إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۩ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ۩ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۩ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ۩ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ۩

صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بعد جُملةٍ طائلة من أحكام المواريث وأحكام الجنايات والأحوال الشخصية عبَّر الحق – سبحانه وتعالى وجل مجده – بقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۩ إذن الله يقول هنا وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩، والشرائع الإلهية – كما قد تعلمون وتعلمن – لا شك أن بينها ما هو مُشترَك، وأن ما بينها ما هو مُختلِفٌ مُتفاوِت، وحريٌ بتفاصيل هذه الشرائع الإلهية أن تختلف وتتباين، وهذا ما تعلمه الكافة من بعد الخاصة، فأحكام المواريث وأحكام الزواج والطلاق وأحكام الجنايات والعقوبات تتفاوت إلى حدٍ قد يبعد وقد يقترب بين الشرائع الإلهية ذواتها، لكن الله – تبارك وتعالى – مع ما تقرر من ثبوت هذا التفاوت عقَّب بقوله وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩، فكيف هذا؟ كيف ساغ هذا التعقيب وهذا التذييل إلا أن يكون المُشترَك هو الذي له الأولوية وهو الحاكم عند النظر إلى هاته الشرائع الإلهية؟ ما هو هذا المُشترَك بين هذه الشرائع التي تتفاوت فروعها وآحادها وتشترك في هذا المُشترَك؟ هذا المُشترَك هو رعيُ الشارع لا إله إلا هو – أي رعايته سُبحانه وتعالى – للمقاصد العامة الدائرة على استجلاب المنافع والمصالح ودرء المدار والمفاسد، فمبنى الشرع الإلهي – كل شرع من حيث أتى – على رعاية هذه المقاصد بهذا المعنى، ولذلك تبقى السُنن واحدة، لأنها دائرة على هذا المُشترَك، فهذا قطب الرحى!

شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور – نور الله ضريحه وسقاه بشآبيب الرحمة – حين شرح في كتابه العظيم المقاصد – مقاصد الشريعة الإسلامية – بيّن أن معنى صلوحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان ليس هو ما قد يظنه أو يتوهمه بعضُ الناس وربما بعضُ طلبةِ العلم وبعض أهل العلم، بمعنى أنها تصلح بتفاريعها وصورها وأنماطها دائماً وأبداً، فهو قال هذا غير صحيح، وهذا أمر عجيب، لكن الرجل مُجتهِد وجريء، فلماذا إذن؟ لأن بعض هاته الأحكام الإلهية في الشريعة المُصطفوية روعيَ فيها عادات العرب وأعراف العرب، والعادات تتفاوت من أمةٍ إلى أمة، وكذلك في الأمةِ الواحدة ذاتها من زمن إلى زمن ومن حقبةٍ إلى حقبة، وهذا مُقرَّرٌ معروف، لا يُمترى فيه وليس يشتبهُ على دارس، وقد مثَّل الشيخ الإمام – رحمة الله تعالى عليه – بمثال جيد على ما فيه أيضاً من موضعٍ للنظر والتنقيد، فهو مثَّل – رحمة الله عليه – بمثال أفاد أنه يُوجِب عند باديء النظر التعجب والاندهاش والحيرة – هذا يُورِث العالم المُجتهِد حيرةً – وهو الحديث الذي يتلقاه العامة دون أن يُورِث عندهم شيئاً لأنهم ليسوا من أهل النظر والاجتهاد، وهناك عوام في أهل العلم أيضاً – هناك عوام العلماء وهناك العلماء – كل ما عندهم هو مُجرَّد ترديد وتقليد وتحفظ أشياء يجدونها في الكتب، فليس عندهم قدرة على النظر وعلى الترجيح وعلى الاجتهاد لأنهم ليسوا هناك، ليسوا بتلكم المثابة وليسوا من أهل تلكم المرتبة – قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۩ – أصلاً، والحديث هو حديث ابن مسعود – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – المُخرَّج في الصحاح الذي يقول لعن الله الواصلات والمستوصلات والواشمات والمستوشمات والمُتفلِّجات للحسن، فهو قال هذا حديث عجيب ويُورِث الذهول والحيرة، لم ورد اللعن – واللعن لا يكون إلا على كبيرة وعلى مُحرَّم غليظ فاحش – في أمور أباح الشارعُ أشياء كثيرة من جنسها للنساء، فهو أباح لهن ضروباً من ضروب التزين؟ بعضهم قال تتمة الحديث المُغيّرات لخلق الله، فقال حتى التغيير ينطبق عليه هذا، فالشيخ الطاهر بن عاشور تناول هذه المسألة في موضعين، وذلك في المقاصد وفي التحرير والتنوير، وعند تفسير آية وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۩ أيضاً أفاض – رحمة الله تعالى عليه – قليلاً، وعلى كل حال هنا في التحرير والتنوير تناول مسألة التغيير، فقطع الشعر وقص الشعر للذكر وللأنثى من تغيير خلق الله، وهذا الشعر يخلقه الله فإذا قُصَّ فإن هذا تغيير لخلق الله، ونفس الشيئ تقليم الأظفار، فهو تغيير لخلق الله، والختان للذكور تغيير لخلق الله،وكل هذا مأذون به، وهناك ضروب من الزينة للمرأة أجازها الشارع الكريم وهى من تغيير خلق الله، لكن هذا لا يكفي، فالشيخ ابن عاشور لم يقتنع بهذا وانتهى به النظر – رضوان الله تعالى عليه – إلى أن الشارع – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وهو شارع مجازاً لأن الشارع الحقيقي هو الله تبارك وتعالى – حين قال هذا القول إنما تلمَّح عائدة السواقط – أي الساقطات – من نساء العرب وأصحاب الرايات وبائعات الهوى من سواقط النساء، فهؤلاء ربما كان في العُرف المعروف والعرف السائد والشائع أنهن يتعاطين هاته الأسباب من أسباب التزين، كوصل الشعر والوشم والتفلج – أي تفليج الأسنان بالمبرد حتى تحدث هناك فروق بين الأسنان – وما إلى ذلك، فالعرب كانت تستحب هذا، ومن ثم قال هذا كان علامة على هؤلاء النساء – أي على هؤلاء النساء بائعات الهوى – فنهى عنه الشارع، ونهيه عنه من باب النهي عن باعث شيئٍ لا يرضاه الشارع – والعياذ بالله – وهو السقوط في حمأة الرذيلة، قال الله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ۩، فهذا من بواعثه، أو أيضاً كان النهي تحصيناً للعواتكِ والحرائر من هتك الأعراض، لأن أصحاب الريبة وفسقة الرجال إذا رأوا امرأةً على هذا الوصف وبهذا النعت وعلى هذه الصفة ربما انتهكوا عِرضها، فكأنها تُنادي على نفسها أنها من بائعات الهوى، وفي التنزيل الحكيم قال الله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ – بماذا؟ أنهن حرائر عواتك مُطهَّرات ولسن من أهل الريبة ولسن من صاحبات الريبة – فَلَا يُؤْذَيْنَ ۩، فإذن على المرأة المسلمة الحصان الرذان ألا تتعاطى هذه الأسباب التي تتعاطاها سواقط النساء لئلا يُنتهَك عِرضها ولكي تُعرَف بأنها من الحرائر العواتك فلا تُؤذى، وهذا اجتهاد جميل، لكن فيه موضع للنظر أيضاً لم يستوفه الشيخ الإمام أو لم يُوفه حقه – حقيقة – تمام النظر وهو قوله عليه السلام المُغيرات لخلق الله، فهذا يحتاج إلى مزيد بحث، لكنه اجتهادٌ جيد وهو أجود على كل حال من بعض ما أشَّر به بعضهم كالحُجة الغزالي – قدَّس الله سره – من أن هذا قد يُحمَل على التغرير وعلى التزييف والتزوير في حق مَن؟ في حق البكر أو في حق التي لا بعل لها، فربما تتزين للرجال والخُطّاب بهذه الطريقة، فتصل شعرها حتى يُظَن أنه طويل غزير فتخدعهم بهذا، وهذا كما قيل في تحريم الصبغ بالسواد، حيث قال بعضهم يجوز للشباب وللكهول ولا يجوز للشيوخ الطاعنين في السن، فلا يجوز للشيخ الطاعن في السن بالسواد وإن جاز بالكتم وبغيره، لأنه قد يكون فيه شيئٌ من تغرير، وبعضهم قصره على الحالة التي يكون فيها تغرير كحال خطبة أو غيرها، وكل هذا مدارك للنظر ومسارح للفكر، فهو جائز لأن هذه أبواب الجهاد وهذه هى مرونة شريعة محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – طبعاً، فهذه مرونة الشريعة التي لا يعرفها مَن شدا من العلم حرفاً وحرفين ومشى فيه بخطوٍ خُطوةً أو خطوتين ثم توقف وقعد وبدأ يتنقد على الكبار وعلى الفحول في كل زمان، وهذا لا يجوز لأن الشريعة واسعة جداً.

الذي بعثني في الحق على هذه الخُطبة هو ما ذكرته في عجُز الخُطبة السابقة مما يتعلق بموضوع أن الشارع الحكيم في قضية أو موضوعة ضرب النساء جرى على عرفٍ مُتعارَف، فهو راعى هذا العرف، وقد عقبَّت بالقول إن تغير هذا العرف بحيث تتقاعد وتتقاصر هذه الوسيلة وهذا السبب عن تحصيل مقصوده فلا يجوز اصطناع هذا الحكم، وهنا لا نكون خالفنا شرع الله، بل هنا نكون وافقنا الله في شرعه، لأن المقصود من تشريع الأحكام ماذا؟ تحقيق المقاصد، فإذا علمنا بالقطع أن هذا الحكم إن أخذناه بحرفه وعلى وجهه مع تغير العوائد والأعراف والأزمان والأحوال وأشياء كثيرة تقاصر عن تحقيق مقصوده بل لعله يُحقِّق المقصود الضد – أي لعله يأتي ضداً على مقصوده، وهذا من قول الله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ۩، فيأتي ضداً على مقصوده الذي لأجله شرعه الشارع الحكيم – لا يجوز اصطناع هذا الحكم، وهنا نكون وافقنا الشرع، ووافقنا الله في شرعه مع أننا خالفناه في صورة الحكم لكننا وافقناه في ماذا؟ في مقصد الحكم، والمُراد هو المقصد هنا، وهذا ليس من التلاعب بالشريعة، وفي القاعدة التاسعة والثلاثين من مجلة الأحكام العدلية لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الأزمان، لكن الشرَّاح – أسد رستم وغيره – قد قصروا عن تناولهم هذه القاعدة التاسعة والثلاثين بالشرح، إذا قصروا تغير الأحكام على تغير الأزمان، وهذا غير صحيح، فالأحكام الشرعية تتغير بأسباب كثيرة جداً، لعل كل ما تحدث عنه العلماء من أبواب الاجتهاد يُؤكِّد هذا، مثل الاجتهاد القياسي والاجتهاد بالقياس أو الاجتهاد الاستصلاحي أو الاجتهاد الاستحساني أو الاجتهاد بفتح الذرائع وسد الذرائع على الاختلاف فيه أو الاجتهاد بمُراعاة الأعراف وإلى آخره، فكل أولئكم وغيره أيضاً يخضع للتغير، والثابت دائماً هو تلمح المقاصد، لكن طبعاً وزن المقاصد وتنقيح المقاصد أولاً، وتعيير المصالح من المفاسد وميز ذلك على منهاجه أمرٌ عسيرٌ جداً ويحتاج إلى أهله، وهذا كلام عام لذلك التنظير والتأصيل سهل، لكن التطبيق والتحقيق هو الصعب، وهو الذي يحتاج إلى مزيد دُربة ومُمارَسة ومُشاوَرة ومُفاوَضة أهل العلم بل المجامع العلمية، والمفروض في الفقه الإسلامي أن يكون فقهاً حياً نابضاً، فيتحرك بحركة الحياة وينبض بنبض الحياة، ولا يُمكِن دائماً أن نعتمد على ما شرَّع السابقون وما اجتهد السابقون دائماً فنأخذه على وجهه لكي نُدبِّر ونُسيّر بها حياةً أخرى وزمناً أخر، وكما قلنا مرة هذا يُعَد عالماً منسوخاً، فلا يُمكِن أن نأخذ أحكام عالم منسوخ لعالم جارٍ معيش واقعي، إذن لابد للفقهاء أن يفعلوا هذا، وهذا ما فعله الصحابة أنفسهم، ويا أخي بل هذا ما سنه لهم سيد العالمين، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله أجمعين، فالنبي أصَّل أصولاً كثيرة وقعد قواعد كثيرة، وهى قواعد يُرعى فيها أيضاً المصالح وجلب المصلحة ودرء المفسدة، لكن لما رأى أن أخذ هذه الأصول جُملةً وتفصيلاً قد يشق على الناس وقد يعسر عليهم ويُضيّق عليهم حياتهم وقد يُفوِّت عليهم بعض المصالح المُتحقِّقة كان يستثثني، فمُباشَرةً كان يستثني هاته الأمور، والنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – نهى في حديث البيوع الربوية – في حديث الأعيان الربوية الستة المعروفة، حديث عُبادة وغيره – عن بيع التمر بالتمر، فهذا ممنوع لأنه ربا فضل إلا يدٍ بيد وها بها ومع المُساواة الكاملة، فالتفاوت لا يجوز وإلا يُصبِح من ربا الفضل، لكنه رخَّص في العرية، فلماذا رخَّص في الْعَرَايَا؟ وما هى العرايا؟ علماً بأن هذا ثابت في الصحيح، وعلى كل حال العرايا تعني أن الرجل قد يكون عنده أو له النخلة والنخلتان – وقس على ذلك نخلة أو نخلتان أو ثلاث نخلات أو خمس نخلات – في جُملةِ نخلٍ كثير – في حائط أو في بُستان فيه مائة نخلة أو ألف نخلة أو خمسة آلاف نخلة – جداً، ولرجل نخلات معدودات منزورات، فإذا جاء وقت الجزاز – أي وقت نضج الثمار، وهو هنا التمر – دخل هذا إلى بُستان الرجل صاحب البُستان، أي دخل إلى بُستانه لكي يجد تمره وربما لكي يأخذ منه شيئاً هو وأهله فيُضيق على صاحب البُستان، فلماذا؟ أنا صاحب البُستان، أُحِب أن أدخل بزوجتي وبأولادي وأن نقف في البُستان خمس ساعات أو ست ساعات، وهذا يأتي كثيراً من أجل نخلة أو نخلتين، فهنا رخَّص النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يُعطي صاحب البُستان صاحب النخلات المنزورات خرصاً، لكن ما هو الخرص؟ الخرص هو التظني، أي بالظن وبالحَذر، فنحن نحذِّر ونُحاوِل أن نُقارِب المسألة، أي نحذر – Guess كما يقولون بالإنجليزية – كم يُمكِن أن تُعطي النخلتان تمراً هذا العام، مثلاً مائة كيلو فنُعطيه مائة كيلو بالخرص، ويخلص ثمري كله لي ويخلص بُستاني كله لي فلا يدخل ولا يخرج، إذن هل هذا استثناء أم غير استثناء؟ استثناء من القاعدة، وهل فيه غرر أم ليس فيه غرر؟ فيه غرر، فأنا أعطيه مائة كيلو ومن المُمكِن ألا يكون ثمره مائة كيلو، من المُمكِن أن يكون ثمره مائة وعشرين كيلو ومن المُمكِن أن يكون تسعين كيلو، فمرة أنا أخسر ومرة هو يخسر دون أي مُشكِلة، وطبعاً مُمكِن هنا أن يُستعان بأهل الخرص، فهم عندهم قدرة على هذا الشيئ وعندهم دُربة ومهارة وتمرس، فالواحد منهم يخرص بهذا، وهنا أجاز النبي هذا الشيئ مع أن القاعدة تمنع منه، وقد حدَّثتكم غير مرة عن تجويزه – صلى الله عليه وآله وأصحابة وسلم تسليماً كثيراً – بيع السُلف أو بيع السَلَم – هنا بالضم وهناك بالفتح طبعاً – وأنه
قيده بقيود، ولسنا نعيد فقد ذكرناه أكثر من مرة ومثَّلنا به أكثر من مرة، والأصل هو النهي عن بيع ما ليس عندك، فالنبي هو الذي علمهم هذا!
يوم نهى أيضاً وحرَّم مكة – أي جعلها حرماً مُحرَّماً لا يُنفَّر صيدها وطيرها ولا يُختلى خلاها لا يُقطَع شجرها – قام عمه العباس – رضوان الله عليه – وقال يا رسول الله إلا الإِذْخِرَ – لابد لهم منه – فإنه لعروسهم وقينهم، ومعنى لقيونهم أي لحدادينهم، فالقين هو الحداد، والحدادة يستخدمون هذا ويُؤجِّجون به الكير أو نيرانهم، وهو مُهِم للعروس لأنه كان نبتاً طيب الريح، ويُقال يُسقى به البيت، فهو يلزم للعرسان ويلزم للقيون – للحدادين – أيضاً، ولذا قال له العباس إلا الإِذْخِرَ يارسول الله فإنه لقينهم ولعروسهم، فقال إلا الإِذْخِرَ، أي أن النبي قال هذا مُباشَرةً ولم يقل له كيف تُقدِّم بين يدي؟ كيف تستثني؟ هذا الأصل وهذا حرم مُحرَّم، لكن شرع الله مبناه – والله – على اليسر، حين تقرأون السُنة الصحيحة ومناهج الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – في الاجتهاد ومناهج التابعين ومُتقدمي الأئمى أيضاً – تقفون تماماً على حقيقة الأمر وأن دين الله مبناه على التيسير على العباد – وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ ۩- فعلاُ، فالإعنات ليس من هدف ولا من مقاصد الشارع ، إنما التيسير وتحقيق وتحصيل مقاصد العباد ومصالح العباد ودرء المفاسد والمضار والتباريح والأوجاع عنهم، لكن بعد ذلك أتى الفقه الصناعي والفقه التقليدي بالذات – سبحان الله – فأصبح تقريباً مبناه على التضييق على الناس، فهذه الأمة الإسلامية حُرِمت إلى الآن – ألف وأربعمائة سنة – أن ترسم عالماً وأن تُصوِّر شيئاً، ولن نتحدث عن صناعة مُجسَّم له، لكن طبعاً لا تُسموه تمثالاً أو صنماً، فالتماثيل أو الأصنام بالذات هى ما يُعبَد من دون الله، لكن يُمكِن أن نُسميه شرعاً ولغةً تمثالاً أو مُجسَّماً – Figure أو Figur – أيضاً، وهذا المُجسَّم ليس فيه شيئ، لكنهم يقولون أعوذ بالله منه لأن النبي قال كذا وكذا، لكن يا رجل النبي علَّل هذا وبيَّن لك والعلماء استخدموا عقولهم، فالنبي قال :هؤلاء يُضائهون خلق الله بصناعة أشياء تُعبَد من دون الله، ويوم القيامة يُقال لكل أمة اذهبوا إلى ما كنتم تعبدون من دون الله – في حديث أحمد وغيره بإسناد حسن -، فيذهب أهل الشمس إلى شمسهم وإلى آخره، فهناك ناس كانوا يعبدون الشمس وناس كانوا يعبودن القمر كما في سورة فصلت، وناس سوف يذهبون إلى النار وناس إلى عُزير وناس إلى عيسى وإلى آخره، والشاهد هنا أن النبي – عليه السلام – يقول ويذهب أهل الصور إلى صورهم، فإذن هذه هى الصور التي حرَّمها الله هى مُجسَّمات وصور تُعبَد من دون الله، وهذا لا علاقة له بأن ترسم عالماً أو ترسم فيلسوفاً أو ترسم مُجتهِداً، فلا يُمكِن أن تقول لي هذا حرام لأن فيه روح، ومع ذلك إلى الآن تُحرِّم الأمة تقريباً هذا، فهناك رسائل دكتوراة وماجستير تُحرِّم كل هذا، لكنهم لم يقولوا لنا لو كان هذا مُحرَّماً فعلاً لذاته من غير تعليل بشيئ معقول المعنى لماذا أباح النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لُعب الأطفال؟ لماذا فعل هذا؟ وهذا ثابت في الصحاح في حديث الرُبَيِّعُ بنت مُعّوذ رضوان الله عليها، في صحيح البخاري كنا نُصوِّم أطفالنا أو نُصوِّم صغارنا – يصوم الطفل الصغير ابن خمس سنوات أو ست سنوات أو سبع سنوات في بيئة حارة، حتى إذا انتصف النهار أو زالت الشمس عن كبد السماء برَّح به الجوع – فكنا نُلهيهم بالعهن، أي نصنع لهم العرائس، كالعرائس التي من الصوف مثلاً، وفي حديث أبي داود وغيره كان لعائشة – رضوان الله عليها – لُعب، فتلعب هى وصواحبها، وهى أيضاً على شكل خيل مُجنَّحة، وكانت تقول للنبي أتعلم هذه الخيل؟ هذه لسليمان – عليه السلام – ابن داود، لأنها خيل مُجنَّحة، وكانت تضعها عندها والنبي يراها، فإذن هذا يجوز، لأن لو كانت الصور وهذه التماثيل وهذه الأشياء المُجسَّمة حراماً لذاتها لكان الأولى أن يُشدَّد تحريمها على الأطفال الصغار، فلماذا؟ لأن هل يُمكِن أن نُنشئه على حرام؟ هذا مُستحيل!

وينشأ ناشئُ الفتيان منا                              على ما كان عَّودهُ أبوهُ.

لو كان هذا مُحرَّماً في ذاته لكان يجب أن يكون أشد ما يكون تحريمه في حق الطفل الصغير، حتى لا تتشرب نفسه استسهال هذا الأمر الفظيع، ولو كان مُحرَّماً في ذاته لما أباحه شرعٌ إلهي ولا حل لنبيٍ من أنبياء الله، وقد حل لسليمان الذي قال الله – تبارك وتعالى – في حقه يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ ۩، وقال تقريباً مُعظم المُفسِّرين في تفسير كلمة “تماثيل” أنها تماثيل ومُجسَّمات على صورة أسود ونمور وفهود فاغرة أفواهها في القصر عنده، فقصره مثل قصور الملوك لذا كانت موجودة عند سليمان هذه الأشياء، والجن كانت تعمل هذا، حيث كانت تعمل له مُجسَّمات على شكل أسد وعلى شكل حيوانات وما إلى ذلك، لكي يكون قصره مثل قصور الملوك في كل العصور، فإذن حل هذا لسليمان، ولو كان مُحرَّماً في ذاته ومُضاهة لخلق الله في حد ذاته ويُعتبَر كذا كذا لما حل لنبي هذا، فهذا مُستحيل وهذه الأشياء تبقى واحدة، لكن هذا حُرِّم كما أشار الإمام المُجتهِد أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن تحريم ذريعة، حيث قال ابن العربي أن المعنى الذي لأجله – والله أعلم – حُرِّم هذا الشيئ في شرعنا أنهم كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الصور والتماثيل، فأراد الشارع الحكيم أن يقطع جذر هذا الأمر وأن يقطع أصل هذا العرق، لعله ينبض لهم من قريب، فلو تركه لعله يعود فينبض لهم من قريب ويعودون إلى الوثنية، لكن لما تمادى الأمر على التوحيد وانقطع كل عرقٍ للشرك والترديد جاز بعد ذلك أن يُقال هذا الشيئ من الفنون التشكيلية المُباحة، فهذا فن جميل مثل كل الفنون الجميلة وليس فيه شيئ، لكن بقيت الأمة على جمودها إلى اليوم ليست تلين، وتُحرِّم هذا وتمنع هذا ولا تُجوِّز إلا ما كان على سبيل الاستثناء للضرورات والحاجيات، مثل أن يكون لجواز السفر وللعلوم ولمثل هذه الأشياء، وهذا لا ينبغي يا أخي، فيجب أن نكون مرينين مرونة الرسول نفسه – عليه السلام – ومرونة أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – من بعده.

وذكرنا غير مرة أيضاً أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان قد نهى عن التقاط ضوال الإبل – الإبل الضالة التي فقدها صاحبها – فجاء رجل يسأل عنها، فقال له النبي ما لك وما لها؟ أي ما علاقتك بهذه الإبل؟ فحتى الذئاب لا تعدو عليها وتُدافِع عن نفسها لأنها قوية، ومن ثم قال له ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل من العشب حتى يلقاها ربها، فما علاقتك بها؟ قال له فضالة الغنم أو ضوال الغنم؟ فقال له لك أو لأخيك أو للذئب، أي أن هذه يُمكِن أن تُلتقَط، لكن الرجل كأنه ظن التسوية بينهما ولا تسوية، فضوال الغنم والماعز ليست مثل ضوال الإبل، هذه لا تستطيع أن تدفع عن نفسها وهذه يُمكِن أن يأكلها الذئب، ومن ثم قال له لك أو لأخيك – أي صاحب هذه الضالة – أو للذئب، معنى الكلام التقطها إذن، التقطها لقطةً واحفظها وعرَّفها حتى يأتي صاحبها، أما الإبل فلا، لكن ما الذي حصل؟ بقيَ الأمر على هذا النحوِ، فكانت ضوال الإبل إبلاً مُؤبَّلة – كما يقول الرواة – في بقية زمان رسول الله وفي زمان الصديق وفي زمان الفاروق رضوان الله عليهما جميعاً، فلما كان زمان عثمان – رضى الله تعالى عنه وأرضاه – فسد الحال، طبعاً زمان عثمان والذي قُتِل فيه عثمان هو زمان فاسد، صار فيه فساد وللأسف رق الدين وتخرَّق الضمير وفسد الزمان وتخرَّبت الذمم وصارت تكثر الدعاوى، فيأتي أحدهم ويقول أنا فقدت ناقة ويقول آخر أنا فقدت جملاً، أين هو؟ غير موجود، وقد فقدت من كم من شهر أو من شهرين، فهذا أمر عجيب، وهذا يعني أنها صارت تُلتقَط وتُنتَهب وتُستغنَم كالغنيمة للأسف، فقديماً كانت هناك أمانة لكن الآن لا، واليوم في القرن الخامس عشر للهجري – والله الذي لا إله إلا هو – اختلف الأمر، فقط سل نفسك سؤالاً وقل لو كان لدي مائة ألف يورو وأُريد أن أذهب إلى إلى مكان بعيد شهراً أو شهرين أو ثلاثة هل هناك مَن يُمكِن أن أأتمنه عليها فإذا ما عُدت أعطاني إياها دون مُماطَلة؟ سوف تشك وسوف تقول مَن بالضبط؟ مَن؟ لقد سمعت أشياء عجيبة ورأيت أشياء أعجب، فهناك مَن يقول أنها احتُرقت وهناك مَن يقول أنها سُرِقَت وهناك مَن يقول حاولت أن أستثمر لك إياها وضاعت وهناك مَن يقول تبرعت بها وما إلى ذلك، أشياء غريبة ومن ثم تخاف،فكيف لو كان الأمر يتعلَّق بمليون يورو؟ كيف لو كان الأمر يتعلَّق بعشرة ملايين؟ مع أن الذي يخشى الله – تبارك وتعالى – ويعلم أنه مُلاقيه – إي والذي رفع السموات بغير عمد – لو وضعت بين يديه الدنيا وما فيها ما جحد منها فلساً واحداً، وأقسم بالله على هذا، فهذا يخشى الله ويقول لعنة الله على الدنيا وما في الدنيا، لكن أين الأمانة الآن؟ والنبي أخبرنا عن هذا، ففي حديث عُبادة قال حتى يأتي زمان يتحدث الناس فيه، يقول الناس إن في بني فلان رجلاً أميناً، فهو عملة نادرة لأنه أمين، ومن ثم تضع عنده عِرضك وأموالك وسرك ولا يهمك شيئ لأنه أأمن من نفسك، لكن أين هذا؟ في بني فلان، أي رأنه رجل واحد في آخر الدنيا، فلا يُوجَد غير الأمين هذا، الله أكبر، وهؤلاء ما هم؟ ما بالهم؟ دينهم كلام، دينهم شعارات، دينهم رياء ونصب ونفاق، دينهم حبال وشراك وفخاخ، وهذا شيئ مُؤلِم، لكن هذا التخرّب وهذا النفاق والكذب وهذا الضعف في الدين بدأ من زمان عثمان – رضوان الله على عثمان – طبعاً، وعلى كل حال كثرت الدعاوى فأمر عثمان – رضوان الله تعالى عليه – بالتقاط الإبل.

نسأل الله باسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يُعظِّم قدره في نفوسنا، اللهم إنا نسألك بك أن تُعظِّم قدرك في نفوسنا، فأعظم ما يمن به الله على عبد أن يجعله يُحِبه ويخشاه، قال الله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩ وقال أيضاً إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩، فاللهم اجعلنا منهم، من أهل الخشية الحقيقية التي لا تُعرَف إلا عند الاختبار وبالاختبار وليس بالكلام، فبالكلام – يا سلام على الكلام – كلنا أمناء وكلنا أولياء وكلنا عُرفاء وكلنا صُلحاء وكلنا مُستقيمون وكلنا وارعون، لكن بالاختبار كلنا ما يعلمه الله – لا إله إلا هو – وحده، فنسأل الله حُسن ستره علينا في الدنيا والآخرة وجميل صنعه بنا. اللهم آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إذن ماذا فعل عثمان صار يأمر بالتقاط ضوال الإبل، أينما وُجِدَت ناقة أو جمل ضال مُباشَرةً يُلتقَط، فيُلتقَط ويُباع ويُحفَظ ثمنه في بيت المال المسلمين – في الخزينة – طبعاً، فإذا جاء صاحبه وعرَّفه بالأمارة دُفِع إليه ثمن ضالته، ومن ثم قد يسألني أحدكم هل خالف عثمان الرسول؟ لا لم يُخالِف الرسول بل وافقه، فهو خالفه في الظاهر، ولكنه وافقه في المقصد، ولو كان عثمان جامداً كجمود بعض الفقهاء والمُتعالمين لقال لن أقدر أن أفعل هذا لوجود النص، والنبي نهى عن هذا وغضب على السائل وقال ما لك ولها؟ فكيف نفعل اليوم ما غضب النبي لأجله؟ كيف نلتقط الإبل؟ لا لن نلتقط، لكن عثمان لم يقل هذا، فهؤلاء الصحابة عندهم فقه عظيم جداً، وهو فقه عظيم مرن، فقال لك لو وقفنا مع ظاهر الحكم كما شرعه صاحب الشريعة العصماء – عليه الصلاة والسلام – لضاعت أموال الناس، فلا يُمكِن أن تقول لي هذه شريعة وتضيع أموال الناس، فتُرغِم الناس بعد ذلك على أن يُشكِّكوا في جدوى هذه الشريعة وفي صُلوحية هذه الشريعة، لأن الواحد منهم سيقول لك ما هذه الشريعة؟ ما هذه الأحكام العجيبة الغريبة الخاصة بكم يا أخي؟ النبي نهى وضاعت أموالنا في نهاية الأمر فكيف هذا؟ والإمام عليّ – عليه السلام – في أثر عثمان أيضاً سار، فهو سار في أثر أخيه ذي النورين لكنه لم يكن يبيعها، إنما كان يأمر بالتقاطها بعد أن أنشأ مِربداً – مِربد خاص بها بضوال الإبل – لها، فيعلفها علفاً لا يُهزِلها ولا يُسمِنها، وذلك من بيت مال المسلمين، فإذا جاء صاحبها وجدها، واستحسن هذا سعيد بن المسيِّب – أحد الفقهاء السبعة – وقال هذا – أي فعل عليّ – مُمتاز، وإن كان من بيت مال المسلمين، فلا بأس لأنه شيئ وسطي، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ ۩ على كل حال، لكنهما كليهما – رضوان الله تعالى عنهما وعليهما – اتفقا على خُطةٍ واحدة، وهى أنها لا تُترَك إبلاً مُؤبَّلة بل تُلتقَط، وهذا بخلاف ما شرَّع الرسول، بخلاف ظاهره ووفاق باطنه.

ماذا عن عمر؟ إذا ذُكِرّ عمر فكم لعمر من سابقة وكم له على التشريع الإسلامي وعلى تعليمنا التفقيه وعلى تفقيه الأمة وتعليمها الاجتهاد، علماً بأن عمر – رضوان الله عليه – من فقهاء الرأي، وللأسف أنا عاتب على إخواننا الشيعة لأنهم ينتقدون عمر كثيراً، وقلت لأحدهم إن واحداً من أكبر علمائكم ألف مُجلَّداً كبيراً إسمه النص والاجتهاد وهو عبد الحسين شرف الدين، وكان ينتقد فيه عمر مُر الانتقاد، مُحاوِلاً أن يُصوِّر عمر على أنه رجل يعمل ضد الشرع وضد النص، وهذا – والله – غير صحيح، هذا لا ينطلي على طالب علم، ينطلي على مُتعصِّبي الشيعة، لأنه عالم شيعي، فهو يقول لهم أنتم تكرهون عمر ولذلك ينطلي عليكم هذا وتُحِبون هذا، لكن أنا أقول لإخواني الشيعة قبل إخواني السُنة اتقوا الله في أنفسكم وفي عقولكم، اقرأ وتعقل ثم احكم بعد ذلك، فليس لأن عندك هذا الموقف المُسبَق من عمر تقبل فيه كل غمز وكل غميزة، هذا لا ينبغي أبداً، فعمر – رضوان الله على عمر – هو الفقيه الحق، لكن قد يقول لك أحدهم بل بالعكس عمر سبق الحداثيين وسبق أصحاب المناهج التأويلية Hermeneutics، فهو هيرمينوطيقي على مُستوى عجيب هذا الرجل، وعمر هذا حاد النص وخالف النص وفرَّغ الشريعة وحكَّم العقل إزاء النص لأن لا اجتهاد مع نص، وهذا غير صحيح، فعمر مُجتهِد، طبعاً يُصيب ويُخطيء لكن صوابه أكثر من خطئه، وفي أشياء اعترف أنه أخطأ فيها وأنه لم يُصب فيها شاكلة الصواب، فهو الذي اعترف بهذا لأنه ليس معصوماً وليس نبياً، هو مُجتهِد فقط، لكن مَن مثله رضوان الله تعالى عليه؟ اجتهد في مسائل كثيرة وأنتم تعلمونها وقد أصاب، ولدينا المُؤلَّفة قلوبهم، لكن قد يعترض أحدهم على موضوع المُؤلَّفة قلوبهم ويقول لك الرجل يفهم الشريعة على أنها شريعة تاريخية وأنها تصلح وقتاً ثم لا تعود صالحة، وهذا غير صحيح، فالمعنى التاريخي في التشريع موجود ونحن نُقِّر به لكن أين؟ بطريقة مُركَّبة ودقيقة وذكية بحيث لا تعود على النصوص التشريعية بالخذلان ولا بالبطلان أبداً، وإنما تسبر منها غورها وتصل وتصيب منها لبها وجوهرها، وهكذا تكون المُطابَقة مع الشريعة، وذلك بإصابة اللب والجوهر، لا بالدوران مع المظهر وتضييع المخبر والجوهر، فعمر كان هكذا وهذا ما حدث مع المُؤلَّفة قلوبهم، قال الله وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ۩، وعمر فهم المعنى، لكن ما معنى المؤلَّفة قلوبهم؟ هؤلاء ناس كفار أو حديثو عهد بإسلام، وفي إسلامهم ضعفٌ ووهاءٌ شديد، أو ظلوا على كفرهم وخاصة رؤوس الكفر منهم، فنحن نُعطيهم من زكواتنا ونتألف بهذا قلوبهم على الإسلام حتى يميلوا بعض الميل إلى الإسلام، فنُحاسِنهم ولا نُخاشِنهم، ولكن عمر قال متى كان هذا؟ ومتى شُرِّع هذا؟ وفي أي ظرف حدث هذا؟ هناك خلفيات كثيرة، وكما أقول دائماً انظروا إلى الخلفية، فهناك الخلفية السياسية وهناك الخلفية الاقتصادية وهناك الخلفية الاجتماعية وهناك الخلفية العسكرية وهناك خلفيات كثيرة، وكما ذكرنا في آيات القتال هناك آيات إذا أخذتها ونزعتها من سياقها وأبنتها من خلفياتها لن تعد تفهم حقيقتها ولا وجهها وبذلك تكون قد نقضت بآية مائتي آية، فهم يتحدَّثون – مثلاً – عن آية السيف ويقولون لك هذه نسخت كذا من الآيات – نسخت مائة وثلاثين أو مائة وسبعين أو مائتين آية – وحدها، وهذا غير صحيح، فلماذا إذن؟ عندك خلفية عسكرية، ونحن ذكرنها في خُطبة بحمد الله تبارك وتعالى ، فتُفسَّر الآية بحسب هذه الخلفية حتى نفهم الآية جيداً، ومن ثم يجب أن نعلم جو الآية، ففي الآيات هناك أسباب النزول، وحتى في الأحاديث النبوية هناك أسباب الورود، وهذا علمٌ لم يشط فضلاً عن أن يحترق، هذا العلم لم ينضج – علم أسباب ورود الحديث الشريف – بعد، وهو الذي ألف فيه ابن حمزة – رحمة الله عليه – كتابه في ثلاث مُجلَّدات والسيوطي كتابه الشهير والآن لبعض الدارسين راسائل دكتوراة فيه، وعلى كل حال هذا هو الموضوع، لكن هذا العلم مازال في بداياته ولابد أن نُمعِن فيه، فمن المُهِم جداً أن نُمعِن في علم أسباب ورود الحديث، لكي نعلم متى قال النبي هذا وعلى أي خلفية قاله، فهناك أشياء كثيرة النبي كان يقولها على خلفيات مُحدَّدة، وحين تتغير الخلفية يتغير الحكم تماماً، فالنبي في يوم من الأيام قال لهم من ضحّى منكم فلا يدخرن – أي من لحوم الأضاحي – فوق ثلاث، أي لثلاثة أيام فقط وبعد ذلك كله لابد أن يُنفَق، فممنوع أن يبقى أكثر من هذا، وفعل الصحابة هذا بالفعل، لكن في العام التالي أمرهم أن يُضحوا – أي ندبهم، فهذا أمر ندبٍ إلى أن يُضحوا – وجوَّز لهم أن يختزنوا وأن يدخروا، فقالوا يا رسول الله أنت نهيتنا في السنة السابقة، فقال إنما كنت نهيتكم عن إدخار لحوم الأضاحي فوق الثلاث لأجل الدافة التي دفت، فهناك جماعة جاءوا زوار على المدينة، وكانت هناك حال ضنك وشدة، وهم كثرة ولابد أن نقوم بهم، فماذا نفعل إذن؟ وهؤلاء الجماعة الله أعلم كم كانوا، قد يصل عددهم إلى خمسين أو ستين أو سبعين أو مائة، ولابد أن نقوم بهم، ولذا النبي نهى عن إدخار لحوم الأضاحي لكي نقوم بهؤلاء، أي لكي نقوم بالوافدين من زوار المدينة، فهو قال أن هذا هو السبب، فهو أمر ظرفي، والسبب انتهى الآن فنرجع للأصل الآن، فيجوز أن نأكل وأن نتصدق وأن ندخر وأن نُثلِّث الأضحية ثلاثة أثلاث، لكن الصحابة لم يستوعبوا هذا في البداية واعتقدوا أنه كان حكماً عاماً وأن النهي سيستمر، لكن النبي قال لهم قال لهم هذا غير صحيح، فهذا حكمٌ ظرفي، ونفس الشيئ حدث حين نهى عن ذبح الحُمر، لماذا؟ لأنها كانت الركوبة، فهو نهى عن ذبحها من أجل ماذا؟ من أجل الركوبة، أي حتى لا تفنى الركائب ومن ثم لن يُمكِنهم الرجوع بعد ذلك من تابوك، فنهى عن ذلك ولبعضهم اجتهاد في هذه المسألة، إذن النبي كان يقول الشيئ على خلفية مُحدَّدة أحياناً، فهذا يحدث معه والصحابة كانوا كذلك، وهذا باب من أبواب الاجتهاد وسيع، وعلى كل حال قال عمر أن تأليف القلوب إنما كان في فترة ضعف الإسلام وقلة المسلمين، لكن الآن قوي الإسلام وشب عن الطوق وعزت الأمة بعد أن كانت ذليلة بالقلة، فالله سمى القلة ذلة، وتقول العرب وَإنّمَا العِزّةُ لِلْكَاثِرِ، والأمة عزت والإسلام ضرب بجِرانه وشب عن الطوق فلم يعد الإسلام – في اجتهاد عمر- بحاجة إلى أن يتألف هؤلاء من أشباه المُنافقين مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ومعروف طبعاً مَن هما، وبصق في كتابهما الذي كتبه أبو بكر الصديق لهما، فأبو بكر أقطعهما أرضاً لكن عمر بصق فيه، علماً بأن هذا في خلافة أبي بكر وجرى على ذلك في خلافته – رضوان الله عليه – الميمونة، وقال فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما، أي أعلى ما في خيلكم اركبوه، هذا الذي عندي، وقال لماذا تُؤلِّف قلوب؟ غيركم أولى بهذه الأموال، وهذا اجتهاد من عمر على كل حال.

الزبير بن العوام – رضوان الله عليه – في إحدى المعارك قتل قتيلاً، والنبي قال خذ سلبه، ثم قال مَن قتيل قتيلاً فله سلبه، أي خذ ما عليه من لباس ومن جواهر ومن عقد وسوار ومن سيف ومن أي شيئ، فالنبي قال خذ ما عليه، أي خُذ ما له، مثل أن يكون عنده خيل أو غير ذلك، فخُذه لك إذن، وهذا معنى مَن قتل قتيلاً فله سلبه، لكن هل قال هذا بوصف المُبلِّغ المُفتي المُشترِع أم بوصف الإمام؟ اختُلِفَ في ذلك طبعاً، والأرجح أنه بوصف الإمام، وعلى كل حال المسألة خلافية، وفي زمان عمر – رضوان الله تعالى عليه – في معركة في بلاد فارس قتل البراء بن مالك – رضوان الله عليهم أجمعين – مرزوباناً، لكن مَن هو المرزوبان؟ هو رئيس قبيلة أو رئيس قرية أو عمدة قرية كبيرة فارسية وكان يُسمى المرزوبان، وهؤلاء المرازبة كانوا أغنياء جداً، ويُقال أن أبا حنيفة من أحفاد المرازبة لكن الله أعلم على كل حال، ويُقال أن أبا حنيفة عربي، فالدكتور عواد معروف – عواد معروف وليس بشاراً معروف – قال أبو حنيفة عربي الأصل وأثبت هذا في بحثه، وعلى كل حال الله أعلم، فقد تكون هذه نزعات قومية، فالبراء بن مالك قتل هذا المرزوبان وأخذ الجواهر وأخذ اللباس الخاص به وأخذ السيف وأخذ ما عليه، فإذا به مالٌ كثير، يُساوي ثمانين ألفاً – ثمانين ألف درهم فضي – لأنه مرزوبان، والنبي قال مَن قتله فله سلبه، ومن ثم قال البراء بن مالك لي هذا كله، لكن انظر ماذا قال عمر الفاروق، هذا عمر يا حبيبي، وإلا كيف قاد هذا إمبراطورية أحسن قيادة وأدارها أحسن إدارة؟ واترك مَن أحب أن يتكلم في عمر يتكلم، اعمل لي واحد على مليون مما عمل عمر، أنا كثير يغظني وأعتقد أنه يغيظ كل عاقل وكل مُنصِف – والله العظيم وأقسم بالله على هذا – حين يأتي أحدهم ويقول مَن هو عبد الباسط عبد الصمد؟ وكأن عبد الباسط ليس عنده أي شيئ، فهو ليس عنده أي قدرات صوتية لكن أنت صوتك أحلى منه بكثير يا شحرور، وهؤلاء أيضاً يقولون لك مَن عمر بن الخطاب؟ ثم يتنقصونه، لكن هل تعرفون كيف تُعالِجون هؤلاء وتقطعون فعلاً جذور أدوائهم؟ قل للواحد منهم افعلها، سوف يقول لك كيف أفعلها؟ فقل له نعم عبد الباسط صوته عادي جداً وعبد الباسط مُتواضِع جداً وليس عنده أي شيئ هذا الرجل، فقم أنت واقرأ لي وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۩، فأنا أُريد أن أسمع صوتك، سوف تخور خوراً، سوف نسمع هذا الخوار فقط، افعلها وحين إذن ستعرف أنه ليس سهلاً بالمرة أن تكون مثل عبد الباسط ولا أن تقترب حتى منه، فهو مُعجِزة، وشيئ مُعجِز أنك تكون مثل هذا الرجل، صعب جداً أن تكون مثله، فهذه أمة فيها مليار ونصف اليوم لكن لا يُوجَد أحد مثله، فحاول إذن لأنني أُريد أن أسمع النفس والطريقة والصوت والأداء والمقامات والتنقل والانعطافات الصوتية، أُريد أن أسمع كل هذا يا شحرور، لكننا سوف نسمع خواراً – سوف نسمع عجلاً له خوار- فحسب، فقل له افعلها Do It، وعندما يقول لك عمر كذا وكذا قل له أنت طلَّقت زوجتك وبناتك عصين عليك، أنت غير قادر على أن تدير أسرة، فكيف يُمكِن أن تدير إمبراطورية عُمرية يا أهبل؟ ومع ذلك تأتي وتنتقد، يا أخي احترم نفسك، هذا عيب، والله نه عيب وأقسم بالله على هذا، واترك موضوع الشيعة والسُنة وما إلى ذلك، فأنا أتحدَّث الآن عن العقل والاحترام، وأنا – والله – علمني الإسلام هذا، أنا ابن الإسلام مثلكم جميعاً وجمعوات وأقسم بالله أن هكذا علمني ديني وعلمني نبيي وقرآني، فهو علَّمني أن أُنصِف حتى عدوي، فلا يُمكِن أن أحتقر عدوي، لا أقدرعلى أن أحتقر إنساناً عدواً لي حين أعلم أنه مُبرِّز في فنه أو في علمه أو في سياسته أو في عسكريته، فأنا أحترم تبريزه وأرفع له السلام وأقول له أنا أكرهك وألعنك ولكنني أرفع لك السلام، الشهادة لله أنك مُبرِّز وإنسان عظيم في فنك، وأنت عدوي وقلبي يلعنك لكنني أرفع لك السلام، لأن هذا هو الإنصاف وهذا هو احترامي لنفسي، فكيف تأتي وتحتقر عمر؟ مَن أنت؟ أنت أسرتك فاشلة، أنت لا تعرف كيف تدير زوجة وأولاد، فأنت لا تعرف تدير أسرة في حين أن عمر أدار الدولة وفيها تقريباً عشرون دولة أحسن إدارة، ومع ذلك يُقال لك كان عنصرياً وكان يمنع الفرس ويمنع غيرهم من دخول المدينة، علماً بأنني وعدتكم أن نعمل خُطبة عن هذا الموضوع، وهذه الخُطبة سوف تكون عن الموضوع هذا فقط لكي نفهم مَن العنصري ومَن الجاهل الذي يهرف بما لا يعرف، لقد أتعبنا هذا الجهل – أقسم بالله – في الشيعة وفي السُنة على السواء، فما هذا الجهل والتعصب؟ لقد أتعبنا وأمللنا وأسقمنا، فما هذا يا أخي؟ نسأل الله أن يُعرِّفنا أقدار نفوسنا، يجب أن نعرف قدر نفسنا وأن نتواضع، فاترك يا أخي هذه العصبيات وتواضع قليلاً واعرف قدر نفسك.

على كل حال عمر قال هذا سلبٌ كثير، كيف يأخذ واحد فقط ثمانين ألفاً وحده؟ هذا لا يُمكِن، ومن ثم أمر بتخميسه، فكان أول سلبٍ خُمِّس في الإسلام، فعمر هو الذي أمر بتخميس سلب البراء بن مالك وكان أول سلب يُخمَّس في الإسلام، لماذا إذن؟ وقد يقول لي أحدكم الآن بغض النظر عن كلامك وفلسفتك التشريعية والقانونية عمر خالف النبي، فالنبي قال من قتل قتيلاً فله سلبه، وعمر قال نُخمِّسه كالغنيمة، فإذن هل خالف أم لم يُخالِف؟ لم يُخالِف وسوف أقول لك لماذا، فهو لم يُخالِف النبي لاعتبارين، الاعتبار الأول أن النبي نعم قال هذا لكن – كما قلنا – وقع الخلاف، فهل قال هذا القيل من باب الفتوى والتبليغ – أي شريعة دائمة أبدية – أم قاله من باب السياسة الشرعية بوصفه قائداً للجيش وإماماً للأمة؟ فبعضهم رجَّح أنه قال بالوصف الثاني، وهذا ما يُسميه إخواننا الشيعة الحكم الثانوي، لكن نحن نُسميه السياسة الشرعية، فنحن نُسميه حكماً إمامياً وحكماً سياسياً شرعياً وهم يُسمومه حكماً ولائياً أو حكماً ثانوياً، وبعضهم يُسمونه بأسماء غير هذه، وعلى كل حال الشيعة يقولون الحكم أولي وولائي، فالحكم الأولي هو الحكم الدائم وهو تبليغي، أما الحكم الولائي فهو الذي يتعاطاه إمام الدولة ورئيس الأمةبصفته رئيساً لها، فهذا إسمه الولائي عندهم وإسمه السياسة الشرعية عندنا أو الحكم الإمامي، وعلى كل حال هذا موجود، ومحمد حسين المنتظري – رحمه الله – في كتابه دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة المسلمة في ثلاث مُجلَّدات قال في عشرات المواضع ولن أُبالِغ وأقول في مئات المواضع – وأنا أستحسن هذا الاجتهاد منه رحمة الله عليه لأنه كان عالماً مُجتهِد من علماء الشيعة – وإنما سأقول قال في عشرات المواضع هذا حكم ولائي ولعل النبي تصرف هنا ولائياً لا أولياً، وهذا الاجتهاد جيد، بل بالعكس نحن ندعو إلى بعج هذا الموضوع وبسطه ومده، وعلينا أن نتوسع أيضاً ونُنجِز رسائل دكتوراة في موضوع الأحكام الإمامية للرسول عليه السلام، فهذه الموضوعة مُهِمة جداً جداً، حتى لا نُؤخَذ على أنها ثابتة في الصحاح فيُقال إذن هى سُنة ونفعل بها، وهذا غير صحيح، فيا رجل هذه سُنة على سبيل الإمامة وهى غير مُلزِمة لنا وعليك أن تفهم هذا، وعلى كل حال هذا الموضوع مُهِم جداً ونحن نحتاجه، فمثلاً من أرجح الآراء على الإطلاق في موضوع قتل المُرتَّد أن النبي أمر بقتل المُرتَّد من باب السياسة الشرعية، فما رأيك؟ وهذا الموضوع يحل لك إشكالات كثيرة، وهذا إلى اليوم عمل لنا كمسلمين صداعاً – Headache أو Kopfschmerz – في العالم كله، فهم يقولون المسلمون يُقرِّرون حرية الاعتقاد لكنهم يقتلون المُرتَّد ويُرحِّبون بمَن دخل دينهم وهذا شيئ عجيب، فهم مُتناقِضون وهم كذا وكذا، ويغمزون السُنة وصاحب السُنة الشريفة – عليه السلام – بهذا الكلام، لكن النبي لم يقل ذلك لا من باب التشريع الدائم، لأنه في ظاهره مُخالِف حتى لكتاب الله، ففي كتاب الله فيه في مئات الآيات التي تقول عكس هذا، مثل فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۩ ومثل لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، ومثل لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ ۩، فهناك آيات كثيرة تدل على هذا مثل التي ذكرت، فضلاً عن قول الله لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فماذا نفعل إذن والنبي قال مَن بدَّل دينه فاقلتوه؟ لكن انتبهوا إلى أن الذي قال مَن بدَّل دينه فاقتلوه قَبِلَ أن يتنازل عن قتل مَن بدَّل دينه في عهد الحديبية، فلو كان حداً من حدود الله هل كان يقدر الرسول على أن يتنازل عنه؟ هذا مُستحيل، فانتبهوا إلى هذا إذن، وقد قال ابن حزم مَن نسب إلى النبي أنه تنازل عن حد من حدود الله فقد كفر، فماذا نفعل إذن؟ كتب السيرة والسُنة كلها تقول النبي تنازل عنه، فهو قال ليس عندي أي مُشكِلة، فإذا ارتد أحد أصحابي وذهب مع قريش فليذهب إلى حيث ألقت ولن أُطالِب به، فلماذا فعل هذا إذن؟ وهل الحدود تقبل الشفاعة؟ قال النبي من قبل أفي حدٍ من حدود الله يا أسامة؟ فهل ينفع أن تشفع في الحدود؟ لا يُمكِن أبداً، والنبي قال تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغ السلطان من حدٍ فقد وجب، أي إذا أردت أن تعفو ينبغي أن يكون هذا قبل أن تبلغ الدعوى السلطان، أما إذا وصلت الدعوى السلطان انتهى كل شيئ، فمُباشَرةً لابد أن يُطبَّق الحد على أي أحد أياً كان، فلا تُوجَد شفاعة هنا، ثم أننا نتساءل هل الحدود تُسقطها التوبة؟ قد يقول لي أحدهم أنا سرقت ولكنني توبت، فأنا – والله – توبت وأُقسِم بالله على هذا، لكنني أقول له سوف تُقطَع يدك، فماذا نفعل لك؟ نعم أنت توبت وهذه التوبة تنفعك عند الله لكن هذه حدود وهذا حق عام لا يُمكِن التفريط فيه، فهذا حق عام إذن، والحدود هى حق الله – كما قلت في خطبة قريبة جداً – ومن ثم لا يُمكِن التفريط فيها، فمَن يستطيع أن يتنازل عنها؟ الإمام نفسه لا يُمكِنه ان يتنازل عنها لأنها ليست حق الإمام، وإنما هى حق الأمة، فإذا الأمة كلها تنازلت عن هذا – كل الأمة تُوقِّع بالمُوافَقة وهذا مُستحيل طبعاً – فأهلاً وسهلاً إذن، وهذا لا يحدث أبداً، لكن النبي تنازل وقَبِلَ الشفاعة في عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي ارتّد ونسب للنبي أنه كذا وكذا وكذا وكذا وغمز النبي غميزة فظيعة – علماً بأن الحديث في الصحاح – ثم جاء عثمان بن عفان – أخوه من الرضاعة – وشفع فيه، والنبي أعرض مرة ومرتين وثلاثة وبعد ذلك قَبِلَ النبي هذا، فإذن هل هو قَبِلَ أم لم يقبل الآن؟ قَبِلَ، والمُرتَّد لما يكفر ويرتد هل يُستتاب أو لا يُستتاب؟ في الأشهر أنه يُستتاب، قيل ثلاث مرات وقيل مرة واحدة في الوقت وقيل ثلاثة أيام وقيل شهراً وقيل شهرين وقيل أكثر وقيل يُستتاب أبداً وهو قول النخاعي، فقال أبو سفيان الثوري وبه نقول، فما رأيكم؟ إذن هو يُستتاب، لكن هل الحدود ينفع فيها التوبة؟ لا ينفع فيها هذا، أنت تتوب لكن لا تُسقِط الحد عنك بتوبتك، لكن المُرتَّد يُسقِط عنه هذا، فهو يستطيع أن يرجع إلى الإسلام ومن ثم نقول له أهلاً وسهلاً لقد قَبِلَنا، فإذن هذا ليس حداً وإنما سياسة شرعية، ولذلك يسع الإمام بعد رسول الله أن يقتل مَن ارتَّد تعزيراً – من باب السياسة الشرعية ـ ويسعه أن يسجنه ويسعه أن يعفو عنه، علماً بأن هذا كله نذكره دون الدخول في التفاصيل، ولذلك سيدنا عمر صح عنه الحديث الذي أخرجه عبد الرزاق والبيهقي في الكُبرى وابن حزم في المُحلى أنه سأل عن جماعة ارتَّدوا في أرض معركة، فقال له أنس لماذا تسأل عنهم؟ وهل سبيلهم إلا القتل؟ قتلناهم، نحن قربناهم فقتلناهم، فقال عمر لهم سبيل آخر، لو كنت أنا لأستودعتهم السجن، أي أنني سوف أحكم عليهم بالسجن ولن أقتلهم، فإلى ماذا يُشير الفاروق عندما قال أنه ما أراد أن يقتلهم بل كان يُريد أن يستودعهم السجن؟ يُشير إلى أن المسألة ليست من باب الحدود الشرعية بل من باب السياسة الشرعية، فمُهِم جداً أن نتفقه هذا الفقه وأن نُميّز بين ألوان وأشكال وأنواع تصرفات المعصوم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لكننا قل ما نفعل.

أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

لا يجتمع أجرٌ وضمان، فيه ظلم أن يجتمع أجر وضمان، فهذه هى القاعدة وهذا هو الأصل، لكن مُتأخِرو الفقهاء من الحنفية بالذات لما رأوا الناس الذين يستأجرون أموالاً لليتامى وللأوقاف يتعدون عليها ويتغولون شيئاً منها جمعوا الأجر والضمان، أي جمعوا الضمانة إلى الأجر، فلماذا إذن؟ للحفاظ على المصالح وإلا سوف تضيع، فلا تقل لي أن القاعدة تقول لا يجتمع أجر وضمان، نعم هذه القاعدة ولكن النفوس تغيرت والأحوال فسدت وضاق ما كان مُتسِّعاً واتسع ما كان ضيقاً فتحرجت الأمور وضاعت الحقوق، ومن ثم قالوا سوف نجمع الضمان إلى الأجر، وهذا اجتهادٌ في محله، ومن هنا يُقال الصانع لا يضمن، فهل تعرفون ما المقصود بالصانع؟ ببساطة لو عندك قطعة قماش أو لفق قماش وأعطيته لأحد وقلت له خِطه لي قبَاءاً أو خِطه لي بدلةً أو خِطه لي أي شيئ كما تُحِب فأن القاعدة من أيام رسول الله هى أن الصناع لا يضمنون، بمعنى إذا ادّعى هذا الصانع أن قطعة القماش هذه أو قطعة الخشبة التي يصنعها لك – مثلاً – طبلية أو مائدة أو سفرة قد فسدت أو سُرِقَت أو تلِفَت بين يديه أو حصل لها كذا وكذا فإنه كان يُصدَّق، نعم كان يُصدَّق حينها لكن بعد ذلك في زمان الخلفاء – رضوان الله تعالى عليهم – اتسعت الذمم فصار الكل يُتهَم، فقال الصحابة لابد من تضمين الصناع، فالعيب جاء الآن مِن مَن؟ من هذا الصانع، فهو يقول لك هذه القطعة – والله خربت، فأنا قصيتها وخربت ومن ثم اذهب وائت بغيرها، لكن هذا غير مقبول الآن يا حبيبي وإن كان لا يُوجَد ضمان على الصانع، فهو يده يده أمانة وهو أمين وليس ضامناً، ولا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير، وهو قال لك أنه لم يتعد ولم يُقصِّر ولم يثبت عليه هذا، فكثرت الدعاوى إذن وأصبح يُقال هذه خربت وهذه تلفت وهذه انتهت، فماذا قال الإمام عليّ عليه السلام؟ قال لابد أن نُضمِّنهم، أنت صانع لكن أي شيئ تدعيه سوف تضمنه، ثم قال لا يُصلِح الناسَ إلا ذاك، وذلك لأنهم فسدوا، فهو لم يجمد على القاعدة الفقهية الأصلية، وأصول الشرع عموماً – الشريعة الفروعية وليس أصول العقيدة – نوعان هما قواعد أصول الفقه والقواعد الفقهية، وقواعد أصول الفقه – كما قال القرافي – أكثرها مأخوذ من ماذا؟ من دراية الألفاظ ومما يتعلق بالألفاظ إفراداً وتركيباً، أما القواعد الفقهية فهى ضوابط كلية وأحكام كلية تنطلي وتنطبق على فروعاتها ولها استثناءات، فهو هذا إذن، والصحابة لم يجمدوا مع القاعدة المأخوذة من مُراعاة نصوص كثيرة وأحكام كثيرة، ولم يقولوا هذه القاعدة وهى مشهود لها، بل قالوا سوف نختلف الآن، وقال الإمام عليّ لابد أن نُضمِّن الصانع لأن لا يُصلِح الناس إلا ذاك.

أوتيا برجل نكح امرأة في عدتها، أي قبل أن تخرج من عدتها، وطبعاً هذا يُعزر ويُؤدَّب ويُفسَخ النكاح وينتهي كل شيئ، لكن حين تنقضي العدة يُمكِن أن يتزوجها، لكن سيدنا عمر قال لأ، سأُحرِّمها عليه تحريماً مُؤبَّداً، وهذا أمر عجيب، فهل عندك الحق أن تحرِّم هذا؟ قال نعم لأن أنا الإمام وهذه سياسة شرعية، فأنا أُريد أن أعلم الناس أن يحترموا حدود الله وألا يلعبوا بحدود الله، فكيف تنكح امرأة في عدتها؟ أعوذ بالله يا أخي، هذا لا يجوز أبداً، فلا يجوز أن تُنكَح امرأة في عدتها وهذه مبتوتة طبعاً، لكن يُعرَّض لها لأنها مبتوتة، فانتبهوا إلى هذا، لأن التعريض للمبتوتة وليس للرجعية، الرجعية ممنوع معها هذا، لا تُعرَّض ولا غيره لأنها زوجة حكماً، أما المبتوتة فيُعرَّض لها تعريضاً، كأن يُقال له نحن – والله – نُحِب كذا وكذا ونحتاج إلى لزوجة صالحة إن شاء الله، ونحن نحسبكم – أي هذه المرأة طبعاً – من أهل الخير وما إلى ذلك، فهذا إسمه التعريض، قال الله وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ ۩، فإذن هذا إسمه التعريض، لكن هذا لم يُعرِّض بل ذهب وتزوج، فقال عمر لابد أن نقطع دابر هذا التلاعب والتعابث بشرع الله، فماذا عمل؟ قال أُحرِّمها عليه تحريماً مُؤبَّداً، وهذا اجتهاد منه لكي تُرعى المصالح وتُرعى حقوق الناس وحدود الشرع.

سيدنا ذو النورين – عثمان بن عفان رضوان الله تعالى عليه – ماذا عمل؟ أتت أكثر من حالة في عهد عثمان واجتهد فيها أيضاً، كان يُوجَد رجل يُنازِع وقام بتطليق زوجته وهو في هذه الحالة لكي يحرمها من الميراث، فانظروا – سبحان الله – إلى الجرأة التي كانت عند الناس حتى في زمان الصحابة، وطبعاً الأرجح أنه من التابعين وليس صحابياً، فالصحابي لا يفعل هذا ولذا الأرجح أن يكون من التابعين، لكنك تابعي يا رجل وأنت رأيت من رأى محمداً – صلى الله على محمد وعلى آل محمد – فكيف تفعل هذا؟ وعلى كل حال يُوجَد هؤلاء الناس في كل الأزمنة، وإن كانوا وقتها قلة طبعاً لأن زمان التابعين خير الأزمان بعد زمان الصحابة، وعلى كل حال هذا موجود، وأتت أكثر من حالة عن هذا، فماذا يفعل عثمان؟ حيث يُطلِّق أحدهم زوجته طلاقاً باتاً – أي يبت طلاقها – لا رجعة فيه في مرض موته، وذلك وهو يُنازِع بين الموت والحياة، فلماذا يفعل هذا؟ يغلب على الظن أنه ما فعل هذا إلا ليحرمها ميراثها، وطبعاً لو مات وهى في العدة سوف ترث وهذا ثابت عند الكل، لكن إذا انقضت عدتها فإن الظاهر أنها لا ترث، لكنعثمان قال سوف نورِّثها وإن اتنقضت عدتها، فإذا فطس هذا المُتلاعِب وهى في العدة سوف نورِّثها بدون أي كلام لأن ثابت عند الكل، أما إذا مات وذهب – الله يغفر له ويسامحه على هذه الجريمة – وقد انقضت عدتها فأنا سوف أُورِّثها، واستشار جماعة من الصحابة وقالوا له ورِّثها، فقال لي أن أفعل هذا، فلماذا إذن؟ عقاباً له بنقيض مقصوده وبعكس مقصوده، وذلك حتى لا تضيع حقوق الناس أيضاً، فانظر إلى فقه الصحابة إذن، هذا شيئ غريب، لكن لابد من مُراعاة المصالح.

إخواننا النصارى يفتخرون – وحق لهم أن يفتخروا، ولكن فخرهم على قدهم بصراحة مع احترامنا للكل – بأن عيسى – عليه السلام – قال إنما جُعِل السبت للإنسان، ولم يُجعَل الإنسان للسبت، وذلك لما رأى جماعة من أحبار اليهود وحاخامت اليهود وقد أنكروا عليه أنه يدعي لرجل أعمى، أي رجل كفيف مسكين، يُقال أنه لا يرى من عشرين سنة، فهو دعا له فقام يُبصِر وفرح الرجل بهذا، لكن اليهود لم يعجبهم هذا لأن قلوبهم قاسية، وقالوا له كيف تشتغل يوم السبت؟ هذا ممنوع، فقال لهم إنما جُعِل السبت للإنسان ولم يُجعَل الإنسان للسبت، فيا سلام على عيسى – يسوع – عليه السلام، هو قال لهم أن الشرائع الإلهية لا يُمكِن أن تُضيع مصالح الناس، فالرجل أعمى وهذا يوم السبت لكننا سوف ندعي له – بإذن الله – وسوف يُصبِح مُبصِراً ويكسب هذا اليوم الذي سوف يرى فيه، لم لا؟ فالشرائع في خدمة الإنسان، وليس الإنسان هو الذي في خدمة الشريعة التي تضيع حقوقه، وهذا معنى قوله إنما جُعِل السبت للإنسان ولم يُجعَل الإنسان للسبت، ولذلك الفقيه التابعي الجليل سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهما وأرضاهما – لما استُفتيا في امرأة في عدة الوفاة – زوجها تُوفى عنها وهى في العدة، وطبعاً ممنوع أن تمس طيباً وممنوع أن تكتحل، فهذا معناه أنها تتزين للخطاب وبالتالي هذا ممنوع – أُصيبت بالرمد – أرمدت المسكينة – ولابد لها من الكحل، والكحل فيه طيب أيضاً – أي أن الجريمة مُضاعَفة، حيث يُوجَد كحل وطيب أيضاً – قالا لها ذلك، فلتكتحل، مع أنه ورد عن رسول الله – كما عند مالك في الموطأ وعند الترمذي وغيره – أن رجلاً سأل رسول الله في ابنته المُتعَّدة من وفاة زوجها قائلاً يا رسول الله أُرمِدت – أي أُصيبت بالرمد – فهل تكتحل؟ قال لا قال له، فقال له أنها تشتكي عينيها لكنه قال لا وذلك في مرتين أو ثلاث مرات، لكن ماذا فعلا الفقيهان الجليلان سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر؟ قالا لعل ولعل، لعله النبي صح عنده – لأنه نبي وعنده فراسة وعنده نور – ولعله ترجَّح لديه أن في الأمر شيئ، وإلا من غير المعقول أن يقول النبي هذا، أي أنهما حكَّما المصلحة الواضحة، فالمسألة شبه قطعية لأن هذه إذا لم تستخدم الكحل ربما عميت بالرمد، ومازال أمامها عدة طويلة، فلعلها اعتدت عشرة أيام وظل لها أربعة أشهر، فهل تعمى هذه المسكينة؟ فقالا لها ذلك، فلتكتحل، والحمد لله على هذا، فنحتاج فقهاء أمثال سليمان وأمثال سالم – رضيَ الله عنهما وأرضاهما – الآن، حتى لا تضيع مصالح الأم ومصالح الشعوب ومصالح الأفراد في سبيل الجمود، وصدق أبو سفيان الثوري حين قال إنما الفقه الرُخصة من ثقة، أما التشدد فكل أحدٍ يُحسِنه.

اللهم فقِّهنا في الدين وعلِّمنا التأويل وافتح علينا فتوح العارفين واهدنا واهد بنا وأصلِحنا وأصلِح بنا برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

اللهم اهدنا سُبل السلام، اللهم اهدنا إلى أرشد أمرنا وادرأ عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ادرأ عن شعوبنا وعن أهلينا وعن بلادنا وأوطاننا الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجمع كلمة أُمتنا على ما تُحِبه وترضى، ووحِّد صفوفها ولم شعثها واجمع شملها برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 12/04/2013

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: