إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم 

ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل من قائل في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخواني وأخواتي/

يتردد الكلام بروح نقدية كثيرا عن الوعظ والمواعظ والوعاظ والموعوظين، وخلاصته أن الوعظ جدواه يسيرة منزورة قليلة. أكثر مَن يُوعظ ويتعرض لسماع المواعظ، لا يكاد ينتفع من ذلك، إلا بأقل القليل! لكن لأجل الله، أو بالله، لماذا؟ هل لأن المسلمين الذين يستمعون إلى ذكر الله، وإلى مواعظ الواعظين، لا يُريدون حقا أن ينتفعوا بما يسمعون؟ بديه أن الجواب سيكون بالنفي! لا، ليس لأنهم كذلك! لكن ما السر في المسألة؟ هذا سؤال كبير، وهو بعض ما نُعانيه من قرون، وليس في هذا القرن أو في هذا العصر بحياله أو بمُفرده. 

أحسب، إخواني وأخواتي، أن الجواب، والعلم والحُكم عند الله ولله سُبحانه وتعالى، أنهم لا يكادون ينتفعون بما يسمعون أو يقرأون؛ لأنهم لم يسمعوا، ولأنهم لم يُبصروا، ولأنهم لم يفهموا! كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *. سماع الآذان والأصمخة ليس هو السماع. وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ *، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ *، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا *، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ *. تعمى البصائر!

ما معنى هذا الكلام؟ نحن لا ولسنا بسبيل أن نسلك المسلمين في سلك المُنافقين أو الكافرين الجاحدين، حاشا وكلا والعياذ بالله تبارك وتعالى، لسنا من تطرف ولا التطرف منا، ولسنا من تشدد ولا التشدد فينا. ولكن، إخواني وأخواتي، الأمر أعمق وأغمق وألغز وأغمض! كيف؟

لأن هذه الحقائق إلهية. نحن لا نتحدث عن حقائق علمية حسية تجريبية، نحن لا نتحدث عن خارجيات. الحقائق الخارجية، الحقائق الحسية، الحقائق العادية، الحقائق الغيرية، يُمكن أن تُكتسب، وتُقتنى – إن جاز التعبير -، وأن تقع في سُقع الذهن، وأن تُحفظ هناك، شيء عادي. ولذلك يتفاوت الناس في تحصيل مثل هذه المعارف، التي إن جاز وصفها ونعتها بالخارجية، لكن ليس تبعا لتفاوتهم في الإيمان والإحسان. بمعنى أنكم قد تجدون كافرا جاحدا مُلحدا ناكرا، وعنده الكثير من هذه العلوم، نفذ فيها نفوذا عظيما، لا يُنكر. وتجدون مؤمنا تقيا مُحسنا، حظه منزور وقسطه يسير من هذه العلوم. أما العلوم الإلهية، وهي الحقائق الإيمانية، فلها منطق آخر، مُختلف تماما. هذا ما لم نُدركه، أو ما لم يُدركه أكثر المسلمين، كثير من المسلمين، هذه مأساتنا! لكن ما هو منطق هذه الحقائق؟

هذه الحقائق، أحبتي في الله؛ إخوتي وأخواتي، ليست حقائق مُتعارضة، لا يقع بعضها في عرض بعض. لو وقعت الحقائق الإلهية بطريقة عرضية، بحيث يقع بعضها في عرض بعض، فسيتسنى، سيكون مُمكنا وميسورا، لأي شاء، لكل مَن شاء، أن يتحصل على عدد كبير من هذه الحقائق، ارتبطت أو انفصمت؛ لأنها مُتعارضة، أي يقع بعضها في عرض بعض. سوف ينفذ فيها مُباشرة، وربما بطريقة دفعية أو سريعة. الحقائق الإلهية وفق القرآن حقائق صراطية. هذه ليست فلسفة، انتبهوا! هذا قرآن كريم. وإن أردتم أن تعدوها فلسفة، فهي فلسفة قرآنية، مُؤسسة على وحي السماء، فلسفة وحيانية – إن جاز التعبير -، فلسفة وحيانية! الحقائق الإلهية، الحقائق الإيمانية الإحسانية، حقائق صراطية. أم الكتاب، التي نتلوها سبع عشرة مرة فقط في الفرائض، من غير النوافل، سبع عشرة مرة! اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *، في كل ركعة، في كل ركعة! هذه حقائق صراطية.

ما معنى كونها حقائق صراطية؟ يُمكن أن تُسمى بلُغة العارفين أيضا حقائق منازلية، مراحلية. منازلية، مراحلية، تُساوي، تُعادل، تُكافئ: صراطية. لماذا؟ لأن لدينا صراطا. اللهم اجعلنا مِمَن هديته صراطك المُستقيم، فلم يضل، ولم تغضب. لا إله إلا الله، سُبحانك إنا كنا من الظالمين. هذه الحقائق صراطية، بمعنى أن لدينا صراطا. هذا الصراط لا يتأتى ولا يُمكن أن تصل إلى مرحلة، إلا بقطع السابقة، وهكذا! 

وهذا الصراط لا ينتهي، إلا بنهاية الحياة. ولو عاش المرء، لا أقول عمر نوح، بل عمر الكون، أضعافا مُضاعفة، لما انتهى هذا الصراط! لأن هذا الصراط غايته الله، لا إله إلا هو! الذي ليس له مُنتهى، ولا دونه مرمى. ليس دونه مُنتهى، ولا وراءه مرمى! ليس دونه مُنتهى، لا غاية إلا الله! ولكن هذه الغاية لا تُبلغ على التمام والكمال، مُستحيل! لأنه المُطلق، لا إله إلا هو! الواجب الوجود من كل وجه، الكامل من كل وجه، لا إله إلا هو!

ولذلك هذه الحقائق صراطية، منازلية. لا يُمكن أن تتحدث عن منزلة، ولا أن تستوعب منزلة، ولا أن تُحصّل أدنى معرفة بهذه المنزلة، ما لم تنزلها، ولو حدثك عنها الأنبياء والمُرسلون، لن تفهم. هذه المُشكلة، انتبهوا! هذه المُشكلة، هذه القضية ببساطة. مُعادلة، ويا لها من بسيطة! وكم هي من بسيطة! ولكنها دوختنا. الأمة في حالة حيرة، في حالة حيرة غريبة عجيبة من أمرها ومن أمر تدينها، وهذا هو الحل، في هذه الآية الكريمة؛ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *. الله يتحدث عن صراط مُستقيم، وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا *. إذن صراط مُستقيم. إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *. إذن هي حقائق صراطية، حقائق منازلية، حقائق مراحلية، إن شئتم ترتبها منازلي أو صراطي أو طولي، وليس عرضيا. 

لو وقفت، أخي الحبيب، أختي الفاضلة، أسفل عمارة كبيرة، من عشرة أو عشرين طابقا، لم تدخليها، لم تدخلها، من قبل! وقفت أسفلها، يُمكن أن تصف فقط ما يظهر من الباب؛ من باب الطابق الأول، وهو بعض المدخل، فقط! بعض المدخل. من المُحال أن تصف ماذا هناك في الطابق الثاني أو الثالث أو الرابع، ما لم تعتل هذه الطوابق طابقا وراء طابق، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ *، طبق إثر طبق. مُستحيل أن تفعل هذا من الخارج، بضربة واحدة، دفعة! لماذا؟ لأن هذه الطوابق مُتطاولة، وليست مُتعارضة، أبدا! إنما مُتطاولة، بعضها في طول بعض. فإذا أردت أن تصفها، أن تنعتها، من داخل، فلا بد أن ترتقيها، طابقا فطابق، طابقا فطابق. كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ *، اقتراب مُستمر، علو مُستمر، ترق مُستمر. 

لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ *. ولذلك هناك مَن مات قبل أن يموت. وكيف لنا أن نموت قبل أن نموت، وديننا حياة، أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ *؟ الجهة مُنفكة، هذا باعتبار وهذا باعتبار. الموت الذي يسعى إليه المؤمن، هو إماتة الشهوات الملعونة، غير المرضية لله، إماتة الجوانب التي يتسفل بها ولا يعلو، إماتة ما لا يرضى به الله تبارك وتعالى، من نزواته وأهوائه ونذالته وخساسته وشُحه وحرصه وبُخله وضعفه وتعلقه بكل ما لا يُرضي الرب، لا إله إلا هو! مَن أمات نفسه بهذه الاعتبار، كُشف عنه غطاؤه، قبل أن يموت الموت الحقيقي. وتسمعون عن هؤلاء المُكاشفين، من الذين ينظرون بنور الله، لا إله إلا هو! ويتكلمون بنور الله، ويسعون بنور الله، ويأخذون ويذرون ويُقدمون ويتأخرون، كله بنور وعلى نور من الله تبارك وتعالى. هؤلاء هم أصحاب المنازل، هؤلاء الذين اجتهدوا في قطع المراحل. 

يا أحبتي، يا إخوتي وأخواتي، الإيمان ليس قرارا دُفعيا: أنا سأقرر أن أكون مؤمنا، فإذا أنا مؤمن. مُستحيل! الإيمان لا يكون هكذا، الإسلام يكون هكذا. الإسلام إعلان، الإسلام إعلان! هل تُريد أن تنتمي إلى هذه الأمة؟ هل تستعلن بنفسك فردا عضوا في هذه الأمة؟ نعم. بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. مع أن باطن الإسلام إيمان؛ لأن الشهادة الحقة ليست هي قول اللسان، هذا يُقبل منك لأمور إجرائية، لأمور إجرائية ولتسهيل المُعاملات؛ تسهيل المُعاملات المِلية! أهلا وسهلا بك، قبلناك مُسلما. وقد تكون ماذا؟ البعيد الأبعد قد يكون مُنافقا زنديقا مُندسا جاسوسا! أليس كذلك؟ ويستعلن بالإسلام، كما يفعل بعض الزنادقة في كل زمان وفي كل حين! لكن على كل حال، لكن باطن هذه الشهادة، ما هو؟ الإيمان. 

فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *. عادل بين الإسلام والإيمان. الإسلام بظاهره إعلان، والإسلام في باطنه إيمان. لماذا؟ ما معنى أشهد؟ الشهادة في أصل الوضع، في الوضع اللُغوي، ما هي؟ الشهادة هي الرؤية بالباصرة. وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا *، أنك رأيت شيئا، أحسست شيئا بالباصرة، شهدت. على مثل الشمس، فاشهد. كما ترى الشمس! إن رأيت الواقعة أو الحادثة، كما ترى الشمس، فاشهد. وإلا، فأمسك عن الشهادة. إذن أنت تقول أشهد أن لا إله إلا الله. الله أكبر، مقام عظيم إذن هذه، لكن نحن أخذنا منها ماذا؟ قول اللسان فقط. ولذلك الإسلام في ظاهره إعلان، إجرائي كما قلت، تسهيلا للمُعاملات المِلية، لكي تنسلك عضوا في هذه الأمة وفي هذه المِلة، لكن باطنه عند التحقيق، يُفضي إلى ماذا؟ إلى الإيمان. مُباشرة! طبعا. تصل إلى مقام الشهود، أن تعبد الله كأنك تراه. هذا هو، مقام الشهود. باطنه إيمان وإحسان. 

كأن الإسلام، أيها الإخوة، بهذا الشعار العظيم؛ الشهادتين، كأنه ماذا؟ كأنه خارطة طريق. هذا هو الطريق! يبدأ بهذا الإعلان، وينتهي بماذا؟ بالشهود الحقيقي. كأنك ترى الله! كما قال إمامنا؛ الإمام علي – عليه السلام وكرم الله وجهه – لو رُفع الحجاب، أو ارتفع الغطاء، ما ازددت يقينا. الله أكبر، لا إله إلا الله! وهذا معنى كأنك تراه! أن تعبد الله كأنك تراه. هو بلغ هذا المقام – عليه السلام -، الإمام علي بلغ مقام الإحسان، كأنه يراه. 

وحدثتكم مرة عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما -، كيف أتاه رجل، وهو يطوف بالكعبة، يُريد أن يخطب – علي ما أذكر -، أن يخطب إليه ابنته، فتشوش ابن عمر، أي قال له يا أخي، أما أتيتنا إلا في هذه الساعة التي نتراءى فيها ربنا؟ الله! حالة من الشهود. أما أتيتني إلا في هذه الساعة التي نتراءى فيها ربنا؟ حالة من الشهود.

إذن الإسلام إعلان. أما الإيمان، فعيش ونمو ونضج وسير وقطع مراحل. قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا *، هذا لم يحصل، لكن قريب حصوله – بفضل الله وحوله -، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ  *، أي لم يدخل! والإيمان لا يدخل بقرار إذن، لا يدخل بإعلان؛ أعلنت أنني مؤمن، أردت أن أكون مؤمنا، قررت أن أكون مؤمنا! كما تُقرر أن تدفع دينا، تُسدد دينا، أو تُقرب صدقة، أو تُضحي أُضحية. لا! هذه مسائل تحتاج إلى قرار واحد، وقرار دُفعي، مرة واحدة، نعم! أما الإيمان، فلا يُمكن أن يكون بقرار دَفعي. الإيمان يكون بماذا؟ بمراحل تُقطع وبسبيل وبصراط تُنزل منازله على مدى العمر. ولذلك المؤمن لا ينتهي عن فعل الخير، ولا يشبع من خير، ولا يشبع من الازدلاف والاقتراب من الله، إلا بلقاء الله. لا بد أن يموت، حتى يشبع. لا ينتهي!

هذا الذي لم نحذقه جيدا. هذا الذي لم نفهمه جيدا. ولذلك يا أحبتي الذي يعيش الإيمان بهذا المنطق وبهذه الكيفية وعلى هذا النحو أو على نحو قريب منه ويُحاول ويُقارب ويُسدد، يُصبح له معرفة خبراتية معيشة نابضة حية بالإيمان، ليس مما يُمكن أن يُخبَر عنه. مهما أخبرتك، أنت لن تعيش هذه الحالة، حتى تعيشها. 

الطفل الصغير، لو حدثناه عن لذة الوقاع، لذة المُساكنة، مع الزوجة، مهما حدثناه، لن يفهم هذا. هو فقط سيفهم الكلمات، وسيُرددها، وسيُعيد تأويلها وفق ما لديه من خزين خبراتي، سيظن أن لذة هذا الشيء، كلذة البسكويت ربما أو الكراميل أو الأشياء التي يلتذ بها وتشوقه! والآن لو حدثتكم عن العنزروط، فستقولون ما العنزروط؟ أقول لكم أوه Oh! ما أطيب طعمه! تقولون ما طعمه؟ أقول لكم البنزروطي. هذه كلمات ألفتها الآن، لا يُوجد لا عنزروط ولا بنزروط! لكن مُمكن، مُمكن الوجود أن يكون غاصا بأشياء، نحن لم نُجربها. حين نُحدث عنها، لن نفهم منها إلا ماذا؟ إلا الاسم، فقط! الاسم. تماما كحديث ربنا – لا إله إلا هو، جل في عليائه – عن الجنة وما فيها. قال ابن عباس ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء. فقط! أسماء؛ اسمه عسل، واسمه لبن، واسمه خمر، واسمه نساء، واسمه كذا. أسماء! الحقائق مُختلفة جدا، مُختلفة تمام الاختلاف. 

ولذلك حقائق الإيمان الصراطية الطولية المنازلية المراحلية، لا يُمكن أن تُفهم، إلا بعيشها. ما لم تعشها، لن تفهمها. مهما حدثتك عنها، مهما قرأت كلام الله عنها، مهما سمعت كلام النبيين والمُرسلين، لن تفهمها، أنت لم تعشها. هذا هو السر! إذن هو ال Loss في حياتنا، وهذا هو الجواب بكل بساطة.

ولذلك آن لنا أن نكف عن التساؤل المُحير، وأن نبدأ في العمل، وأن نبدأ في النقد البناء الحقيقي الصادق مع نفوسنا، آن لنا أن نكف! عن ماذا؟ عن التلاوم، وعن إظهار الشكاية والحيرة، بسبب حالة المسلمين! كيف يفعلون هذا، وهم مسلمون؟ كيف يفعلون هذا، وهم مؤمنون؟ كيف يُصلون، ثم يفعلون هذا؟ أنت تتحدث عن ناس لم يعيشوا بعد خبرة الإيمان. ليس لهم من خبرة الإيمان، إلا شقاشق اللسان، كلمات تُلاك وتُقال، تُحفظ وتُقاء وتُكرر، دون عيش حقيقي. هم يتكلمون عما لا يعرفون! تماما كالذي يتوهم أنه فهم ماذا يعني الطعم البنزروطي، ويقول أنا فهمته. مُستحيل أن نُصدقك، مُستحيل! ما لم يُخلق هذا العنزروط، ويتحقق فيه وله طعم البنزروط، لن نُصدقك، أنك عرفت هذا البنزروط!

نفس الشيء؛ لا تُصدق نفسك، أنك عرفت شيئا مما يتعلق بحقائق الإيمان وجوهر الإيمان ومنازل الإيمان، وأنت لم تنزل تلكم المنازل. لا تُصدق نفسك، لا تُزور على نفسك، لا تغش نفسك. لا تغش نفسك، واجعل وكدك وقصدك ونيتك وكل أملك أن تُوفق وأن يُيسر لك نزول هذه المنازل، وأن تعيش كما عاش العارفون، وكما عاش الصالحون، وكما عاش أولياء الله. هل لذلكم من علامة؟ ودائما النبي كان يُعلم أصحابه – وهذا منطق قرآني – أن يبحثوا عن العلامة، دائما! لأن من غير علامة، نقع في غش الأنفس. تقع في التوهم، في الالتباس، في الاشتباه! أليس كذلك؟ نظن، والظن لا يُطابق الحقائق، إن هو إلا خرص، إن هو إلا محض خرص. لا ينفع هذا الخرص، هذا الحذر، هذا التوهم، هذا الاشتباه. لذلك هل لذلك من علامة؟ طبعا. النبي قال إذا نزل النور الصدر، انشرح. فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ  *! والنبي قال إذا نزل النور الصدر، انشرح. انشرح الصدر – بإذن الله -. يتسع! والشرح هو من تشريح اللحم. كيف يُشرح اللحم؟ بالتوسعة والبسط والمد. فالصدر – سُبحان الله – ينشرح. 

ولذلك المؤمن أبعد الناس من الغضب، أبعد الناس من ضيق النفس، أبعد الناس من التسخط، بعيد من هذه الأشياء! لماذا؟ لأن له صدرا مُنشرحا، بنور الإيمان. إذا نزل النور الصدر، انشرح. قالوا يا رسول الله وهل لذلك من علامة؟ قال نعم. هناك علامة! كيف أعرف أنني مِمَن شرح الله صدره بنور الإسلام وأضواء وبراهين الإيمان والإحسان؟ هل لذلك من علامة؟ قال نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود. الروح الآن تبدأ تتشحر، تتمحض، أي تُصبح Pure، Rein. فلذلك هي تهوي إلى ماذا؟ إلى موطنها الأصلي. تهوي إلى موطنها الأصلي، معقلها الأول. هذه هي العلامة! تُصبح الدنيا صغيرة قليلة.

الإيمان يا إخواني شيء عظيم، لو جربناه، ليس لو قلناه! نحن نقوله دائما على المنابر وفي شاشات التلفزيون Television ووسائل التواصل، لا! الإيمان لا يحتاج أن نقوله. الإيمان نحن نحتاج أن نعيشه، أن ننزل منازله، أن نتحققه، نتحققه! وهو إيمان بماذا؟ بالله أولا، بغيب الغيوب. الله هو الحق، وكل ما يُدعى مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ *. أنت تتحقق بماذا؟ بالإيمان والعيش بماذا؟ بالحق، لا إله إلا هو! تُصبح رجل حقيقة، تُصبحين أمة حقيقة، سيدة حقيقة. الحق آثر لديكَ ولديكِ من نفسكَ ومن نفسكِ، آثر لديك من نفسك! عجيب! عجيب! 

النبي كان من خُلقه، فيما تقول أمنا عائشة – الصدّيقة رضوان الله عليها -، أنه كان لا يغضب لنفسه قط، لا يغضب! كيف يغضب وهو كامل الإيمان؟ هو رجل الإيمان – عليه الصلاة وأفضل السلام -! لا يغضب. مُستحيل أن يغضب لنفسه. مُتحقق بالإيمان، وما يُجاوز الإيمان من مقامات الإحسان والعرفان، أوفى على الغاية – صلوات ربي وتسليماته عليه -، ولم يشبع! وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *، أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولذلك كان لا يغضب لنفسه. يُمكن أن تعتدي عليه بشخصه، ثم لا ينالك منه – ثم لا ينالَك، وليس ثم لا ينالُك؛ لأنني قلت أن تعتدي -، إلا كل خير وكل حلم وصبر! لماذا؟ نعود إلى قضية التحقق بالإيمان. 

حضور الله تبارك وتعالى، حضور الله! بقدر ما يحضر الله في قلبك، في نفسك، في روحك، تنمحق نفسك، تنمحق نزواتك وأهواؤك وشهواتك المُحرمة والمُرتابة وشكوكك وريبك وشُحك وبُخلك وحسدك وضغينتك وحقدك وخساستك ونذالتك وهشاشتك الإنسانية، تنمحق! بقدر ما يحضر. وهذا الكلام…ماذا أقول؟ هل أقول يا ليتني ما قلته! يا ليته ما خطر على بالي؟ لا، لا أقول. الحقيقة نفسية، مهما كانت وجيعة، مهما كانت أليمة، مهما كنت مُرة. وهذه حقيقة مُوجعة ومؤلمة جدا! تعرفون لماذا؟ لأن معنى هذا الكلام، أن مُعظمنا، وأنا أولكم، لم يحضر الله تبارك وتعالى في أنفسنا، حتى بقدر أنفسنا. ما حضر من الله، هو أصغر من أنفسنا. لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لماذا؟ لأن في أنفسنا بقايا وبقايا من أنفسنا. أليس كذلك؟ أليس عندنا شح، وعندنا بُخل، وعندنا حسد، وعندنا غيرة، وعندنا غضب، وعندنا حقد، وعندنا ضعف إيمان، وعندنا حرص على الدنيا، وعندنا ميل إلى الشهوات وميل إلى النزوات وما إلى ذلكم؟ معناها الله لم يحضر، بما يمحق هذه النفس الحقيرة الصغيرة. لا إله إلا الله! مساكين نحن، نحن فقراء. اللهم منّ علينا بالإيمان، وزيّنا بعرفانك يا رب العالمين، ودلنا عليك دلالة الصادقين، ولا تجعلنا مُتهوكين تهوك الحائرين المُترددين المُرتابين المقطوعين. والله محنة، أقسم بالله العظيم، لكنها حقيقة، واضح أنها حقيقة، واضح أنها حقيقة! 

ولذلك لا تعجبوا، ما من عجب، فيما يُروى عن رسول الله، أمهات المؤمنين، أصحابه الكرام، التابعين، تابعي التابعين، العارفين، العارفات، الكبار، حتى إلى هذا الزمان، من وقائع، لا يخضع ولا يبخع لها ولا يُصدق بها، مَن لم يتأهل لها؛ لأنه لم يُنازلها، فهو يُكذبها، مُباشرة! يقول ما هذا؟ عن ماذا تتحدثون؟ لأنه لم يعش هذه الحالة، المسكين! هو مسلم مثلنا، يُصلي ويصوم ويُزكي ويحج ويدّعي الإيمان، بل ربما يظن نفسه، لو كان هناك نبوة، لكان أحد الأنبياء! بعض الناس هكذا! ولو فتش نفسه، لعلم هذا. نحن لا نُريد أن نفتش، هذا ليس من شأن المُتحققين. المُتحقق مشغول بنفسه، غير مشغول بالعباد، يظن أن العباد كلهم خير منه. إذا أردت أن تُحاكم العباد إليه فرادى، فهو يظن أن كلا منهم، من المؤمنين، خير منه. لكن هو يتكلم حديث العموم هذا؛ لأن هذا قرآن، قرآن وسُنة، كلام العارفين أيضا. 

يظن لو كان هناك نبوة، لكان هو هذا النبي المُعاصر. كما يدّعي بعض المجاذيب والمجانين، أنهم أنبياء، وأنهم مهاد، وأنهم كذا كذا! تُوجد، تُوجد هذه اللوثة، لا يبرأ منها بعض العقلاء حتى! هذه اللوثة – حسن الظن بالنفس، والظن أنهم من الصالحين ومن الكبار – لا يبرأ منها حتى بعض العقلاء، مَن لم يظهر جنونهم، مَن لم يُغلبوا بالكُلية على عقولهم. أما المؤمن الذي تحقق ببعض هذه المعاني، فهو يُصدّق بقدر ما تحقق، فهو يُصدّق بقدر ما تحقق!

اليوم ربما الأخ الشقيق لا يسمح ولا يصفح لأخيه زلة وقع فيها! القصص كثيرة، أي لا أُريد أن أنشر طاقة سلبية بذكر مثل هذه القصص السلبية، لا نحتاجها وموجودة، حياتنا سلبية أصلا وكئيبة؛ بسبب هذه الوقائع الكثيرة جدا، تُمثّل مِزاجا عاما! لا، نحن نُريد الإيجابي. ضوء ولو من بعيد، نصبو إليه، نعقل إليه، لعل الله تبارك وتعالى ينفعنا به. 

صفية أم المؤمنين، صفية بنت حُيي بن أخطب – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها، أم المؤمنين، زوج رسول رب العالمين – يروي ابن عبد البر في الاستيعاب، أن خادمتها، جاريتها، في خلافة عمر – رضوان الله عليه -، أتت عمر بن الخطاب، وقالت له يا أمير المؤمنين، صفية تُحب السبت – تُعظّم يوم السبت، فيها يهودية، فيها بقايا يهودية! هذا معنى الكلام، صفية تُحب السبت – وتصل اليهود. قال ماذا؟ فجاء إليها، وقال يا أم المؤمنين، ما خبر بلغني عنك أنك تُحبين السبت؟ قالت لا والله، لا والله ما أحببته، وقد أبدلني الله الجُمعة به خيرا منه. الجُمعة خير عندي من السبت، أنا لا أُحبه. قال وأنك تصلين يهود؟ قالت نعم، لي فيهم قرابات، فأنا أصلهم. أقربائي، الله أمرنا أن نصل أقرباءنا ولو كانوا مُشركين، وهؤلاء كتابيون على الأقل، أفضل من المُشركين! مَن بلغك؟ قال الجارية. فقالت لها يا جارية، تعال. جارية، تملكها، يُمكن أن تُوسعها ضربا، ولا أحد يلوم عليها! ما الذي حملك على ما صنعت؟ قالت الشيطان. قالت اذهبي، فأنت حرة لوجه الله. الله أكبر يا أم المؤمنين! رضوان الله عليها، سلام الله عليها، سلام الله على أهل البيت، ومن أهل البيت أزواج النبي، بلا شك! سلام عليك يا صفية، يا زوج رسول الله. 

الله أكبر! لماذا؟ حررتيها بهذا الذنب؟ نعم. العفو عند المقدرة. عدم الانتصار للنفس، النفس لا يُنتصر لها، خُلق محمدي أين نحن منه؟ لن نقدر عليه، ما لم نُحقق من الإيمان ما يُعين عليه، انتبهوا، هذه المُعادلة بكل بساطة. والله الذي لا إله إلا هو، لو حدثكم عن هذا مَن ألف فيه مُجلدات، في الأخلاق الإيمانية والنبوية، مُجلدات! وكان شيخ مشايخ عصره، ما لم يُنازل هذه المقامات، ولم يتحقق بها، فلن يقدر عليه، وليُفتش نفسه، سيجد نفسه أضعف بكثير من أن يفعل، لا يستطيع! لا يستطيع أن يعفو عمَن أساء إليه، وفي قدرته أن يبطش به، خاصة إذا كان في سُلطانه وولايته، كيف لو كان في مُلكه؟ مملوكة! اذهبي، فأنت حرة لوجه الله.

هذا أذكرني – انظر، بعد قرون – بالوزير العالم العادل أبي المُظفر، يحيى بن محمد، المعروف بابن هُبيرة الحنبلي – رضوان الله عليه -، وزير! بدأ حياته فقيرا، طالب علم، وهو من العلماء الكبار في هذه الأمة! ثم قيض الله له – سُبحان الله – رفعة، فصار وزيرا في الدولة العباسية المُتأخرة، وهو من أساتيذ شيخ الإسلام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي، ابن الجوزي المشهور، صاحب تلبيس إبليس وصيد الخاطر، العلامة الكبير هذا! هو من أساتيذه، من مشايخه! ابن هُبيرة! 

يروي عنه العلامة ابن رجب، زين الدين بن رجب الحنبلي، في ذيل طبقاته على طبقات أبي يعلى الحنبلي، أشياء عجيبة، لا تكاد تُصدق! يروي عنه مَن يعملون في خدمته، أن رجلا تركيا، كان يدخل عليه، فإذا دخل عليه، أمر له بدنانير؛ عشرين أو ثلاثين دينارا، مبلغا كبيرا، لرجل لا يُعرف! ثم يأمر بصرفه، ويقول لهم أعطوه واصرفوه ولا يعودن إلى هذا المكان. بعد أيام يعود، يراه الوزير، يقول ألم آمركم بألا يعود؟ قالوا هو يعود! أي يفرض نفسه كما نقول الآن بالعامية، يفرض نفسه! يعود. قال أعطوه أيضا خمسة وعشرين دينارا، ثم أصرفوه، ولا يعد. قالوا له ما شأنه؟ أي شيء غريب! التصرف هذا غريب! كل مرة تُعطيه، تُعطيه، تُعطيه! لماذا تُعطيه؟

قال هذا الرجل أساء إلي مرة. حين كنت طالب علم، أساء إلي مرة. وضربني على رأسي مقارع! فأنا أُحب أن أتقي الله فيه، وأُحسن إليه، دفعا للسيئة بالحسنة. الله يا أبا المُظفر! الله يا وزير! وزراء هكذا؟ لأنه أهل علم، وصاحب الإفصاح عن معاني الصحاح، شرح البخاري ومُسلم. الجُزء المعروف منه، والمُتداول بين العلماء، خاصة المُتأخرين، وهو جُزء فقهي، هو فقط الجُزء الذي أوعب فيه الكلام، لما وصلت النوبة إلى حديث مَن يُرد الله به خيرا يُفقهه في الدين! أوعب الكلام وبعجه وشققه وشعبه فيه، فأتى عملا حفيلا كبيرا، في اختلاف الفقهاء ووجوه اختلافهم وتعيين خلافاتهم. وهذا جُزء من كتابه العظيم، يبدو أنه في مُجلدات كبيرة، يشرح بها الصحيحين – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -.

أعجب من هذه القصة، عن أبي المُظفر، ابن هُبيرة – الوزير العالم العادل، الذي بذخ الزمان بذكره، الذي بذخ الزمان بذكره! وكثّر الله في الأمة، وخاصة من ذوي السُلطان، من أمثاله. وقل مثله ونظيره، وأين مثله ونظيره؟ العفو عند المقدرة. هذه المقدرة! -، أنه أتى إليه رجلان أيضا، يدّعي أحدهما في الآخر أنه قتل أخاه، فهو يريد القصاص. قال له القصاص. ولكن لو عفوت، لكان أحب إلى الله. الوزير يُحبب في العفو! اعف عن قاتل أخيك. قال لا، قتل أخي. قال أنا أُعطيك. يُريد أن يُصلح بينهما. أُعطيك كذا وكذا. من حُر ماله. قال قد رضيت. قال خُذ هذه الأموال لك، أنا اشتريته منك. على ما أذكر بستمائة، ستمائة دينار! اشتريته منك بستمائة. خُذ الستمائة، وامض. فمضى الرجل، فقيل له هل تعرفه؟ قال نعم، وهو لا يعرفني. هذا الرجل الذي اشتريته ووهبته الحياة مُجددا – كان يستحق الإعدام قصاصا -، أنا أعرفه وهو لا يعرفني. قالوا ما حكايته؟ ما خبره؟ ما قصته؟

قال حين كنت طالبا للعلم، وكنت بمكان كذا، ومعي دفاتري، جاءني وقال لي احمل هذا على رأسك. حمل كبير هكذا! ويبدو أنه من الزعران هذا، العيارين يُسمونهم قديما، الشطار والعيارين! كان من الشطار والعيارين، أي الزعران هؤلاء. احمل هذا. قلت له ليس هذا من شأني، أنا طالب علم، كيف أحمل أنا؟ أنا لست حمّالا! قال فعاركني، فلكمني، وضربني على عيني، ففقدت البصر فيها من أربعين سنة. هل شعر أحد منكم بهذا؟ قالوا لا والله، معاذ الله، الله أكبر! قال أنا لا أُبصر بها من أربعين سنة. فلما رأيته وأمكنني الله منه، أحببت أن أتقرب إلى الله بالعفو عند المقدرة. أحببت أن أتقرب إلى ربي، الله يُحب هذا الشيء. الله أكبر يا أبا المُظفر! ما هذا؟ ما هذا؟

واليوم تجد مَن يدّعي الإسلام والإيمان لا يسمح لأخيه بكلمة، يقول هو قال في هذا؟ إذن هو كذا وكذا وكذا، وزوجه وابنته وأخوه وأبوه وعمه! يأتي له بسابع جد! الله أكبر! ما هذه؟ هذه ليست أخلاق المؤمنين! لكن كما قلنا ما عُدنا نستغرب، أنا بالنسبة لي الأمر أصبح واضحا، واضحا مفهوما سلسا سهلا، مفهومة قريبة! تحقق أو لم يتحقق؟ تحقق. ليست عجيبة منه، يفعل العجائب في نظرك، وهي ليست عجيبة، منطق الإيمان! هذا منطق الإيمان يا إخواني، هذا منطق الإيمان.

عامر بن عبد قيس – رضوان الله تعالى عليه – البصري، التابعي الجليل، الذي روى عن عمر – رضوان الله عن عمر -، وروى عن سلمان الفارسي، وعن غيرهما، تابعي جليل! رآه مرة كعب الأحبار بالشام، قال مَن هذا؟ قالوا هذا عامر بن عبد قيس. قال هذا راهب هذه الأمة. كان يُصلي ألف ركعة، حتى إذا قام، لم تحمله رجلاه. يقول إنما خُلقنا للعبادة. وكان يذهب إلى الوالي، فيأخذ مُرتبه الشهري، أي راتبه، وظيفته، يأخذها، فلا يمر به مسكين أو فقير، إلا أعطاه؛ خُذ، خُذ، خُذ، خُذ، خُذ. ثم يأتي أهله، يُلقيها عندهم، يحلفون أنهم يعدونها، لم تنقص درهما. كرامة عجيبة! وكل مرة يفعل هكذا! رجل صالح عجيب! عجيب!

قيل له هل تُفكر في الصلاة؟ حين تقوم تُصلي، هل تُفكر؟ قال نعم، أُفكر في موقفي بين يدي الله ومُنصرفي. هذا تفكيري! حين أقف أُصلي، هذا تفكيري. لا يُفكر في السوق ولا في الجزر ولا في اللحم ولا في الغنى ولا في الفقر ولا في الكورونا ولا في الحرب العالمية الثالثة، يُفكر في وقوفه بين يدي الله ومُنصرفه، كيف سأقف بين يدي الله؟ هذا الإيمان!

على ذكر الصلاة والوقوف بين يدي الله، خطر لي الآن الآتي؛ قبل أيام، وصلني مقطع على الواتساب WhatsApp، ما أبدعه! ما أجمله من مقطع! مقطع قصير، لمُمثل سعودي، مُمثل اسمه على ما أذكر ماجد العبيد، يتحدث فيه هذا الرجل الفاضل – لأنه استعبر في آخر المقطع، أي وغلبته عيناه، ففيه خير، كثّر الله خيره وإيمانه والمؤمنين والمؤمنات -، ويُحدث عن مُمثل مصري، كان معه، زميل في عمل ربما! وحسبما فهمت من السياق، ربما عمل عن الإمام الشافعي – رضوان الله عليه -، لكن هذا المُمثل المصري لا يُصلي، لا يُصلي هكذا للأسف! وماجد العبيد السعودي يُصلي – بارك الله فيه -. 

قال فقلت له يا فلان، حضرت صلاة المغرب – في بيت الأستاذ ماجد العبيد -، قُم صل معنا. قال يا أستاذ ماجد، أنا لا أصلي أصلا. قلت له لا بأس، صل الآن. قال إن صليت، لن أعود للصلاة. ستكون مرة، ولا يليق – أي بمعنى الكلام -. قال لا بأس، صل هذه المرة، وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء بعد ذلك – أي بمعنى الكلام، يفعل الله ما يشاء -. قال لكن أنا لست طاهرا! قال ادخل، استخدم الدُش – أي Shower -. فدخل واستحم بسرعة.

قال وطبعا لأنني أنا ما شاء الله – يمزح الأستاذ ماجد -، أنا الطيب المؤمن، الكذا كذا، فأنا كنت الإمام. أي لن يكون هو! فأنا شرعت في الصلاة؛ الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا بالرجل يسقط! سقط على الأرض! فقال أخذت إلى الخلف. رجع إليه، قال أقمته. وقف المسكين، وعُدت إلى الصلاة؛ بسم الله الرحمن الرحيم، فسقط! قال مرات عديدة! استغربت! ما الذي يحصل؟ حتى إذا فرغت من الصلاة، قلت له ما الذي يحصل؟ قال له والله يا أخي، لم تحملني رجلاي. حين وقفت أصلي، بعد أن تطهرت، قلت في نفسي أنا الآن أقف بين يدي الله عز وجل؟ أنا الآن بين يدي الله؟ الله الآن يرقبني ويراني؟ قال والله ما حملتني رجلاي. 

لا إله إلا الله! عجيب والله! كثّر الله في الأمة من أمثال هذا الرجل. خطر لي، وقد بلغ بي الحزن والحسرة على نفسي، على نفسي أولا، الآتي؛ قلت الله أعلم، لعل هذه الصلاة، التي أداها هذا المُمثل المصري، الذي لا يخلو من صلاح ومن روح طاهرة، تعدل صلوات سنين من أمثالنا. رجل على الأقل عنده حد، يُحسد عليه، يُغبط عليه، من معرفة مقام الله، لا إله إلا هو! مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا *، هذا الرجل يُوقر الله. الذي لم يُصل من قبل، يُوقر الله! مُدرك أن الأمر عظيم، لذلك هو لم يشأ أن يُصلي ثم ينقطع عن الصلاة، ولذلك لم تحمله رجلاه. خطر لي أنه ربما يأتي يوم القيامة، وصلاة كهذه تعدل صلوات سنين من أمثالنا. الله يقول في الميزان هذه أثقل من صلوات عشر أو عشرين سنة! لم يشعر فيها المُصلي الآخر مرة بمثل ما شعر هذا الرجل! لم يسقط أحدنا مرة هكذا على وجهه من شدة الخشوع وتوقير مقام الرب الجليل، لا إله إلا هو! الله يقول هذه الصلاة أثقل في الميزان من كل الصلوات هذه، أنتم صليتم صلاة لأنفسكم، صلاة الطقوس! لكي تراك زوجتك، ويراك شيخك، ويراك جارك وأخوك، فضلا عن أن يراك الناس في اليوتيوب YouTube وفي غيره! يُصورون أنفسهم في مكة وغير مكة، ونحن نُصلي ونعتمر وانظروا! لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. اللهم ارفع عنا هذا البلاء، وارفع مقتك وغضبك عنا. 

فإذن هذا موقف عظيم، لذلك قال نعم، أُفكر في موقفي بين يدي الله ومُنصرفي. عامر بن عبد القيس! حتى لا أُطيل عليكم، للأسف الشديد تألب عليه جماعة من أهل البصرة. ستقول لي على عامر بن عبد قيس، راهب الأمة؟ نعم، هم على الأنبياء تألبوا، على المُرسلين تألبوا. والله لو نزل بين ظهرانيهم، جبريل، لتألبوا عليه. ستقول لي مَن؟ تعني الكفار؟ لا، الكفار والمُشركين واليهود والنصاري والمُسلمين. موجود، موجود!

يا إخواني/

لعلي قلت لكم مرة، لكن من باب التذكير، وأقول هذا دائما لأولادي، أُريد أن أؤدبهم أو أن أُعلمهم، أقول لهم لا تستغربوا من أي تصرف، ما من تصرف، مهما بلغ في الخساسة والنذالة والحقارة مبلغا، إلا وله مَن يؤديه. ليس هذا المُهم! تقعد أنت مُتحيرا؛ كيف فعل هذا؟ كيف ضرب أمه؟ كيف ذبح أباه؟ كيف قتل أستاذه؟ كيف سرق جُبة النبي؟ كيف سرق الكعبة؟ كيف عصى الله عند الكعبة؟ ووالله لقد رأينا بأم أعيننا، مَن يعصون الله وهم يطوفون. لا أتحدث بأكثر من هذا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 

لا تستغرب، لا تذهب نفسك حسرات، أنه كيف يقع هذا؟ يقع، يقع، يقع. المُهم، المُهم أن تُوطن نفسك، ألا تلعب الدور الخسيس. فقط، هذا هو! خله لغيري، هذا الدور لغيري. التحدي الحقيقي، البطولة – إن أردتم. ولكن التقي هو البطل. البطولة الحقيقية – أن تحتكر لنفسك، أن تُسارع، أن تحرص، على ماذا؟ على الدور النبيل العالي الماجد الباذخ. تقول أنا لا.

قد رشحوك لأمر، لو فطنت له…….فاربأ بنفسك، أن ترعى مع الهمل. 

لست مع الهمل، أنا مع الأماجد، مع الكبار، مع الكملة، مع الكملة! مع الذين يجتهدون أن يكونوا مرضيين لله وعند الله، لا إله إلا هو. هذه الشطارة، هذه البطولة. علموا أولادكم هذا. أما الأدوار الأخرى الخسيسة، والله مهما بلغت، فلها مَن يؤديها! ألا يُلحد الناس بربهم؟ ألا يُنكرونه؟ ألا يكفرون به – لا إله إلا هو -؟ شيء غريب! ألا يخونون أوطانهم؟ ومَن خان وطنه، ما الذي يبقى عنده لكي لا يخونه؟ هذا خان كل شيء! هذا خان العشرة والملح والتراب ومسقط الرأس والعِرض واللقمة والوطنية والقومية والدين، كل شيء! فلعنة الله على الخائنين، لعنة الله على كل مَن خان بلده وباع أهله ووطنه، أيا كان! لعائن الله مُتتابعة عليه إلى يوم الدين، إلا أن يتوب. وإن لم يتب، انتهى، انتهى!

موجودة هذه الأشياء، موجودة! لا تستغربوا كما قلت، دعوها لأهلها، الأخساء الأذلاء المناكيد المناحيس الملاعين، واحتكروا لأنفسكم الأدوار الباذخة الشامخة، حتى فيما هو أقل من ذلك، وأكثر من ذلك! البخل، لا تكن ذلك البخيل، كُن الكريم. تقول لا أستطيع! غيّر من نفسك، حاول بالإيمان. الإيمان هو المُعادلة الأسهل طبعا. إن تحقق إيمانك، سهل عليك ما كان صعيبا مُستصعبا، ما كان صعيبا صعبا مُستصعبا! بالإيمان والله، بالإيمان! الإيمان يُجوهر الإنسان، يخلق له جوهرا جديدا، حقيقة جديدة! يخلق له حقيقة جديدة.

سأحدثكم عن قصة، لها علاقة بهذا الموضوع أيضا؛ أثر الإيمان، ولها علاقة بموضوع الثقة والأجدرية. حدثني بها أخ عزيز، من أحبابي في الله، مِمَن أعتقد صلاحهم، لا أزكيه على الله، لكن الله حسيبه، وهو أخ من كردستان العراق، دكتور مُهندس اسمه أمجد القره داغي – كثّر الله في الأمة من أمثاله -. رجل جميل، أنا أُحب رسائله وتواصله معي، أسلوبه حتى في العربية، الروحانية التي تطبع كلامه، شيء جميل جدا، رائع. وسُبحان الله على أنه دكتور في الهندسة، هو أيضا من أهل الشرع، وتعلم على كبار علماء العراق! وكان أستاذه الأكبر، ويبدو الأول، هو شيخ وعلّامة وولي الله في العراق عبد الكريم المُدرس – قدس الله سره الكريم -، الشيخ المُدرس الكردي! كان مُفتي العراق! هذا المُفسر، الفقيه، الأصولي، اللُغوي، المنطيق، المُتكلم! علومه تشهد له بذلك، كُتبه بالعشرات، مطبوعة ومعروفة، مُفتي العراق! هذا الرجل الصغير، الذي ربما لم يُجاوز وزنا الستين كيلوجراما! علّامة العراق، شيخ الإسلام – قدس الله سره الكريم -، عبد الكريم المُدرس!

يقول لي الدكتور أمجد، يقول لي سمعت هذه القصة غير مرة من شيخي المُدرس – ليس مرة واحدة – وسمعها من تلامذته الكثيرون غيري. والقصة باختصار، أن شيخه، ولي الله الكبير، الشيخ علاء الدين النقشبندي – قدس الله سره، ومعروف هذا في وقته، قبل حوالي مئة سنة! شيخ كبير، من أهل الله، من كبار أهل الله! من أهل التحقق، قدس الله سره، ونفعنا الله ببركاتهم -، أرسل إليه، قال له يا ابني، يا عبد الكريم، أُريدك أن تستلم رئاسة إدارة مدرسة بيارة. مدرسة بيارة عند الإخوة في كردستان، كالأزهر عند العرب في مصر! فخر عظيم أن تُصبح أستاذا فيها، أو مُعيدا عند أستاذ، فخر عظيم! كيف أن تُصبح مُديرها؟ طبعا شيخه أراد هذا، لما آنس من تحققه ونفوذه في العلم، في العلوم العقلية والنقلية، الشيخ المُدرس، عبد الكريم! ولم يكن يُلقب بالمُدرس، اسمه الشيخ عبد الكريم بيارة؛ نسبة إلى البلدة.

فاستلمها، مكث فيها بضع سنين! أنا الآن لم أُحقق، لعلها خمس سنوات! ثم بعد خمس سنوات، يأتي مولانا وسيدنا الشيخ عبد الكريم – قدس الله سره -، إلى شيخه، الشيخ علاء الدين النقشبندي، يقول له يا سيدي – مُنكسرا -، أرجوك، اسمح لي، لا أُريد أن أبقى في رئاسة هذه المدرسة، بعد اليوم. عجيب! هناك مَن يرفض مثل هذه الوظيفة؟ أي شيخ الأزهر، شيخ أزهر كردستان بالضبط، شيخ أزهر كردستان! قال لا أُريد! هذه الإدارة، هذه المشيخة، لا أُريدها. قال لماذا يا بُني؟ الشيخ علاء الدين؛ لماذا يا بُني؟ قال لم أعد صالحا لها. قال كيف؟ كيف لم تعد صالحا؟ لماذا؟ قال قد أعطيت تلاميذي كل ما عندي من العلم، بل إن بعضهم لعل صار أرجح مني في بعض هذه العلوم، ولم يعد في طوقي أن أُعطيهم ما لا يعرفون، فلا أستحق أن أبقى رئيسا عليهم. الله أكبر! 

لذلك حين قلت لكم في خُطبة الثقة بالإيمان نبلغ مبالغ، نتحدث عن معان، لا يتخيلها أكبر فيلسوف يتحدث عن الثقة والأجدرية، لا يُعطيها – والله – إلا الإيمان! لا أحد يتنازل! لماذا؟ وأنا عالم، وعالم كبير – الشيخ عبد الكريم -، لماذا أتنازل؟ وشيخي هو الذي أعطاني هذه الرئاسة، وعندي علوم كثيرة! قال لك لا، أنا أستحق أن أكون رئيسا عليهم، إذا كان لدي فضل علم عليهم، عما عندهم. أما وقد تساوت الرؤوس، فلا. أنا أسلك كواحد منهم. يا الله! يا الله! يا الله!

ويُحدثنا الملاحدة عن الإيمان، وأخلاق الإيمان، وجدوى الإيمان، وكأنه الإيمان هو الدعشنة والذبح والقتل! ربما لأنهم لم يجدوا مَن يُحدثهم عن هذا! لكن نقول لهؤلاء الإخوة الملاحدة وأمثالهم – هداهم الله، هداهم الله وشرح صدورهم للإيمان – أنتم في المُقابل تتبجحون بالإلحاد، وتتبجحون بالاستدلال بما لا تفهمون من الأدلة. كلمة لا أقولها؛ لكي أتنقص أي أحد، فقط الأدلة عليها عندي بالعشرات، إن لم يكن بالمئين، وإذا طُلب مني هذا، فسأفعل، لكن لا أُريد أن أتنقص أحدا. لا يدّعي مُلحد أنه مُلحد عنده أدلة تُثبت أن الله غير موجود أو تُرجح عدم وجوده، وهو لا يفهم مبادئ الاستدلال، لا يُفرق بين الضدين والنقيضين! 

بالله أيها الأخ المُلحد – هداك الله وهدانا وهدى الجميع -، بالله الذي لا إله إلا هو، ماذا لو قيل لك ستدخل اختبارا، إن رسبت في الاختبار، قطعنا أُصبعا من يدك؟ كيف لو قيل له قطعنا يدك كلها، من رُسغها؟ كم تحتاج للتحضير؟ سيقول كم تُعطونني؟ شهرين. نقول له! يقول لا، ماذا؟ شهران؟ يُمكن أن تُعطونني عشرين سنة؟ يُريد أن يقرأ وأن يُحضر لعشرين سنة. لماذا؟ لأن الثمن أن تُقطع يده أو أُصبعه. أما أن يُقذف في نار جهنم، وتحل عليه اللعنة الأبدية، يُطرد من رحمة الله! فهذه يفعلها في سنة وسنتين، وشهر وشهرين، من غير أن يُحقق شيئا من العلوم والفلسفة والنظر والفكر والاستدلال، ويقول لك هذا عيب، لماذا تنتقدوننا؟ نحن يا أخي ألحدنا، نحن أحرار. أقول له طبعا أنت حر، لا يضربك أحد على يدك يا رجل، لكن نحن نُحب – والله – لك الخير! والله الذي لا إله إلا هو، نحن نحزن عليك، على الأقل أتحدث عن نفسي، إني ليحزنني، وهذا والله أكثر ما يحزنني. فلا تستعجلوا، تواضعوا، الله يُحب المُتواضعين. المؤمن مُتواضع، والمؤمن موثوق، والمؤمن صادق، لا يتشبع بما لم يُعط، ولا يدّعي في نفسه ما لم يؤت. 

أرأيتم الشيخ عبد الكريم المُدرس – قدس الله سره -؟ هذا هو الإيمان. لذلك يلوموننا في الإيمان! ويلوموننا على الإيمان! أعجبني عنوان كتاب لنورمان جايسلر Norman Geisler، في ألفين وأربعة تقريبا نُشر بالإنجليزية، اسمه I Don’t Have Enough Faith to Be an Atheist، ليس لدي إيمان كاف؛ لأكون مُلحدا. الله أكبر! يُعجبني التواضع. الله يقول وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ *. أنت لكي تقول أنا كافر، عليك أن تُثبت هذا. على فكرة، حتى الألقاب غير الباذخة، حتى الألقاب السخيفة؛ لقب كافر، مُشكك، شكوكي، Agnostic، لاأدري، مُلحد، لا تُعطى بالمجان! أنت لا تكون مُلحدا، بمُجرد التشهي. أثبت لي أنك كفرت بما عرفت. هل عرفت الإيمان حقا؟ هل عرفت الله ببراهينه – ببراهين وجوده حقا، ليس البراهين التي نتحدث عنها هنا، لا! براهين وجود الله -؟ هل عرفتها؟ هل تستطيع أن تُناظر حولها حقا؟ 

فهذا – أي جايسلر Geisler – يقول ليس لدي إيمان كاف؛ لأكون مُلحدا. يا حبيبي على التواضع، ما أجمله! والله جميل جدا جدا. لذلك تردد كثيرا قبل أن تقول أنا شكوكي، أنا Deist، أنا Agnostic. لا، تردد كثيرا. لكي تكون كذلك، لا بد أن تكون أتيت على براهين ما تشك فيه، أو تتردد فيه، أو تتوقف فيه. أما وأنت لم تفعل، فتواضع، ولا تدّع هذه المكانة الحقيرة. هذه حقيرة طبعا! أن تكون مُلحدا وكافرا، هذه مكانة حقيرة، لا تدّعها لنفسك. نحن لا نُسلم لك حتى بهذه المكانة الحقيرة، وإن ادّعيتها لنفسك. الله يُحب المُتواضعين. اللهم ارزقنا التواضع، وارزقنا الصدق.

شيخ الإسلام تقي الدين، ابن دقيق العيد – قدس الله سره -، ربما – إن شاء الله – بعد العصر، سأُحدثكم عنه حديثا يتفق مع المقام وقصره أزيد. أعجوبة من أعاجيب الزمان، شيخ الإسلام، شيخ الإسلام لفظا ومعنى، ظاهرا وباطنا. ولي الله، جمع الله له العلوم، وجمع الله له الصلاح والتُقى، يكفي كما حدثتكم عنه غير مرة، يكفي أنه قال مرة إني لأحتسب على ربي – لا إله إلا هو – أن صاحب الشمال، لم يجد ما يكتبه علي، من أربعين سنة. يا الله! يا شيخنا، ولا سخرية من أحد؟ ولا سخرية. ولا كذبة بسيطة؟ ولا كذبة. ولا حقد؟ ولا نفاسة؟ ولا غيبوبة – أي تصغير غيبة، ولا غيبوبة صغيرة هكذا لأحد -؟ أبدا، أبدا! من أربعين سنة يا شيخنا! يا حسرة علي! يا حسرة علينا! 

شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، يقول له أحدهم يا شيخنا، أنت كذا وكذا، والله فتح عليك وأعطاك كذا كذا كذا، وأنت ربما فُقت الشيخ عبد العظيم المُنذري. تعرفون الشيخ عبد العظيم المُنذري، شيخ الإسلام، صاحب الترغيب والترهيب – قدس الله سره -! الذي يعرف الترغيب والترهيب، بأجزائه الأربعة، يعرفه. أملاه من حفظه، لم يكن قدامه كتاب، كان يُمليه من حفظه! أعجوبة!

فقال الشيخ تقي الدين، ابن دقيق العيد، الشيخ عبد العظيم كان أتقى لله مني. إنصاف! سكت، إلى الآن هذا تواضع، هضم، هضمية للنفس، دأب الصالحين – اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم وانفعنا بهم -. قال الشيخ عبد العظيم كان أتقى لله مني. ثم سكت هنيهة ثم قال على أني أعلم منه. انظر، انظر العدل، وهذا ليس تبجحا أبدا، أبدا! لكي لا يكون حتى في هذه الهضيمة حظ النفس؛ أنني مُتواضع، وأهضم نفسي! لا، كأنه يقول أنا مُتحقق، أنا رجل يدور مع الحق، وأقول الحق، لي وعلي. من جهة التُقى، أنا أرى أن شيخي – الشيخ عبد العظيم المُنذري، وطبعا كان شيخه – كان أتقى لله مني، لكن حتى لا أظلم نفسي، من جهة العلم، أنا أعلم. رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم ونفعنا الله ببركاتهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها. 

نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن عمل لا يُرفع، ومن الجوع فأنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا. اغفر لنا جدنا وعمدنا وخطأنا وهزلنا، وكل ذلك عندنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

ربنا تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، وحقق أمنيتنا في رضاك، واسلل سخيمة صدرنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات مغفرة ورضوانا، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.

ارفع مقتك وغضبك عنا، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، أحسن ختامنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

(28/1/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: