إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۩ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ وَلا تَكونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
وَلا تَكونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، كيف ينسى المرء مولاه؟ ما هى بوابة النسيان؟ ما هى مداخل النسيان؟ مداخل النسيان أن تذهل عن معرفة الله – تبارك وتعالى – عبر أسمائه وصفاته حين تظن أنك تعرفه – تبارك وتعالى – ككيان أو كذات، أنت تعرف الله وتعبد الله وتتوجَّه إلى الله على أنه الله وحسب ولذا ستبدأ تنساه، لكن الأمر يختلف حين تفطن إلى أن طريق معرفته – سبحانه وتعالى – والازدلاف إليه والاقتراب منه لا يُمكِن أن تُطوى مراحلها إلا عبر إعادة النظر وغلغة النظر وتعميقه وباستمرار دون انقطاع بشكل مُمتَد في أسمائه وصفاته، لأن ذاته لا تُنال لا إله إلا هو، لأن ذاته العلية القدسية لا تُنال لا بفكر ولا بوهم، فليس ثمة إلا الأسماء والصفات، هى الطريقة الوحيدة المُتاحة لنا لكي نتعرَّف عليه ونزداد تعرّفاً، لكي نتقرَّب إليه – لا إله إلا هو وجل مجده – ونزداد تقرّباً.

ديننا الآلي الميكانيكي الطقوسي الذي يتحالف ضمنياً مع الوثنية بل مع الكفر والإلحاد إنما كان كذلك لأننا ننسى الله – تبارك وتعالى – من حيث نظن أننا نعرفه ونذكره، وفي الحقيقة نحن ننساه حقيقةً، ومن هنا أيضاً مُعانتنا الشخصية، لأن من نسيَ الله أنساه نفسه، لا نلتم على أنفسنا، لا نعرف بالضبط ما الذي نريد، ونُهدر حياتنا وهى أثمن ما لدينا، الأثمن هى هذه الدقائق والساعات والسنون والأيام ومع ذلك نُهدِرها، ربما سنكتشف وربما لن نكتشف أصلاً قُبيل الترحل وقُبيل مغادرة هذا العالم – كما أقول دائماً – أننا اخترنا الخيار الخطأ وعشنا الحياة الغلط لأننا نسينا أنفسنا، نحن لم نتعرَّف على أنفسنا، مُعظَم البشر على الإطلاق لا يعرفون أنفسهم، معرفة النفس مسألة مُهِمة جداً لمُطالَعة وجه الحقيقة ولإصابة الحظ من السعادة والسكينة والنضج والتكامل الإنساني عبر معرفة النفس، لكن لا يُمكِن للنفس أن تُعرَف إذا كان صاحبها ممن نسوا الله – تبارك وتعالى – فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، كلنا بلا استثناء نعرف ذواتنا القريبة لكن الزائفة الروّاغة المُخادِعة، ما يُعرَف بلغة التحليل النفسي بالـ Ego، نعرف هذه الـ Ego، هذه ليست حقيقة أيٍ منا، هذه الـ Ego هى الذات الكاذبة الزائفة الروّاغة – كما وصفتها للتو – التي يصنعها الآخرون، يصنعها المُجتمَع والثقافة والسائد والناس والظروف والشروط، ليست حقيقتي أنا التي أعطاني الله – تبارك وتعالى – إياها، ولذلك هذه الـ Ego دائماً تتطلع إلى رضا الناس، حين تُحِب تُحِب الناس، حين تخاف تخاف من الناس، حين تعمل تعمل للناس، ودائماً تُقدِّم كشف حساب للناس، للأب وللأم وللشيخ وللأستاذ وللمسؤول وللمُجتمَع وللطائفة وللمذهب كشف حساب، أنني مُندمِج، أنني مُتطابِق، أنني مُتماثِل، أنني مثلكم تماماً فارضوا عني، يُحِب المديح، يُحِب النياشين، يُحِب النفخ والإطراء، واضح أننا إزاء ذات فطيرة طفولية، هذه مسالك الطفل، الطفل تماماً هو الذي يحب الشعور بالأمان عبر الإطراء والمديح ليشعر أنه مقبول وأنه مُتماثِل ومُندمِج، الكبير لم يُخلَق لهذا، لماذا نحن كذلك؟ لماذا نحن على هذه الصورة؟ لأننا لا نعرف ذواتنا، لا نعرف أنفسنا، نحن نعرف هذه الـ Egos، نعرف هذه الذوات الروّاغة الكاذبة الزائفة، الذات الحقيقية ليست المُستهتِرة طبعاً وليست العبثية وليست العدمية، بالعكس هى الأكثر تكاملاً والأكثر وعياً وبالتالي أيضاً الأكثر إيجابية وإبداعاً وخيرية وطيبة، هذه الذات لا ترى نفسها بالمرة مُضطَرة أن تُقدِّم كشف حساب لأحد من الناس، وهذا معنى أننا مسؤولون أمام الله وحده، لا إله إلا الله، حين أعمل ما أعمله وأنا مُطمئن إلى ما أعمله بوعي حقيقي وباستبصار داخلي – أنا واعٍ بدوافعي، واعٍ بنيتي – وأعرف لماذا أعمل هذا تماماً لكن الناس يتهمونني بأنني أعمل هذا من أجل هذا أو هذا أو هذا أو ذاك فهذا لا يهمني، لن أُدافِع عن نفسي، لست في موضع الاتهام، لن أُقدِّم كشف حساب لأحد، فليتكلَّموا ما شاءوا أن يتكلَّموا ويتهموا، هذا الإنسان الواعي بنفسه والمُتصالِح والمُطمئن والذي لا يزال ولكن بمعنى آخر ومن زاوية أخرى ومن منظور آخر طفلاً، طفلاً مُندهِشاً مُتسائلاً سعيداً فرحاً، هو ابن الكون، يُدرِك علائقه الحميمة مع كل شيئ في الوجود، الطفل كما يعشق الناس الطيبين الذين يُحسنِون إليه يعشق ضوء النهار ويعشق النجوم التي تُوشوِش في عتمة الليل ويعشق هبوب النسيم العليل ويعشق الألوان الفاقعة الزاهية الجميلة ويعشق صغار الطير وصغار الحيوان ويعشق خرير الماء وملمسه وطعمه ورائحة الزهر والورود، الطفل هو ابن الكون، يشعر بالعلاقة الحقيقية وبالكيانية الحقيقية له كموجود في هذا الكون وبهذا الكون وهو من أعضاء هذا الكون .

يُحدِّثنا الخبراء المُختَصون في هذه القضايا أن كلاً منا يحتوي بدنه على الأقل على مليون ذرة، في يوم من الأيام كانت هذه الذرات ذاتها في جسد محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – أو يسوع المسيح أو موسى أو بوذا Buddha أو كونفوشيوس Confucius أو كاليجولا Caligula أو نيرون Nero – الطُغاة العُتاة – أو قيصر Caesar أو أرسطو Aristotle أو أينشتاين Einstein، مليون ذرة من نفس الذرات، كل أحد فينا ينطوي على مليون ذرة كانت في أحد هاته الشخصيات المشهورة جداً من صنّاع التاريخ وصنّاع العالم، أما الذرات التي نتبادلها مع الآخرين كل الآخرين في كل لحظة وفي كل سويعة هى من رتبة عشرة أس خمس عشرة ذرة، ألف تريليون ذرة، إذن نحن شيئٌ واحد في نهاية المطاف، ذات مرة كتب الفيزيائي والى حدٍ ما الفيلسوف – إلى حدٍ ما هو فيلسوف علم – الإنجليزي الكبير السير جيمس جينز Sir James Jeans قائلاً يبدو أننا في نهاية المطاف جسدٌ واحد، هو يفهم هذا، قال يبدو أننا في نهاية المطاف جسدٌ واحد، ديباك شوبرا Deepak Chopra يقول من تجربة ذاتية عاشها حين تُقَّبِّل حفيدتك أو ابنتك الصغيرة تشعر أحياناً بملوحة لأنها قضت رحلة على شاطيء البحر، طبعاً جسمها الآن ينطوي على ذارت من الملح، كل منا ينطوي أيضاً على ذرات من ملح البحر، نحن كيان واحد وذات واحدة، قال الله مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ ۩، خلقنا من نفس واحدة، هناك نفس واحدة، الطفل يشعر بهذا، الكبير الواعي بذاته والمُتصالِح مع وجوده ومع كونه يشعر بهذا، ليس يشعر فحسب بل يعيش هذه الحقيقة، هى منطقه، ومن هنا هذا الكبير الواعي بذاته والمُتصالِح مع الوجود والسعيد في هذا الوجود الذي لا يزال بالمعنى المشروح آنفاً طفلاً لا بمعنى الطفولة الغريرة التي ينبغي أن تُزايله أو يُزايلها هو القادر على الإبداع والقادر على التأثير والقادر على التأثير، الحديث عن البصمة والتأثير ليس حديثاً أدبياً وليس حديثاً مجازياً، هو في العمق منه حديث الخلق – فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩ – وفي عمقٍ أعمق هو حديث الحرية وفي عمقٍ ثالث هو حديث الوعي، الوعي بالذات، وعبر هذا الوعي بالذات الوعي بالوجود، هؤلاء أيضاً ليسوا فقط مُبدِعين أو مُنتجِين أو مُؤثِّرين بل هم أكثر امتناناً وعرفاناً، ومن هنا سعادتهم فانتبه، ربما قلَّ مَن تحدث عن أن العرفان والامتنان يقع في القلب من السعادة، طبعاً نُؤكِّد مرة أخرى على أن مُعظَم الناس غير الدارين بذواتهم يظنون أن السعادة في المُتخارِج، مثل السعادة في الأموال أو السعادة في المناصب أو السعادة في الشهرة أو السعادة في أن تملك، حتى في أن تملك البشر، ولذلك كل أصحاب النزعات التملكية تؤول بهم هذه النزعات سريعاً إلى أن يثبتوا هيمنتهم على البشر وعلى إخواتهم في الإنسانية بسبب أو بآخر وبعنوان أو بآخر، لماذا؟ لأنهم فشلوا في منتصف المسيرة، النصف الأول فاشل، هم يُدرِكون هذا ولا يُدرِكونه، على مُستوى العقل لا يُدرِكونه، على مستوى المشاعر والآثار يُدرِكونه، ها قد امتلكنا ما شئنا من السيارات والعمارات والأطيان والعقارات والأموال والشهرة ومع ذلك لسنا سعداء ولسنا مُمتلئين ولسنا راضين ولسنا مُتصالِحين، لا تُوجَد حالة تصالح حقيقي مع النفس ومع العالم، يبدو أننا نحتاج إلى مزيد من التملك، ماذا وقد أوفينا على الغاية في هذه الأبواب؟ البشر الآن، سوف نتملَّك البشر، ومن هنا هؤلاء المساكين حقيقون أن يُرثى لحالهم، يبدأ أحدهم يطير كالعصفور الحائر بين النساء، يتزوَّج هذه ويفجر مع هذه ويُطلِّق هذه ثم يُربِّع ثم يُخمِّس ويعرف مائة أو مائة وخمسين – دنجوان هذا المسكين – ثم يسقط مُحطَماً في النهاية على جميع المُستويات، البدنية والعقلية والشعورية والكيانية، يتحطَّم ككيان، خرج أعظم بُرهان على أن حياته بالذات هى الحياة الغلط وهى الخيار الغلط لكنه لم يفهم، وصدِّقوني مُعظَم مَن حوله لم يفهموا وهم يتمنون على الله والأقدار أن تُمكِّنهم من حياة كحياته، ولذا هم تُعساء بُؤساء أشقياء جهلاء ومساكين، هؤلاء لا يعرفون، ليست هذه الحياة، ليست هذه السعادة، هؤلاء أيضاً في مُقابِل الواعين المُنتِجين المُبدِعين المُؤثِّرين هم أيضاً جحدة،دوستويفسكي Dostoevsky عرَّف الإنسان بأنه الكائن الجاحد على قدمين، فالإنسان جاحد، القرآن يقول هذا، مُعظَم البشر جحدة، قال الله إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ۩، أي أنه جاحد، يكفر النعمة ويكفر الفضل ويكفر اليد، قال الله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ۩، أي أنه جاحد، لماذا هو جاحد؟ لأن هذا المسكين جاهل بنفسه وهو غير سعيد، غير شاعر بهذه الصلة الحميمة مع الوجود فضلاً عن رب الوجود لا إله إلا هو، رب الوجود لا يُشعَر به أصلاً فانتبهوا، إذا هذا الوجود الحسي المُتداخِل معنا والمُتشابِك والمُتضافِر والمنسوج معنا لُحمة وسُدى لا نشعر بالإمتنان نحوه ونحو ما فيه ونحو مَن فيه فهل سنشعر نحو الله تبارك وتعالى؟ الله الذي نعرفه – كما قلت لكم – كإسم فقط بلا مُسمَى وكإسم بلا إسماء وصفات وكإسم بلا حقيقة، هؤلاء جحدة وجحودهم يزيد في شقائهم، لأن في القلب من السعادة العرفان والامتنان، لماذا؟ العرفان والامتنان إحقاق الحق ووضع الأشياء في نصابها، الأشياء لا تتزن ولا ترتاح إلا إذا وُضِعت في نصابها، إذا لم توضَع في أنصبتها لم تتزن ولم تستقر، العرفان هو وضع الشيئ في نصابه، الامتنان أن أقول شكراً، وقبل أن أقول أشعر بهذا شعوراً عميقاً، وهذا مقصد رئيس من مقاصد خطبة اليوم، هذا باب عظيم تقريباً لا يُلتفَت إليه البتة في التعرف على الله بل في الاستدلال على الله وأنه موجود وراع لوجوده لا إله إلا هو، أعني العرفان، كيف؟ الامتنان أن تقول شكراً، والقرآن يُؤكِّد هذا لكن بطريقة عميقة جداً لا يلتفت إليها هؤلاء غير الواعين وهؤلاء التائهون الحيرة الأشقياء، لهم الله ولنا الله والله للكل لا إله إلا هو، والله للكل لا إله إلا هو.

إذن هؤلاء – كما قلت – أشقياء لأنهم أيضاً مرة أخرى جحدة، جحدة لأنهم يعيشون الأوهام، حياتهم كلها مُجرَّد وهم، وهم ماذا؟ وهم الاستغناء، ووهم الاستغناء يُضلِّلهم عن حاجات الآخرين وعن التقاط وفهم وإدراك حاجات الآخرين، ولذلك لدى الجحدة منطق واحد مُتحِد، الجاحد في حق الله والجاحد في حق البشر، والنبي أشار طبعاً إلى هذا، واضح أن هنا يُوجَد شيئ غير طبيعي وغير عادي وغير سطحي وإن سطَّحناه نحن بسطحيتنا، لا يُمكِن أن يُدرَك أي شيئ إلا عبر مرآةٍ وهذا أمر طبيعي، لا يُوجَد أي شيئ يُمكِن أن تُدرِكه كما هو، أنت تُدرِكه عبر مرآتك، أليس كذلك؟ هذا ينطبق على كل شيئ، والدين ليس استثناءً والنصوص ليست استثناءً والوجود المادي نفسه ليس استثناءً، كل شيئ لابد أن ينعكس في مرآتك وبعد ذلك أنت تراه في مرآتك، ماذا لو كانت مرآتي مُحدَّبة؟ سوف يُحدَّب ويُشوَّه، سوف يكون مُشوَّهاً Distorted، ماذا لو كانت مرآتي مُكسَّرة؟ سوف يتكسَّر كل شيئ، ماذا لو كانت مرآتي مُعتِمة؟ لن ترى شيئاً، سوف تعيش أعمى وتموت أعمى كخُلد أرض، هل تعرفون حيوان الخُلد؟ سوف تعيش كخُلد أرض، الخُلد عنده حواس أخرى يُعوِّض بها لكن نحن ليس عندنا أي حواس أخرى، هذا هو العمى الحقيقي، قال الله وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ۩، إذن هذا يكون في المرآة وعبر المرآة، النبي يقول مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ما معنى هذا؟ في العمق منه مرة أخرى أن الجحود منطقه واحد والعرفان منطقه واحد، هناك فلسفة حقيقية، يُوجَد منطق واحد للجحود، ما هذا المنطق؟ مُؤسَّس على ماذا هذا المنطق؟ مؤسَّس على وهم، وهم الاستغناء، أنا غني عن هذا الشيئ وإن أجزيته إليّ لن أقول لك شكراً، كلمة الآن سمعتها وتعلَّمتها لكن سأتظاهر بأنني لا أزال فاهماً لها، أنا أفهمها قبل أن أسمعها منك، سأُردِّدها الآن وسأُجاريك فيها، سأُناطِحك وأضع رأسي برأسك كأنني أنا الأستاذ الآن، هذا جحود، وهو جحود غريب، ومعنى ذلك أنه لم يفهم ولم يفقه وأنه لا يزال غريراً، لا يزال هذا المسكين طفلاً غريراً، يريد أن يُثبِّت الوهم، والوهم لا يثبت، ومن هنا أيضاً – كما قلت لكم – شقاؤه وتيهه وحياته وعدم استقراره، يريد أن يُثبِّت وهماً يُفيد أنه غني وأنه مُستغنٍ، كلا يا رجل، أنت فقير لأنك مخلوق، كل مخلوق من حيث هو ومن حيث حيثية واحدة وهى المخلوقية فقير، لأنك مخلوق أنت فقير، انتهى الكلام ولا نقاش في هذا، ومعنى أنك مخلوق أن لك بداية وحتماً لك نهاية، ألا تموت أنت؟ أنت مخلوق حي، ألا تموت؟ تموت وتهلك وتذوب وتضمحل وتفنى وتتلاشى، غنيٌ عن ماذا أنت؟ لست غنياً عن أي شيئ، حياتك كلها مُجرَّد حلقات مُتراكِبة ومُتواصِلة من الاحتياج، باستمرار احتياج يُسلِم إلى احتياج وفقر يستدعي فقراً، هذا يحدث باستمرار، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ ۩، أكثر ما لا تلتفت إليه هو هذا النَفَسُ الذي تأخذه، كل شيئ تقريباً يتوقَّف عليه، أنت مُحتاج إلى هذا الهواء، ومرة أخرى هذا الهواء الذي أتنفسه أنا، أنت تشهق ما أزفره أنا وما يزفره هو وهى وتلك النبتة وذاك الحيوان، ومن هنا وحدتنا مرة أخرى، لا أحد منا يستغني، نحن شيئٌ واحد، وهذا الواحد كله يدين إلى مَن؟ إلى خالق واحد وإلى مُبدِع واحد أعطاه قانونه وأعطاه مدده الذي يفعل فيه القانون ويُنظِّمه ويُدبِّره، من هنا المنطق الحقيقي للإنسان وللوجود ينبغي أن يكون منطق ماذا أن يكون منطقاً مؤسَّساَ تماماً على شيئ آخر عكس الاستغناء، ما هو؟ الفقر والاحتياج، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩، يجب أن أفهم هذا جيداً كإنسان، الحديث ليس حديثاً دينياً وروحانياً فقط، وإنما كإنسان يجب أن أفهم هذا تماماً لكي أستقر وأتزن وأسعد وأنضج.

الحديث يستدعي بعضه بعضاً ويُوحي بعضه ببعض فنعود إلى المُقدَّمة، هذا التدين القشوري الآلي الميكانيكي الطقوسي يحتوي تماماً ضديده ونقيضه وما يُباينه على طول الخط، لاحظت أن كثيرين منا نحن معاشر العرب المسلمين نُعبِّر بطريقة مفضوحة – ليست طريقة مُضمَنة أبداً وإنما طريقة مفضوحة – عن رغبة قوية كامنة في الكفر وفي الإلحاد، هذا أمرٌ عجيب، كيف نفعل هذا؟ كلنا يفعل هذا، مثلاً نقول بالعامية – هذه أمثلة من أمثلة كثيرة – حل عن سماي وحل عن ديني وجنن ديني وجنن سماي، لماذا هل سماك واطئة إلى هذا الحد؟ هل تُنال السماء بلمسة إصبع؟ الكل يَحُل في سماه وينبغي أن يَحِل عن سماه وأن يترك سماه ودينه يُجَن بسرعة، هل هو هش إلى هذه الدرجة دينك؟ نعم طبعاً، هذا تعبير حقيقي،لذلك حين يُستثار أو يُستغضب يُعبِّر بهذه الطريقة، كأن يقول جنن ديني وحل عن ديني وحل عن سماي، إذن هو كافر، في الباطن هو مُلحِد كافر، هذا شيئ مُخيف ومُرعِب، حين تُحلِّل هذا تجده مُرعِباً جداً، لا يقول حل عن إبليسي أو حل عن شيطاني أو حل عن نفسيتي وعن هواي وعن غضبي وعن عافيتي، يقول حل عن سماي وعن ديني، لأن هذا الدين دين معنا ودين عندنا ودين لنا، منطق ماذا؟ منطق To have، هذا منطق التملك، كل شيئ تتملكه ولا تشعر بالحاجة إليه تجحده وتُعامِله بمنطق الاستغناء والجحد، ليس هذا الدين، ولذلك أنت لا تنضج مع هذا الدين، مذ أنت ابن أربع سنوات وأنت تُصلي ويُصوِّمونك وأنت ابن سب سنوات نصف يوم أو ثلاثة أرباع يوم ولذا يُوجَد دين يا أخي، من أربع سنوات يُوجَد دين، وأنت الآن ابن ستين أو ابن سبعين وعندك منطق حل عن سماي وحل عن ديني وجنن ديني، ما الذي حصل إذن؟ هل لم تُؤمِن بعد؟ هل سبعون سنة غير كافية أن تعرف الله وأن تعرف الدين وأن تنضج في الدين وبالدين وعبر الدين؟ طبعاً لأن لا تُوجَد هذه الظرفية والمظروفية، لا يُوجَد هذا الكلام، تُوجَد هذه المعية، يُقال بالعامية معنا دين أو هذا الإنسان معه دين – والله – يا أخي أو عنده دين، هذا منطق عميق جداً وصحيح، فعلاً عنده دين، كما عنده سيارة وفيلا عنده دين، لا يُقال فيه دين وإنما عنده دين إلا أحياناً، أحياناً يُقال فيه دين، سبحان الله هذا العقل العامي العادي يُعبِّر بدقة فلسفية لا يفهمها لا رجال الدين ولا فلاسفة الدين حتى، أعني أكثرهم طبعاً ولا أعني كلهم، أكثرهم لا يفهمون هذا، لأنهم لم يعيشوا هذه الخبرة ومن ثم لم يفهموا، هم ابناء هذه الثقافة التي يُشاب بل يُخلَط ويُمزَج فيها الدين بالكفر والإلحاد دون أن يفهموا، لأنهم لم يفهموا حقاً جوهر الدين ومعنى الدين ومعنى أن تكون متديناً، وهنا قد يقول لي أحدكم أين ذهبت بنا يا رجل؟ نحن اليوم لا نزال نتحدَّث عن قطع الرؤوس وذبح الناس بإسم الدين وأن تتحدَّث عن هذا الموضوع، هذا هو طبعاً، هذا هو الفرق تماماً بين مُستويين، وهذا يتم بإسم الدين وهذا هو جوهر الدين كما نراه، كم هو الفرق بعيد يا أحبتي – يا إخواني وأخواتي – بين هذين الطبقين أو بين هذين المصافين أو بين هذين المُستويين، بُعد المشرقين، بُعد السماء السابعة عن الأرض السابعة للأسف، ويُعمَّد ويُكرَّس هذا على أنه دين، ولا أحد يخدم هذا ويكشف عنه الستر على أنه الدين، ليس على أنه دين وإنما على أنه الدين، الدين الحقيقي بملء المعنى، لا أحد يفعل هذا من أسفٍ شديد.
إذن يُقال معهم دين ولديهم دين، لكن يقولون أيضاً فيه دين، حين يتحدَّثون عن ولي صالح أو عن رجل برهن جوهرانية الدين في نفسه، برهن بذاته ومسالكه بما يأخذ وبما يدع بكلامه وبنظراته وبردود أفعاله وأفعاله على أنه ابن دين مُختلِف تماماً وعلى أن الدين عنده يعني شيئاً آخر تماماً وعلى أن الدين قادر على أن يُحيل الإنسان خلقاً أخر تماماً، ليس مثلنا وليس مثل أي أحد منا، ومن ثم نقول فيه دين، هذا الرجل فيه دين، صحيح فيه دين وهو في الدين وينضج في الدين، ليس مع الدين وليس بما لديه من دين، الدين الذي معي تماماً كالورقة أو أكثر من ورقة فهو حافظة النقود التي أحملها، طبعاً هذه وسيلة تُستخدم للمنافع والمصالح وتدبير العيش، ويُقال هذا الدين، هذا دين طقوسي آلي مملوك مُستعبَد لك، فحريٌ بألا ينجح البتة في أن يُغيِّر فيك أي شيئ نحو الإصلاح ، هذا هو الدين، لا يفعل شيئاً، ولذلك هذا مُتحالِف في باطنه – كما قلت لكم – مع الشرك والوثنية والكفر والإلحاد، وأي استفزاز لصاحبه يُسفر عن وجهه المُلحِد الحقيقي، هو مُلحِد حقيقي، ويشد الناس ويُمعِّطون شعورهم قائلين كيف هو متدين؟ أحياناً يكون عالماً في الدين وشيخاً بلحية، كيف باع دينه وضميره بالمال والنقود؟ عادي، هو باع ما لديه من دين، لم يبع دينه الذي عاش ونضج فيه، لو عاش ونضج فيه لا يُمكِن أن يبيعه حتى يبيع كيانه ووجوده، هذا مُستحيل، هو يُريد شيئاً يُدفَع ثمناً لشيئٍ من أجل أن يُثري وجوده وذاته، وذلك في هذه الحالة طبعاً الـ Ego، أي الذات المراوِغة الكاذبة، أما ذاك لكي يُثري وجوده الواعي الناضج لا يُمكِن أن يفعل هذا المال ولا الشهرة ولا المنصب ولا أي شيئ في الوجود، يفعله مزيد من طي المراحل إلى الله – تبارك وتعالى – وإلى التقرب من الله – تبارك وتعالى – وإلى عبادة الله وإلى التعرّف على الله تبارك وتعالى، المزيد من هذا يفعله فقط ولا شيئ آخر.

للأسف بقيَ لدينا زُهاء عشرين دقيقة فينبغي أن نُدلِف إلى عمق موضوعنا، كما تعلمون هذه خُطبة شتوية للأسف الشديد، نأتي الآن أيها الإخوة إلى العرفان والامتنان سبباً إلى الله وطريقاً إلى الله تبارك وتعالى، كيف أيها الإخوة؟ أعتقد أننا مهَّدنا مُمهَّدات وقدَّمنا مُقدَّمات تُعين الآن على استجلاء بعض أعماق هذا المعنى – معنى العرفان والامتنان ومعنى الشكر – من أهمها أنه ينبغي أن نكون واعين بالأساس الحقيقي وبالصخرة المُقدَّسة التي سنُؤسِّس عليها ملكنا، ليس الفيلا وكذا وإنما الملك، ملكي سأُؤسِّسه على هذه الصخرة، صخرة الفقر والاحتياج، ليست صخرة الاستغناء وإنما صخرة الفقر والاحتياج فانتبهوا، صخرة الاستغناء لا يُمكِن أن يُؤسَّس عليها إلا بناء مُتهافِت مهما علا طبعاً، لديه ملايين الأتباع وعشرات النساء وعشرات المراكب وهو قائد تاريخي كبير لكن هذا كله كلام فارغ، بناء من ورق على أُسس من ملح في المحيط، في كل لحظة كل شيئ يذوب ويتلاشي، وهو يذوب فعلاً ويتلاشي باستمرار ولن يجد نفسه، وهذا – كما قلت لكم – الذي يُولِّد منطق الجحود، الجاحد يقول لك لماذا الله يُطالِبنا إن كان موجوداً بأن نحمده وأن نشكره؟ هل هو يحتاج إلينا؟ ضلَّله منطق الاستغناء تماماً كما هو ينظر إلى الآخرين، من حيثية استغنائه ومن منظور استغنائه يقول لك الرب إذا كان موجوداً أولى أن يكون غنياً، أو لم يُصرِّح لك بأنه الغني لا إله إلا هو؟ ألم يقل لك في عشرات الآيات بأنه الغني فعلاً وبأنه لو آمن كل الناس أو كفر كل الناس لا يزيد هذا ولا ينقص ذاك في ملكه لا إله إلا هو؟ ألم تفهم هذا؟ ألم تفهم أن هذا من قواطع صورة الله ومن قواطع العقيدة – كما نقول – ومن قواطع الآيات ومُحكَماتها؟ صاحب هذا الشرع وصاحب هذه الأوامر – لا إله إلا هو – أليس هو موجد هذا الوجود؟ على الفرض على الأقل حتى وأنت تُخاطِب مُلحداً أو مُتشكِّكاً أو مُلتاثاً مستغنياً، أليس خالق هذا الوجود – وكل هذا الوجود ما نحن إلا ذرة تائهة فيه تقريباً – هو الله تبارك وتعالى؟ هل يتأثَّر هذا الوجود بكفر كافر أو بإيمان مُؤمِن؟ لا يتأثَّر أبداً، لو كفر كل الناس لن تتحرَّك – والله – ذرة أو مجرة، كله كما هو، كله خاضع لأمر إلهي وللسيطرة وللتدبير، اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ ۩ وقال الله أيضاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ۩، كله مملوك لله، هذه لام المِلك، كله لله لا إله إلا هو، فأحرى ألا يتأثَّر هو بكفرك أو إيمانك، ولذلك قال الله وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۩، كثير من العلماء رأوا أن إِنْ ۩ هنا في قوله وَإِنْ كَانَ ۩ هى النافية، يعني وما كان مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۩، على أن اللام هنا لام الجحد أو الجحود مثل التي في قوله مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ ۩ ومثل التي في قوله لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ۩، لام الجحود بعد صيغة لم يكن أو ما كان، لكن هنا قالوا بـ إِنْ ۩، وهذا شاذ عن القاعدة وعلى كل حال لا علينا، كثير من العلماء قالوا اللام هنا للجحود وقوله إِنْ ۩ للنفي، الله يقول وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، الله يقول لك امكر واكفر وافعل ما تريد وتخابث وتعفرت وتشيطن وتمرد أو تمردن والكون لن يهتز فأحرى ألا أهتز أنا وألا أتأثر أنا لأن لا إله إلا أنا، لا إله إلا الله، هذا شيئ عجيب، حتى وإن أخذنا الرأي الذي رجحه ابن هشام في المغني وغيره نجد أنه قال إِنْ ۩ هنا شرطية، قال الله وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۩، لام كي هنا، اللام لام التعليل، هذه لام كي، لكن الله يقول هم أرادوا هذا، أراودوا أن يمكروا مكراً يُزيل الجبال، فما زالت الجبال، زالوا والجبال لا تزال جبالاً، لم تتحرَّك الجبال، قال الله إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ۩ فضلاً عن أن تُزيلها، ما وجه الاحتجاج هنا؟ يُوجَد احتجاج إلهي، الله يقول لك الكون نفسه هو من مصنوعاتي، ما بدا لك من مصنوعاتي، الله أعلم ما هى مصنوعات الله وما هى خلائق الله وما هى أكوان الله التي لم نُدرِكها ولا خبر لدينا منها، الآن هذا كون واحد يُقال عنه كوزموس Cosmos، ماذا عنه؟ الضوء يمرح في خمسة وتسعين مليار سنة ضوئية، هذا شيئ لا يُصدَّق، قي خمسة وتسعين مليار سنة والضوء يرمح ويُبرطِع كما نقول ولن ينتهي لأن الكون يتسع أيضاً، الله قال لك كل هذا الكون كفرك أو إيمانك لا يهز فيه شعرة، فهل تظن أن كفرك أو إيمانك من المُمكِن أن يُؤثِّر علىّ أنا؟ إذا فهمت هذا أيها المُسلِم أو أيها المُلتاث أو المُلحِد أو المُرتَاب أو المُتسائل كيف يعن لك أن تسأل ما حاجة الله إلى تسبيحنا وتحميدنا وصلواتنا؟ ومَن قال لك أنه يحتاج هذا؟ هل هو قال هذا؟ هل هو قال لك أنني أحتاج أن تُسبِّحني؟ لم يقل هذا أبداً، هو قال لك سبِّح واحمد واعبد واشكر لك وليس لي، التوجه لي، فاللام هنا تكون للاستحقاق، نقول الحمد لله، هذه للاستحقاق، ما هى لام الاستحقاق؟ التي تكون بين ذات ومعنى، الحمد معنى والله ذات، ففي الحمد لله اللام للاستحقاق، وكذلك الحال مع الشكر لله والخق لله والأمر لله، هذه لام الاستحقاق، يُوجَد عندنا لام الاختصاص، وهى ملك بين ذاتين، المنبر للمسجد، المنبر للخطيب، السرج للدابة، المقعد للسيارة، الفيلا لفلان المليردير أو المليونير، وهلم جرا، هذه لام ختصاص فيها ملك، هذا الفرق بين هذا وهذا، طبعاً كون الله – تبارك وتعالى – هو المُستحِق أن يُتوجَّه إليه بالحمد والتسبيح والعبادة هو أمر مُقرَّر بلا تردد وبلا ارتياب، لكن إذا كان مُستحِقاً وإليه التوجّه بالعبادة والحمد والتسبيح والشكر هل يعني هذا مرة في لحظة أو لُحيظة من الدهر أنه يحتاجه؟ لا يحتاجه أبداً، ويقول لك افعل هذا وتوجَّه به إليّ – إلى مَن يستحقه – مِن أجلك أنت، لماذا مِن أجلي أنا؟حتى تعرف ذاتك، حتى تعود وتُدرِك المنطق الحقيقي والأساس الحقيقي الذي ينبغي أن تُقيم عليه مُلكك أو مملكتك، أي الصخرة المُقدَّسة، سوف تُدرِك صخرتك، ما هو هذا الأساس؟ الشعور بالفقر، وبالتالي يُولِّد الشعور بالفقر الحاجة إلى الاعتراف وإلى الامتنان، سوف تقول أشكرك يا رب، أحمدك يارب، هل تُريد أن تطمئن على إيمانكَ؟ هل تُريدين يا أختي أن تطمئني على إيمانكِ؟ اصبر وافحص وعيّر ورُز الطيف الذي تحرك فيه امتنانياً وعرفانياً، طبعاً كل واحد فينا حين يُرزَق بمبلغ من المال أو ببيت جديد أو بسيارة جديدة أو بشهادة أو بدرجة علمية أو بمنصب أو بطفل جديد أو بشيئ يُحِبه أو بشيئ يُدغدِغ الـ Ego – هذه الذات المُراوِغة الجاهلة المسكينة التي هى صنيعة المُجتمَع والثقافة والسائد – يشعر بالامتنان والعرفان وبطريقة أيضاً ميكانيكة آلية، يقول الحمد لله رب العالمين ويا رب لك الحمد والشكر آلياً، لأنه لم يعرفه جيداً، وبعد ذلك يطول عليه الأمد وينسى تماماً، لكن المُؤمِن الحق وهو إنسان حق وهو واعٍ دائماً وبشكل مُمتَد بل بشكل مُتكامِل مُتنامٍ – يتنامى باستمرار ويتعملق – لا يُمكِن إلا أن يظل مُمتَناً عارفاً في كل لحظة من اللحظات للأشياء التي لا نكاد نحن نشعر بها أو نحس بها، يشعر هو دائماً بهذا الامتنان، هذا عبد الله حقاً وهذا هو الإنسان، هذا الإنسان العميق يا إخواني.

سأختم بضرب مثل، قامت حرب كالحروب المجنون الحمراء الضروس التي تثور هنا وهناك من أجل أهواء الآلهة الملعونة الزائفة، ضل قوم ظنوا أن الآلهة هى تلك البائدة مثل اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى ولم يفطنوا إلى أن الآلهة مُتكثِّرة بعدد الأهوية والرغائب، قال الله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ۩، هناك آلهة لا عدد لها ولا حصر، كلها تُنتِج وثنيات مستمرة، تحجب ضوء التوحيد ومشهد التوحيد الحق وبالتالي فرصة العرفان والتعرف الحق على الله – لا إله إلا هو – والوصل به والشبك مع السماء، للأسف بسبب هذه الآلهة الملعونة الزائفة تثور حروب و دائماً هنا وهناك وتُسعَّر نيران هذه الحرب بإسم السياسة وبإسم المصلحة وبإسم الدين دائماً للأسف الشديد، وقعت حرب من هذه الحروب أو إن شئتم وقع إعصار مُدمِّر من الإعصارات العاتية المُنفلِتة أو كارثة جوية أو كارثة تحطم قطار أو اصطدام سيارة بسيارتك العائلية التي تحمل عائلتك – عشرة أنفارها أو سبعة أنفارها – كلها، مرة واحدة حصل بعد هذه الحرب أو بعد هذا الإعصار أو بعد ذاك الطوفان أو بعد هذا الاصطدام وإلى آخره أنك وجدت نفسك مٌلقىً على سرير في مشفى بعد أن فقدت الوعي لخمسة عشر يوماً، هذه أول لحظة تستفيق فيها وتستعيد فيها وعيك، أول ما تسأل ستسأل تلقائياً عن الأحب إلى نفسك، عن فلانة البنت أو الزوجة أو فلان الابن، ماذا حصل؟ الحمد لله هو بخير، استحلفكم بالله، والله هو بخير، أين هو؟ في غرفة أخرى، في العناية المُركَّزة لكن هو بخير، ستجرى له عملية، الله أكبر، يبدأ كل التركيز الآن أن يُنجيه الله تبارك وتعالى، بعد قليل تثوب إلى وعيك، ما فعلت فلانة الآن الزوجة؟ تشعر بقليل من الخجل والعار، هذه الزوجة التي هى شقيقة الروح ورفيقة درب الحياة وأم أبنائك وزهراتك، هى هى، الآن لابد أن أسأل عنها، الحمد لله جيدة لكن لا تزال في الغيبوبة، سأختصر لأن الوقت يُسابِقني ويُسارِقني وأقول من هذه اللحظة وعلى مبعدة سبعة أيام فقط سيتغيَّر كل شيئ، وفي الإبان سوف تعلم أن جارك بعائلة مثل عائلتك تقريباً بستة أنفار أو سبعة أو عشرة لم يبق إلا الزوجة والكل هلك، وهذا طبيعي في الكوارث، كلهم هلكوا، أما العائلة الفلانية لم يُوجَد منهم أحد، دُفِنوا تحت الردم أو غرقوا في اليم أو أخذهم الطوفان وهم يائسون، وهذا أمرٌ عجيب لكن هكذا حال العائلة الثالثة والرابعة والعاشرة، أنت الآن أعظم المُنى عندك أن تحظى بعدد أزيد، الزوجة موجودة لعل الله يُنجِّيها، وهذا الابن الحبيب كذلك وهكذا، ولكن تخشى الآن أن تسأل عن البقية، أنت وَجِل من أن تسأل حتى لا تسمع جواباً لا تُحِبه، على مبعدة سبعة أيام من اللحظة سوف تُبشَّر بخبر أن الكل ناجٍ، اقشعر بدني الآن وأنا أتكلَّم عن حادثة لم أعشها وأسأل الله ألا أعيشها وألا يعيشها أحد منكم أو منكن، على كل حال الكل نجا، عشرة الأنفار نجوا بلا عضو مقطوع وبلا عين مفقوءة وبلا أذن مقطوعة وبلا أي ضرر، أي أنهم نجو كاملين، الآن ما الذي يحدث؟ حين تنقلكم عربة واحدة إلى مُخيَّم آخر لغرضٍ أو لآخر جميعاً تنظر بعينين لم تمتلكهما من قبل قط إلى سائق العربة على أنه كائن عظيم وإنسان نبيل، أما الدكتور الذي طبَّب وعالج والمُمرِّضات هم شيئ آخر، هؤلاء ملائكة حقيقيون، لأول مرة تدرك أنهم ملائكة حقيقيون يدبون على الأرض، أعني هؤلاء البشر، لكن كل هذا لا يكفي، يقشعر البدن هنا، ودعك من هوس التطوريين الذين يقولون تقشعر أبداننا لكي تُذكِّرنا بانتفاش شعور أسلافنا من أشباه الحيوانات قبل بضع ملايين السنين، دعك من هذا الهوس الفارغ، أنا أعلم أنني أقشعر كبشر مُتعالٍ وأعيش الآن لحظة تعالٍ حقيقي، الآن أعيش لحظة Transcendental، وبعد ذلك تهمل الدموع وتنهمرغزيرة، وينعقد اللسان لأن اللغة تتقاصَر وتتقزَّم وتُدرِك تواضعها، ويغمرك من أُخمُصكَ إلى آخر شعرة في أعلى مفرقك شعورٌ بالعرفان وبالامتنان، إن كنت مُسلِماً أو مسيحياً أو يهودياً ستقول الحمد لله، يا ربي لك الحمد، وتُرسِل النظر إلى السماء العالية، إن لم تكن مُسلِماً أو يهودياً أو مسيحياً أو مُوحِّداً – قد تكون مُلحِداً – سيقشعر بدنك، ستفيض عيناك بالدموع وستشعر بلحظة التعالي هذه والله، وسلوا هؤلاء الملاحدة الذين عاشوا هذه التجربة، الآن السؤال لمَن تتوجَّه بهذا الحمد وبهذا العرفان وبهذا الشكر؟ إياك أن تقول لي للأقدار، الأقدار تُحيل على الله وأنت لا تُؤمِن بأقدار لأنك مُلحِد، لمَن؟ إياك أن تقول لي للطبيعة، الطبيعة هى التي دمَّرتك، إياك أن تقول للمُجتمَع البشري، هم الذين دمَّروك في الحرب، إياك أن تقول للكون، الكون دائماً يصلح أن يكون موضوعاً للامتنان، هو الذي يُثير الشعور بالامتنان وليس وجهةً للامتنان، الامتنان يستدعي وجهة عاقلة ووعياً آخر يُدرِك امتناني، لذلك أنا سعيد جداً بكلبي أكثر من سادتي بقطتي إلى حدٍ ما ونعتذر لأصحاب عشق القطط، وأيضاً أنا سعيد بقطتي أكثر من سعادتي بالسمكة في حوض السمك – Aquarium – عندي، أما سعادتي بابني وخاصة ابني ابن عشر سنوات الذي بدأ أن يكون مِلسناً مِنطيقاً وبدأ ينضج حتى عاطفياً أكثر من ذي قبل بكثير لأنه بدأ يُراهِق البلوغ وبدأ يقترب من سن الإدراك والرشد فأنا أشعر به وأنا أسعد به أكثر بكثير من سعادتي بكلبي وقطتي، لماذا؟ لأنه كائن مُمتَن واعٍ، يمتن ويتلقى الامتنان كواعٍ إزاء واعٍ.

إذن العرفان والامتنان له علاقة بالوعي، له علاقة برتبة الإدراك، قد يسأل سائل وهل لهذه الحيوانات العجموات تعاط مع مفهوم العرفان والامتنان والشكر؟ مع المفهوم لا، لكنها تُمارِسه وتحياه وتعيشه وفق رتبتها الإدراكية، ولذلك لا يُمكِن ولا يتسنى الحديث عن امتنان حقيقي عند الحيوانات، عند أمن الحيوانات – أعزكم الله – الكلب لا يُوجَد امتنان حقيقي، لماذا؟ هنا شطر هذا الامتنان غرزي، حين تُحسِن إليه يبدأ مُباشَرةً يتمحَّك فيك ويلحسك ويُظهِر لك ما تراه أنت امتناناً، وهو بلا شك درجة دنيا من الامتنان، وهى مقبولة منه ككلب، هل يُدرِك هذا الكلب الآثار الوسيطة والبعيدة لمعروفك الذي أسديته له؟ لا يُدرِك أبداً، هو يُدرِك الآن أنه لم يعد مُحتاجاً إلى الطعام لأنك أشبعت جوعته، لكن على المدى البعيد لا يُمكِن أن يُدرِك هذا فضلاً عن أن يُدرِك الآثار الوسيطة والبعيدة لتهذيبك إياه ولتريبتك إياه ولترويضك إياه حتى يكون كلباً مُميَّزاً في السباقات أو بين نظرائه الكلاب في المدينة أو القرية، لا يُدرِك هذا، بالمعنى ذاته الكلب أو الحيوان أيضاً لديه ذاكرة، ولكنها ذاكرة غير مُخطِّطة، جرِّب أسئ إلى كلب وأضربه تعدياً وظلماً ثم أبرِز له وجهك بعد سنة أو سنتين، مُباشَرةً يستوفِز ليُهاجِم، هذا أمرٌ عجيب، هل الكلب يحقد؟ لا يحقد أبداً، يقول العلماء – علماء الحيوانZoology – الكلب لا ينسى الإساءة، يتذكَّرها ولو بعد عشر سنوات، إذا رآك يأخذ هيئة المستوفِز لكي يُهاجِم، هذا الذي آذاني وهذا الذي داس على ذَنَبي قبل عشر سنوات، لكنه كما يقول هؤلاء العلماء الدارسون الخبراء لم يُخطِّط بالمرة لكي يحتفظ بهذه المشاعر لعشر سنوات أبداً، هو ينساها في اللحظة، لكن حين تلوح له مرة أخرى بوجهك يتذكَّر ويتصرَّف غرزياً بالمخ الوسيط، وقد حدَّثتكم عن الأمخاخ الثلاثة، فهو يتصرَّف بمخ الثدييات في الـ Limbic system، أي بمخ العواطف، الـAmygdala عنده تتحرَّك فيعرف أن هذا الذي آذاك تماماً، كما تتأثر أنت حين تعصف الريح أو تقصف مرة أخرى فينتابك فوبيا Phobia أو حالة من الهلع لأنك مررت بتجربة دمَّرت فيها الريح شيئاً من بيتك وربما جرحتك أو قتلت أحداً من أولادك، هذا نفس الشيئ، فذه مسألة لا علاقة لها بالوعي وبالمخ الحديث أو بمخ الإنسان، فالكلب لا يُخطِّط لسنة أو سنتين ولا لعشر سنوات، يتصرَّف برد فعل غرزيـ وامتنانه من النوع ذاته، لكن الإنسان شيئ مُختلِف، الإنسان يمتن مُدرِكاً آثاراً قريبة ووسيطة وبعيدة للخدمة وللنعمة.
تذكَّر دائماً أنك تعيش في نعم موصولة من الله – تبارك وتعالى – في كل شيئ، حاول أن تتفلَسف وأن تكون فيلسوفاُ كبيراً في أن تلتفت إلى ما لا تلتفت إليه في العادة من هذه النعم باستمرار، ونعود لكي نُحوصِل، أساس الشعور بالعرفان والامتنان إزاء الله لا إله إلا هو – أكبر مُنعِم وأكبر مان لا إله إلا هو، والمن لله واحده – وأيضاً بإزاء المانين المُنعمِين من البشر – مُسدي النعم والأيادي البيضاء من البشر – هو واحد، فالأساس واحد، ونعود مرة أخرى لكي نُحوصِل، ما هو الشعور بالاحتياج وعدم الوقوع والتورط فريسةً في براثن وهم الاستغناء؟ كل الكفرة كفرهم في الحقيقة كفر استغناء، كله فيه نوع من الاستغناء، حتى كفر الإعراض وكفر الجحود وكفر الكبر كله في النهاية وفي العمق فيه استغناء، يظن هذا المسكين أنه مُستغنٍ، لكن أنت بارئ بإذن الله، برَّأنا الله وإياكم من هذا الشعور اللعين ومن هذا الشعور الجاحد الكَفور، ي شعور الاستغناء، وطبعاً إزاء الله يكون أوضح وأكثر سفوراً وتجلياً شعور الاحتياج والفقروأننا لا نستغني عن رحمته – لا إله إلا هو – مع أن الناس يتفاوتون، واضح جداً أنك حين تلتقي بفقير مُعدِم مسكين بسيط خالٍ من أسباب الحياة فضلاً عن أسباب الرفاه أنك تتعامل مع إنسان واضح ظاهرياً بحسب الظاهر أنه أقرب إلى مشاعر العرفان وإلى تأكيد أساس الاحتياج من إنسان غني راكم الملايين أو الملايير، لكن هناك تشعر – ليس عند الكل وإنما عند البعض – بلمسات غير إنسانية، ما غير الإنساني هنا؟ ليس شرطاً أن يكون التوحشي، وإنماغير اللائق بالإنسان، أنا كإنسان وكمخلوق إسمي إنسان تليق بي أشياء – كما قلت – من حيثية المخلوقية، أس هذه الأشياء الفقر، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩،والله لو راكمت أموال قارون ووالله لو صرت ملك الدُنا كلها بل ملك العوالم السبعة والجزائر السبعة والله لا يُزايلك الاحتياج والافتقار يا مسكين، برغوث يُؤذيك، فيرس Virus يقضي عليك، ملك الموت في النهاية يضع حداً لهذه الحياة المُستطيلة عريضة كانت أو عميقة أو غير ذلك، لكنهم للأسف لا يُدرِكون هذا وتقريباً يُعرِبون عن منطق مُختلِف، تشعر هناك بجفاف الاستغناء وبغرور الاستغناء وبفخر وضحالة الاستغناء، أليس كذلك؟ الذي يصدر عن منطق الاستغناء فقير جداً، تشعر أن عنده فقر، فقر في فلسفة الحياة، فقر في المنظور، فقر في الروح، فقر في الشخصية، فقر في إنسانيته، حتى وإن أعطى ولم يُكد هناك فقر في الإنسانية بخلاف هذا الفقير المسكين الواعي والصادر عن منطق فقره واحتياجه.
يُوجَد معنى الآن لطيف جداً جداً وسأكون مُمتَناً لكم لو أدركتموه على أنه لطيف، هذا أيضاً من الامتنان، النظرات الحانية والأعين المُفعَمة بفرحة وسعادة أنها فهمت وأدركت شيئاً جديداً هذه نعمة علىّ أنا كمُلقٍ ومُتكلِّم وأمتن بسببها أيضاً، ولذا أمتن لكم، يجب أن نكون واضحين تماماً إزاء هذه الأشياء، ما هذا المعنى اللطيف؟ أنت تنطلق من المعنى الأكثر سفوراً وتجلياً وهو عدم الاستغناء بإزاء الله وعدم الاستغناء عن نعمة الله وعن رحمة الله، موسى يقول رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۩، بسبب رغيف خبز قال له أنا فقير، بسبب شربة ماء قال أنا فقير يا رب، وطبعاً بالأحرى فقير إلى ما هو فوق ذلك، إلى زوجة صالحة وإلى مسكن وإلى مأوى ومأمن آمن فيه من مُطارَدة فرعون اللعين وقومه، كل هذا أنا إليه فقير، لكن أنا فقير إلى ما لا يظن الناس أنهم إليه مفتقِرون، إلى كسرة خبز وشربة ماء – كرعة ماء – أنا فقير، حين تنطلق من هذا وتصدر عنه ويُوجِب عليه منطقاً جديداً تتسلح به سيُقال ما أحلاك وما أجملك كإنسان، ما أجملك كصديق أو كزوج أو كمُعلِّم أو كأستاذ أو كوزير أو كرئيس أو كقائد سيارة أو أياً تكن، لماذا؟ حاول أن تختبر هذا في نفسك، سأترك الجواب لديك، حين تُعِد لك زوجك طبخة هنية أو وجبة مُمتَازة مما تحب – هناك مَن يُحِب المحاشي وهناك مَن يُحِب الكبب وهناك مَن يُحِب السلطات، المُهِم مما تحب – هل تشعر بالامتنان؟ مع أن البيت بيتك لأنك اشتريتهومع أن المال مالك وأنت تُغدق عليها لكنك تشعر بالامتنان الحقيقي، لماذا؟ ليس واجباً عليها أن تخدمني، ليس واجباً عليها أن تطبخ لي، ليس من ناحية شرعية وإنما من ناحية إنسانية، بمنطق الفقر والاستغناء هذا ليس لازماً، ليس من اللازم أن تُجوِّد هذه الطبخة، أنا كلَّفت هذه المسكينة الكثير لكي تفعل هذا، أنت تشعر بالامتنان مع أنك في هذا اليوم بالذات أهديتها هدية بأربعة آلاف يورو، وهذه طبخة يُمكِن أن تأكل أحسن منها في أحسن مطعم في البلد بمائة يورو، أنت أعطيتها أربعة آلاف وتشعر بالامتنان، أنت عظيم، أنت جميل، أنت حين تُعطي لا تتذكَّر بعد قليل أنك أعطيت، تنسى ما أعطيت، دائماً تنسى ولا تشعر بالارتفاع عمَن أعطيت بل تخفض يدك وترى أن يده هو – كما أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها – هى اليد العليا ويدك المُعطية هى اليد السفلى، لا فضل لنا، قال الله قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۩، وقال أيضاً وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، مَن الذي مَوَّلني؟ مَن الذي أعطاني ثروة؟ مَن الذي أعطاني منصباً؟ مَن الذي أعطاني حكمةً ولساناً حتى أتكلَّم وأُعبِّر؟ مَن الذي أعطاني قلباً مُفعمِاً بالمعنى والإحساس حتى أشعر وأمتن وأعرف وأقول شكراً؟ هو، كله من عنده ومن لدنه ومن عطاياه لا إله إلا هو، فأنا عبدٌ الآن غنيٌ إنسانياً بمقدار شعوري بفقري وعدم استغنائي، أنا لست مُستغنياً ولست غنياً، أنا الفقير وابن الفقير، ولا أُريد أن أكون أنا المُكدي وأنا المان، المن لله وحده لا إله إلا هو، ما أجملك، ما أعظمك، ما أرزنك، ما أثقلك، يا أيها الملك أخطأوا وسموك بشراً، أنت ملك بل أنا أقول لك أنت تُجاوِز رتبة الملك، حتماً تُجاوِز رتبة الملك في هذه اللحظات، هذا الدين وهذا ما يفعله الدين، هل تعرف لماذا؟ لأنك مسجود الملك، ألم يسجد لك؟ هل ترى أنه سجد لك لأنك تسفك الدماء؟ أبداً، هذا كان موطن اعتراضه على استخلافك، هل ترى أنه سجد لك لأنك تُفسِد في الأرض وتهلك الحرث والنسل وتدّعي الإلهية وتصدر عن منطق الاستغناء والانتفاخ والانتفاج؟ أبداً، سجد لك لإنك ستفهم هذا وتصدر عنه يوماً، أنت أفضل منه، أنت لم تأخذ شيئاً جاهزاً ناجزاً، أنت أخذت شيئاً عبر العيش في شيئ، عبر العيش في الدين والعيش في الله والعيش في المعنى أنت وصلت إلى هذا المعنى، إذن أنت سبقت يا أخي ويا حبيبي ويا أختي ويا أمة الله سبقاً بعيداً تجاوزت فيه مصاف الملائكة، هكذا يصنع الإيمان بالله وهكذا تصنع العلاقة الحقيقية بالله الإنسان، الإنسان الذي لم يُولَد، الإنسان الذي لم نعرفه بعد، صنع مني ما لم أعرف وأريد أن أعرف عبر العيش والاختبار والتجريب، أن أُجرِّب وأعيش في هذه المعاني وليس معها، انتبهوا إلى هذا، الآن أنتم تسمعونها وتعيشون معها لكن بقيَ أن تعيشوا فيها وبها، إن عشتم معها لن تُجدي عليكم شيئاً لأن الإيمان بالله نفسه لن يُجدي عليكم إلا إلحاداً مُبطَّناً وكفراً مُقنَّعاً كما تعلمون في أُمثولة سماي وديني، هذا هو ما يُعطيه تأسيس منطق الحياة كلها على منطق الفقر والبُعد عن وهم الاستغناء، ولذلك تشعر في هذه اللحظة بأننا جميعاً نشترك في صفة أساسية جوهرية، أننا عبيد الله وخلق الله والفقراء إلى الله افتقار نجم أو مجرة بعيدة أو عصفور بلَّله القطر أو دودة تسعى إلى منجاتها أو جريح في حرب يسعى إلى شفائه ومعافاته ومُعاوَدة النظر في عيون أطفاله، كلنا ذاك الشيئ، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم كن لنا في كل أمرنا بالهداية والتسديد والتوفيق والإرشاد يا رب العالمين فإن شيئاً من ذلك لا يُقدَر عليه إلا بتوفيقك ومنّك وإفضالك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم عرِّفنا بك وعرِّفنا إليك ودلنا عليك دلالة الصادقين ومعرفة العارفين الوالهين العاشقين يا رب العالمين، ولا تحرمنا من نظراتك التي تُغيِّر جواهرنا إلى جوهرٍ ترضاه وتُسعِدنا به وتُنجينا به في الدنيا والآخرة، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات، أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

إخواني وأخواتي:
الآن بودي أن أُوضِّح ما المقصود بارتبط العرفان والامتنان بالوعي والإدراك، أعود إلى الأُمثولة أو المثل الذي ضربته، مثل الأسرة ذات العشرة الأنفار التي نجت، طبعاً واضح باللسان العامي العادي أنها نجت بمُعجِزة، نجاتها يُمثِّل مُعجِزة بمعنى أو بآخر، انتبهوا الآن يا إخواني وأخواتي، لماذا يشعر هذا الأب وأكيد طبعاً الأم وبقية أفراد العائلة من المُدرِكين بالذات الراشدين بهذا الشعور الغامر – كما قلت – الذي يغمرهم ويحتويهم ويتلبَّسهم بالامتنان والعرفان؟ واضح أنه امتنان وعرفان – كما قلت – لا يتوجَّه إلى الطبيعة أو إلى الأقدار، إنما يتوجَّه إلى كيان عاقل مُدرِك لائق بتلقي هذه المشاعر، هنا تُوجَد مشاعر بطبيعتها تتوجَّه إلى قوة عاقلة تتلقاها، من هنا – كما قلت لكم – طبيعة العلاقة تختلف بيني وبين سمكتي أو بيني وبين دابتي أو بيني وبين ابني، أنا أشعر الآن أن هذه القوة التي أمتن لها وأعترف بفضلها أكثر شعوراً بي من ابني بل أكثر شعوراً بي من كل الناس، من الطبيب الذي داوى ومن المُمرِّضة التي رعت ومن الأحداث التي ائتلفت بطريقة مُستحيلة ربما في عادي الأمور أن تأتلف لكي تُنتِج نجاة عائلتي جميعها بكل أفرادها، أي لكي تُعطي هذه المُعجِزة، وطبعاً أنا مُدرِك تماماً أن الملاحدة والسطحيين من البشر القشوريين سيقولون هذه صدفة،واضح أنها صدفة، والكون يحتوي على صدف أعجب من هذه بكثير، بدليل أنك قلت بلسانك أن جيران هذا الرجل قد فقدوا تقريباً مُعظَم أفراد أسرهم وربما مُحيت أسر من بكرتها منعلى وجه الأرض، هذا أمر واضح، ونجت هذه الأسرة، لكن انتبهوا إلى أن كل الأسرة نجت، كل أفراد الأسرة نجت، ولكلٍ منهم قصة فانتبهوا، وكلٌ منهم نجا في شروط وظروف مُعيَّنة وما كان ينبغي أن يحدث هذا، أنا أقول لكم هذا الشعور الغامر المُتلبِّس المحتوي بالامتنان والعرفان يرفض تماماً ويصرخ رافضاً هذا المنطق الغبي البليد، منطق الحس والمادة والصدفة، لا يود أصلاً أن يُصدِّق أن هذا يحدث صدفة، طبيعي ألا يحدث هذا لكل أحد، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لو كان يحدث لكل أحد لن يكون في هذه الحالة هناك ما يُدهِش أو يُعجِب أو يبعث على القشعريرة أصلاً، سوف يكون أمراً عادياً لأن الناس لا تموت في الكوارث، لكن الحال أن الناس تموت في الكوارث، وهذا معنى الكوارث التي تكرث الناس، غير الطبيعي وغير العادي أن ينجو الناس على هذا النحو من هذه الكوارث، كأن تنجو عائلة كاملة ولا تُفجَع بواحد من أفرادها، واضح أن هناك قوة مُعيَّنة ليس فقط برحمتها وبحكمتها وببرهانها طبعاً تُريد أن تُرسِل إلينا رسالة وبرهاناً، وطبعاً واضح أن براهين الإيمان ومنطق السماء ليسوا مثل براهين أرسطو Aristotle وليسوا مثل براهين فيزياء الكم وفيزياء النسبية، هذه براهين الإيمان فانتبهوا، هذه البراهين يتلقاها أناس لائقون بها، رجعنا إلى قضية نُؤمِن لنُدرِك أو نُدرِك ثم نُؤمِن، القرآن ينحاز في مرات كثيرة إلى أن عليك أن تُؤمِن لتُدرِك، طبعاً الإيمان هو سبيل الفهم، الإيمان هو سبيل الإدراك، الإيمان هو سبيل الاتعاظ، إذا ضيَّعت هذا الأساس لن تفهم أصلاً، كأنه يقول لك تسلح ولو اعتباطاً وتسلح ولو لوقت مُعين بمنطق آخر وبمنطق مُوازٍ، أنت الآن مُتشبِّث بالمنطق الأرسطي أو بالمنطق المادي الحسي لكن حاول أن تُجرِّب منطق الإيمان، وهو منطق مُخالِف، عنده قواعد مُختلِفة تماماً ويعمل إفرادياً، لا يعمل مجموعياً، وهو ليس منطقاً عاماً Common، هذا المنطق يعمل إفرادياً، ولذلك الهداية بيد الله، قال الله وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۩، فهذا المنطق يعمل إفرادياً، السماء تُريد أن ترسل لك رسالة ولمَن وعى هذه الرسالة، واضح أنك في هذه الحالة ترفض – كما قلت لك – تماماً منطق الصدفة ومنطق أن هذا يحدث وتُدرِك أن هذا لا يحدث، بخصوصك أنت هذا أُحدِثَ، هذا رُتِّب بطريقة هى أكبر من مُعجِزة، وهذا سيكون سبيلك إلى الله تبارك وتعالى، وصلت الرسالة على كل حال.

قبل فترة كنت أستمع إلى طبيب أمريكي من أشهر الأطباء في القارة الامريكية، هو طبيب مشهور جداً وحين تقرأ السيرة الذاتية – C.V – الخاصة به وتعرف ماذا شغل وما الأشياء التي أنجزها تُدهَش، شيئ فظيع جداً، من أكبر الأطباء في القارة هناك وفي العالم الجديد، هل تعرفون ما سبب إيمانه؟ طبعاً كان نصرانياً – أعتقد أنه كان كاثوليكياً – وبعد ذلك ألحد، في بداية العقد الثالث من عمره ألحد وأصبح Atheist، ما عاد يُؤمِن لا بإله ولا بأديان، ثم اهتدى وإلى ماذا؟ إلى الإسلام، إلى دين محمد، أنت تستمع وتبكي، تبكي ليس من التأثر فقط وإنما تبكي من الحسرة على أمتك وعلى شباب أمتك وعلى نفسك، هل تعرفون ما هى قصة هذا الطبيب العلم الكبير المُبَرِّز في فنه باختصار؟ هو يعلم – وهذا منطق الإيمان – أن هذا لا يحدث، هو يعلم هذا، مع أن الأطباء الذين عاينوا وعاشوا الحالة أرادوا أن يُفهِموه وأن يُفهِموا أنفسهم وأن يضحكوا على أنفسهم أن هذا أحياناً يحدث، وهو لا يحدث، يعلمون أنه لا يحدث، ولدت له بُنية أحبها كثيراً ساعة وُلِدت، كانت جميلة شقراء ولكن بعد حين إذا بجسد هذه البُنية يزرق كأنه اختنق بالكامل، لن نخوض في التفصيلات الطبية، لكنها كانت مُصابة بقصور مُعيَّن، هذا القصور وراثي خِلقي كما يُقال، وطبعاً لابد أن تُجرى لها عملية، وبعد فترة من الزمن تُجرى عملية ثانية وثالثة ورابعة وهكذا باستمرار ثم تنتهي إلى الوفاة، هذا أمر معروف، معروف أن هذه الحالة الطبية لا يُمكِن أن يعيش صاحبها، قد يعيش عشر سنوات أو اثني عشر سنة أو أربع عشرة سنة ثم يموت، حتماً لابد من أن يموت، لا يعيش عمراً عادياً لثلاثين أو أربعين سنة، لابد أن يموت، وهو طبعاً طبيب كبير مُتخصِّص فماذا يفعل؟ هو يعلم الحالة تماماً، والأطباء يعلمون الحالة تماماً، وهى حالة نادرة جداً يعلمونها تماماً فواجهوه بها، قال في هذه اللحظة لا أدري ما الذي حدث، تركتهم مُباشَرةً مع زوجتي ومع الطفلة في الغرفة – غرفة العناية – وذهبت إلى مكان خلوت فيه بنفسي، توجَّهت إلى السماء – من سنين لم أفعل هذا – وقلت له أنا إلى الآن قال لا أدري هل أنت موجود أم لا، ليس عندي أدلة، أنا ألحدت عن علم، علمي هكذا أداني، هذا وعيي وذاك منطقي، إن كنت موجوداً أرجوك وأتوسَّل إليك وأسألك أن تعد إلي ابنتي، وأنا من جهتي أعدك أنني سأبحث عنك وأتدين بالدين الذي ترضاه، علماً بأن هذا موجود على اليوتيوب YouTube، وأنت يُمكِن أن تراه وتسمعه بالإنجليزية كما هو، هذه ليست قصة في كتاب وما إلى ذلك، والرجل حي يُرزَق الآن وعنده مُحاضَرات عن الإسلام وفي العلم من ألطف ما يكون، هذا الرجل كمَلَه الله – سبحان الله – طولاً وعرضاً وجمالاً وعقلاً، والهداية من الله، نسأل الله أن يُثبِّت الهداية في قلوبنا، أي والله، اللهم لا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا بحق “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، قال وشعرت في هذه اللحظة بأنه استمع إليّ وبأنه لباني، قال وإذا أحدهم يأتي يبحث عني، قال تعال يا دكتور فلان، يبدو أن كل شيئ تغيَّر، قلت ماذا؟ قال كل شيئ تغيَّر، البنت الآن Okay، هى مُمتازَة وليس بها بأس، عمل لها بعض الفحوص وبعض التصاوير الجديدة ووجد كل شيئ على ما يُرام، قالوا هذا شيئ غريب، لا ندري ما الذي حدث، كل شئ تمام الآن، ستعيش حياتها طبيعية، عادت طبيعية بغير عملية وبغير أي شيئ، ألم تحدث الآن مُعجِزة؟ واضح أنها مُعجِزة، قال أنا وقفت ولم أُعلِّق بشيئ لأنني فهمت، هم لم يفهموا، يهزون رؤوسهم قائلين لا ندري ما الذي حدث ولكن قد حدث، هذا من المُمكِن أن يحدث، قال تركتهم لأنهم لن يفقهوا عني، بعيد جداً أن يفقهوا، كيف يقول لهم أنا اختليت برب لم أكن مُؤمِناً به – كنت مُتردِّداً – وناجيته بهذه النجوى ولباني؟ سوف يقولون له هل أنت جُنِنت؟ سبحان الله لن يفهموا هذا، يُريدون منطقاً خطياً ومنطقاً حسابياً، لكن منطق الإيمان ليس منطقاً خطياً وليس منطقاً حسابياً، ولذلك أنا أقول لك صدِّقني الحُجة عندك وهى أقرب إليك من حبل وريدك، لا تقل لي ألحدت عن علم أو ألحدت عن ضلال، لا تقل ضلَّلوني وأقنعوني، هل تُريد أن تهتدي؟ هذه سبيل الهداية، عليك أن تعيش تجربة البحث عن الهداية وحدك بصدق، واترك عنك المراءة والمُجادَلة والفخفخة الفلسفية والغلبة الكلامية والظهور المُتلفَز، هذه سبيل تدميرك، إياك أن تفعل هذا، إياك أن تُؤمِن وإياك أن تُلحِد لأجل الآخرين، لا تُؤمِن ولا تكفر لأجل الآخرين، عليك أن تفعل هذا لنفسك واعياً بنفسك.

إذن نحن نمتن ونشعر بهذه البرودة وبهذه القشعريرة وبهذا الشعور بالامتنان أحياناً لما لا نعلم إذا كنا لاأدريين أو تائهين، لكن نشعر أنها قوة أو جهة أو كيان يتلقى هذا الامتنان ويسمعه، القرآن يقول هذه المشاعر – مشاعر الامتنان والعرفان – وهذه القشعريرة وهذه البرودة السارية في دمائنا وجلودنا تحت أبشارنا هى طريق من طرق الدلالة على الله، الله يقول لك أنا أعرفه وأنا دللتك على هذا لكن أنت لم تُفكِّر، أين يارب؟ قال في مرات كثيرة أنا فعلت هذا، قلت في كتابي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ۩، ما المُراد بكلمة عَنِّي ۩؟ هل هو موجود أو غير موجود؟ قد يسألون عن هذا، وهذا يدخل في الآية، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ۩، أموجود ربك أو غير موجود؟ هل هو قريب أم بعيد؟ هل هو رحيم أم قاس؟ هل هو يسمع أو لا يسمع؟ هل هو يعلم أو لا يعلم؟ هل يُحدِث معجزات أو لا يُحدِث؟ هل يلطف بعبده أو لا يلطف؟ وهلم جرا من هذه الأسئلة – ما شئت من هذه الأسئلة – والجواب واحد، قال لك فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩، إذن هذا السؤال موضوع بقصور، هذا سؤال قاصر، هل هو موجود أو غير موجود؟ أنا لن أقول لك أنه موجود، يقول لك موجود ويُلبيك، لا تُضيِّع حياتك وأنت تُراكِم براهين فلسفية على أنه موجود، أول ما يلوح لك احتمال وجوده مثل هذا البروفيسورProfessor الأمريكي الذكي جداً العبقري – احتمال يكون موجوداً واحتمال يكون غير موجود، أي Fifty-Fifty – عليك أن تُرجِّح الآن، كيف تُرجِّح؟ بالدعاء، لذلك نحن نحتاج إلى خُطبة خاصة في فلسفة الدعاء عرفانياً ودينياً، اذهب اسأل وتوجَّه إليه، إذا حدثت استجابة حقيقية لكن إذا سألت سؤالاً حقيقياً فهذا يعني أن الأمر انتهى، قضية موجود أصبحت خلف ظهرك الآن، هو ليس موجوداً فقط وإنما هو موجود ومُهيمِن وراع ومُدبِر ورحيم ومُلطِف ومُفضِل – لا إله إلا هو – وأٌقرب إلينا من أنفسنا وأقرب إلينا من حبل الوريد، اللهم لا تحرمنا، إذن هذا معنى علاقة الإدراك بالعرفان، أكتفي بهذا والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

فيينا (14/11/2014)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: