إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

روى الإمام البخاري – رضيَ الله عنه – في الأدب المُفرَد بسندٍ صحيح عن معقل بن يسار – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال: مضيتُ مع أبي بكر الصديق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إلى رسول الله – صَلَىَ الله عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيرا – فقال – صَلَىَ الله عليه وآله وأصحابه وسَلَّمَ – يا أبا بكر للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يا رسول الله، وهل الشركُ إلا مَن جعل مع الله إلهاً آخر؟!
فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل – الشرك بطبيعته الذي يعرض للتوحيد وعلى التوحيد : أخفى من دبيب النمل – ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا أبا بكر ألا أدلك على شيئٍ إذا فعلته ذهب عنك قليله وكثيره؟!

وبالحري أن الصديق قال “بلى”وإن لم يذكر ذلك الراوي، فقال “قل اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِك بك وأنا أعلم – وفي روايات أخرى لآخرين اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِك بك شيئاً وأنا أعلم، ولكن هنا من غير ذكر المفعول – وأستغفرك لما لا أعلم”، صَلَىَ الله وسَلَّمَ وبارك كثيراً كثيراً إلى أبد الآبدين على مُعلِّم الناس الخير،على أستاذ الأساتيذ وقائد الأئمة ومُقدَّمهم في باب التوحيد، فعجيبٌ قوله “للشرك أخفى من دبيب النمل”، كيف يكون الشرك أخفى من دبيب النمل؟!

أبو بكر لم يعترض ولكنه استفصل بقوله: وهل الشرك إلا أن يجعل المرء مع الله إلهاً آخر ؟!

لأن هذا هو الشرك الذي نفهمه، لكن الرسول قال “لا، هو أدق من هذا وأخفى وأغمض” أي أدخل في باب الغموض والخفاء، ثم علَّمنا – صَلَىَ الله تعالى عليه وآله من مُعلِّم – أن من باب هذا الشرك الذي صار يُعرَف بالشرك الأصغر – وبلا شك هو ليس الشرك الأكبر -أن تجعل لله نداً وقد خلقك.

نعوذ بالله ونُعيذ أحبابنا وإخواننا وأخواتنا جميعاً من الشرك كله، كبيره وصغيره، ظاهره وخفيه، دقه وجله، لأن الأمن يوم القيامة يكون على قدر خلوص التوحيد وبراءته من كل شوب شركٍ، فالله يقول فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ ثم يأتي جاء الجواب الإلهي الجليل الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ۩، وفي البخاري أيضاً فسَّر النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – هذا الظلم المذكور في آية الأنعام بالشرك وقال ألم تسمعوا قول الرجل أو العبد الصالح –
أي لقمان عليه السلام – لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩ أي أنه ذكر الشرك على أنه ظلم، فإذن الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا – أي لم يخلطوا ولم يشوبوا – إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ – أي بشركٍ – أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩، ويثور السؤال في المقام: فما عساه يكون حال مَن شاب توحيده بشركٍ أصغر؟!

الأمن ليس تاماً له، سوف يُبعَث من الآمنين – إن شاء الله تعالى – ولكن أمنه ليس تاماً، يُخالِطه شيئٌ من خوف على قدر شوب هذا الشرك الذي شاب إيمانه وتوحيده به، أما الذي يأتي بإيمانٍ وتوحيدٍ خالصٍ تام من جميع الجهات هذا يُبعَث آمناً أماناً تاماً – اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنك – ولكن الأمر جِد والأمر صعبٌ وعسيرٌ فنسأل الله أن يُيسِّره لنا وعلينا وأن نعبده وأن نُوحِّده على الوجه الذي يرضاه منا ويرضى به عنا.
علَّمنا – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن الرياء من الشرك الأصغر، من الشرك الخفي، كأن تعمل العمل الصالح تبتغي به وجه الله ولكن تطلب إلى ذلك نظر الناس والمدحة عند الناس، فهذا لا يجوز لأن هذا شرك، واضح أنه ليس شركاً أكبر ولكن أصغر، فكيف تطلب وجه الله وإلى وجه الله تطلب وجه الناس؟!
مَن هم الناس حتى تُطلَب وجوههم إلى وجه الله؟!

والله لو فُرِضَ أن المُراد بالناس هنا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهو أعظم وأكرم وأجل خلق الله ما جاز ولا انبغى أن يُطلَب وجهه إلى جانب وجه الله، لأنه في نهاية الأمر عبدٌ من عباد الله فيرجو مثلما ترجو من رحمة الله ويخشى مثلما نخشى من سخط الله وغضبه، والأنبياء كلهم على هذه الطريقة فقال الله إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ۩، كما أن الملائكة تخشى الله – تبارك وتعالى – حيث قال يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ۩، فلماذا تطلب حتى وجه رسول الله؟!

فكيف بمَن يطلب وجه فلان وعلان؟!

ولا نُريد أن ننعت الناس بشيئ، ولكنه غريق يتشبَّث بغريق، ومن هنا إذا طلبت فاطلب وجه الله وحده وما عليك من الناس – من كل الناس – وليقل الناس ما شاءوا، لهم هواهم أن يقولوا، ليرموك بما يعن لهم أن يرموك به فأنت تكتفي بعلم الله بك، أنت تعلم أن الله مُطلِعٌ على الخفيات والكوامن والضمائر والنوايا أو النيات وهذا يكفي.
إذن هذا الرياء من الشرك الأصغر، فهو شركٌ في النية، شركٌ في القصود – جمع قصد – ولكن هناك نوع آخر من الشرك الأصغر وهو الحل – اليمين والقسم – بغير الله، فالحلفُ بغير الله من الشرك الأصغر وليس شركاً أكبر، قال الرسول “فمَن كان حالفاً فليحلف بالله أو يصمت”، أي ليسكت، فلا تحلفن بأي شيئ أو بأي أحد غير الله تبارك وتعالى، ولكن لماذا؟!

لأن متى يرى الإنسان نفسه مدفوعاً أن يحلف أو أن يُقسِم أو أن يُلقي اليمين ؟!

إذا أراد أن يُوثِّق كلامه ويُؤكِّده، إذا أراد أن يلبغ الغاية في التعظيم – في التعظيم لأحد أو لشيئ أقسم به – لأن الحلف غايةٌ في التعظيم، وغايةُ التعظيم لا تنبغي إلا لأعظم عظيم – لا إله إلا هو -، فأنت تتحدَّث عن غاية التعظيم فكيف تجعلها لغير الله فتحلف به؟!

هذا لا يجوز، إذن الحلف بغير الله أيضاً من أقسام الشرك الأصغر، الشرك الخفي، وأعتقد أن هذا معلوم لجميع المسلمين والمسلمات لأن كلهم تعلَّموه وتلقَّنوه وسمعوه مُذ كانوا صغاراً، ولكن خطر لي – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحكم – أن هناك شركاً كما تقول العامة أو تعودت أن تقول ضارباً بأطنابه فيغتال مُعظم حالات ومواقف وسلوكات المُوحِّدين دون أن يأبهوا به وله، دون أن يتفطَّنوا إليه – وهذا شيئ خطير جداً – على أنه أوضح حتى ربما من هذا الشرك الذي علَّمناه النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وحذَّرنا منه، ولكن كيف؟!

سنتلطَّف حتى نعرض هذا المعنى الجديد، القرآن العظيم ذكر أن من أحوال المُشرِكين – مُشرِكي الجاهلية – أنهم كانوا إذا ركبوا البحر فاغتلمت بهم الأمواج وعصفت الرياح الزعازع ولعبت بالسفين حتى خشوا الهلاك وحملق الموت بأعينه في وجوههم نسوا كل آلهتهم التي يدعون ويُشرِكون مع الله ومن دون الله ومحضوا الله – تبارك وتعالى – الرغبةً والرهبة، فرغبوا إليه أن يُخلِّصهم وأن يُنجِّيهم وأخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق أنه إن فعل لا يعبدون إلا إياه سبحانه وتعالى، ولكنكم تعلمون البقية فهم يتلاعبون بهذا الكلام وهذا شرك، هذه حالة من حالات المُشرِكين الذين لا يعرفون الله إلهاً يُخشى ولا يُفزَع إلا إليه إلا في المُدلهِمات، في النوائب الكبيرات والمُصيبات التي تُوقِن فطرتهم أنه لا مخرج ولا منجى منها إلا بفضل الله رحمته – لا إله إلا هو – لأن الفطرة تُدرِك هذا، ولكن المسألة والصعوبة تنجم من تأثير وتشويش ومُشاغَبة العلم والثقافة والفكر والنظريات والآراء على الفطرة، فالعلم – العلم الزائف، العلم المُنحرِف – هو الذي يُؤثِّر على الفطرة، الله يقول فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ ۩، وهذا تعبير رباني عجيب ورائع بل أكثر من رائع، فلماذا يقول الله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ ۩؟!

ما هو الحنف؟!

الحنف هو الميل، إذن المعنى هو أقم وجهك مائلاً، ولكن مائلاً عن ماذا؟!

مائلاً عن كل طرائق الشرك، عن كل طرائق وسلوكات المُشرِكين، فعليك أن نحرف عنها، كأن الله يُنبِّه بهذا التعبير الدقيق العجيب المُفارَقي في ظاهره على أن الخطورة التي تحتوش وتكتنف التوحيد لا تأتي ولا تتأتى من طبيعة الفطرة ومن طبيعة التوحيد وإنما من طبيعة الأفكار والعلوم والمسالك والنظريات والآراء والثقافات والعوائد التي درج عليها البشر، فهذه هى الخطورة الحقيقية ومن هنا كأن الله يقول عليك أن تنتبه فإذا أردت أن يصفو منك التوحيد لي عليك أن تعرف مكامن ومآتي الشرك، فهناك مآتٍ وجوه كثيرة جداً له ومن ثم عليك أن تميل عنها، وهذا هو معنى قوله حَنِيفًا ۚ ۩ لأن الحنف هو الميل، فتميل عن وجوه الشرك كلها، قال الله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ ۩ وهذه هى الفطرة، فالفطرة ألا تصغو ولا تتلفت ولا تُؤخَذ عن مُواصَلة السير في هذا الصراط المُستقيم – صراط الله – فلا يُطلَب إلا وجهه، لا يُرغَب ولا يُرهَب إلا هو – لا إله إلا هو – ومن هنا قال عن هذه الفطرة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۩، لأن حقيقةُ الدين في تخليص التوحيد من شوائب الشرك الظاهر والخفي أو الظاهرة والخفية، ولكن المُشكِلة تأتي من عدم العلم فقال فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۩، فهذه آية عجيبة جداً من سورة الروم تُشير إلى أن المُشكِلة تأتي من أن الناس يعلمون عكس هذا فيفسد توحيدهم، ولذلك أنا أقول لكم – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – أن التوحيد كموقف ذهني وكموقف معرفي صعب جداً جداً جداً الآن فضلاً عن أنه كان صعباً أيضاً أيام رسول الله وأيام الأغارقة والفلسفة اليونانية، لأن من يوم ما أصبح للإنسان فكر ومذاهب وفلسفات وآراء أصبح التوحيد صعباً، ولكنه كموقف فطري سهلٌ جداً ويسير ومن هنا تأتي الآية تقول فِطْرَتَ اللَّهِ ۩ ، ومن ثم الإنسان يعيش – فعلاً – مُفارَقة فرغم صعوبة هذا الأمر إلا أنه من جهة أُخرى يُدرِك أنه لابد من توحيد العالم، ولكن لماذا الفطرة تُدرِك أنه لابد أن يُوحَّد هذا العالم؟!

لأنه صنعة إله واحد، فلابد أن يدل هذا العالم بوحدته على وحدانية صانعه، ومن هنا دأب العلماء – حتى في هذا العصر الحديث – بحمية وبحماس مُنقطِع النظير للوصول وفي سبيل الوصول إلى النظرية المُوحِّدة، فلماذا يُدرِك كبار الفيزيائيين بل وكبار عباقرة علماء الفيزياء أنه لابد من وجود نظرية مُوحِّدة تُفسِّر كل ما يجري في الكون الطبيعي ومن ثم تُغنينا عن كل المُعادَلات الأخرى؟!

لأن الفطرة تُدرِك هذا بذات منطق الفطرة إن كان يجوز أن يُقال أن للفطرة منطق لأن الفطرة لا منطق لها فهى شيئ مُختلِف تماماً، هى إدراك أعمق بالحدسي – وليست حتى أشبه بالحدسي – يتوفَّر عليه حتى الطفل صغير – كما قلت مرة حتى لا نُعيد الكلام – ولكن التوحيد هذا يحتاج إلى تعميق ومن ثم التوحيد كموقف معرفي ذهني صعبٌ جداً لكن كحالة فطرية سهلٌ جداً وميسور .

ونعود إلى موضوع المُشرِكين الذين عدَّدوا الآلهة على أن الله خلق الإنسان وأبدعه مُوحِّداً وفقاً للفطرة الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ ۩ – لا إله إلا هو – لكن المُشرِكون لم يُدرِكوا أن وقوعهم في التعديد والشرك إنما جاء كاستجابة وكترجمة مُشوَّهة لحاجاتهم ولنقصهم كبشر، فالبشر ناقص ومن ثم الإنسان جاهل لأنه لا يعلم كل شيئ، فهو يعلم أقل القليل ويجهل أكثر الكثير، وهكذا هى حالته دائماً، فهو هكذا اليوم وكان هكذا قبل عشرة آلاف سنة وسيكون هكذا حتى بعد مليون سنة، سيظل الإنسان يعلم أقل القليل ويجهل أكثر الكثير، لأن موقعه في الكون جد ضئيل، موقع كوكبه جد ضئيل، فماذا يعلم إن علم؟!

ولكن ماذا يجهل وهو جاهل بلا شك الكثير الكثير؟!

إذن المُشكِلة في النقص، فالإنسان ناقص والإنسان فقير والإنسان مُحتاج، وإلا مَن يقول لي إن الفقر ليس شاملاً بكل معاني الشمولية؟!

ومن هنا الله يقول يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ ۩، وتأمل في أغنى غني الآن على وجه الأرض فهو إن لم يكن فقيراً في ظاهر الأمر وباديء النظرة إلى المال – على أنه عند التحقيق فقير أيضاً إلى المال، فقير أن يبقى له ماله فلا يخسره بضربة واحدة، فأحياناً تأتي جوائح وتقوم حروب وتحدث مشاكل اقتصادية فيتبخَّر كل شيئ في ساعة ومن هنا نسمع بالحالات التي تقول أن أحدهم مات بالقلب لأن خسر ثروته في لحظة، وبعضهم يفقد توازنه وبعضهم تأتي عليه ذبحة صدرية فتُنهي حياته، وعلى كل حال عند التحقيق يتضح أنه بلا شك فقيراً – إلا أنه يفتقر إلى الصحة، فهو عنده المليارات ولكن ليس عنده المريء والمعدة التي تهضم الطعام جيداً ومن ثم مُحرَّم عليه أن يأكل أشياء كثيرة، فالمسكين فقير إلى الصحة رغم أن عنده المليارات، وأنت فقير وربما ليس عندك ملاليم ولكنك تأكل الزلط – كما يُقال – ولديك معدة تهضم الزلط، فربما يتمنى هذا الغني حالتك ويُشاطِرك نصف ماله وربما أكثر من نصف ماله ليُصبِح مثلك لأنه فقير إلى الصحة، وقد يكون فقيراً إلى صحة أولاده لأن ابنه عليل أو ابنته عليلة أو ربما زوجته عليلة، ومن ثم هو فقير إلى مَن يُعيد إليهم سواء الصحة بعد أن انحرفت صحتهم، إذن الإنسان فقير إلى أشياء كثيرة، ثم أن هناك الموت وهو حقيقة الحقائق التي تُؤشِّر بإصبع واضح إلى النقص الأكبر في الخِلقة الإنسانية، فحقيقة الحقائق أننا سنموت، فالفقير يموت والغني يموت والقوي يموت والضعيف يموت والملك يموت وكذلك السوقة لأن الكل سيموت، وهذا كله يدل على حاجات الإنسان ونقص الإنسان وهشاشة الإنسان.

أمام هذا النقص والجهل والحاجة والافتقار يحتاج الإنسان إلى قوة تُعوِّض وتعُزِّي وتُسلِّي وتُطمئن وتستجيب لهذه الحاجات، لهذه النقائص، لهذه الوجوه من الهشاشة والضعف، ولكنه للأسف ترجَّم هذا بطريقة سيئة فهو يعيش – كما يُقال – بالطول والعرض ولا شأن له بإله ولا بآلهة، حتى إذا ركب الفلك – كما قال القرآن الكريم – وخشى الغرق توسَّل إلى إله البحار والمياه وهو بوسيدون Poseidon – مثلاً – في الميثولوجيا الإغريقية، فيبدأ يسأل هذا الإله المُخصَّص على قد مخاوفه المائية البحرية فقط، فهو حين يكون في الماء ويخاف الغرق يرغب إلى إله البحار بوسيدون Poseidon ويبدأ يبتهل إليه، وطبعاً الاستجابة مُشوَّهة لأنها غبية وعبيطة، وحين يحتاج إلى محصولٍ وفير ومن قبل إلى مطرٍ غزير كما يحتاج أيضاً إلى نسلٍ كثير – إلى أولاد وبنات ونسل – يرغب إلى إله الخصب وهو أبولّو Apollo – مثلاً – في الميثولوجيا الإغريقية مرة أُخرى، ولكن حين تنحرف صحته عن سوائها وتُبرِّح به آلام المرض فيحن إلى أيام العافية ويخشى الموت – يخشى أن يُشفي به مرضه وعلته على الموت – فإنه يرغب إلى الإله الشافي المُعافي وهو آسكليبيوس Asclepius، وهكذا كان التعديد والشرك في كل الديانات حيث أتى كترجمة غبية لحاجات الإنسان وفقره، ولكنكم ستقولون هذا أيضاً معلوم تماماً لنا فهو شيئ بدهي في الثقافة، فما الجديد إذن؟!

الجديد يبدأ من هنا: كيف نعيش نحن كمُؤمِنين؟!

نحن – بحمد الله – مُؤِمنون، أعلنا أننا مُؤمِنون ومن أهل “لا إله إلا الله ، محمداً رسول الله”، ومن هنا نسأله بأسمائه وصفاته وبعزته ونوره وفضله أن يُحيينا عليها وأن يُميتنا عليها وأن يبعثنا عليها – على لا إله إلا الله – فهى حقيقة الحقائق بإطلاق، ليس فقط في الوجود الإنساني بل بإطلاق، فلا إله إلا الله هى حقيقة الحقائق فوق السبع الطباق، في مُنقطَع الأين، في جوف الثرى، في عالم الإنس والجن، في كل العوالم، في العالمين.

نظام الوجود ومُحرِّك الوجود ومُشغِّل الوجود هو لا إله إلا الله، علماً بأننا شرحنا مرة في خُطبة كيف أن التوحيد يُشغِّل الوجود.

كيف نعيش نحن الذين أعلنا أننا من أهل لا إله إلا الله؟!

كيف يغتال شركٌ خفي أشياء وأشياء في إيماننا وفي توحيدنا ونحن غافلون – والعياذ بالله – دون أن نفطن إليه؟!

كثير من المسلمين يغفل عن مثل هاته الأمور، ولن لن أقول قليل من المسلمين -لأن هذه الحقيقة – بل كثير منهم، ولأكون صريحاً معكم سأقول أنني دائماً ما أجد نفسي غير فاهم ومصدوماً – والله – من مُؤمِن أو مسلم يتغوَّل أموال الناس – والله لا أفهم هذا – فضلاً عن أنني لا أفهم – والله – كيف يُمكِن لمُؤمِن أو مُسلِم أن يكذب على الناس أو يطعن في أعراض الناس أو يفتري عليهم الكذب – وعزة الله لا أفهم هذا جيداً – لأنني كمسلم لا أتصور هذا حين أُحاوِل أن أفهمه، لا أتصور أن هناك مَن يُؤمِن بالله وأنه رقيبٌ فوقه وعليه – لا إله إلا هو – ولا تخفى عليه خافية ومع ذلك يكذب أو يسرق أو يُخالِف حتى إملاء ضميره ويفعل أشياء فظيعة مُحرَّمة بصريح النص الإلهي، إذن ما الحكاية؟!

الحكاية أن هؤلاء المساكين – عفانا الله وإياهم أجمعين – يعيش الواحد منهم أيضاً بالطول وبالعرض غافلاً عن الله وهو الإله الذي لا يُرغَب إلا إليه – لا ينبغي أن يُرغَب إلا إليه – ولا يُرهَب إلا هو – لا إله إلا هو – فهو إله الرغبة والرهبة هو الله – لا إله إلا هو – حتى إذا برزت له رغبة كبيرة كأن يُريد أن تتم له صفقة مالية ليغتني بها ويُسدِّد ديونه ويبجح على الناس أيضاً يعود إلى الله، فهناك مُن يُرد الغنى لكي يبجح فقط ويتفاخر، وأنا أعجب مرة أخرى من الذي يقضي حياته في التفاخر وهذا لا يليق بالكبار وبالناضجين، تتفاخر بماذا يا رجل؟!

يا ابن التراب ومأكول التراب غداً، تتفاخر بماذا؟!

أيام يسيرة وستُطوى صفحتك، إن حُقَّ لأحد أن يفخر فليفخر بشيئ واحد وهو أنه عرف الله – تبارك وتعالى – لأن والله العظيم – والله الذي لا إله إلا هو – ليس في هذه الدنيا شيئ يستحق أن يعمل له الإنسان ليل نهار وأن يكون هدفه الأكبر والغاية الأبعد إلا معرفة الله عز وجل، لأنك تحتاج الله الآن وهنا، ستحتاجه حين تمرض وحين تموت وحين تُدلَّى في قبرك وحين تُبعَث يوم القيامة، أنت ستحتاجه في كل المواقف، ستحتاجه إلى أبد الآبدين حتى وأنت في الجنة – أدخلني الله وإياكم الجنة جميعاً بفضله ومنه – ومن هنا معرفته هى كل شيئ، وعلى قدر ما تُوحِّده توحيداً خالصاً صافياً – كما قلنا – ستأمن يوم القيامة، وعلى قدر ما تُوحِّده وتعرفه معرفة أيضاً صادقة وصحيحة ستتمتع بجواره – لا إله إلا هو – يوم القيامة، فلا تعتقدوا أنه بدخول الجنة أصبح الكل سواء حتى وإن تفاوتت الدرجات، لأن الدرجات تتفاوت بكل معنى ومن كل جهة، ومن هنا تمتع هذا بجوار الله يختلف عن تمتع ذاك بجواره طبعاً، فالمُتعة تأتي على قدر المعرفة، فعلى قدر ما عرفت الله في الدنيا ستتمتع به في الآخرة، فكلما علت وسمقت درجتك في معرفته – لا إله إلا هو – كان نعيمك به أعظم في الآخرة.

فاللهم نعِّمنا بك في الدنيا والآخرة وعظِّم معرفتنا بك على الوجه الذي يُرضيك بما يليق بجلالك وقدرك.

توقير الله وإجلاله من فروع معرفته – لا إله إلا هو – ولكن للأسف الله يقول وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩ ويقول أيضاً مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ۩.

على كل حال هذا الإنسان الذي عاش غافلاً عن الله وبرزت له الآن الرغبة في الحصول على صفقة مالية – مثلاً – ليغتني بها يأخذ الآن يدعو ربه ليُتم له هذه الصفقة، فهو الآن يدعو رب الرغبة الذي لا يُرغَب إلا إليه ليل نهار ويقول “يا الله، يال الله”، وطبعاً إذا في في الجيرة أو في الجوار أو في المعارف بعض الصالحين أو مَن يظن بهم الصلاح سيُحاسِنهم ويُلاينهم وربما مد إليهم يداً بالعطاء على أمل أن يدعوا له أحدهم، فيقول لهم “ادعوا لي يا إخواني بارك الله فيكم ” لأنه يعلم أنهم أصلح منه وأطهر منه وأعف منهم فربما كانت دعوتهم أدنى إلى الإجابة، لأن المسكين الآن يُريد المال المسكين، ولكن نفس شيئ يحدث إذا أعطاه الله ما طلب فإنه ينسى الله ويطغى في ماله – كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ۩- بل وينسى أنه مُحتاجٌ إلى الله الآن أيضاً كما احتاجه قبل أشهر أو قبل أيام، فهو مُحتاجٌ إليه في إدامة هذه النعمة لكنه لا يعلم هذا، فالجاهل المُغفَّل لا يدري أنه مُحتاجٌ إليه في التوفيق، مُحتاجٌ إليه في أن يُوفِّقه إلى أن يتصرَّف في هذه النعمة على ما يُرضي الله، ومن ثم بدَّل نعمة الله كفراً – أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ۩ – لأنه طلبها بإسم الله وبالرغبة إليه حتى إذا متَّعه بإنالتها وإصابتها استخدمها في معصية الله.

الله أكبر يا أخي، ما هذا؟!

ما هذا العمى والضلال؟!
ولكن نفس الشيئ يتكرَّر حيث يعيش – كما قلنا – طاغياً لاهياً سادراً ثم تحل بساحته مُصيبة كبيرة أو تُوشِك أن تحل فيبدأ الآن يفزع إلى إله الرهبة، لأنه يعلم أنه لا يُنجيه من هذه المُصيبة إلا إله الرهبة، أرأيتم كيف يعبد آلهة مُتعدِّدة؟!

هو لايعرف الله عموماً، ولكن يعرفه في أحوال مُعيَّنة، يعرفه كإله رغبة ثم ينساه، ثم أنه في وضعٍ آخر يعرفه كإله رهبة فيرهب ويفزع إليه، أليس مُشرِكاً هذا تقريباً؟!

أليس يعبد الله بطريقة شركية؟!

ما الذي يحصل؟!

الله – تبارك وتعالى – لا يُعبَد إلا واحداً، وهذا الإله الواحد – لا إله إلا هو – هو ذاته السميع البصير الكريم العفو الغفور الجبار المُنتقِم – لا إله إلا هو – العزيز القهَّار، هو نفسه هكذا ولكن هل فكَّرتم أحبائي لماذا شاء الله – تبارك وتعالى – بحكمته في مُعظم الآيات التي تعرض لأسمائه وصفاته أن يحذف واوات العطف فيقول – مثلاً -الله هو السميع البصير وليس السميع والبصير؟!

علماً بأننا استمعنا إلى آيات من سورة الحشر في صدر الخُطبة التي قال فيها الله هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩، ولم يقل “هو الله الذي لا إله إلا هو الملك والقدوس والسلام والمُؤمِن والمُهيمن والعزيز والجبار والمُتكبِّر سبحان الله عما يُشرِكون”، أي أنه لم يُضِف واوات العطف بل حذفها، فهو لم يفعل هذا إلا في مواضع لا أدري بها الآن لأني لم أتقصاها مثل صدر سورة الحديد حيث قال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، أي أنه وضع الواوات في هذه الآية، فلماذا هنا أتى بالواوات؟!

لم أر مُحاوَلة تستحق الذكر إلا مُحاوَلة الزمخشري، ومن ثم عودوا إليها – لأن الوقت أدركني – في تفسير الكشَّاف، ولكن سنُضيف إضافة لعلها ألطف – إن شاء الله – وأدق من مُحاوَلة الزمخشري، فالزمخشري – رحمة الله عليه – لم يلتفت إلى نُكتة هى الجديرة بالذكر – علماً بأن الزمخشري من المُعتزِلة ومن ثم هو مُعتزِلي مُنزَّه طبعاً لأن المُعتزِلة بالغوا وأوغلوا في التنزيه، وعلى كل حال هو علَّامة كبير وأوحد عصره في باب البلاغة والبيان – أكثر مما ذكر فضلاً عن أن ما ذكره فيه تكلف رد عليه المُحقِّق الإمام ابن عاشور، فهو لم يلتفت إلى أن الآخر على الأول – هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ ۩– في هذا الموضع وحده فقط لتعاصي الجمع بين الأولية والآخرية باديء الرأي، فكيف يكون الأول الآخر، الظاهر الباطن في نفس الوقت ؟!

فهذا يُوجِب مُفارَقة أو تناقضاً في الظاهر، لأنه إذا كان ظاهراً فهو غير باطن، وإذا كان باطناً فهو غير ظاهر، بخلاف الصفات الأخرى التي يسهل فيها الجمع بين أكثر من صفتين دون أن أي تعارض ظاهري مثل “سميع بصير”، لكن في حالة الأسماء التي فيها تعاصي الجمع بين الأولية والآخرية باديء الرأي أتى بواو العطف فلم يقل “هو الأول الآخر، الظاهر الباطن، وهو بكل شيئ عليم” وإنما قال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ ليُؤكِّد أنه هو هو – لا إله إلا هو – الأول والآخر، فهذه صفات ذات ولكن – كما قلنا – لصعوبة أن ينسلك هذا في الذهن باديء الرأي أتى بالواوات، فهنا يأتي تعليم التوحيد من خلال الله الذي يُعلِّمنا التوحيد، فالرب الجليل هنا يُعلِّمنا كيف نُوحِّده كأنه يقول لنا عليكم أن تنتبهوا إلى أنكم لن تُوحِّدوني حتى تُدرِكوا أنني أجمع ما يبدو لكم مُتناقِضات، أنا الأول بلا أولية وأنا الآخر – في الوقت ذاته – بلا آخرية، وأنا الظاهر فليس فوقي شيئ – كما في حديث أبي هريرة الصحيح في مسلم – وأنا الباطن فليس دوني شيئ.

فالله – لا إله إلا الله – هكذا في الوقت ذاته، ولا وقت عند الله ولا وقت يحكم على رب الأرباب – لا إله إلا هو – وإله العالمين.

ولكن في الصفات الأخرى مثل سميع بصير ملك قدوس سلام مُؤمِن يتحدَّث من غير واوات العطف تنبيهاً لنا وتحريكاً على أنني ينبغي أن نعرفه كذلك فهو كذا كذا كذا كذا كذا كذا كذا في كل وقت، فلا ينبغي أن نعرفه كذا في وقت ثم نعرفه كذا في وقت، هذا ضرب من ضروب الشرك ومن ثم تمزيع وتمزيق للتوحيد كأننا نُمارِس شيئاً كالشرك – ونعوذ بالله طبعاً – عن جهل دون أن ندري.

لذلك إذا أردت أن تتفحَّص إيمانك وتروزه فيجب أن تعلم أنه ينبغي أن ترى في نفسك راغباً راهباً وذاكراً غير ناسٍ ومُستحياً مُجِّلاً مُوقِّراً لله في كل آن وفي كل الظروف وفي كل الحالات.
وإن كان لديك كل ما تُريد من كل شيئ كالسُلطة والمال والولد والعلم وما إلى هنالك فينبغي عليك في هذه الأحوال أن تشعر بدرجة مُتقدِّمة جداً من الافتقار إلى الله، فما رأيك؟!
يا أيها الغني، يا صاحب المليارات، يا صاحب الأولاد والسُلطة ينبغي أن تشعر – أُقسِم بالله – كما يشعر أفقر فقير، كما يشعر مَن ليس عنده شيئ لا مِن سُلطة ولا مِن مال ولا مِن ولد ولا مِن علم، فأنت تفتقر إلى رحمة الله وفضل الله، ومن ثم تدأب ليل نهار أيضاً على الدعاء دائماً – اللهم أنعم علىّ، اللهم أدم علىّ النعمة، اللهم واللهم – لأنك إن كنت كذلك – اللهم اجعلنا بفضلك ومنك كذلك – كنت العبد المُؤمِن المُضطَّر، يقول الله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩، فهل فهمتم الآن لماذا يُوجَد بيننا من عباد الله مَن إذا دعى الله لبَّاه؟!
هناك أُناس لا يدعون الله تقريباً في شيئ إلا لبَّاهم الله بل وتحدث أشياء أشبه بالمُعجِزات وبالخوارق، فهل تعلمون لماذا؟!

خُذوها كلمة واحفظوها وفكِّروا فيها كثيراً وعودوا إلى كتاب الله واقرأوه بإمعان وبتمعن: لأنهم عباد الاضطرار الدائم، دائماً يشعرون باضطرارهم إلى الله.
اللهم اجعلنا مُضطَّرين إليك في ليلنا ونهارنا وحلنا وقرارنا وفي كل أمرنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (15/1/2016)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 8

اترك رد

  • شكرا لكم وجزيتم قدر نيتكم وعملكم وتعبكم ..يالله كم لكم من اجر عظيم وحسنان شتى..لكل المجهولين القائمين على صفحة وموقع دكتورنا الفاضل عدناننا عدنان ونتمنى نشر صفحات الفيس بوك لكل من يصور ويمنتج ويحمل للنت كل مايقوله ويقوم به الدكتور.ولكم الف الف الف تحية وشكر وتقدير من كل محبي ومنابعي سلطان العلم والطرب عدنان

  • الاخوه المنتجين ومن يرفع الخطبه ياليت تجيبوا اخر الفيديو صورة الناس الحاضره الخطبه توثيق لا اكثر ولا اقل لكنه مهم

  • هل يمكن أن نطلق على التوحيد بأنه ( السهل الممتنع ) ؟ أي هل هو سهل على أناس و مستعصي على آخرين ؟ سبحان الله ذكر تعالى آخر سورة الكهف { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا حالدين فيها لا يبغون عنها حولا } جاءت الصالحات بالجمع لأن المؤمن الذي يبتغي الجنات يوفق لأعمال كثيرة صالحات ، بينما في الآية الأخيرة { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربه أحدا } جاء بالإفراد لندرة و قلة الأعمال التي تحمل هذه النوعية و هذا الطابع عالي الجودة و الامتياز لأن صاحبها زاد و ارتقى على ابتغاء الجنات بابتغاء و رجاء لقاء الله ذاته ؟ … حقا السعيد من وُفِّقَ لعملٍ كهذا و لو عمل واحد …

  • سبحان من جعل هذه الكلمة الطيبة كلمة التوحيد هي البداية و النهاية فالإسلام يبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله و النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الإسلام بضعٌ و ستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق ] و لذلك الجنة درجات كثيرة جداً جداً فهي حسب الأعمال و درجة الإخلاص في قول هذه الكلمة فالمؤمنون درجات و المتقون درجات و المجتَبون درجات و المصطفون درجات و المحسنون درجات و الصديقون درجات و الشهداء درجات و الدليل على ذلك ما ورد عن شهيدين في غزوة مؤتة رأى النبي درجتهما ساعة استشهادهما أحدهما رُفِعَ على سرير من ذهب و الآخر رُفِعَ بلا سرير .. قال فيهما إنما نقصت درجة ذاك الشهيد بتردُّدِه في ركوب غِمار المعركة و لم يكن عنده إقبال الشهيد صاحب السرير الذهبي … و لكن في نهاية المطاف جميع الموحدين على خير بإذن الله و لكن يحفّزنا تعالى على استباق الخيرات فكل حال يتواجد فيه الإنسان هو قابل للتحسُّن و السبق و الإجادة و الإحسان .. و أكثر من يُعينهم الله على المسارعة في الخيرات هم الذين يخافون تلك الساعة التي يلاقون فيها ربهم فكم أثنى الله عز و جل على هؤلاء حيث قال سبحانه { الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون } … ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذابَ النار … ما أجمل الحديث عن التوحيد و الكلمة الطيبة لا ينتهي الحديث عنها مهما تكلمنا … أحيانا الله عليها و أماتنا عليها و بعثنا عليها هو ولي ذلك و قادر عليه ربٌ كريم متفضل منعم سابق النعم قبل استحقاقها ….

%d مدونون معجبون بهذه: