– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُتابِع معكم أيها الإخوة والأخوات الحلقة الرابعة من سلسلة وأُمسية تسعمائة سنة على وفاة الإمام الغزالي.

تكلَّم الشيخ في المُحاضَرة الماضية – الحلقة الثالثة – عن ما قال عنه العلماء سلباً وإيجاباً، وتحدَّث أيضاً عما هاجمه بعضهم للأسف وندم عليه بعد ذلك الكثيرون وخاصةً في غرب إفريقيا، وتكلَّم عن خاصية إخلاصه حيث كان قلبه مُسربَلاً بالإخلاص، وتحدَّث بعد ذلك عن مُصنَّفاته في شتى العلوم التي ستعودوا إليها – إن شاء الله – في الحلقة الثالثة في علوم التصوف وفي علوم المنطق وفي الفقه وغير ذلك، وأهم ثلاثة كُتب برأي شيخنا الفاضل التي خلَّدت الإمام الغزالي في عالم العلم والفلسفة: الإحياء والمُنقِذ والتهافت، وبعدها دخلنا الآن في حياته ودراسته الفلسفية، وليتفضَّل شيخنا عدنان لمُتابَعة هذه السلسلة من المُحاضَرات.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك يا أبا عدنان وشكر الله لك.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

قلنا إذن هو شرع بعد ذلك – أي بعد زُهاء ثلاث سنوات – في وضع كتابه تهافت الفلاسفة، هذا سنعود إليه طبعاً ونرى ماذا ناقش من الفلسفة وكيف ناقش الفلاسفة وإلى ماذا انتهى رحمة الله تعالى عليه، له مجموعة كتب في الرد على الباطنية الذين كانوا يُسمون بالتعليمية، وأشهر فرقهم من فرقهم الإسماعيلية أو الحشّاشين الذين اغتالوا عدداً من القادة السياسيين والروحيين في العالم الإسلامي، وقد كان من الخطر العظيم بمحل أن يتصدى أبو حامد للرد على هؤلاء وفضحهم لأنه كان يُعرِّض نفسه بذلك للقتل إلا أن إخلاصه وحُبه وذوبانه بل فناءه في دينه ومِلته هو الذي حمله على أن يعمد إلى هتك أستار هؤلاء وفضح مناهجهم الباطنية الزنديقة الهرطوقية بلسان ذرب وقلم سيّال، فوضع كتابه فضائح الباطنية، كتاب مشهور فضائح الباطنية، هذا نشر منه إجناتس جولدتسيهر Ignác Goldziher المُستشرِق المجري جُزءاً مع تعليقات ضافية باللغة الألمانية، ثم بعد ذلك المرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي نشره كاملاً، أعني فضائح الباطنية، له المُستظهِر، له كتاب المُستظهِر وأيضاً هو يُناقِش فيه الباطنية.

طبعاً حين نتحدَّث عن الباطنية سنتوسَّع – إن شاء الله – بعض توسع مما يليق بالمقام عن مناهج هؤلاء وماذا كانوا يرمون إليه، المُستظهِر بناءً على طلب من الخليفة المُستظهِربالله العباسي، طلب إليه أن يكتب كتاباً في الرد على هؤلاء فألَّف كتاباً سماه المُستظهِر، هناك تفسير في الديار الهندية اسمه المُستظهِر أيضاً لكن قصة مُختلِفة، وله أخيراً قواصم الباطنية، إذن فضائح الباطنية وقواصم الباطنية والمُستظهِر، ثلاثة كتب مشهورة لأبي حامد الغزّالي يهدم فيها على رؤوس الباطنية بُنيانهم من القواعد.

التصوف ذكرناه، له في الجدل كتاب المُنتخَل، أي اللُباب المُنتخَل، هذا في علم الجدل بين الفقهاء، وأخيراً في علم الكلام – ما المُراد بعلم الكلام؟ علم أصول الدين، علم التوحيد، بالمُصطلَح المُعاصِر علم العقيدة – له مجموعة كُتب كما قلنا، من أفضلها وأجملها كتاب أصول أو قواعد العقائد، يُسمى أصول العقائد أو قواعد العقائد، على أنه كتاب أنا أقول للمُبتدئين وللمُنتهين الذين لا يُريدون الدخول في شُعب الحجاج وتشقيق الكلام، لكنه محسوب على علم الكلام، له كتاب الاقتصاد في الاعتقاد وهو مشهور، كتاب في زُهاء مائة وخمسين صفحة ويسير وقريب في علم الكلام بطريقة سهلة، وسر تسمية هذا الكتاب الاقتصاد في الاعتقاد أنه أراد به وأراد له أن يكون وسطاً بين موقفين، موقف الجامدين من المُقلِّدة أو المُقلِّدين الذين يجمدون على ظواهر النصوص ويأخذونها كما هي دونما إعمال لرأي أو فكرة، وهذا يليق بالعوام وطلّاب العلم البرءاء من التعمق وسبر أغوار العلوم، وموقف الذين بالغوا وتنطعوا وغلوا في استعمال العقل وحُججه لكن عن طريق بالذات الفلسفة والعلوم الحكمية حتى شغبوا على قواعد الدين وانتهوا إلى الشك والتشكيك، طبعاً كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ، والحق وسطٌ بين الجافين عنه والغالين فيه، فألَّف هذا الكتاب لكي يكون قصداً ووسطاً بين الموقفين وأسماه الاقتصاد في الاعتقاد، وكما تُلاحِظون الإمام مُوفَّق في موضوعات كُتبه وفي عرضها وترتيبها وترصيفها وحتى في الأسماء سُبحان الله، ولذلك فعلاً قيل لم يُرزَق تقريباً أحد من السعادة ما رُزِق أبو حامد في تصانيفه، وسُبحان الله أطارت كل مطار، فهذا كتاب أيضاً له في ذلك العلم، وله أخيراً كتاب ألَّفه في أُخريات حياته – ربما خمسمائة وثلاث أو خمسمائة وأربع – اسمه إلجام العوام عن علم الكلام، مَن أراد أن يعرف ما انتهى إليه موقف حُجة الإسلام من علم الكلام فعليه أن يقرأ هذا الكُتيب، كُتيب يُقرأ في جلسة يسيرة جداً اسمه إلجام العوام عن علم الكلام، فرحمة الله على إمامنا رحمةً واسعة.

أبو حامد الغزّالي إخواني وأخواتي نُسِبَت ونُحِلَت عليه مجموعة كُتب، طبعاً هذه كانت عادة سارية للأسف في القرون الوسطى الإسلامية وغير حتى الإسلامية، في أوروبا نفس الشيئ، شخصٌ خامل الذكر، غير مشهور بين الناس، ليس له اسم ولا وزن ولا قامة بين القامات الشامخة ولكنه مُتعصِّب لعقيدته، مُخلِص لها، مُجِد في نشرها وبثها بين الناس، ماذا يفعل؟ ينحل إماماً مشهوراً كالإمام الغزّالي كتاباً يضعه، يقول هذا تأليف حُجة الإسلام وشيخ كذا وإلى آخره، والناس تُخدَع بهذا وتمضي الفكرة، فمن أشهر ما نُحِلَ على أبي حامد ومُحال أن يكون له كتاب حقير جداً اسمه المضنون به على غير أهله، وهناك مضنونان: المضنون الصغير والمضنون الكبير، وكلاهما منحولان، هل تعرفون لماذا؟ لأن في المضنون أبو حامد يُثبِت قِدم العالم، أن العالم أزلي غير مخلوق، أي غير حادث، وهذا مُستحيل، وقد ناضل أبو حامد نضالاً قوياً جداً في زُهاء خمسين صحيفة – في إحدى طبعات التهافت تُوجَد خمسون صفحة أيها الإخوة – لكي يرد على فرية الفلاسفة في قِدم العالم، أن العالم قديم وغير حادث، أي غير مخلوق، قالوا قديم، فقال لا، هذا مُستحيل، العالم حادث، وأتى بأدلة كثيرة ما بين جدلي وبرهاني في خمسين صحيفة، هل هذا الكلام نقضه وعاد عنه في صحائف يسيرة من هذا الكُتيب المحقور المضنون به على غير أهله؟ مُستحيل، في المضنون به يُنكِر علم الله بالجُزئيات زاعماً أن إثبات علم الله بالجُزئيات يقتضي حصول الأعراض في ذات الله وتغير علم الله، فإذن الله يعلم الأشياء بنحو كُلي ولا يعلمها بنحو جُزئي، وهذه المسألة هي المسألة الثانية من ثلاث مسائل كفَّر أبو حامد الغزّالي بها الفلاسفة في كتابه التهافت: قِدم العالم وإنكار علم الله وإنكار الحشر الجسدي، أي بعث الإجساد مع الاعتراف بحشر الأرواح، فكيف يقول بهذه؟ فهذه من الكُتب الزنديقة التي أُخِذَت على منوال المقاصد، هو ذكر هذه الأشياء في المقاصد واحتج لها كما يحتج الفلاسفة لكنه عاد فهدمها عليهم في كتاب التهافت، فالذي ألَّف هذا الكتاب أخذه من أين؟ من المقاصد، وفيه أسلوب الغزّالي وكلام الغزّالي فقد يُخدَع به المرء، قد يُقال هذا يا أخي نفس الغزّالي، وصحيح هو نفسه لكن نفسه أين؟ في المقاصد، ونفسه واحد في المقاصد والتهافت، لكن مذهبه أين؟ في التهافت لا في المقاصد، فمسألة النفس لا تُشكِّل حكماً في تصحيح نسبة الكتاب، انتبهوا إلى هذا، لأن يُقال هذا نفس الغزّالي، نعم نفسه ولذلك الذين نبَّهوا على منحولية هذا الكتاب وعلى وضعه على الغزّالي قالوا هو مأخوذٌ من المقاصد، مأخوذٌ وُمجرَّدٌ ومُنتخَبٌ من المقاصد ففيه نفس وأسلوب الغزّالي، صحيح لكن لا يُشكِّل مذهبه البتة رحمة الله تعالى عليه، فهذا من الكُتب المدسوسة والمنسوبة للإمام أبي حامد الغزّالي، وهناك كُتب أُخرى، هناك الرسالة القُدسية المُختَلف فيها، معارك القدس مُختلَف فيه، حتى مشكاة الأنوار مُختَلف فيها، سر العالمين وكشف ما في الدارين واضح أنه منحول، طبعاً هناك أدلة كثيرة ودقيقة جداً جداً يقطع بها الدارس أن سر العالمين كتاب منحول على أبي حامد، وفيه طعن ووقيعة في أبي بكر وعمر بشكل صريح، لا يُمكِن أن أبا حامد كتبه، لماذا؟ لأن هذا الكتاب فيه استشهادات وأشياء بأُناس خلقهم الله بعد أبي حامد، فواضح أنه موضوع عليه بعد مُدة من وفاته، فليس فيه تعلل، على كل حال هذا بالنسبة لبعض المُؤلَّفات المنحولة على أبي حامد رحمة الله تعالى عليه.

أخي أبو عدنان – بارك الله فيه وشكر له – ذكر أنني ذكرت المادحين – وهذا صحيح – والطاعنين، أنا ذكرتهم بنحو إجمالي، الآن سأُفصِّل بعض تفصيل، أشهر الطاعنين في أبي حامد هؤلاء: الإمام المازري – رحمة الله عليه – العلم الخفّاق، وهو من أئمة المالكية الكبار ومن أذكيائهم رحمة الله تعالى عليه، صاحب شرح مُسلِم الشهير المُعلِم، والإمام المازري هو شارح البرهان للجويني، يُقال هو أول مَن تجرأ على شرح البرهان لعلمه أيضاً وبُعد غوره وذكائه، المازري – أبو عبد الله المازري – عنده كتاب اسمه إنباء الأحياء بكتاب الإحياء، فانتقد فيه أبو حامد وشدَّد عليه النكير في هذا الكتاب، ومنهم أبو بكر الطرطوشي صاحب سراج الملوك، الفقيه والإمام والواعظ أيضاً المالكي الشهير والرجل الصالح حقيقةً، هذا كان من الرجال الصالحين المُتصدين لظلم الملوك والسلاطين، أيام عليّ بن يوسف بن تاشفين الذي سُجِن هو أبو الحكم بن برجان، وأما الإمام أبو بكر الطرطوشي فسُجِن أيام الأفضل بن أمير الجيوش وهو من نسل صلاح الدين، سُجِن أيام الأفضل ودعا على الأفضل بالموت ومات كما دعا عليه في صبيحة عيد، لا أدري عيد فطر أو عيد أضحى، دعا عليه بعد صيام استمر أياماً وأفطر فيه على المُباح، قال فرأيت سهماً من الغيب جاء فوقع في قلبي فقتله، فمات – سُبحان الله – في صبيحة العيد كما أخبر الإمام الطرطوشي، رجل صالح طيب مدح أبا حامد ثم نال منه بكلمات صعبة جداً جداً منكورة حقيقةً، سنرى ماذا قال أبو بكر الطرطوشي، أبو عمرو بن الصلاح الإمام الشافعي – هو أحد الشافعية كالإمام الغزّالي، الشهرزوري هذا – صاحب مُقدِّمة علوم الحديث، إمام جليل معروف، أبو عمرو بن الصلاح طعن في الغزّالي لأجل اعتداد الغزّالي بالمنطق كما ذكره في أول المُستصفى من أصول الفقه وسأذكر هذا، وأخيراً تَلميذه أبو بكر بن العربي طعن في الغزّالي لأجل ماذا؟ لأجل كلمة ذكرها في كتاب التوكل من إحيائه، حاصلها – هو لم يقلها بهذا الأسلوب ولا بهذه الصياغة لكن نفس المعنى أو المعنى نفسه – ليس في الإمكان أبدع مما كان، سنشرحها ونقول ماذا قال أبو حامد وبماذا رد ابن العربي وبماذا نرد نحن، وطعن فيه بأنه – كما قلت لكم – بضاعته في الحديث مُزجاة وبأنه بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما قدر على ذلك، هؤلاء هم أشهر كبار الطاعنين فيه!

أما الإمام المازري – رحمة الله تعالى عليه – فالعجب – ولكن هذا من صدقه إن شاء الله، الرجل صادق إن شاء الله وحسن النية – أنه تكلَّم في أبي حامد وطعن عليه ورغَّب الناس عن إحيائه وزهَّدهم فيه مع اعترافه بأنه ما قرأ الإحياء وإنما قرأ نُبذاً يسيرةً منه، يُؤلِّف كتاباً – ولكم أن تتخيَّلوا هذا – يُزهِّد الناس في الإحياء ويُرغِّب الناس فيه عن الإحياء ويطعن فيه في الإحياء وصاحبه – لكن انظروا إلى الصدق – مع اعترافه – تُوجَد عجائب هنا – أنه ما قرأ إلا نُبذاً يسيرةً من الإحياء، فما الذي أخذه على أبي حامد بهذه النُبذ؟
أخذ عليه أولاً أنه تأثَّر بإخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا بحمد الله تقريباً – وهي زُهاء ستين رسالة – موجودة ومطبوعة في أربع مُجلَّدات، يتعطاها طلّاب العلم والحكمة ويعرفونها، فيها ضلال كثير وحق قليل، وفيها استقلال وجراءة والعياذ بالله، على كل حال إخوان الصفا في المشهور هم أيضاً من الطوائف الباطنية، إسماعيلية كانوا على كل حال، إخوان الصفا وخلان الوفا!

كون أبي حامد قطع هذه الرسائل قطعاً قرأها، وهو قرأ تقريباً كل ما يمت إلى موضوعاته بصلة، هو رجل موسوعي مُتبحِّر، لكن نُريد أن يقف بنا الإمام المازري أو غيره على موضع واحد مما يُنكَر مُوافَقة إخوان الصفا فيه وافقهم فيه أبو حامد، غير موجود أبداً أبداً، إنما هو تهويل بالكلام، كأنه يُنكِر أنه قرأ إخوان الصفا، أي رسائلهم، لكن ليس في قراءة رسائلهم ما يُعاب، بل المفروض على مَن يتصدى لما تصدى لمثله أبو حامد أن يقرأ هؤلاء وغيرهم وغيرهم وغيرهم، وهو قال هذا في المُنقِذ كما قلنا، قال لا تستطيع أن ترد على أهل العلم حتى تبلغ ما بلغ أعمقهم علماً في علمه وتقف على أبعد غور لهذا العلم أو هكذا عبَّر رحمة الله تعالى عليه.

ثم ادّعى المازري أنه مُتأثِّر بالفلاسفة، أين؟ أبو حامد حديثه عن الفلسفة فعلاً حديث غير مسبوق، حديث يتسم أولاً بالوضوح التام، لم يتعاط مع الفلسفة على أنها شيئ هُلامي وعالم من الغموض ولا بالانطباعات، أبو حامد لا ينطبع أبداً، أبو حامد يُفكِّر، ليس شخصاً انطباعياً، من أجمل ما وقفت عليه من كلام أبي حامد أنه قال أدنى ما يتميَّز به العالم من العامي الغمر – هذا الأدنى ونقول لكم الآن بين ظفرين أو بين مُزدوَجين، اليوم مُعظَم علماء العصر لا يتصفون بهذه الصفة، فهم في الحقيقة في رُتبة العوام وإن حملوا الشهادات وصنَّفوا المُصنَّفات، أبو حامد يقول هذا أدنى، لا تزال هذه بداية العلم، لكي تكون عالماً هذا أدنى شيئ، ما هو أيها الإخوة؟ – ألا يستقبح العسل الطيب إذا رآه في محجمة الحجّام، محجمة الحجّام يُوضَع فيها الدم، والدم مُستقذَر بالطبع، فالآن مُعظَم الناس إذا رأى العسل في المحجمة يستقذره، مُستحيل أن يتناوله مع أنه شهي لاذ، لماذا؟ لأن المحجمة هذه ظرفٌ للمُستقذَر وهو الدم، إذن هذا يُصبِح قذراً، لكن هذا مُستحيل، هذه محجمة مغسولة ومطهَّرة فوضعنا فيها العسل، العسل يبقى معناه الذاتي وهو طيبة وطهارته موجوداً فيه وإن اختلف الظرف، هذا ليس ظرفاً للعسل، وأما الدم مُستقذَر لمعنى ذاتي فيه، يقول أبو حامد – العامي يظن أن الدم مُستقذَر لظرفه – لأنه يُوضَع في المحجمة، والمحجمة ظرف الدم – وما أصاب، إنما استُقذِر الدم لمعنى ذاتي فيه، فسواء وُضِع في المحجمة أو لم يُوضَع هو قذر، وإن وُضِعَ الطيب في المحجمة هو طيب، لأنها مغسولة ومُطهَّرة، لكن العامي لا يستطيع أن يُميِّز، قال العالم أدنى درجاته أن يُميِّز، هذا شيئ طيب رغم أنه في محجمة، يبقى طيباً ومن ثم سأتناوله، بمعنى أن العالم يأخذ الحق وإن كان على لسان العدو، وإن كان على لسان الكافر، وإن كان على لسان المُبتدِع، وإن كان على لسان إبليس كما علَّمنا الرسول، قال صدقك وهو كذوب، أليس كذلك؟ الحكمة ضالة المُؤمِن، لكن أبو حامد يعلم أن هذا نص يقوله طُويلب علم لكن لا ينزل عملياً على مُقتضاه مُعظَم مَن يتنمَّس بناموس العلماء ويترسَّم برسمهم، يُقال لا، مُبتدِع ضال، وكما قال العلّامة السُبكي الكبير البشر يتكيَّفون بما نشأوا عليه، هو نشأ على أن يُسيء الظن – مثلاً – في الفرقة الفلانية، فيُسيء الظن في علمائها وعامتها وفي كتبها وفي كل شيئ، إن صدقوا وإن أصابوا وإن أخطأوا دائماً هو سيئ الظن، وينظر إلى كل شيئ على أنه مما يُستقبَح ويُذَم، بالعكس يا أخي، ميِّز فأنت عالم مُستقِل، العامة تفعل هذا، ولذلك الآن يُمكِن اختبار عوار موقف هؤلاء المُتنمِّسين أو حتى العامة من الناس بأن تأتيه بكلام لإمام جليل من أجلة أئمته مِمَن يرضاه ويتبعه وهو له قدوة وأسوة، وتقول له انظر إلى ما يقول الشخص الفلاني، وهو من أعدائه، يقول نعم، أرأيت؟ هذا الكلام لا يقوله أشباه البهائم، هذا كلام زندقة، هذا كلام كذا، وفعلاً يراه شيئاً كريهاً، فإن قلت له لكنه كلام إمامك أُسقِط في يده ولم يحر جواباً، لأنه عامي، العالم ليس كذلك، جميل أن أبا حامد يقول هذا أدنى ما يتميَّز به العالم من العامي، أول درجة هذه، فإذا لم أجد العالم اليوم يتميَّز من العامي في هذا الباب كيف أحكم له بعلم أصلاً؟ انتهى الأمر، لا تُوجَد حتى إمكانية نقاش، هذا أبو حامد، شخصية مُستقِلة جداً، لا يهاب أن يقرأ للفلاسفة ولا إخوان الصفا ولا أرسطو Aristotle ولا غير ذلك، يقرأ كل شيئ، وقد قرأ الكتب النصرانية، وبالمُناسَبة نحن لم نذكر هذا، كان ينبغي أن نذكر أن من ضمن الميادين التي صال فيها وجال ميدان مُقارَنة الأديان، فكتب كتاباً على وجازته جميل جداً وقوي ويقع موقع القبول بين المُتخصِّصين في هذا الباب ولكم أن تتخيَّلوا هذا، اسمه الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، تخيَّلوا هذا، إذن هو قرأ الأناجيل، قرأ النصرانية، قرأ اللاهوت المسيحي، ورد عليهم بمنطقهم وبمُسلَّماتهم، رد عليهم بنصوصهم في كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، هذا الغزّالي رحمة الله تعالى عليه.

فما الذي أخذه المازري عليه؟ أنه تأثَّر لإخوان الصفا وأنه تأثَّر بالفلاسفة، أين تأثّر بهم يا مازري؟ أبو حامد تحدَّث عن الفلسفة بشكل دقيق كما سيأتيكم في إبانه – إن شاء الله – أو في محله، والفلسفة كانت تُسمى أم العلوم، فُسطاط العلوم، ففي الفلسفة هناك الإلهيات وهناك الطبيعيات وهناك الرياضيات وهناك السياسة وهناك الأخلاق، علوم كثيرة، نُريد أن نعرف عن أي فلسفة نتحدَّث؟ وهو ميَّز واتخذ موقفاً من الكل، قال بالنسبة للرياضيات برهانية مُجاحَدتها غير مُمكِنة، لا تتعارض مع الدين، ماذا نفعل؟ أهلاً وسهلاً بها، تفضَّلي، يدخل فيها الهندسة والحساب والفلك، ينبنون عليها، انظر إلى هذا، عقل مُمنهَج، بالنسبة للطبيعيات – أصبحت الفيزياء Physics بعد ذلك – قال هذه تتخالف مع الدين في مسائل يسيرة، ومُعظَم مسائلها لا تتخالف مع الدين وليس من شأنها أن تتخالف مع الدين، اعبري، المُهِم سنتحدَّث عن هذا في إبانه، المُشكِلة هي في الإلهيات، الحكمة الأولى، الفلسفة الميتافيزيقية Metaphysics، قال هنا مُعظَم أغاليطهم، هنا نفترق عنهم ونصطدم بهم ونُنافِح ضدهم، وقد خطأهم في زُهاء عشرين مسألة وأكفرهم في ثلاث منها، هذا كلام جميل، يأتينا المازري وهو لم يقرأ الفلسفة ولم يعرفها كما قال السُبكي ويقول أبو حامد مُتأثِّر بالفلسفة، المازري لا عرف الفلسفة ولا قرأها ولا واضح من أي صحيفة له أن قرأه فيها كتاباً واحداً، كيف تأتي وتقول لي أبو حامد مُتأثِّر بالفلسفة لأنك تُريد أن تشينه بهذا وتطعن عليه؟ هذا ليس من الإنصاف، لكن السُبكي أراد أن يعتذر عن المازري باختصار فقال المازري شخصٌ فاضل وعالم ذكي وما إلى ذلك لكنه كشأن سائر العلماء من أمثاله، أشعري مُتعصِّب مالكي، أشعري مُتعصِّب جداً، لا يُجيز ولا يرى مندوحة من مُوافَقة أبي الحسن في كل شيئ، يُوافِق أبا الحسن الأشعري في كل ما قال في صغير أمره وكبيره، هكذا المازري! مَن خالف أبا الحسن في مسألة صغيرة مُباشَرةً يُخطئه دون أن ينظر، قال هذا غلط، هذا تعصب قال، هذا لا يُقال في حق أبي حامد، أبو حامد من أعلام الأشاعرة الكبار وعنده تجديد في المنهج الكلامي، أليس كذلك؟ وفي بعض مقولاته وفي بعض دقيق كلامه أيضاً، المُقدِّمات الطبيعية والعقلية! هذا لا يُقال في حق أبي حامد، لكن هذا تعصب المازري، ثم أن ليس له تأنس بالمرة بهذه العلوم الحكمية والفلسفة وغيرها، هو لا يعرفها ومن ثم يُنكِر، والإنسان عدو ما جهل، ويتكيَّف بما نشأ عليه وانطبع به، هذا أكيد، وينظر إلى الأمور من الزاوية التي اعتاد النظر إليها منها باستمرار، لكن أبو حامد له زوايا أُخرى، فالمُهِم الإمام السُبكي أطال الكلام هنا في رد كلام المازري وأتى بأشياء جيدة ومُستجادة حقيقةً، هذا من صحيفة مائتين وأربعين فما بعد ذلك، هنا الإمام السُبكي نُريد أن نقرأ له قليلاً مما كتب رحمة الله تعالى عليه، يُوجَد كلام طويل لكن على كل حال كله رد على المازري يُمكِن أن تعودوا إليه لكن أنا ذكرت لكم الحاصل، أنه مُتعصِّب لكون أشعرياً وليس له تأنس بهذه العلوم.

الطرطوشي الآن نفس الشيئ، كلامه شبيه بكلام المازري، طبعاً مدح أبا حامد في البداية وأنه من أهل العلم وأن فضائله نهضت به وأنه عالم كبير وكذا لكن له كتاب اسمه الإحياء يقول شحنه بالكذب على رسول الله فلا أعلم على بسيط الأرض كتاباً أكثر كذباً منه، هكذا بهذا الإطلاق قال هذا كتاب أكاذيب! طبعاً لابد أن نقف عند هذه النُقطة، كون الإحياء – كما قلت لكم – فيه أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة ولا سند لها – لا خطام ولا زمام – هذه حقيقة، ونُذكِّر للمرة الثالثة، الإمام السُبكي عددها أو عدَّها وأحصاها فإذا هي ثلاثةٌ وأربعون وتسعمائة حديث، وهذا عدد هائل، في كتاب في أربع مُجلَّدات زُهاء ألف حديث بلا سند، ما الذي حصل؟ لماذا؟ هذا لابد منه، سواء كنت تُحِب الغزّالي أو لا تُحِبه لابد أن تعترف بهذه الحقيقة، هذه حقيقة لابد أن تقوله، حقيقة واضحة!

أولاً أبو حامد الغزّالي لم يكن من أهل الحديث ولا رواه ولا تُعرَف له رواية، يُقال في آخر حياته – يبدو في آخر أشهر – استدعى الحافظ أبا الفتيان فجاءه مُعزَّزاً مُكرَّماً وأكرمه وأحسن وفادته ونُزله وانتهز فرصته ليسمع منه الصحيحين، فلعله أتم سماعهما، لكن لا تُعرَف له رواية بالسند المُتصِل، لم يعتن بهذا العلم، هل تعرفون لماذا؟ هذه كانت طريقة أكثر علماء الشافعية في وقته، أبو المعالي الجويني نفس الشيئ، ليس أحسن حالاً من أبي حامد في الحديث وهذا معروف، حتى في كتبه الكلامية له طوام، يأتيك بأحاديث لا أصل لها ويبني عليها مسائل في الإمامة وما إلى ذلك وهي لا أصل لها، كانوا ضعفاء، هل تعرفون مثل مَن؟ مثل مُعظَم علماء الأزهر في القرن العشرين، ضعفٌ خطير جداً في الحديث، ولا يُعنون بالأحاديث ولا بتخريجها، حتى في مُؤلَّفاتهم لا يُخرِّجونها، ليس لهم عناية بهذا الشيئ، سُبحان الله هذا يحدث أحياناً، حقبة مُعيَّنة أو طائفة مُعيَّنة أو مُؤسَّسة مُعيَّنة لا تُعنى بهذا العلم، فيبعث الله ربما مَن يُجدِّده فيحيا به هذا العلم، فلم يكونوا يهتمون.

ثانياً كتاب إحياء علوم الدين كتاب إذا أردنا أن نُعطيه تصنيفاً فنقول كتاب في التصوف كما ذكرنا اليوم، أليس كذلك؟ فيه فقهيات بلا شك، فيه عقديات بلا شك، لكن ما الذي يغلب عليه: الفقه أو العقيدة أو التصوف؟ التصوف، علم الأخلاق والتربية النفسية والتزكية، هو كتاب تصوف في النهاية، كتاب تربية نفسية وهذا جميل، وهذا الكتاب له مصادر، يزعم الإمام المازري أن مصادره في التصوف تعتمد على مصدر واحد تقريباً: أبو حيان التوحيدي وإشارات الفلاسفة وأمثال هؤلاء، غير صحيح! أين تأثَّر أبو حامد بأبي حيان؟ أبو حامد في المُنقِذ – وربما أيضاً في غيره – ذكر مصادره بشكل واضح، قال لك أنا مصادري في التصوف كُتب أبي طالب المكي وهذا صحيح، هذا واضح جداً جداً، أنت حين تأتي بقوت القلوب وعلم القلوب لأبي طالب المكي وتُقارِن بالغزّالي ترى أن الغزّالي اعتمد كثيراً جداً من شواهده ونقوله ومفاهيمه من أبي طالب المكي، لكن – كما قلت لك – أعاد صياغته بروحه الخاصة، لكن الشواهد والنقول والآثار من أبي طالب المكي، وهذا كان أولاً، ثانياً كُتب الحارث بن أسد المُحاسَبي، وهو اعترف بها، ولذلك قال العلّامة شيخ الأزهر عبد الحليم محمود أبو حامد استبطن الحارث، استبطنه تماماً، واضح أنه قرأ كل كُتبه وتأثَّر بها جداً، هذا واضح، ثالثاً وأخيراً المأثورات أو المنثورات المأثورة – هكذا نُعبِّر بهذه الصيغة – عن رجال الصوفية الكبار مثل أبي بكر جُحدر الشبلي وأبي يزيد البُسطامي وأمثال هؤلاء، هو اعترف وقال لك هذه مصادري، وليس من بينها أبو حيان التوحيدي، أبو حيان تكلَّم عن التصوف بلغة عقلية وأدبية وليس بلغة روحية حقيقية، انتبهوا إلى هذا، وكم بين تصوف أبي حيان وتصوف الغزّالي والمُتصوِّفة التقليديين من فرق وبون واسع! فهذه أيضاً دعوى من الإمام المازري ما حمله وجرأها عليها إلا أنه لم يقرأ إلا نُبذاً يسيرةً من الإحياء للأسف الشديد.

بالنسبة لأبي بكر الطرطوشي – رحمة الله عليه – قال ثم خرج – بمعنى الكلام – من نطاق الفقه ودخل ميدان العمّال، مَ العمّال؟ الصوفية، كان فقيهاً مُؤصَّلاً ترك الفقه وقوانين الاشتراع في غُمرة العمّال، أي المُريدين السلّاك الصوفية، عمّال الآخره، ليس عمّال الترحيلة وإنما عمّال الآخرة، قال وترك العلم والتعليم وألَّف هذا الكتاب، الطرطوشي يراه من أسوأ الكتب، كما قلنا محشو بالكذب على رسول، هو أكثر كتاب على البسيطة أو الأرض كذباً يقول، أعوذ بالله، كلمة عظيمة هذه، كلمة عظيمة حقيقةً نعوذ بالله من شؤمها ونُعيذه – إن شاء الله – من شرها، قال وحشاه بإشارات الصوفية ومرامزهم، رموز صوفية، وربما ادّعى أنه غير أنيس بها أيضاً ولا يفهمها، هذا حاصل كلامه إلى أن قال حتى كاد ينسلخ من الدين، أستغفر الله العظيم، الطرطوشي اتهم الغزّالي أنه كاد ينسلخ من الدين، كلمة عظيمة جداً، لماذا؟ إشارات الصوفية ومرامزها سوف نتكلَّم عنها – إن شاء الله – بنوع من التفصيل حين نتكلَّم عن أبي حامد الصوفي، أحسن تحقيقاً تقرأه عن شطحات الصوفية ورموز الصوفية لأبي حامد الغزّالي يُقسِّمها تقسيماً ثُنائياً ينحل إلى ثلاثي من أعجب ما يكون وله قانون دقيق جداً جداً في ذلك، لا تجده عند غيره، أهذا يُتهَم بأنه حشا كتابه بإشارات ومرامز غير أنيس بها ولا يعرف مرماها؟ مُستحيل، يعرف هذا بدقة شديدة الرجل وهو مُمنهَج، لكن لا أدري ما الذي حمله على مثل هذا الكلام، للأسف الشديد قالوا ذلك، ولذلك قال الإمام السُبكي – يرى أن هذا الكلام فيه اعتساف وفيه تهور – وأنا أتكلَّم على كلامهما – أي المازري والطرطوشي – ثم أذكر كلام غيرهما وأتعقبه أيضاً واجتهد ألا أتعدى طور الإنصاف وألا يلحقني عرق الحمية والاعتساف، بعد ذلك يقول الكلام هذا ظاهره أنه دفاع عن الدين وما إلى ذلك وباطنه عصبية للمذهب المالكي، المسألة كلها عصبية للمذهب المالكي، رأوا أن أبا حامد دخل بلادهم بالإحياء فصرف ربما طلّاب العلم إليه وإلى منهجه، لم يُريدوا هذا، المالكي فقط يُدرَّس، فحملهم ذلك على تنقصه والتزهيد فيه وترغيب الناس عنه، باسم ماذا؟ الدفاع عن الدين، كما يحصل الآن باسم الدفاع عن منهج السلف والسلفية وما إلى ذلك يتم الطعن في علماء وأئمة ومُجاهِدين كبار ووصمهم بالنبذ الذي لا يليق بالعامة فضلاً عن الأئمة والعلماء الكبار وإلى آخره، ولذلك مدح الإمام المازري فقال إن هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحةً – انظر إلى إنصاف السُبكي – وأحدهم ذهناً بحيث اجترأ على شرح البرهان لإمام الحرمين – كما قلت لكم هذا اسمه لُغز الأمة – وهو لُغز الأمة الذي لا يحوم نحو حماه ولا يُدندِن حول مغزاه إلا غوّاصٌ على المعاني، ثاقبُ الذهن، مُبرِّز في العلم، وكان مُصمِّماً على مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري رضيَ الله عنه جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، لا يتعداها وُيبدِّع مَن خالفه ولو في النزر اليسير والشيء الحقير – مُتعصِّب للأشعرية المازري -، ثم هو مع ذلك مالكي المذهب، شديد الميل إلى مذهبه، كثير المُناضَلة عنه، وهذان الإمامان أعني إمام الحرمين وتَلميذه الغزالي وصلا من التحقيق وسعة الدائرة في العلم إلى المبلغ الذي يعرف كل مُنصِف بأنه ما انتهى إليه أحدٌ بعدهما – لا المازري ولا غير المازري، وهذه هي المُشكِلة، فيأتي الأقل ليتنقَّد على الأعلى والأكثر، هذا لا ينفع، لا يقدر ولن يُصيب المحز، وإذا قطع فلن يقطع في مقطع، وفعلاً قطعوا لكن في غير مقطع، في اللحم الحي -، وربما خالفا أبا الحسن – مَن؟ الجويني والغزّالي كالباقلاني، سوف أقرأ لكم الليلة عند موضوع التكفير كلمات للغزّالي في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة من أجمل ما يكون في تقرير هذا المعنى، أن الكبراء قد يُخالِف بعضهم بعضاً، فما الذي جعل الأسبق مثلاً أحق بالحق من اللاحق؟ هل الأسبقية هي السبب؟ لو كان ذلك كذلك إذن هناك مِن المُعتزِلة مَن سبق إمامك إذن هو أحق وما إلى ذلك، كلام مُرتَّب قوي لا يُمكِن أن يُنقَض، فليست هذه موازين الحق، أن هذا أسبق وهذا أشهر وهذا على مذهبي، الحق شيئ يتعدى كل هذه المسائل، في النهاية ما محور الحق ومداره؟ الدليل – في مسائل من علم الكلام والقوم أعني الأشاعرة لا سيما المغاربة منهم يستصعبون هذا الصنع ولا يرون مُخالَفة أبي الحسن في نقير ولا قطمير – يُوافِقونه في كل شيئ – وكأنما عناه الغزالي بقوله…..هنا كلام محذوف غير مذكور!

فهذان أمران نفر المازري منهما وينضم إلى ذلك أن الطرق شتى مُختلِفة وقل ما رأيت سالك طريق إلا ويستقبح الطريق التي لم يسلكها – كما قلت لكم هناك زاوية نظر وهناك زاوية غيرها لم يتأنس بها – ولم يفتح عليه من قبلها ويضع عند ذلك من غيره لا ينجو من ذلك إلا القليل من أهل المعرفة والتمكين.

على كل حال كلام أبي بكر الطرطوشي ككلام المازري، كلام لا مدلول عليه، أين مدلوله؟ أين هي هذه المرامز التي يُعاب أبا حامد والتي لم يفقهها وشحن بها كتابه؟ أوقفنا عليها، سوف نرى!

بالمُناسَبة سنعود إلى موضوع الحديث لأننا لم نُكمِل، بالنسبة إلى موضوع الأحاديث فأبو حامد أخذ المادة العلمية من أين؟ من كُتب أبي طالب المكي ومن كُتب الحارث بن أسد المُحاسَبي – بالمُناسَبة رسالة الإمام الأكبر شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في السوربون Sorbonne كانت عن الحارث بن الأسد المُحاسَبي، فهو أخذ من كُتب الحارث بن الأسد المُحاسَبي وهي كثيرة، طُبِعَ منها الكثير والحمد لله في هذا العصر – ومن المأثورات أو المنثورات المأثورة عن أقطاب التصوف الكبار، هؤلاء في العادة لا يهتمون بماذا أيضاً؟ بالأحاديث ولا بإسنادها ولا بتخريجها، فلحقه ما لحق هؤلاء.

ثالثاً وربما أخيراً أبو حامد يا إخواني إذا رأيتم منهجه في وضع الإحياء أو في تصنيف الإحياء سوف تجدون أنه المنهج الذي جرى فيه على هذه الخُطة:

أولاً يبدأ بالآيات، أي موضوع يبدأ فيه يبدأ بالآيات القرآنية: قال تعالى، ثم يُعقِبها بالأحاديث النبوية، ثم بالآثار عن الصحابة فالتابعين فمَن بعدهم، ثم يبدأ بعد ذلك في عرض فكرته، وقد أسَّسها على ماذا؟ على الكتاب والسُنة والآثار، عنده أفكار هو، يبدأ الآن في تفريع الكلام حول الفكرة التي موضوعها هذا الكتاب أو هذا الباب من هذا الكتاب، هذا منهجه، لم نجد أبا حامد أسَّس فكرة محورية في كتابه ولا في أي كتاب من كُتب الإحياء على حديث موضوع أو حديث لا أصل له، تتأسَّس أفكاره دائماً على الآيات والنصوص الصحيحة والمعاني المُتفَق عليها، وتأتي الأحاديث الضعيفة والموضوعة عرضاً يُستأنس بها، لو حذفتها ما نقص الإحياء شيئاً، تبقى معانيه صحيحة، فهذا لا ينقص من قدر الإحياء كما قال العلماء الأفاضل وأعني أبا الفضل العراقي رحمة الله تعالى عليه، أستاذ الحافظ ابن حجر العسقلاني الإمام العراقي الذي يرى السيوطي أنه مُجدِّد القرن الثامن الهجري على الأقل في علم الحديث، وقد جدَّد الإملاء بعد أن انقضى للأسف وغبر عهده، جدَّد الإملاء وصار يُملي من حافظته، الحافظ العراقي مكث عشرين سنة – طبعاً لم يتوفَّر على ذلك توفّراً تاماً وإنما أكيد في أوقات الفراغ أيضاً – يُخرِّج أحاديث الإحياء، وخرَّجها يُقال في خمس مُجلَّدات ضخمة أكبر من الإحياء، ولكن هذا ثقيل على الناس، ثم اختصره في كتاب، مُجلَّدة لطيفة، أي مُجلَّد يسير واسماه المُغني عن حمل الأسفار في الأسفار، الأسفار هي الكتب، قال الله كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۩، والأسفار الثانية جمع سَفر وليس جمع سِفر، هذا جمع سِفر وتلك جمع سَفر، اسمه المُغني عن حمل الأسفار في الأسفار، وبحمد الله لا يُطبَع الإحياء إلا وبهامشه دائماً المُغني للحافظ العراقي رحمة الله عليه، وسوف نأتي أيها الإخوة على تلاوة شهادة الإمام الحافظ العراقي في إحياء الغزّالي، ماذا قال العراقي في الإحياء؟

إذا المسألة مسألة غيرة على الحديث وغيرة على السُنة وتحيّز للسُنة المفروض أكبر مُتحيِّز ليس المازري وليس ابن العربي وليس الطرطوشي وإنما الحافظ العراقي، مُجدِّد الإسلام في علم الحديث في عصره وأستاذ الحافظ ابن حجر العسقلاني، أعظم أستاذ له على الإطلاق ولكم أن تتخيَّلوا هذا، انظروا واسمعوا – إن شاء الله في وقته – شهادة العراقي في إحياء علوم الدين، يا لها من شهادة! يعرف قدره وخدمه فجزاه الله عن أبي حامد وعن الإحياء وعنا وعن الإسلام والمِلة والمُسلِمين خير جزاء العلماء العاملين المُخلِصين، أعني الإمام أبا الفضل العراقي، انتهى الأمر، هذه الشكاية المفروض أن ترتفع، انتهى الأمر، الكتاب مُخرَّج، والسُبكي هنا جمع لنا الأحاديث بلا سند، عرفنا ونستطيع أن نعرف وجهتنا إن شاء الله، فما البأس في هذا؟ فما ينبغي أن نُدندِن كثيرة حول مسألة الأحاديث الموضوعة والضعيفة في الإحياء والكذب على الرسول والكلام هذا الذي ليس مُنصِفاً تماماً.

نختم الآن بكلمة أبي بكر بن العربي، أبو بكر بن العربي قال هذه عثرة لا لعاً لها، أي لا أقالها الله، هذا العالم عنده تهور أحياناً رحمه الله، قال لا لعاً لها، وأنت قبل قليل حدَّثتنا عن شيخنا أبي حامد الذي ليس له مثيل وما إلى ذلك، قل يا أخي عفا الله عنه وسامحه وهذه عُثيرة من أبي حامد – إن شاء الله – وله فيها محمل حسن، قال لا، هذه كلمة خالف بها إجماع الأمة، ما إجماع الأمة؟ أبو حامد باختصار إخواني وأخواتي في كتاب التوكل من إحياء علوم الدين – حتى تعرفوا الموطن – باختصار قال كل ما قسمه الله في خلقه ولخلقه من علوم وأرزاق وفهوم وعافية ومال و و و و إلى آخره يا إخواني مُقدَّر عند الله – تبارك وتعالى – وليس في الإمكان أبدع ولا أحسن منه، الكلام الذي اختُصِر بقول ليس في الإمكان أبدع مما كان، جيد؟ هذه قصة ليس في الإمكان أبدع مما كان، هذا في كتاب التوكل من إحياء علوم الدين، لماذا؟ لأن لو كان في الإمكان ما هو أحسن منه ومُنِع يكون بُخلاً، يُنسَب الله إلى البُخل، يحدث تبخيل، أليس كذلك؟ فإذن هذا هو، هذا أفضل شيئ مُمكِن، فقال للأسف الشديد أبو بكر بن العربي – هكذا فهم – هذا معناه – والعياذ بالله تبارك وتعالى – أن الإمام الغزّالي – شيخنا أبا حامد – ينسب الله إلى العجز، الله لا يقدر على أن يخلق أحسن من هذا، ما معنى لا يقدر؟ معنى هذا أن ربنا عاجز، ولذلك قال لك هذه عثرة لا لعاً لها، أي لا أقالها الله، لعاً له أي أقاله الله إذا عثر، يُقال لعاً له، قال لا لعاً لها!
على كل حال سوف نرى الآن كيف أجاب مولانا العلّامة المُعاصِر الشيخ رمضان البوطي، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مِن أحسن مَن رد على أبي بكر بن العربي، رد قوي جداً ومعقول في كتابه شخصيات استوقفتني، كتب فيه فصلاً عن أبي حامد الغزّالي وبدأه بالقول إن هذا الشخص تقريباً أثَّر فيه ما لم يُؤثِّر فيه رجل آخر مثله، أيضاً – نفس الشيئ – مُنذ نعومة أظفاره، وبحث عن السر، لماذا هذا التأثير لأبي حامد؟ ما السر؟ يُوجَد إجماع تقريباً مِمَن تأثَّروا بأبي حامد على هذا، ماذا يقول الشيخ البوطي حفظه الله؟ ومن هذه الأوهام التي أُلصِقَت بالغزالي انتقاد أبي بكر بن العربي كلمته المشهورة التي سطَّرها في بعض مُؤلَّفاته ليس في الإمكان أبدع ممّا كان.

يبدو أن الدكتور لا يعرف أين هذا، لم يجدها وبالمُناسَبة لن تجدها، الغزّالي لم يقل ليس في الإمكان أبدع مما قال، لم يقل هذا، لكنه قال كلاماً في كتاب التوكل كُثِّف ورُكِّزَ في هذه الجُملة البليغة، هذه فائدة إن شاء الله، وهذه الكلمة قالها بعد ذلك رينيه ديكارت René Descartes وقالها بعد ديكارت Descartes الديكارتي الشهير لايبنتز Leibniz، الفيلسوف الألماني لايبنتز Leibniz قال ليس في الإمكان أبدع مما كان، هكذا ترجمتها بالضبط، هل هذا واضح؟ فماذا قال؟

أقول: لقد أُتيَ ابن العربي من سوء فهمه للمعنى الذي عناه الغزالي بها.

يبدو أن وقت الحلقة انقضى فنقف عند هذا الحد على أن نستأنف حلقتنا – إن شاء الله – المُقبِلة – بإذن الله تعالى – برد الدكتور العلّامة البوطي – حفظه الله وأبقاه وأمتع به – على أبي بكر بن العربي، وجزاكم الله خيراً.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: