– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا من لدنك علماً إنك أنت العليم الحكيم، اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نُرحِّب بكم أيها الإخوة الأحباء والأخوات الفاضلات بهذه الأُمسية والتي ستكون – إن شاء الله – الجُزء الثاني من سلسلة ذكرى الإمام العالم العلّامة العارف بالله الغزالي – أبي حامد الغزالي – الذي كنا في رحاب سيرته في ستة حلقات ماضيات مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم هنا في مدينتكم فيينا، ونُرحِّب بكم مرة أُخرى باسم جمعية لقاء الحضارات وباسم مسجد الشورى وباسم الشيخ الفاضل عدنان إبراهيم، سائلين الله – عز وجل – أن تكون الجُزء الثاني خيراً كما كان أوله في ذكرى هذا العالم المشهور.

لقد قمنا أو أخذنا الشيخ عدنان برحلةٍ سريعةٍ في ستة حلقات، نرجو الرجوع إليها والرجوع إلى ترجمةٍ مُتواضِعةٍ للشيخ كمُحاضِر هذه المُحاضَرات في الجُزء الأول من هذه السلسلة.

ذكر لنا ما قال عن الإمام الغزالي العلماء سواء المُعاصِرين أو القدماء، ذكر لنا حياته وطفولته وبدايته العلمية حيث أنه مرةً قال طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله، دراسته على شيخه المشهور الجويني وعلاقته بنظام المُلك الذي جعل له مدرسةً في نيسابور تحدَّث عنها أيضاً الشيخ الفاضل بتفاصيل شارحة والحمد لله.

وأهم ما في الأمور التي تحدَّث عنها شيخنا الفاضل هو عُزلة الإمام الغزالي ورجوعه إلى الله، أولها في ستة أشهر انقطع فيها عن التدريس وبعدها عشر سنوات بينه وبين الله تعالى، عاد بعدها مُشتاقاً لبُنياته إلى طوس، جامعاً بين العلم والعبادة والتصوف.

كان مُجيداً للُغتين الفارسية والعربية، وربما تكون هذه الشخصية أيضاً جامعةً للمُسلِمين في هذه الأيام، كان مُحامياً عن عقائد الأمة سواء فلسفة أو عقيدة في كتبه المعروفة مثل تهافت الفلاسفة الذي رد به على كثير من الفرق وخاصةً الباطنية منها، من أشهر كُتبه الإحياء والمُنقِذ والتهافت، كما شرح لنا الشيخ الفاضل مسألة فلسفية مُعقَّدة اتُهِمَ بها الشيخ الإمام الغزالي بقوله ليس في الإمكان أبدع مما كان، وشرح لنا أن هذا ليس قوله بل أُخِذَ عليه ولكنه كان نوعاً ما يُشبِه الأقوال التي قالها وشرح لنا الشيخ الفاضل تلابس هذا الموضوع.

رد على شُبهة كثرة الأحاديث الضعيفة والتي لا أصل لها في كثيرٍ من كُتبه وخاصةً إحياء علوم الدين، والشُبهة تُرَد بكون هذه الأحاديث ليس لها أي تأثير على مُحتوى علم الإمام الغزالي واجتهاداته، فإن حُذِفَت هذه الأحاديث من كتابه إحياء علوم الدين لم يتغيَّر في إحياء العلوم شيئ لأنه كان مُتبِعاً للقرآن الكريم وللحديث الصحيح.

أجاب على بعض المُنتقِدين منهم تَلميذه أبو بكر بن العربي وذكر أيضاً ما قاله عنه العقاد: لم يعرف المشرق والمغرب رجلاً مثل أبي حامد الغزالي!

دروسه، فلسفته، فقهه، أصوله، وعقيدته شرح أيضاً عنها شيخنا الفاضل بإسهاب، جزاه الله خيراً.

الأشياء المُهِمة في شخصية الغزالي العزيمة، الصدق، الخلوص في القصد، والتأثير في كُتبه لكل مَن يقرأها، اعتاد الاعتداد بنفسه لا كبراً ولا عجباً بل اعترافاً بنعمة الله – عز وجل – وفضله، وأنه كان لا يدخل إلى السُلطان ولا يأخذ ماله، وكان مع المُناظَرة دونما تعصبٍ ومع صفاءٍ للقلب.

نسأل الله – عز وجل – أن يقرأ ويسمع الجميع هذه الحلقات الستة التي ذكرتها بإيجازٍ سريعٍ جداً ليس بمقامها، ونتجه الآن ونسأل شيخنا الفاضل مُتابَعة هذه الحلقات المُبارَكة إن شاء الله، وستكون في فلسفة الإمام الغزالي وخاصة في قيمة الغزالي لنا في هذه الأيام، تفضَّل شيخ عدنان، جزاك الله خيراً.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، نعوذ برضاك من سخطك ونعوذ بمُعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك، لا نُحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً. اللهم آمين.

أما بعد، إخواني في الله وأخواتي في الله:

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، أشكر لكم مجيئكم المُبارَك هذا وحرصكم، كما أشكر من قبل ومن بعد أخي الفاضل أبا عدنان على جُهده وعلى حرصه وأسأل الله له مزيداً من الموفقية ولكم جميعاً.

إخواني وأخواتي:

أود أن أبدأ هذه الحلقة السابعة بالحديث عن الغزّالي والفلسفة، لن أقول الغزّالي الفيلسوف للالتباس الحاصل في هذه المسألة لكن سأتحدَّث عن الغزّالي والفلسفة، طبعاً إذا ذُكِرَ أبو حامد الغزّالي ذُكِرَ معه وبذكره على التو كتابه الأشهر تهافت الفلاسفة، الكتاب الذي يتحفَّظ الناس تقريباً كُلهم أو جُله عنوانه على أن كُلهم أو جُلهم لا يكادون يعرفون معنى هذا العنوان، ما معنى التهافت؟ هذه كلمة تُقال حتى عند العوام، لكن تحديد المقصود بالتهافت ليس أمراً سهلاً، أمر غامض كُتِبَت فيه صحائف كثيرة أيها الإخوة، لكن الذي يبدو من مُطالَعة الكتاب أن أبا حامد – رحمة الله تعالى عليه – قصد بلفظة التهافت إلى معنى التناقض والتعارض، رأيٌ يُعارِض رأياً، رأيٌ يُناقِض رأياً، مع أن التهافت في الاستخدام السائد الآن قد يختص برأيٍ بحياله، لا بين رأيين، انتبهوا إلى هذا، ومن هنا التباس هذا العنوان، فإذا ذُكِرَ الغزّالي ذُكِرَ التهافت، وإذا ذُكِرَ التهافت ذُكِرَ تهافت التهافت، أي أن هناك إشارة واضحة لا تخفى إلى المعركتين الحاميتين، حاميتي الوطيس: معركة إمامنا وحُجتنا أبي حامد – رضوان الله تعالى عليه – مع الفلاسفة، ومعركة فيلسوف قرطبة أبي الوليد بن رشد المُتوفى سنة خمس وتسعين وخمسمائة – أي بعد تسعين سنة بالضبط من وفاة حُجة الإسلام الغزّالي – مع أبي حامد الغزّالي، معركة فيلسوف قرطبة مع حُجة الإسلام، إذن التهافت وتهافت التهافت!

أبو حامد الغزّالي – رحمه الله تعالى – إخواني وأخواتي وُلِدَ ونشأ وبزغ نجمه وعلا كعبه كما يُقال في ميادين العلم والفنون المُختلِفة في عصرٍ هائجٍ مائجٍ مُضطرِب، اضطرابات سياسية واضطرابات اجتماعية واضطرابات أيديولوجية وعقدية ومذهبية، عصر مُضطرِب جد اضطراب أو جد الاضطراب أو كل الاضطراب، هناك – كما تعلمون – الخلافة العباسية الزاوية الغاربة في مشرقنا ومركزها مدينة السلام بغداد، وبالإزاء هناك الخلافة الفاطمية ومركزها مصر، ولها سيطرتها أيضاً على أجزاء من بلاد الشام، في الحقبة التي وُلِدَ فيها أبو حامد – رحمة الله تعالى عليه – كانت حركة عبد الله البساسيري وهو من الشيعة، كان مُنحازَاً للخليفة الفاطمي في القاهرة فأحدث انقلاباً في بغداد واعتقل الخليفة القائم بالله العباسي ووضعه في السجن، وصارت الدعوة والدعاء في الخُطب الجُمعية للخليفة الفاطمي في القاهرة، لكن السلجوقي العظيم أرب أرسلان استطاع أن يهزم البساسيري هذا وأن يُعيد الخليفة القائم إلى سُدة الحكم وأن يُعيد بالتالي الدعاء له، بنو بويه الذين كان لهم سيطرتهم غير الخافية حتى في بغداد كانت أهواؤهم وميولهم شيعية، في الوقت ذاته وفي الإبان نشطت الحركات الباطنية نشاطاً عارماً غير مسبوق، وعلى ما أشرت في المُحاضَرات السابقة اصطنعوا الوسائل اللا أخلاقية كالعنف والاغتيال وخطف الناس ثم قتلهم وإخفاء جُثثهم إما بدفعها في أعماق الأنهار أو بإسقاطها في الآبار أو حفر حفائر لها ثم إخفاؤها وأصبح الوضع لا يُطاق، وعلى ما ذكر صاحب المُنتظَم وهو أبو الفرج بن الجوزي كان المرء إذا خرج بعد صلاة العصر ولم يعد إلى المغرب أعلن أهله الآياس منه، يُقال قُتِل، قتلته الطوائف الباطنية، شيئ مُخيف، إلا أن هذه الطوائف الباطنية أيها الإخوة للأسف الشديد على عنفها وعلى إرهابها أصابت حظاً من التلبيس على الناس وتغبيش الرؤية بل وأصابت حظاً من الأنصار، صار بعض الناس ينضوون تحت ألويتهم ويعقلون إلى معاقلهم.

حُجتنا أبو حامد – رضوان الله تعالى عليه – يُحدِّثنا في المُنقِذ من الضلال والمُوصِل إلى ذي العزة والجلال عن صاحبٍ له صار باطنياً، صاحب من أصحاب أبي حامد! يبدو أنه كان عالماً وربما كان مُختَصاً بعلم الكلام – علم العقيدة – على المذهب السُني الأشعري، إلا أن هؤلاء الباطنية قد أضلوه السبيل فاستحال باطنياً مثلهم، هذا حفز همة حُجتنا وإمامنا – رحمة الله تعالى عليه – إلى أن يضع كتاباً يُفنِّد فيه ويدحض شُبهاتهم ولا أقول حُججهم لأن في الحقيقة لا حُجة لهم وبتعبيره لا حاصل لهم، قال الحاصل أنه لا حاصل لهم في المُنقِذ من الضلال.

على كل حال في الوقت عينه أيضاً أيها الإخوة ارتفع نجم الفلاسفة، المُتفلسِفة الحكماء، والفلسفة التي كان سائدة آنذاك أو إذ ذاك في المشرق الإسلامي هي الفلسفة العقلية الأرسطية المعروفة بالمشائية، الفلسفة المشائية! وهذه الفلسفة لها مُتبنيات ولها مقبولات ومفروضات ومُقرَّرات تتصادم على طول الخط مع السائد من اعتقاد المُوحِّدين، ومن أشهر ذلكم انتحالهم عقيدة أزلية العالم أو قِدم العالم، القِدم لا يُعنى به في الاصطلاح الفلسفي ولا في الاصطلاح الكلامي الرجوع إلى بعيد في الزمان بل إنكار ونفي الابتداء في الزمان أصلاً، أي المُصطلَح المعروف بالأزلية، العالم أزلي، يعتقدون أن الكون كان ولا يزال، أي أنه أزلي لم يُخلَق في الزمان، ليس له بداية في الزمان، عقيدة خطيرة! وهذه عقيدة الماديين على كل حال، هذه عقيدة الماديين في كل زمان ومكان، الملاحدة والماديون بالذات يتبنون هذا، تروق لهم عقيدة أن الكون لا بداية له، ويقولون بكل تبجح وانتفاج: كما أنكم تعتقدون بإله لا بداية له نحن نعتقد بعالم لا بداية له، ما المُشكِلة؟ لو كان هذا مُحالاً لاستحال في حق إلهكم، هكذا يقولون! وطبعاً هذا تخبيص وتخليط واعتباط، المسألة أدق من هذا بكثير، فرقٌ بين مادة عمياء لا تدري من شؤونها شيئاً وبين رب حكيم قدير عليم يشي الكون كله بثبوت هذه الصفات له لا إله إلا هو، فرق كبير!

أتُبدِع الكون كعقد نظيم                   وتُودِع الذرة نظام السديم.

طبيعةٌ عمياءٌ فى ذاتها                       إنما المُبدِع ربٌ عظيم.

هذا هو، هذا هو الفرق، لكن هكذا هؤلاء يُباهِتون ويُجاحِدون ويُماكِسون، يتمحَّلون في القول والكلام، ومن ذلكم أيضاً إنكار هؤلاء المُتفلسِفة المُتسمين بالحكماء لعلم الله بالجُزئيات وإصرارهم على أن الله يعلم الأشياء بنحو كُلي لكن لا يعلمها بنحوٍ جُزئي تفصيلي، وهذا شيئٌ خطير!

والمسألة الثالثة – وهذه المسائل الثلاث بالذات هي المسائل التي أكفرهم بها حُجة الإسلام في تهافته وحكى إكفاره إياهم بها في مُنقِذه رحمة الله تعالى عليه – هي إنكارهم الحشر الجسماني والبعث الجثماني وإعلان مَن اعتقد منهم بالبعث أنهم يخصونه بالبعث الروحاني، أي بعث الأنفاس والأرواح، أما الأجسام فقد فنيت بالتحلل، كانت ثم فسدت، الكون والفساد! تركَّبت ثم تحلَّلت، هذا هو الكون والفساد في اصطلاح هؤلاء الفلاسفة، التركب والتحلل! فتركَّبت ثم تحلَّلت، إذن فنيت، قالوا من المُحال أن تُعاد، ولهم شُبه طوَّلوا بذكرها، ولعل ابن سينا من هؤلاء الذين لبَّسوا في الرسالة الأضحوية: رسالة أضحوية في المعاد، للأسف الشديد أتى بكلام وشقَّق كلاماً طويلاً لكن لا نقول لا طائل تحته لأنه شُبهة عظيمة وهي الشُبهة التي ربما حكيتها لكم أكثر من مرة من نحو عشرين سنة في هذا البلد: شُبهة الآكل والمأكول، لعلنا – إن شاء الله – إن تناولنا هذه المسألة بشيئ من التفصيل نعرض لهذه الشُبهة ونعرض على الإجمال والإيجاز والعجل لمواقف العلماء المُتكلِّمين وحتى الحكماء كابن رشد أيضاً وابن سينا والفارابي والإمام الغزّالي من هذه المسألة: مسألة البعث الجسماني علاوةً على البعث الروحاني، هذه ثلاث مسائل، لكن أبا حامد أيضاً بدَّعهم في سبع عشرة مسألة أُخرى، أي خطَّأهم وضلَّلهم فيما مجموعه عشرون مسألة، استحقوا التبديع في سبع عشرة مسألة والتكفير أو الإكفار في ثلاثٍ منها!

على كل حال هذه صورة عامة بانورامية للوضع الذي ظهر فيه هذا الإمام الحُجة، وضعٌ مُضطرِب أيها الإخوة من ناحية سياسية ومن ناحية عقدية مذهبية، هناك الأحزاب، الفرق، الباطنية، الفلاسفة، الانقلابات، والقتل، شيئ مُخيف هذا الوضع أيها الإخوة، فضلاً عن التعصب المذهبي أيضاً خاصة بين الحنابلة والأشاعرة والماتُريدية من جهة، الحنابلة من جهة والأشاعرة والماتُريدية من جهة أُخرى، أي الحنابلة والشافعية والحنفية، وخاصة مع الشافعية، ثم بعد ذلك التعصب بين الحنفية وبين الشافعية، والمذابح والمقاتل وحرق الأسواق وحرق المساجد، شيئ لا يكاد يُصدَّق، شيئ فظيع طبعاً!

طبعاً للأسف مُعظَم المُسلِمين العوام – وقد يكون هذا خيراً لهم – لا يعلمون أشياء عن هذا، يظنون أن تاريخنا – ما شاء الله – هو شيئ واحد من السلام والهدوء والاستقرار والتعاون، هذا غير صحيح، يُوجَد فيه فترات حالكة – حالكة السواد – ولا زالت، وما لم تُعالَج الجذور – الجذور الأصلية الأساسية – لهذه الأشياء سيظل واقعنا أيضاً يُفرِز ألواناً من التعصب وضروباً من المُنابَذة والتباغض والشنآن الذي ينتهي إلى الإكفار ومن ثم إلى المذبحة كما أقول دائماً، للأسف ينتهي إلى الإكفار ثم إلى المذبحة والعياذ بالله، علينا أن نكون جادين في وعي تاريخنا وفي المُكاشَفة بحقائق واقعنا وإلا فنحن أمة تُضلِّل نفسها!

على كل حال بُعِثَ الإمام الغزّالي، وهذا بعثٌ قدري طبعاً، ليس بعثاً شرعياً، بمعنى خلقه الله تبارك وتعالى ويسَّره إلى هذه الأمة في الوقت الذي كان الناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء لقطرات الماء فيه بتعبير التاج عبد الوهّاب السُبكي – رحمة الله تعالى عليه – وتلوناه عليكم في حَلقاتٍ سابقة – هناك حَلقات بالسكون وحَلقات بالتحريك -، قال ظهر هذا الإمام والناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء لقطرات الماء.

على كل حال جاء أبو حامد – كما سنتلوا عليكم اليوم إن شاء الله لدى الحديث عن تجربته المعرفية والروحية – خاض تجربةً مُزدوَجة: معرفية وروحية في آن، وكتب سجلاً ذاتياً لهذه التجربة رائعاً جداً، هو أحد ثلاثة كُتب مثَّلت القمة والذروة في إنتاج هذا الإمام كما ذكرنا أيضاً في حلقات سابقة، أعني المُنقِذ من الضلال والمُوصِل إلى ذي العزة والجلال، كُتيب صغير من أعجب ما يكون، وترك أثراً عالمياً على مالبرانش Malebranche وعلى ديكارت Descartes أستاذه من قبل وأعتقد على هيوم Hume بشكل واضح وعلى كانط Kant ربما، ولذلك الآن بعض مُؤرِّخي الفلسفة الغربيين – الأمريكان خصوصاً – يعتقدون أن أبا حامد هو واحدٌ من خمسة أو ستة عبر التاريخ الإنساني الأكثر تأثيراً، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، هذا ما لا يعرفه بعض الذين يُسارِعون إلى النيل وغمز قناة أبي حامد، وكما قلت لكم في حلقات سابقة بل إلى إكفاره وتكفيره، يُقال أبو حامد الغزّالي صاحب الإحياء عنده أحاديث موضوعة! هذا استخفاف واستهتار، هذه حماقة، هذا نوع من الحماقة يدل على حمق القائل وعلى أنه ليس في العلم ولا من الفكر في قبيل ولا دبير وليس له شروى نقير في هذا الباب، نقول له ليس هذا عُشك فادرج، رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، ليس مثلك أصلاً مَن يتصدى لمعرفة الغزّالي، أصعب من ذلك بكثير! معرفته عليك أصعب بكثير من أن تُدرِكه، يظنون أن العلم بتحفظ أحاديث وتخريج أحاديث وأسانيد، هذا يُحسِنه كل أحد، هذه عملية سهلة جداً جداً، عملية صناعية هذه، لكن أن تكون عبقرياً في حجم الغزّالي أمرٌ غير مقدور إلا للندرة من العصر في العصور بل في مجموع وجُملة عصور، هؤلاء يرون أن إمامنا وحُجتنا هو واحدٌ من خمسة أو ستة على مُستوى الفكر والفلسفة هم الأعظم تأثيراً في تاريخ الفكر الإنساني، أبو حامد معروف، معروف على مُستوى العالم يا إخواني، كان ولا يزال وسيظل رحمة الله تعالى عليه، واليوم سنُثبِت لهم بالبرهان المدى الواسع والشأو البعيد الذي بلغه هذا الإمام في العبقرية والإبداع والابتكار، لذلك دي بور De Boer في كتابه عن تاريخ الفلسفة الإسلامية الذي ترجمه العلّامة الفيلسوف الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة المصري – رحمة الله تعالى عليه وطيَّب ثراه – قال لم يعرف الفكر العربي فكراً مُبتكَراً كفكر أبي حامد الغزّالي، لا تقل لي ابن رشد ولا تقل لي الجويني ولا تقل لي مسكويه ولا تقل لي أبا حيان التوحيدي ولا الجاحظ ولا الفارابي ولا ابن طفيل ولا ابن باجة، أبو حامد! أبو حامد صاحب الفكر المُبتكِر، الفكر المُبدِع، الفكر العميق، وبين ظُفرين كما يقول المغاربة أو بين قوسين أيها الإخوة أو بين مُزدوَجين هذا تحت الحساب كما يُقال للإخوة الذين تساءلوا لم أنت مُعجَب بالغزّالي؟ يظنون أنني مُعجَب بطريقة شاعرية عاطفية، هذا غير صحيح، أصلاً إعجابي لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، مَن أنا؟ سواء أُعجِبت أنا بالغزّالي أو لم أُعجَب الغزّالي يبقى الغزّالي، سواء أشدت به أو تحامقت وتراقعت – أي أصبحت أحمق رقيعاً – فغمزت قناته يبقى الغزّالي هو الغزّالي، أليس كذلك؟ أَشفق على الرأسِ لا تُشْفِق على الجبلِ، هذا أبو حامد رحمة الله تعالى عليه.

بالموقف من هؤلاء العباقرة الأفذاذ يُمكِن أن يُعرَف بعض قدر الرجل منا، يُمكِن أن نعرف هذا، إن قدَّرت هذا الرجل واستطعت أن تضع أُصبعك على جوانب من عبقريته نعرف أنك على الأقل تعبت قليلاً على نفسك، أما إن أنكرت ذلك وزعمت وزعمت عرفنا أنك تائه، عرفنا أنك من جُملة التائهين، لا تدري ماذا يخرج من رأسك، نسأل الله أن يُعرِّفنا بأقدار أنفسنا.

أبو حامد الغزّالي – رحمة الله تعالى عليه – أنجز هذا المشروع الضخم الهائل العظيم الخطر كما يُقال والأثر في كتابيه الشهيرين مقاصد الفلاسفة الذي عرض الفلاسفة لمسائل الفلسفة تماماً كأحسن ما يُمكِن أن يعرض لها فيلسوف يتبناها، وهذا أيضاً كلام ليس عاطفياً، كل تقريباً الذين درسوا ابن سينا ومن قبله الفارابي ثم درسوا أبا حامد قالوا ما كان لابن سينا فضلاً عن الفارابي أن يحتج لفلسفته ومقبولاته كما فعل أبو حامد، ابن سينا أفضل بكثير من الفارابي في عرض الفلسفة الأرسطية، أصلاً الفارابي فيلسوف أخلاقي بدرجة أولى، كفيلسوف ميتافيزيقي إنتاجه ضئيل، ابن سينا كفيلسوف ميتافيزيقي إنتاجه هائل، النجاة والشفاء موسوعتان، خاصة الشفاء في عشرين مُجلَّداً، فيلسوف هائل رحمه الله وغفر له على ما كان منه، على كل حال لكن بالمُقارَنة مع أبي حامد ما كان لابن سينا أن يحتج لفلسفته ومقبولاته كما فعل أبو حامد، في العرض وفي التصنيف وفي الاحتجاج حتى – عرض الحُجة وترصيفها – شيئ عجيب وجميل ومُبسَّط باللغة العامية الآن طبعاً، باللغة العامية مُبسَّط، سهل قريب، يُمكِن أن تفهم أبا حامد، من الصعب أن تفهم ابن سينا في مواضع كثيرة، لكن من السهل أن تفهم أبا حامد، وهذا يدلك على أن الرجل روحه روح فيلسوف، على أن ملكاته هي ملكات فيلسوف، لماذا؟ شيخ الفلاسفة أرسطو Aristotle نفسه كان يقول علامة الفيلسوف الحق أنه يستطيع أن يُفهِم، لأنه فاهم، بالمُناسَبة أي إنسان في أي تخصص وفي أي فن إذا كان فاهماً يُمكِنه ببساطة أن يُفهِم، أنا لي كلمة أقول فيها كيف نُميِّز الفاهم من غير الفاهم مثل رجل يدّعي العلم ويدّعي الفلسفة ويدّعي الفكر؟ إذا كان فاهماً بشكل حقيقي وواقعي – ليس بشمل مزاعم وادّعاء وتنمس كما يُقال أو تظاهر – يُمكِن أن يُكثِّف لك الموضوع في جُمل أو في جُملة واحدة حتى، قل له لخِّص لي الموضوع وقناعتك في هذا الموضوع في جُملة فيُمكِنه أن يفعل هذا، في جُملة واحدة يُلخِّص، لكن مَن الذي يفك مغالقها؟ مَن الذي يفك شيفراتها ويحل مرامزها؟ صعب، فإن قلت له بيِّن لي ووضِّح كان قادراً أن يُوضِّح لك هذه الجُملة في ألف أو عشرة آلاف جُملة، هذا فاهم، أما إن قال لك لا أستطيع فالموضوع مُعقَّد ولابد من كلام طويل إذن هو غير فاهم، لابد أن يكون لديه القدرة المُزدوَجة هذه على أن يُكثِّف وعلى أن يبسط، أبو حامد كان كذلك رحمة الله تعالى عليه، تقريباً مُعظَم كُتب أبي حامد تبوح أو تشي بهذه السمة، الرجل يستطيع أن يُكثِّف لك علماً وحكمةً هائلةً حتى في العلوم الدينية في جُمل أو في جُملة أحياناً، شيئ مُخيف الرجل هذا، ويستطيع أن يبسط لك هذا في مئات الصحائف بكل بساطة بما يُدهِش ويُعجِب فرحمة الله تعالى عليه.

لكن أيها الإخوة قبل أن يبدأ أبو حامد هذا المشروع الهائل العظيم – كما قلنا – الخطر والشرف والأثر كان مسبوقاً، لا نستطيع أن نقوله أنه بدأ من الصفر، دائماً الناس يبدأون من حيث انتهى غيرهم، لم يبدأ من نُقطة الصفر وإنما كان مسبوقاً، مثلاً هناك أعلام الاعتزال، أعلام المُعتزِلة الذين ناقشوا الفلاسفة في بعض المسائل، مِن أشهر هؤلاء أبو الحُسين الخيّاط رحمة الله تعالى، أبو الحُسين الخيّاط صاحب المُعتمَد في الأصول – كتاب مشهور جداً ومُهِم في أصول الفقه أيها الإخوة – وصاحب الرد على ابن الراوندي المُلحِد، هناك ابن الراوندي الإمامي الشيعي – ليس مُلحِداً – وهناك ابن الراوندي المُلحِد، الرجل الذي ألحد والعياذ بالله، فأبو الحُسين بن الخيّاط أو الخيّاط له الكتاب في الرد على ابن الراوندي المُلحِد، نعم اشتبك فيه مع الفلاسفة في مسائل محدودة قليلة لكن أبا حامد استفاد منه، حين تُقارِن ماذا قدَّم أبو الحُسين تستطيع أن ترى أنه أثَّر في أبي حامد، أبو حامد استسلف هذه الأشياء، الإمام الجويني خاصة في الشامل – في الإرشاد لا، أنا قرأت الاثنين ووجدت أن في الإرشاد لا يظهر هذا الشيئ، لكن يظهر في الشامل بالذات وهو أوسع طبعاً من الإرشاد، الإرشاد كتاب مُتوسِّط، أما الشامل فهو كتاب مُسهَب وبسيط كما يُقال، بسيط وكبير أيها الإخوة – اشتبك أيضاً مع الفلاسفة في نقاط مُعيَّنة، ابن حزم فعل ذلك مرات، في مرات يسيرة اشتبك مع الفلاسفة، وغير هؤلاء، أبو حامد قرأ هذا التراث كله واستفاد منه وهو لا يُنكِر – دائماً لا يُنكِر – فضل المُتقدِّم وفضل السابق، لكنه صرَّح بما هو الحق في ذاته، أنه لم يسبقه أحدٌ في أن فرَّغ نفسه بلُغة العصر لإنجاز مشروع شامل مُتكامِل، قال هذه هي الفلسفة، تقريباً هذه هي مسائل الفلسفة الرئيسة – كل هذه المسائل – وهذا موقفي منها كمُفكِّر وعالم ومُتكلِّم إسلامي، لم يفعل هذا أحدٌ من قبله، ولذلك هو سابق في هذا الباب، هذه مزية عمل أبي حامد، عمل شامل مُتكامِل، عمل كُلي!

ولذلك فعلاً عانت الفلسفة بعد ضربات أبي حامد مُعاناة قاسية بلا شك، لم تمت كما يُقال، هذا غير صحيح، والضربة لم تكن قاصمة، هذا غير صحيح، بالعكس بعد أبي حامد أنتج الفلاسفة أو المُتفلسِفون عدداً من الكُتب فاق ما أُنتِج قبل أبي حامد، ردة فعل! ولكن ضربات أبي حامد كانت قاسية وإن لم تكن قاصمة، قاسية ومُسدَّدة في كثيرٍ منها، كثير من هذه الضربات كما سيأتيكم من نماذج يسيرة كان مُسدَّداً تماماً، ولا يزال العصر تلو العصر يقف مُسعِداً ومُساعِداً لأبي حامد، أنه كان أحظى وأسعد بالحق، خاصة الآن في العصر هذا – عصر العلم الحديث والمُعاصِر – أبو حامد ينتصر، كل يوم ينتصر أبو حامد، ابن رشد يتراجع، انتبهوا إلى هذا وهو عكس ما يظن بعض الناس، وأنا أيضاً أُنبِّه على هذا بين مُزدوَجين، للأسف الشديد أبو حامد ظُلِمَ كثيراً، وتقريباً هذه قاعدة: ما مِن إنسان ينبل – يُصبِح له ذكر وصيت شائع وكبير – إلا ويُظلَم من العلماء، من إخوانه العلماء والمُفكِّرين طبعاً يُظلَم، يُريدون أن يقدحوا فيه، فيقدحون فيه بأوهن الأسباب وأحياناً بطريق هو إلى الافتئات أقرب وإلى الظلم والبهت، يقول قولاً هم يتنبنونه ثم يزعمون أنه لا يقول به ويقولون هذا من أخطائه، هو قال بهذا، اليوم سيأتيكم نماذج على هذا، قال بهذا تفصيلاً، لِم لم تقرأوا على الأقل وإذا قرأتم لِم جحدتم هذا الشيئ؟ لكي يُقال أنهم نقدوا شيئاً على أبي حامد، لا يجوز، الله يُحِب الإنصاف، وليس أبا حامد بالمعصوم بلا شك، له مواطن أخطأ فيها وجانبه الصواب في كثير أو في قليل لأنه ليس معصوماً، ليس نبياً، لكن أن نُلزِمه بما لا يلتزمه وان نُخطّئه فيما أصاب فيه ثم نحن نتبنى صوابه ونزعم أنه جفاه فهذا – والله – من الظلم، ظلم بيّن وصريح، سيأتيكم نماذج من هذا الظلم!

للأسف هناك كلمة في القرن العشرين وحتى في القرن الحادي والعشرين لا أدري مَن أول مَن قال به، أن أبا حامد بإنكاره السببية – وهو لم يُنكِر السببية، سأُوضِّح هذا اليوم بطريقة علمية وفلسفية، لم يُنكِر الفلسفية – أو بإنكاره للعلية ساهم في تأخير قافلة العلم بالمعنى الإمبريقي التجربيبي للعلم، أي Science، قيل ساهم في هذا، أبو حامد هو المسؤول عن هذا، هذه كلمة قالها الشيخ محمد الغزالي وقالها غيره، وكثيرون صاروا يقولونها حتى من دارسي الفلسفة، وهي كلمة ظالمة وجاحدة وغير صحيحة بالمرة، بالمرة غير صحيحة، وسوف أشرح لكم لماذا بالمرة غير صحيحة، أبو حامد لم يُساهِم في هذا، بالعكس سوف ترون اليوم أن أبا حامد لو قُدِّر حق قدره وعُرِف مقدار إنجازه وعطائه وابتكاره لكان في مُقدِّمة المُساهِمين في تقدّم العلم الطبيعي والتجريبي، أبو حامد بالعكس ظُلِمَ، فلابد من الإنصاف، وإياكم أن تنتحلوا أشياء دون أن تُقارِنوا بأنفسكم، كلمة قالها فلان وتبدأون تُردِّدنوها، هذا خطأ، هذا فعلاً يجر إلى الوقوع في ظلم مَن لا يستحق الظلم!

في تقييم عمل أبي حامد في نقد الفلسفة أو في التنقيد على الفلسفة اختلفت أنظار العلماء والمُقيِّمين والفلاسفة في الشرق والغرب، منهم مَن قال أبو حامد أتى بعمل هدمي، لم يأت بعمل بنائي، جُهد أبي حامد الغزّالي هو جُهد سالب نافٍ، هدم! هو فقط هدم أقاويل الفلاسفة، دحض مُعتقَداتهم أو أدحضها، لكنه لم يأت بعمل إيجابي، لم يأتنا بنظام فلسفي آخر، حتى لم يُعبِّر عن وجهة نظر مُتكامِلة في هاته القضايا وهي في الحقيقة في المجموع خمس وعشرون قضية، في تهافت الفلسفة ليس عشرين وإنما خمس وعشرون قضية بالضبط، مَن قرأ هذا الكتاب يعرف هذا، فهو لم يأت بعمل إيجابي، على كل حال هذا القول أقرب إلى الصواب، لماذا؟ لأننا نجد إمامنا وحُجتنا في تهافت الفلاسفة يقول وأنا لم ألتزم في كتابي هذا غير تكذيب مذاهبهم، قال أنا رسالتي أو غرضي أو قصدي أن أُبطِل مذاهبهم، أن أُثبِت أنها مُتهافِتة مُشتاكِسة مُتناقِضة مُتكاذِبة لا مُتصادِقة مُتآزِرة فقط، أما الحق الذي نعتقده فهذا سأخصه بوضع كتاب أو مُصنَّف بحياله، قال هذا سيحدث فيما بعد، يبدو أن همته لم تنشط إلى ذلك أو الموت لم يُسعِفه وعجله، لأنه مات شاباً تقريباً – هو طبعاً ليس شاباً، في اللُغة العربية اسمه الشيخ – عن خمس وخمسين سنة، اليوم بحسب أعمار الناس في العصر الحديث هذا لا يزال شاباً، يقولون لك هذا شاب، ما شاء الله شاب، ستون سنة يقول لك، وماذا فعلت في ستين سنة؟ لم تفعل شيئاً، أبو حامد ملأ الدنيا علماً وضياءً وفكراً وتنويراً خلَّده في الخالدين رحمة الله تعالى عليه وأعلى الله مقامه في عليين، فلعل الموت يكون عاجله قبل أن يُعالِج هذه المسألة في كتاب، كأن يضع جُملة مُعتقَداته بشكل فكري وبشكل كلامي في كتاب على أن له كتباً كلامية، لكن هو لم يعد بكتاب في الكلام، وإلا لقال أنا فرغت من هذا الموضوع، لكن هو وعد بكتاب فلسفي، وهذا بحد ذاته قد يشي بأنه كان واعياً بحقيقة كونه فيلسوفاً وهو ينقد الفلسفة، وطبعاً لا مناص من أن يكون فيلسوفاً، أنت حين تنتدب نفسك للرد على الفلاسفة لابد أن تكون فيلسوفاً، إن لم تكن فيلسوفاً وبدأت ترد أنت في الحقيقة لا ترد وأنت تضرب في حديد بارد وتُقاتِل في غير مُعترَك، تظن نفسك ترد على الفلاسفة كشيخ – مثلاً نفترض – يأتي يرد على الفلاسفة، لا ينفع، يقول هذا باطل وهذا زندقة وقال تعالى وقال الرسول، لكن هذا كلاماً فارغاً يُعتبَر، هذا لا يُعتبَر رداً، لا تقل لي أنت ترد، ليس هكذا يكون الرد، الرد دائماً في كل معركة لابد أن يُناسِبها، كل مُعرَكة تُخاض بماذا؟ بسلاحها، المعركة الإعلامية كيف تُخاض؟ هل بقتل الإعلام المُضاد تُخاض؟ هل نذهب ونقتل الناس مثل القاعدة؟ هل نقول هذا إعلامي فهيا اقتلوه لأن الله قال جاهدوهم؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ الإعلام يُخاض بالإعلام، المعركة الاقتصادية هل تُخاض بضرب الأبراج وتدمير الدنيا ثم نقول هذه معركة؟ قالوا هذه معركة، ما هذا الكلام الفارغ؟ ما هذا الاستهبال والاستحماق؟ المعركة الاقتصادية تُخاض بماذا؟ بالاقتصاد، والمعركة العسكرية على الأرض تُخاض بماذا؟ بالجُند والدبابات والطائرات والقاذفات والراجمات، كل معركة تُخاض بسلاحها، أليس كذلك؟ وإلا تُصبِح الدنيا فوضى، تُصبِح طبيخاً والعياذ بالله، تخيَّل يأتيك إنسان في المسجد هنا يُناقِشك – إنسان مُلحِد يقول لك أنا عندي شُبهة – فتقتله، ثم تقول هذه معركة! هو يُعارِك ونحن نُعارِكه ومن ثم أنهينا حياته لأن هذه معركة، ما هذا؟ الحُجة تُقرَع بالحُجة والسيف يُقرَع بالسيف وهكذا، هو هذا، فلا تقل لي هناك شيخ يرد على الفلاسفة، هذا كلام فارغ، هذا الشيخ يرد على نفسه، لا يُمكِن لشيخ أن يرد على الفلاسفة، الفيلسوف يرد عليه فيلسوف، لذلك يحدث عبث في الإعلام حين يأتون لنا بشيخ لكي يرد على فيلسوف كبير، هذا لا يصح إلا إذا كان الشيخ فيلسوفاً – أهلاً وسهلاً – مثل أبي حامد، فيلسوف يقدر على أن يتكلَّم مع الفلاسفة بمنطق الفلاسفة ومن حُججهم وشُبهاتهم يرد عليهم ومن ثم بمنطقهم يُلزِمهم، هذا هو الفكر، ليس قال الله وقال الرسول وقال ابن تيمية وقال الطبراني وقال الطبري وانتهى الأمر ثم يُقال هؤلاء كفّار وزنادقة، هذا لا ينفع، هذا عبث، واليوم العقل الإسلامي إلى حدٍ ما عبثي، عبثي ومُنتفِخ هكذا ويُعاني من مشاكل، نسأل الله أن يأذن بشفائه.

إذن هذا الرأي أقرب إلى الصواب، بعض الناس رأى غير هذا، رأى أن عمل أبي حامد الغزّالي انطوى على الوجهين كليهما: الوجه النافي الهادم السالب والوجه الباني الإيجابي المُنشيء، هذا نسبياً صحيح، لماذا؟ لأن لأبي حامد إلماعات وابتكارات فلسفية وعلمية في كتابه التهافت غير مسبوقة ومن أروع ما يكون، فهذا يُحسَب لصالح البناء، هذا موجود لكنه ليس بشكل مُتكامِل، الهدم مُتكامِل ومنهجي – هدم مُمنهَج ما شاء الله – ودقيق وعلمي إلى حدٍ بعيد، لكن البناء ليس كذلك، شذرات مُبدَّدة، دي بور De Boer في كتابه الشهير – ذكرته اليوم مرة، ترجمة الأستاذ الدكتور أبي ريدة، “عبد الهادي أبو ريدة” – له موقف مُختلِف، قال أبو حامد له جُهدٌ إيجابي وبالإزاء له جُهدٌ سلبي لكن لا في التهافت وحده وإنما في مجموع كُتبه، في التهافت جُهده سلبي، هدم للفلسفة، وهو صرَّح بهذا، في كُتبه الكلامية كان له جُهد إيجابي، لكن هذا الكلام أنا أقول – كما قلت قُبيل قليل – ليس دقيقاً، لماذا؟ لا تستطيع أن تقول أنه هدم الفلسفة وقدَّم الكلام، نُريد تقدمة فلسفية، فلسفة تُهدَم وفلسفة تُبنى، وتُبنى على أُسس إسلامية، أبو حامد لم يفعل هذا، بشكل واضح لم يفعل هذا، يا ليته فعل، لكن لله حكمة في خلقه وشؤونه لا إله إلا هو، ولأن أبا حامد – رضوان الله تعالى عليه – يا إخواني واخواتي قصد وتغيا نزع الهالة – نزع هالة التقديس والإعجاب والإيثارة عن الفلسفة – فإنه استخدم أساليب لا تُعتبَر صارمة منهجياً، يجب أن نعترف بهذا حتى لا نكون مُتعصِّبين للرجل بالحق والباطل، استخدم أساليب لكن استخدمها عن وعي أيضاً، ولم ينزلق إليها بالتداعي، لم ينزلق إليها بالتداعي وإنما استخدمها بشكلٍ واعٍ، مثل ماذا؟ مثل وصم الفلاسفة أحياناً بالأغبياء، يقول أغبياء، هذه غباوة، هذه بلادة، هذه حماقة! يفعل هذا، لماذا؟ لأنه يُريد أن يُنفِّر الناس عنهم، هو الآن بالحُجة وبالبرهان كما يعلم هذا من نفسه أدحض مقبولاتهم، أدحض عقائدهم ومُنتحَلاتهم، يعرف هذا وفعل هذا فعلاً، جُهده – رحمة الله تعالى عليه – معروف، لكنه يُريد للعامة بالذات أن تنفر من هؤلاء، لئلا يغتروا بهم يفعل هذا، هذا في أسلوب النقاش العلمي غير مقبول، أن تصف خصمك بالغبي أو بالبليد أو بالأحمق غير مقبول، لكنه يفعل هذا مُتعمِّداً، بل فعل ما هو أكثر من هذا، يصف أحياناً طبعاً حُججهم أو شُبهاتهم بأنها ظُلمات فوقها ظُلمات أو ظُلمات فوق ظُلمات، ظُلمات بعضها فوق بعض يقول، قال هذا كله كلام فارغ، ظُلمات بعضها فوق بعض، أحياناً يتفق معهم في المبدأ وفي الفكرة لكنه يدحض أدلتهم ويُسفِّه براهينهم، مثل ماذا؟ في التهافت أيضاً مسألة روحانية النفس، أي تجرد النفس، الفلاسفة يتبنون روحانية النفس الإنسانية وهذا شيئ جيد، مُهِم جداً للأديان والمِلل ومُهِم جداً للاتجاهات الروحية المُناوئة للاتجاه المادي، أبو حامد يفعل هذا طبعاً كمُتكلِّم مُسلِم وهم يفعلون هذا، وفي الحقيقة للإنصاف الفلاسفة الأغارقة – أي اليونان – لهم أدلة قوية مُستجادة في إثبات تجرد النفس وروحانية النفس، إلا أنه لم يقنع بها وجعل يُصاوِل ويُناضِل ويُظهِر عوار هذه الأدلة، لماذا؟ لكي يقول لهم حتى في الحق الذي أصبتموه أنتم أضعف بعقولكم من أن تُقيموا البرهان على حقيته، أنا أذكى منكم، أنا كمُسلِم ومُتكلِّم أذكى، رجل مُعتَد بنفسه، رجل قوي، عملاق هو، ليس شيئاً سهلاً رحمة الله تعالى عليه، يقول لهم أنا على خلفيتي الإسلامية وعلى خلفيتي الكلامية – أي علم الدين بالأُسس الكلامية – أستطيع أن أُثبِت ما تعجزون أنتم عن الاعتقاد به وعن إثباته، تعتقدونه لكنكم تعجزون عن إثباته، أنا سأُثبِت لكم هذا، أما إثباتاته أنتم وبراهينكم فهذا عوارها، مردودة عليكم، فعل هذا رحمة الله تعالى عليه، يتعمَّد هذا.

هذه ملامح منهجية تعمَّد أبو حامد أن يصطنعها رحمة الله تعالى عليه، طبعاً جوهر الكتاب – كما قلت لكم – يقوم على ماذا؟ على إبراز – لا أقول تضخيم وإنما إبراز، الرجل كان مُنصِفاً إلى حد بعيد جداً – تناقض أقاويل الفلاسفة، هذا يقول شيئاً وهذا يقول ضده، هذا ينتحل شيئاً وهذا يُبطِله، لو كانت هذه العلوم الفلسفية وخاصة طبعاً الميتافيزيقا – ما وراء الطبيعة – حقاً في ذاتها كما يعرضها هؤلاء لاتحدت أقوالهم وتسالمت واتفقت على مُقرَّرات بأعيانها، لكنها مُتخالِفة مُتشاكِسة باستمرار، يقول – رحمة الله تعالى عليه – بالحرف ولو كانت علومهم الإلهية مُتقَنةً البراهين نقيةً عن التخمين كعلومهم الحسابية – أي الرياضية – والمنطقية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية، ما معنى الإلهية؟ يعني الميتافيزيقية، ما وراء الطبيعة، انتبهوا إلى أن ليس المقصود بما وراء الطبيعة الجن والملائكة والجنة والنار والله، حتى في عالم الطبيعة هذا، مباحث ما وراء الطبيعة موجودة وكثيرة جداً جداً، مَن تابع معنا دروس الفلسفة يستطيع أن يفهم هذه التفرقة فانتبهوا، لأننا استمعنا إلى بعض الأكاديميين للأسف غير المُتخصِّصين في الفلسفة يقولون أن المقصود بما وراء الطبيعة الله والملائكة والجنة والنار، هذا خطأ طبعاً، الفلسفة ما وراء الطبيعية باختصار هي الفلسفة التي تدرس الوجود بما هو، أي As is – هو هذا – أو As such بمعنى كما هو، فهذه اسمها الفلسفة الماورائية، لماذا سموها الماورائية أو ما وراء الطبيعة؟ بعد مائة سنة تقريباً على وفاة أرسطو Aristotle جاء أحد تَلامذة تَلاميذه ورتَّب أعمال أرسطو Aristotle، أعمال نشرية مُستنسَخة، أراد أن ينشر أعمال أرسطو Aristotle بين طلّاب الفلسفة، فالمباحث التي تدرس الوجود بما هو جعلها في الترتيب وفي الحيز المرئي بعد مباحث الطبيعة: دراسة أجرام السماوات والأرض والمعادن والنبات والحيوان وإلى آخره، كل هذا اسمه الطبيعيات Physics، لما انتهى من الطبيعيات قال سنتكلَّم عن دراسة هذه المسائل، فماذا قال؟ قال هذه أتت بعد الطبيعة، Metaphysic، ما المُراد ببعدها؟ بعدها في الكتاب، في الترتيب، وهذا المُصطلَح مُضلِّل، إلى الآن يُضلِّل مُعظَم الدارسين، يقولون ما وراء الطبيعة يُراد بها الله والجنة والنار، هذا غير صحيح، هذا يدخل في ما وراء الطبيعة لكن حتى الطبيعة ومباحث الطبيعة داخلة، إذا أردت أن تدرس الوجود كوجود وليس كمُتعيِّنات – شمس وقمر وأرض وأنا وأنت وخشب، هذه دراسة طبيعية، وإنما الوجود كوجود بما هو، الوجود بما هو – هذه اسمها الـ Metaphysics، أي ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا، يبدو أن الوقت أدركنا، نكتفي بهذا القدر – إن شاء الله – على أن نُكمِل في حلقة جائية والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: