إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ۩ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۩ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ۩ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ۩ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۩ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۩ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ۩ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
سؤالٌ قد يطرحه بعضُ مَن أُوتيَ وعياً في هذه الأيام وحرَّكه همٌ بحال هذه الأمة وبمُستقبَلها ومصيرها: ما أكثر ما ينقص العرب والمسلمين اليوم؟!
ما أكثر ما ينقصنا اليوم؟!

في قائمةِ هاته الأشياء التي تُرشَّح وتُقترَح على أنها رؤوس ما ينقصنا ويُعوِزنا اليوم إدارة خلافاتنا، كيف نُدير خلافاتنا الفكرية، الدينية العقدية، الأيدولوجية، السياسية، وإلى سائر هذه التوصيفات؟!

واضح أن العالم الآخر المُتقدِّم قد قطع أشواطاً بعيدة وذهب إلى أمداء مُتنائية جداً في إدارة خلافاته، وواضح بالمُقابِل أننا لا زلنا نحبو على الطريق، ولذلك تستحيل صداقاتنا عداواتٍ بسرعة شديدة إن على مُستوى الدول وإن على مُستوى الأفراد، فأصدقاء اليوم أعداء بعد ساعة، تستحيل بشكل دراماتيكي يُثير العجب والاستغراب، لماذا وعلى هذا النحو وعلى جميع المُستويات كالمُستوى الفردي والمُستوى الشعبوي أو الأممي أو المجموعي؟!
لأننا لا نُحسِن إدارة خلافاتنا على الرغم من انه طبيعي أن نختلف وطبيعي أن نتباين، ولكنمن أسوأ ومن أردأ ما يُمكِن أن يُبتلى به المرء خاصة المهموم بالشأن العام والمُشتغِل في الشأن العام هو ألا يلحظ الاختلاف والتباين والتنوع، ألا يلحظ إلا نفسه ثم يختصر الكل في نفسهِ، لأن هذه نرجسية قاتلة، وفي العادي يجري الحديث عن النرجسية أيضاً في اُطر فردية وعلم النفس يتناول هذه الظاهرة، ولكن قد تُصاب الأمم والشعوب والتشكيلات والتنظيمات والطوائف والمذاهب والجماعات والحركات بالنرجسية، فلا ترى إلا نفسها ولا تسمع إلا صوتها، علماً بأن التباين في الحقيقة طابع صارخ وفاقع في هذه الأيام وواضح جداً، ولعلكم على دراية أيضاً بسبب هذا التباين، كما أن هذا التباين مُرشَّح للازدياد، وعينا أن ننتبه إلى أن أكثر المُؤدلَّجين يظنون أن التاريخ لابد أن يأخذ مساراً واحداً عتيداً يعمل على الدمج ويعمل على التجانس وهذا غير صحيح، فإذا كان ثمة دمج وثمة تجانس فهو على مُستوى القيم الكُبرى الحاكمة في مُلاحَظة الاختلاف وفي إدارتها من ثم ولكن ليس على مُستوى الأفكار والتشكيلات والطوائف والمذهبيات لأن هذا مُستحيل والعالم اليوم لا يتجانس على هذا النحو، لماذا؟!
لأنه عالم أُطلِقَت فيه الحريات، فأكثر مقولة الآن تتردَّد وأكثر شعار يُرفَع هو شعار الحرية، فالكل يُطالِب بالحرية، الذكور والإناث والكبار والصغار والمُتدين وغير المُتدين والمُلحِد والشرق والغرب، الكل يُطالِب بالحرية، إذن لسنا بسبيل التجانس ولكن للأسف أهل الأيدولوجيات يظنون أن مسار التاريخ هو مسار التجنيس أي أنه يعمل على التجانس وهذا غير صحيح، لذلك حتى القوى الإسلامية في مصر الحبيبة – البلد الأكبر والأهم في العالم العربي والأهم بلا شك، ونحن نقطع بهذا من غير جمجمة – وصلت بفارق بسيط في الأصوات إلى السُلطة، فوصل الإسلاميون إلى السُلطة ولكن بواحد وخمسين ونصف في المائة، إذن ماذا يفعل الآخرون؟!
إن لهم اتجاهات مُختلِفة وتصورات مُختلِفة، وعلينا أن ننتبه إلى أن هذا واقع فلا يهمنا أن نُوصِّفه بعد ذلك، ولكننا نُقرِّر فقط هذه الحقيقة، فهذه الحقيقة رقمية إحصائية انتخابية، لأنه ليس واقعاً مُتجانِساً، وحتى في الواحد وخمسين في المائة هل هم مُتجانِسون؟!
طبعاً لأ، غير مُتجانِسين، وواضح أنهم غير مُتجانِسين.
إذن كيف نُدير خلافاتنا؟!
وفق أي معايير؟!
وفق أي منطق؟!
هذا يتصدَّر قائمة ما ينقصنا، ولكن لماذا لا نزال – وعلى جميع المُستويات كما نوَّهت – لا نُحسِن بل نعجز ونفشل في إدارة خلافتنا؟!
هناك أسباب كثيرة طبعاً لأن نظرية السبب الواحد تهاوت مُنذ مُدة . كما قال ماركوزه Marcuse، فلا يُوجَد شيئ يُمكِن أن يُفسَّر بسبب واحد، هذا كلام فارغ، وبالمُناسبَة الأيدولوجيون يجنحون إلى تفسير كل شيئ بسبب واحد أو على الأقل بمجموعة أسباب منظومة تتكفَّل بإعطائها وتقديمها أيدولوجياتهم، وفي ماعدا ذلك لا تفسير ولا فهم ولا تحليل ولا تعليل، وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، ففي نهاية المطاف هذه الأيدولوجية قد تُشكِّل سبباً واحداً معصوباً، إذن نظرية السبب الواحد انتهت، ولكن ضمن أهم الأسباب التي يُمكِن أن نُفسِّر أو نُحاوِل بها مُقارَبة وتفسير هذه الظاهرة هو هاجس المُطابَقة، هكذا أدعوه بإسم هاجس المُطابَقة، وذلك ليس لأننا أمم خلقها الله هكذا أو لأننا مُركَّبون بنيوياً هكذا فهذا يسري في جيناتنا، هذا غير صحيح ولكن بسبب الثقافة للأسف، فثقافتنا بشكل عام ثقافة تنحو إلى المُطابَقة، تُحِب المُطابَقة، تُمجِّد المُطابَقة والطباق، مثل طباق علم البديع، فتُحِب هذا الطباق، ومن هنا ما يتطابق وينطبق يُريحنا ويُسعِدنا ويُشعِرنا بالنشوة، أما ما يختلف يُزعِجنا ويُشعِرنا بالاستفزاز وبالتوفز بل ويُؤرِّث فينا شعور الغضب ربما ينحدر وينحط إلى شعور الكراهية ومن ثم الحقد ومن ثم الرغبة في الانتقام ومن ثم إرادة التصفية والإلغاء، وهذه مُصيبة لأننا نتدلى إلى مُستوى وإلى وهدة إجرامية، ولكن بنا – أي جديرٌ بنا – أيضاً أن نبحث وأن نُفكِّك ثقافة المُطابَقة هذه، ثقافة الرغبة في المُطابَقة، لماذا؟!
من أين تأتي؟!
تأتي من فقر المعرفة، أنيميا Anemia المعرفة، تأتي من الجد والاشتغال على بناء الجدران وتثخينها وتسميكها، فاختر لنفسك إما أن تكون ساكن جدران وإما أن تكون رواد آفاق، مُرتاد آفاق، ولكن نحن لا نُحِب هذه الروح السندبادية وريادة الآفاق، نُحِب أن نسكن القصور، أي قصور الأيدولوجية والفكر المُكتمِل الناجز الذي يُعطي حلاً للدنيا والآخرة، للشرق وللغرب، لنا وللعالمين، فنحن أساتيذ البشر، إذن علينا أن نعيش بين هذه الجدران، ولكن مَن يعيش داخل جدران هل يرى العالم والآفاق والآخرين؟!
وليس لشيئٍ كامنٍ جوف صخرة سواها أرضٌ ولا سماء .
هؤلاء المُتشرنِقون المُتقوقِعون المُتجدرِنون داخل الجُدر لا يُمكِن أن يرتادوا الآفاق، ليس عندهم هذا التطلع السندبادي والرغبة في البحث عن الجزائر السبع أو السبعين، هم لا يُحِبون هذا، فكل شيئ موجود بالنسبة لهم، ذن إذا فككنا هاجس المُطابَقة سنجد أنه يمثل في قلبه ويمثل في جوهره الشرك والوثنية المعرفية والنفسية، ولكي نُحلِّل مفهوم الوثنية أيضاً سنقول بكلمة واحدة أن كل مُنازَعة لله – تبارك وتعالى – في ما هو لله، في ما هو من صلاحيات واختصاصات الله، في ما هو من صفات الله الحصرية هو وثنية، بغض النظر أكان هذا الوثن حجراً أو شجراً أو بشراً أو شمساً أو قمراً فهو في نهاية المطاف وثن، فهذا وثن ومن ثم نحن مُتوثِّنون والوثنية تسري في دمائنا، ولكن هل تعرفون لماذا؟!
لأن هاجس المُطابَقة يمثل في قلبه الوثنية، وإلا لماذا أطلب من غيري أن يتطابق معي؟!

لماذا لا أقبل الغير إلا إذا تطابق؟!

لأنني إله زائف، لأنني أظن أنني أمتلك الحقيقة كلها، فأعتقد أن الحق كله عندي وأن كل الحق بين يدي ولذلك عليك أن تتطابق مع ما عندي، عليك أن تتطابق معي، وإن لم تتطابق فأنت مُبطِل، أنت ملعون، أنت مطرود من جنة المعرفة ومن رحمة الله معاً، وفي الحقيقة هذه وثنية لأن الحقيقة المُطلَقة الكاملة التامة الناجزة عند الله، ولذلك الذي يبرأ من هذه الوثنية – الباريء من هذه الوثنية المعرفية والنفسية – يكون سبيله مُختلِفاً تماماً أو مُختلِفة – السبيل تُذكَّر وتُؤنَّث -، إنه البحث عن الحقيقة والبحث عن المعرفة ومُواصَلة البحث وهذا هو الذي يليق بالبشر، فنحن في نهاية المطاف بشر، قال الله وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩، وقال أيضاً وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، لذلك العالم الذي لا يتعلَّم ولا يُعلَّم هو واحد فقط لا إله إلا هو، يا عالماً لا يُعلَّم. هكذا نُخاطِبه في تضرعاتنا، فحتى النبي محمد الذي هو أعظم الأنبياء الله قال له وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، فهو لا يعلم كل شيئ، ومن أين له أصلاً أن يعلم كل شيئ؟!

علمه محدود يليق ببشر، نعم بشر عظيم جداً بل أعظم البشر ولكنه محدود في النهاية إلى جانب علم الله، هو لا شيئ في علم الله، كنقرة عصفور في يمٍ مُتراطِم عجاج مُترامي، فقط هذا هو!
اليوم ائتني بأكبر عالم في الدنيا يُمكِن في لحظة أن يستحيل إلى مُتعلِّم وعلى يد طفل – وذكرنا هذا في خُطبة ربما قريباً – أو فتى أو فتاة صغير أو صغيرة في شيئٍ لا يُحسِنه، فألبرت أينشتاين Albert Einstein – كما قلت مرة – وهو أكبر فيزيائي يُريد أن يتعلَّم – نفترض – اللغة الهولندية الـ Dutch وبالتالي سوف يحتاج إلى مُعلِّم يُعلِّمه، أي أنه سيُصبِح مُباشَرةً تلميذاً عند ولد عمره عشرين سنة ليُعلِّمه الهولندية، ولا مُشكِلة في هذا فأينشتاين Einstein يُعلِّم الدنيا الفيزياء ولكن هذا الولد يُعلِّمه الهولندية، إذن هو مُتعلِّم، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩، وكذلك لو بُعِث اليوم أكبر شخص ماجد في تاريخنا – لن نذكر أشخاص حتى لا يُقال إنه يتنقصهم – يُريد أن يأخذاً كورساً Course في الرياضيات الحديثة سوف يُصبِح مُتعلِّماً في لحظة، لو بُعِث صلاح الدين الآن – وهو أكبر عسكري، أكبر قائد في وقته – سوف يحتاج اليوم أن يتعلَّم أشياء في العسكرية أيضاً، وسيجلس مجلس التلميذ في الأكاديمية العسكرية ليتعلَّم، الله وحده هو العالم الذي لا يتعلَّم ولا يُعلَّم وهو الذي يُعلِّم العالمين – لا إله إلا هو – لأن علمه كامل ناجز، فالله – عز وجل – لا يبحث ولا يستقري ولا يستنبط لأن علمه مُطلَق – لا إله إلا هو – بخلاف البشر الذين هم في حاجة إلى البحث الدائم، وهذا الذي يبحث ويُواصِل البحث لا يُمكِن ألا يلحظ غيره فضلاً عن أن يزدريه ويحتقره فضلاً عن أن يرغب في تصفيته وإلغائه، فهذا مُستحيل، بل بالعكس هو يرى نفسه مُتساوياً مع الآخرين، فكلنا في البحثِ إخوةٌ شرقٌ وغربُ، نحن نبحث ونتساعد، نعم قد تسبقني من منظورك أو من منظوري بخطوة وقد أتأخر أنا بخطوة ولكن نحن في الطريق كلنا نبحث، ولذلك يتسم هذا الإنسان بإنسانية مُتواضِعة وليس بتأله زائف مُتكبِّر مُتعجرِف مُتغطرِس فلا يطلب التطابق، فلماذا أطلب أن يتطابق الناس معي؟!
وبالمُناسَبة في تاريخنا الإسلامي لم نكن في البداية هكذا، وهذه ملحوظة أخرى جديرة بالتقييد والتسجيل واللفت، فكلما ضعف الشخص وكلما ضعفت ثقته في نفسه وثقته في معرفته وفي قدرته وفي لياقاته وفي مُرشِّحاته لأي شيئ كلما أصبح أميل إلى المُطابَقة فطلب الطباق، أي طباقٌ أو طلاق، إما أن تتطابق وإما بينونة كُبرى لا رجعة للعلاقات بعدها فلا مجال لغير الطباق أو الطلاق، وكذلك الأمم كلما ضعفت ثقتها في نفسها واستشعرت انحطاطها ودونيتها في أي ميدان وليس فقطفي الميدان الروحي أو القيمي أو الأخلاقي بل وربما في الميدان السياسي أو العسكري أو الاقتصادي الانتاجي أو أي شيئ آخر كلما كانت هذه الأمم تنحو إلى التعصب والانغلاق وبناء الجدران وإطلاق الدعاوى الكُبرى مثل “أنها الأولى، أنها أمة الله، سادة الأمم، شعب الله المُختار، نحن فقط أساتيذ البشر، مُعلِّمو الدنيا” وهذا كله كلام فارغ، والعالم يضحك عليهم، فالعالم ينظر ويضحك، ففي ماذا أنتم أساتيذ؟!
ما هي وعودكم؟!
أن نغزو العالم وأن نأخذ النساء أسارى وسبايا، فيُصبِح عندي مائتين امرأة فأنكحهن، هل هذا هو الوعد؟!
فوعدك ليس أن تُطوِّر في الصناعات الفضائية والمدنية والعسكرية وفي العلم والتكنولوجيا، بل تُريد أن تضع يدك على نساء العالم، فهذا وعد مُظلِم، هذا وعد مُخيف ومُرعِب، علماً بأن هذا يُمثِّل ثقافة لدى البعض، فهذا عند بعض الناس ثقافة يتثقَّف عليها في أكثر من ميدان، ومن ثم تُصبِح أمنيته وأمله في الحياة أن يحمل السيف الذي لم يعد له دور في حياتنا، فالسيف أصبح غير موجود اليوم، اليوم يُوجدَد قنابل ذرية وهيدروجينية، فهل تمتلك هذا؟!
ومع ذلك تجد مَن يُريد أن يحمل السيف ويغزو العالم ويرجع بالنسوان، فما هذا يا أخي؟!
أي ثقافة تعيش بها في القرن الحادي والعشرين؟!
ويُنسَب هذا البله إلى الله تبارك وتعالى، وبالمُناسَبة هذا من بين أسباب دمار وخبال الأمم ولسنا استثناءً، لأن الكل يتحدَّث بإسم الله، وهذا شيئ غريب، فتسمع المسيحي كالمسلم كاليهودي، فالكل يتحدَّث بإسم السماء خاصة من أهل الأديان طبعاً فيقولون “هذا ما يُحِبه الله، هذا ما يلعنه الله، هذا ملعون في نظر الرب، وإلى غير ذلك”، فقبل أيام كنت أقرأ لمُؤرِّخ نصراني – ساويرس بن المقفع – يتحدَّث عن عمر بن عبد العزيز ويقذع في حقه ويقول “وكان هذا الظالم يفعل السوء في نظر الرب”
فعمر بن عبد العزيز مُجرِم في نظره هذا لأن قيَّد النصارى قليلاً في أشياء، ونحن قد نختلف مع عمر بن عبد العزيز في ما ذهب إليه من اجتهاد ولكن هذا يُبقيه في نظرنا كمسلمين رجلاً صالحاً وعادلاً بل رمزاً للعدل، ولكنه في نظر الآخر الذي يطلب أيضاً الطباق – يطلب الطباق الكامل – كان شخصاً سيئاً جداً يفعل السوء والشر في نظر الرب ومن ثم الله يرى أنه إنسان شرير، فما هذا؟!
ما أدراك أن الله ينظر إليه هكذا؟!
وما أدراني أن الله ينظر إليه هكذا؟!
الجميع يتكلَّم باسم الرب، ولكن قدي يتهمني أحدهم بالزندقة الآن بسبب هذا الكلام، وهذا غير صحيح لأن عند المسيحي هذا زندقة وعند المسلم زندقة وعند اليهودي زندقة، فأنا زنديق الآن عند الجميع وهذا غير صحيح لأن هناك حل آخر يقبله كل العقلاء وكل البشر – البشر الذين ليسوا أصحاب الجُدر – فهل تعرفون ما هو؟!
هو عدم الحديث بإسم الله، فكل هؤلاء يتورّطون ويُورِّطون في الحديث أو في اغتصاب الحديث بإسم الله ونيابةً عن الله الذي لم يُنِب أحد أن يتكلَّم بإسمه – لا إله إلا هو – بل أن الله جعل قرين الشرك به الحديث عنه بغير علم فقال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۩، ومن هنا إياك أن تتحدَّث بإسم الله لأن الله لم يُعط أحداً رُخصة أن يتحدَّث بإسمه ولا محمداً ولا عيسى ولا موسى، حين يُريد أن يتحدَّث سيتحدَّث هو – لا إله إلا هو – وأنت تُبلِّغ فقط – إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۩ – فلا تزد ولا تنقص يا محمد، يا موسى، يا عيسى، يا شيت، يا فلان.
هذا هو، ولكن أين هذا اليوم؟!
اليوم بعض الأحبار والقسس والمشائخ يتكلَّمون بإسم الله، ويُقسِم لك أحدهم بالله أن الله – تبارك وتعالى – يلعن هؤلاء ويُبغِضهم وأعد لهم كذا وكذا من صنوف العذاب، فمن أين لك هذا يا رجل؟!
كيف تجرؤ على أن تتكلَّم باسم الله؟!
يقول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث بُريدة في صحيح مسلم وفي غير مسلم “وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ فاستنزلوك على حكم الله – أي أرادوك أن تحكم فيهم بحكم الله – فلا تُنزِلهم على حكم الله”، والرسول هنا يُخاطِب مَن؟!
الإمام عليّاً – عليه السلام – وهو رجل العلم والعرفان والإيمان الذي أُوتيَ فهماً مُنقطِع النظير في كتاب الله، ومع ذلك قال له هذا لا يجعلك – كما يعتقد إخواتنا الشيعة – معصوماً فتنطق بإسم الله، بل تبقى البشر الضعيف الذي تُصيب وتُخطيء ،ومن هنا قال له “فلا تُنزِلهم على حكم الله فإنك لا تدري أُتصيبُ فيهم حكم الله أو لا”، أي لا تقل يا عليّ أن هذا هو حكم الله فقد لا تُصيب في هذا.
اليوم اجتهادات فقهية بسيطة اجتهدها أنا وأنت وهو وهى تُجعَل دين الله ويقولون لك أن هذا هو الإسلام وهذا حكم الدين، وهذا غير صحيح لأن هذا ليس حكم الدين يا رجل، هذا رأيك أنت وهذا اجتهادك أنت، ومع ذلك تجد مَن يقول لك أن الأمة أجمعت على كذا وأجمع العلماء على كذا من باب التخويف بهذه الكلمات، فهم يُخوِّفون ويُقعقِعون بهذه الأشياء ومن ثم يُرعِبون الناس، فعلى ماذا أجمعت الأمة؟!
وأين ومتى أجمعت وقد خالف مَن خالف؟!
علينا أن نقول اتفقت المذاهب أو اتفق بعض العلماء أو بعض المذاهب الكذائية، ولكن لا نقول أجمعت الأمة وقد خالف كثيرون أو قليلون فلا إجماع، ومع ذلك يُخوِّفون الناس بالإجماع ويقولون هذا هو الإسلام وهذا حكم الله وحكم الدين، لكن هذا ليس حكم الله بل هو اجتهاد الفقهاء ورأي فلان وعلان، وعلى كل حال الحل مُهِم فإذا كان لأحد – وما ينبغي لأحد – أن يتكلَّم بإسم الله أتعرفون مَن هو هذا الأحد؟!
هو الذي يتكلَّم باسم الناس أجمعين، الذي يتكلَّم باسم العالمين، الذي يُثبِت الفائقية والتفوق الأخلاقي، ومن ثم العالم سيرضخ ويقول “نعم هذا نقبله”، فيقبله اليهودي والمسيحي والمجوسي والمسلم والمُلحِد، وهذا هو الصحيح ومع ذلك قد يتهمني أحدهم بالزندقة مرة أُخرى مُدّعياً أنني فرغت من زندقة ووقعت في زندقة أخرى، وهذا غير صحيح بل أن الصحيح هو العكس تماماً، فالله – تبارك وتعالى – مَن هو؟!
هو رب العالمين – لا إله إلا هو – ولذلك نجد أن الله حين يتكلَّم وحين يشرع أو يُشرِّع فحتماً هو يتكلَّم لصالح العالمين، رحمةً بالبشر أجمعين، فيقطع معاذيرهم ويقطع حججهم رحمةً بهم وإرادةً للخير بهم أجمعين من عند آخرهم دون أن يستثني أحداً، وحين يشرع أو يُشرِّع إنما يُشرِّع ما يصلح للعالمين أيضاً، ودعني من تشريع الفقهاء – انتبه – فأنا أتحدَّث عن رب العالمين لأنك سوف تجد أحياناً بوناً واسعاً جداً جداً جداً جداً بين ما شرع الله بالنص والفص في كتابه الأعز وبين ما شرع الفقهاء، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء الفقهاء يدّعون أن هذا هو الدين، وهذا غير صحيح فهذا ليس الدين بل فهمهم للدين، وظاهر كتاب الله عكس ما ذهبوا إليه تماماً، فأين هم من ظاهر كتاب الله؟!
ولكن هذه اجتهادات في زمن مُعيَّن وفي سياقات ثقافية وسياسية ومرات عسكرية حربية مُعيَّنة، هو هذا يا إخواني!
إذن إذا كان لأحد أن يتكلَّم بإسم الله – وما ينبغي – فليكن هذا الأحد الذي يتكلَّم بإسم التفوق الأخلاقي، باسم المباديء والقيم الأكثر عمومية والأبعد من الحصرية التي يُمكِن أن يتقبَّلها كل شخص لا حصري، أما الحصري فسيرفضها حين تعرض هذه المباديء العامة الكونية والتي في صُلبها أو في قلبها تمثل العدالة، والعدالة في قلبها يمثل مفهوم المُساواة فأرضى لك ما أرضاه لنفسي – الله أكبر- وينطبق علىّ ما ينطبق عليك، فليس لي استثناءات خاصة لأنني من ذهب وأنت من خشب، فهذا غير صحيح وإلا دخلنا هنا في الظلم ودخلنا في ما لا يُمكِن أن يُكونَّن ولا أن يُعولَّم ولا أن يُصبِح شرعاً للعالمين هادياً، فهذا مُستحيل ومن ثم سيُرفَض، سترفضه البشرية وسيرفضه أهل الوطن.
فهكذا ينبغي أن يكون الذي يتكلَّم باسم الله إن وُجِدَ، فالله أكبر – لا إله إلا هو – ومن ثم تشريعه ينبغي أن يكون أكبر، تشريعه الذي عنه يُقال هذا شرع الله وهذا دين الله وهذا كلام الله وهذا حكم الله ينبغي أن يكون أكبر من كل عرقية، لأن الله لا ينحاز إلى عرق، لا ينحاز لحساب عرق على عرقٍ آخر فهو أكبر من كل ثقافة، ومن هنا الله لا يُشرِّع في حدود ثقافية مُحدَّدة يحصر فيها تشريعه، فليس هناك ثمة تشريع لكم يا عرب أو يا عجم أو يا أوروبيون أو يا غير ذلك، وإلا لن يكون تشريع رب العالمين بل هو مُجرَّد ثقافة مُتحرِّكة، وطبعاً لو سألت الناس الآن عن الفرق حتى بين الثقافة والأفكار من الصعب أن تجد مَن يعرف الجواب إلا أن يكون الشخص مُفكِّراً أو فيلسوفاً، فالشخص العادي سيُحدِثك عن أشياء تتعلَّق بالثقافة وبالمُثقَّفين ولكن دون أن يعرف الفرق بين الثقافة والفكر فهو يرى أنهما شيئاً واحداً فالثقافة أفكار وهذا غير صحيح، الثقافة هى الإطار العام والروح أو الروحية التي تعكس الإرادة العامة ومزاج الأمة في لحظة من لحظات تاريخها، هذه هى الثقافة وهذا شيئ عجيب طبعاً، بمعنى أنه قد تأتي الفكرة مُعلَّلة مُدلَّلة مُبرّهَنة ولكن على معاييرك أنت في التعليل والتدليل والبرّهنة فتكون مدعومة بنص من كتاب الله وبالسُنة الصحيحة وباجتهادات الفقهاء ومع ذلك تُرفَض، لماذا؟!
لأن الثقافة ترفضها، فإذا كانت هذه الفكرة فكرة تسامح وانفتاح ولكن الثقافة ثقافة تعصب فسوف تُرفَض، حتى ولو قلت لأهل هذه الثقافة أن الكتاب يشهد لك فسوف تجد مَن يقول أن هذا غير صحيح ويأتي يُرجِّح الفكرة الأخرى المُنغلِقة التي تخدم ثقافة التعصب وتلتئم بها بدليل لا يصلح أن يكون حتى شُبهة فقط لأنه يرتاح إليه فيقول لك يا أخي نحن نرتاح لأن هذا الدليل أقوى، وهذا غير صحيح لأن الدليل الآخر دليل نصي، فلماذا خالفت مذهبك؟!
لماذا خالفت منهجك في الاستنباط؟!
اليوم مثلاً بدأ يُثيرنا بعض المشاكل في مصر تتعلَّق بأن حق الاعتقاد مكفول وكذلك حق العبادة وبناء المعابد وفقاً لما يُقرِّره القانون، علماً بأن كل الدساتير تفعل هذا طبعاً فالدستورليس برلماناً وطبعاً يترك أشياء كثيرة لا يتحدَّث فيها، فهو يخط المباديء، يرسم المباديء العامة الموحية ويترك التفاصيل لرجال التشريع، ولكن في التفاصيل تكمن الشياطين، ومن هنا يخاف الآخرون، فيخاف النصارى وأنا بكل أريحية أقول لكم حُقَ لهم أن يخافوا أيضاً، ولكن لابد أن نُطمئنهم نحن كمسلمين بطريقة ذكية وصادقة ومُباشِرة وشفافة، ولكن لماذا يخافون؟!
لأن أنت تقول لهم حق كذا وكذا وفق ما يُقرِّره ويُفصِله القانون، وحين نأتي في البرلمان سيكون طبيعياً أن نستفتي المذاهب الأربعة في مسألة هل يجوز للأقباط – للمسيحين – أن يبنوا كنيسة؟!
في المذاهب الأربعة لا يجوز، فهذا ممنوع لأن الأرض التي تُفتَح عنوةً أو أي بلد يُفتَح بالقوة بشكل عام لا يجوز لأهله أن يُحدِثوا فيه كنيسة، ومن ثم وقعنا في حيص بيص بإسم القانون والدستور، وعندما نأتي لنناقش المذاهب الأربعة – وهذه المسألة ذكرناها كمثال من الأمثلة فقط – هل لديهم أدلة صحيحة صريحة في هذا الموضوع؟!
لا يُوجَد أي دليل، فليس هناك ثمة حديث واحد يصح عن رسول الله يُفيد بأن الأرض التي فُتِحَت عنوة ممنوع أن يبني فيها أهلها كنائسهم ومعابدهم من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم، فهذا غير صحيح بل أن ظاهر كتاب الله عكس هذا تماماً، فالله يقول وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ۩، أي أن الله يُريد هذا التنوع الملي والعقدي أن يبقى قائماً، فمن غير معقول أن تقول لي أن لدي حرية اعتقاد وحرية عبادة ولكن ليس لدي حرية أن أُنشيء كنيسة لي، فلماذا يا أخي وأنت تبني ألف مسجد؟!
هذا ظلم ومن ثم هذا التشريع لا يُقبَل.
وللأسف العالم العربي الآن الذي جزء منه لم يتعافى للأسف من لعنة السُلطة ومن لعنة الاستبداد ومن لعنة التأله السياسي والوثنية السياسية – وترون ما يحدث في سوريا الآن – يتماهى فيه السياسي بالأمني والدولتي بالحكومي، فالمفروض مثلاً – أن مُؤسَّسة الجيش مُؤسَّسة حكومية أم مُؤسَّسة دولتية؟!
مُؤسَّسة دولتية، أي تتبع الدولة وليس الحكومة، فلتذهب الحكومة إلى الجحيم، وتأتي حكومة وتذهب حكومة، ولكن هذا الجيش ثابت ووظيفته أن يُؤمِّن الحدود الخارجية للبلد وتحقيق الاستقرار ضد أي عدوان خارجي، فهذا جيش تابع للدولة هذا، ومن هنا تذهب مائة حكومة ولكن يبقى الجيش ولا مُشكِلة في هذا.
واليوم – مثلاً – في سوريا الجيش يذبح الشعب باسم الحكومة، باسم الإرادة السياسية، القائد السياسي يقول له “اقتل الشعب ودمِّر سوريا” فيقتل الشعب ويُدمِّر سوريا ، وهذا غير معقول، أين يحصل هذا الجنون؟!

علماً بأن بعض الناس إلى الآن مازالوا في حالة غبش وتشوش مما يجري في سوريا، لكن يا جماعة صدِّقوني عليكم أن تتركوا كل الحذلقات والفقهات السياسية حيث أن هناك ميدان وسيع وهامش عريض يتحذلق ويتفيهق فيه سياسياً الكل فكلنا – ما شاء الله – مُحلِّلون، وأنا لا أُحِب أن ألعب هذا الدور- دور التحليل السياسي – ولكن أنا أُحِب الدور الثقافي الفكري ومن ثم لا تطلب مني تحليلاً سياسياً لأنني لست مُحلِّلاً سياسياً ولا أُحِب هذا، ولكن أقول لكم باختصار أن بالمنطق الفطري لو أرادك أحد على أهلك وأولادك أن يستأسرهم – أن يأسرهم – أو يقتلهم وترك لك حرية الخيار في هذا، أكنت تختار أن يتم أسرهم أو أن يتم قتلهم؟!
الأب العاقل، الأب الحنون، الأم الرؤوم ستقول لك “يا أخي خُذهم أسرى، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ۩، سأُسلِّمك أولادي كأسرى وإن شاء الله في يوم من الأيام أستطيع أن أخلصهم”، ولن يقبل أحد أن يقتل أولاده أو أن يذبحهم، فلا يُمكِن لأي أب أو أم أن يفعل هذا، وكلنا نعرف حين كنا صغاراً القصة التقليدية المذكورة في في الصحيح في البخاري وفي غيره عن سليمان الحكيم حين اختصمت إليه امرأتان وكلٌ تدعي أيه ؟أن الطفل الصغير هو ابنها – امرأة كبيرة وأُخرى صغيرة – فقال سليمان أنه لا مُشكِلة في هذا وأمر بإحضار سكيناً، لماذا؟!

قال ” سوف نشقه نصفين، ومن ثم نُعطيكي نصفاً ونُعطي الأخرى نصفاً”، فأما إحداهن قالت “نعم، هذا هو العدل”، والأخرى قالت “لا يا أيها القاضي، يا نبي الله، يا أيها الملك فلتأخذه كله، هو ليس لي بل هو لها”، فقال “هو لكِ فخُذيه” لأن هذه هى الأم، وبالتالي بنفس المنطق الفطري البسيط لو كنت قائداً قومياً وطنياً وأُحِب بلدي سوريا – أُقسِم بالله – سأتنازل عن الحكم من أول يوم لشعب سوريا وأقول لهم “حملتكم الأمانة، أنا حملتكم أمانة وطنية وقومية”، علماً بأن الشعب تحت تأثير هذا الموقف النبيل وهذا الموقف الوطني الحقيقي سوف يحفظ الأمانة ولن يسمح لأي حكومة جديدة أن تلعب بالأمن القومي وبالأمن الوطني وأن تتحالف مع الاستعمار ومع الإمبريالية ضد العرب والمسلمين، لن يسمح الشعب وسيقول لا، ولكن ما يحدث الآن عكس هذا، فهو يذبح سوريا وأُدمِّر سوريا من أجل أن يبقى في السُلطة تحت ستار كملا فارغ يتعلَّق بالجعجعة الوطنية والقومية، فيضحكون على الناس في بلادٍ لم تتعافى من لوثة الوطنية السياسية فيتماهى فيها الأمني بالسياسي والحكومي بالدولتي، ومن هنا نقول أن الدرس الذي لم يستوعبه هؤلاء ولم يصل إليهم هو أن العنف – كل العنف – مهما احتشد وتحشَّد لا يغلب إرادة الحرية وبالتالي ستفشلون، فنقول للنظام في سوريا “أنت فاشل، أنت تُنزَع، ستنتهي عما قليل، وعليك أن تفهم هذا”، ولكنه لا يُحِب أن يفهم يا أخي، لا يُحِب أن يفهم إلا أن يذهب باللعنات – والعياذ بالله – من شعبه ومن شعوب العالمين، ولكن – انتبهوا – إذا العنف – أي عنف الحكومات وعنف الجيش المُحكمَن وليس المُدولَت – فشل أن يقضي على هذا فهل يُمِكِن للعنف أن يقضي على إرادة المعرفة والبحث عن الحقيقة؟!
مُستحيل لأن المعرفة أقوى حتى من إرادة أن أكسب الأصفار، بل هى أقوى بكثير لأن أقوى إرادة هى إرادة المعرفة ومن ثم لا يُمكِن بالعنف أن تُسكِت صوت الحقيقة.
إذن هاجس المُطابَقة يسكن أولئك الذين ظنوا أنهم آلهة فعرفوا الحقائق وتملكوها واحتازوها من جميع جوانبها، ولذلك إذا كانوا مُتدينين مُمكِن أن يتكلَّموا بإسم الله وبإسم الدين، وهذه كارثة عُظمى!

هاجس المُطابَقة يبرأ منه البشر – اللهم اجعلنا بشراً – المُتواضِعون الوادِعون الذين يعلمون أنهم يتعلَّمون فيعيشون ويموتون وهم يتعلَّمون، فنحن كل يوم نتعلَّم جديداً لذلك نقبل الآخرين كمبدأ وكعام يُمكِن أن يُكونَّن، نقبل الآخرين على أنهم شركاء في البحث وشركاء في النظر، أما منطق الاستهزاء والازدراء والتحقير والاتهام هو منطق مُرشَّح أن يقضي على صاحبه باستمرار فصاحبه دائماً ما يفشل، وهذا هو معنى قول الله – تبارك وتعالى – فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩، فإذا كان لديك رسالة ودعوة عليك أن تصدع بها بجدية وبصدق وإخلاص، أما الذين يستهزئون فلا يُناظِرون بل يكتفون بالاستهزاء ومن هنا قال الله كفيناك إياهم يا محمد، وليس هذا يختص بمحمد فحسب هو الذي قد كُفيَ هؤلاء المُستهزئين كما تظنون وتقولون بل أي إنسان – أي إنسان في الشرق والغرب – سيُكفى المُستهزئين لأن الاستهزاء منطق يقضي على صاحبه فضلاً عن أن البشر لديهم حس ولديهم تشوف لمعرفة الحقائق، فلو بعد حين سيعلمون أن هذا هو الحق الصُراح وأن هذا هو الباطل الوقاح ومن ثم سينحازون إلى الحق والحقيقة، فعلينا أن نتخفَّف من المنطق الازدرائي والغطرسة والعجرفة ووصم الآخرين، فنحن شركاء في النظر وشركاء في البحث، نحن البشر المُتواضِعون وبالتالي هذه هى خُطتنا وهذه سبيلنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسانٍ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أختم بأقصوصة من سطرين فقط لكي اُطيّب بها المجلس، ففي أوقات القوة – كما قلت – الأمة تنحو إلى التسامح وإلى الانفتاح وإلى التواضع في كل مسالكها عكس أوقات الإنحطاط والدونية، ومن اللافت أن مُدونات الأدب العربي آثرت أن تُقيِّد لنا عشرات – إن لم يكن مئات – الحكايا والقصص التي تُؤكِّد مدى ما بلغه المسلم في أوقات القوة والازدهار الحضاري من تسامح وتقبل وتفهم – لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩ – فيُذكَر عن أخوين كانا يسكنان في دار واحدة أن أحدهما كان ماجنياً ويسكن الطابق العلوي والآخر كان مُتديناً تقياً مُتصوِّناً ويسكن الطابق السفلي، وهذا الماجن كان يسهر ذات ليلة مع صُحبةٍ له فيضجون ويرقصون ويغنون ويشربون الخمر – قصف ولعب – حتى طار النوم من عين التقي الصيّن فأطل برأسه – وهو يسكن في السُفل – وخاطب أخاه أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ ۩ فرد عليه قائلاً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۩
يحكي لنا تاريخنا الأدبي وأدبياتنا التاريخية عن أبي الجعد قصة تتعلَّق بهذا الموضوع، فأبو الجعد كان له ستة من الأبناء ولكن تقسّمتهم المذاهب والطوائف – علماً بأنهم يعيشون في دار واحدة مع أبيهم – ما بين سُني وشيعي وخارجي ومُعتزِلي وغير ذلك، فهم ستة ولكن كل واحد على مذهب ودين وطريقة ومع ذلك يعيشون معاً في سلام وذلك حين كنا أمة قوية.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (14/12/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: