إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ۩ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ۩ فصارت النبوة والرسالة والهُدى والرشاد جريمة، وعلى لسانِ مَن؟!
على لسان صاحب الرسالة، ولكن كيف؟!
تنزلاً واعتباطاً كما يُقال، هكذا تأبون إلا أن تنظروا إلينا فليكن ولا بأس، لكم موقفكم، لكم نظرتكم، وسنتبنى هذا المنظور، فكان ماذا؟!
العدل يسعُ الجميع، العدل المُؤسَّس على أن يتحمَّل كلٌ مسئوليته عن اختياره، فأنتم ترون أننا مُجرِمون في ما ندعو إليه ونُرشِد إليه فلا بأس، ولن نُكرِهكم، لن نُرغِمكم، لن نجتهد ولن نُجاهِد حتى ننتزع منكم اعترافاً بعكسِ ما تنظرون، بعكس ما ترون، لكم ذلك فنحن مُجرِمون وأنتم تعملون العمل الطيب – وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩ – أو العمل الذي قد يكون طيباً في نظركم أو في نظر أشياعكم وأتباعكم فلا بأس، ولكن ما هى النهاية؟!
ما هى الترتبات الأخيرة؟!
ليسر كلٌ في مساره، ليعمد كلٌ في طريقه وفق ما اختار، فهذا هو العدل!
إلى ما قبل عقود يسيرة لم يكن البشر يستوعبون هذا المنطق، وهو منطق ماذا؟!
منطق أن كل أحد له الحرية الكاملة وبالتالي يتحمَّل مسئوليته تامة غير منقوصة عن اختياره، ولكن ما حدث أن هناك مَن يقولون لنا دائماً “نحن نختار بالنيابة عنكم، نحن نحتاز الحقيقة، ولذلك يجب أن يُطوَّح برؤوس كبيرة وكثيرة في سبيل تعميم هذه الحقيقة”، فهكذا كانت تجري الأمور، ومن هنا شهد التاريخ عشرات الحروب الدينية في داخل القارة الواحدة وبين القارات، ولكن الإسلام جاء من أول يوم ليشجب هذا المنطق لإنه لا يعترف بهذا المنطق، فلا يُمكِن أبداً أن تكون قضايا الاعتقاد والدين قضايا يُصطنَع فيها الإكراه والإرغام والقصر، إنها قضايا اعتقاد وقضايا اختيار حر، وهذا هو منطق القرآن، ففي الخُطبة السابقة قلنا أن القرآن بطريقة عجيبة يشجب منطق الازدراء والسُخرية، علماً بأن هناك لاهوت نمى هنا في الغرب الأوروبي يُسمّى بلاهوت الازدراء لأنه يُناقِش الأديان الأخرى والعقائد المُخالِفة من منطق الازدراء والتحقير ولذلك يتوسَّل الافتراء والكذب والبهت، ومن ثم يُسمى هكذا بلاهوت الازدراء أو ثيولوجيا – Theology – الازدراء، ولكن القرآن برء من هذا الموقف من أول يوم ولذلك أفهمنا أن الذين يجنحون إلى الازدراء والسُخرية هم الفاشلون عقدياً وفكرياً ومن ثم دائماً يفشلون وهذا إعلان بفشلهم، فلا ازدراء ولا إكراه وإرغام بل هناك قدر من المرونة يُمكِن معه – من باب التنزل – تبني الموقف المُخالِف لكي نقود المسيرة، لكي نقود كل الفرقاء إلى نهاية واحدة يمثل في جوهرها وفي لبها العدل، فلنا أن نختار ما اخترناه ولكم أنتم أن تتمسَّكوا بما اخترتموه وليتحمَّل كلٌ مسئوليته فالله يقول كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، والعجيب أن في هذا السياق الكريم من سورة سبأ بعد قليلٍ جداً يقول الله – تبارك وتعالى – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ۩، ولو اتسع المقام لتناولنا نُكتةً أو طرفاً من نُكتة تقديم ” كَافَّةً ۩” هنا لأنه قد يقول قائل كان الأنسب أن يقول وما أرسلناك إلا للناس كافة ولكنه قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩، ومن هؤلاء الذين لا يعلمون بعض المسلمين في هذا العصر وفي أعصارٍ سلفت ومضت، فلم يفهموا جيداً عالمية هذه الرسالة لذلك توسَّلوا بمنطق وبلغة تتعارض على طول الخط مع عالمية الرسالة فلم تخدم في هذا الاتجاه.
وضح إذن إن هذه الخُطبة ستكون وصلاً للخُطبة السابقة لأن الوقت ضيِّق في الشتاء فخُطبةٌ واحدة لا تكفي، وتحدَّثنا في الخُطبة الماضية عن سبب من أسباب هذه العقلية المُطابِقية التي تنشد وتطلب التطابق، والتطابق في حقيقته كارثة بل هو قد يكون إحدى أُمات الكوارث، ولكن لماذا؟!
لأن التطابق يُمكِن امتحانه – كما قلت – سريعاً ونتيجة الامتحان دائماً مأساوية كارثية، ولكن كيف يُمكِن امتحانه سريعاً؟!
فقط يكفي أن تختلف معي في كسر بسيط في المائة لكي لا تكون مُتطابِقاً وإذن فأنت عدوي، ومن هنا علاقاتنا تشهد دائماً بين الدول وبين الأفرادات تقاطاعات وانفجارات دراماتيكية لا يفهما الإنسان البصير الواعي فيقول: لماذا يحدث هذا؟!
كيف يُمكِن أن تحدث هذه الأمور؟!
ولذلك نحن مُستقطَبون أو استقطابيون حتى في عواطفنا فإما أن أُحِبك جداً وإما أن أكرهك جداً، فهل لا يُوجَد حل وسط؟!
لا يُوجَد حل وسط، فإما أن تتطابق معي بالكامل وإلا فأنت عدوي.
إذن من الصعب جداً أن تجد هذه المُطابَقة إلا في عالم من الأغنام – أعزكم الله وأعزكن – أما في عالم البشر الأفراد الأحرار من الصعب أن تتوفَّر هذه المُطابَقة، فما رأيكم؟!
بين الصحابة وبين رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه – لم تكن دائماً ثمة مُطابَقة في كل شيئ بل كانوا يسألون: هل هذا عن وحي السماء؟!
“إن كان عن وحي السماء سمعنا وأطعنا، وإن كان اجتهاداً لك – اجتهاد رأي – فلنا آراء يا رسول الله”، علماً بأن صدر الرسول كان يتسع لهذا، فيتسع صدره الذي يسع الأكوان لكي يستمع، وأحياناً يُصادِق على بعض آرائهم ويقول “صحيح، هذا أحسن، هذا أجود”، وتعلمون وقائع كثيرة تدل على أن النبي نفسه كان يفعل هذا،أما اليوم فلا نفعل، فنحن نرى أننا أعظم من النبي وأقدس من النبي ومن ثم يجب أن يتطبق معنا العالمون في كل شيئ، وكما قلت إذا وقع الاختلاف في تفصيل واحد فقط فالمُطابَقة غير موجودة ومن ثم إذن فهو العِداء والاستعداء، وهذه كارثة تكرث العالم كله، فهذا إما أن يكون هو القديس وإما أن يكون هو الإبليس، فلا يُوجَد حل وسط، ولكن الصحيح هو أن الإنسان خَطَّاء فهو ليس قديساً وليس أيضاً إبليساً، فأي إنسان مُؤمِن أو أي إنسان طيب يُخطيء ويُصيب، ولكن هناك مَن يرفض هذا فإما أن يكون الآخر قديساً فنُقيم له ضريحاً ومقاماً، وإما أن يكون إبليساً فنلعنه في الأصابح والأماسي، إما الثأر وبالدم والدم لا يغسله إلا الدم، وإما الصفح التام، لكن القرآن أعطانا خياراً ثالثاً وهو الصلح، فنجمع قليل من المال ويحدث الصلح، أي أن هناك حل آخرفي المُنتصَف، فليس شرطاً أن أصفح هكذا بلا شيئ وكذلك ليس شرطاً أن أنتقم وأقتل، فمن المُمكِن أن نتصالح، ولكن للأسف كثيرون من الدارسين في الشرق والغرب – فعلاً من أسف، ويبدو أن هذا له بعض المصداقية سواء قلت أو كثرت – لحظ ولاحظ ولفت إلى أن العقلية العربية – أتحدَّث الآن عنا كعرب وليس عن كل المسلمين – عقلية حدية استقطابية تعجز عن رؤية التطيف، علماً بأن هذا المُصطلَح – مُصطلَح التطيف – من عندي، والتطيف هو التدرج علماً بأن لي خُطبة قريبة قبل أقل من سنة عن هذا المنطق الاتصالي والانفصالي، إذن منطقنا ليس اتصالياً لأنه لا يُلاحِظ الاتصالية في الأمور وإنما ينتقل حدياً مثل قفزات ميكانيكا الكم من طرف إلى طرف – طفرة Mutation – دون أن يمر بالوسط فإما أسود أو أبيض، وقدَّم بعضهم تعليلات كثيرة – بعضها مشكوك في مدى علميته ونجاعته التفسيرية والتحليلية – فقالوا أن هذا بسبب الصحراء والمناخ الصحراوي، لأن الصحراء تُحدِث فاصلاً حدياً بين أفق الأرض وأفق السماء، والصحراء لون واحد والسماء لونٌ آخر مُختلِف، فضلاً عن أن سماء العرب صافية ، والمناخ الصحراوي في النهار شديد القيظ والحرارة وفي الليل شديد البرودة، فأما حرارة شديدة وإما برودة شديدة، إما أزرق وإما أصفر، ومن ثم الخيارات بسيطة وحدية أيضاً، وبالتالي قالوا أن هذا المناخ أثَّر على عقلية العرب ما جعله يعجز أن يُشاهِد الحلول الوسط، وهذا غير صحيح فأنا أشك في علمية هذا الشيئ، لأن الإسكيمو أيضاً يعيشون في عالم أبيض تقريباً فحتى سماؤهم بيضاء ولكنهم يُلاحِظون التدرج، وهناك أكثر من ألف كلمة في لغة الإسكيمو تصف الثلج وتصف البياض، فالأبيض عندهم مئات الألون وليس لوناً واحداً، إذن مُمكِن للعربي أن يعيش في عالم بألون يسيرة وأيضاً أن يُلاحِظ التطيف أو التدرج والاتصالية.
ولكن أنا أُرجِّح أكثر – هكذا أزعم وأقترح وقد أكون مُخطئاً – أن السبب في هذا هو فردية العربي، وصحيح هذه الفردية لها علاقة بالصحراء التي لم تجعله يبخع ويخنع ويخضع لسُلطة مركزية واحدة مُتغوِّلة كسُلطات الحواضر والمُدن ، فالصحراوي مُتأبِّد كما يقولون لأنه يعيش مع الأوَابِدِ ومع الوحوش، فينطلق ويهيم – خاصة رعاة الإبل منهم – في أعماق أعماق الصحراء السحيقة، ولم يتعوَّد – والمُتنبي أشار إلى هذا في أشعار كثيرة – على أن يخضع لسُلطة مركزية وبالتالي هو يشعر بفرديته، فالعربي كائن حُر ولكن هذا أيضاً له مثالبه وسلبياته، ومن مثالبه وسلبياته أننا يُمكِن أن نعيش أفراداً وأحراراً ولكن من الصعب أن نعيش جماعات، يُمكِن أن ننشط وأن ننجح وأن نُنجِز وأن نُنتِج أفراداً، ولكن نفشل أن ننشط وأن ننجح وأن نُنجِز وأن نُنتِج كجماعات، وهذا صحيح ومُلاحَظ في عالم العرب بشكل ناصع وفاقع فنحن نفشل كجماعات، ائتني بأربعة من الإخوة في الله المُتحابِين الطيبين المُتوادِعين تُريد أن تدق بينهم إسفيناً لكي تُفرِّقهم، فقط عليك أن تُكلِّفهم بعمل جماعي، فسوف يختلفون حيث أن الكل ينفي الكل، الكل يرفض الكل، الكل لا يعود يرى الكل، فلماذا؟!
ما الذي يحدث؟!
هذا الذي نحتاج أن نقف معه وقفة مُطوَّلة، فالثقافة العربية ساعدت هذه الفردية وغذَّتها، والثقافة أخطر شيئ كما قلت لكم غير مرة علماً بأن الثقافة غير موضوع الأفكار، فالأفكار مسكينة ومن ثم تخضع للثقافة، تُستقطَب أو تُرفَض، تُجذَب أو تُنبَذ بحسب الثقافة وبحسب الروح السائدة، ومن ثم ثقافتنا لا تزال هكذا للأسف وهذا
يحتاج إلى مزيد تحليل وتفكيك، ولكن كيف؟!
البطولة لدينا ما هى؟!
البطولة رجل، ولا أُحِب أن أقول فرد فلا يُوجَد لدينا امرأة بطلة للأسف الشديد، ففي ثقافتنا المرأة لا تكون بطلة، فهذا كلام فارغ والبطل ليس فرداً حتى بل هو فرد رجل ذكر، فالبطولة رجل والمجد رجل والنصر رجل، وكل شيئ رجل واحد، ومن ثم هذا يُعين الروح الفردية ويُغذّيها .
ملايين العرب مِن مَن سمعوا خبر إعطاء جائزة نوبل Nobel للسلام للاتحاد الأوروبي في الجزيرة أو العربية والبي بي سي BBC والسي إن إن CNN استغربوا ولم يستوعبوا الخبر أصلاً، فهناك شيئ غير مُستوعَب هنا وغير مفهوم، فقبل أيام – في هذا الشهر الجاري – تُعطى جائزة نوبل Nobel للسلام ليس لباراك أوباما Barack Obama – أُعطيها قبل ذلك – ولا لمصري أوعربي أو أمريكي لاتيني أو غير ذلك وإنما للاتحاد الأوروبي، ومن ثم إعطاء جائزة نوبل Nobel للسلام للاتحاد الأوروبي يُعَد أمراً غير مفهوم، فهذا لا يستقيم في عقلية العربي، ولكن هذا عند الأوربيين عادي جداً جداً بل وذهب زعماء أوروبا إلى هناك بما فيهم مُستشارة ألمانيا واحتفلوا بهذا وشعروا بالفخر لأنهم كانوا مُعتَزين بهذا الشيئ، فالاتحاد الأوروبي أخذ الجائزة من السويد علماً بأن جائزة نوبل Nobel لها قيمة رمزية عالية، ومن ثم تم تكريم الاتحاد الأوروبي كله وليس حتى ألمانيا أو أي دولة وحدها بل الاتحاد الأوروبي كله، وهذا الشيئ لا يفهمه العربي، فالعربي يفهم أن تُعطى لشخص واحد لأن البطل في ذهنه هو نبي “شخص”، هو ولي “شخص”، هو إمام “شخص”، هو قائد عسكري “شخص”، هو قائد سياسي “شخص”، وللأسف هذا ما أخطأ المسلمون المُتأخِّرون في التقاطه وتثويره وتفعيله وتشغيله ثقافياً على الرغم من أن القرآن الكريم أراد للعرب ومن العرب أن يتخفَّفوا من هذه الروح بل وعمل فعلاً على تخفيفها ونجح، ومن هنا هذا النجاح مُنقطَع النظير الذي شكَّل سراً –
إلى الآن يُوصَف بأنه تقريباً سر – عندما نجح هؤلاء البدو الأعراب – قلة يسيرة من البشر وجيوشهم كانت قليلة إلى حد نسبي – في ظرف عقود يسيرة أن يفتحوا مُعظَم المعمور وأن يقضوا على الإمبراطوريات القديمة الباذخة، فكيف حدث هذا؟!
بفضل الروح الجماعية التي أنشأها القرآن، فالقرآن يُخاطِب أمة ويتحدَّث عن أمة، وإلا قولوا لي متى خاطب القرآن أفراداً؟!
القرآن يُخاطِب الأمة دائماً – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩ – حتى شعر المسلمين بأهمية هذه الروح الجماعية، وحسان بن ثابت تحدَّث عن النصر في بدر وفي غيرها مُلتقِطاً هذه الروح ومن ثم لم يتحدَّث عن أفراداً بل تحدَّث عن أمة فقال:
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
فمحمد منا وكذلك جبريل منا، ولكن النصر يعود إلينا نحن جميعاً.
وهناك قفزة مع أبي تمام في قصيدة عمورية الرائعة التي نتحفظها جميعاً:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
هذه القصيدة تروع وتُعجِب جداً كنظم فهى جميلة كإيقاع وكموسيقى بل هى من أجمل ومن أبدع ما يكون، لكن الدلالة والمغزى والرسالة ضائعة، فهى قلب للروح القرآنية، فكأن النصر تقدَّر للأمة بغير رجال وبغير دماء وفداء لأنه تقدَّر فقط بحضور المُعتصِم الذي لو رمى القدر بغيره لمْ يصبِ، حيث قال أبو تمام:
رمى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فهدَّمها ولوْ رمى بكَ غيرُ اللهِ لمْ يصبِ
فضلاً عن أنه قال في المُعتصِم أيضاً:
تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللَّهِ مُنْتَقِمِ للهِ مرتقبٍ في الله مُرتغبِ
فنسب الفضل كله للمُعتصِم ولم ينسبه إلى أي أحد سواه، فأين شعر أبي تمام كروح وكرسالة وكأمة تُعبِّر عن نفسها وكلسان ناطق بضمير الأمة وجهد الأمة وتضحيات الأمة من شعر حسان بن ثابت؟!
القرآن يتحدَّث عن بدر وعن أُحد وعن الخندق – الأحزاب – وعن حنين وهو يُخاطِب دائماً الأمة ويتكلَّم عن الأمة والرسول منها وفيها، فما رأيكم؟!
وهذا شيئ عجيب فلم تلتفت ولا تلتفت الآن الأمة إليه كثيراً ومن ثم هذا لافت وينبغي أن يُشغَّل لكي يخلق ثقافة جديدة تستوعب أن يُنجِز العمل مجموع أو فريق – Team – وينجح.
أحمد زويل حين أخذ نوبل Nobel بكل تواضع – ونحن نحترم هذا الرجل العبقري البارع جداً – قال أن هذا بفضل الفريق الذي يعمل ضمنه، فهو يُحِب أن يقول أن هذا حدث ليس لأنه خلقٌ آخر من كوكب المريخ وعنده طاقات جبَّارة خارقة، وإنما بفضل روح فريق العمل وذلك بعد أن شكر أشياء كثيرة بما فيها حتى الأساتذة القدماء في مصر، علماً بأن المصريون حقيقةً بارعون – والله – وعباقرة ومُبدِعون، فلو اُعطوا الفرصة ح وإن شاء الله تُعطى لهم فرصة – ستتبدَّل الأحوال، ولنا تعليق على الدستور لا نُريد ننساه كنصيحة لوجه الله في قضية الدستور والخلاف الواقع فالقضية أكبر من الدستور ولكن ربما نقوله – إن شاء الله – في الخُطبة الثانية، ونعود الآن إلى البروفيسور – Professor – زويل الذي ركَّز بالذات على الإمكانات التي قُدمَت له في الولايات المُتحدة الأمريكية وعلى الفريق الذي اشتغل معه وضمنه فقال “الفريق هذا عنده أكبر حظ من إنجاحي ومن وصولي إلى ما وصلت إليه” أي أنه نجح لأنه يعمل ضمن فريق عمل علمي وليس لأنه يعمل وحده، ومن ثم يجب أن تُخلَق هذه الثقافة من جديد، فما قيمة القائد بلا عسكر وبلا جيش؟!
لا شيئ.
ما قيمة الكاتب العظيم بلا قرّاء؟!
لا شيئ.
في العصور الوُسطى بعض أذكياء هؤلاء الأوربيين تحدَّث عن كتاب يبحث عن قارئه حيث أنهم شعروا أن هناك كتباً تُكتَب ولا قاريء لها لأن المزاج العام والثقافة لا تقبلها ومن ثم فهى مرفوضة، لذلك تُكتَب وهى عدم وتبقى في العدم إلى أن يأتي زمن أو دورة زمنية يُولَد أو يتولَّد فيها القاريء الذي يُمكِن أن يتعاطى مع هذا الكتاب، فهل لدينا إياه؟!
يا ليت لدينا الآن كتب تبحث عن قاريء، على الأقل هى كتب تستشرف وتخترق الشرنقة فتخرج من القوقعة التي نحن فيها مُحاصًرون وبين جدرانها مسجونون.
فإذن أي كاتب وكتاب بلا قرّاء لا قيمة له، وكذلك أي نبيٌ بلا صحب ولا أتباع سيكون الشيئ نفسه، فلا يستطيع أن يُنجِز شيئاً لأن لا معنى لنبوته فهو نبي ولكن بلا أصحاب وبلا أتباع ومن ثم لا يستطيع أن يُثبِت أنه نبي أصلاً أو أن يخدم رسالته.
روى الإمام الحاكم في المُستدرَك على الصحيحين عن ابن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال: قال – صَلَىَ الله عليه وآله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً -عُرِضَت علىّ الجنة فرأيتُ فيها دالية – أي عنب أو كَرْمَ دالية، وقد قال الله عن قطف الجنة قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ۩ – فأردت أن أتناول منها قطفة فأوحى الله إلىّ أن تأخَّر فتأخَّرت – في صحيح مسلم من حديث ابن عباس هذا كان في صلاة الكسوف – ولو تناولته لأكلت منه ما بقيت الدنيا.
أي ستشبع منه أمة محمد ولن يفنى لأنه من طعام الجنة، ولكن الله لا يشاء هذا حتى تبقى أو يبقى للإيمان بالغيب دلالته، فلو أنه قطف عنب من الجنة لأصبحت الجنة وكأنها موجودة ولما أصبح للإيمان دلالة ومن هنا حكمة الله أبت هذا فقال له تأخَّر، فلم يُؤذَن له بهذا لأن هذا سيُصبِح مُصادَرة هذا على الرسالة وعلى الإيمان بالغيب.
ثم قال “وعُرِضَت علىّ النار فيما بيني وبينكم حتى رأيت ظلكم وظلي فيها – والعياذ بالله، نعوذ بالله من غضبه ومن سوء عقابه وعذابه – فَأَوْمَأْتُ إليكم أن استأخروا، فأوحى الله إلىّ أن أقرهم، فإنك أسلمت وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا حتى لم أر لك فضلاً عليهم إلا بالنبوة”، فالله يقول لنبيه هذا، ونحن اليوم يأتينا قادة وزعماء فيقول أحدهم لأمته أنا خلقت فيكم العزةَ والكرامة، فهل يُمكِن أن يُخاطِب إنسان شعبه بهذه الطريقة؟!
متى خُلِقت أصلاً أنت ومتى خُلِقَ هذا الشعب؟!
هذا الشعب عمره خمسة آلاف سنة حضارة وأنت مولود اليوم، فما الذي خلقته فيهم؟!
خلقت فيهم ماذا؟!
وآخر يُخاطِبهم فيقول لهم: مَن أنتم؟!
ويستتلي قائلاً “لولا أنا ما عرفكم العالم ولا الدنيا”، أي أن البلد كلها ليست معروفة إلا به فهو الذي عرَّف بها والباقي عدم – وتعلمون مَن أقصد – فأنكر البلد الذي فيه شط يصل طوله إلى ألفين كيلو متر وبه نفط وحضارة وفلسفة من قديم، ولذلك طبيعي أن نُشاهِد اليوم زعيماً مثل بشار عند استعداد أن يُدمِّر بلده، فليس بشار وحده هو الذي هكذا بل أن هناك ألوف الزعماء عبر التاريخ مثله، فضلاً عن أن هناك ألوف منا يُمكِن أن يكونوا مثل هؤلاء الزعماء بل أردأ منهم وهذا يعود بشكل واضح إلى أن الثقافة واحدة، المُستنقَع الذي نتغذّى – والعياذ بالله – بمائه مُسمَّم، فالمشرب والمطعم واحد ومن ثم يجب أن يتغيَّر هذا المُستنقَع لأن ثقافتنا نفس ثقافتهم، وهذا الشيئ يجب أن نكون على دراية به حتى نكون واضحين مع أنفسنا ومع الحقائق، فليس بشار وحده هو الذي هكذا لأن البشاشير – إن جاز التكسير – كُثر، ويكون الواحد منهم مرتاحاً مع ضميره حين يكون مُستعِداً أن يذبح الشعب من عند آخره في سبيل أن يبقى، لماذا؟!
لأن البقاء للفرد وهو يرى نفسه أنه هو هذا الفرد، فنحن نتحدَّث عن ثقافة تُعظِّم الفردية، ومن ثم إذا كان لابد من وجود للفرد فليكن الزعيم فهو أعظم فرد ويجب على الكل أن يبخع له ويخنع، وهو ما حدث من أيام أبي جعفر المنصوري.
علماً بأن النبي حين يتحدَّث مع أتباعه لا يقول عنهم أنهم من أتباعه بل ينظر إليهم على أنهم من أصحابه على الرغم من أن القرآن يقول فَاتَّبِعُوهُ ۩ وتحدَّث عن الاتباع في حق الأنبياء ومن ثم كان بوسع النبي أن يقول “أنتم أتباعي” ولكنه لم يختر هذا رغم وجود هذه النُدحة القرآنية وهذا الإذن القرآني فقال “أنتم أصحابي”، أما نحن فإخوانه ولسنا أتباعه أيضاً، فنحن أتباع – ولا مُشكِلة في هذا – ولكن في إطار الأخوة، وهم أتباع ولكن في إطار الصحبة، ومن هنا قال لهم “أنتم أصحابي” وقال أيضاً “الله الله في أصحابي”.
فعليك أن تنتبه إلى هذه الروح عند رسول الله والتي تعامل معهم بها، فلم يتعامل معهم لا على أنهم أتباع ورعاع ورعية أبداً بل على أنهم أصحاب، ومن ثم يأخذ بآرائهم – كما قلت – ويحترمهم، فضلاً عن أنه ينهاهم عن أن يمتثلوا له قياماً، فإذا أتى لا ينبغي أن يقوموا له فيجلس هو ويظلون وقوف، فقال “لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لملوكها” فهو لا يُحِب هذا، ولكننا رأينا مع أبي العباس السفَّاح وبعد ذلك مع المنصور ثم أن السلالة فرطت أن أول ما يأتي القائد العسكري أو أي قائد مثل أبو سلمة – مثلاً – أو أبو مسلم الخُراساني تُقبَّل الرِجل قبل اليد، واقرأوا التاريخ حيث قيل”مُباشَرةً فجثا وقبَّل قدمه ثم يده ثم قام”، وهذه ثقافة جديدة الآن تختلف عن ثقافة محمد ومع ذلك يقولون أن هذا إسلام وهذه أمة إسلامية، فيرون أن أبا جعفر المنصور ومن على شاكلته مثل محمد، فلا يُفرِّقون بينهم ويتبعونهم كما لو كانت السُنة واحدة، ومن ثم لا يُوجَد موالاة لثقافة محمد ولفكر محمد ولخط محمد وبالتالي وهذا غير صحيح فينبغي علينا أن نبرأ من هذا الخط المنكود، ولكنهم يرون أن التاريخ كله عظيم، فبنو أمية عظماء وبنو العباس عظماء وبنو سلجوق عظماء، وكذلك الأمر مع الإخشيد وابنه وأحمد بن طولون وأولاده، وبعض الناس يُعظِّم حتى الفاطميين ومن ثم فالفاطميون عظماء والمماليك عظماء وآل عثمان أرطُغرُل كلهم عظماء، كل قادة التاريخ عظماء وكل شيئ عظيم، فإذا انتقدت أحداً منهم أو شيئاً كأنما تنتقد الإسلام نفسه، فأي ثقافة هذه التي نُسكِّن ونتحرَّك بها؟!
سؤال مُؤلِم ولكن جوابه حاضر عند الكل.
على كل حال كانوا يُقبِّلون الأرجل والأقدام – كما قلت لكم – قبل الأيدي، إبراهيم بن أحمد التغلبي يدخل عليه ذات يوم أحد صغار الفقهاء – عالم مسكين فقير ومعاه أوراقه – ويحمل له نعله خصيٌ يخدم في حريم الأمير فيغضب التغلبي ويعزم على الفقيه أن يأخذ نعل الخصي ويضعها فوق رأسه، علماً بأنهم كانوا يخصون – والعياذ بالله – الغلمان، ومن هنا الجاحظ في رسالته للفتح بن خاقان وفي غيرها – رسالة الرد على النصارى – يتعجَّب من دعوى النصارى الرحمة فيقول “وهم أكثر أمة فيها الخصي” وهو لا يعرف أن هذا سيكثر في بني العباس وفي حضارتها حتى يُصبِح طابعاً مُميِّزاً، لكن على كل حال الجاحظ استنكر هذا جداً وهزأ منه فتساءل قائلاً: كيف تتحدَّثون عن المحبة والرحمة وعندكم هذا الخصي؟!
ولكن هذا عند أمة محمد يا جاحظ أيضاً، فهو سيكثر جداً جداً جداً وستجد عشرات ومئات الخصيان في القصور لكي يخدموا مئات – وأحياناً آلاف – الحريم، ومع ذلك يقولون لك أن هذه هى أمة محمد وهذا دينه وحضارته العظيمة، وهذا شيئ عجيب!
ونعود إلى هذا التغلبي الذي غضب غضباً شديداً عندما حمل هذا الخصي نعل هذا العالم المسكين فسبه سباً مُقذعاً وقال له بك وبك – أي فعل الله بك وبك – فأنت خدَّام لي وأنا أئتمنك على حريمي – علماً بأن كان بعض سادة أوروبا والعالم الإسلامي أيضاً يرفض من عبده أن يقول له سيدي، فيقول أنا لست سيداً لأمثالك، أنت تتحرَّك بالإيماء مثل الروبوت Robot فقط فلا تتكلَّم ولا تُعبِّر، فحتى كلمة نعم لا يقولها الخادم لأن الذي يستطيع أن يقول نعم يستطيع أن يقول له، بل يسكت ويمشي ويعمل من غير ما يتكلَّم، وهذا شيئ غريب فهو بمثابة قمع كامل لشخصية الإنسان وسحق لبشرية البشر – ومع ذلك تحمل نعل هذا الفقيه الحقير – هو طالب علم ومُثقَّف ومُفكِّر ولكنه حقير في نظره -، ثم قال عن الفقيه “هذا مُجرَّد رجل يجلس إلى قِمطر فيكتب لهذا بدرهم ولهذه بدرهمين”، ولكن يا ليته اكتفى بهذا فقد أقبَل على الفقيه المسكين وعزم عليه أن يأخذ نعل الخصي وأن يضعها فوق رأسه، فوضعها المسكين وطلب العفو.

فيا ما شاء الله على هؤلاء الحكماء والحكام وعلى المسلمين وعلى القادة العظام، فإذا كان هناك ثمة وجود للفرد فليكن الزعيم إذن الذي يقول لهم “خلقتكم وخلقت فيكم العزةَ والكرامة”، والعجيب أن الأمة أعانت هؤلاء الزعماء المُتألِّهين حتى على بعض الأفراد من علمائها وأحرارها فرمتهم بالحجارة – حجارة القول وحجارة الأرض – لأن هذه الأمة أصبحت ثقافتها سُلطانية أيضاً فلا تحتمل وجود للأحرار فيها، فهى تكره هؤلاء الأحرار وتكره مَن يتكلَّم بلسانها وبضميرها ومن ثم تُعاقِبهم بإسم السُلطان وبإسم الثقافة السُلطانية، فبالله متى انبرى شعراؤنا ومتى انبرى شعرنا العربي ليتحدَّث عن الأمة وعن ضمير الأمة وعن الشعب وبلسان الشعب؟!
هذا السؤال نطرحه على النقّاد وقد أجابوه ومن ثم نحن منهم تعلَّمنا، فقالوا لك: أول شاعر تحدَّث بلسان الأمة وبلسان الشعب تقريباً هو أحمد شوقي وليس المُتنبي أو البحتري أو الزهّاد الذين تحدَّثوا بأسماء معشوقاتهم التي كان يُشبَّب بهن من هذا ومن هذا، فأحياناً يعشق أحدهم الثلاث وليس الواحدة مثل عُبيد الله بن قيس الرقيات، فلماذا سُميَ بالرقيات؟!
لأنه كان يعشق ثلاثة، وكل واحدة منهن إسمها رقية، علماً بأن هذا شاعر كبير في الطبقة الأولى!
ولكن شاعر مثل الطرماح بن عدي والكميت بن زيد وأمثالهم قد ينبري الواحد منهم أحياناً لمصلحة الأمة، لمصلحة المُستضعَفين ولكنهم في الطبقة السادسة عند ابن سلّام الجمحي في طبقات فحول الشعراء، على عكس مَن ضيَّع حياته وحياة الامة وهو يتغزَّل بامرأة فقال أحدهم “ولو أرسلتْ، يوماً، بُثينة ُ تبتغي, يميني، ولو عزّت عليّ يميني، لأعطيتها ما جاءَ يبغي رسولها، وقلتُ لها بعد اليمين: سليني”، أي أنه ضيَّع حياته في هذا السُخف ومع ذلك هو في الطبقة الأولى من الشعراء، فهى أمة كاملة ولكنها لا تجد شاعراً يتحدَّث بلسانها، فمتى ستتوفَّر هذه الأمة على ثقافة أمة، على ثقافة شعب، على ثقافة مجموع، على ثقافة روح حقيقية؟!
والآن علينا أن نعرف ما هو الجنون أولاً لكي نعرف هل نحن أمة عاقلة أم أمة مجنونة، ولكن هذا سيكون في الخُطبة الثانية – إن شاء الله – لأن للأسف الوقت أدركنا، فاستغفروا الله فإنه خير مَن استُغفِرَ فغفر.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله تعالى – عليه – وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
الجنون في التعريف الذي أرتاح إليه هو إدراك غير تآزري وإدراك غير ترابطي، ولكن قد يقول لي أحدهم “المجنون يُدرِك كل شيئ، فهو يُدرِك أن هذا أحمر وهذا أسود وهذا أبيض، ويُدرِك أن هذا زيد وهذا عمرو، وأن هذا ليل وأن هذا نهار”، نعم يُدرِك ولكنه يخلط بين ما ينبغي من شأن زيدٍ وشأن عمروٍ، وبين ما ينبغي في الليل وما ينبغي في النهار أو ما يصح في النهار، وبين ما يسوغ في الملأ وما لا يجوز إلا في الخلاء، فهو لا يُدرِك أن يربط هذه الأمور ببعضها، فوفقاً لعلم الدماغ يُوجَد في الدماغ مناطق – Areas – إسمها مناطق التربيط – Association areas- حيث أن الإنسان في الأول يُدرِك الأشياء مُفرَّقة – وذلك ينطبق حتى على الإدراكات الحسية الـ Sensory – ومن ثم هو مُدرِك مجنون أو مجنون مُدرِك حتى الآن لأن هذا الإدراك غير تربيطي وغير تآزري، ولكن بعد ذلك يبدأ التربيط في مناطق التربيط في الدماغ فيبرز الانسان الحقيقي هنا، فهل هذه الأمة الآن عاقلة أم مجنونة؟!
وفقاً لهذا التعريف – الذي أرجو أن يكون دقيقاً للجنون – هذه الأمة مجنونة، ولكن لماذا؟!
لأن أفرادها عقلاء ولكنهم لا يترابطون، لا يعملون بترابط أو بتآزر أو بعقلية جماعة – عقلية Team – ومن ثم تبقى إذن في المجموع كالمجنونة وتخسر قضاياها – دائماً تخسر – وتُسيء إلى نفسها.
وعدتكم أن أتحدَّث بكلمة عن ما يحدث بشأن قضية الدستور الآن في مصر، ولكن كما قلت لكم أنا لا أُحِب أن أقف موقف المُحلِّل السياسي فهذا ليس ليس تخصصي ولا أُحِب أن ألعب هذا الدور، ولكن باختصار ودون أن ندري كيف ستكون عاقبة الدورة الثانية من الاستفتاء على الدستور – علماً بأنه من الواضح أنها ستكون على نحو الدورة الأولى في أحسن الفروض – نصيحتي لأهل مصر، لحكومة مصر، لكل أطياف الشعب المصري هى أننا لا ينبغي أن نسكت حتى وإن فاز هذا الدستور بهذه الطريقة بستة وخمسين أو بستين أو بخمسة وسبعين في المائة، تعرفون لماذا؟!
لأن الدستور ليس فوزاً في انتخابات عادية رئاسية أو برلمانية، فالدستور عموماً يُوضَع لعقود وأحياناً يُوضَع لأكثر من عقود، لأن من غير المعقول أنه كلما أتت حكومة تضع دستوراً، فهذا لا يحدث أبداً ومن ثم لابد أن يُوضَع الدستور بأكبر قدر من التوافقية، علماً بأن هذا الدستور لا يحظى إلا على تقريباً ستة عشر في المائة من صوت الناخبين، ولكن قد يسأل أحدهم عن الطريقة التي أتيت بها بهذه النسبة وهى طريقة سهلة، فالذين ذهبوا الآن ليستفتوا على الدستور ثلاثون في المائة، أي أن ثلثا الشعب المصري لم يذهب وهذا له دلالة في حد ذاته، ومن الثلاثين في المائة حوالي ستة وخمسون في المائة قالوا نعم، ومن ثم هذا يُساوي في النهاية ستة عشر في المائة، فأن يُوافِق على الدستور ستة عشر في المائة يُعَد أمراً غير مُريح، لذلك نصيحتي للإخوة في الحكومة وغيرهم “عليكم أن تعملوا مُتحِدين، حقِّقوا أكبر قدر من التوافق مع كل الأطياف ومع كل الجهات، فلا يصح أن تستبدوا وحدكم بهذه القضية ولا بغيرها”.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (21/12/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: