– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُرحِّب بكم أيها الإخوة الأعزة وأيتها الإخوات الفاضلات في حلقتنا العاشرة من سلسلة الإمام الغزالي بذكرى وفاته تسعمائة سنة، وقد كنا في الحلقة التاسعة في رحلةٍ مع شيخنا الفاضل – الشيخ عدنان إبراهيم – في تمحيص الإمام الغزالي لأقوال الفلاسفة ومنها أن العالم صنع لله ولكنه خالفهم مع كونهم قالوا الحقيقة في هذا الموضوع، فالعالم قالوا إنه صنع تلقائي ضروري وهذا خالفهم به قائلاً أن الله فاعل مُختار مُبدِع، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد كان إمامنا الغزالي باحثاً عن الحقيقة أكثر منه مُحامياً عن الشريعة، وكان يُحسَب له – وإلى الآن ما زال يُحسَب – أنه كان يأتي بعرض حُجته خصمه على أحسن منهاج وأحسن شيئ مُمكِن، وأخذ بعضهم عليه ذلك، والشيخ أخبرنا بكون هذا يُحسَب له، وهذا يجب أن نتعلَّمه في أيامنا هذه أيضاً، كما فصَّل الشيخ الفاضل تفصيلاً لم يسبقه أحدٌ إليه وسنُتابِع في هذه الحلقة هذا التفصيل – إن شاء الله – في المقولة التي نُسِبَت للإمام الغزالي نسبةً ليست حرفية وهي ليس في الإمكان أبدع مما كان وفرقها الكامل عن نظرية أفضل العوالم، ونفى الشيخ ما يُنسَب للإمام الغزالي بكونه قال بأفضل العوالم نفياً تفصيلياً نرجو الرجوع إليه في الحلقة التاسعة من هذه السلسلة، ونُتابِع معكم – إن شاء الله – هذه الرحلة الفلسفية مع إمامنا الغزالي ومُحاضِرنا الشيخ عدنان إبراهيم، تفضَّل شيخ عدنان.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك يا أبا عدنان.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

إخواني واخواتي:

في مسألة أو موضوعة توسع الكون بين الفلاسفة الإغريق وابن رشد من جهة وأبي حامد من جهة أُخرى قلنا استطاع أبو حامد أن يُثبِت بعبقرية فعلاً لافتة أن الكون على قاعدة المُتكلِّمين وأيضاً على القواعد العقلية التي يدين بها حادثٌ مخلوقٌ مُبدَعٌ وله بداية في الزمان، وعالج تشغيب الوهم على التسليم بهذه الحقيقة بطريقة كما تلوت عليكم من تهافته لا تخلو من ابتكار لافت، بعد ذلك قال أبو حامد – رحمة الله تعالى عليه – وإن ادّعاء أو زعم أن العالم – أي الكون، الكوزموس Cosmos – لا يُمكِن أن يكون أكبر منه ولا أصغر منه – أي أكبر مما هو عليه ولا أصغر مما هو عليه – هذا زعم يلزم منه تعجيز الله، وهذا صحيح طبعاً، تقول لي الله لا يستطيع أن يجعل الكون أكبر مما هو عليه ولا أصغر مما هو عليه، أي حين خلقه أو حين صدر بتعبيرهم عن الله صدر بهذا الحجم تماماً وبقيَ استاتيكياً ساكناً لا ينكمش ولا ينبعج، أي ولا يزداد، قال هذا يلزم منه تعجيز الله، إذن الله عاجز عن بعض الأشياء!

ابن رشد في تهافت التهافت تصدى للرد على حُجتنا وعلى إمامنا، ماذا قال؟ قال لا، قال هذا لا نُسلِّم بأنه يلزم منه تعجيز الله، انظروا الآن إلى حُجة ابن رشد، في مُنتهى التهافت، مُغالَطة – Fallacy – واضحة جداً، قال لإن جعل الكون أكبر مما هو عليه أو أصغر مما هو عليه غير داخل في حد المُمكِن، هذا ليس من المُمكِنات، بل هو من المُحالات، أي أمر لا معنى له في ذاته، مُحال هذا كجمع النقيضين، عجيب! هذا الذي نتناقش عنه، هنا ابن رشد وقع في مُصادَرة على المطلوب، هذا ما يُسمى بالمُصادَرة على المطلوب، أصلاً هذا هو موضوع النزاع، الله – تبارك وتعالى – يستطيع أن يجعله يزداد أو يتصاغر أو لا يستطيع؟ أنت تقول لي لا، لماذا؟ لأن هذا الموضوع هو من ضمن المُحال لا من ضمن المُمكِن، أصلاً موضوع النزاع أن نُثبِت أنه مُحال أو مُمكِن، عجيب جداً يا أخي! ثم ذهب ابن رشد يقول – واضح هنا بالمُناسَبة المُغالَطة، ابن رشد ذكي جداً بلا شك، لا يستطيع أحد أن يشك في ذكاء ابن رشد وعبقرية ابن رشد، لكن تذكَّروا مقولتي: العبقرية أحياناً تستحيل إلى غباء وبلادة بالتقليد، حين تلتزم أن تُدافِع تقريباً عن كل ما قال أرسطو Aristotle سوف تُثبِت في مراحل أنك غبي وبليد أحياناً، لا أتحدَّث عن ابن رشد ولكن عن الذي يلتزم ذلك للأسف الشديد، هنا تُوجَد مثغالَطة واضحة لا تسوغ على طفل صغير، واضح أنها مُغالَطة، فماذا يقول ابن رشد رحمة الله تعالى عليه؟ – بمعنى الكلام وإذ ثبت أن هذا ليس في حد المُمكِن بل هو في حد المُحال فلا يُسمى العجز عن المُحال عجزاً، لأن المُحال هو ما لا يكون، المُحال لا معنى له، وهذا صحيح، هذه القاعدة صحيحة: المُحال لا معنى له، فأي شيئ إذا كان مُحالاً في ذاته لا يُقال الله عاجز عنه، انتبهوا إلى هذا، لماذا؟ لأنه لا معنى له، هو كلام تخليط، هذيانات نائم أو محموم، كما يُقال – مثلاً – هل يستطيع الله ألا يستطيع؟ هذا هذيان، هذا كلام فارغ، كيف يستطيع ألا يستطيع؟ المفروض أنه على كل شيئ قدير، هل يُمكِن أن تقول لي بما أنه على كل شيئ قدير هل يقدر على ألا يقدر؟ هذا كلام فارغ، أنت تتكلَّم كلاماً لا معنى له، كلام من ناحية نحوية يُمكِن أن نرصفه وأن نُعرِبه لكن من ناحية منطقية وعقلية لا معنى له، وهو بالمُناسَبة تبسيط وتكثيف للمثل السخيف في العصور الوسطى الأوروبية – انتقل إلينا وهو موجود حتى في تراثنا – هل يستطيع الله أن يخلق خنجراً – وبعضهم قال صخرة أو جبلاً – من العِظم والثقل والرزانة بحيث لا يستطيع أن يستقل بحمله؟ إذا قلت نعم يستطيع ذلك نسبت إليه العجز من حيثية القدرة على حمله، هو قادر على خلقه لكنه عاجز عن حمله، فصار قادراً وعاجزاً مع انفكاك الجهة، لكنه عاجز الآن، وإن قلت لا يستطيع نسبت إليه العجز من حيثية عدم القدرة على الخلق، خلق هذا الشيئ! لكن السؤال كله غلط، قبل أن تُجيب عنه السؤال لا معنى له وهو سؤال غبي، سؤال مُحال! لأنه يفترض في القادر كُلي القدرة – Omnipotent – أن يكون عاجزاً، هذا تناقض، أليس كذلك؟ أنا لا أستطيع ذلك، طبعاً أنا بشر، لست كُلي القدرة، وأنت لا تستطيع، لا تستطيع ماذا؟ لا تستطيع أن تخلق شيئاً بحيث يكون من العظمة ولا تستطيع أن تستقل به، لا تستطيع لأن ليس المفروض فيك أنك كُلي القدرة، أشياء كثيرة لا تستطيعها، لكن الله كُلي القدرة، فكل ما جاز في نفسه ولم يُحِله العقل تتسلَّط عليه القدرة، مُمكِن جداً، لكن كل ما أحاله العقل وليس له معنى في ذاته ومُتناقِض لا يُقال أن القدرة تعجز عنه، لأن القدرة تعجز عن ماذا؟ المفروض أن تعجز عن الشيئ الذي له معنى، أما مع شيئ لا معنى له السؤال كله يُصبِح لا معنى له، فلا نُجيبك، هذا كلام فارغ، مَن أجابك بنعم فقد أخطأ ومَن أجابك بلا فقد أخطأ لأن السؤال لا معنى له، كمَن هل يستطيع الله أن يجعل حاصل جمع واحد زائد واحد يُساوي مائة؟ هكذا من غير فلسفة السؤال، لا نقول واحد في باطنه خمسون وما إلى ذلك، وإنما واحد زائد واحد يُساوي مائة، هل هذا مُمكِن والحديث عن واحد زائد واحد؟ هذا كلام فارغ، لأن واحداً زائد واحد لا يُساوي إلا اثنين في هذا العالم وفي الجنة وفي النار وفي كل مكان، مُستحيل غير هذا، العقل يقضي بهذا، لكن أن يُقال واحد زائد واحد يُساوي مائة أو يُساوي ثلاثة أو يُساوي ألفاً هذا كلام مُحال، كلام فارغ، تخبيص، كلام لا معنى له، كلام مُرتَّب لُغوياً لكن لا معنى له منطقياً، فابن رشد استند إلى هذه القاعدة الصحيحة لكن انتبهوا، القاعدة سليمة، هذه المُقدِّمة في الاستدلال سليمة لكن المُقدِّمة الأولى التي تقول أن تكبير الكون أو تصغيره عما هو عليه من أقسام المُحال كلام فارغ، والعجيب أن أبا حامد قبل ابن رشد بنحو تسعين سنة – كما قلنا أبو حامد تُوفي في سنة خمسمائة وخمس وابن رشد تُوفي في سنة خمسمائة وخمس وتسعين – كتب بالحرف الواحد يقول إن هذا مُكابَرةٌ للعقل، فإن العقل في تقدير العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه بذراع ليس كتقدير الجمع بين السواد والبياض والوجود والعدم، أن تكون هذه الصحيفة – أي الصفحة – سوداء بيضاء – هي الآن بيضاء ونُريد أن تكون سوداء بيضاء في نفس الوقت – مُستحيل، مُستحيل لأن جمع الضدين من المُحالات، نصفها أسود ونصفها أبيض شيئ ثانٍ، لكن أنا أُريد منها أو كلها تكون سوداء بيضاء في الوقت عنيه، مُستحيل! هذا مُستحيل ولا تتعلَّق به القدرة الإلهية، لأنها لا تتعلَّق بشيئ لا معنى له، هذا لا معنى له، هل فهمتم؟ هو في حد ذاته لا معنى له، لكن هل يستطيع الله أن يجعلها بيضاء ثم سوداء في واحد على مائة بليون بليون بليون بليون بليون بليون إلى انقطاع النفس من الثانية؟ يستطيع، وأقل من هذا يستطيع، لكن سوداء بيضاء في الوقت ذاته كلام لا معنى له حتى نقول الله يعجز عنه، لا معنى له، فلا تتعلَّق به القدرة أصلاً حتى يُقال أنها تعجز، التعجيز فرع ماذا؟ التعلق، لابد أن يكون هناك إمكان لتعلق القدرة، والقدرة لا تتعلَّق بالمُحال، هل هذا واضح؟ أو الوجود والعدم، الإثبات والنفي: هل يستطيع الله أن يجعل الأخ نعيماً حياً ميتاً في الوقت ذاته؟ كلام فارغ، لا تقل لي نعم يستطيع ولا تقل لي لا يستطيع، هذا غلط، قل لي هذا سؤال لا معنى له، كيف يكون حياً ميتاً؟ لا يُمكِن، إن كان حياً فهو ليس ميتاً وإن كان ميتاً فهو ليس حياً، هذا هو طبعاً، لا تقل هل يستطيع أن يجعله قاعداً واقفاً في الوقت ذاته؟ جمع النقيضين، انتبه إلى هذا، من مباديء العقل جمع النقيضين – أي اجتماع النقيضين – كارتفاع النقيضين مُحال، ما معنى مُحال؟ لا معنى له، فأبو حامد بكل بساطة قال هذا، وهذا لا يحتاج إلى ذكاء بالمُناسَبة، الذي زايله الذكاء ابن رشد غفر الله له، أبو حامد قال لا يا جماعة بالله عليكم، موضوع مد العالم وتوسيع العالم أو تصغير العالم ليس كموضوع حي ميت وأسود أبيض وقائم قاعد وملآن فارغ، الكوب يكون ملآناً فارغاً في نفس الوقت مُستحيل، هذا مُحال، ليس له معنى، إن كان ملآناً فهو ليس فارغاً وإن كان فارغاً فهو ليس ملآناً، جمع النقيضين! فأبو حامد قال هذا ليس من هذا، ابن رشد ما شاء الله عليه من عنده بضربة سحرية بهلوانية قال نعم، جعل العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه من أقسام المُحال، لا يا بابا، والله ما صدقت لا علماً ولا فلسفةً، كلام فارغ، أين المُحال فيه؟ لماذا؟ لأنه بنى الاستحالة على مباديء – انتبهوا – قدَّمها الفلاسفة كلها مطعونة، لن نُطوِّل بذكرها فارجعوا إلى المسألة وسوف ترون هذا، ثم استتلى أبو حامد استتلى فقال – رحمة الله عليه – إنه إن كان العالم على ما هو عليه – الآن بالحجم هذا – لا يُمكِن أن يكون أكبر منه ولا أصغر منه صار وجوده مُمكِناً أو واجباً؟ صار وجوداً واجباً، ما المُراد بكلمة واجباً؟ ضرورياً، والواقع والحق أن وجود العالم ليس من أقسام الواجب بل من أقسام المُمكِن، أصبح هناك تناقض، لا تقل لي هو هكذا وسيظل هكذا وانتهى الأمر، أبو حامد قال هذا كلام فارغ، طبعاً أبو حامد – انتبهوا – لم يقل بأن الكون يتوسَّع لكي نكون صادقين، لكنه قال يُمكِن أن يتسع – لا تُوجَد مُشكِلة – ويُمكِن أن ينكمش، والله قادر على ذلك وهذا من أقسام المُمكِن، ورفض أن يُسلِّم بآراء الفلسفة التي تقول إن هذا العالم لا يُمكِن أن يكون أوسع ولو بذراع ولا أضيق أو أصغر بذراع، قال لا، لو كان الأمر كذلك كما زعموا لكان هذا العالم من أقسام الواجب، والحال أنه من أقسام المُمكِن الذي حدث بعد أن لم يكن، أي خرج بلُغة ابن رشد من الليس إلى الأيس، خرج من الليس إلى الأيس، من العدم إلى الوجود، هذا كلام دقيق، ابن رشد انظروا الآن ما شاء الله كيف رد عليه، وهنا فعلاً كع أو تهافت تهافتاً فظيعاً بمُغالَطة، تخيَّلوا ابن رشد ماذا يقول؟ ما عشت أراك الدهر عجباً، هذا عجب! قال والواجب في هذا عندي أقرب – أتى بجواب لابن سينا ثم قال أنا عندي جواب أحسن منه، ما هو الجواب؟ – وذلك أنه يجب في الأشياء الضرورية على هذا القول ألا يكون لها فاعل ولا صانع، مثال ذلك أن الآلة التي يُنشَر بها الخشب هي آلة مُقدَّرة في الكمية والكيفية والمادة، أي المِنشار، أليس كذلك؟ قال مادة من حديد، دائماً لا يكون المِنشار من خشب، لابد أن يكون من حديد، ولها حجم مُحدَّد وشكل مُحدَّد، إذن هذه على كلام أبي حامد تُصبِح من أقسام الضروري الواجب، وهذا يعني أنها ستُصبِح غير مصنوعة للإنسان ولا حتى لرب الإنسان، من أقسام الواجب، ما هذا الكلام الفارغ؟ هذا كلام أطفال، هذا كلام صبياني، هل تعرفون لماذا؟ كل صبي يعلم أن المِنشار يُمكِن أن يكون أكبر منه، ليس شرطاً يا حبيبي، والمناشير ليست يا ابن رشد كما تظن، عجيب! أنا حين قرأت هذا لم أكد أُصدِّق، أهذا ابن رشد؟ إلى هذه الدرجة تهافت وهوى؟ هو التقليد، انتبهوا! هذا التقليد، لابد أن أرد على أبي حامد، كيف ترد يا حبيبي؟ الرجل تكلَّم بأشياء صحيحة واضحة رجيحة، انتهى الأمر إذن وسلِّم، تراجع مثله، هو علَّمنا أن نخضع للحق، ينبغي أن نبخع للحق، قال لا، أُريد أن أُجادِله، كيف تُجادِله؟ أنت هنا فعلاً سفهت نفسك، سفهت عقلك حتى وليس الحق، قبل أن تسفه الحق سفهت وأزريت بعقلك، قال لك هذا مِنشار، المِنشار لكي يُؤدي وظيفته يحتاج إلى كمية مُحدَّدة وكيفية مُحدَّدة وشكل مُحدَّد، لا يكون أكبر ولا يكون أصغر، ولا يكون من أي مادة أُخرى، لابد أن يكون من حديد لكي يُؤدي وظيفته، إذن على كلام أبي حامد هذا سوف يكون ضرورياً، كما زعم أن كوننا الذي لا يكبر ولا يصغر ضروري وبالتالي غير مخلوق، قال لا، سوف يكون حتى المِنشار غير مخلوق، كيف يا ابن رشد بالله عليك وفتح الله عليك؟شيئ غريب جداً يا أخي، هل المناشير مُتحِدة فعلاً؟ لو العاش اليوم ورأى المِنشار الكهربائي – قلم يصعد وينزل – لقال اختلف الشكل، الشكل مُختلِف تماماً، هذا اختلاف الشكل يا حبيبي، أليس كذلك؟ ويُمكِن أن يُصنَع مِنشار كهربائي من خمسين مادة أُخرى غير الحديد، هذا عادي، يُمكِن اليوم أن يحدث هذا، اليوم العلم عنده قدرة أن يقص لك الخشب بالتُراب وبالماء، بالماء موجود وبالتُراب موجود، وهو مِنشار من أحسن المناشير، المادة ليست شرطاً والهيئة ليست شرطاً، وأما الحجم يا أبا الوليد، يا فيلسوف قرطبة – رحمة الله عليك رحمة واسعة – فالكل يعلم علماً تجريبياً مُلقىً على طرف الشارع أن المناشير منها الكبير ومنها الصغير ومنها المُتوسِّط، فهي مُختلِفة، لا أدري كيف قال هذا الرجل؟ شيئ غريب يا أخي، ماذا قال؟ قال أعني أنها لا يُمكِن أن تكون من غير حديد ولا يُمكِن أن تكون بغير شكل المِنشار – تعال لكي ترى الأصبع الذي ينشر اليوم وتيار الماء الذي ينشر أيضاً، ما هذا الكلام الفارغ؟ – ولا يُمكِن أن يكون المِنشار بأي قدرٍ اتفق – غير صحيح، هذا مُمكِن، يُوجَد مِنشار كبير ويُوجَد مِنشار صغير، ويُوجَد مِنشار يمسكه عشرة رجال ويذهبون ويجيئون به، طوله عشرة أمتار من أجل أن ينشروا به الخشب، هذا كله موجود يا ابن رشد، قال وليس أحد يقول أن المِنشار هو واجب الوجود، فانظر ما أخس هذه المُغالَطة! قال أبو حامد غالط ومُغالَطته خسيسة، أقول له لا والله، والله ما غالط إلا أنت، وأنت مُغالِط كبير هنا ولن أقول ما أخس مُغالَطتك! احتراماً لك، لكنها مُغالَطة واضحة يا أبا الوليد عفا الله عنا وعنك، فالعجب يا أخي من ابن رشد، تخيَّلوا هذا، وقال تهافت التهافت، هنا أنت لم تُصِب، أنت هنا تهافت حقيقةً، تهافت حقيقةً!

على كل حال حتى لا أُطوِّل في هذه المسألة يُمكِن أن تعودوا إلى الكتابين وإلى المعركتين الحاميتين، لكن باختصار الآن لو أتينا نستشير العلم الحديث – العلم المُعاصِر – سوف نقول له أنت مع ماذا أولاً في المسألتين كلايهما؟ هل الكون الآن بحسب العلم الحديث – الكوزمولوجيا Cosmology ـ، علم الكونيات ونشأة الكون، ليس الفلك وهيئة الأجرام وإنما نشأة الكون وبنية الكون وماضي الكون وحاضر الكون ومصير الكون، هذا كله يبحث فيه علم كبير اسمه الكوزمولوجيا Cosmology نسبة إلى الكوزموس Cosmos، الكوزمولوجيا Cosmology يعني علم الكونيات، فبحسب علم الكونيات نسألة وهو علم دقيق جداً وعنده أُسس رياضية وطبيعية هائلة – له بداية أو ليس له بداية؟ له بداية، حدِّدوا لي إياها أنتم الآن، الرقم؟ ثلاثة عشر بليوناً وسبعة مليون سنة، والبليون Billion هو المليار، أي عشرة أس تسعة، ثلاثة عشر ملياراً وسبعة مليون سنة، لا تقل لي ضوئية، سنة وقتية عادية، انتبه إلى هذا، هذا عمر الكون بحسب النظريات العلمية الرياضية الدقيقة جداً جداً، والآن تقريباً تقدر أن تقول أصبحت مقبولة لدى جميع العلماء، أقوى نظرية على الإطلاق هي نظرية الانفجار الكبير Die Urknalltheorie أو The Big Bang Theory التي تقول بأن الكون قبل هذه المُدة كان كله مُختزَلاً في مُفرَدة – Singularity – دقيقة جداً جداً جداً ذات رُتبة عشرة أس ناقص أربعة وثلاثين، شيئ رهيب، أي أنها أصغر من البروتون Proton ملايين ملايين المرات، وبعض علماء الكوزمولوجيا Cosmology الكبار قال نحن علينا أن نتكلَّم بكل تواضع ونقول الكون نشأ من Ex nihilo باللاتيني، أي من عدم، من Nothingness، ماذا تقول أنت؟ عشرة أس ناقص أربعة وثلاثين! مُستحيل، هذا يعني عدم وجود أي شيئ، وبعد ذلك حدث هذا البيج البانج Big Bang أو الانفجار الكبير والفرقعة العُظمى وبدأ الكون صغيراً جداً جداً وبدأ يتسع، والآن قال لك ما زال يتسع، وليس هذا فحسب، تجريبياً أرصادياً – بالأرصاد هذا ثبت، وعندكم نظرية مشهورة جداً اسمها Redshift and blueshift، أي الإزاحة الحمراء والإزاحة الزرقاء – أي نجم يتحرَّك إما أن يقترب منا أو يبتعد عنا، نأخذ الضوء الآتي منه ونضعه في المطياف، إذا حدثت عندنا إزاحة نحو الأحمر – Red – هذا يعني أنه يُبرطِع في الكون، وإذا كانت الأزاحة نحو الأزرق – Blue – هذا يعني أنه يقترب منا، وجدنا مُعظَم المجرات والنجوم – Stars – والسوبر نوفا Supernova يُبرطِعون، اللون أحمر باستمرار، الإزاحة حمراء Redshift باستمرار، هذا واضح! وطبعاً هي نظرية جميلة، أنا عندي عنها مُحاضَرة امتدت تقريباً لثماني ساعات، كانت عن نظرية البيج البانج Big Bang قبل حوالي اثنتي عشرة سنة، نظرية جميلة ومُتقَنة وقوية وتتغلَّب على صعوباتها يوماً فيوماً سُبحان الله، يبدو أنها ستكون النظرية المُعتمَدة بعد ذلك ربما بشكل شبه نهائي في نشأة الكون، فالعلم هنا وقف بكل فخر مع مَن؟ هل وقف مع ابن رشد وجالينوس Galenos وأرسطو Aristotle وهؤلاء الجماعة أم وقف مع الإمام الغزّالي؟ مع الإمام الغزّالي، مع علم الكلام الإنساني، أي مع التوحيد، مع القرآن! والعجيب أن القرآن بشكل واضح قال لك وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ۩، يا إلهي! هذا عجيب، هذا كلام واضح جداً جداً، قال وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ۩، لا تقل لي يقف ويتحرَّك وكل هذا الكلام الفلسفي فارغ الذي تُردِّده، كله كلام فارغ هذا، ضد العلم، ثم أن هناك ما يُسمونه الخلفية الكونية ذات الإشعاع الصُغروي، أي The cosmic microwave background، هذا هو! الخلفية الكونية ذات الإشعاع الصُغروي، أرسلوا في آخر التسعينات تقريباً كوب Cop – المُستطلِع المسبار الفضائي المُسمى بكوب Cop – لكي يرصد هذه الأشعة، وثبت فعلاً أن الكون نشأ تقريباً من هذه المُدة وأن الكون في توسع دائم!

نظريات مُعقَّدة ودقيقة جداً جداً، فالعلم هنا يقف – كما قلت لكم – إلى جانب إمامنا أبي حامد الغزّالي رحمة الله تعالى عليه، وبالمُناسَبة حتى لا أنسى – هذه معلومة مُهِمة سجِّلوها، خاصة دارسي الفلسفة والفكر الإسلامي – الثابت عن الفيلسوف الكندي – فيلسوف العرب هذا، هذا عربي أصيل – وعن الفيلسوف أبي نصر الفارابي أنهما من الذين كانوا يقطعون بحدوث الكون، أي يُنكِرون أزلية الكون، أن الكون أزلي قديم، قالا لا، هذا غير صحيح، على عكس ابن سينا وابن رشد، قالا بقِدم العالم مثل أرسطو Aristotle، الفارابي قال لا، الكون حادث، وهذا شيئ مُهِم جداً جداً، والفيلسوف الكندي قال الكون حادث، طبعاً هذا ليس غريباً بدرجة كبيرة، لماذا؟ لأن الغلبة لم تكن حينها بشكل واضح للفيلسوف أرسطو Aristotle، كانت هناك الأفلاطونية وكانت هناك المشائية، فالفارابي عنده كتاب الجمع بين رأي الحكيمين، أليس كذلك؟ مَن هما الحكيمان؟ أفلاطون Plato وأرسطو Aristotle، فالفارابي – أبو نصر الفارابي – تأثَّر في هذه المسألة برأي مَن؟ برأى أفلاطون Plato، من المعروف أو المعلوم أن أفلاطون Plato كان يقول بخلق العالم، طبعاً عكس أرسطو Aristotle تَلميذه، فأرسطو Aristotle هو تَلميذ أفلاطون Plato، أفلاطون Plato قال لا، الله – تبارك وتعالى – خلق الكون، أحدثه بعد أن لم يكن، لذلك الفلسفة المسيحية قبل العصور الوسطى هذه بالذات مع توما الأكويني Tommaso d’Aquino وويليام أوكام William Ockham وأمثال هؤلاء كانت تتبنى فلسفة أفلاطون Plato، لماذا تبنت فلسفة أفلاطون Plato؟ لأنها تقول بخلق العالم، العالم مخلوق لله، هذا يُلائم المُتدينيين، لكن فلسفة أرسطو Aristotle هذه تُعتبَر إلحادية، العالم غير مخلوق، قديم بقِدم الله، صادر عنه بالضرورة لا بالاختيار، هذا كلام فارغ، وعلمياً فارغ هذا الآن، علمياً فارغ، الكون حدث هكذا وله بداية، أي صار بعد أن لم يكون وخرج من الليس إلى الأيس، هل هذا واضح؟ هو هذا، العلم يقول هذا، القرآن يقول هذا، علم الكلام يقول هذا، الفلسفة الإسلامية الصحيحة تقول هذا، الكندي قال هذا، أفلاطون Plato قال هذا، الفارابي قال هذا، سجَّل هذه المُلاحَظة مع أنها لم تكن شائعة أيضاً دي بور De Boer نفسه في كتابه عن تاريخ الفلسفة الإسلامية، قال أنا وجدت هذا بشكل واضح، الكندي والفارابي من القائلين بخلق العالم وحدوثه على عكس ابن سينا وابن رشد في هذه المسألة.

نأتي الآن إلى مسألة أُخرى تتبدى فيها أيضاً عبقرية إمامنا الغزّالي: موضوع بقاء الأجرام السماوية، الشمس إنموذجاً.

طبعاً حال الشمس حال أي جرم آخر، علماً بأنهم لا يُفرِّقون بين الكواكب وبين النجوم، يُسمونها كلها بالأجرام، السيارات النيّرات هذه كلها تُسمى هكذا مهما كانت، مُعظَم فلاسفة الأغارقة ويتقدَّمهم أرسطو Aristotle طبعاً وجالينوس Galenos الطبيب – كان أيضاً فيلسوفاً حكيماً – يرون أن الأجرام العُلوية – كما شرحت لكم باقتضاب – أبدية مُؤبَّدة Eternal، أي لا تنتهي، في الأبد دائماً موجودة، لماذا؟ لا تتحلل، لا تفسد، قلت لكم عندهم مُصطلَح اسمه الكون والفسد، يُوجَد كتاب لأرسطو Aristotle اسمه كتاب الكون والفساد شرحه وترجمه ابن رشد، الكون والفساد! ما الكون؟ وما الفساد؟ الكون هو التركب، ما المُراد بالتركب؟ من أكثر من عنصر، كم عدد العناصر التي عندنا في العالم الأرضي السُفلي؟ أربعة: التُراب والماء والنار والهواء، هل هذا واضح؟ وكل عنصر عنده طبيعة، وهذه عناصر مُفرَدة، أي لا يُمكِن أن تكون مُركَّبة، هي ليست مُركَّبة، التركيب يحدث بها ومنها، يكون هذا مع هذا فتحدث وهذا مع هذا فتحدث، هل هذا واضح؟ وهكذا، وهذه لا تنحل إلى ما هو دونها، هي دون الدون، لا يُمكِن، هذه عناصر، أي Substances، هكذا يقولون، وهذا الكلام طبعاً فارغ كما قلنا، كلام فارغ تماماً، لكن هكذا كانوا يعتقدون، فالتركب هو الكون، وبعد ذلك ماذا قالوا؟ هذا صحيح – هذا الآن صحيح – بالمُناسَبة، كل مُتركِّب أو مُركَّب لابد أن ينحل، هذا صحيح، لذلك هذا البدن الإنساني المُركَّب بالطريقة هذه لابد أن ينحل، قد تقول وفي الجنة إن شاء الله – اللهم اجعلنا من أهلها وقطّانها وعمّارها مُؤبَّدين فيها إن شاء الله هانئين وادعين – ما الحال؟ سوف أقول لك مُركَّب أكيد، سوف يكون مُركَّباً طبعاً، لأننا كائنات مخلوقة، مُركَّب! لكن أنا أقول لك مثلما دُمنا هنا سبعين سنة سوف ندوم هناك إلى ما لا نهاية، بماذا دُمنا هنا وهناك؟ هذا له علاقة بالسببية – Causality – الآن، دُمنا بقيومية الله علينا، بالمدد السيّال المُتواصِل من الله – لا إله إلا هو – إلينا، باختصار كما عبَّر ابن رشد في تهافت التهافت وهذه من الأمثلة الجميلة التي ضربها ابن رشد واستعارها بعض المُعاصِرين، لكن هذا مثال لابن رشد، الشيخ الغزالي في عقيدة المُؤمِن الذي قرأته وأنا طفل صغير اقتبس هذا المثال فعجبني، لكن هو لابن رشد وليس للشيخ الغزالي المُعاصِر، هو لابن رشد في تهافت التهافت، ماذا قال ابن رشد؟ قال يُوجَد فرق بين الله وبين البنّاء، فرق كبير جداً، البنّاء يبني البيت ثم يتركه، يذهب ويموت حتى لكن يبقى البيت، أليس كذلك؟ الذي بنى أي قصر يتركه فيما بعد، يبنيه وينتهي الأمر، ذهب البنّا ومات إلى رحمة الله أو إلى غير رحمة الله لكن المُهِم يبقى القصر، قال الله ليس كذلك، الله – تبارك وتعالى – قال وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ۩، بنى السماء، بنى الكون، بنى الإنسان، قال لك الآدمي بُنيان ربه ملعونٌ مَن هدمه، كل هذا الكون مبني لله، ولكن الله لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ ۩، يغفل ولا لُحيظة عن رعاية وتدبير ما بناه لا إله إلا هو، لأن – وفرض المُحال ليس بمُحال – لو أخذته سنة من نوم ولو لكسر من لحُيظة ماذا يحدث للكون؟ يغرق في ظلمة العدم في هذا الكسر من اللُحيظة، ينتهي كل شيئ وكأنه لم يكن، لا يُفرقَع ويسقط على بعضه وإنما يختفي، وجوده يختفي بالكامل، يُصبِح عدماً، لا إله إلا الله، هذا يعني أنك مُركَّب في الدنيا ومُركَّب في الآخرة، انتبه إلى هذا، سوف تظل مُركَّباً، بمعنى ماذا؟ أنك ستظل في حاجة مُتواصِلة إلى مدد الله المُتواصِل إليك وعليك باستمرار، وهذا معنى القيوم لا إله إلا هو، قيوم على وزن فيعول، من القيام في علم الصرف، فقيوم على وزن فيعول من القيام وهو الذي يقوم به كل شيئ على أنه قائم بذاته لا يقوم بشيئ لا إله إلا هو، هذا الرب، هذا الرب الجليل، نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكمال معرفتك بما يليق بنا على واسع عطاء فضلك ومبسوط منحك. اللهم آمين، فهم قالوا هذه الكائنات الأرضية كلها يعتريها الكون – التركب – والفساد، كل ما تركَّب يفسد، انتبهوا إلى هذا، أي شيئ تركَّب لابد أن يفسد، يتحلل! ليس فقط المواد المُشِعة بالـ Decay كما يُسمونه وإنما أي شيئ، تخيَّل أنك تضع أي شيئ في مكان ما لمُدة زمنية طويلة، أكيد بعد ملايين السنين أي سوف يتحلل ويرجع إلى ذرات منثورة وسوف يتركب منه شيئ آخر، لا يظل شيئ كما هو، لا يبقى شيئ إلى أبد الآبدين، قالوا البلاستيك Plastic كذلك، هذا غير صحيح، كل شيئ لابد أن يتحلل وإن استغرق زماناً طويلاً، فرق بين شيئ يتحلل في مائة سنة وشيئ في بليون وشيئ في بلايين بلايين السنين لكنه يتحلل أيضاً، لابد أن يتحلل لأنه مُركَّب، هذا واضح وهو جيد.

نأتي الآن إلى مسألة السماء، قالوا هذه الكائنات الأرضبة كلها يعتريها الكون والفساد، أما الكائنات السماوية فلا، انظر إلى هذا، هذه سفسطة وخُرافات الفلسفة اليونانية، هذه طبيعيات! هذه الأشياء من مباحث الفيزياء، أعني الطبيعيات، أبو حامد هنا اختلف معهم، أليس كذلك؟ الآن قد تقول لي أعطني نموذجاً يا عدنان لما اختلف فيه أبو حامد مع الفلسفة اليونانية في طبيعياتها؟ سوف أقول لك وأنا عن ماذا أتحدَّث؟ عن ماذا أتكلَّم الآن؟ تكلَّمنا في موضوع اتساع السماء، أليس كذلك؟ هذه طبيعيات خالفهم فيها، تكلَّمنا عن موضوع بقاء الأجرام السماوية أو ذبولها وفسادها، هذه طبيعيات اختلف رأيه فيها معهم والعلم أيَّده مرة أُخرى أيضاً، ماذا قالوا؟ قالوا الأجرام السماوية لا يعتريها الكون وبالتالي لا يعتريها الفساد، لماذا؟ لأنها مخلوقة من عنصر بسيط واحد، ليس من عنصرين فأكثر وإنما من عنصر بسيط أثيري، من أثير Aether، عنصر أثيري بسيط واحد غير العناصر الأربعة الأرضية، فصار مجموع عناصر الوجود كم عنصر الآن عند الأغارقة؟ خمسة، أرأيتم؟ التُراب والماء والنار والهواء والأثير Aether، خمسة! الأثير Aether هذا للكائنات السماوية، لذلك عوالم السماوات بكل ما فيها عوالم أبدية، لا تذبل ولا تتغيَّر، جميل! هل عندكم أدلة؟ ابن رشد للأسف أيَّد جالينوس Galenos وأيَّد أرسطو Aristotle في هذه المسألة، قال هو هذا، والمسكين افترض أيضاً – نوع من المُصادَرة – شيئاً، قال الآن الأرض هذه لو كانت ستتحلل ستتحلل إلى ماذا؟ ليس إلى تُراب وماء وليس إلى نار وهواء وليس إلى الأثير Aether، لأن الأثير Aether بسيط، أي عنصر بسيط! هذا يعني أنها ستتحلل إلى شيئ سادس غير موجود وكل ذلك مُحال، هذا الكلام من ابن رشد – عفا الله عنا وعنه وسامحه – متى يُسلَّم له؟ لو سلَّمنا له المُقدَّمة، أن الكائنات السماوية كائنات بسيطة غير مُركَّبة، أبو حامد بذكائه – سُبحان الله يا أخي، الذكاء المِلي – من أول لحظة قال غلط هذا، هل تعرف ماذا قال أبو حامد؟ ما يقوله اليوم العلم الحديث تماماً، أي المُعاصِر، قال كل كائنات السماء – نجوم وكواكب وسدوم وما إلى ذلك – مُكوَّنة ومركَّبة تركب كائنات الأرض، ما هذا العقل؟ جهبذ الرجل هذا يا أخي، قال لك لماذا؟ لماذا تفترض أنها بسيطة وما إلى ذلك؟ قال هذا كلام فارغ، مُركَّبة قال، وإذا كانت مُركَّبة لابد أن تنحل وتذوب، سوف نرى بماذا احتج جالينوس Galenos طبعاً وأرسطو Aristotle وبماذا أجاب الإمام الغزّالي رحمة الله تعالى عليه.

في صحيفة مائة وست وعشرين من تهافت سُليمان دنيا قال ما تمسك به جالينوس Galenos إذ قال: لو كانت الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة – عند جالينوس Galenos طبعاً مائتان سنة مُدة مديدة في عُمر الكون، ألف سنة أو ألفان مُدة مديدة، ونحن نعرف اليوم أن هذا كلام فارغ، مع ألف وألفين ومليون ومائتي مليون وخمسمائة مليون ومليار حتى لا يُظهِر الذبول، ليس شرطاً – والأرصاد – إذن أول حُجة: جالينوس Galenos قال لو كانت الشمس هذه تقبل الانعدام والتفكك والتحلل والذبول لظهر هذا، لرأينا أنها بدأت تصغر، مثل بالونة تصغر، لرأيناها تفنى، وسائر الأجرام السماوية طبعاً ينطبق عليها هذا، قال في مُدة مديدة لم يظهر أي شيئ، بدليل الأرصاد، ما المُراد الأرصاد؟ ليس شرطاً بالتلسكوب Telescope هناك أُناس كتبوا قبل ألف سنة والشمس كما هي والآن كما هي – الدالة على مقدارها مُنذ آلاف السنين لا تدل إلا على هذا المقدار- ما المُراد بالمقدار؟ مقدارها الحالي، كما هي، حين تقيسها بالشبر تجدها كما هي، وأنت بعيد تراها كما هي، الشمس حين تكون في الشمس فوق الرأس ولا تُوجَد سُحب ولا تُوجَ غيوم تسطع مثل الغربال، حجم غربال! هذا هو فقط، من آلاف السنين كالغربال واليوم كالغربال، هذا يعني أن الشمس لا تذبل، عقل علمي جيد لكن انظر إلى عبقرية أبي حامد الغزّالي، تتخطى كل هؤلاء رحمة الله عليه – فلمّا لم تذبل في هذه الآماد الطويلة، دل على أنها لا تفسد.

الاعتراض عليه من وجوه: – أبو حامد الآن يتكلَّم – الأول أن شكل هذا الدليل – أي من ناحية منطقية، الشكل من ناحية منطقية – أن يُقال إن كانت الشمس تفسد فلابد أن يلحقها ذبول، لكن التالي مُحال فالمُقدَّم مُحال – ما التالي؟ أنها تذبل، قال لا يُوجَد ذبول، فهذا يعني أن الشمس لا تفسد، الشمس غير مُركَّبة، هذا يعني أن الشمس بسيطة أثيرية، هكذا قال – وهذا قياس يسمى عندهم الشرطي المُتصِل – درَّسنا لكم هذا في دروس المنطق، هذه الشرطية المُتصِلة درَّسناها بالتفصيل -، وهذه النتيجة غير لازمة – هو يقول هذه النتيجة غير لازمة -؛ لأن المُقدَّم غير صحيح – أن الشمس لا تفسد، لماذا؟ لأنها غير مُركَّبة، لأنها بسيطة، قال لا، هذا غلط، هي مُركَّبة، وبما أنها مُركَّبة غير بسيطة فلابد أن تفسد، لابد أن تتحلل، هل هذا واضح؟ – ما لم يُضَف إليه شرط آخر وهو قوله إن كانت تفسد فلا بد أن تذبل، فهذا التالي لا يلزم هذا المُقدَّم إلا بزيادة شرط وهو أن نقول إن كانت تفسد فساداً ذبولياً – يُوجَد خطأ في الطباعة – فلا أن تذبل في طول المدة أو يُبيِّن – يقصد المُحتَج جالينوس Galenos – أنه لا فساد إلا بطريق الذبول حتى يلزم التالي للمُقدَّم، ولا نُسلِّم له أنه لا يفسد شيء إلا بالذبول، بل الذبول أحد وجوه الفساد، ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة – عجيب الرجل هذا – وهو على حال كماله.

وهذا فعلاً يحصل، يحصل في الانفجارات، فجأة تجده اختفى، مع أن طبعاً هذه البغتية بمُلاحَظة الرصد القريب، لكن لو أخذت مُنحنى حياة النجم سيختلف الأمر، الآن سأتحدَّث لكم عن الشمس علمياً لمعرفة ما الذي يحدث معها وما الذي سوف يحدث لها، كأن تُصبِح عملاقاً أحمر Red giant ثم تُصبِح قزماً أبيضاً White dwarf، وسوف نعرف كيف ولماذا، قصة كبيرة لكن فلكياً يتحدَّثون عن هذا.

الثاني أنه لو سُلِّم هذا وأنه لا فساد إلا بالذبول فمن أين عرف أنه لا يعتريها الذبول؟ أما التفاته إلى الأرصاد فمُحال – انظر إلى هذا، لماذا؟ – لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب، والشمس التي يُقال أنها كالأرض مائة وسبعين مرة – هل هي مائة وسبعون؟ أمس سُبحان الله في الخُطبة ذكرت هذا، كم هي؟ مليون وثلاثمائة ألف مرة، لأن قطرها مليون وأربعمائة ألف كيلو متر، الأرض قطرها كم؟ قطرها اثني عشر ألفاً وثمانمائة كيلو متر، يتضح أن حجم الشمس مليون وثلاثمائة ألف مرة حجم الأرض، لكن أيامه كانوا يقولون كالأرض مائة وسبعين مرة، كأن هذا رقم كبير – أو ما يقرب منه ولو نقص مقدار جبال مثلاً لكان لا يتبيَّن للحس – وهذا صحيح، انظر إلى ذكاء الإمام الغزّالي، قال لك هي كبيرة جداً، كالأرض مائة وسبعين مرة، فلو ذهب منها شيئ بمقدار جبلين أو ثلاثة أو أربعة لن نلحظ هذا، لأنها بحجم الأرض مائة وسبعين مرة ومع ذلك نراها صغيرة، فلما يذهب جبل لن نلحظ هذا، كأنه نُقطة، عقل مُرتَّب ذكي، وهذا صحيح، وبالمُناسَبة هل تعرفون كم تخسر الشمس كل ثانية الآن من كتلتها؟ ثلاثة آلاف وستمائة طن بدقة، ثلاثة آلاف وستمائة طن في كل ثانية، هل رأيتموها كبيرة في يوم ما ثم في اليوم التالي شعرتهم أنها صغرت؟ لا يظهر هذا، وهذا يحدث لها من خمسة مليارات سنة، من خمسة آلاف مليون سنة تخسر في كل ثانية ثلاثة آلاف وستمائة طن، احفظوا هذا، اضربوا ثلاثة آلاف وستمائة في ألف وانظروا كم مليون كيلو سوف يخرج في كل ثانية، لكن هذا لا يظهر، لا يظهر رغم أن حجم الشمس مليون وثلاثمائة ألف مرة حجم الأرض، لكن هذا لا يظهر إلى الآن -، فلعلها في الذبول – انظر إلى هذا، هذا صحيح، وهي فعلاً في الذبول، قلت لكم هذا الرجل عجيب، أعني أبا حامد رحمة الله وقدَّس الله سره، رجل مفتوح عليه، الله فعلاً نوَّر ذهنه، وهو رجل مُستقِل، استقلاله هو الذي أبرز عقليته ولياقاته العلمية والفكرية، الاستقلال! أنا أدعوكم إلى الاستقلال، قال لك عدنان يُعلِّم الناس التمرد، هم نعوا على أنني أدعوكم إلى القراءة، قلت لكم اقرأوا اقرأوا اقرأوا فقالوا يقول للناس اقرأوا واستنكروا هذا! طبعاً اقرأوا حتى لا تكونوا هؤلاء الناعين علىّ والتائهين، أناس تائهة! قال أبو حامد فلعلها في الذبول، هي الآن تذبل، فعلاً تذبل سُبحان الله، الشمس تذبل لكن هذا لا يظهر، هذا في ملايين السنين، هذا يحتاج إلى مليارات السنين، الآن عمرها خمسة مليارات سنة، كم مُقدَّر لها أن تعيش أيضاً؟ سهلة، خمسة مليارات أُخرى، الشمس مُجمَل عمرها كله سيكون إن شاء الله عشرة مليارات سنة وبعد ذلك ستنتهي، كيف ستنتهي؟ سوف نشرح لكم إن شاء الله علمياً كيف يحدث هذا لكن باختصار – والى الآن قد نقص مقدار جبال فأكثر، والحس لا يقدر على أن يُدرِك ذلك.

والله صحيح، مائة في المائة صحيح الكلام هذا!

لأن تقديره في علم المناظر لا يُعرَف إلا بالتقريب، وهذا كما أن الياقوت والذهب مُركَّبان من العناصر – هذا صحيح، الياقوت مُركَّب والذهب مُركَّب، وهم يعترفون أنهما مُركَّبان، وهذا جيد – عندهم وهي قابلة للفساد – هذا صحيح وهم يعترفون به، لماذا يعترفون؟ لأنها مُركَّبة، كل كائنات الأرض مُركَّبة، أليس كذلك؟ وهم يلتزمون أن كل ما في الأرض يفسد، قال لهم هذا جيد، الذهب يفسد، أليس كذلك؟ احضر قطعة ذهب وارمها في مكان ما، هل ينقص منها شيئ بعد مائة سنة؟ لا تقدر على مُلاحَظة أي شيئ، مع أن ذهب منها أشياء، هذا أكيد، هل ينقص منها شيئ بعد ألف سنة؟ قال إذن هذه مثل تلك، انظر إلى هذا، ما أذكاه! بالمُناسَبة كما قلت لكم مَن أراد منكم أن يُفكِّر بعقلية جيدة ومُبتكَرة يلعب اللعبة هذه، كنت أُحِب أن ألعبها كثيراً وأنا صغير، ما هي؟ لعبة المُقارَنة، دائماً افترض أمثلة وقارن، سوف تُقرِّب لك الموضوعات، ألبرت أينشتاين Albert Einstein هل تعرف ماذا قال؟ العلم كله لعبة مُقارَنة، حين تقرأ حياة أينتشاين Einstein تجد أن مُعظَم تجارب أينشتاين Einstein التي أوحت له بعبقريته الفيزيائية فعلها أين؟ في أي مُختبَر؟ في الذهن الخاص به، في الـ Mind، هذه يُسمونها الـ Mental experiments، أي التجارب العقلية الذهنية، وهو جالس يُحدِّث نفسه قائلاً نفترض كذا وكذا، نفترض وجود ذرة سنشطرنها، سنأخذ جُزيء ونشطره إلى اثنين، واحد هنا وواحد على كوكب كذا، وهذا سيؤدي إلى كذا وكذا، علماً بأنه فعل هذا، هذه تجربة مشهورة جداً، تجربة أينشتاين Einstein و بودولسكي Podolsky ورجل ثالث لعله يكون روزين Rosen، فهم ثلاثة وهذه تجربة في الذهن! مُعظَم إبداعات أينشتاين Einstein على الإطلاق بل كلها ذهنية، يفترض كذا وكذا وكذا، لكن المُقيَّد بأوهاق التقليد وأوهاق السُلطة مثل سُلطة المُجتمَع وسُلطة كذا وكذا لا يقدر على المُقارَنة، الأمور عنده واضحة، انتبه إلى هذا، أبو حامد يُقارِن، قال لك تفضَّل، فماذا قال؟ – ثم لو وُضِعَت ياقوتة مائة سنة لم يكن نقصانها محسوساً، فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مُدة تاريخ الأرصاد – التي حكى عنها جالينوس Galenos قال الأرصاد وتحدَّث عن ألفين وثلاثة آلاف سنة – كنسبة ما ينقص من الياقوتة في مائة سنة – مُقارَنة Compare، لعبة مُقارَنة، هنا عالم يتحدَّث وفيلسوف أيضاً رحمة الله عليه -، وذلك لا يظهر للحس.

فدل أن دليله في غاية الفساد، وقد أعرضنا عن إيراد أدلة كثيرة من هذا الجنس يتركها العقلاء، وأوردنا ها هنا هذا الواحد ليكون عبرةً ومثالاً لما تركناه – هو يعرف أنه دليل قوي، قوي جداً جداً جداً، سحقهم بهذا الدليل، قال نكتفي بواحد والسلام عليكم، نمضي إلى مسألة ثانية دون أن يكون عندنا أي مُشكِلة – واقتصرنا على الأدلة الأربعة التي تحتاج إلى تكلف في حل شُبهتها كما سبق.

نكتفي بهذا القدر مع عبقرينا الحُجة – رحمة الله عليه – إلى أن نلقاكم في حلقة جائية فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: