برنامج آفاق

فاستمعوا لهن

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من (آفاق).

يقول الله – تبارك وتعالى – وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، ربما لا تكون المُشكِلة في أن نقول فقط الأحسن، إنما المُشكِلة قبل ذلك أن نعرف ما هو الأحسن لكي نقوله، ما هو الأحسن لكي نقوله؟ وكيف نقوله؟ 

أن نقول الأحسن – إخواني وأخواتي – ابتداءً، أن نقول الأحسن تعقيباً على أقوال الآخرين، تعليقاً على أقوال الآخرين، سواء أكان تعليقاً بالمُوافَقة أم تعليقاً بالانتقاد والتقويم، أو بالتقييم عموماً، ينبغي أن نلتزم خُطة أن نقول الأحسن.

علماء النفس والمُتخصِّصون في المُشكِلات الأسرية أو المُشكِلات بين الأزواج يرون أن مُعظَم المُشكِلات الزوجية التي تنشب بين الشركاء أو بين الأزواج تُعزى إلى أسباب رئيسة أربعة: السبب الأول ما يتعلَّق بالأولاد وتربيتهم، والسبب الثاني ما يتعلَّق بالمال، يُمكِن أن نقول تدبير المال أو إدارة المال، جني المال وصرف المال، وبالذات صرف المال، كيف يُصرَف؟ وأين؟ وفي أي حدود؟ وبأي مقادير؟ ما يتعلَّق بالمال! السبب الثالث الحياة الجنسية، الحياة الجنسية بين الزوجين سبب رئيس من الأسباب الأربعة، والسبب الرابع والأخير من هذه الأسباب طريقة التخاطب، طريقة التكلم، كيف يتكلَّم؟ كيف تتكلَّم؟ كيف يستمع أو يسمع؟ كيف تستمع هي إليه؟ 

هذه هي الأسباب الأربعة، ونحن سنخوض في جانب بسيط، لكنه مُهِم وحسّاس وعظيم الأثر في الحياة الزوجية وفي تفهم نزاعاتها والعمل على حل هذه النزاعات، يتفرَّع من السبب الرابع: طريقة المُخاطَبة.

طبعاً – إخواني – ابتداءً أُحِب أن أُنوِّه إلى أن ما سأقوله وما تسمعونه هو الجُزء الأيسر والأسهل تماماً، كالذي نقرأه أو نراه في التلفاز ونسمعه، هو الجُزء الأيسر، الجُزء الأصعب أن نُحوِّل هذه المعرفة إلى مُمارَسة عملية، إلى مِران، نُحوِّلها إلى طرق جديدة في التعاطي مع شريكنا، مع الزوج أو الزوجة، وهذا يقتضي كما تعلمون أن نُغيِّر كثيراً من مفاهيمنا وكثيراً من عاداتنا، من نُظمنا، ومن طُرقنا في التعاطي مع الآخر، وهذه مسألة ليست سهلة بالمرة، من أصعب ما يكون أن يُغيِّر الإنسان عاداته وطُرقه وأساليبه في أي أمر من الأمور.

كتب مرة نيكولو مكيافيلي Niccolò Machiavelli – وتعرفون مكيافيلي Machiavelli، هذا الفيلسوف السياسي الفظيع – الآتي، كتب مكيافيلي Machiavelli يقول أكثر الأمور صعوبةً ومشكوكيةً في نجاحها هي أن نُغيِّر عاداتنا، تغيير عاداتنا، وتغيير نُظمنا في التعاطي، في التعامل، في السلوك، في النشاط، وفي الاشتغال، من أصعب الأمور!

وعلى طريقته الساخرة كتب مرة مارك توين Mark Twain – الروائي والقصّاص الأمريكي الشهير – يقول أسهل شيئ ترك التدخين، لقد فعلت هذا أكثر من مائة مرة، يقول أسهل شيئ! وطبعاً هو يُحِب أن يقول من أصعب الأشياء، من أصعب الأشياء أن نُقلِع عن عادة تعوَّدنا عليها، وهو حاول أن يُقلِع عن عادة التدخين، طبعاً يُقلِع ويعود ثم يُقلِع ويعود، ولذلك هو فعل هذا – يقول – أكثر من مائة مرة، فالمسألة ليست سهلة.

وطبعاً أنا لا أُريد بهذا الكلام أن أُحبِط نفسي أو أُحبِطكم، لا أُريد أن أسد الباب في وجه نفسي ولا في وجوهكم، وإنما أُحِب أن أقول المسألة تحتاج إلى جُهد، حتى لا نُحبَط حقيقةً إذا فشلنا أو لمسنا الفشل في أول وفي ثاني وفي عاشر مُحاوَلة، وإنما علينا أن نُحاوِل مرة وعشر مرات وعشرين مرة وثلاثين مرة.

طبعاً بالحري أننا سنُراكِم نجاحات جُزئية، في كل مرة سنتقدَّم ولو خُطوة على الطريق، وأحياناً قد نتأخَّر أيضاً، قد نتقدَّم خُطوتين ونتأخَّر خُطوة، جميل! في المُحصِّلة هناك خُطوة إلى الإمام، وهذا شيئ جيد، لكن بعد مُحاوَلات كثيرة وفي وقت مُناسِب سوف نرى أننا راكمنا من هذه النجاحات الجُزئية نجاحاً ربما يُعجِبنا ويهولنا، فهل فعلاً نحن وصلنا إلى هذه الغاية؟ نعم، وصلنا، فعلنا بالاجتهاد والمُثابَرة، ولذلك علينا ألا نُحبَط وألا نيأس، لكن لن نستهين بالأمر، الأمر ليس هيناً، نعلم أنه أمر صعب ويحتاج إلى جهود مُضاعَفة.

أيضاً أُحِّب أن أُنوِّه في بداية هذه الحلقة إلى أن أي جُهد يبذله الزوج أو تبذله الزوجة من طرفها في نهاية المطاف هو يصب في صالح الاثنين، ليس فقط لصالحه، فأي جُهد يبذله الزوج لكي يتفهَّم زوجته، كأن يُحسِن الإصغاء إليها، يُحسِن الاستماع، يُحسِن مُخاطَبتها، يُحسِن تقبل مشاعرها، إلى آخره، إلى آخره! هذا لا يخدم فقط الزوجة، طبعاً هو يخدمها بلا شك، ولكن يخدمها ويخدمه أيضاً معاً في الوقت نفسه، لماذا؟ لأنهما في مركب واحد، عربة يجرها حصانان، مركب واحد يعيشان فيه، ولذلك السعادة مُشترَكة، والتعاسة أيضاً بالاشتراك، والتعاسة بالاشتراك!

ما دمنا لا ننتوي الطلاق والانفصال فإذن الحكمة تقتضينا أو تتقاضانا – إخواني وأخواتي – أن نُحاوِل إعادة النظر في كيفية عيشنا، إعادة النظر في طريقة حياتنا، وفي أسلوب حياتنا، لكي نجعلنا – أي نجعل أنفسنا، رجالاً ونساءً، وأزواجاً وزوجات – أكثر سعادةً، أكثر هناءً، وأكثر رضا بحياتنا، فالثمرة سيقطفها الشريكان والجانبان معاً.

إخواني وأخواتي:

لكي أتفهَّم زوجتي أو تتفهَّمني لا يكفي فقط الناحية العقلية والأسلوب المنطقي الحسابي، بلُغة إريك فروم Erich Fromm – عالم النفس الألماني الكبير – لابد من المودة والمحبة، فروم Fromm يقول التفهم يتطلَّب ماذا؟ التفهم أو الفهم يتطلَّب ماذا؟ المودة، يتطلَّب المحبة، ما لم يكن هناك قدر وافٍ أو كافٍ من المودة ومن الحُب سيفشل الشريك في فهم شريكه، الحُب إذن يا إخواني.

يقول فروم Fromm بغير هذا الحُب ستصفو العملية على مُجرَّد نشاط دماغي، هكذا قال! نشاط دماغي، ولم يقل حتى نشاط عقلي أو منطقي، قال نشاط دماغي، أشبه بشيئ ميكانيكي، لن يحدث الفهم الحقيقي، لن يتفهَّم الشريك شريكه، أي الزوج زوجته أو الزوجة زوجها، ولذلك لابد – إخواني وأخواتي، معاشر الأزواج والزوجات، والمُستعِدين أيضاً لولوج هذا العالم، إن شاء الله السعيد، من وجهة نظري وأقول هذا بين قوسين (الحياة الزوجية أسعد شيئ، من أهم الأشياء على الإطلاق في حياة الإنسان، الحياة الزوجية يا إخواني! وللأسف نحن دائماً نُحاوِل أن نُقنِع أنفسنا بأن الزواج ورطة والزواج مُشكِلة والزواج هو القفص الحديد، وهذا كله كلام فارغ، هذا غير صحيح، غير صحيح! الإنسان من الصعب جداً أن يعيش إنساناً سوياً طبيعياً ويجد نفسه وتكامله الإنساني بعيداً عن عُش الزوجية، بعيداً عن شريكته، وبعيداً عن شريكها، مُستحيل يا إخواني، لكن هذه قضية أُخرى على كل حال) – إذن من الحُب والود، من أجل أن ننجح في تفهم الآخر، في تفهم الشريك.

هناك عبارة لطيفة جداً لنيتشه Nietzsche – الفيلسوف الألماني – يقول فيها يكفي فقط أن تنظر إلىّ كعدو بمشاعر الكره والبُغض حتى تعجز عن فهمي، يكفي فقط أن تنظر إلىّ كعدو حتى تعجز عن فهمي! والعكس صحيح، إذا نظرت إلىّ كودود، كمُحِب، وكحبيب، ستفهمني، ستنجح في فهمي.

بالنسبة إلى مهارة الاستماع يا إخواني إلى الطرف الآخر ربما يظن أكثرنا أنه يُحسِن هذا، أي مُعظَم الناس لديهم فكرة عن أنفسهم جيدة، ليس فقط بهذا الخصوص، تقريباً في كل شيئ، مُعظَمنا راضٍ عن نفسه في مُعظَم الأشياء، في مُعظَم الأشياء والمجالات، فلو سألت أياً كان من الناس هل أنت مُستمِع جيد؟ يقول لك نعم، أظن أنني مُستمِع جيد، أنا أستمع لزوجتي، أنا أستمع لزوجي – تقول لك الزوجة -، فمُعظَم الناس يظنون أنهم مُستمِعون جيدون، وفي الواقع والحقيقة هم ليسوا كذلك، ليسوا مُستمِعين جيدين، وسوف يضح لنا هذا بعد قليل وبشكل فاقع، بشكل فاقع وناصع! وسوف نكتشف أننا لا نعرف حتى معنى الاستماع الجيد، والاستماع يختلف عن السمع، في كتاب الله – جل وعز – وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩، قال فَاسْتَمِعُوا ۩، وهذه غير فاسمعوا، السمع شيئ والاستماع شيئ، أي السمع Hearing، والاستماع Listening، الإصغاء! فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ۩، هذا إصغاء، وسوف نذكر الفروق بينهما بُعيد قليل على كل حال.

إذن مُعظَم الناس لديهم مُشكِلة في الاستماع، ونحن كما يقول العلماء نقضي تقريباً من سبعين إلى ثمانين في المائة من أوقاتنا في الاتصال بالآخرين، من سبعين إلى ثمانين في المائة! هذا إذا استثنينا أوقات النوم، حتى نكون دقيقين علمياً، نطرح أوقات النوم، لا علاقة لنا بها، ما تبقى من وقت نقضي منه من سبعين إلى ثمانين في المائة في الاتصال بالآخرين، في الاتصال طبعاً بمُختلِف وسائل الاتصال، الوجاهية والسميعة، إلى غير ذلك.

من هذه السبعين إلى الثمانين في المائة – إخواني وأخواتي – حوالي خمسة وأربعون في المائة تُقضى في ماذا؟ في الاستماع، وهذا تقريباً يأتي بنسبة أربعة وثلاثين في المائة، أي هناك أربعة وثلاثون في المائة من أوقاتنا نقضيها في الاستماع إلى الآخرين، في مُقابِل ثلاثين في المائة نقضيها في الكلام، وهناك نسب ومقادير أُخرى نقضيها في نشاطات أُخرى مُختلِفة، مثل قراءة، كتابة، تصفح النت Net، إلى آخره، إلى آخره!

إذن نحن نقضي تقريباً أربعة وثلاثين في المائة من وقتنا يومياً في الاستماع للآخرين، فهل نحن مُستمِعون جيدون؟ هل نستفيد من هذا الاستماع؟ هل نستغله فُرصةً ومُناسَبةً لكي نُثري أنفسنا ولكي نُرضي الآخرين ولكي نتفهَّمهم أيضاً ونستفيد مما عندهم ونتواصل معهم بشكل أجود وأحسن؟ هذا يتوقَّف على جُملة أمور.

في الحقيقة مُعظَمنا لا يفعل، أي لا يستمع بطريقة جيدة، ليس مُستمِعاً حسناً، لماذا؟ بعض العلماء يقترح هذا السبب، وهو سبب ذكي ولطيف، يقول لأن طريقة استيعابنا أو قدرتنا على الاستيعاب وتمثل ما يقوله الآخرون – أي بالوعي وبالفهم – تفوق سرعتنا في الكلام أربعة أضعاف، غريب! بمعنى أن المُتكلِّم لو تكلَّم بسرعة مُضاعَفة أربعة أضعاف نستطيع أن نستوعب هذا، لكن الناس لا يتكلَّمون على هذا النحو، وطبعاً بعض الناس يتكلَّم بطريقة بطيئة جداً، بالسرعة الإملائية، مُمِل! فعلاً مُمِل، وبعض الناس يتكلَّم بطريقة عادية، وبعض الناس يتكلَّم بطريقة سريعة، ربما مثلي هكذا، أُسرِع أحياناً في الكلام، لكن على كل حال في المُتوسِّط الناس يتكلَّمون بمُعدَّل مائة وخمس وعشرين كلمة في الدقيقة، بمُعدَّل مائة وخمس وعشرين كلمة! لكن المُستمِعون لديهم اللياقة والأهلية والقدرة أن يستوعبوا أربعة أضعاف هذا القدر، تقريباً خمسمائة كلمة، نحن مُستعِدون أن نستوعب خمسمائة كلمة في الدقيقة، لكن نتلقى مائة وخمس وعشرين كلمة، ما معنى هذا؟

معنى هذا أننا دائماً نسرح، يتكلَّم الطرف الآخر ونحن نسرح، لأنه يتكلَّم بالنسبة إلينا ببطء، أبطأ من طريقة استيعابنا وتفكيرنا، فنسرح! وحين نعود إليه نجد أنه أصبح يتكلَّم ربما في ميدان آخر أو في مجال آخر، انتقل إلى فكرة أُخرى وإلى موضوع آخر، فيحدث هنا الانكسار، يحدث الانكسار! هذا ما يقترحه بعض العلماء، وهذا شيئ جيد أن نفهمه، لكن الحل لا يكون بمُضاعَفة سرعتنا على الكلام، أن نبدأ نتكلَّم بهذه الطريقة السريعة، لا! ونُتهَم بعد ذلك بالخبل أو بالحُمق أو حتى بشيئ أصعب من هذا، بالهوس – مثلاً – أو بالــ Maniac، المُهوَّس يتكلَّم أحياناً بسرعة غريبة جداً وبطاقة لا تنفذ، قد يتكلَّم لساعتين أو لثلاث ساعات بشكل مُتواصِل، بصوت عالٍ وكلمات مُتدارِكة سريعة، طبعاً لأنه مُهوَّس، مُصاب بالهوس، أي Maniac، مُصاب بالهوس! على كل حال هذا هو، دورياً كان أو غير دوري.

إخواني:

أيضاً نحن حين نتكلَّم عشرة في المائة فقط – عشرة في المائة – من طاقتنا الكلامية من حديثنا ينعكس عبر ماذا؟ عبر الكلمات، عشرة في المائة فقط؟ عشرة في المائة، ليس أكثر من هذا، وتسعون في المائة عبر ماذا؟ عبر لُغة البدن، عبر لُغة الجسد، الملامح، حركات اليدين، حركات البدن، اللفتات المُختلِفة، ونبرة الصوت، ليس مضمون الكلمات، لا! النبرة نفسها، كيف ترتفع؟ كيف تنخفض؟ كيف كذا؟ النبرة! ولُغة الجسد، هذه تعكس تسعين في المائة يا إخواني وأخواتي، فهذه مُهِمة أيضاً، أن يكتسب الإنسان هذه المهارات وأن ينتبه إليه.

كما قلت لكم هناك فرق بين السمع والاستماع، بين الــ Hearing والــ Listening، السمع عملية فعلاً ميكانيكية، وعملية أحياناً تحصل بطريقة غير إرادية وغير واعية، مثل إنسان يفتح كتاباً يقرأ فيه، وفي نفس الوقت يفتح برنامجاً في التلفزيون، برنامج حواري – مثلاً -، أي توك شو Talk Show، يسمع ويقرأ، لكن في نهاية المطاف كم استوعب من هذا البرنامج الحواري؟ الأقل، القدر الأقل! مع أنه سمع، فعلاً سمع، لكنه لم يستمع، فالسمع عملية شبه ميكانيكية، وأحياناً تكون شبه لا إرادية، غير واعية، أي دخول فقط أمواج الصوت في أُذن الإنسان، أما الاستماع فهي عملية واعية، عملية مقصودة، تقصدية، إرادية! وتُوجَد عندها خُطوات تُميِّزها، صفات تُميِّز عملية الاستماع.

بعضهم يقول هناك الاستماع الفعّال، أي الــ Active، الــ Active listening الاستماع الفعّال، الاستماع الفعّال يا إخواني تتضافر فيه العاطفة مع العقل، تستمع بقلبك وبعقلك، تُحاوِل تماماً أن تستوعب ما يقوله مُحدِّثك، وأن تستوعب أيضاً حالته مع ذلك، مدى تأثره بما يقول، مدى قناعته بما يقول، وربما تُحاوِل أن تنبش وأن تحفر تحت المُستوى الظاهر، ماذا يقصد من هذا الكلام؟ ما هي دوافعه؟ ما المسكوت عنه من خلال هذا الكلام؟ وهذه عملية مُعقَّدة ومُركَّبة جداً، ما المسكوت عنه؟ قد يكون المسكوت عنه هو مُراد للمُحدِّث أو المُتحدِّث أكثر من الذي يتكلَّم به، وأنت تستوعب هذا، تفهم هذا!

لذلك عملية الاستماع عملية مُركَّبة من أشياء كثيرة، أبرز خصائصها يا إخواني التفسير، أنت تسمع وتُحاوِل أن تُفسِّر، وأحياناً طبعاً أو في مُعظَم الأحيان بحسب ما أعتقد – هذا في اعتقادي الشخصي – نحن لا نُفسِّر وإنما نُؤوِّل، ويُوجَد فرق بين التفسير والتأويل، التفسير تقريباً عملية حرفية، قال كذا وكذا، وهذا الكلام مُعجَمياً ودلالياً يعني كذا وكذا، أما التأويل فكما قلت لكم ليس كذلك، هو البحث في أبعاد مُختلِفة، في أبعاد أعمق، وفي أمداء أوسع للكلام، ليس في النطاق البلاغي فقط، لا! في نطاق مُختلِف، حتى في النطاق الأيديولوجي أنت تعرف الجهة التي ينتمي إليها هذا الرجل، العقيدة التي يتبناها، الرؤية التي يصدر عنها، الحالة التي يتكلَّم فيها، والظروف التي يتكلَّم فيها، وبالتالي تُؤوِّل كلامه، وهذه العملية الإنسان يقدر عليها، الحيوانات ضعيفة جداً جداً فيها، شبه معدومة! أما الإنسان فهو الكائن المُؤوِّل، فالقضية قضية تفسير وتأويل.

وبعد ذلك التقييم، تُقيِّم ما تسمع، تُعطيه علامات أنت بينك وبين نفسك، أن هذا الكلام حقيقي على الأقل من جهة الصدق، تقول نعم، أنا أعتقد أنه صادق بنسبة أكثر من ثمانين في المائة – مثلاً تقول هذا الكلام -، ثانياً الأمر نفسه من جهة أنه مُقنِع – عنده مصداقية علمية أيضاً ومصداقية إقناعية -، تقول نعم، هو أضعف من ذلك، الرجل صادق فيما يقول بنسبة أكثر من ثمانين في المائة، لكن قدرته على الإقناع وبناؤه للحُجة ضعيف، وربما لا يأخذ أكثر من خمسين أو ستين في المائة، وربما يتفوَّق على نسبة تسعين في المائة أيضاً، هذا التقييم! أنت تقوم بهذا.

وبعد ذلك يأتي رد الفعل أو الاستجابة، كيف تستجيب أنت لهذا الكلام؟ كيف ستُعلِّق عليه؟ ماذا ستفعل؟ ماذا ستقول؟ هذه الاستجابة، على كل حال إذن نحن بالتقييم نزن، بالتقييم نزن الكلام الذي تسمعه، وبالاستجابة السليمة يا إخواني – هذا بالاستجابة السليمة – سواء وافقنا المُحدِّث على ما يقول أو خالفناه نُشعِره على الأقل أننا استمعنا إليه جيداً، وأننا فهمنا عنه ما يقول، نحن فهمنا عنه ما يقول!

قد يقول لي أحدكم هل يقتضي هذا أن نُدقِّق في كل الكلام – أي كلمة كلمة وفي الكلام الحواشي وفي الكلام الهامشي -؟ لا، كثير من الخُبراء يرون أن التدقيق في الحواشي وفي الهوامش يعوق نجاح أو إنجاح عملية الاستماع الفعّال، لا تفعل هذا أبداً، وكُن مع الخط الرئيس للكلام، كُن مع مقصود الكلام، لأن الإنسان يستطرد، كثير من الناس عنده عادة الاستطراد، وأنا تقريباً واحد منهم، يخرج عن الموضوع، يدخل في أشياء أُخرى ويتوسَّع، ثم يعود إلى الصراط المُستقيم، فأنت لا عليك من هذه الاستطرادات والهامشيات، لا تجعلها صُلب الموضوع وتُدقِّق عليها، وننسى الموضوع الرئيسي الصراطي، لا! فهذا يعوق إنجاح عملية الاستماع الجيد، أي التعلق بالهوامش والتعلق بالحرفيات.

إذن يا إخواني واضح أن الاستماع مهارة ليست سهلة، مهارة مُركَّبة أيضاً ومُعقَّدة، تحتاج إلى نُضج عقلي ونُضج انفعالي وجداني عند الإنسان، وأهم شيئ النُضج الانفعالي الوجداني الآن، وأيضاً تحتاج إلى مِران، إلى تدرب، أي Practice and progress، أنت تتمرَّن، وبعد ذلك سترى النتائج، أحسن أستاذ – يقولون – التمرين، أحسن مُعلِّم هو التمرين، تتمرَّن! ليس من أول مرة أن ستُصبِح مُستمِعاً جيداً، لكن – كما قلنا – بعد عشرات المرات وربما مئات المرات أو في أشهر طويلة أو في سنين طويلة سينتهي بك الحال إلى أن تكون مُستمِعاً رائعاً، يُحِب الناس أن يُحادِثوك وأن يتكلَّموا معك، وأن يتجاذبوا معك أطراف الحديث، سواء في شؤون اجتماعية أو سياسة أو دينية، بحسب الحالة وبحسب الظرف.

إذن هذه المهارة لا نرثها، لا نُولَد بها، لا نأتي إلى الدنيا مُزوَّدين بها أبداً، وإنما نحن نكتسبها بالجُهد والاجتهاد والمِراس والمِران والتدرب الدائب الدائم، نحتاجها باستمرار! أيضاً – إخواني وأخواتي – في قضية القول والاستماع يُنصَح المُتحدِّث من جهته أن يجتهد في قول ما يُريد قوله، وفي التعبير والإفصاح عما يشعر به، لكن دون أن ينخرط بطريقة عُصابية، بعض الناس يبدأ يتحدَّث، يبدأ هادئاً معقولاً ومنطقياً، وبعد قليل يخرج أيضاً عن السكة، فينفرط العقد، ويدخل في ثورة، تستبد به ثورة جامحة، يعلو صوته، تنتفخ أوداجه، يحمر وجهه، ويأخذ في ماذا؟ في إلقاء العتب والملامات على الآخر.

أنا إلى الآن طبعاً أُحاوِل أن أحصر الحديث بالذات بين الزوجين، فالآن الزوجة – مثلاً – أو الزوج عوض أن يتحدَّث عما يشعر به وعوض أن يفصح عما يُريد الإفصاح عنه وعما يُريد إيصاله إلى الطرف الآخر ينخرط في لوم الآخر والعتب على الآخر وفتح الدفاتر القديمة والجديدة، لا! هذا سيُفشِل عملية الاستماع، من الصعب على الطرف الآخر أن يستمع بهذه الطريقة، لماذا؟ لأنه يرى نفسه في الــ Corner، أي في الزواية، وهو الآن مُتهَم، مُتهَم بكل الجرائم وبأم الجرائم، أنه زوج فاشل أو أنها زوجة فاشلة، أم الجرائم في الحياة الزوجية! لا يليق أن يكون زوجاً، لا يستحق أن يكون زوجاً لها، ولا تستحق أن تكون زوجةً له، وطبعاً في هذه الحالة سيجد نفسه مُضطَراً أن يُدافِع عن نفسه، وقد ينخرط أيضاً هو الآخر بطريقة عُصابية.

في الحقيقة أنا أرى أن هذا العُصاب يستبد بكثيرين منا في مُجتمَعاتنا، ويُمكِن أن يكون هذا بسبب سوء التربية، ولأننا أيضاً نشأنا في بيوت عُصابية، ترى الأب العُصابي والام العُصابية، الحبة تصير قبة يا إخواني، ويُمكِن أن يحصل ضرب وطلاق ومشاكل على أشياء تافهة وصغيرة ويُمكِن حلها في نصف ساعة، لكن للأسف الشديد لم تكن الأمور تجري على هذا النحو، فنرث هذا، لا! تنبَّه جيداً قبل أن تتكلَّم أن تُراعي هذه القاعدة: أفض بما تُريد دون أن تنخرط في لوم الآخر، دون أن تنخرط في العتب على الآخر، وطبعاً في نهاية المطاف هو سيفهم، سيفهم أنه جُزء من المُشكِلة، وأنه هو الذي أساء إليكِ أو أساءت إليكَ، وأنه هو الذي أورثك هذه المرارة وهذه الكآبة وهذا الحُزن بتقصيره في واحد، اثنين، ثلاثة، وأربعة، وبإساءته في واحد، اثنين، ثلاثة، وعشرة، سيفهم هذا، دون أن تقوليه، دون أن تقوله! 

نحن نُريد أن نستمع إلى بعضنا البعض، هذا هو المُهِم، نُريد أن نتفهَّم بعضنا البعض، أن أتفهَّم زوجتي، وأن تتفهَّمني، أن أعرف حاجاتها، أن أعرف ما يُنغِّصها وما يُوتِّرها، وأن تعرف هي هذه الأشياء أيضاً منى، في المُقابِل على المُستمِع أيضاً يا إخواني – هذا على المُستمِع – أن يُثبِت للآخر أنه مرآة له، بمعنى أنه تقبَّل مشاعره، هذا أول شيئ، هذه مسألة مُهِمة، أود أن أقف عندها قليلاً، وأن أُركِّز وأُؤكِّد عليها، مسألة تقبل مشاعر الطرف الآخر، الزوج أو الزوجة! وعموماً على فكرة – لا تحصروا هذا في نطاق الحياة الزوجية – مطلوبة حتى مع كل الناس، أي مع صديقك، مع أبيك، مع أمك، مع أستاذك، مع ابنك الصغير، ومع بُنيتك الصغيرة، مع كل الناس تقبل المشاعر يا إخواني مسألة ضرورية وحيوية وتنجح دائماً ونتائجها سحرية، أنا أقول لكم من غير مُبالَغة نتائجها سحرية، لكن ما معنى تقبل المشاعر؟

تقبل المشاعر لا يعني أنني أُوافِق عليها، أنني مُقتنِع بتبريرها سيكولوجياً – مثلاً – أو عقلياً أو اجتماعياً، قد لا أقتنع بأنها مُبرَّرة، لكن في نهاية المطاف أنا أتقبَّلها على أنها موجودة، بمعنى أن زوجتي حين تُفضي إلىّ بأنها حزينة اليوم، بأنها مُستاءة، وبأنها مُحبَطة في هذا الوقت من حياتها، كيف أتعاطى مع هذا؟ 

أتعاطى معه بعد هذه الفاصلة، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

إذن كيف أتقبَّل مشاعر زوجتي حين تُفضي إلىّ بأنها اليوم تشعر باكتئاب أو بأنها في الفترة الأخيرة – في آخر أسبوع أو في آخر حتى شهر أو شهرين – تشعر بأنها مُتضايقة، بأنها مُتوتِّرة، بأنها مُحبَطة، بأنها يائسة، وبأنها تاعسة – إلى آخره -؟ كيف أتقبَّل؟ أتقبَّل بألا أُناقِش هذه المشاعر، بمعنى ألا أُعمِل فيها مشرط أو مبضع المنطق، كأن أقول لماذا؟ الأمور على ما يُرام! ما الذي ينقصك؟ المصروف موجود، وأنا حتى موجود بالقدر الكافي في البيت، لا يُوجَد شيئ ناقص، الأولاد كذا وكذا، لا! غير صحيح، لماذا؟ لأنها تشعر بأنها مُحبَطة، هي تشعر بأنها غير سعيدة، بأنها حزينة، بأنها مُتوتِّرة، بأنها مُتضايقة، بالعكس! عليك مُباشَرةً أن تُفهِمها أنك تقبَّلت هذه المشاعر، بكلمات مثل نعم، لم أكن أدري والله، معذرةً، عفواً، لم أكن أدري، لم أشعر بهذا، هل فعلاً أنت حزينة؟ هيا نتكلَّم إذن، وهكذا! هي تشعر بالأمان الآن، أنك تقبَّلت مشاعرها، تماماً مثل الطفل الصغير الذي يقع أمامك، يتزحلق في قشرة موزة فيقع، ويبدأ يصيح، لا تقل له انتهى الأمر، ما الذي حصل؟ لا تقل هذا أبداً، قل له نعم يا بُني، هل هذا يُؤلِمك؟ هل هذا يُوجِعك يا بُني؟ سيقول لك نعم، وسيهدأ فوراً تقريباً، أول ما يُدرِك أنك تقبَّلت مشاعره، مشاعر الاستياء بهذه الصدمة أو بهذه الزحلقة أو بهذه الشقلبة، ثم ينتهي كل شيئ، لها أثر السحر مع الصغار ومع الكبار، أن تُشعِرهم بأنك تقبَّلت مشاعرهم.

لا تخلط الأوراق، بعض الناس يقوم بخلط الأوراق، كيف إذن يكون خلط الأوراق؟ يقول لا تُوجَد يا أخي أسباب، لا تُوجَد أسباب موضوعية تحملها على أن تكون مُتضايقة، والأمور على ما يُرام، إلى آخره! فهذا كله خلط للأوراق، في نظرك أنت ومن زاوية منطقية لا يُوجَد تبرير معقول ومنطقي لأن تجتاحها مشاعر الحُزن والإحباط، ولكن هي من ناحية واقعية – ليس من ناحية منطقية تأملية جدلية نظرية، وإنما من ناحية واقعية – تشعر بأنها مُحبَطة، وبأنها قلقة مُتوتِّرة حزينة، انتهى! شعورها مائة في المائة يا إخواني واقعي، بلُغة وضعية شعورها صحيح، فهذا شعورها، هذا ما تجده، وأنت لا تستطيع أن تُجادِل أحداً في أنه جائع أو غير جائع، هو يقول لك أنا جائع، انتهى! لا تُقنِعه بالمنطق ولا يستطيع أرسطو Aristotle أن يُقنِعه بأنه شبعان، هو يقول لك أنا أشعر بالجوع، انتهى! إلا في الحالات المرضية طبعاً، مثل حالات النهم وحالات الكف العُصابي أو العصبي عن الطعام، فهذه أشياء ثانية، لكن في الحالة العادية – إخواني وأخواتي – لابد أن نتقبَّل مشاعر الآخرين، وهذا لا يعني أننا نُوافِق على تبريرها أو تسويغها من جهة موضوعية، قد لا نُوافِق، لكن علينا أن نتقبَّلها، وأن نُشعِر الآخرين من أقصر طريق بأننا تقبَّلناها، نُؤمِن بأنه كذلك، نحن نُصادِق ونُؤمِن بأنه كما يقول، بأنه مُحبَط وحزين، إلى آخره!

وحين تستمع إلى الطرف الآخر أو تستمعين أختي العزيزة إلى زوجك أو إلى الطرف الآخر عموماً – أي حتى صديقة أو صديق أو أب أو أم، إلى آخره – حاول ألا تكون دفاعياً، وكما قلنا نحن نتحدَّث عن مشاكل زوجية بين شريكين، بعض الناس يندفع مُباشَرةً إلى قطع الحديث، أي قطع حديث الطرف الآخر، ويبدأ يُدافِع عن نفسه، أنه ليس كما تظن، لا يتحمَّل هو المسئولية، هي أيضاً تتحمَّل أشطاراً أكبر من المسئولية منه أو بالقياس إليه، والظروف كذا وكذا، لا! لا يُمكِن هذا أبداً، هذا خطأ كبير، وهذا يعوق أيضاً مُواصَلة عملية القول والحديث والاستماع، لا يُنجِحها بالمرة، فلا تكن دفاعياً، اضبط أعصابك، تعال على نفسك قليلاً، اضغط على نفسك وحاول أن تصبر، كُن صبوراً وأعطها فُرصة.

يُسمَح ويُنصَح أثناء الحديث الآخر والاستماع إليه أن تقطعه بين الحين والحين، لا لتُدافِع أو تُبرِّر أو تُسوِّغ، وإنما فقط لتُفهِمه أنك تستمع إليه وتتفهَّم كلامه، أو على الأقل تفهم كلامه، فالتفهم شيئ مُختلِف، على الأقل تفهم، أنك تفهم عنه، أي تقول له لحظة من فضلك، أنت تقصد كذا وكذا وكذا، أليس كذلك؟ هل فهمت قصدك؟ هل يبدو أنني فهمت قصدك؟ ستقول لك نعم، إذن تفضلي، واصلي، هذا يُريحها جداً، أنك لم تمل، لم تضجر، وأنك لست مضغوطاً في لحظات الاستماع هذه، بالعكس! أنت مُرتاح، وتُحاوِل فعلاً أن تستوعب ما تُلقي إليك، فهنا تقطع، أي هذا قطع جيد، هذا إيجابي، لكن لا تقطع لتُدافِع عن نفسك، لا! سيأتيك دورك بعد قليل لكي تُدافِع عن نفسك – إذا أردت -، وبأسلوب آخر أيضاً، هناك تقنية مُعيَّنة لصوغ الدفاع.

إخواني وأخواتي:

من المُهِم أيضاً أن نُدرِك الآتي، وخاصة الرجال، فأنا الآن أخص الرجال بحديثي، بهذه الكلمات القصيرة، المُهِم أن نُدرِك كرجال أن الطرف الآخر – أعني النساء الزوجات – في أكثر الأحيان لا يطلبن أكثر من أن نستمع إليهن، يُخطئ الرجل إذا ظن أن المرأة تتكلَّم وتمزج كلامها بالشكوى – بالشكوى المُبطَّنة وبالشكوى المُغلَّفة، غير المُباشِرة – من أجل أن يقترح الزوج حلولاً عملية، أحياناً هي لا تُريد هذه الحلول، ليس في واردها أصلاً أن تُفكِّر في الحلول، ماذا تُريد هي؟ تُريد بعد فترات طويلة أن يُستمَع إليها، أحياناً بعض الأزواج والله يمر يا إخواني سنوات دون أن يُعطي نفسه فُرصة أن يستمع إلى زوجته بشكل علمي وبشكل إنساني مُحترَم، سنوات! فهو لا يشعر بها، وهو يظن أنه استمع إليها أكثر من مرة، ولكنها رأسها ناشف، رأسها عنيد، لا تأخذ بآرائه، وتُكسِّر كلامه، لا! الأمور لا تُدار على هذا النحو وبهذه الكيفية.

الزوجة تُريد في أكثر الأحيان فقط أن يُستمَع إليها، باللُغة العامية أن تفضفض، تُحِب أن تفضفض إلى زوجها، تُحِب أن تُفهِمها أنها ليست مُرتاحة وأن تُشعِرها بأنها ليست مُرتاحة، نوع من دق ناقوس الخطر، تقول له أنا الآن تعبانة، وطبعاً هذا التعب يُمكِن أن ينعكس على الناحية الجسمية، فتبدأ تُعاني من آلام وتباريح، كلها ذات أصول نفسية يا إخواني، يُمكِن أن ينتهي أيضاً – والعياذ بالله – إلى نشوز هذه المرأة، إلى تبدل الحُب إلى بُغض، فتبدأ تُبغِضه بعد فترة، بعد سنين! وهو لا يظن أن هذه إساءة، هو لا يظن هذا، ويقول أنا لا أضربها، لا أمد يدي عليها، لا أسبها، لا ألعنها، لا أفعل كذا، لست مُقصِّراً في المصروف، لا! هذا ليس كافياً، كونك لا تستمع إليها، خاصة في الظروف التي يُطلَب أن تستمع إليها فيها، هذه أكبر إساءة إليها، والمرأة تشعر بأنها إساءة، وبأنها محرومة من شيئ حيوي وضروري في الحياة الزوجية، وأنت لا تُقدِّر هذا للأسف الشديد.

وحين تنتهز فُرصة هي – أعني الزوجة – لكي تُحادِثك وتطلب منك الاستماع أنت مُباشَرةً تختصر الطريق إلى ماذا؟ إلى اقتراح الحلول، والرجل عموماً يُحِب الحلول العملية، مثل سيارة تعطَّلت، مُباشَرةً يبدأ يشتغل في تصليحها، لا! الحياة الزوجية ليست كذلك، ليست سيارة تعطَّلت فنبدأ في تصليحها، أو لمبة احترقت فنُغيِّرها، لا! ليست كذلك أبداً أبداً، المرأة تُريد أن يُستمَع إليها، انتبه! مُجرَّد أنك تستمع إليها هذا أحياناً يُشكِّل تسعين في المائة من الحل، وهو بحد ذاته حل للمُشكِلة، أنك استمعت إليها! دون أن تقترح حلولاً أو تجترح حلولاً، فهذا الشيئ مُهِم جداً – إخواني وأخواتي -.

وطبعاً هذا الاستماع ليس عبثياً، له نتيجة، ونتيجة عملية وإيجابية، أنك حين تستمع إليها الاستماع الفعّال ستُدرِك احتياجاتها الحقيقية، وطبعاً للأسف نحن كرجال نظن – كما قلت قُبيل قليل – أن لُب وجوهر احتياجات الأزواج – أي الزوجات – الحقيقية هي ماذا؟ الطعام والشراب والملبس والعطور وكذا وكذا، وأنت تقول لنا أنا لست مُقصِّراً، لا! أنت مُقصِّر، مُقصِّر كثيراً أنت في احتياجات أهم عند المرأة حتى من هذه الأشياء، أن تشعر بها، أن تتعاطف معها، التعاطف! الــ Sympathy والــ Empathy، تعيش حالتها العاطفية، كما يُقال تسير في حذائها، تشعر بها، تشعر بمُعاناتها، وطبعاً في المُقابِل حتى الرجل يحتاج – لكن إلى قدر أقل بلا شك من المرأة – أيضاً إلى أن تتفهَّم هي حاجاته، وأن تشعر بالمتاعب والمُنغِّصات والمُوتِّرات التي يتعرَّض لها كل يوم تقريباً دون أن يتكلَّم، الرجل لا يُحِب أن يتكلَّم كثيراً، وهذا معروف، الرجل حين يغضب، حين يحزن، وحين تدهمه مُصيبة أو مُشكِلة يُحِب أن ينفرد بنفسه، يدخل في غُرفة هكذا ويسد الباب على نفسه ثم يبدأ يُفكِّر، لكن المرأة ليست كذلك، لا تُحِب هذا أبداً، هناك طريقة مُختلِفة تماماً، المرأة حين يكون هناك ما يُهمهما ويستثيرها تُحِب أن تفضفض، تُحِب أن تتكلَّم، لكن الرجل ليس كذلك، فلابد أن تتفهَّم طبيعة الرجل ويتفهَّم هو طبيعتها، من خلال الاستماع يُمكِن أن نتفهَّم احتياجات بعضنا البعض.

بعض العلماء والدارسين يرى أن أكثر من سبعين في المائة من مُشكِلات أو مشاكل الحياة الزوجية تجد حلها أين؟ أعتقد أن الجواب واضح لديكم الآن، في الاستماع فقط، في الاستماع! أن يستمع الشريكان إلى بعضهما البعض، ليس في إيجاد الحلول أبداً، في مُجرَّد الاستماع، وسوف أضرب في آخر هذه الحلقة – إن شاء الله – ربما بعض الأمثلة على قضية كيف يُمكِن أن نُدرِك احتياجات الآخر؟ ويحل هذا المشاكل بمُجرَّد أن نُدرِك احتياجاته التي كانت في دائرة الظلام بالنسبة إلينا، لم نكن نراها، كانت مُظلِمة وغير واضحة، والآن أصبحت في دائرة الضوء، وفهمنا أن هذا فعلاً من احتياجات الزوجة الأساسية الحيوية.

ولذلك – إخواني وأخواتي – ستفهم أنت بهذه الطريقة – مثلاً – أن زوجتك التي تُزعِجك لأنها لا تُشارِكك – نفترض مثلاً – كل مساء في مُتابَعة المُسلسَل المُفضَّل لديك – مُسلسَل عربي أو تركي مُدبلَج أو غير ذلك – لديها عُذرها، وهذا يُنغِّص عليك، هذه فُرصة، أنا أتيت من العمل، وبالكاد تناولت لُقمة الغداء، وأُحِب أن أُتابِع هذا المُسلسَل، ولكنها تأوي إلى الفراش أو تذهب مع الأطفال تُنيمهم أو… أو… تتشاغل بأي شيئ، أو حتى بعمل البيت أو المطبخ، لماذا؟ حين تستمع إليها وتستمع هي إليك ربما تُدرِك أنت أن زوجتك أيضاً تُحِب أن تُشارِك في مُشاهَدة المُسلسَل، تُحِب أن تُشارِكك في مُشاهَدة هذا المُسلسَل ولكنها لا تفعل، لماذا؟ الآن ستفهم أنت من خلال الاستماع، لأنها تُحِب أيضاً كل يوم حين تعود أنت من العمل وبعد أن تتناول الغداء أن تُشعِرها بأن جُزءاً مُستقطَعاً من وقتك لها، لها بشكل خاص، لها! تجلس معها ولو نصف ساعة، تسألها عن أحوالها، كيف قضت يومها؟ ماذا لقيت من أمور؟ ماذا يُوجَد من الأشياء الطريفة أو الأشياء غير اللطيفة التي واجهتها في اليوم؟ وتُحدِّثك هي عن اتصالات جرت بينها وبين أمها أو بينها وبين صديقاتها، عن مُشكِلة مع الولد في المدرسة أو في الروضة، إلى آخره! تُعطيها هذا الوقت.

ستكون سعيدة ومُكتفية، وسترى أنت النتيجة، بعد ذلك ستكون حريصة هي على أن تُسعِدك وأن تُشارِكك في مُشاهَدة هذا المُسلسَل، يُصبِح نشاطاً مُشترِكاً، جميل جداً ومُهِم جداً وضروري – إخواني وأخواتي – أن يكون بين الأزواج نشاط مُشترَك أو نشاطات مُشترَكة، وليس أن يعيش كل واحد في مسار، لأن في الأخير سيختلف المصير بعد ذلك، والمفروض أن المصير واحد للاثنين.

الزوجة أستاذة جامعية أكاديمية – ما شاء الله -، كل يوم تعود وتبدأ تُحدِّث زوجها في بعض المشاكل الإدارية في الجامعة، بعض المشاكل العلمية، وبعض ما يعرض لها مع الطلّاب، ومع زميلاتها أو زملائها الأساتذة والأستاذات، لكن الزوج دائماً يتبرَّم ويتضجَّر، وهذا يُزعِجها جداً، لماذا؟ هي العيب منها الآن، هي أيضاً لم تفهم أنه ربما يهمه بقدر أو ما – أي بقدر كثير أو قليل، بقدر ما – أن يعرف وأن يطلع أيضاً على ما تُصادِفه في حياتها العملية كل يوم، هو يُحِب هذا، ولكن لا يفعل هذا هو، لماذا؟ لأنها حين تشرع في الحديث تتحدَّث كل يوم في نفس الموضوع، دون أن تُشعِره بأنها مُهتَمة ولو في حدود عشرة في المائة بما يحدث معه هو، بمشاكله هو، وهو عنده أيضاً مشاكل، سواء في وظيفة أو في عمل أو في أي شيئ آخر، لو أنها تبدأ معه وتسأله أيضاً عن أحواله وماذا جرى معه اليوم وما الذي اتفق له وكذا وكذا، هو سيُبادِلها أيضاً اهتماماً باهتمام، وسيبدأ يستمع إليها.

بالاستماع يا إخواني سنفهم هذه الاحتياجات، أي يُمكِن أن تكون هناك جلسة بين الزوجين في يوم مُعيَّن، تمتد إلى نصف ساعة أو خمس وأربعين دقيقة، ليُناقَش مثل هذه الموضوعات بالذات، لماذا أشعر بأنك تتضجَّر – أي تبدو عليك السآمة والملل – حين أُحدِّثك عما يتفق لي في حياتي الوظيفية كل يوم – مثلاً -؟ سيُجيبها هو، يتكلَّم وتتكلَّم، وهكذا! ستفهم احتياجاته، وهو أيضاً سيفهم، وبعد الفهم يأتي التفهم، يتفهَّم كل منهما احتياجات الآخر.

أعتقد مُعظَم الأزواج الاجتماعيين، الانبساطيين، غير الانطوائيين، والذين يُحِبون الضيافة – أن يحلوا ضيوفاً على الناس، وأن يحل الناس ضيوفاً عليهم -، عندهم مشاكل مع زوجاتهم بهذا الصدد وبهذا الخصوص، لماذا؟ سوف نرى، مُعظَم هؤلاء! وهذا من المشاكل التي تتكرَّر كثيراً، هو يظن أنها امرأة كسولة، قد ينعتها بهذا، وهي في الحقيقة ليست كذلك مُطلَقها، ينعتها بأنها كسولة، لا تُحِب أن تقوم بكرامة الضيوف، وطبعاً هي عباراتها حتى ربما أحياناً لا تصب في الاتجاه السليم، لا تصف المُشكِلة جوهرياً، وربما تشتكي هي من كثرة الضيوف، تقول كل يوم والثاني ضيوف ضيوف ضيوف، أنا لست قادرة، أنا عندي أولاد، أنا عندي شغل، أنا عندي كذا، أنا تعبت، أنا مللت، أنا مريضة، عندي ألم، وعندي كذا وكذا، مثلاً! وهو لا يفهم، وهذا الوصف طبعاً وصف خاطئ وغير دقيق وغير واقعي، يزيد في تأجج المُشكِلة واحتدام النزاع والصراع بينهما، هو لا يفهم كل هذا، هو يفهم أنها كسولة، لا تُحِب أن تقوم بواجب الضيافة، أو يفهم أنها لا تُحِب الضيوف، هكذا! وربما أسرتها كانت كذلك، أو أنها بخيلة، لا تُحِب أن تُقدِّم شيئاً للناس، تضن بكل شيئ، تُحِب أن يكون كل شيئ لها ولبيتها، لزوجها وأسرتها – مثلاً -، وهذا كله توصيف أيضاً غير دقيق.

حين يجلس إليها ويُحاوِل أن يستمع وتُحاوِل هي أن تستمع سيكتشف شيئاً عجيباً، ماذا سيكتشف؟ أن الزوجة ربما تُحِب الضيوف بالقدر الذي يُحِبه هو، أو أكثر حتى، وستقول له بالعكس! أنا من بيت مضياف، الضيوف تقريباً كانوا لا يُغادِرون بيتنا، كل يوم والثاني ضيوف ضيوف ضيوف، نحن هكذا كنا نُعيش، ولكن الذي يُنغِّص علىّ ويُزعِجني أنك تُحرِجني، تُظهِرني بمظهر غير لائق أمام الضيوف، فيقول أنا! كيف؟ لم يحدث، لكنها تقول لا، يحدث هذا، فيقول كيف؟ هذه امرأة كريمة، وبنت أُناس كرماء، هو لا يُعلِمها دائماً بموعد الضيافة هذه، أي (يطبون عليها طباً) الضيوف، فجأة يأتي الضيوف، ما الأمر؟ تنزعج المرأة جداً، المرأة تُحِب من زوجها على الأقل أن يُخبِرها قبل يوم أو يومين بهذا، يقول لها بعد يومين يا فلانة أو ثلاثة أيام أو أسبوع أو أكثر أو أقل سيأتي عندنا ضيوف، مَن هم؟ فلان وفلانة وكذا وكذا، كم العدد؟ تُحِب أن تُهيء نفسها المرأة، العدد كم؟ لكي تتأهَّب، لكي تأخذ أُهبتها، وتُحِب أن تشتري مُعيَّنة، وتُحِب أن تعمل أشياء مُعيَّنة، وتُحِب أن تُحضِّر حلويات مُعيَّنة وطبائخ وأشياء مُعيَّنة، فهذا كله يحتاج إلى استعداد وإلى إعداد وتهيؤ نفسي أيضاً، المرأة تُحِب هذا، وأن تظهر بمظهر المرأة الصناع، الحاذقة في صنع الطعام والحلويات وتقديم المشروبات والأشياء، تُحِب هذا هي، ولكنه للأسف الشديد يحرمها هذه الفُرصة، بأن يأتي بضيوفه هكذا (طبب)، يأتي من غير استئذان، يُغضِبها جداً ويعمل مشاكل!

أعتقد بعد جلسة استماع واحدة هو سيفهم هذا، ويتفهَّم فعلاً حاجة هذه الزوجة بهذا الخصوص، وتنحل المُشكِلة، ولن تعود أبداً، سيأتي بالضيوف كلما أراد، ولن تُوجَد أي مُشكِلة بعد ذلك، هذا بالاستماع! للأسف أحياناً – إخواني وأخواتي – تتهدَّم أسر وتنتهي، تنتهي إلى الطلاق وإلى التفكك، بسبب أن الزوج أو الزوجة أو كلا الزوج والزوجة لم يُدرِكا أن الاستماع مسألة ضرورية لتعرف حاجات الطرف الآخر، لم يُدرِكا هذا.

قد يقول لي أحدكم والله هذا كلام صعب وكلام كبير، وتقريباً هذه الطريقة مثل طريقة الغربيين، هذه طريقة مُتحضِّرة يا إخواني، سواء كانت غربية أو شرقية أو شمالية أو جنوبية، هذه طريقة مُتحضِّرة وراقية، نحن نفتقر إليها، وطبعاً نحن للأسف لم نر آباءنا وأمهاتنا يتعاملون على هذا النحو، ولم تخل حياة آبائنا وأمهاتنا من مشاكل، وأحياناً مشاكل كبيرة، وتُوجَد طبعاً حالات كثيرة وصلت إلى الطلاق، وعانى من جراء ذلك الأبناء والبنات، وما زالوا يُعانون إلى الآن، بعد عشرين أو ثلاثين سنة للأسف الشديد، فهم ليسوا قدوة لنا في كل شيئ، بالعكس! نحن سنبدأ طريقة جديدة – بعون الله تبارك وتعالى -، وسنكون قدوة لأبنائنا وبناتنا، أنا مُتأكِّد بعد أن نُجرِّب هذه المسألة ونتوفَّر على هذه المهارة – أي مهارة الاستماع، وكما قلت لكم هذا يحتاج إلى وقت وإلى مِران وإلى جُهد وإلى مُثابَرة، لكن أنا مُتأكِّد تماماً من هذا، لو حتى نجحنا بنسبة خمسين في المائة، أي النصف، أحرزنا النصف، علامات النصف! خمسين في المائة، فكيف بالأكثر من ذلك؟ – سنشعر شعوراً لاذاً، شعوراً طيباً جداً، بأننا شيئ مُختلِف، أصبحنا مُختلِفين، نختلف عن آبائنا وأمهاتنا، نختلف عن إخواننا وأخواتنا الذين يعيشون مثل… لا أدري ماذا أقول، مثل الناس التقليديين، ولكن بأسلوب همجي في إدارة حياتهم، ودائماً هناك مشاكل ودائماً هو حردان، وتذهب إلى بيت أبيها وأمها، والأطفال يُعانون، وهو أيضاً يُعاني، والجيران يعلمون، والدنيا كلها تعمل، مشاكل غير لائقة، غير لائقة بحياة زوجية مُحترَمة وبزوجين مُحترَمين!

أنت ستشعر – كما قلت لك – بأنك إنسان راقٍ، إنسان مُتمدين، إنسان مُتحضِّر، إنسان تختلف عمَن تعرف من الآباء والأمهات والأصدقاء والمعارف والأقرباء والإخوان والخلان، أنت شيئ آخر، شيئ جميل جداً! وكما قلت لك ونكون قدوة لأبنائنا وبناتنا.

حتى لا أنسى من المُهِم أيضاً – إخواني وأخواتي – في طريق اكتساب هذه المهارة بطريقة علمية بعض الأمور، أولاً حين ينشب صراع وحين ينشأ نزاع بين الزوجين ضروري أن يُناقَش في أسرع وقت، أي لا نبيته، لو هناك ظروف لا تسمح بنقاشه مُباشَرةً يقترح علماء النفس والمُتخصِّصون في هذه المسائل ألا نُرجئه أكثر من أربع وعشرين ساعة، هذا أفضل! الأفضل ألا يفوت هذا الوقت، في خلال أربع وعشرين ساعة أجلس مع الزوجة ونتكلَّم، لأن كلما تمادى الوقت يا إخواني تكثر الهواجس، وتزداد الوساوس، وربما يتدخَّل بعض أولاد الحلال – ولن نقول كلمة ثانية – ويبدأون يصبون الزيت على النار، فتتفاقم المُشكِلة، وكل واحد يبدأ يُفسِّرها بطريقة خاطئة من جهته، أي كأنه يحتقرني، لا يهتم بي، هو ود أن يستفزني، أراد كذا وكذا، والمسألة ليست بهذا الشكل إطلاقاً، لكن التمادي! فالأفضل في ظرف أربع وعشرين ساعة أن نجلس ويستمع بعضنا إلى بعض، لا نُؤخِّر هذا، هذا كان أولاً.

ثانياً ضروي أيضاً في كل مرة – إخواني وأخواتي – من الأزواج والزوجات أن يُناقَش موضوع واحد، ليس موضوعات كثيرة، وإنما موضوع واحد، نتفق أننا سنجلس مساء الأربعاء أو مساء الجُمعة – مثلاً – لنُناقِش الموضوع الفلاني، جميل! نتفق، نضرب موعداً لأنفسنا كزوج وزوجة، ويُوجَد موضوع واحد، لماذا موضوع واحد يا إخواني؟ موضوع واحد يُمكِن فعلاً أن نُحسِن عرضه وتصويره ومُجاذَبة أطراف الحديث حوله، فنستوفيه من جميع جوانبه، لكن إن استكثرنا وفتحنا أكثر من موضوع فقد نتورَّط وننخرط يا إخواني أيضاً في مشوار مُسلسَل المُعاتَبة والملامات، وكما قلت لكم نبدأ نُفتِّح الدفاتر القديمة والعتيقة، وطبعاً يحدث هنا الصدمة، الزوج يقول غير مُمكِن، غير معقول، لم أكن أنتظر ولم أكن أتخيَّل أنني سيء إلى هذه الدرجة في نظرك يا فلانة، وهي تقول وأنا لم أكن أيضاً أحسب أنني في نظرك هذه الزوجة الفاشلة العاجزة الكذا والكذا والكذا، إلى آخره! طبعاً لأنها ستتفح له خمسين محضراً، وسيفتح لها هو سبعين محضراً، ويوم كذا وكذا، وفي سنة كذا وكذا، وحتى ليلة الدخلة كذا وكذا، غير معقول! هي ستكتشف أنها مغضوبة ومسخوطة وغير مرضي عنها طيلة الحياة الزوجية، وهو سيكتشف الشيئ نفسه، وفي الحقيقة الوضع ليس كذلك، لكن هذا معنى أن تفتح أكثر من ملف وأكثر من محضر في جلسة واحدة، خطأ! هذا خطأ قاتل، ينبغي ألا نتورَّط فيه، لابد أن نضبط أعصابنا، وكل مرة نتكلَّم في مسألة واحدة فقط، وليس في كل المسائل، حتى لو نجحنا – حين ننجح في علاج موضوع واحد – ينبغي ألا يُغرينا هذا بأن نفتح موضوعات أُخرى، كأن نقول نعم، يُمكِن أن نحل المسائل مرة واحدة، لا! لا يُمكِن هذا أبداً، موضوع واحد جيد، هذا كافٍ، بعد فترة – بعد أسبوع أو أسبوعين – نفتح موضوعاً آخر.

من الضروري والمُهِم جداً – إخواني وأخواتي، أحبتي في الله – في كل مرة أيضاً أن نفعل هذا مُنفرِدين، في خلوة! ليس أمام الأولاد، وطبعاً ليس أمام الآباء والأمهات والعامات والخالات والصديقات والأصدقاء، أبداً! وحدنا، تعرفون أن في محضر الناس – حتى لو كانوا الآباء والأمهات، أقرب الناس إلينا، أي إلىّ وإليها – الإنسان ينزلق مُباشَرةً للدفاع عن نفسه، لماذا؟ لأن الآخر ينزلق أيضاً في اتهامه، كل واحد يصير حريصاً على أن يُصوِّر الطرف الآخر على أنه المُذنِب وعلى أنه الجاني وعلى أنه المُقصِّر، وطبعاً الطرف الثاني سيُضطَر أن يأخذ موقف ماذا؟ موقف الدفاع، فشلنا فشلاً ذريعاً.

وعلى فكرة بعض كبار الناس العقلاء والحُكماء لم يفهموا هذا المبدأ، لم يستوعبوه جيداً، وانتهت حياتهم إلى فشل ذريع، أنا هنا أستذكر تولستوي Tolstoy، الأديب الروسي العظيم، هذا إنسان عظيم أصلاً، قبل أن يكون أديباً عظيماً هو إنسان عظيم، وعقل كبير، وحكمة واسعة، وإنسانية فائضة، إنسانية غامرة عند تولستوي Tolstoy! لكنه عاش مع زوجته حياة ولا أتعس، من أتعس ما يكون، يقول بعض النقدة أو النقاد – نقاد الآداب – حين تقرأ مُذكرات هذا الرجل وماذا كتب عن زوجته فقط يتجسَّد أمامك معنى واحد، الرجل كان يخوض قضية في محكمة، كل همه أن يُثبِت براءته وأن يُدينها، إذن وماذا بعد؟ ونفس الشيئ من جهتها هي، وعلى فكرة كثير من مشاكل تولستوي Tolstoy عبَّر عنها في روايته الشهيرة العالمية آنا كارنينا Anna Karenina، عبَّر عنها بطريقة إلى حد ما غير مُباشِرة، فهو يتحدَّث عن مأساته هو، وهي – نفس الشيئ – كانت تُريد أن تُثبِت للعالم أنه هو المُخطئ والمُقصِّر والجاني، وأنها هي البريئة الضحية المهضومة المكسورة المظلومة، وماذا بعد؟ ثبت هذا، لكن أنتما فشلتما، لم تسعدا، لم تعيشا الحياة اللائقة بكما، اللائقة بحكيم مثل هذا الرجل، للأسف الشديد لأن الهاجس كان أن أُثبِت للآخرين، ولا ينبغي هذا أبداً، الحياة الزوجية يا إخواني ليست كذلك، لكن بعض الناس هكذا، يقع في هذه الحماقة، يبدأ يتكلَّم مع كل مَن هب ودب عن زوجته وماذا عملت وما مشاكلها ويتحدَّث عن أخيها وأختها وأبيها وأمها، ويقول أنا المسكين (الغلبان) المكسور الكذا والكذا، وماذا بعد؟ هذا لا ينبغي أبداً، لن ينفعك شيئ، هذا سيزيد الطين بِلة كما يُقال، سيزيد الطين بِلة، لا! هذه المسائل تُحَل في خلوة بين الأزواج، وهذا يُريد – كما قلت لكم – حكمةً، هذا يقتضي حكمةً، يقتضي حكمةً وذكاءً.

إذن الآن بقيَ أن أتحدَّث عن شيئ، وللأسف أدركنا الوقت، فقط أُريد أن أتحدَّث عن مسألة بسيطة جداً، في الأخير يا إخواني من نتائج هذه المهارة والتدرب عليها سيكتشف كل من الزوجين أن سر الحياة الزوجية أو بعض سر الحياة الزوجية يكمن في ماذا؟ في أن كلاً من الطرفين يُحِب أن يشعر بأنه حُر ومُستقِل، رُغم أنه حريص جداً على المُشترَك مع الطرف الآخر، هناك مُشترَكات بين الزوجين، لكن لابد أن تُشعِر الآخر بأن له هامشاً وسيعاً من الحرية والاستقلال يتحرَّك فيه، لكن بكلمة الرجل أحرص على الاستقلال من المرأة، ولذلك أكثر شيئ أو أكبر هاجس يُؤرِّقه هو أنها تُريد أن تُسيطر عليه وأن تلوي ذراعه وأن… وأن… وأن… المرأة أقل حرصاً على هذا منه، مع أنها حريصة أيضاً، ولكنها أقل حرصاً على حريتها واستقلالها، ولذلك يُمكِن أن تُضحي بقدر أو بآخر منهما، في سبيل ماذا؟ في سبيل المودة والحُب.

هذه طبيعة الزوج، وهذه طبيعة الزوجة، أتمنى لكم حياةً زوجيةً سعيدةً هانئةً رضيةً ومُوفَّقةً، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: