طليعة التبيان (طليعة مُفصَّل البيان في حال ابن أبي سُفيان)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

إذن إخواني وأخواتي بلغنا إلى شهادة الإمام مالك بن أنس رضيَ الله تعالى عنه، يقول الذهبي في تاريخ الإسلام – كما قلنا – وقال مالكٌ إن مُعاويةَ نتف الشيب كذا وكذا سنة – ومعلوم أن النبي نهى عن نتف الشيب، طبعاً هذه ليست من كبير ذنوب مُعاوية، إن شاء الله سنُخصِّص حلقة أو حلقات طويلة لمُخالَفات مُعاوية لرسول الله ولسُنته ووقوع مُعاوية في المُحرَّمات الواضحة الأكيدة، وبعضها فيها وجوه، لكن هنا قال مالك إن مُعاوية نتف الشيب كذا وكذا سنة -، وكان يخرج إلى الصلاة – أي في المسجد – ورداؤه يُحمَل – انظروا إلى العُنجهية وما إلى ذلك، كأنه ملك بيزنطة، هو ملك، هل الرسول كان عنده رداء يُحمَل؟ اليوم يُقيمون الدنيا ويُقعِدونها قائلين كيف تلبس دشداشة أو كذا وتجر؟ هذه طويلة ويجب أن تُقصِّرها وكذا، والنبي قال وعمر قال وكذا، هذه إمامكم الكبير مُعاوية المُجتهِد، مُجتهِدكم مُعاوية كان رداؤه يُحمَل مثل الملوك، مثل الملوك في بيزنطة وما إلى ذلك -، فإذا دخل مُصلاه جُعِل عليه – يقول الإمام مالك أمراً هاماً لآن، هذا الشاهد -، وذلك من الكبر.

يقول مالك وذلك من الكبر، هذه أفعال المُتكبِّرين، وهذه صفات المُتكبِّرين، وطبعاً تعلمون الحديث الصحيح بلا مثنوية: لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من كبر، ليس مَن له ثوب عظيم جداً جداً جداً كثوب ملوك بيزنطة والقياصرة ويُحمَل وفي الصلاة في بيت الله، الإمام مالك لم يدعه، قال لابد أن نشهد الشهادة، قال ذلك من الكبر، الحمد لله الإمام مالك مُتوفى سنة تسع وسبعين ومائة، لو عاش اليوم لقيل له يا جاهل، يا زنديق، يا مُبتدِع، يا شيعي، يا مُترفِّض، يا زيدي، كيف تقول هذا لصحابي جليل؟ تباً لك، لكن الإمام مالك عنده مصداقية تاريخية وإمام طبعاً، رضوان الله تعالى عليه، حكى هذه الكلمة وما خفيَ كان أعظم، هذا فقط من باب الاستشهاد لكي نفهم، وإلا نحن – كما قلت لكم – في الحقيقة ننقل عن الأئمة المُعتمَدين، لو أردنا أن ننقل عن المُعتزِلة وعن كذا هناك أشياء كثيرة، لكن أُريد أن أقرأ عليكم شيئاً لأن الكلام في حق ذاته حق.

الإمام الجاحظ المُتوفى سنة مائتين وخمسين – من المُتقدِّمين وهو مُعتزِلي طبعاً – في رسائله له رسالة وجَّه بها إلى ابن أبي داود اسمها في النابتة، النابتة هم المُبتدِعة الضلّال الجهلة الذين ظهروا في زمانه، الذين يُحسِّنون جرائم ويعتذرون عن فواقر وبوائق بني أُمية، وربما وقعوا في بِغضة أهل البيت ونصبوا لهم العِداء، من هؤلاء النواصب هل تعرفون مَن؟ ابن أبي داود الذي وجَّه الجاحظ رسالته إليه، مَن ابن أبي داود؟ ابن الإمام الجليل نفسه، أبو داود هذا ابنه والعياذ بالله، كان ناصبياً، فالرسالة اسمها في النابتة، يتحدَّث فيها في البداية – رحمة الله عليه – عن طبقات الصحابة بعد رسول الله وكيف كانوا، إلى أن يقول في الصفحة العاشرة أو الصحيفة العاشرة – طبعاً هذه الرسائل مطبوعة في دار الجيل، بيروت بتحقيق العلّامة المصري الكبيرة وأشهر مُحقِّقي التراث تقريباً عبد السلام هارون رحمة الله تعالى عليه، وله طبعاً دُربة وتمرس وخصوصية بتحقيق تراث الجاحظ، حقَّق كماً هائلاً منه، حقَّق الرسائل وحقَّق البيان والتبيين وغير ذلك – إلى أن قتل أشقاها – ابن مُلجِم المُرادي لعنة الله عليه، هذه المعارف، هذه كلها مُعارِف مُهِمة جداً، الإمام أبو محمد عليّ بن حزم رحمة الله تعالى عليه يعتذر عن ابن مُلجِم لعنة الله عليه، يقول ابن مُلجِم قتل عليّاً مُتأوِّلاً، فالرجل مُجتهِد وأخطأ في اجتهاده، لا يلعنه ولا يتبرّأ منه، بخلاف عصريه حافظ المغرب العلّامة الكبير ابن عبد البر الذي يقول وكان فاتكاً لعيناً، لعنة الله على ابن مُلجِم قاتل عليّ، قاتل عمّار في النار، قاتل عليّ ليس في النار، أشقى الأمة، أشقى الأمم الآخرة، النبي هكذا وصفه، أشقى الآخرين، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، أشقى الآخرين ابن مُلجِم، ابن حزم قال لا، اجتهد فأخطأ، له أجر في قتل عليّ، الله أكبر، الله أكبر يا الهوى الأموي عند ابن حزم، ابن حزم طبعاً هواه أموي، واضح جداً أن هواه أموي، وكم له مثل هذه الغلطة، عفا الله عنه وسامحه، فالجاحظ رحمه الله يقول إلى أن قتل أشقاها، هو هذا وليس مُجتهِدها، يقول أشقاها، وهذا الحق، لذلك يُقال المُعتزِلي لا تسمع له، وهذا غير صحيح، هنا سأسمع للمُعتزِلي لأنه يقول الحق، لن أسمع لابن حزم السُني الظاهري لأنه مُتورِّط في باطل، باطل كبير هذا أن تقول لي اجتهد فأخطأ ابن مُلجِم لعنة الله عليه، أي اجتهد وقد سماه النبي أشقى الآخرين؟ يقتل أفضل عباد الله في زمانه ثم تقول لي اجتهد! يا لله، سيوافيكم اليوم كلام جميل جداً للعلّامة الأمير الصنعاني، المُجتهِد الكبير بل هو المُجتهِد المُطلَق عند الإمام الشوكاني في مثل هذا الاجتهاد، إذا كان هناك اجتهاد هكذا أنا أقول لكم لا تبقى معصية لعاصٍ، كل الأمة تُصبِح طائعة، الزُناة والقتلة والفجرة واللوطة، لن يُوجَد عاص أبداً لأنه اجتهد فأخطأ، كلام لا يقوله مَن عرف ما يخرج مِن رأسه – عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه فأسعده الله بالشهادة – الإمام عليّ – وأوجب لقاتله النار واللعنة، إلى أن كان من اعتزال الحسن عليه السلام الحروب وتخليته الأمور عند انتشار أصحابه وما رأى من الخير في عسكره وما عرف من اختلافهم على أبيه وكثرة تلونهم عليه، فعندها استوى مُعاوية على المُلك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المُسلِمين من الأنصار والمُهاجِرين في العام الذي سموه عام الجماعة – وهو سنة إحدى وأربعين، عليّ استُشهِد في سنة أربعين، عام الجماعة سنة إحدى وأربعين، تنازل الحسن لمُعاوية – وما كان عام جماعة بل كان عام فُرقة وقهر وجبرية وغلبة – هل تعرفون هذا العام ماذا سماه النبي؟ عام انتهاء الخلافة وابتداء المُلك، انتهت الخلافة، عام نحر الخلافة، ضحكوا علينا، أسكتوا رسول الله وما قال وقالوا نُسميه عام الجماعة وصدِّقوا، لا والله صدَّقنا! يُصدِّق مَن يُريد أن يُصدِّق -، والعام الذي تحوَّلت فيه الإمامة ملكًا كسروياً – هذا الحق – والخلافة غصباً قيصرياً، ولم يَعْد ذلك أجمع الضَّلال والفسق – هو هذا -، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتَّبنا – عن مَن هنا؟ عن مُعاوية -، حتى رد قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً مكشوفاً – لا تقل لي تأوَّل -، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر – في قضية استلحاقه زياد ابن سُمية أو ابن أبيه -، مع إجماع الأمة على أن سُمية لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وأنه إنما كان بها عاهراً فخرج بذلك – أي مُعاوية – من حكم الفجار إلى حكم الكفار.

عند المُعتزِلي هو كافر، الجاحظ قال كفر بهذه الطريقة، أنت ترد الحكم النبوي هكذا بلا شُبهة عنده تكون كافراً، وطبعاً نحن لا نُوافِق أنه كفر بهذا الشيئ!

ثم قال وليس قتل حُجر بن عدي وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر وبيعة يزيد الخليع والاستئثار بالفيء واختيار الولاة على الهوى – ما معنى على الهوى؟ أي بحسب الهوى – وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة إلا من جنس جحد الأحكام المنصوصة – هنا إلا ساقطة وأنا وضعتها، لا أعتقد أن العلّامة عبد السلام هارون يفوته هذا، هذا من التطبيعات، المعنى لا يستقيم إلا بالإ طبعاً وهذا واضح جداً – والشرائع المشهورة، والسُنن المنصوبة، وسواءٌ في باب ما يستحق من الإكفار جحد الكتاب وردّ السُنة إذا كانت السُنة في شهرة الكتاب وظهوره إلا أن أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليها أشدّ، فهذه أول كَفرةٍ كانت في الأُمة – أول كَفرة بالفتح، لا تقل كُفرة بالضم، أي فعلة كافرة، تُسمى ماذا؟ الكَفرة، قال فهذه أول كَفرةٍ كانت في الأُمة – ثم لم تكن إلاّ فيمن يدّعي إمامتها – هذا الإمام والخليفة والملك، وذلك عن مُعاوية – والخلافة عليها، على أن كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومُبتدِعة دهرنا فقالت: “لا تسبوه فإن له صُحبةً، وسب مُعاوية بدعة، ومَن يُبغِضه فقد خالف السُنة” فزعمت – يقول الجاحظ فزعمت – أن من السُنة ترك البراءة مِمَن جحد السُنة.

حق السُنة هنا منطقي، تتحدَّث عن رجل جحد السُنة ورد قضايا رسول الله وتقول لي من السُنة ألا أتكلَّم فيه! أي سُنة هذه؟ أي عقل تتكلَّم به؟

قال ثم الذي كان من يزيد…وتحدَّث عن يزيد وما فعل يزيد وعن عُبيد الله بن زياد وأشياء عظيمة يُمكِن أن تعودوا لها، هذه الرسالة طبعاً تُقرأ في مجلس واحد، لا تزيد عن عشرين صحيفة، رسالة النابتة للجاحظ رحمه الله تعالى.

نأتي الآن إلى الإمام الحنفي الجليل أبو بكر أحمد الرازي المعروف بالجصاص المُتوفى سنة سبعين وثلاثمائة، هذا مُجتهِد مذهب، هذا من أكبر أماثل الحنفية وهو مُجتهِد مذهب، له كتاب عظيم الفائدة اسمه أحكام القرآن، يُفسِّر فيه آيات الأحكام في كتاب الله تبارك وتعالى، طبعة دار الفكر البيروتية، المُجلَّد الأول، سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين ميلادية، أعني الطبعة، نأتي الآن إلى نص طويل لكنه مُفيد، سأقرأه بطوله وعلى طوله لأنه مُفيد، فيه فوائد علمية وفقهية وتفسيرية، هذه الصحيفة التاسعة والتسعون، طبعاً هذا كله كلام ضمن أو في أعطاف الكلام على قوله تبارك وتعالى لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩، قال الله وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ  – أن يكونوا أئمة – قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩، وتحدَّث طبعاً حديثاً جيداً دقيقاً في معنى الإمام، في نهاية المطاف استروح الإمام أبو بكر الرازي – الجصاص – إلى أن الإمامة أعم من أن تكون إمامة الرياسة العُظمى للخلافة، هذه تدخل فيها دخولاً أولياً إمامة العلم والفقه والقضاء وحتى إمامة الصلاة، كل مَن يُتبَع في شأن من الشؤون الخيّرة الشريفة لهداية الناس وسياسة أمورهم يُعتبَر إماماً، هذا مُحصَّل قوله، قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩، إبراهيم قال له وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ ۩، فالله أجابه قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩، ماذا يقول الإمام الجصاص؟ ومِن الناس مَن يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق – كل هذا نص طويل وفي النهاية سوف نرى أن مُعاوية فاسق ظالم عند أبي بكر الجصاص الحنفي الرازي، فهو يُمثِّل به، جعله مثالاً واضحاً ضمن آخرين – وأنه يفرّق بينه وبين الحاكم – الحاكم مَن هو هنا؟ القاضي، الحاكم ليس بمعنى الرئيس، وإنما الحاكم هو القاضي، قال يُوجَد فرق بين إمامة الفاسق وبين الحاكم – فلا يُجيز حكمه، وذُكر ذلك عن بعض المُتكلِّمين وهو المُسمى زُرقان، وقد كذب في ذلك وقال بالباطل، وليس هو أيضا مِمَن تُقبَل حكايته – قال أبو حنيفة ليس هذا مذهبه، أبو حنيفة معروف، مذهبه شديد في هذه المسائل -، ولا فرْق عند أبي حنيفة بين القاضي – أي الحاكم، انظر إلى هذا، فهو الآن عرَّفه وقال القاضي – وبين الخليفة في أن شرط كل واحدٍ منهما العدالة وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكماً، كما لا تُقبَل شهادته ولا خبره لو روى خبراً عنه عليه السلام – عن النبي -، وكيف يكون خليفةً وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة؟ وكيف يجوز أن يُدّعى ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أُمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً.

فلما خيف عليه قال له الفقهاء: فتول شيئاً من أعماله أي شيء كان حتى يزول عنك هذا الضرب فتولى له عد أحمال التبن الذي يدخل – أبو حنيفة، الله أكبر على الإمام يا أخي، هذه الإمامة، هذه التقوى، ليس كاليوم، سأقولها كلمة واسمعوا عني هذا جيداً يا إخواني وأخواتي، ليس كاليوم والنار تُحمى لإشعال المنطقة بحرب طائفية دينية، يُراد تفجير منطقة الشرق الأوسط، انتبهوا إلى هذا، وذلك بحرب بين الشيعة والسُنة، وتُؤرَّث النيران وتُزكّى يومياً بألف أسلوب وأسلوب، ونرى من العلماء والمُفكِّرين والمشائخ والدُعاة مَن يندلق ويندلع في هذه المسألة زعموا باسم الدفاع عن الشيعة وباسم الدفاع عن السُنة وباسم الدفاع عن أهل البيت وباسم الدفاع عن الصحابة، والله يعلم أن كثيراً منهم على الأقل كاذبون وجاهلون، ومنهم الجاهلون أيها الإخوة، لذلك لا يُمكِن أن يُسحَب فتيل هذه الأزمة إلا بالكلام المُعتدِل المُتوسِّط الحق، تُقال الحقائق لنا وعلينا سُنة وشيعة، يرضى السُني مرة ويغضب مرة، يرضى الشيعي مرة ويغضب مرة، لا علينا، يتعلَّم الكل، على الكل أن يتعلَّم الإنصاف والمعدلة، تبدأ تُوزِّن الأمور بميزان دقيق من غير تعصب ومن غير تأريث للنيران والأحقاد، لكن أين مَن يفعل هذا؟ لأن السُلطان لا يُريد، السُلطان يُريد أشياء أُخرى، فهمها طلب السُلطان من شيئ وأشار به وأعرب عن رغبته فيه ما شاء الله لبوه من وقتهم ومن فورهم، ولتسعد أعداء الأمة، وسوف ترون مصداق كلام هذا، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أبو حنيفة لم يكن كذلك، هذا الإمام – فخلاه، ثم دعاه المنصور – أبو جعفر – إلى مثل ذلك فأبى، فحبسه حتى عد له اللبن – أي الأحجار أو الطوب – الذي كان يضرب لسور مدينة بغداد – عمل حقير جداً جداً جداً لكن لا يتولى منصباً كالإفتاء أو القضاء وما إلى ذلك، أبو حنيفة لا يفعل هذا – وكان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي – إمام أهل الشام -: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف – ما المُراد بالسيف؟ الخروج على السُلطان الظالم، أي الثورة Revolution، تخرج بالسيف كما خرج القرّاء بقيادة عبد الرحمن بن أبي الأشعث على الحجّاج اللعين الممسوخ – يعني قتال الظلمة فلم نحتمله – لا نخرج على أئمة الجور والظلم -، وكان من قوله: وجوب الأمر – أي كان وجوب الأمر من قوله – بالمعروف والنهي عن المُنكَر فرضٌ بالقول، فإن لم يُؤتمَر له فبالسيف، على ما روُيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار ونسّاكهم – أي عبّادهم – عن الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، فقال: هو فرض – أبو حنيفة – وحدَّثه – أبو حنيفة حدَّث إبراهيم الصائغ – بحديث عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الشهداء حمزة بن عبد المُطلِب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المُنكَر فقتل. فرجع إبراهيم – أي الصائغ – إلى مرو وقام إلى أبي مُسلِم صاحب الدولة فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق، فاحتمله مراراً ثم قتله.

هذه الفتوى تسبَّبت في قتل إبراهيم الصائغ، أبو حنيفة ما شاء الله عليه، وهذا رجل صالح، رضيَ الله عنهما، نُكمِل: وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة – أي في الثورة، حين ثار على هشام – مشهورة – كان يجمع له النقود ويُؤلِّب على هشام ويُفتي  بدعم الإمام زيد في خروجه على السُلطان الأُموي-، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نُصرته والقتال معه – هذا معروف، أبو حنيفة رجل ثائر، ولذلك أبو حنيفة كما ترون بالذات من بين الأئمة الأربعة مكروه عند المُحدِّثين، مَن المُحدِّثون؟ في الجُملة هؤلاء كانوا الجهاز الثقافي والإعلامي والدعائي والتبريري للدولة، قالوا مجروح، أبو حنيفة إنسان غير ثقة، إنسان جاهل لا يعرف العربية، قال بأبا قبيس، لا يعرف الحديث، يحفظ سبعة أحاديث فقط، أبو حنيفة عنده عشرة مسانيد، مسانيد أبي حنيفة، لا يعرف الحديث وجاهل بالعربية، لماذا دان له العلماء الكبار إذن في عصره؟ لماذا تلامذته فطاحل العلماء؟ هل كذا كانوا جهلة ولا يعرفون أن هذا الرجل جاهل؟ هذا غير صحيح، هذا كله تشويه للسُمعة، آخر هؤلاء رجل قبل سنين يُؤلِّف كتاباً يزيد أو يربو على أربعمائة صفحة جمَّع فيه كل ما قيل في سب أبي حنيفة والإقذاع في حقه وتكفيره وتفسيقه وزندقته، يُحيي هذه الأقول السيئة والعياذ بالله، الأقوال المُتهافِتة في أبي حنيفة، ما هذا الحقد؟ طبعاً ما زال علماء السُلطان يفعلون هذا، هذا قبل بضع عشرة سنة فقط، والكتاب عندي، أزيد من أربعمائة صفحة، هذا أبو حنيفة رضوان الله تعالى عليه، يبقى أبو حنيفة أبا حنيفة، كما قلت في الخُطبة أكثر مَن عُبِدَ الله بمذهبه إلى اليوم أبو حنيفة، ومات شهيداً بالسم، في السجن سمَّموه، رضوان الله تعالى عليه – وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن – محمد النفس الزكية، وإبراهيم أخو النفس الزكية، أولاد عبد الله بن الحسن المُثنى، معروف مذهبه -، وقال لأبي إسحاق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل ؟ قال: مُخرَج أخيك أحب إلي من مُخرَجك.

وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة، وهذا إنما أنكره عليه – يقول أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص – أغمار أصحاب الحديث – هو هذا، المُحدِّثون هؤلاء أنكروا على أبي حنيفة، كيف يقول بالخروح على الظلمة، لكن لا يُسمونهم الظلمة وإنما الأئمة، أئمة الزمان – الذين بهم – قال بهؤلاء، أي بالمُحدِّثين الأغمار هؤلاء – فُقِدَ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام – بالتبرير وقال صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم وإن جلد ظهرك وأخذ مالك وإن وإن وإن، اصبر واحتسب واسكت، ما هذا؟ قال ضيَّعوا الإسلام، الرازي قال هذا، أصحاب الحديث ما شاء الله فعلوا هذا، الجهاز الأُموي الخطير أوالجهاز الثقافي الفظيع أفسد عقلية الناس، خصاهم كما أقول دائماً، خصى الناس -، فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر كيف يرى إمامة الفاسق؟ – من أين جاء الغلط؟ لماذا اشتُبِه هذا على أبي حنيفة؟ من أين إذن؟ هذا مذهبه وهذه حياته، الآن يُفصِّل، هذه القطعة الثانية الآن من الموضوع فانتبهوا، وهنا نبدأ ندخل في موضع الشاهد – فإنما جاء غلط مَن غلط في ذلك، إن لم يكن تعمد الكذب من جهة قوله وقول سائر مَن يُعرَف قوله من العراقيين – قول مَن؟ قول أبي حنيفة، أي من هذه الحيثية، لأن أبا حنيفة وسائر العراقيين قالوا شيئاً، ماذا قالوا؟ يُمكِن أن نقول باختصار لكن الأحسن أن نقرأ لكم -، أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة – أبو حنيفة لم يستجز هذا لنفسه لكنه قال شيئاً إذا كان القاضي عدلاً في نفسه ورعاً ثقةً تقياً وسيحكم بأحكام الله وبالكتاب والسُنة ولا حاكم جائر أو حاكم ظالم من حكّام بني أُمية أو بني العبّاس وحكم، الآن السؤال الجديد: تنفذ أحكامه أو لا تنفذ؟ أبو حنيفة وسائر العراقيين قالوا تنفذ، لا نُبطِلها، وهذا كلام فقه واقع، هذا من فقه الواقع على كل حال – وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فسّاقاً وظلمة، وهذا مذهبٌ صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه إمامة الفاسق – الفاسق لا يؤم، لكن إن أم هل تكون صلاتي خلفه باطلة؟ قال لا، هي صحيحة، لكن المفروض ألا يؤم الفاسق، والمفروض ألا يُستخلَف فاسق، لكن إن استُخلِف الفاسق وبعد ذلك بعض الناس عمل له هل هذا ينفع؟ هل قضاياه تكون صحيحة؟ قال صحيحة، إن استُخلِف الفاسق وأعطى بعض الناس بعض ما يستحقون مثل شيئ من مال الأُمة هل يُؤخَذ؟ قال خُذه، هذا حقك، حقي في يد الظالم، وصلني بعض حقي، قال خُذه، وقد أخذوا العطايا، وهنا موضع الشاهد الآن فانتبهوا -، وذلك لأن القاضي إذا كان عدلاً فإنما يكون قاضياً بأن يُمكِنه تنفيذ الأحكام وكانت له يدٌ وقدرةٌ على مَن امتنع من قبول أحكامه حتى يُجبِره عليها، ولا اعتبار في ذلك بمَن ولاه؛ لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه.

وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً؛ ألا ترى أن أهل بلدٍ لا سُلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على مَن امتنع مِن قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذاً وإن لم يكن له ولاية مِن جهة إمام ولا سُلطان؟ وعلى هذا تولى شُريح وقُضاة التابعين القضاء من قبل بني أُمية – بدأنا نفهم الشاهد، قال بنو أُمية الظلمة، ظلمة فسقة، لكن هناك عدول مثل شُريح وسائر العدول منهم تولوا لهم، قال لا تُوجَد مُشكِلة، أحكامهم صحيحة -، وقد كان شُريح قاضيا بالكوفة إلى أيام الحجّاج، ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد الملك – انظر إلى الألفاظ، ألفاظ مَن؟ الرازي المعروف بالجصاص، قال لا في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد الملك، وبالمُناسَبة أحد العلماء المُسلِمين قبل بضع عشرة سنة زارني في البيت وتناقشنا في مسألة أُمية وبني أُمية، فجرى الحديث أو تطرَّق إلى ذكر عبد الملك، فقلت له عبد الملك الظالم، غضب غضباً وقام على رجليه قائلاً عبد الملك ظالم! قلت له من أظلم عباد الله يا أخي، والإمام الذهبي ذكر هذا، وسيرته مزبورة، قال لي مُستحيل، هذا كذا وكذا، قلت له عجيب يا أخي، قال لي أنا درَّست التاريخ، قلت له أنت درَّست التاريخ! غريب إذا كنت درَّست التاريخ في الجامعة طبعاً وتقول هذا، قلت له دعني آتك بما قال الذهبي، قال لا، أنا أذهب، قلت له هذا هو، كنا جلوساً في مكتبتي، قلت له بيننا وبين النُبلاء والذهبي أقل من مترين، نأتي بالكتاب وأقرأ لك، قال لا، والله منعني، لم أستطع لأن لا تُرضيه الحقيقة، هو عنده عبد الملك شيئ كبير، فهؤلاء لا يقرأون وهذه المُشكِلة، هذا أستاذ وبروفيسور Professor في الجامعة، أنا أقول لكم لا يقرأون، عيب أن تتكلَّم فيما لا تعرف، نعود إلى الإمام الجصاص -، ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجّاج – أحد هؤلاء كتب تعليقاً يسبني وقبل أيام قرأته، طبعاً هم لا يُحسِنون إلا السباب، الحمد لله نحن بضاعتنا الدليل والعلم والفقه والوعي والحرية والاستقلال، هم بضاعتهم السباب والشتائم، وكل إناء لا أقول بالذي فيه يرشح بل ينضح، لأن ليس عندهم إلا السباب، وعندهم هذا كثير، لا يملون السباب، الكلام صفة المُتكلِّم، أنت كما تقول، أنت لست إلا سبّاباً عيّاباً، نحن أهل علم وتحقيق، فقط أنت هكذا ونحن هكذا، وعند الله تجتمع الخصوم، والناس تحكم بفضل الله، الناس لها عقل ووعي، لماذا؟ من أجل أنني تكلَّمت في الحجّاج، غضب غضباً شديداً، الحجّاج عنده شيئ كبير، إن شاء الله لا يجعله من الصحابة، إن شاء الله لا يجعله أحد الصحابة العظام أو من أهل بيعة الرضوان، شيئ غريب، الحجّاج! الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز لو تخابثت الأمم فأتت كل أمة بخبيثها بمعنى اجتمع يوم القيامة كل خبثاء الأمم وجئنا بالحجّاج وحده لغلبناهم، عمر بن عبد العزيز الأُموي رضوان الله تعالى عليه، الخليفة الراشد العاقل التقي قال هذا أخبث من كل خبثاء الأمم، لعنة الله على الحجّاج إلى يوم الدين، لعنة الله عليه، الحجّاج هذا أهان وحقَّر أصحاب رسول الله، أنس بن مالك بدر منه شيئ لم يُعجِبه فختم في عُنقه، ختم كالدواب يمشي به بين الناس، ويذهب إلى الصلاة مختوماً، أنس بن مالك! – وكان عبد الملك أول مَن قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر – لكن كيف؟ لا يقتصر الأمر على القطع فحسب وإنما يتجاوز حتى إلى القتل، أي بالموت أيضاً، بالخوف وبالرعب يفعل هذا، لا يقطعها بالسكين، يا ليت كان الأمر كذلك، اقطع لساني واتركني، لكنه يقطع رأسك كله، يقطع الذي فيه لسانك -، صعد المنبر فقال: “إني والله ما أنا بالخليفة المُستضعَف – مَن هو؟ عثمان، قال أنا لست كعثمان، وهل يُمكِن أن تكون عند التراب الذي يسير عليه عثمان يا عبد الملك؟ – يعني عثمان – سوف تقول لي تناقضت، أنت قبل قليل قلت ممنوع أن نُشبِّه الإنسان بالتراب، وهنا سأقول لك الإنسان العادي وليس الكافر، سماه الجصاص الكافر الظالم، وأنا لا أُكفِّره طبعاً، أي لا أُكفِّر عبد الملك، لكن هذا مذهب الجصاص وطريقته، ليس الظالم الفاجر اللعين، بالعكس هذا الدابة خيرٌ منه، يوم القيامة سيتمنى إن لم يعف الله عنه أن يكون دابة يُقال لها كوني تراباً، سيتمنى أن يكون نسياً منسياً وليس تراباً فقط، انتبهوا إلى هذا، فقبل قليل كنت أتحدَّث عن الإنسان العادي الذي كرَّمه الله –  ولا بالخليفة المُصانِع – يعني مَن؟ مُعاوية – يعني مُعاوية وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها في أنفسكم؛ والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه” – خرَّب الله بيتك يا عبد الملك، أتضرب عنق المُوحِّدين لأنهم يقولون لك اتق الله؟ قال نعم، كلمة اتق الله أضرب بسببها العنق – وكانوا يأخذون الأرزاق من بيوت أموالهم – بيوت المال وما إلى ذلك، وليس هذا فحسب، هشام هذا ذات مرة أخذ أرزاق الجُند لسنة، يُؤخِّر شهراً بعد شهر وشهراً بعد شهر وأخذها، فهو يأخذها أرزاق الناس وأرزاق الجُند، شيئ غريب – وقد كان المختار الكذّاب يبعث إلى ابن عباس ومحمد بن الحنفية وابن عمر بأموال، فيقبلونها – أرأيت؟ يجوز أن تأخذ الأموال والأرزاق من هؤلاء الظلمة -، وذكر محمد بن عجلان عن القعقاع قال: كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر “ارفع إليّ حوائجك” – الخليفة الراشد الخامس كتب إلى عبد الله بن عمر ارفع إليّ حوائجك – فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن اليد العُليا خير من اليد السُفلى وأحسب أن اليد العُليا يد المُعطي وأن اليد السُفلى يد الآخذ، وإني لست سائلك شيئاً ولا راداً عليك رزقاً رزقنيه الله منك والسلام – إذا بعثت من عندك سآخذ، لكن أنا لا أسألك، وقد كان الحسن – وهو البِصري طبعاً، إذا ذُكِر الحسن وحده يكون المقصود البِصري طبعاً، إلا أن يكون معروفاً من خلال السياق أن الحديث عن الحسن بن عليّ وما إلى ذلك – وسعيد بن جبير والشعبي – عامر بن شراحيل – وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من أيدي هؤلاء الظلمة، لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم – هذا كلام في مُنتهى الأهمية، هل تعرفون لماذا؟ سيقول لك أحد هؤلاء يا أخي  الحسن بن عليّ كان يأخذ الرزق من مُعاوية والحُسين كان يأخذ وفلان من أهل البيت مثل ابن عباس كان يأخذ، وهذا يعني أنهم يُقِرون بمُعاوية، يرونه ما شاء الله إماماً عدلاً، هذا غير صحيح، هذه ليس لها علاقة بتلك، هذه أموال الأمة، هل يأخذون من بيت أبيه وأمه؟ هل يأخذون من عرق جبينه وكد يمينه؟ يأخذون بعض حقهم يا أخي، هذه حقوقهم، كما يأتيك اليوم إمام ظالم مثل رئيس أو ملك ظالم وبعد ذلك يُعطي بعض الناس بعض ما لهم، فيقول أحدهم لا تأخذ من الظالم، هل أنت أخذت من رزقه؟ يا أخي هذا بعض رزقي، أليس كذلك؟ كالقذّافي مثلاً ومُبارَك، هذه أرزاق الأُمة، وقد سرقوا منها الملايير، سرقوا منها وأنفذوا من أعداء الأمة الملايير، كيف لا نأخذ؟ هذا بعض ما لنا، وهذا لا يعني أننا نُقِر إمامتهم ولا نتولاهم ولا نُحِبهم، هذه ليس لها علاقة، هذه مسألة ثانية، انتبهوا واحفظوا هذا، هذا كلام مُفيد لأنه علم -، وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوقٌ لهم في أيدي قوم فجرة.

وكيف يكون ذلك على وجه مُوالاتهم وقد ضربوا وجه الحجّاج بالسيف – حين خرجوا عليه، ثورة ابن الأشعث -، وخرج عليه من القرّاء – العبّاد والعلماء – أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم فقاتلوه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز ثم بالبَصرة ثم بدير الجماجم من ناحية الفرات بقرب الكوفة وهم خالعون لعبد الملك بن مروان لاعنون لهم مُتبرّئون منهم – انتبهوا الآن، هذا سنختم به، الآن موضع الشاهد، هل فهمتم كيف كان السياق كله؟ ماذا يقول الإمام الجصاص؟ – وكذلك كان سبيل مَن قبلهم مع مُعاوية – واضح جداً، يقول مُعاوية مثل عبد الملك ومثل الحجّاج ومثل كل هؤلاء الظلمة، ظالم من الظلمة، بل هو الذي سن لهم سُنة الظلم والتغلب والتملك، ومَن سن سُنة سيئة والعياذ بالله كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، يُقال مُجتهِد مأجور، لا مأجور، كِل له أنت الأجر يا مسكين، تتحكَّم أنت في عطيات الله وتظن أن هذا يجوز بهذه الأساليب! – حين تغلَّب على الأمر بعد قتل عليّ عليه السلام – هنا الجصاص الحنفي يُسلِّم على مَن؟ على الإمام عليّ، يقول عليه السلام وهو ليس شيعياً طبعاً – وقد كان الحسن والحسين يأخذان العطاء وكذلك مَن كان في ذلك العصر مِن الصحابة وهم غير مُتولين له – لمَن؟ لمُعاوية، انتبهوا إلى هذا، يقول مُعاوية أحد الظلمة، أحد الظلمة الفسقة الفجرة، لا نُواليه، نأخذ أرزاقنا على أنها حقوق لنا في يد هذا الظالم، الجصاص يقول الظالم – بل مُتبرّئون منه – حين قلت على المنبر أنا أبرأ إلى الله مِن مُعاوية وأفعاله جُنَّ جنونهم، كيف تكون عندك هذه لجرأة؟ أنا أتكلَّم بعلم، أنت لست أهبل، أنا لست ولداً صغيراً، أفهم ماذا أقول، أفهم ماذا يخرج من رأسي بفضل الله عز وجل، حتى ولو كنت مُنفعِلاً أعرف كل ما أقوله، عليكم أنتم أن تعرفوا وأن تفهموا وأن تُراجِعوا العلم، استوثقوا لأنفسكم، الحكاية ليست بالاستغفال – على السبيل التي كان عليها عليّ عليه السلام – قال هم يتولون أباهم وطريقة عليّ عليه السلام ويتبرّأون مِن مُعاوية ومن طريقته – إلى أن توفاه الله تعالى إلى جنته ورضوانه.

فليس إذا في ولاية القضاء مِن قبلهم ولا أخذ العطاء منهم دلالة على توليتهم – أي توليهم – واعتقاد إمامتهم…. أعتقد أن النص واضح جداً، الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص من أئمة الأحناف ومُجتهِد مذهب، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

نأتي الآن إلى شيئ من نقل عن مُعتزِلي آخر – مُعتزِلي وليس شيعياً، بالعكس الشيعة لا يعترفون به، ويرد عليهم في أشياء كثيرة ويُدافِع عن أبي بكر وعمر وعثمان في مسائل أيضاً مُحدَّدة ويترضى عليهم ويدفع عنهم الشُبهات، لا علاقة له بالشيعة، ليس شيعياً – وهو عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد رحمه الله تعالى،  طبعاً هو مُتوفى سنة ستمائة وست وخمسين للهجرة، من أهالي القرن السابع، معي الآن الكتاب الشهير الكبير الحفيل – فيه فوائد عجيبة، بعضها لايُوجَد إلا فيه، والرجل كان موسوعةً تتحرَّك على الأرض، موسوعة في العلوم والمعارف رحمة الله عليه، هذا ابن أبي الحديد المُعتزِلي – شرح نهج البلاغة، المُجلَّد الأول، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى، سنة ألفين وأربعة، يقول في صفحة مائتين وخمس وثمانين وكان مُعاوية على أُس الدهر – يقول على الدوام، أي من يوم يومه كما نقول بالعامية، هذا معنى على أُس الدهر، انظر إلى هذا التعبير، عنده لغة عجيبة ابن أبي الحديد، وهو أديب كبير، فهذا التعبير يعني من يوم يومه بالعامية – مُبغِضاً لعليّ عليه السلام، شديد الانحراف عنه، وكيف لا يُبغِضه وقد قتل أخاه حنظله يوم بدر وخاله الوليد بن عُتبة، وشرك عمه في جده وهو عُتبة، أو في عمه و هو شيبة على اختلاف الروايه، وقتل من بنى عبد شمس نفراً كثيراً من أعيانهم و أماثلهم.

ثم يقول في صفحة مائتين وسبع وثمانين ومُعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله يُرمى بالزندقة – هكذا قال، وقد رأينا أبا الحديد وما عنده، قد تقولون لي هذه عظيمة جداً وكبيرة، هل ترون شيخاً مثل هذا يقولها هكذا جهلاً أو كفراً بكل بينة وما إلى ذلك؟ لا، هناك أشياء جعلتهم يتأوَّلون، يجتهدون في هذا الحكم، بما أن الحكاية كلها بالاجتهاد هم يجتهدون في الحكم على مُعاوية بالزندقة، مُعاوية اجتهد في كل ما فعل ما شاء الله وهم يجتهدون – وقد ذكرنا في نقض السُفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد والتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما تظاهر به من الجبر والإرجاء ولو لم يكن شي‏ءٌ من ذلك لكان في مُحارَبته الإمام – أي عليّ عليه السلام – ما يكفي في فساد حاله – أن تتصدى لعليّ أمر عظيم – ولا سيما على قواعد أصحابنا وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار – المُعتزِلة معروف مذهبهم، مُتشدِّد في هذه المسألة – والخلود فيها إن لم تكفرها التوبة.

طبعاً نحن لا نُؤيِّد مذهب المُعتزِلة في هذه المسألة، لكن هذا قول ابن أبي الحديد!

نأتي الآن إلى العلّامة التفتازاني، سعد الدين التفتازاني مُتوفى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، في آخر القرن الثامن الهجري، هذا كتاب شرح المقاصد في علم الكلام، وهو من الكتب المشهورة والقوية العميقة، في المُجلَّد الخامس يتحدَّث عن الصحابة وأطال النفس شيئاً في الإعراب عن مكانتهم ورفيع منزلتهم وجليل مُقامهم وما ينبغي من توفير حشمتهم وتعريف ما لهم من حق، إلى أن أعرب في الصفحة ثلاثمائة وعشرة – هذه طبعة عالم الكتب، طبعاً بيروت، الطبعة الأولى، سنة ألف وتسعمائة وتسع وثمانين، المُجلَّد الخامس – عن مكنونه وبث ما عنده دون كبير تردد على أنه لم يُصرِّح بالأسماء، فلنسمع ماذا قال العلّامة الحنفي التفتازاني الماتريدي رحمة الله عليه.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن اسم الكتاب فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم شرح المقاصد، هذا في خمس مُجلَّدات.

قال في صفحة ثلاثمائة وعشرة أن ما وقع بين الصحابة من المُحارَبات والمُشاجَرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم – وعليكم أن تستفيدوا وأن تستنبطوا مَن المُراد ببعضهم – قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق وكان الباعثَ له الحقدُ – ليس يجوز إلا هذا في الإعراب: وكان الباعثَ له الحقدُ، اسم كان لابد أن يكون الحقد هنا وإلا يختل المعنى – والعنادُ الحسدُ واللدادُ – والمُؤمِن لا يكون خصماً لدوداً، لكن هذا الذي حاد خصمٌ لدود وحسود وحقود كما يقول التفتازاني، هذا الكلام يُذكِّركم بكلام مَن؟ العلّامة الإمام المُجدِّد رشيد رضا في المنار، قال مُعاوية بغى على عليّ لأنه حسده، وحسدهُ لعليّ جره إلى البغي عليه فخرج عليه، وهذا الكلام صحيح، هذا كلام الأئمة والعقول المُستقِلة أيها الإخوة، هذه عقول مُستقِلة تُحِب أن تفهم الحقيقة – وطلب المُلك والرياسة – الباعث الحقدُ والعنادُ الحسدُ واللدادُ وأيضاً طلب المُلك والرياسة – والميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس – هذه جُملة مُهِمة – كل صحابي معصوماً – قال هذا مذهبي، لا تقل لي هذا صحابي، ما معنى أنه صحابي؟ هل هو معصوم؟ هل هو لا يُخطيء؟ – ولا كل مَن لقيَ النبي صلى الله عليه وسلم بالخير موسوماً…. ليس لأنه رأى النبي أصبح خيّراً، قال ليس خيّراً، قال هذا ليس شرطاً، وطبعاً واضح أن الإشارة لمُعاوية بن أبي سُفيان وأشياعه بشكل واضح، وتكلَّم بعد ذلك كلاماً عن نهاية الإمام الحُسين عليه السلام، يقول وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ويبكي له مَن في الأرض والسماء وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور، فلعنة الله على مَن باشر أو رضيَ أو سعى وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ۩.

الله أكبر، انظر إلى البيان، انظر إلى الكلام، انظر إلى كلام الإمام الصادق، علماً بأنه كان من أعيان أولياء الله – التفتازاني – وله كرامات من أعجب ما قرأت في حياتي، فاقرأوا ترجمته في كتب التراجم، شيئ غريب الرجل هذا، كلام عجيب يا أخي حين تحدَّث عن نهاية الحُسين – عليه السلام – وما جرى في الجُملة على أهل بيت رسول الله، قال هذه أمور مُتواتِرة لا تخفى وهي مفهومة، وطبعاً مفهوم الباعث عليها، يُقال اجتهد فأخطأ، هذا اجتهد فأخطا، يزيد اجتهد فأخطأ، يزيد تأوَّل، شيئ غريب يا أخي، ما هذا الدين؟ دين الاجتهاد الخطّاء هذا! فهو ماذا يقول؟ فلعنة الله على مَن باشر أو رضيَ أو سعى ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، لكم البُشرى، اليوم تستمعون في اليوتيوب YouTube – اذهبوت إلى اليوتيوب YouTube وشاهدوا هذا – إلى بعض المشائخ – ما شاء الله – وإلى ما يقولون، بعض المشائخ يتحدَّثون ويقولون كلاماً عجيباً، أنا لم أكد أُصدِّق ما أرى وما أسمع، والله لم أكد أُصدِّق!

يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ                   حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ.

نعوذ بالله من عمى البصيرة، حينما تعم البصيرة تر السوء حسناً والحسن مُنكَراً وتتخيَّل الزجاج جوهرة والبعرة دُرة، شيئ لا يُصدَّق، هل تعرفون ماذا يقول هذا لا أقول الشيخ – عيب يُقال الشيخ، إذا كان هو الشيخ أنا لست شيخاً ولا علاقة لي بالمشيخة، سموني أي شيئ، إذا هذه المشيخة فأنا لست شيخاً، أعوذ بالله – وإنما هذا المُتمشيخ أو المُتمسلِف والعياذ بالله منه؟ يقول أنا لو كنت في زمن يزيد لقاتلت الحُسين بيدي، والله الذي لا إله إلا هو، اذهبوا إلى اليوتيوب YouTube واكتبوا شيخ – مثلاً – يتمنى قتال الحسين أو شيخ كذا وكذا، والرجل عنده أدلة، يأتي بأدلة كما يفهم الأدلة، تعساً لك ولأدلتك، شيئ لا يُصدَّق أيها الإخوة، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.

هذا الإمام التفتازاني رضوان الله تعالى عليه، لدينا الإمام تقي الدين المقريزي رحمه الله تعالى، هذا عصري ابن حجر، تقي الدين المقريزي المُتوفى سنة خمس وأربعين وثمانمائة، قبل وفاة الحافظ ابن حجر بزُهاء سبع سنين، لأن الحافظ تُوفى سنة اثنين وخمسين وثمانمائة، فهو توفى قبل وفاة ابن حجر بسبع سنين، تقي الدين المقريزي صاحب الكتاب الماتع الجامع الحفيل الإمتاع: إمتاع الأسماع، هذا كتاب في بضعة عشر مُجلَّداً، يتحدَّث عن رسول الله ووقائعه ومُعجِزاته وما له من الأزواج والأولاد والأعمال والخالات والعمات والدواب والسلاح وكذا وكذا، شيئ غريب، هذا إمتاع الأسماع للمقريزي، وهو صاحب الخطط المشهورة، خطط المقريزي، وصاحب الرسالة التي سنقرأ منها نُتفاً ونُبذاً وهُتاماتٍ وهي النزاع والتخاصم، الذي كان بين بني أُمية وبني هاشم، وسوف نرى رأي المقريزي السُني الحنفي في بني أُمية وفي مُعاوية على الخصوص، ولكن في الحلقة المُقبِلة إن شاء الله تعالى، فكونوا معنا!

 (تابعونا في الحلقات القادمة)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: