إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ۩ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ۩ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ۩ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۩ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

هل يُمكِن للمرء أن يكون والداً جيداً وفي الوقت ذاته أن يكون زوجاً مُتميِّزاً وصديقاً كريماً ورئيساً ومرؤوساً وجاراً ومعرفةً في الجُملة جيداً ومُمتازاً؟ يُمكِن ذلك.

بعض الناس – أيها الإخوة والأخوات – تجدونه فيما يُزعَم أو فيما يظهر ويلوح والداً جيداً، إلا أنه ليس زوجاً جيداً، وقد تجدونه صديقاً مُمتازاً، لكنه ليس زوجاً كريماً، وهلم جرا! فهل يُمكِن للمرء أن يكون ذلكم الجيد المُتميِّز من كل وجه وفي كل مجال ونطاق؟ نعم.

وحجر الزاوية ومفتاح السر كما يُقال أن يكون على خُلق رفيع، وهو خير ما يُؤتاه – أيها الإخوة والأخوات – المُؤمِن، أن يُؤتى الخُلق الحسن الرفيع، هذا الخُلق فضل عظيم ونعمة جسيمة، يُؤتاه بعض الناس، فلا يظهر منه ما يسوء، تحسن عشرته، ويحسن حضوره، ويُكرَم مغيبه، وعُقباه على شاكلة دُنياه، حسنةٌ حميدةٌ بإذن الله تبارك وتعالى.

لكن هذا كلام يسهل قوله ويسهل تقريره، ورب سائل يسأل وما هي الطريق الأقصر والأضمن لبلوغ هذه المنزلة العلية – منزلة الخُلق الحسن الشامل العام -؟ لا أجد جواباً عن هذه المسألة إلا في قول القائل أن يقترب المرء من الله تبارك وتعالى، لذلك مَن كان خُلقه حسناً في خُويصة نفسه ومع الناس أجمعين لابد أن يكون بمعنى من المعاني من أهل الله تبارك وتعالى، لأن الاقتراب من الله – سُبحانه وتعالى – اقتراب من مصدر الجمال الأكمل المُطلَق والجلال المُطلَق الأكمل والجود والكرم والعطاء والعفو والتسامح والمغفرة وكل هذه المعاني الجميلة والجليلة في إطلاقها، فمَن يقترب مِن الله حقاً – لا دعوىً وزعماً أو خداعاً للنفس وتمثيلاً على الخلق، إنما حقاً وحقيقةً – ودون أن يدري وربما دون أن يتنبَّه إلى هذا يستحيل خُلقه شيئاً فشيئاً، فيُصبِح أشبه بالعُرفاء والصُلّاح، لينتهي أن يكون شبيهاً للأنبياء والمُرسَلين، لأنهم الأقرب من رب العزة تبارك وتعالى.

حين يكون أحدنا فقيراً يضمه مجلس أبداً مع الفقراء من أمثاله والمحاويج، نطاق حديثه وتفكيره وهمه واجتهاده في القروش والملاليم، وهو يراها كبيرة ومُهِمة، ويُحسِن جمعها وطرحها وضربها وقسمتها وتدبيرها، فإذا أسعدته الحال وارتقى به الشأن فصار يُجالِس أصحاب الملايين بسبب من أسباب المُجالَسة لم يعد يحفل ولا يهتم بالملاليم ولا بالقروش، يصير نطاقه تفكيره في الملايين، لأنه يُجالِس هؤلاء.

مَن كان مُعلِّم أطفال وأدركته حرفة الأدباء كما كان العرب القدماء يقولون – أتعسه الزمان، فأدركته حرفة الأدب، فصار مُعلِّم أطفال – يكون نطاق تفكيره وتفلسفه وتعانيه المعنوي بسيطاً جداً جداً، وقد يرى نفسه على أنه مُتفرِّد وناجح وأنجز، لأنه أفلح في إيصال بعض الأفكار العميقة نوعاً إلى هؤلاء الصبية الصغار، فإذا ما ارتقى به الحال فصار يُجالِس أهل الفكرة والعبرة وأهل العُمق وأهل الغور والسبر علم ما كان فيه من لعب وتصاب، وصار لا يقنع إلا بمُزاوَلة المهام العالية الجادة الرصينة في عالم الأفكار.

مَن مضت حياته وهو يدور في نطاق اجتماعي ضيق – هذا فعل وهذا ترك وهذا أخذ وهذا أعطى وهذا قال وهذا مدح وهذا قدح وهذا منح وهذا منع وهذا رفع وهذا خفض – تُستهلَك حياته وينفذ عمره في السفاسف والسخافات والرقاعات، ويعود كائناً مُجهَضاً، لا نتيجة منه، لا طائل تحته للأسف، أمره فُرط، كان أمره فُرطاً، لم يجتمع على شيئ، ليس له نُقطة ارتكاز.

تحدَّثنا مرةً عن نُقطة الارتكاز الداخلية هذه، التي بحث عنها بعض رجالات الفكر والبحث عن المعنى الكبار، مثل كيركجور Kirkjour الذي قال لو وجدت نُقطة ارتكازي لغيَّرت العالم، لكنه لم يجدها، نحن واجدوها بإذن الله تبارك وتعالى، مَن أُوتيَ الحكمة سيجدها، إنها تعتمد على متانة وجدية وصفاء وشفافية العلاقة برب العالمين، لا إله إلا هو! قال وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، هذه نُقطة الارتكاز، هذه هي نُقطة الارتكاز! ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩.

لا يُعطي حين يُعطي ولا يفعل حين يفعل ولا يقول حين يقول من أجل أن يُقال، هذا لا يعنيه، هذا ليس في حسابه بتة، لأنه رجل وامرؤ واجد نُقطة ارتكازه الذاتية، وهذه النُقطة مُستحيلة بغير الله تبارك وتعالى، أنا أقول لكم مُستحيلة، ولذلك هذا غني، أغنى الأغنياء هو هذا، الذي وجد نُقطة التثبيت من نفسه ونُقطة الارتكاز، غني! تزول الجبال ولا يزول، يتلحلح الكون ولا يتقلقل هو ولا يتزلزل، ولذلك يغدو لُغزاً مُصمَتاً، لا يفهمه الناس، لا يفهمون مبادئه، وقد يُتهَم ويُوصَم بالجمود أو بالعناد أو بالغرور أو بالتمرد، لأنه يخرج على قواعدهم، ولا ينحشر في موازينهم وفي أطرهم ونماذجهم، هذا الشخص أكبر من الكون نفسه، نعم! هذا عبد الله، عبد لله وحده، ليس عبداً لمصلحته ولا لشهوته ولا لأهواء الناس ولا لما يُنتظَر منه، اللهم اجعلنا على هذا الطِراز، وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩.

ولذلك أمثال هؤلاء قمينون ومُهيأون أن يُغيِّروا الوجود، أن يُغيِّروا الكون، هؤلاء يستطيعون هذا بهذه القوة المعنوية المُذهِلة والمُحيِّرة، والتي تُشكِّل لكل مَن لم ينعم بشيئ منها ولم يذق ذوقها لُغزاً مُحيِّراً وسراً مُستغلقاً مُطلسماً، لكنها للمُؤمِن المُستنير اليقظ الواعي العارف مسألة مفهومة تماماً بإذن الله تبارك وتعالى.

إذن هكذا مَن اقترب مِن الله – تبارك وتعالى – انمحت بالتدريج أخلاقه الردية واكتسب الأخلاق العلية السنية ولا جرم، لا جرم! هذا مفهوم ومعقول جداً، لأنه اقترب – كما قلنا – من المصدر المُطلَق لكل كمال وجمال وجلال مُطلَق، تتبدَّل طبيعته شيئاً فشيئاً.

إذن مَن أراد أن يكون ذلكم الكامل الجيد في كل نطاق ومجال فليقترب من الله حقاً، وليدع السفاسف، وليدع التصابي والتلاهي، وليدع التمثيل والمُخادَعة لنفسه وللعالمين، وهذا الأمر يعود إلى الهمة، كلما علت همة المرء لا تقنع بالدون – ويرضى بالدون مَن كان دوناً – ولا يرضى بغير الله ولا بشيئ وراء الله ولا دون الله، والعالم كله دون الله تبارك وتعالى، ولذلك لا يُرضيه شيئ إلا الله تبارك وتعالى، ومن هنا فرادته ونبالته ومجادته، شخص نبيل مُتفرِّد ماجد.

هذا هو أيها الإخوة والأخوات، هذا وإن من أعظم وأسنى وأكرم الأخلاق التي ينبغي على المُؤمِن والمُؤمِنة أن يتحلى أو تتحلى بها خُلق العفو، وهو من الأخلاق الربانية.

من أسمائه – عز في جلاله وجل في مجده – العفو، العفو من أسماء الله تبارك وتعالى، قال الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أكرم أخلاق المُؤمِن العفو، هؤلاء لا يُلقون الكلام على عواهنه، لو سُئل الآن أكثر مَن ترى وتسمع ما أكرم أخلاق المُؤمِن؟ سيتخبطون، ومَن أجاب لا يستطيع أن يُبرِّر، كلام يُقال هكذا! لكن هؤلاء يعرفون كيف يُبرِّرون، لماذا كان هذا أكرم أخلاق المُؤمِن؟ هذه مسألة أيضاً تحتاج إلى جواب، والمقام يضيق عن ذلك.

أكرم أخلاق المُؤمِن العفو، قال الله تعالى فيما تلونا عليكم صدر الخُطبة خُذِ الْعَفْوَ ۩ آمراً ومُرشِداً صفوته وخيرته وحبيبه من خلقه، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، قال عبد الله بن الزُبير – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فيما صح عنه – بل رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – أمر الله نبيه – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، قال هذا خُلق مبثوث في بعض أفراد الناس وآحادهم، خُذه وتخلَّق به يا صفوتنا، وكان أعظم الناس عفواً، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

وفي صحيح مُسلِم من حديث أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله تعالى عنها – أنها قالت وما نيل منه شيئٌ فانتصر من صاحبه إلا أن يُنتهَك شيئ من محارم الله تعالى، وما انتقم لنفسه قط، النبي تنال من شرفه، من عرضه، من ماله، ومن أي شيئ، ولا يغضب، لأنه عفو، عفو! وهذا وصفه وذاك نعته في الكتاب الأول والكتاب الآخر، في التوراة والإنجيل وفي القرآن العظيم الكريم.

وفي الحديث الصحيح – حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضيَ الله تعالى عنهما – أن ابن يسار سأله عن صفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التوراة، فذكر ضمن ما ذكر – والحديث في صحيح البخاري – وليس بسخّاب – والسخّاب هو الصخّاب، مَن يعلو صوته في الخصام – في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر أو قال ويصفح، فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩، هو مأمور بقوله تعالى فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩، ولكن يعفو ويصفح، يعفو ويغفر، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، هذه سُنته وهذا هدي أصحابه وأحبابه، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، هكذا أمره الله تبارك وتعالى.

آيات الأمر والإرشاد إلى العفو – هذه المحمدة العظيمة – كثيرة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، وقد نزل قرآن في أبي بكر الصدّيق وفي مسطح قريبه الذي كان يعوله ويرمه في معاشه، لكنه خاض مع الخائضين في عرض ابنته الصدّيقة بنت الصدّيق، فمنعه ما كان يصله به، فأنزل الله قرآناً، الله يُصلِح بين عباده، شيئ عجيب يا إخواني! الله – تبارك وتعالى – يُصلِح بين العباد، ويُثمِّر ويُكمِّل أخلاقهم وكمالاتهم، قال الله – تبارك وتعالى – وَلَا يَأْتَلِ ۩، أي لا يحلف، الألية هي الحلف والقسم، وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۩، ولأن الجزاء من جنس العمل وعلى وفاقه قال تعالى مُذيِّلاً الآية الكريمة أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، قال أبو بكر بلى يا رب، وعاد إلى صلة مسطح.

مَن أحب أن يعفو الله عنه فليعف عن الناس، هذا هو طبعاً، مَن أحب أن تسعه مغفرة الله فليغفر للناس، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ۩، قال وَغَفَرَ ۩، الله يغفر لنا ونحن نغفر للعباد، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ۩، قال لَمِنْ عَزْمِ ۩، لأنها مغفرة للعباد، تحتاج إلى نية وهمة عالية وخُلق راسخ كالجبل، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ۩.

صار أُسارى ابن الأشعث في الثورة المشهورة جداً في التاريخ الأموي إلى عبد الملك بن مروان، كان بين يدي الرجل الصالح والمُستشار المُؤتمَر رجاء بن حيوة، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، مُربي عمر بن عبد العزيز هذا الرجل، رجل عظيم كريم، قال له يا رجاء ما ترى؟ هؤلاء ثاروا علينا، وخرجوا علينا بقوة السلاح، وأمكن الله منهم، فما ترى؟ انظروا إلى الناصح الأمين، ليس إلى بطانة السوء وأهل النفاق الذين يزدلفون إلى الحكّام والطواغيت بإسماعهم ما يشتهون، يُزيِّنون لهم كل ما يُحِبون، ازدلافاً إلى قلوبهم الخربة، فقال له يا أمير المُؤمِنين قد أعطاك الله ما تُحِب من الظفر، فأره ما يُحِب من العفو.

ما النصيحة هذه؟! ما هذه البلاغة والإيمان والتُقى والرجولة؟! رجولة! ويعلم أن هذا ربما أسخط عبد الملك، هؤلاء ثوّار، كادوا يُقوِّضون أركان الدولة، والآن تقول لي أن أعفو عنهم؟! فقال نعم، قد عفونا عنهم، كم أجر هذا الرجل! كم أجر رجاء بن حيوة بهذه النصيحة وبهذه الوصاة الغالية! رجل قوّال بالحق، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، أره الله ما يُحِب من العفو كما أعطاك ما تُحِب من الظفر، وأُوتيَ الحكمة والبيان وفصل الخطاب، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين.

عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كان في السوق يبتاع يوماً، وقد جعل دنانيره ودراهمه في تلافيف وأطواء عمامته، ولما جلس تفقَّدها، وإذا بها موجودة، فابتاع شيئاً، فأراد أن ينقد الرجل الثمن، فقال هكذا فإذا بها قد حُلت وسُرقت، فقال الله أكبر، قد جلست وهي معي، فجعل الناس يقولون لعن الله السارق، قطع الله يد السارق، فعل الله كذا وكذا بالسارق، فقال يا إخوتاه لا تقولوا هذا، انظروا! هؤلاء تَلاميذ محمد، هل نحن تَلاميذه؟ هل نحن أهل سُنة وتدين؟ يجب أن نُعيِّر أنفسنا بهذه المعايير، ليس بالمظاهر وليس بالخُطب والكلام، لا! المعايير العملية السلوكية، هكذا كان تَلاميذ محمد، قال يا إخوتاه لا تقولوا هكذا، مُعلِّم ابن مسعود، ورجل فقير المسكين، كان يعيش من صدقة زوجته زينب عليه، ليس كاسباً، أضعف من أن يكسب، وكان قد فرَّغ نفسه للعلم والقرآن، رضوان الله تعالى عليه وعنه، فقال يا إخوتاه لا تقولوا هكذا، اللهم إن كان هذا السارق قد أخذها لحاجة إليها فبارك له فيها، وإن كان أخذها – أي لا يحتاجها – جراءةً على الذنب فاجعل ذلك آخر ذنوبه، اجعله يتوب يا رب، تُب عليه يا رب، ليكن هذا آخر ذنوبه، الله أكبر، كلام عظيم جداً، هذا عبد الله بن مسعود، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۩، اعف، اعف! كيف لا وحبيبهم وخليلهم ومُعلِّمهم وقدوتهم في الخير هو الذي قال لهم أوصاني ربي بسبع وفي بعض الروايات بتسع؟ قال لهم أوصاني ربي بسبع، وفي رواية أُوصيكم بها، بالإخلاص في السر والعلانية – الإخلاص لله، الإخلاص لله في السر والعلن، الإخلاص في السر والعلانية -، وأن أعفو عمَن ظلمني، إذن العفو في هذه الخصال الثابتة، وأن أعفو عمَن ظلمني، وأن أُعطي مَن حرمني، وأن أصل مَن قطعني، فهذه أربعة، بقيت ثلاث، أي ثلاث خصال، وأوصاني أن يكون صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عبراً، وفي رواية  عبرةً.

قال أن يكون صمتي فكراً، حين تصمت تفكَّر، تفكَّر في عظمة الله، في جلال الله، وفي مجد الله، تفكَّر في شأن الدنيا والكون والناس، تفكَّر في شأنك أنت، في شأن هذه الحياة سريعة الزوال، في شأن الفتن والغرور الذي لف الناس وطحنهم، بل سحقهم سحقاً، خاصة في عصرنا هذا والله، كثر يا أخي أن ترى الناس – والعياذ بالله – مفتونة، مأخوذة عن آخرتها، كأنها تعيش مُخلَّدة، كأنه لا حساب ولا عذاب ولا دينونة ولا ميزان ولا بعث ولا نشور، فتنة – والعياذ بالله – يا أخي، الدنيا أكلت الناس، عزبت عقولهم عنهم بسبب عبادة الدنيا والدينار والعياذ بالله تبارك وتعالى، فكِّر! فكِّر كثيراً، فكِّر في مبدأك وفي مُنتهاك.

قال أن يكون صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ليس غيبةً ولا نميمةً ولا سُخريةً ولا تحقيراً ولا كلاماً في الشهوات والكلام الفارغ، تكلَّم الكلام الحميد الحسن، يشفع لك إن شاء الله، تُثقَّل به الموازين، وتُبيَّض به الوجوه والنواصي، وتُرفَع به الدرجات، وتُحمَد به السيرة والعاقبة.

قال أن يكون صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عبراً، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ۩، لتكن من أولي الألباب والأبصار، وليكن لك في كل شيئ عبرة، ليكن لك مُعتبَر في كل أمور من الأمور، قال هذه وصايا، ربي أوصاني بها.

أبو ذر فيما يروي أبو يعلى الموصلي يقول أوصاني خليلي أبو القاسم بسبع خصال، قال فلا أدعهن حتى ألقاه، الله أكبر، هذا أبو ذر، انتهى! تكفيه الوصاية الواحدة، مجلس واحد في ثلاث دقائق ربما فقط، سبع جُمل لا ينساها كما قال، ولذلك كان يقول هذه الجُمل، أبو ذر حين يعتب عليه بعض الناس ويُثرِّبونه – لماذا هذا التشدد في الحق يا أبا ذر؟ لماذا تُعادي العالمين في الحق يا أبا ذر؟ لماذا أنت جامد إلى هذه الدرجة؟ تلحلح يا أخي وكُن مرناً – يقول لهم لا، هذه وصية رسول الله، هو أوصاني، أوصاني بقول الحق وإن كان أمر من الصبر، وألا تأخذني في الله لومة لائم، قال هذه وصية محمد لي، أنا لا أدعها، اغضبوا أو ارضوا، هذا لا يعنيني، يعنيني رسول الله ورب رسول الله، هذا الذي يعنيني، رضيَ الله عنه وأرضاه.

قال أوصاني بحُب المساكين ومُجالَستهم، الناس لا يُحِبون المساكين، يُحِبون الأغنياء، انتبهوا! هكذا علَّمتنا الحياة، الناس يُحِبون أصحاب المناصب وأصحاب المصالح والمنافع، يُحِبون مَن وراءه منفعة مادية أو معنوية، لكن الإنسان المسكين الفقير الذي وراؤه منفعة أُخروية عند الله تُرقِّق القلب وتُسيِّل الدمع من العين ويُستحضَر بها الخشوع والقنوت لله لا يُحِبونه، الناس لا يحتاجون هذا، ماذا نُريد من المساكين والفقراء؟ لا تُوجَد مصلحة من هؤلاء والعياذ بالله، لكن هذه وصية رسول الله لأصحابه، لأنها عكس وترجمة لوصية الله لرسوله، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۩، هؤلاء الفقراء، فقراء أهل الصفة، مساكين ومحاويج.

قال أوصاني بحُب المساكين ومُجالِستهم، وأوصاني أن أصل مَن قطعني وأن أعفو عمَن ظلمني، هاتان اثنتان، هنا ذكر اثنتين، وهذا هو الشاهد، وفي صحيح مُسلِم عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وقال يا رسول الله إن لي قرابةً – أقرباء، من ذوي قُرباي – أصلهم ويقطعوني، وأُحسِن لهم ويُسيئون إلىّ، وأحلم عنهم ويجهلون علىّ، ماذا أفعل؟ فقال له – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لئن كنت كما تقول فكأنما تُسِفهم المَلّ – أي الرماد -، وقد ذكرناه غير مرة هذا الحديث الجليل، وفيه روح ونفس النبوة، هذا التعبير لا يقوله إلا محمد صلى الله عليه وسلم، لئن كما تقول فكأنما تُسِفهم المَلّ، ولا يزال معك ظهير من الله عليهم ما دمت على ذلك.

ولذلك حصل الآتي حين حضر – عليه الصلاة وأفضل السلام – مجلساً فيه رجل ينال من أبي بكر الصدّيق، انظروا إلى جراءة بعض الناس وكمال بعض الناس، أبو بكر من الكملة وهذا من النقصة الأنذال السخفاء، أتسب الصدّيق بمحضر رسول الله؟ ولا يزيد – صلى الله عليه وسلم – لسعة صدره وعظم عفوه وتسامحه، لا يزيد على التبسم، يتبسَّم الرسول، يتبسَّم من الوقاحة والنذالة والخساسة، أتسب صاحبي وصديقي – هذا الصدّيق، صدّيق الأمة الأكبر – في محضري؟ أي ألا ترعى حُرمة لي ولا حكمة حتى؟ إنسان سخيف! 

فبعد أن أكثر عليه رد عليه أبو بكر بعض قوله، أي رد عليه بكلمة أو كلمتين، وقد تكلَّم عشرات الكلام، فرد عليه بعض قوله، فقام رسول الله، فلحقه أبو بكر، قال يا رسول الله كان يشتمني وأنت حاضر – أنت تسمع وترى كل شيئ – فلما رددت عليه بعض قوله قمت! فقال – صلى الله عليه وسلم – يا أبا بكر حين كان يشتمك وأنت صامت كان ملك من الله يرد عنك، ملك! هذا تأييد، وبالحري أن هذا السخيف – والعياذ بالله – وهذا السفيه سيزداد نذالة ويزداد سفالة ويزداد – والعياذ بالله – انحطاطاً في نظر الخلق، الله يحط من قدره، الملك يدعو عليه بحط القدر وحط المنزلة، وطبعاً سيزداد سوءاً، وهو جاهل لا يعقل، الجاهل لا يعقل لماذا تدهورت أحواله ولماذا انحط أمره عند أقرب الناس إليه وعند الأباعد أيضاً، بسبب هذه اللعنات الإلهية وبسبب الدعوات الملكية.

قال يا أبا بكر حين كان يشتمك وأنت صامت كان ملك من الله يرد عنك، فلما رددت أنت يا أبا بكر وقع – هكذا قال وقع، أي جاء هكذا مثل صخرة أو مثل حجر نازل – الشيطان، فلم أكن أقعد حيث يقعد الشيطان، ثم قال يا أبا بكر ثلاث كلهن حق، ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، لا تتردد ولا ترتب، وما فتح عبد باب عطية يُريد به صلة إلا فتح الله له به باب زيادة، فيزداد – بإذن الله – في ماله وفي ثرائه، لأنه فتح باب عطية، ليس مُكتفياً بأنه يتكفَّل هذا وهذا ويتكفَّل أيتاماً ويتصدَّق على بعض المحاويج، يفتح باباً جديداً، يقول هيا نُعلِّم هذا الطالب في الجامعة لمُدة خمس سنوات لوجه الله – مثلاً -، أنت عندك مال، فماذا تفعل به؟ ماذا تفعل؟ 

بعض الناس يستغرب من هذا، وسبب هذه الخُطبة كان أن حدَّثني بعض أخص أحبابي وإخواني في الله حقيقةً بالآتي، وهذا الرجل الطيب نشأ نشأةً إسلاميةً مُذ نعومة أظفاره في بلد إسلامي، إلا أنه في تضاعيف الحديث أبدى عن عجب كبير جداً من أن يكون القصاص ليس لازماً، وأن العفو خير من القصاص، قال عجيب، ما فهمت هذا مرةً في حياتي، الذي كنت أفهمه وأدريه أن القصاص أفضل وألزم، يُقتَص من الجاني دائماً، فقلت له أبداً غير صحيح، ديننا هذا دين العفو والتسامح، إذن هذه معلومات في الكتاب والسُنة وفي بطون الكُتب، لم تستحل ثقافةً في حياتنا، هذه هي المُشكِلة، انتبه! لا يكفي أن تقول لا، ديننا دين السلام والمحبة ودين العلم ودين العفو والتصافح والتسامي والتصافي، لا يكفي! ينبغي أن يتحوَّل هذا إلى ثقافة تجري في الدم وتُرضَع مع حليب الأمهات، ثقافة تراها في العمل الفني – في قصيدة شعر، في مسرحية، وفي فيلم -، تراها في الأمثال الشعبية العامة، تراها في تصرف أبيك وعمك وأستاذك وشيخك وأمك وجارك وأقرب الناس إليك، هذا معنى الثقافة، أي الـــ Kultur أو الــ Culture، هذا معنى الثقافة، ليس معلومات في الكُتب، ليس معلومات يقولها خطيب مثلي مسكين، لا! هذا لا يُساوي شيئاً، وتبقى الحياة قاسية وجامدة وصعبة وتقوم على منطق حقوقي – هذا لك وهذا لي، وإن أخذت ما لي قطعت يدك -، هذه حياة جافة جداً جداً، ليست حياة مثالية، ليست حياة طيبة.

في صحيح البخاري قال عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – في قوله – سُبحانه وتعالى – فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۩ الآتي، قال الله كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ – في المائدة – فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۩، فقال ابن عباس كُتِب على بني إسرائيل القصاص، ولا عفو ولا دية، ممنوع! فقال الله لهذه الأمة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ۩، إلى أن قال فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۩، قال أي الدية، يُعفى عنه بأن تُؤخَذ الدية، سُمِح لهذه الأمة بأخذ الدية، وإن كان بعض المذاهب يرى أنه عفو بلا دية، هذه مسألة اجتهادية، وقد عرضنا لها مرة، هذا من رحمة الله بهذه الأمة، يدعوها إلى العفو حتى عمَن قتل ابنك أو ذا ودك أو قريبك أو أخاك أو أباك، يُمكِن أن تعفو.

سألني هذا الأخ الحبيب فإن عفوت عنه فما لي؟ قلت له لك الجنة، ما لك؟ لك الجنة، قال كيف؟ قلت لأن الله يقول وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۩، روى أبو داود الطيالسي والإمام أحمد وغيرهما أن عُبادة بن الصامت قال في مجلس مُعاوية بن أبي سُفيان، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن أُصيب بنصف دية فعفا حط الله عنه نصف ذنبه، فإن كان أُصيب بثُلث أو بُربع أو دون ذلك فعلى قدر ذلك، إذن  ما أجر مَن أُصيب بدية كاملة وعفا؟ النبي يقول في حديث آخر مَن أُصيب بدم فعفا – أي عن الجاني لوجه الله، عفا بعد القدرة والتسلط عليه – حط الله عنه ذنبه – أي كفَّره – من يوم ولدته أمه إلى يوم تصدَّق به.

دين هذا يحث على العفو والتسامح وحط الحقوق يا أخي، ليس ديناً قانونياً رومانياً، ليس شريعةً رومانيةً تُؤمِن فقط بالحدود هكذا ومواضع الحق المُر، الحق مُر، للأسف ليس ثقافة، فعلمت أن المسألة نعم ليست ثقافةً في حياتنا، فعلاً ليست ثقافةً، ومن هنا التصلب في المواقف وفي القضايا وفي الخصومات، لابد أن يستحيل إلى ثقافة تجري في دمائنا وفي عروق حياتنا، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                  (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

قبل أن نُغادِر في دقيقة لابد أن نقف مع عبرة هذه الخُطبة، عبرتها أن تتسع صدورنا لأخطاء الخاطئين، لذنوب المُذنِبين، لجنايات الجُناة، لتقصير المُقصِّرين، ولمَن قابل حسناتنا بالسيئات، أن نكون أكرم على أنفسنا وعند الله من لؤمه وضيق صدره وعطنه، كما قال أبو الحُسين الورّاق اللئيم لضيق صدره لا يُمكِنه العفو – ضيق الصدر كما هو ضيق العين والنظر والعياذ بالله -، أما الكريم فمن أخص خصائص أخلاقه وسلوكاته أنه يسمح ويعفو.

قال عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عنه، أمير المُؤمِنين يا إخواني، هذا عمر – أُشهِدكم أن الناس جميعاً مني في حل، عمر قال هذا، نحن نظن أن عمر هذا هو رأس القانون ولا يُسامِح حتى بحق لنفسه، وهذا غير صحيح، بالعكس! قال أنا أُسامِح كل مَن وقع في عرضي، كل مَن تكلَّم علىّ، كل مَن سبني، وكل مَن انتقصني، هذا عرضي –  قال – وأنا أُسامِح فيه، قال أُشهِدكم أن الناس جميعاً مني في حل، هذا عمر وهذا شأنه، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهو ليس بدعاً من أصحاب رسول الله العظام الأماثل في هذا، كلهم كانوا على هذا الطِراز، كأبي ضمضم الذي كان إذا أصبح تصدَّق بعرضه على الناس، والنبي بارك موقفه هذا وعظَّمه، وقال أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ قالوا له مَن أبو ضمضم؟ قال لهم هذا رجل من أصحابي إذا أصبح قال اللهم إني أُشهِدك أني تصدَّقت بعرضي على المُسلِمين، كل مَن اغتابني، كل مَن نّم علىّ، كل مَن انتقصني، كل مَن شتمني، وكل مَن سخر مني، أنا جعلته في حل، اللهم اعف عنه كما عفوته عنه، واغفر له كما غفرت له.

العفو خيرٌ من المغفرة وأبلغ منها، لماذا؟ المغفرة من الستر، لو غفر الله أو غفر أخوك لك ذنبك سيكون هذا بمعنى أنه ستره، أما لو عفا عنه فسيكون هذا بمعنى أنه محاه، العفو هو المحو، فكأنه لم يكن، لكن لو ستره سيزال الذنب موجوداً، فربما وقع التذكير به يوماً، فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩، أره صفحةً أُخرى لك، أبداً ليست صفحة العاتب ولا المُثرِّب ولا الغضبان ولا العتبان، لا! هذا معنى فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩، أره الصفحة الأُخرى لك، هذا ديننا! وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۩.

وأخيراً قد يُغني عن ذلك كله أو بعضه قول الحق – جل مجده – وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩، إذن نحن لسنا بدعاً ولسنا غُرباءً  حتى عن موعظة السيد المسيح، وهي أشهر مواعظه وأكرمها، موعظة الجبل! تسمعون أو سمعتم أن النفس بالنفس والسن بالسن والعين بالعين، لكن – قال – أنا أقول لكم مَن لطمك على خدك الأيمن فأدِر له الآخر، ومَن خاصمك وأرادك على ثوبك فأعطه الرداء، ومَن سخَّرك ميلاً فسِر معه ميلين، إذا كنتم لا تُحِبون إلا مَن يُحِبكم ولا تصلون إلا مَن يصلكم فأي فضل تصنعون؟ أليس العشّارون يفعلون هذا؟ إلى آخر الموعظة.

نحن أيضاً لدينا هذا، لدينا لا تُقاوِم الشر، لكن قاوِم الشر بماذا؟ بالخير، افعل الخير ينته الشر، لأن الشر يتغذى على مثله، كالنار! فإن لم يجد ما يتغذى عليه طفئ وانتهى.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُبارِكنا جميعاً، وأن يُبارِك أوقاتنا وحياتنا وأهلينا وأولادنا وأموالنا وأفهامنا وظاهرنا وباطننا.

اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

أقِم الصلاة يا أخي.

(4/12/2009)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: