الأخبار والآثار

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين وآله وصحبه أجمعين.

نعوذ إذن إلى كلام الحافظ الذهبي رحمة الله تعالى عليه، قال الذهبي وأشبه منه قوله – عليه السلام -: اللهم مَن سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة أو كما قال. ثم قال مُباشَرةً على الولي وقد كان مُعاوية معدوداً من الأكلة.

عجيب، كأن الذهبي يُشير إلى أن الرسول أُجيب فيه، لماذا ختم بهذه العبارة؟ قال وقد كان مُعاوية معدوداً من الأكلة، رجل يأكل كثيراً، سوف نرى!
بعد ذلك في المُجلَّد الرابع عشر من سير النُبلاء، صفحة مائة وثلاثين – الآن هو أمامنا وسنقرأ منه -، قال: قلت لعل أن يقال، هذه منقبة لمُعاوية – لا أشبع الله بطنه – لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو سببته، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة.

للمرة الثانية يُعيد نفس الكلام الإمام الذهبي رحمة الله عليه، كما قال في تذكرة الحفّاظ – الذهبي نفسه في تذكرة الحفّاظ، الجزء الثاني، صفحة ستمائة وتسع وتسعين – لعل هذه منقبة لمُعاوية، يُؤكِّد على نفس المعنى، لعلها تكون منقبة، هي منقبة، كيف تكون منقبة؟ سوف نرى!

من قبل الإمام النووي – النووي في القرن السابع والذهبي في الثامن – ماذا قال في شرحه على مُسلِم؟ وقد فهم مُسلِم رحمه الله من هذا الحديث أن مُعاوية لم يكن مُستحِقاً للدعاء عليه – النبي دعا عليه وهو لا يستحق هذا الدعاء، مُسلِم هكذا فهم -، فلهذا أدخله في هذا الباب.

طبعاً كما تعلمون عنوانات أبواب صحيح مُسلِم ليست لمُسلِم بل للإمام النووي، مُسلِم نعم نظم أحاديثه في سلك ورتَّبها ترتيباً بديعاً لكن لم يُعنوِن لأبوابه، مَن الذي عنوَن وبوَّب؟ النووي، هناك باب مُهِم، ماذا سماه النووي؟ هذا طبعاً البر والصلة والآداب، في صحيح مُسلِم هناك كتب، مثل كتاب الإيمان وكتاب الطهارة وكتاب كذا وكذا، يُوجَد كتاب اسمه كتاب الصلة والبر والآداب، فيه باب عنوَنه النووي بقوله مَن لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً، أي لا يستأهل، لا يستحق الدعاء عليه، ماذا سيحدث؟ سوف نرى!

هذا يعني أن النووي استروح إلى هذا التأويل، إلى أن هذه تُصبِح منقبة لأن هكذا فهم مُسلِم، وقال النووي حتى أنا هكذا فهمت، النبي دعا عليه وهو لا يستحق، ليس أهلاً، فماذا ستستحيل؟ ستسحيل رحمةً وزكاةً وقُربة، يُقرِّبه الله يوم القيامة!
قال ابن كثير في البداية والنهاية وقد انتفع مُعاوية بهذه الدعوة في دُنياه وأُخراه – هذه دعوة مُبارَكة، عجيب يا ابن كثير، كيف يا شيخ الإسلام؟ عجيب يا حافظ -، أما في الدنيا فإنه لما صار في الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرات – كم مرة يأكل؟ سبع مرات، التفتوا إلى هذا، لافت جداً الموضوع، يقول ابن كثير كان يأكل في اليوم سبع مرات -، يُجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: والله ما أشبع، وإنما أعيى -أتعب، لا أشبع، فهو لم يشبع، يقول ابن كثير سبع مرات وكررها مرتين -. وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.

هنا ضحكت ملء شدقي من الحافظ ابن كثير عفا الله عنا وعنه، لا فائدة، يُريدون أن يُحوِّلوا الدعوة عليه التي أشقته إلى منقبة وشيئ مُمتاز، يأكل ليل نهار، ما المُشكِلة؟ وبصل وثوم وحلوى وما إلى ذلك، سبع مرات يأكل، قال وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك، شر البلية ما يُضحِك، وهذا التأويل للحافظ ابن كثير وغيره – والله – بلية، وسوف ترون الجواب عنها وعن كل هذا الكلام!
النووي ذكرت كلامه قبل قليل، أتبعه بقوله فإن قيل: كيف يدعو – أي النبي – على مَن ليس هو بأهل الدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء، ومُختصَره وجهان: أحدهما أن المُراد ليس بأهلٍ لذلك عند الله تعالى، وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مُستوجِبٍ له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والثاني أن ما وقع مِن سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية، كقوله: تربت يمينك، وعقرى حلقى – قال هذا لصفية والحديث في الصحيحين، حين حاضت وقت طواف الوداع، فقال عقرى حلقى ما أراها إلا حابستنا، هذا معروف وهو في الصحيحين – وفي هذا الحديث (لا كبرت سنك) وفي حديث مُعاوية لا أشبع الله بطنك ونحو ذلك لا يقصدون بشيء – قال لا أشبع الله بطنه وهو جعلها من وصل الكلام، هذا غير صحيح، هذا تدليس في التأويل واضح، والعرب لا يقولون لا أشبع الله بطنه ككلمة قاتله الله ولا ما إلى ذلك، هذا غير صحيح، هذه دعوة النبي دعا بها، لا تُقال في درج الكلام، هذا غلط، هذا يُؤخَذ بالسماع – من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يُصادِف شيء من ذلك – أي من دعائه – إجابةً – هذه كلمة عظيمة، هل تعرفون لماذا؟ فيها إشارة إلى أن رب العالمين يستجيب من النبي بغض النظر عن مقصد النبي، النبي يقول لك قاتلك الله وهو يقصد امتداح فعلك فيستجيب رب العالمين وتقع فعلاً في حرب مع الله، أستغفر الله العظيم، أنا أقول لك هذا إله اليهود، إله يغضب ويتصرَّف بنزق ويتصرَّف على عجل ثم يندم، ليس الله تبارك وتعالى الذي نعبده وتعرَّف إلينا في كتابه الكريم، هذه كلمة عظيمة من الإمام النووي غفر الله لنا وله، قال فخاف صلى الله عليه وسلم أن يُصادِف شيء من ذلك إجابة، كأن هذا بالصُدفة، هذا غير صحيح، الله يعلم قصد النبي بالذات وقصد كل أحد، ما قصدك؟ هل قصده أن يدعو أم هذه كلمة تُقال في درج الكلام؟ أليس كذلك؟ قال بالصُدفة قد يُستجاب، ما هذا الكلام العجيب؟ قال فخاف صلى الله عليه وسلم أن يُصادِف شيء من ذلك إجابة -، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمةً وكفارةً، وقُربة وطهوراً وأجراً، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا مُتفحِّشاً ولا لعّاناً ولا مُنتقِماً لنفسه.

قال الشيخ الألباني في صحيحته، الجزء الأول، صفحة مائة وواحد وعشرين: قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يُساعِدهم على ذلك – حديث لا أشبع الله بطنه -، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم؟ – في الحديث نفسه أنه كان كاتباً للنبي، طبعاً هذا لا يتم الاستدلال به للألباني إلا إذا افترضنا أن الكتابة للنبي تعني المحفوظية وحُسن الخاتمة، والأحاديث الصحاح تدل على غير ذلك، هناك الذين ارتدوا وهم كتاب، ما هذا الكلام الفارغ؟ قال كيف يدعو عليه وتكون الدعوة فعلاً فيه وفي الحديث أنه كان كاتباً له؟ ما معنى أنه كان كاتباً له؟ هل الكاتب محفوظ ويُختَم له قطعاً بالحُسنى؟ غير صحيح، هذا كلام فارغ، أرأيت؟ أي أنه بنى شيئاً على جُرفٍ هارٍ لكي تكون هناك حُجة لا وزن لها لكي يُقنِعك بها، ليس هكذا يكون الاحتجاج، على كل حال قال هذا – ولذلك قال الحافظ ابن عساكر إنه أصح ما ورد في فضل مُعاوية -، وأنا بيَّنت أن ابن عساكر اجتزأ فقط بموضوع الكتابة وليس لا أشبع الله بطنه، إلا إذا كان قصد الألباني هذا، فأهلاً وأسهلاً بهذا، أي أن الكلام عن كونه كاتباً وليس عن لا أشبع الله بطنه -، فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود، بل هو ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وسلم – هذا كلام النووي – في بعض نسائه عقرى حلقى وتربت يمينك. ويُمكِن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة مُتواتِرة – مثل شارطت ربي، علماً بأن على مبلغ اطلاعي البسيط لم أر مَن سبق الألباني إلى ادّعاء التواتر في حديث مَن لعنته وسببته، لم أر هذا، ولا حتى محمد بن جعفر الكتاني في كتابه الجامع على تساهله جداً فيه، الكتاني لم يدع تقريباً حديثاً قيل فيه إنه مُتواتِر إلا أتى به، وهو نظم المُتانثِر من الحديث المُتواتِر، لم يذكر حديث شارطت ربي ومَن لعنته وسببته، فلم أر بحسب مبلغ علمي وقد أكون مُخطئاً مَن سبق الألباني إلى ادّعاء تواتر حديث المُشارَطة هذا، أنا أُسميه حديث المُشارَطة. منها – يقول من هذه الأحاديث المُتواتِرة – حديث عائشة رضي الله عنها – طبعاً هو يُروى عن عائشة وعن جابر وعن أبي هُريرة – قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء – هذا في صحيح مُسلِم، ذكره مُسلِم في نفس الباب، وذكر له عدة روايات – لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله مَن أصاب مِن الخير شيئاً ما أصابه هذان؟ – كأنها في الحقيقة هنا تُلاطِف النبي، هي لا تعرف المُشارَطة وتقول له ما شاء الله عادا بخيرٍ كثير، طبعاً هي تقصد بشرٍ كثير، لقد سُبا ولُعِنا على لسان رسول الله – قال: وما ذاك؟ – لماذا تقولين هذا؟ ما قصدك؟ النبي فهم ما تُريد – قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما – هذان خُرِبَت بيوتهما -، قال: أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المُسلِمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاةً وأجراً.

انتهى كلام الألباني، آخر شيئ عندنا – الفقه يُطِل برأسه الآن، هذه طريقة الفقهاء – ابن حجر الهيتمي – رحمة الله عليه – في كتابه تطهير الجنان واللسان، هذا في الدفاع عن مُعاوية بن أبي سُفيان والنهي عن ثلبه، قال حديث لا أشبع الله بطنه لابد أن يُؤوَّل، وبالنسبة لمُعاوية وكونه لم يُجِب النبي مرة ومرتين فلعل مُعاوية فهم أن الأمر لا يقتضي الفورية، وهذا رأي كبير للأصوليين، قال له تعال ولكن ليس الآن، الأمر لا يقتضي الفورية، فهو قال تعال لكن ليس شرطاً أن ألبي الآن، لعلي أُلبي بعد ساعة أو بعد أن أنتهي مما أفعله أو بعد أن أغتسل أو بعد أن أقضي حاجتي أو بعد أن أنام، الأمر لا يقتضي الفورية، هذا رأي مَن؟ ابن حجر الهيتمي، وهذا عجيب، هل أنت مُقتنِع به يا ابن حجر؟ قال نعم طبعاً، لم لا؟ ابن حجر الهيتمي المُتوفى سنة تسعمائة وثلاث وسبعين وهو شافعي، شارح المنهاج وصاحب الفتاوى الحديثية والفقهية والزواجر عن اقتراف الكبائر والأعلام بقواطع الإسلام والصواعِق المُحرِقة، فهو معروف، وسوف نرى كيف يكون الرد على ابن حجر وعلى كل هؤلاء.

أفضى بنا الكلام الآن إذن إلى تفنيد ما ذُكِر، كيف سنُجيب عن كل هذه الشُبهات وهذه التمحلات الباردة والاعتذارات الكاسدة لمُعاوية وعن مُعاوية؟ نأتي إلى قول مَن قال أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليه لكي لا يجوع يوم القيامة لأن أطول الناس شِبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة فالحديث وإن زعم الذهبي عدم صحته فيه نظر، الحديث مقبول، بفرض صحته – سوف نقول أنه صحيح خلافاً للذهبي – وهو الراجح – أنه صحيح – فقد كان غير مُعاوية مِمَن ثبت صلاحهم وعظم يقينهم وعُرِفَت سابقتهم من الصحابة أولى بهذه الدعوة المُبارَكة، أليس كذلك؟ لو كانت هذه دعوة مُبارَكة والنبي يدعو عليك لكي لا تجوع يوم القيامة لابد أن يأتي النبي بكل أصحابه ويقول يا أبا بكر لا أشبع الله بطنك ويا عمر لا أشبع الله بطنك وهكذا، لكي ينتفعوا بها يوم القيامة، أليس كذلك؟ لماذا خص مُعاوية بهذه المكرمة ما شاء الله؟ ولم يسبق منه لأحد من أصحاب السابقة أنه دعا عليه بمثل هذه الدعوة، إذا كانت هذه منقبة فهذا أولاً، ثم أنه لا يُعرَف – هذا جواب مُهِم من عندي – من هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئٌ من هذا القبيل، هذا الشيئ يُعرَف بالاستقراء، لابد أن تعرف كثير من السُنة وتستقري، لابد أن يكون عندك شعور بروحية رسول الله، لا يُعرَف من هدي رسول الله شيئٌ من هذا القبيل، ما هو؟ أن يدعو على أصحابه بالفقر – مثلاً – لكي يخف حسابهم يوم القيامة، لماذا؟ لأن الأغنياء أطول الناس حساباً، وهذا طبيعي طبعاً، أنت عندك مليار – مثلاً – ومن ثم سوف تُحاسَب على المليار يا حبيبي، إذا كان عندك مليم سوف تُحاسَب على مليم، أليس كذلك؟ على هذا الطرز كان لابد أن يدعو النبي على أصحابه بالفقر، كأن يقول اللهم أفقرهم أو يقول لهم أفقركم الله، لماذا؟ لكي يخف حسابكم يوم القيامة، كأن يقول اللهم لا تُشبِعهم لكي لا يجوعوا يوم القيامة، هل هذا من هدي النبي؟ وهذا إلى الآن الفقر، هناك أمور أُخرى، ليس من هدي النبي أن يدعو على أصحابه بالفقر أو بالبلايا والمصائب كي يعظم أجرهم ومثبوتهم يوم القيامة وتُكفَّر ذنوبهم، لأن معروف أن البلايا والمصائب التي تُصيب الإنسان في الدنيا ويستعين عليها بالصبر تُكفِّر عنه كثيراً ويعظم أجره ومثبوته، هل دعا النبي في حياته بالبلايا والمصائب على أصحابه؟ هل هذا من جنس هدي النبي؟ افهم، هذه مسائل تُعرَف بالاستقراء، هكذا يكون الفقه، أنا أقول هذا الفقه، بالاستقراء هل هذه طريقة الرسول؟ هل يدعو عليك لكي لا يفعل الله كذا وكذا بك؟ ما هذا الفقه؟ ما هذا الكلام يا أخي؟ ليس من هدي النبي أن يدعو على أصحابه بالفقر أو بالبلايا والمصائب أو بموت أولادهم، لأن مَن قدَّم ثلاثة أولاد أو ولدين أو ولداً – مَن دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة. فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين. فقالت: وواحد؟ فسكت، ثم قال: وواحد – فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة، إذن فليدع عليكم النبي بموت أولادكم لكي يسبقوكم إلى الجنة ويفتحوا لكم الأبواب ويشفعوا فيكم، هذه جيدة أيضاً، لم لا؟ النبي هذا ليس من هديه، ليس من هديه أبداً، لكن النبي أخبر وبشَّر مَن ابتلاه الله بالفقر وصبر ورضيَ وقال له لا تخف، حسابك يوم القيامة سوف يكون خفيفاً، هذا فقير وسوف يخف حاسبه، لكن أنت غني فاشكر ربك، هذا خير لكن انتبه إلى أن الحساب سوف يكون طويلاً، ستُسأل عن كل شيئ، لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، هذا إخبار، رجل ابتلاه الله ومات أولاده الثلاثة أو الأربعة أو العشرة أو الاثننان، النبي قال له أُطمئنك، اصبر واحتسب، إن شاء الله مَن قدَّم ثلاثة أولاد أو ولدين أو ولداً له كذا وكذا، هذه مُواساة وحقيقة وخبر صادق، أليس كذلك؟ لكن ليس من هديه أن يدعو عليك، نترك هذا يا سيدي، ماذا عن الذي يُجاهِد؟ حين تذهب وتُقاتِل عدوك قد تُقتَل وقد تُجرَح وقد يُعقَر فرسك وقد يذهب مالك وقد وقد … إلى آخره، أجرك معروف، أجر المُجاهِد موجود في الكتاب والسُنة، هل من هديه أن يقول يا رب هيئ لنا عدواً لكي نُقاتِل؟ أبداً، وفي الصحيح قال لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، أخرجه البخاري، هذا هديه، لكن لا تتمنى هذا، لا تقل أنا أُحِب الجهاد فيا رب تقع الحرب، هذا غير صحيح، بل يا رب لا تقع الحرب، قال وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩، وامتن الله علينا بهذا، قال الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ ۩، افهم القرآن والسُنة، هذا كله كلام فارغ.

إذن هل فهمتم؟ سوف أُكمِل، فهذا ليس من هدي النبي، ليس محمد مَن يفعل هذا، لا تفتروا على رسول الله، فالنبي لم يدع على أصحابه لكي يسبقوا إلى الجنة… إلى آخر ما يُمكِن أن يُقال في هذا الباب، كلا بل الذي أُثِر عنه من هديه حثه على سؤال الله العافية في الدنيا والآخرة، وماذا قال النبي؟ ما سُئل الله شيئاً أحب إليه من العافية، أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر وأخرجه الترمذي بسندٍ صحيح وصحَّحه غير واحد، العباس قال يا رسول الله علِّمني دعوة أدعو بها ربي، أي دعوة خاصة اختصني بها أو خُصني بها، قال سل الله العافية، ثم آتاه بعد يوم أو يومين وقال يا رسول الله علِّمني دعوة أدعو بها ربي، قال يا عمي يا عباس سل الله العافية، قال هذا في المرتين، ما العافية؟ ألا أُبتلى لا في مالي ولا في بدني ولا في أهلي ولا في صحتي ولا في كذا وكذا، هذه العافية، لا أن أُبتلى من أجل أن يعظم أجري يوم القيامة وتُكفَّر سيئاتي، ليس هذا من هدي رسول الله، هل فهمتم؟ ليس هذا من هديه ولا من طريقته صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

وفي صحيح مُسلِم من حديث أنس وهو مشهور جداً النبي – صلى الله عليه وسلم – عاد رجلاً – ويبدو في رواية أُخرى أنه من الأنصار، كان عليلاً مريضاً – خفت – ما معنى خفت؟ ذبل وزوى – حتى صار كالفرخ، فالنبي سأله قائلاً هل كنت تدعو ربك بشيئ؟ عرف النبي، سبحان الله، انظر إلى الذكاء الذي عنده، كان مريضاً بشكل غير طبيعي هذا الشاب أو الغُلام، قال نعم، كنت أقول اللهم ما كنت مُعاقِبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، هذا على طريقة أطول الناس وأطول الناس، إذا كنت سأجوع في الآخرة جوِّعني في الدنيا فلا أشبع بهذه الطريقة، لكن النبي يرفض هذا، ومع ذلك يُقال النبي قصده هذا، هل النبي قصد هذا؟ أنت تنسب إلى النبي شيئاً ليس من هديه بل ضد هديه، فقال – صلى الله عليه وسلم – سبحان الله، لا تطيقه – لا تستطيعه، قال له لا تقدر على هذا، لا تقدر، وماذا علَّمه؟ -، هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فاللهم أشبع بطني في الدنيا بقناعة ورضا وأشبعني في الآخرة، هكذا يكون الدعاء، وليس اللهم لا تشبع بطنه لكي يشبع في الآخرة، أي هدي هذا؟ وأي سُنة؟ وأي رحمة؟ من أين أتيتم بهذا الفهم؟ كلام كله فارغ، قال أنس ودعا له النبي فشفاه الله، أعني هذا الشاب العليل، وهذا في صحيح مُسلِم.

مما يُؤكِّد أن هذا ليس من سُنته ولا مما يلتئم بها ولا يتسق معها دعاؤه – صلى الله عليه وسلم – لكثيرٍ من المُبتَلين، كان يدعو أو لا يدعو؟ يدعو، مثلما قال أنس ودعا له النبي فشفاه الله، حين يجد النبي رجلاً مريضاً يدعو له، حين أرمد رجل بصق في عينيه ودعا له، أليس كذلك؟ حين كان يجد رجلاً حالته كذا وكذا يدعو له، كان يدعو، لماذا يدعو؟ هذا هديه، لم يقل له اصبر، أفضل لك هذا، اصبر على الفقر وعلى قلة الولد وعلى كذا وكذا، لم يقل هذا أبداً، في أحيان قليلة كان ربما خيَّر الطالب، يقول له أو تصبر ولك الجنة، كما فعل مع المرأة السوداء التي كانت تُصرَع في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، قال لها إن شئت دعوت لك فشفاكِ الله – بعون الله يذهب الصرع Epilepsy – عنك – وإن شئت صبرتِ ولك الجنة، أي أنه خيَّرها، قالت بل أصبر يا رسول ولكن أتكشف حين أُصرَع فادع لي الله لكي لا أتكشَّف، فدعا لها فلم تكن تتكشَّف، مُعجِزة يا أخي، لا إله إلا الله، انظر إلى هذا، رجل مُبارَك ميمون النقيبة، صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى أبد الآبدين، هذا من هديه، لماذا يدعو للمُبتَلين؟ لو كان هديه على ما فهمتم لقال البلاء جيد فليكن إذن لكي يُخفِّف عنكم!

في حديث ابن عمر النبي لم يكن يدع هذه الدعوات إذا أصبح وإذا أمسى: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، يقول هذا صباح مساء، ليس من هدي النبي أن يدعو على أحد بالبلاء وبمُصيبة تُشقيه من أجل أن الله يُسعِده بها في الآخرة، ليس من هديه هذا، بطل هذا القول تماماً، أجزم وأُباهِل أن هذا باطل لا يُمكِن تصديقه، وهذا كان أولاً.

ثانياً وأما زعمهم أن هذا من باب اللهم مَن سببته ولعنته وجلدته وضربت وإلى آخره فهنا يطول المقام وينشعب الكلام، عندي كلام كثير في هذا الكلام، كلام كثير لابد أن يُقال في هذا الجُزء، فقد زعم ابن كثير – كما سمعتم – أن مُعاوية انتفع بهذه الدعوة في دُنياه وأُخراه، في أُخراه أنتم تعلمون كيف، سوف تتحوَّل إلى زكاة وقُربة كما فهموا جميعاً، وفي الدنيا بالمعدة التي يرغب فيها الملوك – ما شاء الله – فيأكل سبع مرات، فيا للعجب! متى كانت وكيف صارت كثرة الأكل نعمة وفائدة؟ من متى هذا؟ في أي دين؟ في أي طب؟ في أي هدي؟ متى يا ابن كثير؟ كثرة الأكل نعمة وفائدة، كيف؟ شيئ غريب، هل نسيَ حافظنا ابن كثير قول المعصوم – صلى الله عليه وسلم – المُسلِم يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء؟ هل لفتكم هذا؟ هل لفتكم رقم سبعة؟ والحديث أخرجه الشيخان وابن ماجه من حديث أبي هُريرة مرفوعاً، النبي قال – هذا الحديث في البخاري ومُسلِم – المُؤمِن يأكل في معي واحد – كأن المُؤمِن عنده مُصران واحد فقط فيشبع بسرعة سبحان الله – والكافر يأكل في سبعة أمعاء، وللحديث قصة لم تُذكَر هنا، لكن له قصة، رجل كافر نزل على النبي ضيفاً فيُريد أن يأكل، فالنبي قال قدِّموا له وقرِّبوا له عشاءه، وضعوا له طعاماً فأكله، فقال لهم النبي ضعوا له غيره للمرة الثانية فأكله وكذلك الحال في المرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ثم قال شبعنا، وذهب لكي ينام، قال اتركوه نائماً بكل أدب، في الصباح قام الرجل وقد رأى ما رأى فأسلم، النبي عنده أدب عظيم ورحمة، وكان يُعطيه الأكل، سبحان الله تأثَّر فأسلم، وطبيعي أن يحدث هذا ما دام هو إنسان غير مُنافِق وليس إنساناً خبيثاً وإنما إنسان عادي لكنه مُضلَّل، فهذا ما حدث حين اقترب من رسول الله، هذا طبيعي جداً، سأُعطيكم فائدة عظيمة بالتجريب عرفتها فانتبهوا، لا يقترب امرؤٌ من امرئٍ خبيث النية وخبيث الروحية وخبيث الطوية – والله العظيم – إلا يختل مزاجه ويعتكر إيمانه وتحدث له حالات روحية ونفسية من أسوأ ما يكون، ويُؤثِّر هذا كله فيما بعد على حياته وعلى ذاكرته وعلى علاقته مع أهله، وهو لا يفهم من أين دُهيَ، أنا أقول لك دُهيت من مجلسك مع هذا الخبيث، والعكس بالعكس، لا تجلس مع رجل من أولياء الله ومن أهل الذكر ومن أهل رطابة القلب الدمّاعين البكّائين المُخبِتين إلا تشعر بنشوة إيمانية غريبة وحالة سكينة وحالة رضا وقناعة وخشوع من أعجب ما يكون، فكيف برسول الله يا حبيبي؟ كيف برسول الله؟ فطبيعي أن يحدث هذا، هذا الرجل بات ليلة واحدة فأصبح مُسلِماً، إنسان طبيعي – رضوان الله عليه – أصبح صحابياً، فقُرِّب له طعامه فأكل قرصة صغيرة ثم قال لا، الحمد لله شبعنا، فالنبي قال سبحان الله المُؤمِن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، فأي الرجلين مُعاوية؟ أي الرجلين مُعاوية؟ أسأل تعقيباً على كلام ابن كثير، ماذا قال ابن كثير؟ كم مرة كان يأكل مُعاوية؟ سبع مرات، سبحان الله، لماذا سبع مرات؟ وذكرها مرتين في سطرين، قال سبع مرات، يُؤتى له بالقصعة – مثل الطنجرة كما يُقال، ولك أن تتخيَّل هذا – وعليها لحم وعليها بصل وما إلى ذلك فضلاً عن الفواكه، يأكل سبع مرات ويقول ما أشبع وإنما أعيا، قال لي أخي حمدي إلى اليوم عندنا في الشام يقولون ما شبعنا ولكن مللنا!
(ملحوظة) سأل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الأستاذ حمدي الذي كان حاضراً في الجلسة عن هذه القولة فقال أن أهل الشام يقولون ما شبعنا ولكن مللنا، فعلَّق فضيلته قائلاً من المُؤكَّد أن هؤلاء كانوا يُحِبون مُعاوية كثيراً ويُبغِضون عليّاً، فربما هؤلاء من النواصب، والمعاصي مواريث، لعل الله ضربهم بما ضرب به مُعاوية.

(ملحوظة) ذكر أحد السادة الحضور أهل الشام فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أن أهل الشام ليسوا كذلك، في أهل الشام – والله – مَن يُحِبون أهل البيت، ما شاء الله، فليس كل الشوام، حاشا لله لكن عموماً هذه مواريث وهذا طبيعي، مواريث إنسان مُضلَّل، لكن أين العيب والعتب؟ على مَن يعرف الحقيقة ويسمعها ثم يقول لا، أنا مع أهلي، أنا مع بلدي، سوف أبقى أُحِب بني أُمية ومُعاوية ولن أُحِب عليّاً كثيراً، سوف أقول له لا، هلكت أنت، تُعجِّل إلى جهنم بنفسك!
على كل حال هذا التوافق عجيب، سبع مرات توافق لافت، بعد ذلك أين حافظنا الكبير ابن كثير – وهو حافظ عظيم – من حديث المقدام بن معدي كرب؟ هذا الحديث حفظناه جميعاً حين كنا صغاراً، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أُكلات – في بعض الروايات لُقيمات – يُقيمن صُلبه، فإن كان لا محالة فاعلاً فثُلثٌ لطعامه وثُلثٌ لشرابه وثُلثٌ لنفسه، هذا أخرجه الإمام الترمذي وحسَّنه وابن ماجه وابن حبان، والشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب صحَّحه، قال صحيح، إسناده صحيح، أين أنت يا ابن كثير منه؟ تقول هذه فائدة ونعمة ومعدة يرغب فيها الملوك، أن تأكل في اليوم سبع مرات وقصاع، غير صحيح، ما هذه القصة؟ هذه لعنة، هذه شر، ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، كيف تقول لي معدة وفائدة يا ابن كثير؟ أتُعارِض كلام الرسول هكذا من أجل مُعاوية؟ من أجل أن يكون مُعاوية بريئاً وتبيض صحيفته أو تُبيَّض لابد أن نغض الطرف عن أحاديث صحيحة يعرفها حتى أطفال المُسلِمين في لعنة الأكل الكثير، أليس كذلك؟ بالعكس يا جماعة!
يقول أبو جُحيفة – الصحابي الجليل – أكلت خبزاً كثيراً وثريدة ثم جئت – الثريدة طعام من اللحم والخبز – ثم جئت النبي – صلى الله عليه وسلم – فجعلت أتجشأ – ملأ بطنه وتجشأ أمام النبي – فقال يا هذا كف عنا من جشائك – بعض العرب يُسمونها التتريعة أو التدريعة، هذا الجشاء لأن المعدة مملوءة الآن، وهذه غازات تخرج من الفم، فقال يا هذا كف عنا من جشائك – فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة، هذا الحديث الذي ضعَّفه الإمام الذهبي، أخرجه الإمام الحاكم في المُستدرَك وقال صحيح الإسناد، الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب قال حديث صحيح، قال صحيح، هذا ليس ضعيفاً كما قال الذهبي، وهناك أحاديث صحيحة كثيرة في هذا المعنى.

عن ابن عباس قال قال – صلى الله عليه وسلم – إن أهل الشبع في الدنيا أهل الجوع غداً في الآخرة، هذا الطبراني بإسناد حسن، والألباني في صحيح الترغيب قال حسنٌ لغيره، فهذا المعنى ثابت عن رسول الله، هذا ثابت.

عن أبي أُمامة – سبحان الله هذا مُفصَّل على مُعاوية وعلى أمثاله – قال – صلى الله عليه وسلم – سيكون رجال من أُمتي يأكلون ألوان الطعام – كما قال ابن كثير مُلوَّن، خبز وبصل ولحم وبعد ذلك قال وفاكهة وحلوى وشيئٌ كثير، ألوان، والنبي قل سيكون رجال من أُمتي، وهم عرفوهم، ما فائدة هذه الأحاديث؟ فائدتها عند هذا المنهج الاستهبالي أنها تُقال على المنابر وينتهي الأمر ثم نخرج ونفعل عكسها تماماً، ونرى مَن يفعل ما لفت إليه النبي وكأن هذا أمر عادي لا يعني لنا شيئاً، النبي قال انتبه، هؤلاء من أشرار عباد الله – ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام، أولئك شرار أُمتي، المُسلِم الورع التقي لا يكون كذلك، مشغول على مدار الأربع والعشرين ساعة بالأكل والشرب والنوم والجنس والمال، هذا كله كلام فارغ، هذا غير مُمكِن، المُسلِم يُفكِّر في الآخرة، مُعاوية هذه حياته، أكل وشرب ولباس وكذا وكذا، شيئ رهيب، هذا رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط، والشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب قال حسنٌ لغيره، هناك أحاديث كثيرة تُؤكِّد هذا، أنا حسبت وقلت لنفترض أن الرجل – وهو مُعاوية في هذا السياق – يومه يبدأ من لدن يستيقظ للفجر حتى يُأوي إلى فراشه في الساعة التاسعة أو العاشرة لأنه ملك من الملوك وعنده أيضاً سياسة وإدارة وما إلى ذلك، فسوف نقول أنه يذهب إلى فراشة في العاشرة، فهذا نحو سبع عشرة ساعة، يوم مُعاوية يأتي نحواً من سبع عشرة ساعة، لنفترض كحد أدنى أن الأكل يتقضاه في كل وجبة أو في كل طقة كما يُسمونها الآن نصف ساعة رغم أن الملوك ليسوا هكذا، الملوك يضعون الأكل والمُقبِّلات – Vorspeise – والأفاويه والأبازير، الحكاية تستغرق ساعة أو ساعة ونصف، لكن نحن سنتحدَّث عن الحد الأدنى، لأنه أكول ومعدته كبيرة، قالوا شيئ رهيب الرجل، من الأكلة، ليس مثلنا يأكل عشر لقمات ثم نقوم، لا نكاد نأكل حتى نقوم، الرجل – ما شاء الله – حاوية، العرب قالوا كأن في معدته مُعاوية، الإمام الميداني في مجمع الأمثال – عودوا إلى هذا – يقول آكل من مُعاوية ومن الرحى، هل تعرف الرحى؟ مهما تضع لها تطحن، يُمكِن أن تطحن لك طناً، يُضرَب به المثل، هذا الميداني، قال آكل من مُعاوية، لا يُوجَد مَن يأكل مثله، لم يُعرَف عربي يأكل كمُعاوية، قال آكل من مُعاوية، لماذا؟ دعوة الرسول يا جماعة، ومع ذلك يُقال هذه منقبة له، منقبة ماذا؟ على كل حال عندنا سبع طقات أو سبع وجبات، والوجبة تستغرق نصف ساعة، حين نضرب سبع في نصف ساعة ماذا سيكون الناتج؟ ثلاث ساعات ونصف، فيبقى أقل من أربع عشرة ساعة، أليس كذلك؟ اقسم على سبعة، سوف يكون الناتج هو اثنان، الرجل كان يدعو بالطعام كل ساعتين تقريباً، هذا حد أدنى، كل ساعتين يطلب الأكل، يأتون له بالأكل فيأكل، وهكذا كل ساعتين يطلب الأكل، أنا أسميته رجل القصعة، مُعاوية رجل القصاع، أين الإدارة؟ أين الأمة؟ أين هذه القصة؟ ما هذا؟ وليس هذا فحسب، لكم أن تتخيَّلوا حجم الشقاء الذي ضُرِب به رجلك هذا، هذا شقاء، هذه لعنة، النبي ضرب المثل لحكيم بن حزام في الحديث الصحيح – في الصحيح – بالذي يأكل ولا يشبع، النبي قال له إن هذا المال خضرة حلوة فمَن أخذه بطيب نفس من غير استشراف بُورِكَ له فيه ومَن أخذه بإشراف نفس – يُريده ويحرص عليه – لم يُبارَك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، في الصحيح هذا، هذا في الصحيح، في البخاري حديث حكيم بن حزام، قال ابن كثير الذي يأكل ولا يشبع منقبة وفضيلة انتفع بها ومعدة يرغبها الملوك، ما هذا يا ابن كثير؟ والله ضحكت أمس كثيراً، كلما أقرأ هذه العبارة في هذا الكتاب أضحك، إلى هذه الدرجة تُزري بنفسك يا حافظ الإسلام لكي تُدافِع عن مُعاويتك؟ لماذا؟ قل شقيَ بدعوة رسول الله وانتهى، ضع نُقطة وابدأ سطر جديد ثم أكمل تاريخك، انتهى الأمر والأمور واضحة، هي واضحة جداً، أوضح من الشمس والله العظيم، قال معدة يرغب فيها الملوك، وهذا عجيب، الذي يرغب فيه العباد الصالحون بل العقلاء النابهون هو ما كان يقوله الرسول – صلى الله عليه وسلم – إذا طعم، وعلَّمنا أنه إذا طعم أحدنا يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وأشبعنا وأروانا كما أخرجه الطبراني في كتاب الدعاء له، وهو كتاب مشهور ومطبوع، نقول الحمد لله لأننا شبعنا، لا أن نأكل ولا نشبع ثم تقول لي هذه منقبة عظيمة، إذا كانت هذه منقبة وفضيلة اذهب وادع الله بمثلها، أليس كذلك؟ قل يا رب أعطني معدة كمُعاوية فآكل ولا أشبع وآكل في اليوم سبع مرات وآكل كذا وكذا، هل عاقل يدعو بهذا يا ابن كثير؟ هل هذا مضبوط أم لا؟ قد يقول ك أحدهم فلان عنده ذاكرة كالحديد، ذاكرة فوتوغرافية، ذاكرة تصويرية، يحفظ أي شيئ من أول مرة ما شاء الله، وعنده فهم يثقب اللؤلؤ، هكذا يقول العلماء عنده فهم يثقب اللؤلؤ، وعقله لا يقبل الغلط، أي شيئ غالط لا يقبله، هذه منقبة عظيمة، سوف تقول اللهم أعطني فهماً كفهمه وعقلاً كعقله وحافظةً كحافظته وكذا وكذا، هل هذا ينفع؟ نعم ينفع، لأن هذه منقبة ومزية وفضيلة، الأكل سبع مرات يا ابن كثير منقبة عندك فضيلة وفائدة يرغب فيها الملوك، هل ينفع أن أقول اللهم أعطني معدة كمُعاوية فآكل سبع مرات بالأفاويه والأبازير والبصل والثوم في قصاع فيها اللحم وما إلى ذلك ولا أشبع وأقول لا أشبع وإنما أعيا؟ هل هذا ينفع؟ هل يُمكِن لعاقل أن يقول هذه الدعوة؟ بالله قولوا لي إذن كيف ينسلك كلام ابن كثير في ذهن إنسان مُحترَم؟ غير معقول يا أخي، غير معقول، لماذا؟ عيب علينا، عيب علينا أن نُزري أنفسنا كعلماء بالطريقة هذه، عيب الكلام هذا على كل حال، ثم أن فيم هذا التكلف كله والاعتذار البارد الكاسد والرجل يُصرِّح ويقول لا أشبع وإنما أعيا؟ هذا يعني أنه في شقاء، الرجل يشكو، فعلاً الرجل يشكو حاله، وبعد ذلك عندك في حديث البيهقي والحاكم فما شبع بعدها، وكما قلنا هذا وحده يكفي، أصابته الدعوة أو لم تُصِبه؟ أصابته، انتهى الأمر إذن، لم يعد هناك أي مجال للنقاش، أصابته الدعوة، وهذا كما قلنا في أنساب الأشراف للبلاذري، كان مُعاوية يقول لحقتني دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الراوي وكان يأكل في كل يوم مراتٍ أكلاً كثيراً، هذا في أنساب الأشراف للبلاذري في ترجمة مُعاوية وهي أكثر من مائة صحيفة، أي أنها طويلة جداً!
وفي مُصنَّف ابن أبي شيبة – شيخ البخاري المُتوفى سنة مائتين وخمس وثلاثين، رحمة الله تعالى عليه – في الجزء السابع حديث رقم خمسة وثلاثين ألفاً وسبعمائة واثنين وعشرين: أول مَن خطب جالساً مُعاوية حين كبر وكثر شحمه وعظم بطنه، السيوطي على ما أذكر – لم أُراجِع – في تاريخ الخُلفاء قال وتشوَّه جسمه، أصبح منظراً مُزرياً، صار الرجل شيئاً رهيباً، تقول لي معدة ومنقبة، مَن يرغب في هذا؟ هذه لعنة، هذه شقاوة، كلها بدعوة رسول الله، لا تقل لي منقبة ولا تقل لي فضيلة، انتهى الأمر، الأمور واضحة، هذا هو، ولذلك – كما قلت لكم – أصبح مضرب الأمثال، قال الشاعر:

وصاحبٍ – هذه واو رب، أي ورب صاحبٍ – لي بَطْنُه كالْهَاوِيَةْ       كأن في أمْعَائِهِ مُعَاوِيَة.

أصبح مُتندَّر الشعراء، ما هذه المنقبة التي جعلته مُتندَّر الشعراء والأدباء؟ يتندَّرون به، وشاعر آخر يقول:

وَمِعْدَةٍ هاضِمَةٍ للصَّخْرِ                                             كأنما في جَوْفِها ابْنُ صَخْرِ.

يقول كأن في جوفها ابن صخر، مَن ابن صخر؟ مُعاوية، يُضرَب به المثل الرجل، فأنى لنا أن نُدافِع عن هذا؟

بعد ذلك أقول الآن صلى الله على رحمة العالمين، الرؤوف الرحيم بالمُؤمِنين، فما كان ليدعو على مُعاوية بهذه الدعوة التي أشقته في دُنياه وجعلته مُتندَّراً للشعراء وسُخريةً للناس لمُجرَّد أنه تشاغل بطعامه عن رسول الله، الرسول أحلم من هذا وأرحم من هذا، الرسول أبى أن يدعو على المُشرِكين، أرادوا قتله وقتلوا من أصحابه عدداً هائلاً – أكثر من سبعين، ثلاثة وسبعين في أحد، أليس كذلك؟ – وشجوا وجهه وكسروا رباعيته و و و وإلى آخره، قال إني لم أُبعَث لعنة، إنما بُعِثت رحمةً، الله أكبر، انتبهوا إلى هذا لكي نفهم الدين، لماذا النبي يدعو على مُعاوية إذن وقد أشقاه بهذه الدعوة؟ فعلاً شقيَ الرجل، ولو لم تكن دعوة بحق ما لباه الله، أليس كذلك؟ أبداً، لو لم تكن دعوة بحق لما لباه الله ولقال له لا، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩، لو لم تكن كذلك لقال له لا وتراجع، لكن لباه الله، يعلم الله – تبارك وتعالى – أنها دعوة بحق، فهل النبي لأنه دعا الرجل مرتين أو ثلاثة يُمكِن أن يدعو عليه هذه الدعوة؟ لا، لا والله، والله ما هذا مُعتقَدي في رسول الله الذي هو رحمة العالمين، هو أرحم بكثير من هذا، لكن ما هو التأويل؟ فقد أتى أبوه – أبو سُفيان – وغير أبيه ما هو أعظم من هذا في شركهم وبعد أن أظهروا الإسلام، فما دعا عليهم – صلى الله عليه وسلم – بل ما أعرف أنه – صلى الله عليه وسلم – دعا على رأس النفاق ابن سلول، هذا من عندي دون أن أراجع، لكن ما مر علىّ مرة أن النبي دعا على رأس النفاق، هل دعا عليه في حياته؟ هل قال اللهم خذه أو اللهم دمِّره وما إلى ذلك؟ أبداً، كان يقول أيها الناس مَن يُنصِفني من رجل يتكلَّم في عِرضي وأهلي وما علمت إلا خيراً؟ يوم الإفك الذي تولى كبره ابن سلول، أليس كذلك؟ لم يدع عليه بعد كل الذي فعله، رغم أنه أتى كفراً أصلع صُرحاً قُباحاً في حق رسول الله، أليس كذلك؟ وذات مرة قال له خل عنا لقد آذيتنا بنتن حمارك، قال هذا للرسول، وذات مرة قال لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ ۩، وقال ما أجد لهم ولنا مثلاً إلا كما قال الأول سمِّن كلبك يأكلك، لعنة الله عليك يا ابن سلول، لك أن تتخيَّل ماذا يقول هذا الكلب ومع ذلك النبي لم يلعنه ولم يدعو عليه وأبى أن يُقتَل، وحتى حين أراد ابنه أن يقتله أبى، واستغفر له بعد أن مات وكفَّنه في جُبته وصلى عليه، انظر إلى أي درجة وصلت رحمة الرسول، شيئ عجيب، هل تفهم ماذا أُريد أن أقول؟ مَن كان هذا حاله وهديه وأدبه لم عجل على مُعاوية بتلك الدعوة التي أشقته؟ قال لا أشبع الله بطنه، اللهم لا تُشبِع بطنه عند النسائي، لماذا؟ هل بدأتم تفهمون ما القصة؟ سوف نفهم!
فلولا أنه – صلى الله عليه وآله – مُطلِعٌ بوحي الله وخبره على حقيقة مُعاوية وما سيكون منه في جانب أُمته وفي حق شرعه الشريف ودينه مما سيأتيكم بيانه مُفصَّلاً في إبانه من البلايا والطامات والمُصيبات العظيمات التي تشقى بها أُمته إلى ما شاء الله – إلى اليوم، إلى عصرنا هذا – ما عجَّل له ولا عجِلَ عليه بهذه الدعوة التي أشقته، هذا اعتقادي، اعتقادي وفهمي لمقام رسول الله، وهذا الذي سأُعزِّزه وأدعمه – إن شاء الله – وأُشيِّد بُنيانه بالأحاديث الصحاح في حق مُعاوية، ستأتيكم في قابل الأيام، أحاديث صحاح سوف ترونها وسوف تقولون نعم النبي كان يعرف حقيقة هذا الرجل، وبعد أن تعرفوا حقيقة مُعاوية بكل الأدلة سوف تقولون فعلاً النبي ما عجل والحكاية ليست أنه غضب أو استُفِز أبداً، دعا وهو يعلم ما يقول ويقصد ما يقول!
بعد ذلك نقول للمُعتذِرين عن مُعاويتهم ألم تتنبَّهوا إلى نُكتة الدعوة؟ لماذا قال لا أشبع الله بطنه؟ لماذا قال اللهم لا تُشبِع بطنه؟ لماذا هذه الدعوة؟ كان يُمكِن أن يدعو بألف دعوة أُخرى في الدنيا، لم دعا عليه بألا يشبع؟ لأنه – صلى الله عليه وسلم – حاشاه أن يظلم أحداً وحاشاه أن يعتدي في الدعاء، ولابد أن تكون دعوته وفاقاً لما اطلع عليه أو لما اطلعه عليه الحق تعالى من شؤون الطاغية، الطاغية نهم إلى المُلك والمال والمجد والظهور، لا يشبع ولا يقنع، لم تكفه الإمارة التي قضى فيها آخر خمس سنوات من حياة الفاروق، ولكي نفهم لا تقل لي ظل عشرين سنة أميراً، لم يكن أميراً لعشرين سنة وإنما لسبع عشرة سنة فقط، لأن الفاروق متى ولاه على دمشق؟ في آخر خمس سنوات من خلافة الفاروق، قبل ذلك مَن الذي كان والياً على دمشق وليس على الشام كلها؟ أخوه يزيد بن أبي سُفيان رضيَ الله عنه، لأن هذا الرجل ما علمنا – أي الذي نعلمه ومبلغ علمنا – رجل صالح وكان مُجاهِداً وفيه خير كثير، هذا من أحسن ذُرية أبي سُفيان، هذا يزيد وهو ليس ابن هند، ابن امرأة ثانية فانتبهوا، قال الإمام الذهبي وغيره مُعاوية ابن هند – ولذلك اسمه مُعاوية ابن هند، يا ابن هندٍ – وأما سائر إخوته فمن أمهات مُتعدِّدات، فيزيد من أم أُخرى، يبدو أنها أحسن أصلاً وأشرف من هند آكلة كبد حمزة التي لاكته، والعياذ بالله من هذه الحقود، بنو أُمية وحوش، هؤلاء وحوش، عموماً هم وحوش، يتصرَّفون بوحشية دائماً وبنفاق وخساسة، مُعاوية يُنصِّب القصّاص والولاة والعمّال للعن عليّ، مروان بن الحكم والمُغيرة بن شُعبة وإلى آخره، بالأسانيد الصحيحة سيأتيكم هذا، وعليّ يقول لعمرو بن الحمق ولي حُجر بن عدي – رضيَ الله عن الشهيدين الجليلين – لا تسب الشام ولا مُعاوية، يا أمير المُؤمِنين ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال بلى والله، ولكني أكره لكم أن تكونوا شتّامين لعّانين، ولكن قولوا اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلِح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق مَن جهله ويعود عن الغي مَن لج به، أقول له آه يا أبا الحسن، إيه يا ابن أبي طالب، هذا أنت، هذا مقامك، هذا أنت، ومُعاوية يأمر بالسب واللعن، أنا أقول لك إذا أردت أن تعرف عليّاً انظر في عليّ وفي خاصة عليّ، مَن أصحاب عليّ؟ مَن شيعة عليّ؟ سلمان الفارسي، أبو ذر الغفاري، المقداد بن الأسود، عمّار بن ياسر وابن سُمية، أليس كذلك؟ جابر بن عبد الله، اقرأ عن هؤلاء الصحابة وسوف تعرف هؤلاء رجال، خُزيمة بن ثابت الذي وقع شهيداً، أويس القرني أفضل تابعي هذه الأمة، كان مع الإمام عليّ وقُتِل شهيداً في صفين، اقرأ وسوف تعرف مَن هو، إذا أردت أن تعرف مَن هؤلاء، أويس كان مع عليّ وسقط شهيداً، ارتقى في صفين، هذا أويس القرني وقبره معروف بالرقة، من شهداء صفين، أشرف تابعي وأعظم تابعي يُشفِّعه الله في مثل ربيعة ومضر، ثم أننا ماذا نُريد من أويس رضوان الله عليه؟ ماذا عن عمَار بن ياسر الذي صيت الإيمان به؟ وعلى كل حال طبعاً أستغفر الله وأستميح الإمام أبا الحسن – عليه السلام – عذراً، إذا أردت أن تعرف مَن هم هؤلاء الذين أحدقوا بعليّ فاعرف عليّاً في الأول، هؤلاء أصحاب عليّ، من مجده يستمدون ومن نوره يتضوّءون طبعاً ومن رفيع مقامه يرتفعون، هذا عليّ وهو إمامهم، نِعم الإمام ونِعم المأموم، إذا أردت أن تعرف مُعاوية انظر إلى مُعاوية وانظر إلى مروان بن الحكم وأبي الأعور السُلمي ورومان الدمشقي قاتل عثمان بن عفان، اقرأ التاريخ وتعلَّم، انظر إلى الذين أحدقوا – حتى من الصحابة – بمُعاوية، أُناس يدورون على الدنيا وعلى المنافع وعلى المصالح وعلى النقود، شيئ غريب، هذا عليّ وهؤلاء أصحابه، وهذا مُعاوية وهؤلاء أصحابه وحزبه.

نكتفي بهذا القدر على أن نُكمِل في حلقةٍ مُقبِلة إن شاء الله تعالى.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: