيوضات والرحمات والشعر الإلهي الرائق الإنساني، في أعمق مُستويات الإنسانية! قال المرض العضال الشيطاني للغرب – الغرب هذا المُعاصِر- هو العقل بلا عشق، نعم! هذا هو، طبعاً هو استمد هذا واستفاده من أستاذه الروحي الكبير جلال الدين الرومي، الذي قال العقل والذكاء والدهاء بضاعة إبليس، العشق رأس مال أبينا آدم، الله أكبر! الله أكبر! هذا هو، إياك أن تجعل خُطتك في التواصل مع البشر العقل والحساب، إياك! هذا أقبح ما فيك.

بعض الناس يظن أنها خُطة ناجحة وطيبة وتُعلي من شأنه في المُجتمَع، إذا جلس يتحدَّث مع الناس – مثلاً – تقريباً لا يكاد يترك مجالاً لأحد، لأنه يعرف كل شيئ، حين تتكلَّم يقطع عليك، ويقول لك هذا صحيح ولكن… أكثر شيئ نكره كبشر نحن هذه الــ لكن من هؤلاء المُتمعقِلين، انتبهوا! بعض الناس يفعل هذا، هؤلاء اللاكنيين يقول الواحد منهم هذا صحيح ولكن… أي دائماً أنا أذكى وأنت أنقص، دائماً بــ لكن هذه أنا أكمل وأنت أنزل، دائماً أنا أعلم وأنت أجهل، دائماً أنا ذكي وأنت غبي، ما هذا؟ لعنة الله على لكن هذه، هذا صحيح ولكن… أو هذا غير صحيح ولكن الصحيح هو… ما هذا يا رجل؟ 

يأتيك أحدهم ليُحدِّثك عن شيئ آلمه وأحزنه وربما كرثه فيقطع آخر حديثه، والله بعض الناس – أُقسِم بالله – هكذا، أنا رأيت بعض الناس يأتي ليتحدَّث عن مُصيبة أصابته – مُصيبة يا أخي، يا أخي فقد عزيزه وفقد حبيبه، اتركه يتحدَّث – فيقطع عليه مُباشَرةً، يقول له نعم، وأنا قبل عشرين سنة حين ماتت عمتي حدث كذا وكذا، هل صدعت قلبك عمتك؟ أصدعت قلبك؟ ما هذا الكذب؟ ما هذا الدجل؟ يا أخي اتركه يتحدَّث عن ابنه الذي مات، اتركه يا رجل، يقول هذا صحيح، هذا صحيح لكن – والله – قبل عشرين سنة حين ماتت جدتي أو أخت بنت عمتي حدث لي كذا وكذا، أنت ماذا؟ هل أنت محور الكون؟ عجيب! هذا الرجل عجيب.

ستقول لي نعم، أخشى أن أكون مثل هذا، لكن هذا شخص عجيب مُخيف فقير وضحل جداً، في كل شيئ يتحدَّث، تُريد أن تُدلي بشيئ في السياسة فيقطع عليك، يقول هذا التحليل غير صحيح، أنا قرأت في تقرير سري – لأنه محمد حسنين هيكل – كذا وكذا وكذا، يقطع عليك! أنت لا تفهم شيئاً، انظر إلى هذا الضحل الفقير الذي يتواصل بالعقل والحساب، عنده حساب بنكي، ولذلك التواصل بالعقل هو تواصل بالمحسوب، انتبه! أين إذن التواصل بغير المحسوب؟ أين التواصل بالمُشاع؟ أنا لست مع ديكارت Descartes الذي قال العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر، غير صحيح! هذا كلام فارغ تجريدي، لا! الصحيح هو أن القلب أعدل شيئ قسمة بين البشر، هناك العشق، الحُب، والضعف الإنساني الذي فينا، الضعف! قد يقول لي أحدكم هناك الرحمة، ما علاقة الرحمة بالضعف؟ طبعاً هناك علاقة، الرحمة تكون لماذا؟ للضعف، نقول ارحم ضعفنا، ألا ندعو بهذا على المنابر؟ نقول ارحم ضعفنا، الرحمة تكون للضعف، أليس كذلك؟ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ۩، أي في كبرهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ۩… أصبحا كبيرين هرمين مُتهدِّمين ضعيفين، يحتاجان الآن إلى ماذا؟ إلى الرحمة، قال وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ۩، حين كنت صغيراً ضعيفاً، أحتاج أيضاً إلى ماذا؟ إلى الرحمة، الضعف هو ما يستدعي الرحمة، انتبهوا! الضعف، قال الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ۩، وهذه فلسفة إنسانية، فلسفة تواصل، كيف؟ انتبهوا!

كل ما يُمكِن أن يُخفِّف عن الإنسان الذي أمامك والذي هو مكروث بفشل – بفشل في الحياة أو في الزواج أو في الدراسة أو في التجربة الروحية، أو بفشل في أي شيئ – أو مكروث بفقد حبيب وديد – من أودائه ومن أحبائه – أو مكروث بأي معنى من المعاني هو رحمة، كل ما يُخفِّف عنه هو رحمة، لماذا؟ لأنه يجبر كسره ويُقوِّي ضعفه، المسكين يأخذ ضعفه بكل عين اعتبار، قال الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ۩، فخفِّف عن الضعفاء، خفِّف دائماً، خفِّف! خفِّف ولا تُطلِق اللسان ولتكبر أُذناك، الأفضل أن يكون لنا آذان كبيرة من أن تكون لنا ألسنة طويلة.

النبي – عليه السلام – من أعظم سماته التواصلية البشرية على الإطلاق أنه كان يستمع كثيراً للناس، لمشاكلهم، لآهاتهم، لتأوهاتهم، لتطلعاتهم، لإشكالاتهم، ولضعفهم، النبي كان يسمع كثيراً جداً، هل هناك مَن هو أذكى منه؟ هل هناك مَن هو أعلم منه؟ حاشاه وكلا، لو كان النبي على طريقة هؤلاء الفقراء الضحلين المُتصحِّرين لما ترك أحداً يتكلَّم، مَن يتكلَّم في حضرتي؟ سيقول، أنا أعرف كل شيئ، سيقول هذا ويتكلَّم في كل شيئ، لكن المسألة ليست مسألة معلومات، نحن نظن أن مسألة التواصل مسألة معلومات ومعارف، هذا الذي آتاك يبكي أتظن أنه يُريد منك معلومات؟ للأسف علماء الدين يقومون بهذا الدور، كيف؟ طبعاً يقومون به، إذا أراد أن يُعزيك أحدهم كيف يُعزيك؟ يُعطيك المسكين معلومات، يُذكِّرك بآيات وأحاديث أنت تحفظها أحسن منه، نحن نعرف الآيات هذه يا حبيبي، ونعرف الأحاديث، بالعكس! هل تعرف كيف يكون العزاء أحسن من أن تُذكِّرني بهذه كله؟ ذكِّرني – لا بأس – سريعاً بآية واحدة وبحديث، واتركني أبكي، لابد للمصدور أن ينفث، اتركني أنفث، اتركني أتكلَّم وأنت تستمع، ابك معي، ابك لبكائي، ادمع بدمعي، أيها العالم وأيها الشيخ الجليل والوقور اترك الكلام، اترك الخطابة والوعظ، اجلس واستمع وابك، دموعك هذه أحسن من الدنيا وما فيها، أعظم عزاء بإذن الله تعالى، مَن عزى مُصاباً فله مثل أجره، بمثل هذا العزاء، لا بالمواعظ واستجلاب النصوص، يعرفها المسكين المكروث هذا.

ولذلك يقول الله تعالى وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۩، من كثرة ما كان يسمع ويسمع للكل ويُطيل الاستماع – يُطيل جداً – قالوا هُوَ أُذُنٌ ۩، هو مُجرَّد أذن، آذان فقط! كله آذان، قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ۩، هو خير يا جهلة ويا مُتصحِّرون، الله يقول لهم – للمُنافِقين هؤلاء يقول – يا جهلة ويا مُتصحِّرون هو خير لكم لو كنتم تعلمون، لكن كيف نُمارِس هذا في الحياة؟

ولذلك أنا أقول لكم من تجربتنا الشخصية فرداً فرداً لا نُحِب ولا نرتاح لهؤلاء المُتعالِمين، أصحاب المعلومات الغزيرة، الذين ليس عندهم لا وقت ولا طوق نفسي لكي يستمعوا إلينا، لا نُحِبهم، ونُحِب البُسطاء الوادعين الجهلة الأُميين الذين يبكون معنا ويستمعون إلينا، أليس كذلك؟ نُحِب هؤلاء جداً ونُحِب أن نلتقي بهم، فكُن من الثاني ولا تكن من الأول، لا تكن جاهلاً، لكن كُن مُستمِعاً تماماً، تواصل بالقلب، لا بالعقل، تواصل بالمُشاع هذا، تواصل بالشركة الإنسانية التي بيننا، لُغة العشق بضاعة أبينا آدم، بل رأس مال آبينا آدم، العشق هذا رأس مال أبينا آدم، ثم إن هذا الرأس مال هو رباني، انتبه! والله العظيم هذا لا يُشترى بمال، ولذلك أنا قلت لكم أنبل ما في الإنسان دموعه، دموع الرحمة على وجنتيه، أنبل ما في الإنسان على الإطلاق والله العظيم، أنبل من أعظم مُحاضَرة يُلقيها أحدهم في فلسفة النفس، دمعة تتحدَّر على وجنته الطيبة الكريمة، شيئ كبير هذا، شيئ كبير!

النبي كان كذلك، يبكي لأبسط الأمور في نظر الناس، يبكي مُباشَرةً ويستعبر، ونحن نرتاح لهؤلاء البشر، يجفوهم فقط الجُفاة الغلاظ، لا يُحِبون هذا، يُحِبون الاخلاق النيتشوية، أخلاق القوة والجبروت، يُحِبون السوبرمان Superman، وهذا غير صحيح، هذا الإنسان التاعس، هذا الذي سينتهي في الأخير بالجنون كما انتهى نيتشه Nietzsche، لا! ليس هذا الإنسان، انتبهوا.

ولذلك أقول لكم هذا الجانب هو جانب إلهي رباني، قال هذه رحمة، ولا تُنزَع الرحمة إلا من شقي، لا تُنزَع الرحمة إلا من هذا، فالبكاء رحمة، وكذلك حنين القلب والرقة وقشعريرة البدن وألم الفؤاد وانصداعه على مصائب الناس وأحزانهم وضعفهم وهشاشتهم وذنوبهم وتدليهم وعثارهم، سيقول لي أحدكم ما هذا؟ هل أنت صوفي؟ كيف هذا؟ هل أنت صوفي؟ هل تُريد أن تُسوّي بين الخطيئة وبين العبادة؟ انتبهوا! هنا يُوجَد خلط بين أمرين، نحن لا نتساهل مع الذنوب، لا! لا ينبغي أن نتساهل مع الذنوب، لسنا وحدويين ولسنا إباحيين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن نتساهل مع المُذنِبين، نتساهل مع الخاطئين، نتساهل مع العاثرين، نتساهل مع أصحاب الزلل، ولا نتساهل مع الذنب، ولا مع الزلل، ولا مع الخطيئة، انتبهوا! إذن كيف؟ الحرام حرام، السرقة سرقة، الفاحشة فاحشة، الكذب كذب، والانتحار انتحار، لا يُمكِن أن يأتي أحد ويُحسِّن هذه الأشياء، يقول هذه أشياء طيبة، تطيب بها الحياة وتحسن بها وتجمل بها الدنيا، مُستحيل، أعوذ بالله، بالعكس! هذه تُفسِد أشياء كثيرة، ولكن لو وقع فيها أحدهم وابتُليَ بها علينا أن نتساهل معه، وعلينا أن نرحمه.

ماذا قال النبي حين شُهِد على ماعز الأسلمي؟ جاء قريبه هزّال وشهد عليه، قال أنا الذي أغريته، وذكرت هذا في الخُطبة السابقة عن الأنسنة، النبي قال له ماذا؟ قال له يا هزّال لو أنك سترته بطرف ردائك لكان خيراً لك، هل شاطر – قال له – أنت؟ هل تظن أنك شاطر جداً بهذا؟ هل أنت انتقمت لحدود الله؟ هل أقمت حدود الله؟ النبي قال له، لماذا لم تستره؟ قال، أنت رأيت أنه تاب، انتهى إذن الأمر، عليك أن تستره، لكنك أتيت به حتى وقع ما وقع، انتبهوا إلى هذا، نحن لسنا كذلك، نحن لدينا عقلية قانونية، عقلية تشريعية، ليست عقلية ربانية، ليست مزاجاً ربانياً، ليست ثقافة ربانية، فيكف هذا؟ كيف هذا الأمر يكون إلهياً ربانياً؟ كذلك!

في الحديث المُخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – إن لله مائة رحمة، وهذا الحديث معروف لكم جميعاً، أنزل منها فيها – في هذه الأرض، في هذه النشأة، في هذه الدنيا – رحمة واحدة، رحمة من مائة! فبها تتراحم الخلائق، ترحم الأم ابنها أو أولادها والأب كذلك، هذا المعنى يفقهه تماماً أب له أولاد وأم لها أولاد، يقول هذا صحيح فعلاً، يقول أنا أنطوي على رحمة لأولادي، ووالله – يقول هذا وهو صادق – أنا مُستعِد في كل لحظة من حياتي أن أُضحي حياتي في سبيل بقائهم وهنائهم، وهذا صحيح، نقول يا سلام! شيئ جميل، ما هذه الرحمة؟ من أين؟ من أين هذا الفيض؟ النبي قال وليس هذا فحسب، قال هذا ليس في عالم الإنس والجن فقط، لا! قال حتى ترفع الفرس حافرها، لئلا تطأ ماذا؟ فصيلها أو مُهرها أو ابنها، لا تُريد أن تطأ عليه، الفرس هكذا، وأي دابة هكذا، الدواب كلها طبعاً تفعل هذا، حتى الذئبة، الذئبة شديدة الحُب لابنها الذئب الصغير، واللبؤة شديدة العشق لليثها الصغير، الكل هكذا، كل الحيوانات تفعل هذا، حتى الحية، كل شيئ! فهل هذا كله من رحمة الله؟ كل هذا من رحمة الله، كل هذه أنابيب، أوعية، ووسائط تنساب منها رحمة الله، الله يرحم أبناءنا بنا وعبرنا، نحن أنبوب ووعاء يتقبَّب الرحمة، وتنساب منه الرحمة إلى الأبناء وإلى الناس وإلى الضُعفاء، عبرنا!

قال وادخر تسعاً وتسعين رحمة، قال ادخر تسعاً وتسعين رحمة! فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إليها، فعُدنا كم؟ مائة رحمة، يرحم بها خلائقه أو خلقه، الله أكبر! لذلك كل الصحابة الذين قالوا أبشِروا فسوف ترون من رحمة الله ما لم يخطر على بال بشر صدقوا، هذا الله! كل الوجود من تجلي رحمته يا إخواني، كل هذا الكون وكل الوجود – ما علمنا منهم وما لم نعلم – هو من تجلي رحمته، لا إله إلا هو! فالآن هذا الجُزء رباني فينا، كيف هو رباني فينا؟ حين تكون رحيماً يعني ذلك أنك تكون وعاءً يَفيض أو يُفيض الله – تبارك وتعالى – عبره رحمته على خلقه، عبرك أنت! يرحمهم بك، ويرحمهم عبرك.

ولذلك سأُلخِّص مذهب الإنسية أو الإنسانية الإسلامية – أي الـــ  Islamic Humanism – بهذه الجُملة التي أختم بها هذه الخُطبة، وهي من الإنسان إلى الإنسان عبر الله، هذا جوهر إنسانيتنا، إذا سألك فيلسوف أو مُستشرِق أو رجل دين غربي أو أياً كان وقال لك ما هي الإنسانية في الإسلام كما تفهمها؟ قل له أنا أفهمها تماماً وأرجو أن أعيشها على أنها مني إلى أخي، مني كإنسان إليك كأخ في الإنسانية، إليك كإنسان، عبر الله وبالله، الله أكبر! وما كان بالله وعبر الله هل ينفصم؟هل ينقطع؟ هل يضعف؟ وهل يخيب؟

نسأل الله أن يُفقِّهنا في دينا وأن يُعلِّمنا وأن يرحمنا ويرحم بنا، اللهم ارحمنا لترحم بنا، يا غفور، يا رحيم. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                     (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

نتساهل مع المُذنِب ولا نتساهل مع الذنب، وقد ورد وصح أن الله غفر لبغي بسقياها كلباً، وغفر لرجل بأنه نحى من سابلة الناس غُصن شوك، فرآه النبي يتقلَّب في بحبوحة الجنة بغُصن شوك نحاه من طريق الناس، أحب أن يُخفِّف عن الناس، أن يدفع عنهم الضر، وغفر الله لرجل بالتوحيد، يا ابن آدم لو لقيتني بقُراب الأرض خطايا – أي بما يقرب من ملئها، ملأت الأرض خطايا – ثم لقيتني لا تُشرِك بي شيئاً غفرت لك ولا أُبالي.

إذا كنا نعلم هذا وهذا ما أتت به النصوص فالآن يأتي السؤال الذي أختم به، وهو ما الباقي؟ لكن هذا لابد أن يأتي بعد إضافة أُخرى، انتبهوا! يُمكِن إذن أن يُغفَر لأحد بتوحيده، مع أنه فعل ما فعل، يُمكِن! لا أحد يقول لا، لن يُغفَر له، مَن يقول هذا مُمكِن أن يدخل النار، مَن ذا الذي يتألى علىّ ألا أغفر لعبدي؟ اذهب فقد أوجبت لك النار وغفرت له، أخرجه مُسلِم، إياكم! إياكم أن تقولوا هذا، والنبي قال والله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يُفعَل بي، لا تستطيع أن تضمن الجنة لأحد ولا تستطيع أن تُدخِل أحداً النار من هذه الأمة، لا تستطيع! اترك الخالق للخالق كما يقول السادة العارفون، لكن الآن لم يبق مجال لتفسير هذه العبارة المُلتبِسة أيضاً، لكن إذا كان الحال كذلك وإذا كان الأمر كذلك فما الباقي؟ وفي نفس الوقت الغيبة مُحرَّمة، مُحرَّم أن تغتاب الناس، لا تقل هذا البعيد سرّاق، هذا من الزُناة، هذا سكّير، هذا كذا وكذا، ممنوع الغيبة، ما الفائدة منها؟ ممنوع! هذه من الكبائر، والشماتة مُحرَّمة، لا تُظهِر الشماتة بأخيك، فيُعافيه الله ويبتليك، ممنوع أن تشمت، لا تقل هذا البعيد في الأخير هو كذا وكذا، ها قد رُميَ في السجن لأنه كذا وكذا، ها هو يفعل كذا وكذا، إياك! الشماتة ممنوعة، الغيب ممنوعة، إشاعة الفاحشة بذكر أخطاء الناس في الناس ممنوعة، أليس كذلك؟ الحُكم عليهم بأنهم من أهل الجنة أو من أهل النار ممنوع، ما الذي يبقى؟ أنا أسألكم، هذه فلسفتنا هنا، ما الذي يبقى إذن؟ يبقى أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا بالصلاح والعافية والخير، وأن نكل أمر المدينين إلى الديّان، لا إله إلا هو! لسنا الديّانين، الديّان هو الله، انتبهوا!

هذا لا يعني أن نقول عن الحرام إنه حلال، الحرام حرام، الحلال حلال، والفواحش فواحش، لكن مَن ارتكب شيئاً منها أمره إلى الله، نسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه وأن يُصلِحه.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وأصلِحنا وأصلِح بنا واهدِنا، اللهم لا يهدي إلى أحسن الأخلاق إلا أنت فاهدِنا إلى أحاسينها، ولا يصرف سيئها إلا أنت فاصرف عنا سيئها، لبيك وسعديك والخير كُله بين يديك، إنا بك وإليك، لا إله إلا أنت سُبحانك…

(ملحوظة هامة) للأسف هذا المقطع غير مُكتمل.

(10/7/2009)

http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: