إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى: 

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

في مثل هذا الشهر الكريم – شهر رمضان – قيَّض القدر لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – أن تخفق فوق رؤوسها أعلام النصر في غيرما موقعة من مواقع الإسلام التي تُعَد مفاخر على مدى التاريخ.

وكان أعظم هذه المواقع وأجل هذه المفاخر ما قيَّضه الله – تبارك وتعالى – للمُسلِمين في السابع عشر، في يوم قريب من هذا اليوم الذي نعيش، من شهر رمضان الكريم، ذلكم يوم الفُرقان، يوم التقى الجمعان – يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۩ -، يوم بدر. 

ولنبدأ الحكاية أو القصة من أولها، تهمم الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يعترض عيراً لقريش، قوَّم ما فيها بخمسين ألف دينار، هي مُعظَم أموالهم، هي جُل ثروتهم التي يتجرون بها، وهذا ليس كما يقول بعض البُله والحمقى والمُغرِضين، لم يكن سلباً ولا نهباً ولا قطعاً لطريق، فرسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه – وإخوانه وأتباعه من المُهاجِرين قد غُلِبوا على أموالهم ودورهم، وهُضِموا حقوقهم كلها، بل أُخرِجوا من ديارهم، أُخرِجوا من ديارهم كما تعلمون، فهذا بعض حقهم، ولهم أن يستوفوه دون ملامة ودون مغمز من مُنافِق أو مُغرِض.

لكن الله – تبارك وتعالى – شاء أمراً غير ذلك، وسلكت العير سبيلها إلى بلاد الشام، ولما آن أوان أوبتها تهمم المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – كرةً أُخرى ليعترضها، وخرج في جماعة من أصحابه، ولم يكن في العزم ولا في النية قتال، لا الرسول كان يعرف أنه يُقاتِل، ولا الصحابة أُخبِروا أنهم سيُقاتِلون، العزم كله على أن يعترضوا هذه العير، لعلهم أن يُصيبوا بعض ما فيها أو جُله، خمسون ألف دينار! 

فخرج النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعد أن انتدب الناس، فندب منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، منهم نيف وأربعون ومائتان من الأنصار، والبقية من المُهاجِرين، وهكذا! 

ولكن زعيم قريش أبا سُفيان بن حرب كان يتصنَّت ويتحسَّس ويتسقَّط الأخبار، الرجل داهية، لا يُؤخَذ على غرة، وهكذا نما إلى علمه – أيها الإخوة والأخوات – أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في جماعة من أصحابه يُريدون وقد عزموا على أن يُغيروا عليهم وأن يعترضوا سبيلهم، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري – أحد بني غفار الذين كانوا يُعرَفون بسرّاق الحجيج، أساتذة ومُتخصِّصون في قطع الطريق وفي أمثال هذه الشؤون – إلى قريش يستنفرهم، يستنفرهم للزود وحماية أموالهم وعيرهم، فأقبل هذا الرجل وقد جدع أذني بعيره وشق أنفه وأيضاً حوَّل رحله ومزَّق ثوبه، أي الرجل يُريد أن يستنفرهم بكل سبب وبكل حيلة، فلما وصل قال يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، واللطيمة المقصود بها العير التي تحمل أموال التجارة، ليس من اللطم، قال اللطيمة اللطيمة، محمد وأصحابه يُريدون أن يعترضوا عيركم، وأن يأخذوا أموالكم، ولا أرى أنكم تُدرِكوها، الغوث الغوث!

وهكذا انحط رأي قريش على حرب رسول الله وأصحابه بوادي بدر، وأوعبت قريش، ومعنى أوعبت أي خرجت بقضها وقضيضها، لم يتخلَّف منهم أحد إلا ما كان من أبي لهب – عم رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام -، تخلَّف وبعث رجلاً مكانه، بعث رجلاً مكانه وأعطاه من المال والسلاح الشيئ الكثير، وكاد أُمية بن خلف – عدو الله – أن يتخلَّف، وذلكم أن سيد الأوس سعد بن مُعاذ – رضوان الله تعالى ورحماته عليه – كان قد اعتمر من قبل مكة – شرَّفها الله  -، وبينه وبين أُمية بن خلف صداقة قديمة، فقال له لقد سمعت الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول إنهم قاتلوك، والرجل يعلم أنه نبي حق، وإذا قال صدق، قال أقال بمكة؟ قال لا أدري، فلما حصل هذا الاستنفار دخله رعب شديد وخوف شديد جداً، فجلس وأراد ألا يذهب، فأتاه أبو جهل – لعنة الله تعالى عليه – مع عُقبة بن أبي مُعيط، وأبو جهل معه مكحلة ومعه مرود للاكتحال، والآخر معه مجمرة وفيها بخور، فقال له أبو جهل يا أبا عليّ اكتحل، فما أنت إلا امرأة، وقال له عُقبة تجمَّر وتبخَّر، فما أنت إلا من النساء، وأثارا بذلك نخوته، فلم ير بُداً من الخروج، لكنه عزم على أن يخرج معهم على أن يُخالِفهم بعد ذلك ويعود، لأنه أيقن أنه مقتول، أيقن أنه مقتول! سُبحان الله، على كلٍ خرج معهم، لم يتخلَّف إلا أبو لهب، وأرسل مكانه.

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يعلم بما حدث ولم يعلم بأن قريش نما إليها خبر خروجه في صحبه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وما كان في المُقابِل من أبي سُفيان إلا أن ساحل بالعير، لم يأخذ الطريق التي تمر من لدن وادي بدر أو قريباً منه، وإنما أخذ طريق الساحل ونجا بالعير، ولما أيقن أنه نجا أرسل إلى قريش مُؤثِراً النجاة والعافية، يقول لهم الأفضل ألا تكون حرب، قد عُدت بالعير، إلا أن عدو الله أبا جهل لما ساقه إليه ولما كتبه له – سُبحانه وتعالى – من هذا المصرع الهين والمصرع المُذِل قال لا، واللات والعُزى لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزور، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا، نوع من الفخر والكبرياء، ولذلك القرآن وصفهم في سورة الأنفال بما تعرفون، ولولا ضيق المقام لقارننا وعادلنا بين كل آية وبين مصداقها من الوقائع، ولكن المقام ضيق جداً، القرآن وصفهم بأنهم خرجوا أشرين بطرين، خرجوا أشرين بطرين، أشراً وبطراً ورئاء الناس ويصدون عن سيبيل الله – وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۩ -، لعائن الله على مَن مات منهم كافراً.

على كل حال وهكذا، والنبي لم يعلم إلى الآن، لم يعلم بنجاة العير ولا بأن قريش أوعبت لحربه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، حتى بلغ بوادٍ يُقال له ذفران أو الروحاء، بلغ ذفران أو الروحاء فبلغه النبأ، أن العير قد نجت، وأن قريش أوعبت لحربه وأصحابه، وهنا انقلب الأمر، وبدا وجه جاد له، وبدا وجه آخر أكثر جدةً، فجلس النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وبدأ يستشير أصحابه، وهم قلة، هم كانوا ثلاثمائة وبضع عشرة رجلاً، قيل ثلاثة عشر رجلاً وقيل خمسة عشر رجلاً، اختُلِف! وقيل سبعة عشر رجلاً، المُهِم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كما في الصحيحين من حديث البراء، أنهم كانوا على عدة أصحاب لوط، الذين عبروا معه النهر.

ولم يكن في نيته ولا في نيتهم قتال إلى الآن، وهم غير مُستعِدين أصلاً للقتال، معهم فرسان، فرس للزُبير وفرس للمقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو، الأسود حليفه الذي تبناه، أي المقداد بن الأسود، ومعهم جماعة بُعران، يُقال سبعة فقط، يعتقبونها، الثلاثة والأربعة، قريش تسعمائة وخمسون، ومعهم سبعمائة جمل، سبعمائة جمل وأكثر من مائة فرس، وسلاح وأموال، أي وهيل وهيلمان، فرق كبير جداً جداً، القدر هنا خطَّط، القدر هو الذي خطَّط، وهو الذي مكر بالمُسلِمين ومكر بالكافرين.

فقال النبي أشيروا علىّ أيها الناس، فقام أبو بكر – صدّيق هذه الأمة – وقال فأحسن، فدعا له الرسول خيراً، وقال له خيراً، ثم قام عمر وقال وأحسن، يُريد الجهاد، يُريد النفير، فدعا له الرسول بخير، وقال له خيراً، ثم قام المقداد بن الأسود أو المقداد بن عمرو – هو في الأصل ابن عمرو، لكن الأسود هو الذي تبناه، وهذه قصة طويلة، على كل حال هو المقداد بن عمرو الكندي، فارس من فُرسان الإسلام العظام – وقال يا رسول الله والله نحن معك ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۩، ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مُقاتِلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد – مكان بينه وبين المدينة خمس ليال في طريق اليمن، أي بعيد، مكان بعيد – لسرنا لا يتخلَّف منا أحد، ولنُقاتِلن من دونه حتى نبلغه أو نهلك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله، فأثنى النبي عليه خيراً، ودعا له بخير.

لكن النبي جعل يقول أيضاً أيها الناس أشيروا علىّ، أشيروا علىّ أيها الناس، لماذا؟ لأن النبي هو أحق مَن وفى بالعهد والتزم نص ميثاقه، وقد كان في العقبة بيعة، وهذه البيعة لم تكن على القتال خارج المدينة، إنما كانت على أن يمنعوه – أي الأنصار – مما يمنعون منه نساءهم وذراريهم، وليس على القتال خارج المدينة، ولذلك النبي من باب الوفاء لا يُريد أن يُلزِمهم بهذا القتال، فقام له السيد الجليل والرجل الكبير سعد بن مُعاذ – سيد الأوس – وقال يا رسول الله كأنك تعنينا، كأنك تُريدنا، قال نعم، أنا أُريدكم، أنا أُريد مشورتكم، والمُهاجِرون بالمُناسَبة خرجوا كلهم، لم يتخلَّف منهم إلا عثمان بن عفان، كان يُمرِّض بنت رسول الله، بعض الذين في قلوبهم مرض يقولون ها هو تخلَّف حتى عن بدر، أتخلَّف عن بدر؟ أصلاً لم يكن لا عثمان ولا الرسول ولا الصحابة يعلمون أنه سيكون قتال، ما هذا الإفك؟ هذا – للأسف – من تسويلات ونزعات الشياطين، الرجل كان يُمرِّض بنت رسول الله، وتخلَّف المئات، مئات! وكانوا أهل صدق وأهل حق، وسنرى كلمة سعد بن مُعاذ فيهم بعد قليل – إن شاء الله تعالى -، فلماذا يُقال بالذات في عثمان إنه تخلَّف لأنه كان يجبن عن اللقاء؟ حاشاه وكلا، وإنما كان يُمرِّض بنت رسول الله، ولقد ضرب له رسول الله بعد ذلك بسهم، وأعطاه سهمه من الغنيمة، وقال ومَن ضُرِب له بسهم فقد شهد، فأنا في حٌكم الشاهد.

على كلٍ لم يتخلَّف أحد من المُهاجِرين إلا عثمان بن عفان، والنبي الآن لا يُريد المُهاجِرين، وإنما يُريد الأنصار بالذات، لما كان من بيعة العقبة وبنودها وما كان فيها، قال يا رسول الله كأنك تعنينا، كأنك تُريدنا، قال نعم، أنا أُريدكم، قال يا رسول الله سر بنا، والذي بعثك بالحق لقد آمنا بك وصدَّقناك وشهدنا أن الله – تبارك وتعالى – ابتعثك بالحق وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة لك، ولو خُضت بنا هذا البحر – أي الأحمر – لخضناه لا يتخلَّف منا رجل واحد، ولعل الله – تبارك وتعالى – يا رسول الله أن يُريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا، فإنا لصُبُرٌ عند اللقاء، وصُدُقٌ عند الحق، جمع صبور وجمع صدوق، نعم! الأوس والخزرج كانوا فعلاً – كما يُقال – أبناء بجدتها وفرسان حلبتها، أهل قتال وأهل جهاد، معروفون بذلك! فسُرَّ النبي وتهلَّل وجهه، وقال أبشِروا وأمِّلوا بنصر الله تبارك وتعالى، والذي نفسي بيده لكأني أرى مصارع القوم الآن، انتهى! علم الرسول أنه منصور – بإذن الله تبارك وتعالى -، هؤلاء المُهاجِرون وهؤلاء الأنصار!

وسارت قريش بخيلها ورجلها وفخرها وكبريائها وأشرها وبطرها، وسار رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مع هذه الثُلة المُؤمِنة الصادقة، التي قيَّض لها القدر أعظم نصر في تاريخ الإسلام، ولولا هذا النصر لما بقيَ هذا الدين، لدرس التوحيد وعُفّيَ عليه، لذلك قال النبي اللهم إن تَهلِك هذه العصابة – ليس تُهلِك أنت وإنما تَهلِك، أي تنتهي – لن تُعبَد بعد الآن في الأرض أبداً، مصير الإسلام كله كان مُعلَّقاً على ماذا؟ على مصير المُوحِّدين في ذلك اليوم الأغر، في ذلك اليوم الأغر – في السابع عشر من رمضان – كان مُعلَّقاً مصير الإسلام!

سار النبي وساروا، وسار النبي حتى كان بالعدوة الدنيا، والعدوة هي جانب الوادي، وادي بدر وادٍ مُستطيل كبير، له عدوتان طبعاً ككل وادٍ، أي جنبتان، الجانب الذي كان أدنى وأقرب إلى المدينة اسمه العدوة المدينة، لأنه أدنى إلى المدينة، والجانب الذي كان أقصى وأبعد، اسمه العدوة – أي الجانب – الأقصى، أو القُصوى، العدوة القصوى، الجانب الأقصى، فالنبي كان في العدوة الدنيا، أي الأقرب إلى المدينة بلا شك.

طبعاً بين وادي بدر والمدينة مائة وستون كيلاً، أي مائة وستون كيلومتراً، بعيد! ليس خمسة أو عشرة أو عشرين كيلاً، وإنما المسافة هي مائة وستون، مائة وستون كيلاً أو كيلو متراً كان بين المدينة وبين وادي بدر.

فنزل النبي بالعدوة الدنيا وهي أرض دهسة سبخة، تغوص فيها حوافر الدواب وسيقان الرجال، تغوص فيها! الأرض دهسة، الرمل خفيف، لا يُناسِب القتال، فساءهم ذلك، لكن هنا يبدأ القدر، لا نقول لُعبة القدر، إنه تخطيط القدر، حكمة القدر الأعلى، أنزل الله – تبارك وتعالى – عليهم ماءً، فقد أصبحوا وحين أصبحوا وبعضهم جُنب وبعضهم مُحدِث في هذه الأرض السبخة الدهسة، ما هذا الوضع؟ أنزل الله – تبارك وتعالى – ماءً، أرسل عليهم السماء مدراراً، فسقوا وشربوا وملأوا أوعيتهم، وتمهَّدت الأرض واستقرت تحت أقدامهم، ونزل هذا المطر أيضاً برداً وسلاماً على قلوبهم، وطمأنهم وبشَّرهم، كانت بُشرى من عند الله – تبارك وتعالى -، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ۩، ما هو رجز الشيطان؟ بعضهم بدأ يظن ويقول نحن في هذا الوضع وفي هذه الظروف، وهذه ظروف غير مُناسِبة، كيف سنُقاتِل في الأرض؟ ونحن أيضاً بعضنا جُنب، نحن بعضنا جُنب – يُقال جُنب للمُفرَّد والمُجمَّع والمُذكَّر والمُؤنَّث -، وبعضنا مُحدِث، أي الشيطان بدأ يُسوِّل لهم، فأذهب الله عنهم بهذه النعمة رجز الشيطان، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ۩، وكان هذا المطر طالع سوء – والعياذ بالله – والنقمة على الكفّار، إذ توحَّدت الأرض، وحَّد الأرض في العدوة القصوى تحت أقدامهم، حتى ما يستطيعون أن يرتحلوا، وهكذا!

ولما نزل النبي هذا المنزل جاءه كما تعلمون أحد الخزرج، رجل معروف بجودة رأيه وبدُربته في الحرب، اسمه الحُباب بن المُنذِر الخزرجي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً – أي تراه منزلاً – أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدَّم أو نتأخَّر عنه، أم هو – أي الشأن، هنا هذا للشأن – الحرب والخدعة والمكيدة – وفي رواية الحرب والرأي والمكيدة -؟ قال بل الحرب والخدعة – أو الرأي – والمكيدة، قال فهذا ليس بمنزل يا رسول الله، لا! هذا التخطيط الحربي ليس جيداً، هذا ليس بمنزل يا رسول الله، انظروا إلى التواضع، تواضع رسول الله، يسمع لهم، يسمع ويُنفِّذ، قال فماذا ترى يا حُباب؟ قال أرى يا رسول الله أن نسير حتى ننزل أدنى ماء من القوم – أقرب ماء – فنبني عليه بئراً، ثم نُغوِّر ما بعده – أي ما وراءه – من الماء – من الآبار -، كيف؟ يحفرون حفراً كثيرةً في الأرض فيغور الماء، يبقى الماء فقط في جهة المُسلِمين، ونبني عليه حوضاً، فنشرب ولا يشربون، فنُقاتِل في وضعية أحسن بكثير، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لقد أشرت بالرأي، هذا هو الرأي، قال لقد أشرت بالرأي، وهكذا فعلوا! وفعلاً جاء الكفّار وليس عندهم ماء، غار الماء كله، وبقيَ الماء فقط في جهة المُسلِمين، في عدوة المُسلِمين.

وأشار أيضاً سعد بن مُعاذ، من المشورات الصائبة أو من صائب المشورات مشورة السيد الجليل سعد بن مُعاذ، سعد بن مُعاذ الذي حين تُوفيَ اهتز له عرش الرحمن، ونزل سبعون ألف ملك يُشيِّعون جنازته – رضيَ الله عنه وأرضاه -، رجل من رجالات الإسلام العظماء – رضوان الله ورحماته عليه -، طبعاً استُشهِد بقريظة في القصة المعروفة.

على كلٍ وأشار سعد بن مُعاذ، قال يا رسول الله أرى أن نبني لك عريشاً، طبعاً بُنيَ على تل مُشرِف، مثل مقر القيادة، لماذا؟ حُباً في رسول الله، ومُحاذَرةً عليه من الأذى أو أن يُؤخَذ، قال يا رسول الله أرى أن نبني لك عريشاً، ونُعِد لك ركائبك، أي الأفراس مُجهَّزة للهرب بها، ثم نُقاتِل القوم، فإن أظهرنا الله – تبارك وتعالى – عليهم ونصرنا كان ما أحببنا، وإن كانت الأُخرى – لا قدَّر الله – ركبت ركائبك ولحقت بإخواننا بالمدينة، فقد خلَّفت رجالاً بالمدينة ما نحن بأشد حُباً لك منهم، انظر إلى التواضع، لم يتبجَّح – كأن يقول نحن أتينا هنا للقتال وهم لم يُقاتِلوا – أبداً، رجل مُتواضِع جداً، ويصف الأمر كما هو، يصف الواقع! فقد خلَّفت رجالاً – خلفك – بالمدينة ما نحن بأشد حُباً لك منهم، ولكن ما دروا أن سيكون قتال، ولو دروا ما تخلَّف منهم أحد، موجودون بالمئات هناك! فتلحق بهم، فينصرونك ويُناصِحونك يا رسول الله، ولا يُصيبك سوء، فالنبي أيضاً دعا له بخير، وقال له خيراً.

وبُنيَ العريش، ومَن كان الحارس؟ أبو بكر الصدّيق – رضيَ الله عنه وأرضاه -، في بعض الروايات انتدبوا مَن يكون حارساً؟ فخافوا، لماذا؟ سيكون وحده، وربما تأتيه غارة – فرقة أو رعلة كما يُقال – من المُشرِكين، فكيف يتصدى لهم؟ إلا أبو بكر، قال أنا، مُباشَرةً! ورضيَ النبي، فوقف شاهراً سيفه، وحده يحرس رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهكذا بات الرسول وباتوا ليلتهم، خير ليلة كانت في تاريخ الإسلام، ورأى النبي ليلة المعركة، أي ليلة يومها، السابع عشر، رأى الكفّار وقد أقدموا وأقبلوا وهم قلة، قلة يلفظهم البصر ويزدريهم الناظر، ففرح النبي واستبشر، وأخبر أصحابه أنهم قلة، مع أنه حين تنصَّت وتسقَّط الأخبار في رواية معروفة طبعاً – أي الراعي هذا، راعي قريش – عرف النبي بطريقة الاستنباط أنهم بين التسعمائة والألف، وقد حزرهم جيداً وتخرَّص بهم بطريقة عجيبة، قال هم بين التسعمائة والألف، وقد كانوا كذلك، تسعمائة وخمسين كانوا، لكن الله أراه إياهم قلة في المنام، إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩، وأخبر الصحابة واستبشروا بذلك.

لما أصبحوا النبي كان في العريش، وكان أشد ما كان شفقاً وخوفاً على أصحابه، لأنهم كانوا قلة، وليسوا مُتهيئين وليسوا مُستعِدين، وقد برز منهم أيضاً قلة قليلة جداً لم ترغب في القتال، وكانت ترغب في ماذا؟ في العير، في القافلة! وكرهوا ذات الشوكة، كرهوا الحرب كما قال الله – تبارك وتعالى -، لم يُريدوا ذلك، وقال بعضهم لو أخبرتنا أن سيكون قتال لاستعددنا، لأخذنا العُدة والأُهبة، فالنبي خاف وأشفق عليهم، فوقف – عليه الصلاة وأفضل السلام – في عريشه، وجعل يدعو، يستنجز الله – تبارك وتعالى – نصره ووعده، اللهم نصرك ووعدك الذي وعدتني، اللهم إن تَهلِك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض بعد اليوم أبداً، وهكذا ظل يستنجز ويستغيث ويدعو ويبتهل واجفاً ضارعاً راجياً حتى سقط رداؤه الشريف إلى الأرض، فأخذه الصدّيق وأعاده، وضعه على منكبيه الشريفين، وقال يا رسول الله كفاك مُناشَدتك لربك، فإن الله سيُنجِز لك ما وعدك، كفاك! النبي يتخوَّف عليهم، معركة فاصلة، يتوقَّف عليها مصير الإسلام والتوحيد والدين كله، كل الدين! وهكذا.

وأقبلت قريش من خلف الكثيب – من خلف الكثيب في العدوة القصوى -، فلما رآها النبي رفع يديه وقال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلها ورجلها وفخرها، تُحاد دينك وتُكذِّب نبيك، اللهم أحِنهم الغداة، من الحين، والحين هو الهلاك، أي أمِتهم، اقض عليهم، اللهم أحِنهم الغداة، أي هذا الصباح، هذا اليوم، دعا عليهم – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وأقبلوا، ولما أقبلوا قُلِّلوا في عين المُسلِمين، رآهم المُسلِمون قليلين جداً، والكفّار جداً رأوا المُسلِمين قليلين جداً، أقل مما هم في الواقع، أي ربما رأوا المُسلِمين ستين أو سبعين، والمُسلِمون رأوهم كذلك أيضاً، بالعشرات وليس بالمئات! حتى قال ابن مسعود لقد قُلِّلوا يوم بدر في أعيننا حتى أني قلت لرجل بجانبي أتُراهم سبعين؟ قال أُراهم مائة، أُراهم تعني أظنهم، أَرى تعني أعلم، وأُرى تعني أظن، يُوجَد فرق بين أَرى وأُرى، إذا قلت أُراهم فستعني أظنهم، إذا قلت أَراهم فستعني أعلم بيقين، هو قال لرجل بجانبه أُتَراهم سبعين؟ فقال أُراهم مائة، أكثر قليلاً، مائة تقريباً! وهم كانوا ألفاً إلا خمسين، قلت لماذا؟ لكي يجرؤ كل فريق على الفريق الآخر، وتكون الواقعة، من مكر القدر، من تخطيط القدر، حتى لا يكع لا هؤلاء ولا هؤلاء، هذا عند المُراءة كما ذُكِر في سورة الأنفال أيضاً، وهكذا!

المُناوَشة الأولى كانت من مُشرِك، وهو الأسود بن عبد الأسد المخزومي، أقسم يميناً مُغلَّظة ليردن حوض الماء – حوض المُسلِمين -، فليشربن منه أو ليموتن دونه، مُمتاز! ساقه القدر إلى مصيره، وهكذا أقبل مُباشَرةً، فقام له أسد الله حمزة عم رسول الله، ابن عبد المُطلب، فضربه بسيفه فقطع نصف ساقه، لكن الرجل إبراراً لقسمه – مُشرِك عنيد، مُخلِص في شركه والعياذ بالله – ظل يزحف حتى رمى نفسه على حافة البئر، فعاد له حمزة، فضربه الثانية، جعله مع أمس الغابر، قتله مُباشَرةً! وفار الدم في العروق، في عروق المُشرِكين، وتأهب المُسلِمون للقتال، لكن النبي منعهم، ليس الآن، ليس في هذا الوقت، كل شيئ في أوانه.

النبي كان في العريش، وأخذته سنة من النوم بعد الدعوات الواجفات، ثم قام مُستبشِراً وقال أبشِر يا أبا بكر، فقد أتاك النصر، قال أبشِر يا أبا بكر، فقد أتاك النصر، قال ما هو يا رسول الله؟ قال لقد رأيت جبريل على عنان فرسه في ثنايا النقع، هناك أقبل جبريل، إذن مدد إلهي، مدود وفتوح غيبية، الملائكة ستنزل! إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ۩، مَن الذي استغاث؟ رسول الله، لكنه استغاث باسمهم جميعاً، بلسان حالهم جميعاً، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ۩، أي مُتتابِعين، يردف بعضهم بعضاً، خمسون خمسون ومائة ومائة، وهكذا! هذا معنى مُرْدِفِينَ ۩، بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ۩، أبشِر يا أبا بكر، فقد أتاك النصر، هذا هو!

وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدّ وُجُوهَهُمْ                                  جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمّدُ.

صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، وهكذا قام النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُحرِّضهم بعض تحريض، ليس على أشده، التحريض أتى بعد ذلك، بعد المُبارَزة، وقال لهم إن الصبر في مواطن البأس مما يُفرِّج الله به من الهم ويُنجِّي به من الغم، فاصبروا! الذي يصبر اليوم – إن شاء الله – حياته بعد ذلك تُصبِح رخية وادعة طيبة – إن شاء الله -، لا هم فيها ولا غم، فاصبروا اليوم، هكذا رغَّبهم – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وبدأت المُبارَزة، خرج ثلاثة منهم، من أعيانهم ومن كبرائهم، عُتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، أي عُتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابن عُتبة الوليد بن ربيعة، وله ابن آخر كان مع المُسلِمين، كان مُسلِماً، وكان مع المُقاتِلين والمُجاهِدين، وهو أبو حُذيفة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، خرجوا وطلبوا المُبارَزة، فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار، خرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار وهم مُعوِّذ وعوف ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة – الشاعر، رضيَ الله عنه وأرضاه، شهيد مؤتة -، خرجوا حاملين لسيوفهم، قالوا مَن أنتم؟ قالوا رهط من الأنصار، فقال القرشيون أكفاء كرام، يُوجَد احترام! أكفاء كرام، هذه فروسية وهذه أخلاق الفروسية والعربية، أكفاء كرام، لا نقول شيئاً، رجال ونعم الرجال، ولكن أخرجوا إلينا أكفاءنا من بني عمومتنا، فقال النبي قُم يا عُبيدة، يعني عُبيدة بن الحارث بن المُطلِب، بعض المُؤرِّخين للأسف كالشيخ الخُضري يكتب ابن عبد المُطلب، وهذا خطأ كبير، ليس ابن عبد المُطلب، هو عُبيدة بن الحارث بن المُطلِب، وليس عبد المُطلِب، وهؤلاء بنو عمومة هاشم، من بني هاشم، وهناك حمزة أسد الله وعليّ – رضيَ الله عنه وأرضاه -، إذن اثنان من بني هاشم وواحد من بني عمومتهم، وهو عُبيدة بن الحارث بن المُطلِب، قال اخرجوا إليهم فخرجوا، وعُبيدة كان الأسن، فبارز عُتبة بن ربيعة، وحمزة بارز شيبة بن ربيعة، وعليّ بارز أصغرهم – لأن عليّاً كان أيضاً فتىً وكان شاباً مُكتمَل الشباب والفتاء – الوليد بن عُتبة، فأما حمزة وعليّ – رضوان الله تعالى عليهما – فأجهزا على صاحبيهما مُباشَرةً، وأما عُتبة بن ربيعة وعُبيدة بن الحارث بن المُطلِب فاختلفا بضربتين، كلٌ منهما أصاب الآخر بضربة، فكر حمزة وعليّ – عليهما الرضوان والرحمة – إلى المُشرِك، فدففا عليه، جهزا عليه، واحتملا صاحبهما إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فأفرشه قدمه، وضع خده على قدم رسول الله، فطابت نفسه بذلك، سُرَّ بذلك، هذا الشهيد الحي سُرَّ بذلك، ثم قال له يا رسول الله لوددت أن أبا طالب كان حياً اليوم ليعلم أني أحق به من قوله:

ونُسْلِمُهُ حتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ                                  وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلائِلِ.

نحن الذين فعلنا هذا، صُرِّعنا الآن دونك على ألا يمسك سوء يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، ثم لم يلبث أن مات شهيداً من أثر جراحته، فقال النبي أشهد أنك شهيد, النبي قال أشهد أنك شهيد!

كانت هذه المُبارَزة، والآن بلغت القلوب الحناجر في الفريقين، والقوم هنا وهناك وقوف لا يريمون، وجعل النبي يُسوِّي الصفوف الآن، قبل أن ينطلق القتال ويلتحم الصفان، جعل النبي يُسوِّي الصفوف ويُحرِّض على القتال، ويقول والذي نفسي بيده لا يُقاتِلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل مُقبِلاً، غير مُدبِر، صابراً، مُحتسِباً، إلا أدخله الله الجنة، ومَن قتل قتيلاً فله سلبه، قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

قال قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ورأى في الصف سواد بن غزية – رضيَ الله عنه وأرضاه – وقد برز ببطنه في الصف هكذا عن عمد، تقصَّدها! فضربه النبي بقضيب – عود هكذا – كان معه، ضربه على بطنه، فقال يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقِدني من نفسك، فكشف النبي عن بطنه – صلى الله عليه وسلم – عن رضا، وقال له دونك فاستقد، العدل حتى في هذا الموقف، العدل دائماً موجود، حتى في هذه اللحظات الحرجة! دونك فاستقد، فاعتنق النبي وجعل يُقبِّل بطنه، قال يا سواد ما حملك على ما فعلت؟ عرف النبي مقصوده، فقال يا رسول الله قد حضر ما ترى – هناك قتال وهذه لحظة موت أو هذه ساعة موت – فأحببت أن يكون آخر العهد منك أن يمس جِلدي – هذا اسم – جلدك، فدعا له النبي بخير، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

ولما قال النبي قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قام رجل جليل اسمه عُمير بن الحمام وقال يا رسول الله عرضها السماوات والأرض؟ فعلاً؟ قال نعم، قال بخٍ بخٍ، أي كلمة رضا واستحسان، هذا شيئ مُمتاز أستحسنه، قال بخٍ بخٍ، فقال – صلى الله عليه وسلم – ما الذي حملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال لا يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، ليس أمر آخر، فقط الذي حملني رجاء أن أكون من أهلها، قال لا يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال أنت من أهلها – إن شاء الله -، بشَّره النبي! وكان في يده تمرات، كان في قرنه أو زوادته تمرات، كان يأكلها، يتبلَّغ بها واحدة إثر واحدة، وهكذا! قال إنها لحياة طويلة إن أكلت هذه التمرات كلها، وقت طويل! أأنتظر لرُبع ساعة أيضاً أو عشر دقائق؟ فرماها، ثم أقبل مُباشَرةً يُناجِز عدوه، وهو يُنشِد مُرتجِزاً:

رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ، إِلَّا التُّقَى وَعَمَلَ المَعَادِ، وَالصَّبْرَ فِي اللَّهِ عَلَى الجِهَادِ، وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ، غَيْرَ التُّقَىَ وَالبِرِّ والرَّشَادِ.

وظل يُقاتِل حتى سقط شهيداً – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ولم يأكل التمرات، يأكلها في الجنة – إن شاء الله – وما هو خير منها.

وجاء عوف بن الحارث وقال يا رسول الله ما الذي يُضحِك الرب من عبده؟ ما أكثر شيئ يجعل الله راضياً فرحاً بعبده؟ ما الذي يُضحِك الرب من عبده؟ قال غمسه يده في عدوه حاسراً، والمقصود باليد هنا ماذا؟ السيف، أن يضرب بسيفه من غير درع، حاسراً من درعه، قال غمسه يده في عدوه حاسراً، فألقى درعاً كانت عليه، رمى بها هكذا، وجعل أيضاً يُناضِل ويُقاتِل حتى سقط شهيداً – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

مشهد مُؤثِّر جداً، طبعاً التحم – كما قلنا – الصفان، التحم الصفان، نطقت الأسنة وسكتت الألسنة، وقامت المعمعة الحمراء، ودارت رحى الحرب الضروس، وتطايرت الرؤوس، ومشاهد مُؤثِّرة وعجيبة جداً، يقول أبو بكر الصدّيق يا رسول الله دعني لأكون من الرعلة الأولى، أراد أن ينزل مُباشَرةً وأن يُقاتِل، ويُقاتِل مَن؟ ابنه الكافر – الذي كان كافراً آنذاك – عبد الرحمن بن أبي بكر، قال دعني، يُريد أن يكر عليه، وكان شاباً وفارساً قوياً، دعني لأكون من الرعلة الأولى، الرعلة هي القطعة من الخيول، وقيل هي المُقدَّمة، التي تكون في المُقدَّمة، أي من مُقدَّمة المُجاهِدين الذين يطلبون الشهادة، قال تأخَّر يا أبا بكر وأمتِعنا بك، أما تعلم أنك منا بمنزلة السمع والبصر؟ رفض النبي، لا يُريد أن أبا بكر يموت، لا يُريد! قال تأخَّر يا أبا بكر وأمتِعنا بك – أي أمتِعنا ببقائك -، أما تعلم أنك منا بمنزلة السمع والبصر؟ أخوه وصاحبه، وهكذا!

وأما أبو عُبيدة عامر بن الجرّاح – أبو عُبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح – فكان أبوه يترصَّده، عبد الله! اسمه عبد الله وكان مُشرِكاً – ومات مُشرِكاً -، فكان أبوه يترصَّده، يُريد أن يقتل ابنه، والابن يحيد رعايةً لحق الأبوة، لكن أباه ضيَّق عليه جداً، حتى اضطره إلى قتله، فقتل أباه وذلك في الله – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وسُميَ بعد ذلك أمين الأمة سنة تسعٍ في وفد نجران كما هو معلوم، أبو عُبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

قتل الفاروق عمر بن الخطاب هشام بن العاص وكان خاله، قتله أيضاً، وقصد أن يقتله، مواقف غريبة وعجيبة حصلت في بدر، وما هي إلا ساعة حتى انجلى الغبار وتمايز الفريقان عن نصر، انتهت المعركة عن نصر ساحق مُظفَّر للمُسلِمين، قُتِل من الكفّار سبعون، وأُسِر مثلهم إليهم، وسقط من المُسلِمين – اصطفاهم الله تبارك وتعالى – أربعة عشر شهيداً، ستة من المُهاجِرين وثمانية من الأنصار فقط، هذه كل خسائر المُسلِمين، وهي ربح – إن شاء الله تبارك وتعالى – لهم، أربعة عشر شهيداً فقط، وهكذا!

وأمر النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأن تُسحَب الجُثث إلى قليب بدر، والقليب هي البئر لم تُطو، ومعنى لم تُطو أي لم تُبن بالطوب، فانهارت، فتُسمى قليباً، فإذا طُويت – أي بُنيت بالطوب – فلا يُقال لها القليب، على كلٍ أمر النبي بأن تُسحَب الجُثث إلى قليب بدر، هذه بئر مُنهارة، لم تُطوَّب، أي لم تُطو، فأمر النبي بأن تُسحَب إليها الجُثث وتُرمى فيها، وقد روى الإمام الدارقطني أن النبي كان من عادته في كل معاركه أنه إذا مر بجيفة أو إذا مر بإنسان مقتول يأمر به فيُدفَن، لا يسأل مُؤمِن هو أو كافر، وهذا من رحمته وإنسانيته – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وهكذا سيقت جُثث كل هؤلاء إلى القليب، حتى إذا كانت النوبة على مَن؟ على ربيعة، نظر النبي إلى ابنه أبي حُذيفة، فوجده كئيباً وقد تغيَّر وجهه، فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا أبا حُذيفة أوجدت في نفسك لما أصاب أباك؟ فقال لا والله يا رسول الله، ولكنني كنت أعرف أبي رجلاً ذا رأي وفضل وحلم، وكنت أرجو له الإسلام، فلما حضر ما حضر وأصابه ما أصاب بعد الذي كنت أرجو له فذلك الذي أحزنني، أبوه طبعاً! كان يتمنى أن يموت مُسلِماً، ولكنه مات كافراً – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، وهكذا!

ولما كان الليل جاء النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إلى هذا القليب، وجعل يُخاطِبهم، يقول لهم يا أهل القليب، يا وليد، يا ربيعة بن عُتبة، يا شيبة بن عُتبة، يا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقالوا يا رسول الله أتُخاطِبهم وقد جيَّفوا؟ قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون الإجابة، يسمعون! وهذا وعد الله – تبارك وتعالى -، وهذا نصر الله الذي وعد به.

كان منهم كما ذكر النبي هنا أبو جهل – لعنة الله تعالى عليه -، أبو جهل في بداية المعركة كان في غابة من الرجال، أسنة ورماح! ويقولون أبو الحكم لا يُوصَل إليه، هذا رأسهم، أبو الحكم لا يُوصَل إليه، لكن تحت كرات المُجاهِدين الأشاوس الميامين تفرَّق عنه هؤلاء صرعى، ومنهم مَن أطلق ساقه أو ساقيه للريح، حتى ظل وحده، يقول عبد الرحمن بن عوف والحديث صحيح – في الصحيحين -، يقول فجاءني فتيان – أي غُلمان صغيران، ليسا رجلين كبيرين -، فأسر إلىّ أحدهما سراً من صاحبه، قال لي يا عم، أين أبو جهل؟ هو لا يعرفه، فقلت له يا ابن أخي، وما تُريد إليه؟ قال أقسمت إن رأيته لأقتلنه أو أموت دونه، عجيب! ما هذا الفتى؟ قال ثم جاءني أخوه – الفتى الآخر – وقال يا عم، أين أبو جهل؟ وقال مثله، قال فأشرت لهما إليه، قال وما يسرني أنني بهما بين رجلين، أي وقوفي بينهما خيرٌ وأحسن من أن أقف بين رجلين، هذان فارسان كبيران، وهما فتيان، مُعاذ بن عمرو بن الجموح ومُعوِّذ أو مُعوَّذ – فيها الوجهان – بن عفراء، لذلك هو قال – عبد الرحمن بن عوف قال – وهما ابنا عفراء، هذا على سبيل التغليب، هما ليسا ابنا عفراء، فقط مُعوِّذ فعلاً ابن عفراء، وعفراء أمه، لكنه قالها على سبيل التغليب، وإلا فالأول – مُعاذ بن عمرو بن الجموح – أبوه سيسقط شهيداً في أُحد، معروف الأعرج! عمرو بن الجموح، والثاني هو مُعوِّذ أو مُعوَّذ بن عفراء، قال فلما دللتهما عليهما – أشرت إليه – شدا عليه كالصخرين، هذان الفتيان! فجعلا يضربانه حتى الخمد.

ثم جاء بعد ذلك عبد الله بن مسعود – رضيَ الله عنه وأرضاه – وجلس على صدره وبه رمق، فنظر عدو الله وقال ألست رويعينا في مكة؟ أي أنت الراعي، كنت راعياً لنا! قال ألست رويعينا في مكة؟ قال نعم، قال ما فعل محمد؟ قال له الدولة، ونصره الله، في بعض الروايات قال أخبره أنني لا أُؤمِن به وإن كان رأسي في قعر جهنم، قال له يا عدو الله، واجتز رأسه بسكين كانت معه، وحمله إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هذا عدو الله أبو جهل.

وأما أُمية – لعنة الله تعالى عليه – فقد رآه بلال بن رباح، وهو الذي كان يُعذِّب بلالاً في بطحاء مكة وفي رمضائها، في القيظ والهجير الشديد! رآه بلال – مُؤذِّن الإسلام -، فلما رآه صاح أُمية! لا نجوت إن نجا، لكنه كان أسيراً هو وابنه، أُمية وابنه كانا أسيرين في يد عبد الرحمن بن عوف، فدرأ عبد الرحمن بلالاً عنهما، فصاح بلال يستنجد بالأنصار، يا معشر الأنصار أُمية عدو الله، لا نجوت إن نجا، فغلبوا عليه وعلى ابنه عبد الرحمن بن عوف فقاتلوهما، لعنة الله تعالى عليهما، فذهبما إلى الجحيم.

نصر ساحق عظيم جداً، وأنزل الله قرآناً، تقريباً سورة الأنفال كلها تدور حول معركة بدر، حول يوم الفُرقان، حول أعظم انتصار سجَّله المُسلِمون في تاريخهم، قد أمدهم الله – تبارك وتعالى – بالملائكة، ملائكة جاءت للتكثير، وملائكة جاءت لقذف الرُعب في قلوب الكفّار، ولقذف الأمن والطمأنينة وتثبيت قلوب المُؤمِنين، وبعضها قاتلت، وهذا هو الرأي الصحيح الراجح – إن شاء الله تعالى -، بعضها قاتلت وأنجزت ما أمرها به – سُبحانه وتعالى -، إنه يوم الفُرقان، يوم بدر!

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنجِز للمُسلِمين ما وعدهم في هذا الزمان وفي كل أوان، اللهم اكتب لنا نصراً عاجلاً مُظفَّراً مُؤزَّراً، وأعل كلمة التوحيد، بعزك وجاهك يا قوي، يا متين، يا عزيز، يا قهّار.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                 (الخُطبة الثانية)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُجاهِدين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أيها الإخوة والأخوات:

بعد ذلك ما كان في أعقاب هذه المعركة لم يبق وقت لكي نخوض فيه، فنسأل الله تبارك وتعالى – إن يسَّر لنا وقدَّر لنا – أن نتناوله بالتفصيل في دروس التفسير التي تُعقَد بعد صلاة التراويح – إذا بلغنا تفسير سورة الأنفال -، لنتكلَّم بعد ذلك عما كان بخصوص الغنائم والأنفال، وعما كان بشأن الأسرى، ونتكلَّم أيضاً عن فضائل البدريين، عن فضائل وخصائص ومزايا البدريين، فلهم خصائص وفضائل لا تُدرَك، حتى أن الله – تبارك وتعالى – قد غفر لهم ما أسلفوا وأيضاً ما أخَّروا من ذنوبهم.

وكان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُحِب أن يُشنأ بدري أو يُتكلَّم فيه أو يُقال إنه من أهل النار أو أهل النفاق، وكان يُكذِّب مَن قال ذلك، يقول له كذبت، لقد شهد بدراً والحُديبية، فهناك رجل أتى أشياء غريبة، سوف نراها في دروس التفسير، أتى أشياء غريبة جداً جداً، أي لا يأتيها مُسلِم صادق، فأحد الناس قال إنه من أهل النار، فقال – أي النبي – كذبت، ليس من أهل النار، لأنه شهد بدراً، وهؤلاء لهم الجنة – إن شاء الله تبارك وتعالى -، نعم! على دمائهم وعلى جهادهم وعلى متونهم وبأعضادهم وبأكفهم قام صرح الإسلام العظيم.

اللهم إنا نسألك أن تنصرنا نصراً عزيزاً مُظفَّراً مُؤزَّراً، اللهم لا تدع لنا في هذا المقام الكريم في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه يا رب العالمين، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه.

اللهم اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، اللهم زِدنا ولا تنقصنا، اللهم أعِزنا ولا تُذِلنا، اللهم كُن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وخذِّل عنا ولا تخذلنا يا رب العالمين، وكَن في كل أمرنا بالخير والرشاد والتسديد.

اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم عليك بمَن أراد هذا الدين وأهله بسوء، اللهم اكفنا شرورهم بما شئت وكيف شئت، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، ورُد كيدهم إلى نحورهم يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(14/11/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: