– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُتابِع – إن شاء الله – في مُحاضَرة تسعمائة سنة على وفاة الإمام الغزالي ونُتابِع الحلقة الثانية مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم، في الحلقة الأولى تطرَّق الشيخ على ما قاله الأئمة والعلماء عن الإمام الغزالي، ما قال عنه تاج الدين السُبكي، ما قال عنه أسعد الميهني، ما قال عنه أبو طاهر السِلفي، وإمامه وأستاذه الجويني، وكثيرٌ من المُعاصِرين من العقاد إلى غيره الذين أجمعوا على كون الإمام الغزالي رجالٌ جُمِعَت في رجل، وتطرَّق الشيخ الفاضل على العلوم التي أحصاها وحرَّرها ودقَّقها الإمام الغزالي وهي الفقه والأصول والكلام والمنطق والفلسفة والتصوف وعلم الأخلاق، ونُذكِّركم أيها الإخوة والأخوات بالمُحاضَرة القيمة التي ستكون الأسبوع القادم في سلسلة احتفاليات هذا العام ألفين وأحد عشر، وقد تأخَّرنا بهذه الاحتفاليات قصداً لكون وفاته – رحمة الله عليه – في التاسع عشر من شهر ديسمبر وقرَّرنا أن يكون في نفس الشهر هذه الاحتفاليات إن شاء الله، وستكون في جامعة فيينا مع رجاء التسجيل، الإخوة سيُعطونكم العنوان الإلكتروني لأنه ليس هناك أمكنة كافية للجميع، فنرجو منكم التسجيل سريعاً إن شاء الله، إضافةً إلى مُحاضَرة الشيخ عدنان إبراهيم التي لن تكون مُفصَّلة مثل هذا اليوم وستكون عن أهمية الإمام الغزالي في يومنا هذا سيكون هناك مُحاضَرات لرجال وبروفيسوريين أفذاذ في فيينا في الجامعة، منهم بروفيسور Professor روديجر لولكا Rüdiger Lohlker الذي سيتكلَّم عن موضوع النفس عند الإمام الغزالي، ومنهم البروفيسور Professor إيدنر Eidner الذي سيتكلَّم عن علم النفس عند الإمام الغزالي، فتعرفون من هؤلاء الشخصيات العظيمة أنهم يتحدَّثون عن شخصية عظيمة إن شاء الله، ونُتابِع الحلقة الثانية معكم مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم، تفضَّل شيخنا.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: شكراً، بارك الله فيك.

بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

الحافظ ابن كثير الدمشقي معروف لكم، صاحب التفسير وصاحب البداية والنهاية، مُتوفى سنة سبع وأربعين وسبعمائة للهجرة، يقول عن الإمام حُجة الإسلام برع في علوم كثيرة وله مُصنَّفات مُنتشِرة في فنون مُتعدِّدة، فكان من أذكياء العالم – ليس أذكياء الأمة وإنما على مُستوى العالم يقول – في كل ما يتكلَّم فيه. وهذه شهادة لها وزنها!
أختم بابن العماد الحنبلي، وهذا من المُتأخِّرين قليلاً في القرن الحادي عشر الهجري، مُتوفى سنة تسع وثمانين وألف، أي في آخر القرن الحادي عشر الهجري، صاحب شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب، كتاب واسع في التراجم، يقول فيه وبالجُملة ما رأى الرجل مثل نفسه، بعد أن ترجمه وما إلى ذلك قال وبالجُملة – بالإجمال – ما رأى الرجل مثل نفسه.

بعد هذه الشهادات أيها الإخوة أود أن أتكلَّم بجُملة سريعة أو جُملتين عن تصحيح نسبة هذا الإمام العلم الجليل، هل هي الغزالي أو الغزّالي كما ألفظها؟ الراجح والذي صار إليه مُتأخِّرو علماء الأنساب ومُتأخِّرو المُؤرِّخين أنه الغزّالي، وهو الذي رجَّحه القاضي ابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، وبمُناسَبة ذكر هذا الكتاب هذا الكتاب ليس لنا مثله كثير أيها الإخوة، من أدق كتب التراجم على الإطلاق، إذا كانت طبقات السُبكي من أجمل كتب التراجم لا أستطيع أن أقول أنه حتى يُداني كتاب ابن خلكان في الدقة، لماذا؟ ابن خلكان يزن ألفاظه بميزان ولا ميزان الذهب، لا يُعطي مُترجَماً فوق ما يستحق ولو بكلمة، انتبه فمعروف عنه هذا، وهذا المفروض أن يكون في المُترجِمين، لكن مُعظَم كتب التراجم هي كتب مذهبية، الأحناف يُترجِمون للأحناف والشافعية – كالسُبكي – يُترجِمون للشافعية وهكذا، فتجد المُبالَغات، الكل طبعاً يُحيل أئمته وأعلامه إلى أنهم لم يُخلَق في الدهر لهم مثيل، لكن ابن خلكان يُترجِم للكل، ليس كتاباً في التراجم المذهبية – رحمة الله عليه – على أنه دقيق جداً جداً جداً، هذه أحسن صفة في وفيات الأعيان لابن خلكان لكي نستفيد منها إن شاء الله تعالى.

على كل حال ابن خلكان والإمام ابن السمعاني أيضاً – صاحب كتاب الأنساب، من أشهر العلماء في هذا الباب – وابن الأثير – المُؤرِّخ وأيضاً صاحب أُسد الغابة – أيَّدوا وأكَّدوا أنه الغزّالي، نسبة إلى ماذا؟ إلى صنعة أبيه، فأبوه كان يشتغل بالغزل – غزل الصوف – ويتكسَّب منه، قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ومن عادة أهل خوارزم وجرجان أنهم يقولون القصّاري والحبّاري والشحّامي، نسبة إلى هذه الصنائع، نسبة إلى التقصير – صبغ الثياب – يُقال القصّاري، ونسبة إلى الشحّام يُقال الشحّامي، والغزّالي نسبة إلى الغزل، عادتهم كانت هكذا، لا يقولون الغزّال وإنما يقولون الغزّالي، ينسبون إلى اسم الفاعل من الصنعة، الصنعة الغزال وهو غزّال ومن ثم غزّالي، مع القصر أو التقصير يقولون قصّاري، وكذلك الحال مع شحّامي وهكذا، هذا ما صحَّحه هؤلاء العلماء على كل حال، وهو الذي أيَّده أعظم شارح لإحياء علوم الدين، إحياء علوم الدين كما سيأتيكم بُعيد قليل صبَّت وتواترت جهود العلماء على اختصاره لأنه مُوسَّع أصلاً – هو مُوسَّع – إلا ما كان من العلّامة الكبير المُرتضى الزبيدي فإنه شرحه، شرحه في عشرين سفراً المُرتضى الزبيدي، وهو به حقيق وجدير إن شاء الله، لأن هو الذي شرح القاموس أيضاً للفيروزآبادي، وانفرد شرحه بثُلث اللُغة العربية، متن اللُغة العربية ثُلثه جاء مع الزبيدي، شيئ عجيب هذا، وهذا كان من أهالي القرن الثاني عشر الهجري، مُتأخِّر جداً يُعتبَر، فهو أكَّد أيضاً على هذا وقد ترجم في زُهاء سبعين صحيفة في أول كتابه العظيم المُسمى إتحاف السادة المُتقين بشرح علوم الدين، ترجم للغزّالي في المُجلَّد الأول وأكَّد أن نسبته الحقيقية نعم هي الغزّالي وليست الغزالي.

إذن العلماء الخبراء في هذا الشأن أكَّدوا أنه الغزّالي، على أنه يُروى منسوباً إليه – وهذا المفروض أنه لا يصح – أنه قال يُسمونني الغزّالي، لست بالغزّالي إنما الغزالي، أنا من بلدة يُقال لها غزالة، هذا غير صحيح، هو من الطابران، قصرة من قصرات بلاد فارس، من طوس بالذات، في ظهر طوس تُسمى الطابران وبه مشهده يُزار وقبره رضوان الله تعالى عليه، لا نعرف هذه الغزالة من أين أتوا به، لعله شيئٌ مصنوع!

نأتي الآن إلى قصة حياة الإمام الغزّالي على أننا لا نُريد أن نُسهِب فيها، مَن أحب أن يُسهِب فليقرأ الترجمات المُوسَّعة، والكتب كثيرة جداً في ترجمة الإمام الجليل في القديم والحديث خاصة في العصر هذا، كتب كثيرة جداً بالعشرات!
والده – رحمة الله تعالى عليه – وهو محمد بن محمد كان رجلاً أُمياً لا يكتب ولا يقرأ، وكان يتحسَّر حسرة عظيمة على أنه لم يتعلَّم الكتابة والقراءة، حسرة دائماً كانت تُعاوِده وتتعالجه، لكنه كان مُحِباً للسادة الفقهاء والوعّاظ، يختلف إلى مجالس هؤلاء وهؤلاء، يتكسَّب من صناعة أو صنعة الغزل، وما يتحصَّل في يديه من مال قليل كان يبر به الفقهاء والوعّاظ، يختلف إليهم ويتصدَّق عليهم، يُعطيهم رجاء المثوبة عند الله وصالح دعائهم له بظهر الغيب، ومما يُقال – والله تبارك وتعالى أعلم – أنه ربما حضر مجلس فقيه كبير فيُلِم به لاعج حُزن ويدعو الله – تبارك وتعالى – أن يرزقه الله ولداً ويكون فقيهاً كهذا الفقيه، وربما ألم بمجلس من مجالس الوعّاظ المُؤثِّرين الذين يكسرون القلوب ويُقرِّحون العيون بوعظهم الحزين الشجي الخارج من القلب فيدعو الله – تبارك وتعالى – ويبتهل ويضرع أن يرزقه الله ولداً ويكون واعظاً كهذا الواعظ، فأسعده الله – تبارك وتعالى – بأن رزقه ابنين: محمداً وهو حُجتنا وإمامنا – رحمة الله عليه – وأحمد الذي اشتُهِرَ بعد ذلك بأبي الفتوح، أبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي أخو شيخ الإسلام وتأخَّرت وفاته زُهاء عشرين سنة عن وفاة أخيه حُجة الإسلام، حُجة الإسلام تُوفي في خمسمائة وخمس، أخوه بعده بنحو عشرين سنة تُوفيَ، رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين، عن الوالدين والوالد، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ۩، وقضى الله – تبارك وتعالى – بإسعاده فصار ابنه – لكن بعد موته – محمدٌ أكبر فقيه في عصره وهو أبو حامد الغزّالي، على أنه لم يكن فقيهاً فحسب بل كان ما سمعتم وما تعرفون أصلاً، وصار أبو الفتوح أحمد من أشهر واعظي عصره، له وعظٌ مُؤثِّرٌ جداً، ولبى الله دعوة الرجل الصالح، فيُقال إنه لما شعر بدنو الموت أوصى صاحباً له من الصوفية الفقراء، قال له يا أخي أحسست بدنو أجلي وقرب ترحلي عن هذا العالم، فهذا مالي الذي ادخرت، أُوصيك بولداي هذين أن تُعلِّمهما الخط والكتابة، فهذه حسرة بقيت في قلبي، إذ لم أتعلَّم الكتابة، فعلِّم ابني الكتابة والقراءة، وأنفد جميع ما عندك في ذلك، لا تُوجَد مُشكِلة قال له، أنفق كل هذا المال، المُهِم أن يتعلَّما الكتابة والقراءة، كان من تواضعه لا يطمع أن يُصبِح ابنه عالماً كبيراً، المُهِم أن يكتب ويقرأ حتى لا يبقى في قيد الأُمية، وتُوفيَ إلى رحمة الله، وهذا الصوفي البار الصالح فعلاً عمل بوصية صاحبه الشيخ محمد الغزّالي وبعد قليل لأن المال لم يكن كثيراً نفد المال، وهذا الصوفي كان على قدم التجريد، أي لا يكتسَّب، صوفي غير مُتكسِّب لكنه لا يتكدى، لا يسأل، صوفي مُحترَم، فقال لهما يا ولداي لا أدري والله ما أصنع لكما وبكما، ولكن أحسن ما أراه لكما أن تذهبا إلى مسجد وتلتحقا بحلقة من حلقات العلم – وأكثر علماً كان مشهوراً هو الفقه – فتظهرا في صورة طالب، والحقيقة أنكما تُريدان القوت فتُقبَلان، وبهذه النية التحقا بمجلس أحد الفقهاء وهو الشيخ الرازكاني، بنية القوت، لكي يأكلا ويشربا، فكان أبو حامد بعد ذلك يقول – قدَّس الله سره – طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله، أسعدهم الله به سعادة عُظمى وأي سعادة كسعادة أبي حامد رضوان الله تعالى عليه! فهذه قصة طلبهما للعلم رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما.

إذن أول الطلب كان على الشيخ الفقيه الرازكاني بطوس، بعد ذلك ارتحل إمامنا إلى جرجان، ارتحل إلى جرجان وتلقى العلم في مدى أوسع على أبي نصر الإسماعيلي، فقيه من فقهاء الشافعية المشاهير يُدعى أبا نصر الإسماعيلي، وعنه كتب تعليقته، التعليقة لم تصلنا، لكنها كانت أول تعليقة له، كانت مثل مُلخَّص، دشت كبير يكتب فيه كل ما يسمع ويفهم، فيُحدِّث مولانا أبو حامد يقول فبين أنا في طريق العودة من جرجان إلى طوس إذ قطع علينا الطريق العيّارون – قطّاع طرق مُجرِمون مسارحة، يُسمونهم المسارحة العيّارون الشطّار قطّاع الطرق والمُحارِبون بالاصطلاح الديني القرآني – وأخذوا كل ما معنا، وأخذوا مخلاتي وفيها تعليقتي، قال ثم انطلقوا فاعترتني حسرة عظيمة، فقلت له أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علىّ تعليقتي، قال فالتفت مُقدَّمهم وقال ويحك تُعرِّض نفسك للهلاك، لحق بهم الغزّالي وكان شاباً صغيراً، فقال له تُعرِّض نفسك للهلاك، أي أننا قطّاع طرق مُجرِمون، كيف تلحقنا وأنت شاب صغير؟ فرخ صغير، ما هذه التعليقة؟ قال له المخلاة التي أخذتموها ليس فيها شيئ، أي ذو بال، لكن فيها تعليقتي، قال ما تعليقتك ويحك؟ قال فيها علم أخذته عن شيخي أبي نصر وعرفت علمه، قال ما أحمقك! كيف تدّعي أنك عرفت علمه وها نحن قد أخذناها فضاع عليك كل شيئ، لو عرفته ما ضاع منك، فأفحمه! قال فقلت في نفسي هذا مُستنطَق، هذا الرجل أنطقه الله، انظروا إلى الفهم، حتى من صغره يفهم هذه الإشارات الإلهية، انتبهوا إلى هذا، أنا في خُطبي لي تحدَّثت عن ست وسائل يتواصل بها الله معنا عز وجل، انتبهوا إلى هذا، لا نبوة لكن هناك تواصلات، الله لا يُخلي عباده، أبو حامد فهم هذا بفطرته السليمة ودينه الصافي الرائق، قال فقلت هذا مُستنطَق، أنطقه الله – تبارك وتعالى – ليُفهَّمني، ثم أمر بدفعها إليه فدفعوها، قال أخذتها، فلم عُدت إلى طوس مكثت ثلاث سنوات أتحفَّظ ما فيها، من السهل أن تكتب وما إلى ذلك لكن من الصعب أن تحفظ ما كتبت، العلم يحتاج إلى تعب وسهر، ثلاث سنوات – قال – وأنا أتحفَّظ ما فيها، قال حتى حفظتها من عند آخرها، فلو ضاعت لم يضع شيئٌ من علمها، وهكذا نجا بكلمة مُقدَّم العيّارين، وذكرنا بقول القائل:

اسْتَوْدَعَ الْعِلْمَ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ                   وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ.

هذه قصته مع هؤلاء!

بعد ذلك أيها الإخوة قصد إلى نيسابور، مَن كان إمام وشيخ نيسابور؟ أبو المعالي الجويني عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني شيخ الشافعية في عصره وصديق الإمام أبي بكر البيهقي الحافظ، هذا ابنه عبد الملك المعروف بإمام الحرمين، لأنه انتقل وجاور في الحرم بضع سنين فسُميَ إمام الحرمين، انتقل الآن إلى علم أعلام الشافعية وواحد من أكبر أعلام الإسلام كله أصلاً في عصره وهو الجويني في نيسابور، نيسابور هذه بلدة عظيمة، أهم شيئ في بلاد فارس، ومكث مُلازِماً لشيخه أبي المعالي إلى أن توفى أبا المعالي الجويني، والشافعي لم يُكمِل الثلاثين، لماذا؟ الشافعي وُلِدَ سنة أربعمائة وخمسين، احفظوا هذا، الشافعي مات عن خمس وخمسين سنة فقط، لم يُعمَّر طويلاً، تخيَّلوا هذا البحر مات عن خمس وخمسين سنة، وُلِدَ سنة أربعمائة وخمسين أو خمسين وأربعمائة وتُوفيَ سنة خمس وخمسمائة، عن خمس وخمسين بالضبط كشيخه الشافعي، الشافعي مائة وخمسون وُلِدَ وفي مائتين وخمس في المشهور – قيل في مائتين وثلاث وقيل في مائتين وأربع لكن المشهور في مائتين وخمس – وتُوفيَ عن خمس وخمسين، والغزّالي كذلك عن خمس وخمسين سنة تُوفيَ، فظل مُلازِماً للإمام الجويني إلى أن توفى الله الإمام الجويني سنة ثماني وسبعين وأربعمائة، أي كم كان عمر الإمام الغزالي؟ ثماني وعشرين سنة، فتُوفيَ الإمام الجويني وبعد ذلك طبعاً كما يُقال رسخت قدمه في العلوم، ليس في علم بل في علوم، فهذا الفتى درس علومه كثيرة على شيخه وعلى نفسه، درس أشياء على نفسه رحمة الله تعالى عليه، وبدأ بعض الناس من أهل العلم يتسامعون به، رجل نابغة، رجل مُتميِّز جداً وفريد اسمه محمد الغزّالي، يُكنى بأبي حامد، طبعاً كان تزوَّج، أبو حامد كما سجَّل تزوَّج دون العشرين، هذه كانت عادة المُسلِمين، يتزوَّجون مُبكِّراً وهذا أفضل، تزوَّج دون العشرين، رزقه الله بولد ذكر اسمه حامد توفاه الله ومن هنا كُنيته أبو حامد، ثم رُزِق بثلاث بنات بقين له وبقين بعد موته، رضيَ الله تعالى عنهن مع أبيهن إمامنا الغزّالي، هذه ذُريته، فكان مُتزوِّجاً ومُتأهِّلاً، كان عنده عيال في هذه الفترة، فترك نيسابور وذهب إلى العسكر أو المُعسكَر، ما المُعسكَر هذا؟ المُعسكَر فعلاً في ظاهر نيسابور – خارجها قليلاً، في أعلاها – وهو محل الوزير السلجوقي العظيم الكبير نظام المُلك الذي كان وزيراً للسُلطان السلجوقي المشهور ألب أرسلان، ووزر أيضاً – أي اشتغل وزيراً – لابنه ملكشاه من بعده، وهو الذي قتلته الباطنية الإسماعيلية، الحشّاشون هم الذين قتلوا نظام المُلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، رحمة الله تعالى عليه قُتِل على يد الباطنية الزنادقة هؤلاء، على كل حال ذهب إلى مُخيَك نظام المُلك في ظاهر نيسابور، اسمه مُعسكَر أو العسكر، وفي مُعسكَر نظام المُلك يجتمع كبار العلماء، علماء المنطق والفلاسفة والفقهاء والأصوليون، شيئ غريب! لأن الرجل كان مُعتنياً بالعلوم وأهلها، مُكرِماً لهم ومُدنياً، ويسخو عليهم من ماله، وكان قد أنشأ النظاميات، نظامية نيسابور ونظامية بغداد، والمدرسة النظامية هي جامعة وليست مدرسة، مثل جامعة يُدرِّس فيها أكبر أعلام العصر، فكانت نظامية نيسابور مشهورة ونظامية بغداد، فذهب أبو حامد وكان دون الثلاثين، ورأى منه نظام المُلك العجب ضمن حاشيته وضمن العلماء الذين لاذوا بجنابه، لماذا؟ هذا الرجل لما تسامع الناس به من صيته الذي سبقه أرادوا أن يختبروا هذه الصفة، فعقدوا له مُقارَنات – أي مُسابَقات يُقرَن فيها بغيره – في الفقه، فإذا به بز الفقهاء، لا يُشَق له غبار في الفقه، قالوا جميل، هو تلميذ الجويني ومن ثم هذا طبيعي، ماذا عن الأصول؟ فإذا به بزهم من عند آخرهم، أكبر أصولي، حتى دخلوا بعد ذلك في المنطق والفلسفة فإذا هو يعرف هذه العلوم أحسن من أصحابها، فكان عجباً، عجيب، شاب في الثامنة والعشرين أحكم كل هذه العلوم! فسُرَّ به نظام المُلك جداً، وطلب منه – هذا تعيين عظيم جداً – أن يتولى التدريس في نظامية بغداد، قال له اذهب إلى بغداد وتولاها.

أعتقد نظامية بغداد سنة تسع وخمسين وأربعمائة تم بناؤها تقريباً على ما أذكر، لكن لابد أن نُراجِع التاريخ، في أربعمائة وتسع وخمسين انتهوا من بناء نظامية بغداد، فوردها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وطبعاً احفظوا هذا، سيُغادِرها بعد أربع سنوات باحثاً عن الله تبارك وتعالى، إذن سيمكث فيها مُدرِّساً كم؟ أربع سنوات، طبعاً ورد عليها وقد سبقه صيته، هذا أبو حامد الذي ناظر العلماء والفلاسفة والحكماء في مجلس نظام المُلك وبزهم جميعاً وقطعهم وإلى آخره، شيئ عجيب! ودخل طبعاً كما يقول عبد الغافر الفارسي – مُعاصِره الإمام الحافظ، وهذا خطيب وإمام نيسابور كما قلت لكم – وقد قُوِّمَ مركوبه وملبوسه خمسمائة دينار، ثروة هذه، ثروة عظيمة جداً جداً، لعل أباه لم يترك عُشرها وربما حتى أقل من هذا، فقط اللباس الخاص به كان على هذا النحو، كان فيه حُب الدنيا الإمام الغزّالي، طبعاً كان فيه حُب الدنيا وحُب البذخ وحُب الاستطالة على الخلق وكان فيه زعارة كما يقول عبد الغافر، كان فيه زعارة، ما المُراد بزعارة؟ إلى اليوم يقولون أزعر، زعارة تعني شدة وشراسة ولا تُوجَد رحمة حتى في النقاش، مُباشَرةً يُبرهِن لك أنك جاهل لا تسوى شيئاً، لا تفهم شيئاً، أنا الذي أفهم، أنت لا شيئ، هكذا كان، فدخل هكذا في موكب حاشد عظيم، قُوِّم ملبوسه ومركوبه بخمسمائة دينار، وتولى التدريس – رحمة الله تعالى عليه – حتى أصبح مضرب الأمثال وتُشَد إليه الرحال: يُقال أبو حامد، أبو حامد، أبو حامد، شيئاً عجيباً كان الرجل رحمة الله تعالى عليه، والناس تُريد العلم، وكثير من الناس وهو منهم يُريدون العلم لأجل الدنيا، طبعاً مثل اليوم، شهادات وشريعة ودكتوراة لأجل الدنيا، وهو كذلك كان، هو أراد هذا لأجل الدنيا مادياً ومعنوياً، أنه الإمام والأستاذ الكبير وشيخ الإسلام وشيخ كذا، أحب هذا، فمكث على ذلك – رحمة الله تعالى عليه – أربع سنين.

الآن صرنا في سنة ثماني وثمانين وأربعمائة، أبى الله – تبارك وتعالى – له إلا السعادة، فقضى بأن يستنقذه من هذه الورطة المُهلِكة المُردية التي تُذهِب بآخرته وإن أحرزت دنياه، هو في الدنيا الآن، هو في طمطام بحر الدنيا يُعالِجها بسهولة، كل شيئ مُيسَّر له، سُبحان الله بدأ الرجل يتفكَّر وهذا من ذكائه وصفاء فطرته، ما هذا الذي أنا فيه؟ هل هذه غاية العلم الديني أن أطلب وجوه الناس والأموال والجاه والسُلطان؟ هل هذه الأخلاق المُصطفوية؟ هل هذه آداب شرعية؟ هل هذه هي الآداب الشرعية: الاستطالة على الخلق والشراسة والزعارة وحُب الجاه والمنزلة والظهور؟ أدرك أنه يسعى في هلاك نفسه قدَّس الله سره، اختلت أحواله، طبعاً انتبهوا إلى أن مثل هذه الحكايات للأسف الشديد القدماء يأخذونها على ظاهرها، نحن لا نفعل هذا، نُفسِّرها في ضوء معارفنا الآن النفسية والاجتماعية والنقدية والتاريخية، يُقال إن سبب الانقلاب الذي وقع له أن أخاه أبا الفتوح أحمد الواعظ – كان يشتغل بالوعظ – دخل عليه يوماً في مجلس درسه، وطبعاً – كما قلنا – الرجل محفود محشود مخدوم في هيله وهيلمانه وعظمته وبذخه وترفه ورفهه، فنظر فيه أخوه – لم يُعجِبه هذه الحال – وقال له رحمة الله تعالى عليه:

أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا                               وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا.

وَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي                             وتُسْمِعُ وَعْظًا وَلاَ تَسْمَعُ.

فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى                               تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ.

الله أكبر، ما هذا الكلام؟ كلام رباني هذا، قال له أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا، أنت تُساعِدهم لكي يسلكوا سبيل النجاة، يعني مَن؟ يعني تَلاميذه، أي تَلاميذ أخيه، أنت تُساعِدهم! قال له وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا، فنعوذ بالله أن يسعد بهذا العلم غيرنا ونشقى به، هذه الحماقة، هذه هي الحماقة حقاً يا إخواني، العلم إن لم يكن دليلاً على الله وإلى الله والله العظيم لا خير فيه، والله أنا دائماً أقول يا إخواني وأخواتي لنفسي ولأمي وأهلي وإخواني والله الجهل خيرٌ من علم كثير من علماء العصر، وأنا أعلم علم اليقين – اللهم لا تجعلني منهم، اللهم لا تجعلنا منهم – أنهم يوم القيامة سوف يعضون أصابع الندم أيها الإخوة على أنهم اشتغلوا بالعلم، وسوف يتمنون أن لو كانوا من أجهل الجُهلاء، لأن العلم الذي لا يُؤدي إلى عمل وإلى معرفة الحق والصدع به وتعبد الله بهذا الحق سيكون لعنةً عليك في آخرتك، أُقسِم بالله على هذا، سيكون دركات في جهنم تغوي بها وتهوي في جهنم، فشيئ خطير هذا، قال له:

أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا                               وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا.

الناس يظنون أن هذه لعبة، ظهور وعلم وكتب ويُسمونك شيخاً وعلّامة وتلفزيون Television وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ، هذا كله كلام فارغ، هذا كله يزول، مَن بقيَ؟ هذا أبو حامد، هل بقيَ أبو حامد؟ هل بقيَ الأئمة؟ لا يبقى أحد، رُسل ذهبوا، انتبه، يبقى ما لله وما عند الله، وهذا الذي أدركه أبو حامد بلُطف الله وبما سبق له من السعادة، اللهم اجعلنا من أهل سعادتك، قال:

أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا                               وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا.

وَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي                             وتُسْمِعُ وَعْظًا وَلاَ تَسْمَعُ.

فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى                               تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ.

هذا البيت الأخير عجيب، عجيب جداً جداً جداً، فعلاً هذا الكلام أيها الإخوة قد يحيا به قلب إنسان ميت، قال له أنت مثل حجر الشحذ، يسن السكاكين والموسى والحديد وهي تقطع وتُصبِح – ما شاء الله – ماضية لكن هو لا يقطع، أنت كذلك، تدل الناس على الله فيصلون إلى الله، تهديهم سبيل الجنة فيصيرون – إن شاء الله – من أهلها، وأنت قاعد مكانك، ولعلك تكون من أهل النار، قال له ما هذا؟ لا نستبعد نحن وقوع هذه القصة، لكن الذي نستبعده كُليةً أن تكون هي السبب والباعث الحامل لأبي حامد على الانقلاب الروحي الذي غيَّر حياته وقلبها رأساً على عقب، هذا يكون مثل شعرة قسمت ظهر البعير، لكن لا يُستبعَد أن أبا حامد وهو مَن هو في ذكائه وبصيرته وفطرته كان يُعايش أو يُعاني قلقاً عظيماً ربما من سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع سنين حتى، من بدايته لأنه رجل ذكي، فجاء هذا الشيئ وربما أثَّر فيه تأثيراً كبيراً.

سوف ربما نتلوا بعد قليل من كتابه العجيب على وجازته وهو من أرقى وأبرك وأكرم كتب السيرة الذاتية الفكرة: المُنقِذ من الضلال لأبي حامد الغزّالي، يقول ومكثت في هذه الحالة زُهاء ستة أشهر، ستة أشهر الأمور تتراجع عنده الآن، قال حتى صرت في شهر رجب، بدأت هي في شهر رجب سنة أربعمائة وثماني وثمانين، استمرت ستة أشهر، تقريباً إلى آخر العام، قال في آخر هذه المُدة اعتُقِلَ لساني عن التدريس بالكُلية، لم يعد قادراً على أن يتكلَّم في العلم، لم يعد قادراً، ولا حتى تطييباً للمُختلِفين، أي تطييباً لقلوب المُختلِفين، ما المُراد بالمُختلِفين؟ الذين يختلفون إلى درسه، يأتون ويروحون، أي طلّابه، قال لم أعد قادراً، لم أعد قادراً على أن أُجامِلهم حتى، اعتُقِلَ لساني، لم أعد قادراً، ووصف مرضه وصفاً دقيقاً علمياً، أنا أُرجِّح أنه مرض الاكتئاب Depression، لا يُوجَد نوم ولا يُحِب الأكل، قلق وحزن وسوداوية، ميلانكوليا Melancholia دائمة، لا ينساغ الطعام له، فحتى عاطف الطعام وعاف الشرب، هذا Depression، أصبح غير راضٍ عن أحواله بالكامل، العرب تُترجِم هذا المرض بلُغتها القديمة الكنظ، تُسميه مرض الكنظ، الكنظ هو Depression أو Dépression، هذا الذي أُرجِّحه والله – تبارك وتعالى – أعلم، فهنا الرجل مُتردِّد، يُقدِّم رجلاً ويُؤخِّر أُخرى، يُقدِّم رجلاً ويُؤخِّر أُخرى، ماذا أفعل؟ فدعا الله تبارك وتعالى، صلى ركعات في جوف الليل، ابتهل وضرع إلى الله أن يُنقِذه الله مما هو فيه، فعزم الله له على خير معزوم، قرَّر أن يُطلِّق الدنيا، ولكن هذه الدنيا ليست هي النظامية، ليست هي المركوب الحسن والمأكول الرافه ولا اللباس الذي يُقوَّم بمئات الدنانير، لكنها الزوجة والبنات أيضاً، بنات مهيضات جناح، هذا الذي من الصعب أن يستوعبه أمثالنا الضعفاء المساكين، الفقراء من أمثالنا – فقراء القلب والعقل – لا يستوعبون هذا، أن تترك زوجك هذا مفهوم، لكن ماذا عن البنات؟ حُجاجات الكبد والفؤاد، كيف؟ هو أدرك أنه هالك، إن استمر في هذه الطريق هو هالك، من أهل النار، هذا الإمام! لذلك رفع الله ذكره وقدَّس الله سره، استخار الله واستعان به وعزم الله له على هذه العزيمة الطيبة فخلع اللباس وفرَّق الأموال، عنده أموال كثيرة – أعظم أستاذ في عصره – ففرَّقها، قال فرَّقتها حتى لم أُبق إلا شيئاً منزوراً لبُنياتي ولي بمقدار الكفاف حتى لا أمتهن الكُدية، حتى لا أسأل الناس، أُريد أن أُسافِر، وانطلق!

شيئ غريب، لا إله إلا الله، أبو حامد ترك الدنيا، ترك التدريس، ترك العلم، ترك المُتعلِّمين، ترك السُمعة والصيت والجاه الطويل العريض وانطلق على قصد حج بيت الله الحرام سائحاً في الأرض.

ذكرنا اليوم أبا بكر بن العربي القاضي المالكي، يقول أبو بكر بن العربي التقيت بشيخنا الإمام أبي حامد الغزّالي، وكان قد التقاه وتتلمذ عليه قبل ذلك لكن مُدة يسيرة، قال التقيته في البيداء – أي في الصحراء، كان في طريقه إلى الحج – يلبس مُرقَّعة – مُرقَّعة فقراء – وبيده عُكّازة وعلى ظهره ركوة – فيها الماء للوضوء والتطهّر – فقلت له إمامنا أبو حامد؟ قال أبو حامد، قلت ما هذا الذي أراه؟ أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا؟ هل أصبحت من الصوفية السالكين وتركت العلم والتعليم؟ قال فنظر إليّ هكذا شزراً، أي باستخفاف، تدرس العلم؟ أنت تقول لي أنا تدريس العلم؟ هذا أبو حامد، أنت تتحدَّث مع أعلم أهل الأرض في وقته وتقول له تدرس العلم! قال فنظر إليّ هكذا باستخفاف وقال:

لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأصول:

تركتُ هَوَى ليلى وسُعْدَى بمَعْزِلِ               وعُدتُ إلى تصحيح أولِ مَنْزِلِ.

ونادتْ بي الأشواقُ مهلاً فهــــذهِ               مَنَازِلُ مَنْ تَهْوَىْ رويدكَ فأنزلِ.

غَزَلتُ لهم غَزلاً رَقِيْقَاً فلمَّا لم أجد                لغزلي نسَّاجاً كسَّرتُ مَغْزَلِيْ.

قال له هذا وذهب قدَّس الله سره الكريم، قال له نحن الآن في طور آخر بإذن الله، وفعلاً حج بيت الله الحرام – شرَّفه الله وزاده مهابةً وبراً – ثم انطلق إلى بلاد الشام، انطلق إلى دمشق، وهي أرض الأبدل وأرض الصُلحاء كما هو مشهور ومعروف، لبث فيها يُويمات يسيرة كما يقول ابن السُبكي، لبث فيها يُويمات يسيرة – أياماً معدودة منزورة – ثم غادرها إلى بيت المقدس شرَّفه الله، وهذا كان أيضاً من سابق قضاء الله له، لماذا؟ هذا كله الآن في أربعمائة وتسع وثمانين، دخلنا الآن في هذا، في أربعمائة وواحد وتسعين ستأتي جحافل الصليبيين إلى بلاد الشام وستحتل بيت المقدس، فكأن الله ألهمه أن يُسارِع إلى بيت المقدس، ففعلاً قصد بيت المقدس، ويُقال إن لمُغادَرته دمشق بعد يُوميات يسيرة سبباً ما، يُقال هذا السبب أنه دخل على قدم التجريد والافتقار والخمول، لم يُعرِّف بنفسه، هو هرب أصلاً من هذا، هو هرب من الصيت والجاه والسُمعة والإمام والشيخ والعلّامة، هو هرب من هذا، فعُرِف – سُبحان الله – هناك فهرب يُقال، وتُحكى هذه القصة بعد ذلك، الله أعلم، هذه الأشياء غير واضحة بدقة الآن، فذهب واعتكف ما شاء الله له تحت قُبة الصخرة، تحت الصخرة نفسها اعتكف ما شاء الله ثم عاد بعد ذلك على القدم ذاتها إلى بلاد الشام، فأتى خانقاه – الخانقاه هي رباط الصوفية، الخوانق تكون في الحواضر، إذا كانت على الثغور تُسمى الرباطات، إذا كانت في الحاضرة يُسمونها الخانقاه، فتخيَّلوا أبا حامد الغزّالي الآن – تخيَّلوا الإمام العظيم أبا حامد الغزّالي – يجلس على باب الخانقاه عند المداسات والأحذية ولا يدخل، ولا أحد يعرفه، وبقيَ هكذا أياماً، يُريد أن يُذِل نفسه، يُريد أن يُذِل نفسه بالكامل لله، سيخرج عن كل شيئ حتى يرى وجه الله تبارك وتعالى، هو هذا، اترك نفسك وتعال، يا رب كيف الطريق إليك؟ قال له اترك نفسك وتعال، لا تنظر إلى نفسك، لا تنظر إلى نفسك أبداً، فكان يجلس على باب الخانقاه أيها الإخوة ولكم أن تتخيَّلوا هذا، هذه الخانقاه كانت تُسمى السُميساطية – هكذا بالتصغير – نسبة إلى إمام اسمه أبو القاسم السُميساطي مُتوفى سنة أربعمائة وثلاث وخمسين، اسمها الخانقاه السُميساطية، قعد على بابها عند الأحذية والمداسات، بعد أيام أذِن له بدخولها فقير مجهول، ليس شيخ الخانقاه ولا أحد من أعلامها، رجل فقير الله أعلم مَن هو، رجل فقير قال له قُم يا رجل وادخل، مأذون لك أن تدخل، مَن هو؟ الله أعلم، لم يُسجِّل لنا التاريخ اسمه، فدخلها وبقيَ فيها هناك لا يُعرَف، يشتغل بماذا يا إخواني؟ بكنس الميضاءات وقمها وتنظيفها، أبو حامد الغزّالي أعظم وأكبر علماء وأنبل علماء عصره – لكم أن تتخيَّلوا هذا – يشتغل بهذا، وهذا ليس في سن الخمسين أو الستين أو السبعين، وُلِدَ في أربعمائة وخمسين، وهذا في أربعمائة وواحد وتسعين، إذن كم عمره الآن؟ واحد وأربعين سنة، لا يزال شاباً، أي لنفسه قوتها واعتدادها بنفسه لكنه كسرها بالعلم، نعم العلم علم أبي حامد، هذا هو العلم، يُنظِّف الميضأة، اليوم مَن منا ونحن أناس عاديون جداً يتواضع ويذهب يُنظِّف الميضأة لإخوانه في الله؟ يقول لا، ما هذا؟ أنا أدفع مالاً وأنتم نظِّفوا، لذلك لا نرى وجه الحق نحن، مفصولون نحن، تائهون وغلابة كما يُقال، اللهم ارحمنا برحمتك، فكان يُنظِّف الميضاءات، واتفق له في هذه الخانقاه شيئٌ عجيب بعد فترة الله أعلم، أشهر طويلة أو يسيرة؟ الله أعلم، في ساحة هذه الخانقاه السُميساطية كان يتمشى جماعة من المُفتين – أهل الفتوى – المشهورين باللباس وما إلى ذلك يتحدَّثون ويتبساطون، فجاء رجل بدوي من الصحراء الشامية فسألهم عن مسألة فما عادوا إليه بجواب، مسألة لم يعرفوا جوابها، مسألة صعبة، فأبو حامد – سُبحان الله انظر إلى الورع – عز عليه أن هذا السائل المُسترشِد يعود بلا جواب، هذه قضية دين، لا يستطيع أن يسكت، لكن هو خرج وترك بناته وأهله وما إلى ذلك من أجل الله، فمُستحيل لكن لابد الآن، فأشار إليه، تعال يا أخي، قال له ماذا؟ قال له ماذا قالوا لك؟ قال ليس عندهم جواب، لا يعرفون هؤلاء، البدوي هذا غضبان، قال له لعل الجواب يكون كيت وكيت وكيت، فضحك وبعال صوته قال عجيب، عجيب هذا، عجيب هذا الفقير الذي يكنس الميضأة يدّعي أنه يُفتي هؤلاء لم يعرفوا الفتوى، بصوت عال قال هذا، أصبح يُصرِّخ هذا العربي، هؤلاء لم يعرفوا، أتعرف أنت؟ قال له هل أنت تعرف الفتوى؟ ما هذا؟ فهؤلاء المُفتون قالوا له تعال يا رجل، تعال إلى هنا، ما بك؟ قال هذا يدّعي أنه يُفتي، يُفتيني! أنتم لم تعرفوا، قالوا ماذا قال لك؟ قال يقول كذا وكذا، أدركوا حينها، مُستحيل، هذا ليس كلام عامي، هذا كلام عالم مُحقِّق، قالوا أهذا أجابك بهذا؟ فذهبوا إليه، بعد قليل وحدهم عرفوا، قالوا لا يُمكِن، أنت تكون أبو حامد الغزّالي، أنت أبو حامد، نحن سمعنا أن أبا حامد ترك النظامية وجال في الدنيا، هذا السؤال لا يُمكِن أن يعرفه إلا أبو حامد، أنت أبو حامد، شيئ غريب، فطلبوا منه أن يعقد لهم مجلس علم وتدريس – أي علماء الإفتاء – في تلك الليلة، فهرب من ليلته، غادر هذا المكان – هذا الذي نهرب منه – واعتزل بعد ذلك في المنارة الغربية من الأُموي، المنارة الغربية اعتزل فيها سنين، قال أدخلها بعد الفجر وأبقى فيها إلى الليل، خلوة كاملة مع الله.

ماذا عن مجموع رحلة أبي حامد؟ طبعاً كان ينتقل من بلد إلى بلد ثم يعود وهكذا، عنده زيارات بسيطة يتقصَّد فيها بالذات قبور الصالحين ومشاهدهم ومزاراتهم ويتلو القرآن هناك ويبكي ويدعو، هكذا كان، يذهب إلى البوادي والصحاري ثم يعود، مجموع غيبة أبي حامد – قدَّس الله سره الكريم – تقريباً عشر سنوات، العجيب في بعض الطبعات لتاريخ ابن عسكر يقولون عشرين سنة أو يُنقَل عنه، هذا مُستحيل، كيف يكون المجموع عشرين سنة؟ هو بعد عشرين سنة يكون مات رحمة الله عليه، هذا غير صحيح، عشر سنوات على الأكثر، من تسع إلى عشر لكن المشهور أنها عشر سنوات، بعد ذلك أذن له رب العالمين – تبارك وتعالى – أن يعود، وكل شيئ بأمر الله عز وجل، فهو كتب يقول والله أنا ما أعمل شيئاً إنما هو يستعملني ولا أتحرَّك إنما هو يُحرِّكني، كل الأمر بيد الله، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ ۩، أذن له الله – تبارك وتعالى – أن يعود، وبكل شفافية وصدقية أعرب أيضاً هو عن أن جُزءاً أو بعضاً من السبب شوقه لبُنياته، قال حرَّكني هذا الشوق لبُنياتي المسكينات بلا أب وما إلى ذلك عشر سنين، عشر سنين يا إخواني، تخيَّلوا هذا، ليس عشرة أشهر وإنما عشر سنوات، ترك الدنيا وترك أهله وبناته، في سبيل ماذا؟ في سبيل الحق، في سبيل أن يعرف الله، وهنا قد يقول لي أحدهم كيف يعرف الله وهو شيخ الإسلام؟ هذه يقولها الذين لم يفهموا شيئاً فانتبهوا يا إخواني، هذه يقولها العوام الذين يظنون أنهم يصلون إلى الله بمُجرَّد الدعاوى والكلام، بعض الناس يظن المسألة سهلة جداً جداً، أطلِق لحيتك والبس دشداشة وأطل سواكك واجلس واحفظ واسمع أشرطة وادخل على الإنترنت Internet واليوتيوب Youtube فتُصبِح شيخاً وتعرف كل شيئ ومن ثم تستطيع أن تُكفِّر وأن تُدخِل الجنة والنار، هؤلاء محرومون ولا أقول أكثر من هذا، محرومون لم يفقهوا شيئاً، أبو حامد ما أقدم على هذه الخُطوة الجبّارة التي لا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم وإلا مَن له مثل الجبل من العزم الحديدي الذي لا ينثني ولا يلتوي إلا بعد أن أدرك ما يُدرِكه مُعظَم هؤلاء الخلق، فهم أن المسألة ليست كذلك، سوف طبعاً نأتي على تفاصيل رحلته الروحية والفكرية، ما الذي حصل له؟ ما الذي أزعجه عن مُستقَره وعن موطنه وتأدى به إلى سياحة استمرت عشر سنين كوامل؟ سوف نرى هذا بالتفصيل بعد قليل بإذن الله تبارك وتعالى.

المُهِم عاد إلى طوس، إلى زوجه وبناته، فانتُدِبَ بعد ذلك إلى أن يعود إلى بغداد لكي يُدرِّس في النظامية فعاد إليها ودرَّس في النظامية زمناً يسيراً وقلبه مُعلَّق بماذا؟ مُعلَّق بالعمل والعبادة والذكر، ليست هذه لذته الآن فتركها، ودرَّس في نظامية نيسابور قليلاً أيضاً، مُدة يسيرة ثم تركها، وعاد إلى طوس – لكي نعرف معالم رحلته – واتخذ إلى جوار داره مسجداً يُدرِّس فيه العلوم وخانقاه للصوفية، وهكذا وزَّع أوقاته – رضوان الله تعالى عليه – بين العلم – أي التعليم والتدريس والتأليف والتصنيف، وألَّف مجموعة مُمتازة من كُتبه وخاصة المُستصفى، كما قلنا هذا سنة خمسمائة وثلاث وضعه رحمة الله تعالى عليه، وغيره من الكتب والرسائل – وبين الأوراد والأذكار ومُجالَسة المُريدين وأرباب القلوب والصُلحاء والعُرفاء، هكذا حياته وزَّعها رحمة الله تعالى عليه، وطبعاً رُئيَت له المرائي الكثيرة، وقال تواترت المرائي الكثيرة الصالحة من أرباب القلوب والصُلحاء، والله – عز وجل – أشار عليه بإشارات كثيرة كلها تحفزه إلى أن يعود إلى التدريس – لا تكتف بالعبادة والذكر، لابد أن تُدرِّس – فعاد، وأيضاً من باب الاعتداد المشروع والذي هو – إن شاء الله – محل له وقمين به ذكر – رحمة الله تعالى عليه – أنه ما جاءت هذه الإشارات ولا انثالت عليه ولا رُئيت له تلك المرائي الحسنة الصالحة إلا لأن الله يقضي – سُبحانه وتعالى – بأن يُجدِّد الدين على رأس كل قرن، فأشار أبو حامد إلى أنه قد يكون له شرف أن يكون هو المُجدِّد، وفعلاً أبو حامد مات تقريباً على رأس القرن في خمسمائة وخمسة، إلى سنة خمسمائة انتهى تقريباً مشواره الفكري واكتملت مسيرته، كل شيئ وضح، مُعظَم مَن كتب في المُجدِّدين نعم يُقِر ويُؤكِّد أن أبا حامد كان مُجدِّد القرن الخامس الهجري للإسلام والمُسلِمين، رحمة الله تعالى عليه.

نُكمِل – إن شاء الله – حتى نقف بكم على نبأ موته وكيف كانت نهايته السعيدة لكن في حلقة مُقبِلة إن شاء الله تبارك وتعالى.

– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: جزاك الله خيراً شيخ عدنان.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: