تقديم الأستاذ المُهندِس/ طرفة بغجاتي

– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا من لدنك علماً إنك أنت العليم الحكيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُرحِّب بكم باسم جمعية لقاء الحضارات وباسم إدارة مسجد الشورى وباسم شيخنا الفاضل الشيخ عدنان إبراهيم بهذه الأمسية المُبارَكة – إن شاء الله – التي ستأخذ مكانة الإمام الغزالي بعد تسعمائة سنة من وفاته، فقد تعارفت الأمم وخاصة الأوروبية منها أن يُتذكَّر العظماء خلال كل مائة سنة ويعود الناس ليتذكَّروا أخبارهم ويتعلَّموا مما تركوا لنا في هذه الأيام، وحريٌ منا نحن معاشر المُسلِمين أن نتذكَّر فيها أئمة عصورنا ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي أكثر إلى الآن في أوروبا Best Seller، كتبه المعروفة إلى الآن تُباع بشكل كبير ويهتم به دور النشر إلى يومنا هذا، ومَن هو حريٌ بأن يُحاضِر بالإمام الغزالي أكثر من شيخنا الفاضل الشيخ عدنان إبراهيم الذي يجمع بينه وبين الإمام الغزالي نُقطةٌ تذكَّرتها – وربما هي الأصوب إن شاء الله – وهي البحث عن الحقيقة وشجاعة القول بالحق؟

وكما تعارف الجميع أن على المُقدِّم أن يُقدِّم المُحاضِر ولو كان ليس بحاجةٍ إلى تعريف فنأتي بنظرات سريعة من حياة شيخنا الفاضل الذي وُلِدَ في غزة المُبارَكة، نسأل الله لها تحريراً وعزةً، وبعدها درس الطب في يوغوسلافيا القديمة وهو يعيش من حوالي عشرين سنة في النمسا بلده الثاني وربما عاش بها أكثر من بلاده الأولى، وهو من أشهر علماء النمسا وأوروبا ودعونا نقول علماء الأمة الإسلامية دونما أي حرج وأي تردد في هذا المقام، وقد سُئلنا من كثير من الناس وأكثرهم من الصحفيين وبعضهم من إخواننا أبناء أمتنا الإسلامية ما سبب إعجابكم بهذا الشيخ، الشيوخ كثيرون والعلماء غزيرون وفي أيام اليوتيوب Youtube والإنترنت Internet وغير ذلك هناك ما هب ودب في هذه الأمة؟ فكان لنا أجوبة كثيرة أطرح عليكم منها ثلاثة وبعدها ننتقل إلى شيخنا الفاضل في هذه المُحاضَرة المئوية، أولها العلم الغزير والموسوعي الذي غطى به في حياته العلمية والخطابية والتدريسية أموراً كثيرةً، ربما لم تُترَك مُشكِلةً من مشاكل الأمة دونما أن يتطرَّق إليها ويُفصِّل فيها بحثاً وشرحاً وتفصيلاً، أما الأمر الثاني فهو شجاعته الدخول على مواضيع إشكالية تعبت منها الأمة، ودخل على مواضيع كثيرة منها نذكر مُنذ أكثر مِن عشر أو خمس عشرة سنة – هذا مُهِم وخاصة للإخوة والأخوات الذين تعرَّفوا على الشيخ من خلال الإنترنت Internet في السنوات الأخيرة، ليعرفوا أنه تطرَّق إلى مواضيع إشكالية في هذه الأمة من أكثر خمس عشرة سنة أو عشرين سنة، ليس شيئاً جديداً – مثلاً سلسلته عن حقوق المرأة وصدم بها الكثيرين من أقوال كثيرة مُؤصَّلة في الشريعة الإسلامية عن حقوق المرأة وعن تحريم أي إذلال لها وأي أخذ لحقوقها، مواضيع أُخرى كانت مثل موضوع الاستبداد السياسي وخاصة في التاريخ الإسلامي في حقبات كثيرة مع أمثلة كثيرة، مواضيع تفصيلية مثل موضوع ختان الأُنثى، عندما كانت الفكرة موجودة كثير من الإخوة قالوا اتركوا هذا الموضوع، موضوع إشكالي، الشيخ أبدى لنا أنه ليس إشكالياً وليس إسلامياً، وكان لمُحاضَرته صدى حتى في رحاب الأزهر الشريف في عام ألفين وستة، مواضيع أُخرى كموضوع عمر السيدة عائشة – رضيَ الله عنها – فصَّل فيه تفصيلاً، مواضيع حد الردة، أنه لا يُقتَل الإنسان برأي حتى ولو كان كفراً، الشيخ أفاد به وأجاد، موضوع حد الرجم وعدم وجوده في القرآن أيضاً أعطانا منه الكثير، إضافةً إلى تفاصيله في العلوم الشرعية، منها سلسلة أصول الدين، سلسلة النحو، التوحيد، سلسلة حتى إحياء علوم الدين التي سنطرحها اليوم أيضاً، وغير ذلك، في هذا السياق كله نتذكَّر في هذه اللحظات أيضاً المُحاضَرة القيمة التي ننصح أيضاً بسماعها في ألفين وثمانية وهي ثمانمائة سنة على وفاة جلال الدين الرومي، فهذا أمرٌ مُهِمٌ جداً، والثالثة وقد كنت في الطريق إلى هنا مع أخي وعزيزي بسّام قباني وتذكَّرنا نُقطةً مُهِمةً وهو أن ربما أحد الأمور التي تُفرِّق بين الشيخ عدنان وغيره من المُحاضِرين أنه أعطاه الله قوة التفصيل في الأمر دونما تضييع لثوابت الأمور، وبنفس الوقت تثبيت للثوابت بتفصيل لا يحتاج بعده إلى سؤال، هذه هي النُقطة الثالثة التي أردنا أن نُقاسِمكم إياها – إن شاء الله – وننتقل إلى شيخنا الفاضل لبداية المُحاضَرة تسعمائة سنة ذكرى وفاة الإمام حُجة الإسلام الغزالي أبي حامد، سيكون بعد ذلك – إن شاء الله – مجالٌ سريعٌ لأخذ بعض الأسئلة، الإخوة والأخوات اللواتي والذين يحتاجون إلى بعض الأسئلة يُعطوني إشارة – إن شاء الله – وسيكون هناك مجال لوضع بعض الأسئلة لشيخنا الفاضل، تفضَّل شيخ عدنان.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك.

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، نعوذ برضاك من سخطك ونعوذ بمُعافتك من عقوبتك ونعوذ بك منك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، واهدنا إلى أرشد أمورنا. اللهم آمين.

أما بعد، إخواني في الله وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وشكر الله لكم اهتمامكم وأثابكم على خُطواتكم وأبقى لكم – بإذن الله تبارك وتعالى – من هذه المُحاضَرة التي أرجو ألا تكون طويلة وشاقة فائدةً وعائدةً تستنيرون بها – إن شاء الله تعالى – ببركة إمامنا الجليل المُترجَم له ولفكره ولعمله في هذه المُحاضَرة عوائد وأثماراً شهية في دُنياكم وأُخراكم. اللهم آمين.

وأشكر في بداية كلمتي أخي الفاضل أبا عدنان على هذا التقديم الذي أثقل به كاهلي ونعتني فيه بما لا أستحقه، فجزاه الله خيراً وجزاكم جميعاً على حُسن ظنكم.

إخواني وأخواتي:

يضن في العادة الفرد برأس ماله المادي ويحوطه من جميع جوانبه، وحريٌ بالأمم أن تضن برأس مالها الرمزي وأن تحوطه من جميع جوانبه، ومن أعظم ما يتقوَّم به رأس مال الأمم الرمزي هو سير وآثار وأعمال وثمار قرائح فهوم علمائها وعُظمائها وخالديها، وإذا ذُكِرَ عُظماء هذه الأمة المرحومة مِن بعد الجيل الأول من الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – والأئمة الأعلام قفز للتو اسمٌ له هيبةٌ ووقعٌ وجرسٌ ورنينٌ وجمالٌ، إنه حُجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزّالي الطوسي رضوان الله تعالى عليه، ما سر هذه الهيبة وهذا الجلال وهذا الألق وهذا الجرس والرنين الذي يتمتَّع به إمامنا حُجة الإسلام الغزّالي؟

طبعاً أيها الإخوة هذا الكلام الذي بدأت به ليس كلاماً إنشائياً شاعرياً إنما هو تقرير لحقيقة تقريباً تسالم عليها مُعظَم – لا أقول كل لكن مُعظَم – مَن تطرَّق بالدرس الواسع المُستبين لحياة هذا الإمام وأعماله وأفكاره، حتى قال بعضهم وهو الإمام تاج الدين عبد الوهّاب السُبكي قل أن نظر أحدٌ في كتابه – يعني الإحياء – إلا تيقَّظ، يُوجِب تأثيراً هذا الرجل، أفكاره وكلماته وصياغاته تُوجِب تأثيراً في نفس قارئه، الدكتور العلّامة المُؤرِّخ حسين مُؤنِس – رحمة الله عليه رحمة واسعة – من كبار مُؤرِّخينا في القرن العشرين وإن تُوفيَ في أول الحادي والعشرين، قال أبو حامد الغزّالي أجمل وأبهى صورة إنسانية للإسلام عرفها العالم، إذا أردت أن تعرض أبهى صورة – طبعاً كما قلنا باستثناء الجيل الأول، نتحدَّث عن الأئمة والعلماء والكتّاب والمُؤلِّفين – فأبو حامد الغزّالي يبقى أبهى صورة ولا يُقارَن به غيره، لماذا؟ حسين مُؤنِس كتب هذا في كتاب وقفه على تأريخ نجوم سماء الفكر الإسلامي اسمه تاريخ مُوجَز للفكر العربي، وهو كتاب جميل جداً تمتعت بقراءته في صباي الباكر، تاريخ مُوجَز للفكر العربي للدكتور حسين مُؤنِس، الأستاذ الكبير عباس العقاد – رحمه الله تعالى – في مُحاضَرته الشهيرة تحت عنوان فلسفة الغزّالي قال لم يعرف لا المشرق ولا المغرب مُفكِّراً ذا ملكة كالتي تمتَّع بها أبو حامد الغزّالي، الملكة الفكرية الفلسفية التجريدية، ليس له نظير، هذه كلمة لم يُلقها الأستاذ الكبير عباس العقاد هكذا على عواهنها، نحن اليوم سنُحاوِل أيها الإخوة أن نأتي بطرف من البراهين الكثيرة عليها، لتروا سعة رحاب هذا العالم وبُعد غوره وقوة منادحه، شيئ عجيب!

أبو حامد من الصعب كما قال الميهني – رحمه الله تعالى – أن يُعرَف فضل عقله إلا مَن قارب الكمال أو اكتمل في عقله، قال لا يعرف فضل عقل هذا الرجل إلا مَن قارب الكمال أو اكتمل في عقله، لابد أن تكون كاملاً أنت حتى تستطيع أن تفهم مَن هو الغزّالي، وهذه كلمة للتاج السُبكي عبد الوّهاب – رحمة الله عليه وعلى أبيه – تعليقٌ واسع، ربما نتلوا عليكم شطراً منه إن شاء الله تبارك وتعالى.

على كل حال أبو حامد الغزّالي إذا ذُكِرَ فأنت أمام رجال لا أمام رجل واحد، وهذه المُلاحَظة سجَّلها شيخ الأزهر العلّامة مُصطفى المراغي في وقته رحمه الله تعالى وأُوثِرَت عنه وزبرها أكثر من مُؤلِّف بعد ذلك، الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي يقول في العادة إذا ذُكِرَ اسم إمام من الأئمة يتبادر فن من الفنون – هذا معروف – إلا ما كان من شأن أبي حامد، فإذا ذُكِرَ أبو حامد فإنك أمام رجال لا أمام رجل واحد، أنت أمام الفقيه الذي جدَّد المذهب، حرَّر المذهب الشافعي كما قيل بكتبه الأربعة المشهورة: الوجيز والوسيط والبسيط والخُلاصة.

حرَّر المذهب إمامٌ أحسن الله خلاصه             ببسيط ووسيط ووجيز وخلاصة.

فأنت أمام أبي حامد الفقيه المُوعِب الذي حرَّر المذهب، إذا ذُكِرَ الأصول أنت أمام أصولي لا يُشَق له غُبار، يكفي أنه صاحب المنخول في بداية شبابه، كان في العقد الثالث – في أواسط العقد الثالث – وعلَّقه من علم أستاذه شيخ الحرمين وإمام الحرمين عبد الملك الجويني – رضوان الله تعالى عليه – المُتوفى سنة ثماني وسبعين وأربعمائة، قال العلّامة الحافظ ابن النجّار – صاحب التاريخ الكبير رحمة الله تعالى عليه – لما وضع المنخول ورآه أستاذه قال له دفنتني حياً، هلا صبرت؟ لقد غطى كتابك على كتابي، وكتابه هو البرهان، وهذه مسألة فيها مُبالَغة ومن تواضع الجويني أعتقد إن ثبتت عنه، وإلا فالبرهان يفوق المنخول بمراحل، مَن قرأ الأصول وقرأ المنخول وقرأ البرهان البرهان يفوق منخول الغزّالي بمراحل، وقد ألَّفه شاباً، أما المُستصفى فنعم، المُستصفى يُمكِن أن يكون ثاني البرهان وقد ألَّفه قبل وفاته بسنتين عام خمسمائة للهجرة أبو حامد الغزّالي رضوان الله تعالى عليه، وهو الذي قال فيه العلّامة الإمام ابن خلدون في المُقدِّمة أعظم كتب الأصول – أي بالإطلاق – البرهان للجويني والمُستصفى لأبي حامد، أعظم كتب الأصول على الإطلاق، أتُريد أن تكون أصولياً من درجة أولى؟ لابد أن تدرس بتعمق وبسطوع هذين الكتابين الجامعين: البُرهان والمُستصفى، على أن المُستصفى أقرب بكثير – أقرب مُتناولاً وأسهل وأحسن ترتيباً وأجود صياغة وعبارة – من البرهان، البرهان صعب مُعقَّد، يُسمى لُغز الأمة، من أصعب الكتب على الإطلاق، المُستصفى على العكس على أنه عميق ومُحرَّر لكنه بسيط وجميل أيها الإخوة، فقد أُوتيَ أبو حامد الغزّالي لا أقول سعداً ولا سعادة إنما سعوداً في التصنيف، ربما لم يُرزَق مُؤلِّف إسلامي ما رُزِق أبو حامد – سُبحان الله – من القدرة على الديباجة الحسنة والصياغة الدقيقة الناصعة المُتألِّقة، فهو بلا شك في رأس مَن يتقدَّم الطبقة الأولى أو مَن يُمثِّل الطبقة الأولى من المُصنِّفين، أعني أبا حامد، أبو حامد يقرأ ويفهم ثم إذا أرد أن يصوغ ما قرأ صاغه على أنه من ذوب فؤاده ومن بنات أفكاره ومن لدناته، يُمكِن أن يُضارِعه في هذا – لكن ينحط عنه بشيئ بسيط – ابن خلدون، والفرق بينهما أن أبا حامد كلامه مُسربَل بالإخلاص، ممزوج في عين التقوى، يُؤثِّر ويهز المشاعر، ابن خلدون قوي، مُؤلِّف قوي، كما قلنا يُمكِن أن يُضارِع أبا حامد، لكن دون هذه الطبقة – مثلاً – أمثال ابن تيمية، دون الطبقة الثانية أمثال السيوطي، جماعة كما أشار إلى ذلك الأستاذ الكبير المرحوم عليّ الطنطاوي رحمة الله تعالى عليه.

على كل حال نعود، فأبو حامد الغزّالي أيها الإخوة نسيج وحده وهو رجال جُمِعَت في رجال، جمع الله فيه ما تفرَّق في غيره، هو الفقيه نعم وهو الأصولي نعم وهو المُتكلِّم، صحيح لم يكن تبريزه في علم الكلام كتبريزه في الأصول والفقه، دون ذلك على أنه مُتكلِّمٌ عظيمٌ، لكن دون تبريزه في الأصول والفقه وتقريباً كل مَن نقده ودرسه وافقوا على هذا بما فيهم السُبكي الذي ترجمه أطول ترجمة بين أيدينا، أطول ترجمة مُتاحة لنا هي ترجمة عبد الوهّاب السُبكي ابن السُبكي الكبير في طبقات الشافعية الكُبرى في المُجلَّد السادس في زُهاء مائتي صفحة نصفها لتخريج أحاديث الإحياء التي لم يُوجَد لها سند، وهي تسمعائة وثلاثة وأربعون حديثاً، وذلك في مائة صفحة، والنصف الثاني ترجمة على عادة وطريقة ومنهج القدماء في الترجمة للأئمة والأعلام النُبلاء، رضوان الله على الجميع.

ثم بعد ذلك هو المنطيق الذي لا يُشَق له غُبار وله اسهاماته في علم المنطق وتقريبه وكشف بعض مُعضِلاته: محك النظر ومعيار العلم وغير ذلك، وبعد ذلك هو الفيلسوف على تسامح، سنعود إلى هذه المسألة، هل يجوز أن يُسمى مَن ضرب الفلسفة ضربةً قاسمة كما يُقال ومَن أراد تهديم بنائها فيلسوفاً؟ أنا لا أستطيع إلا أن أُسميه فيلسوفاً، لقد كان فيلسوفاً وهو يُنازِل ويُصاوِل ويُجاوِل الفلسفة، يُنافِح ضدها عن عقادئه الإسلامية، لكنه كان فيلسوفاً وانطبق عليه قول شيخ الفلاسفة أرسطو Aristotle، قال كل الناس فلاسفة حتى الذي يُعادي الفلسفة حين يذهب يُعاديها إنما يتفلسف، أرسطو Aristotle قال هذا وهذا صحيح فعلاً، إذن أكبر مُتفلسِف في عصره أبو حامد الغزّالي، لقد كان فيلسوفاً بلا شك، لقد كان فيلسوفاً في كلا كتابيه الشهيرين – والثاني أشهر من الأول – مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة، على أنه أيضاً إلى ذلكم هو المُتصوِّف المُتروحِن السالك المُريد والواصل المُنتهي الذي شهد له أبو العباس المُرسي شيخ مولانا ابن عطاء الله السكندري رضيَ الله تعالى عنهما، قال أنا أشهد له بالصدّيقية العُظمى، أبو العباس المُرسي يقول هذا، أنا أشهد له – قال – بالصدّيقية العُظمى، فأين راح وأين طاح كلام مَن قال الغزّالي تفضَّل وتطفَّل على كُتب الصوفية ولم يكن له أُنس – لم يكن أنيساً، أي الغزّالي لم يكن مُتأنِّساً – بمُصطلَحاتهم ومرامزهم، لم يكن أنيساً؟ هذا كلام مَن لم يعرف لا التصوف ولا الغزّالي، أما أبو العباس المُرسي القطب في زمانه قال أشهد له بالصدّيقية العُظمى، وإن لم يُحصِّل الغزّالي ما لم يتحصَّل عند غيره في عشر سنين ترك فيها الجاه والسطوة والسُلطة والعلم والمال والدنيا وما فيها من أجل البحث عن الله ووجه الله – تبارك وتعالى – مَن الذي يتحصَّل؟ أيتحصَّل أمثالنا من البطّالين الذين يجلسون بين صحائف الكتب فقط ويُشقِّقون الكلام بزعمهم؟ كلا، هذا نوع من الظلم للأسف، فلا يُؤخَذ كلام كل عالم ولا كلام كل مُترجِم في أعلام العلماء والأئمة، للأسف هناك بعض الكلام ينطوي على ظلم وينطوي على تهور ومُهاتَرة ومُجازَفة وعجرفة في الكلام، قالوا غير أنيس بمُصطلَحاتهم، شيئ عجيب فهو الصوفي، وأخيراً وإن لم يكن بالآخر المُطلَق هو فيلسوف الأخلاق، هو الأخلاقي، عالم الأخلاق الكبير، رسالة الدكتوراة للدكتور زكي مُبارَك كانت عن الأخلاق عند الغزّالي، من أكبر فلاسفة الأخلاق ومن أكبر علماء الأخلاق إلى اليوم.

في المُحاضَرة – إن شاء الله – في الأسبوع المُقبِل في الجامعة النمساوية سيُحاضِر هناك أستاذ كبير – أستاذ في علم النفس نمساوي – عن أبي حامد الغزّالي والسيكولوجيا Psychology، أي علم النفس، الرجل من المُؤسِّسين لعلم النفس ولعلم التربية، ومن المُساهِمين إسهاماً مقدوراً ومشكوراً في فلسفة الأخلاق، خاصة في موسوعته الجامعة إحياء علوم الدين.

إذن أيها الإخوة عوداً على بدئنا مع الشيخ الأكبر مُصطفى المراغي إذا ذُكِرَ الغزّالي تبدى لك رجالٌ – أمة من الناس – تحت مسلاخ رجل واحد هو أبو حامد الغزّالي، إن أبا حامد كان أمة، لكن لا أمة من الطغام أو الأغمار إنما أمة من الأئمة النُبلاء في شتى العلوم كما شهد الحافظ ابن كثير وسيأتيكم بُعيد قليل. أنا لا أنسى أجتزيء بشهادات بعض العلماء الأئمة أيضاً في فنونهم وتخصصاتهم لنرى نمطاً من تقدير هؤلاء الأجلاء لهذا الإمام الحُجة الذي استحق ولا يزال – وأعتقد إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها – هذا اللقب بجدارة تامة كاملة: حُجة الإسلام، هو حُجة الإسلام حقاً لا مُبالَغةً وتهوراً.

مُعاصِره الشيخ الإمام الحافظ عبد الغافر الفارسي، وكان إماماً حافظاً ثقةً وهو إمام وخطيب نيسابور، وترجم له ترجمة جيدة وواسعة إلى حدٍ ما، قال – رحمة الله عليه – أبو حامد الغزّالي حُجة الإسلام والمُسلِمين، إمام أئمة الدين، مَن لم تر العيون مثله لساناً وبياناً ونُطقاً وخاطرةً وذكاءً وطبعاً، ثم أخذ في الكلام إلى أن قال مُتوسِّطاً كلامه في ترجمته وما لقيَ مثل نفسه، أي لم يكن له نظير في وقته، أبو حامد لم ير مثل نفسه، لأنه لم يكن له نظير، أين مثل أبي حامد في عصره وربما في أعصار سبقت وأعصار لحقت؟ أين مثل أبي حامد رحمة الله تعالى عليه؟ أعجوبة من أعاجيب الزمان رحمة الله عليه.

تَلميذه محمد بن يحيى – تَلميذ الغزّالي، والأفصح أن نقول تَلميذ بدل تِلميذ – قال الغزّالي هو الشافعي الثاني، هناك قصة مرت بي ولا أستحضر الآن أين مرت بي على التدقيق لكنها لطيفة، يُذكَر فيها – والله أعلم بحقيقة ذلك، لكن لم أر حتى السُبكي ذكرها وهو أكثر مَن أسهب في ترجمة إمامنا رحمة الله عليه – ويُقال إن أبا حامد في آخر حياته لما استبحر في العلم قعد فيه مقعداً لم يقعده غيره من مُعاصِريه، وهو يشهد لهذا بنفسه، والاعتداد شيئٌ يختلف عن الزهو ويختلف عن الكبر ويختلف عن التبجح، الاعتداد قد يصدر من كبير ولا يُؤثِّر في مقامه، بالعكس أيها الإخوة، فعلى الصغار أن يفهموا فلسفة اعتداد الكبير بنفسه وهذا ثابت في حق الأجلة حتى من أصحاب رسول الله، فأبو حامد حين يُخاطِب حتى سُلطان خُراسان سنجر يذكر أنه صار إلى حالة من العلم والفهم ليس له نظير في وقته، هو يذكر هذا بعد تصوفه وبعد وصوله إلى الله، هو يعلم هذا من نفسه، يقول هذا من باب التحدث بنعمة الله، لعلنا نقرأه بعد قليل، يقول أنا مارست العلم أربعين سنة حتى صار غاية مُعظَم علماء عصري أن يفقهوا بعض قولي، ليس أن يقولوا مثل قولي، إذا حاولوا أن يفهموا كلامي هذا سوف يكون جيداً، وهذا يقوله وهو في آخر حياته في مُراسَلاته للسُلطان سنجر، ويتكلَّم باعتداد أمام سُلطان مهيب، وكان فيه نوع من الغضب، أعني سنجر، ويُثقِل عليه القول جداً، أبو حامد لم يكن مما يُرائي الوزراء والسلاطين، وسوف ترون اليوم كيف كان يتصدى لهم، شيئ عجيب رحمة الله تعالى عليه، ويعتد بعلمه ودينه وتقواه ونزاهته، ويقول لهم بالفم الملآن والضرس القاطع لا أحتاجكم ولا أحتاج إلى دُنياكم فقد كببتها على وجهها، اذهبوا! قال لهم لن تسمعوا مثل هذا القول من أحد سواي، لقد أعلن يأسه من علماء عصره، علم أنهم مُتمعيشون بالدين، هو قال هذا، قال لن تسمعوا هذا إلا مني، أنا الآن يبدو أنني الوحيد الذي أُغرِّد في هذا السرب، وحيد هكذا قال رحمة الله تعالى عليه، شيئ عجيب، على كل حال فكَّر أبو حامد الغزّالي أن يُنشيء مذهباً خامساً – سُنياً طبعاً غير المذاهب الأربعة – لكنه عدل عن ذلك، فما السر؟ ما الحكاية؟ قيل إنه سنح له رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – في المنام، رأى الرسول واقفاً وإذا بالإمام أبي حنيفة أو مالك، لا أدرس مَن الأسبق في الرؤيا، فجاء ألقى التحية وصافح رسول الله، ورسول الله بيمينه الشريفة أشار إلى الحائط ففُتِحَ باب فدخل مالك أو أبو حنيفة، وهكذا اتفق لأبي حنيفة، وجاء الشافعي فصافح النبي وفُتِحَ له باب فأشار النبي إلى الغزّالي أن أتبعه، أُدخل من ورائه، فعلم أن هذا مقدورٌ عليه، أن يحيا وأن يموت شافعياً، الله أراد هذا، فظل على مذهبه، إن صحت هذه الحكاية فهي حكاية عجب، تدل على مقدار هؤلاء البشر وهؤلاء الناس عند الله تبارك وتعالى، الله يحوطهم، الله يحفظهم من نوش نفوسهم ومن نوش وساوس وخواطر الإنس والجن، لهم مقام عند الله، نسأل الله أن يُعلي مقاماتنا.

الإمام أسعد الميهني قال لا يصل إلى معرفة علم الغزّالي وفضله إلا مَن بلغه أو كاد يبلغ الكمال في عقله، وهذا شيئ صعب، والإمام تاج الدين عبد الوهّاب السُبكي في ترجمته الضافية لإمامنا استحسن هذا الكلام جداً فقال قلت يُعجِبني هذا الكلام فإن الذي يُحِب أن يطلع على منزلة مَن هو أعلى منه في العلم يحتاج إلى العقل والفهم -فتخيَّل الآن حين يتنطَّع سفيه أو عامي لا يُحسِن قراءة آية أو إعراب آية فيتكلَّم في العلماء ويُنصِّب نفسه حكماً وقاضياً بين العلماء الذين أفنوا حياتهم في العلم والدرس، داهيةٌ ما لها من واهية، داءٌ لا يتطبب وجربٌ مُعدٍ وسُمٌ قتّال -، فبالعقل يُميِّز وبالفهم يقضي – إذا أردت أن تحكم لابد من فهم لكي تحكم – ولما كان علم الغزّالي في الغاية القصوى – علم عجيب، هذا بحر – احتاج مَن يُريد الاطلاع على مقداره أن يكون هو تام العقل، وأقول لا بد مع تمام العقل من مُداناة مرتبته في العلم – العقل وحده لا يكفي، أحياناً يكون المرء ذكياً جداً وعاقلاً لكن لا علم لديه، لم يعرف الحقائق، لم يقرأ الحقائق، أليس كذلك؟ لابد إذن أن يُضفَر سعي العقل بتعب وجهد العلم، لابد أن يُضفَر هذا، فيكون هذا السدى وهذا اللُحمة، ومنهما يكتمل نسيج الفهم الحق – لمرتبة الآخر وحينئذ فلا يعرف أحدٌ مِمَن جاء بعد الغزّالي قدر الغزالي ولا مقدار علم الغزّالي إلا بمقدار علمه – مقدار علم هذا الناظر في علم الغزّالي، على مقدار علمك أنت تستطيع أن تُدرِك علم الغزّالي، كلما اتسع علمك اتسع الغزّالي في نظرك، أليس كذلك؟ تماماً، هذا بدهي، وهذا في حق الله، أي في حق معرفتنا لله، في حق رسول الله، في حق مَن هم أعظم وأجل منا، لا تستطيع أن تُدرِك مقداره إلا إذا قاربت الكمال أو اكتملت في عقلك، ولذلك مَن لم يُدرِك مقدار هؤلاء الأمثال ربما ظن الكمال فيهم نقصاً، أحياناً الإنسان تعتريه أحوال أو تبرز منه أشياء تدل على كماله ويراها الناقص دالة على نقص، لأنه لا يفهم، لا يفهم دلالتها على مدلولها الحق لجهله، فنعوذ بالله من داء الجهل، أعظم فتنة وأعظم داء عُضال عياء الجهل، نعوذ بالله من الجهل -، أما بمقدار علم الغزّالي فلا، إذ لم يجيء بعده مثله – يقول السُبكي – ثم المُداني له، إنما يعرف قدره بقدر ما عنده – وهذا مَن الذي يقوله؟ تاج الدين عبد الوهّاب السُبكي، الذي يقرأ هذا الكتاب يعلم هذا، أجمل كتاب أُلِّف في الطبقات طبقات الشافعية، ليس لأحد قلم الإمام السُبكي، عجيب هذا الرجل، هذا الرجل بلغ الأربعين من عمره وتحدى علماء عصره الذين نفسوا عليه فضل الله كما نُفِس على أبي حامد الغزّالي، أبو حامد مات وهو مَتهَم بالزندقة وبالكفر والعلماء يرمونه عن قوس واحدة وكان مكروهاً بين العلماء، طبعاً لأنه مُتميِّز سابق لعصره طبعاً، الآن الناس يظنون أن أبا حامد كان في عصره مُعترَفاً به عند الكل، هذا غير صحيح، كثير جداً من علماء عصره اتهموه بالزندقة والهرطقة والكفر وأنه عدو الإسلام وأنه وأنه، حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ۩، ويذكر هذا في رسائله، هذه رسائل فارسية وهي لأول مرة تُطبَع، لأول مرة تُطبَع رسائل أبي حامد الفارسية، يذكر هذا ويذكر طرفاً منه في مُناسَبات عدة، فتاج الدين عبد الوهّاب السُبكي ادّعى دعوى في الأربعين من عمره كما في مُعيد النعم ومُبيد النقم له وهو من أمتع الكُتب أيضاً في الإصلاح الاجتماعي والإداري والسياسي، في هذا الكُتيب صغير العظيم الفائدة يقول أنا اليوم مُجتهِد الدنيا على الإطلاق، لا يقدر أحدٌ يرد علىّ هذه الدعوى، الذي يقدر يتفضَّل لكي يُناقِشني، أنا مُجتهِد مُطلَق اليوم قال لهم، أربعون سنة ومع ذلك انظروا إلى التواضع ومعرفة القدر، هذا المُجتهِد يعرف قدره بالنسبة إلى أبي حامد الغزّالي، قال أين؟ لم يأت بعده مثله، ويأتينا أيها الإخوة بعض مَن يترسَّم برسوم العلماء ويتنمَّس بنواميسهم ليُحاضِر في العاثرين البائسين من أمثاله الذين ضرب عليهم القضاء بضربته فصاروا تلاميذ لهذا الخاسر الخائب لكي يقول أبو حامد الغزّالي الكافر، مُحاضَرة لمَن يدّعي العلم والمشيخة والتسنن والتمسلف ويُؤلِّف كُتباً ويُحقِّق في مصر الكنانة، للأسف الشديد ابتُليَت بهؤلاء، أبو حامد الغزّالي الكافر، صدَّقناك! أخي أبو عدنان اقترح هذه المُحاضَرة، علينا أن نعرف جميعاً علماءنا وأقدار علمائنا ومناهج علمائنا حتى نستطيع أن نُميِّز هؤلاء الأصاغر الفروخ المُتنمسين الذين لا يزيدون عن كونهم دُخلاء، دُخلاء كالطُفيليات السامة القاتلة، الكافر! سوف نرى الآن شهادات السُبكي الكبير والذهبي وابن كثير والجويني وأئمة الإسلام في أبي حامد الكافر ما شاء الله – لا بقدر الغزّالي في نفسه.

يقول سمعت الشيخ الإمام رحمه الله – طبعاً الشيخ عبد الوهّاب السُبكي حين تقرأون له يقول دائماً قال الشيخ الإمام ويعني الوالد، أي والده تقي الدين أبو الحسن عليّ بن عبد الكافي السُبكي قدَّس الله سره، وهذا كان مُجتهِد الشافعية وقيل مُجتهِد الإسلام في عصره، أعني أباه، شيئ عجيب، أبوه أوسع دائرة منه طبعاً، في العلوم الشرعية أبوه أوسع دائرة منه، أوسع دائرة من الشيخ عبد الوهّاب بلا شك، وظل تَلميذاً مُتواضِعاً بين يديه إلى آخر حياة الشيخ الكبير، رحمة الله عليهم أجمعين – يقول لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته وخالطه مع ذلك – لابد حتى من المُخالَطة -، قال وإنما يعرف قدره بمقدار ما أوتيه هو…. إلى آخر هذه العبارة الجميلة.

نعود، الإمام الحافظ الذهبي في سير أعلام النُبلاء قال الشيخ الإمام البحر، حُجة الإسلام، أعجوبة الزمان، صاحب التصانيف والذكاء المفرط: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي…. إلى آخره، في خاتمة الترجمة – وهي طويلة إلى حدٍ ما – قال فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله؟ أين مثل أبي حامد؟ قال، لا يُوجَد، ليس له مثيل، هذا مَن؟ الذهبي.

الإمام السُبكي الكبير – كما قلنا أبو الحسن والد الشيخ عبد الوهّاب، المُتوفى سنة ست وخمسين وسبعمائة، رحمة الله تعالى عليه، وهو أحد الذين تصدوا لابن تيمية ورد عليه بمُؤلَّفات حافلة في مسائل زيارة النبي وشد الرحال وفي مسألة الطلاق بالثلاثة ومسائل أُخرى، رحمة الله على الجميع، أقوى مَن تصدى لابن تيمية الشيخ السُبكي الكبير مُجتهِد الإسلام – قال وماذا يقول الإنسان في الغزّالي – طبعاً هناك رسالة طويلة زُهاء أربع صحائف أوردها التاج هنا كاملةً، أنا اجتزأت منها بهذه العبارة، طويلة وجميلة، فيها فوائد – وفضله واسمه قد طبَّق الأرض؟ ومَن خبر كلامه عرف أنه فوق اسمه.

اسمه معروف، اسمه أصبح ماركة مُسجَّلة: أبو حامد الغزّالي حُجة الإسلام، قال مَن عرف علميه يعرف أن حقيقته أكبر من اسمه، أكبر من شهرته، قريب من هذا الكلام على أنه أجمل منه ما ذكره تَلميذ الغزّالي القاضي أبو بكر بن العربي، تناولناه بالنقد اللاذع أمس في الخُطبة، رحمة الله وعفا عنه وسامحه، صاحب العواصم من القواصم وصاحب قانون التأويل وسراج المُريدين وصاحب طبعاً عارضة الأحوذي والكتب الكثيرة، هذا تَلميذ أبي حامد الغزّالي المُتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، أبو بكر بن العربي القاضي وليس الصوفي مُحي الدين الطائي، له كتاب اسمه قانون التأويل طُبِعَ في دار الغرب الإسلامي مُحقَّقاً، قال في قانون التأويل ورد علينا ذا نشمند – وهي كلمة فارسية تعني الشيخ الكبير – فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية – في بغداد التي بناها نظام المُلك، الوزير السلجوقي المشهور، سنأتي عليه بعد قليل -، مُعرضاً عن الدنيا، مُقبِلاً على الله، فمشينا إليه وعرضنا أُمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا نُنشِد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة ورحَّب بنا ترحيب الصديق وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة – كيف وُصِف لنا أبو حامد؟ يُقال أبو حامد أبو حامد أبو حامد، لكن هو أكبر من الصفة، وفي العادة دائماً أن يكون الخُبر أقل من الخبَر، أليس كذلك؟ وأن يكون الواقع أدنى من الصفة، إلا ما كان من أبي حامد، أكبر مما يُوصَف به الرجل، عجيب في عقله وعلمه وروحانيته – وتحقَّقنا – يقول أبو بكر بن العربي – أن الذي نُقِل إلينا مِن أن الغائب فوق المُشاهَدة – أي فوق الخُبر – ليس على العموم – ليست قاعدة هذه مائة في المائة، لها شواذ، أبو حامد من شواذها قال، هذا معنى الكلام – ولو رآه علي بن العباس لما قال:

إذَا مَا مَدَحْتَ امْرَأً غَائِبًا                   فَلا تُغْلِ فِي مَدْحِهِ وَاقْصِدِ.

فإِنك إِن تغلُ تغلُ الظنو                       ن فيه إلى الأمدِ الأبعدِ.

فَيَصْغُرُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ                 لِفَضْلِ المَغِيبِ عَلَى المَشْهَدِ.

قال لو رآه لما قال هذا، يقول لك صِف وامدح واحتكم في أبي حامد، فإنه فوق الصفة وأعلى من المِدحة، هذا معنى كلام ابن العربي رحمه الله.

على كل حال الإمام عبد الوهّاب السُبكي في هذا الكتاب انظروا إلى عبارته، وهكذا هو في مُعظَم التراجم، رجل عجيب، عنده قلم سيّال وديباجة من أحلى ما يكون، تقطر عسلاً، الشيخ السُبكي بماذا ترجم له هنا في أوسع ترجمة؟ قال – وعبد الوهّاب السُبكي كما قلنا ابن أبي الحسن، تاج الدين عبد الوهّاب حتى نعرف مُتوفى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، هذا لقبه وهذا اسمه – حُجة الإسلام ومحجة الدين التي يُتوصَّل بها إلى دار السلام، جامع أشتات العلوم، والمُبرِّز في المنقول منها والمفهوم، جرت الأئمة قبله بشأو ولم تقع منه بالغاية، ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب النهاية والبداية. أسماء كتب للغزالي، انظر إلى الفهم، هذه أسماء كتب للغزالي، يقول ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب النهاية والبداية.

حَلَفْتُ، فلم أترُكْ لنَفسِكَ ريبَة ً         وليسَ وراءَ اللَّهِ للمَرْءِ مَذهَبُ.

حتى أخمل من القرناء كل خصم بلغ مبلغ السها وأخمد من نيران البدع كل ما لا تستطيع أيدي المجالدين مسها، كان رضيَ الله عنه ضرغاماً إلا أن الأسود تتضاءل بين يديه وتتوارى وبدراً تماماً إلا أن هداه يُشرِق نهاراً وبشراً من الخلق ولكنه الطود العظيم وبعض الخلق – أي وكان الآن، وكان بعض الخلق – لكن مثل ما بعض الحجر الدر النظيم، جاء والناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء لقطرات الماء فلم يزل يناضل عن الدين الحنيفي بجلاد مقاله ويحمى حوزه الدين ولا يُلطِّخ بدم المُعتدين حد نصاله حتى أصبح الدين وثيق العرى وانكشفت غياهب الشبهات وما كانت إلا حديثاً مُفترى – هذا كله في التقدمة -، هذا مع ورع طوى عليه ضميره وخلوة لم يتخذ فيها غير الطاعة سميره وتجريد تراه به وقد توحد في بحر التوحيد وباهى.

أَلْقى الصَّحيفَةَ، كَي يُخَفِّفَ رَحْلَةُ         وَالزّادَ، حَتّى نَعْلُـهُ أَلْـقـاهَـا.

ترك الدنيا وراء ظهره وأقبل على الله يُعامِله في سره وجهره.

ثم أخذ في الترجمة، وكما قلت لكم هي أطول ترجمة في زُهاء مائتي صفحة!
الحافظ ابن النجّار – رحمة الله تعالى عليه – صاحب ذيل تاريخ بغداد – مطبوع معه – وصاحب التاريخ الكبير، وهو من أشهر الكتب على سعة علم هذا الإمام الحافظ الكبير رحمة الله تعالى عليه، مُتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، يقول أبو حامد إمام الفقهاء على الإطلاق ورباني الأمة بالاتفاق، ومُجتهِد زمانه وعين أوانه، برع في المذهب والأصول والخلاف والجدل والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وفهم كلامهم وتصدى للرد عليهم، وكان شديد الذكاء، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة وغوصٍ على المعاني.

أما شيخه إمام الحرمين عبد الملك الجويني فهو شيخ الإسلام في عصره وشيخ الشافعية بالذات وواحد من أذكى أذكياء الدنيا، بعضهم قال كان أذكى أذكياء الدنيا في عصره، أعني الجويني، شيئ عجب هذا الرجل، صاحب البرهان وصاحب الإرشاد وصاحب الشامل وصاحب نهاية المطلب في دراية المذهب الذي طُبِعَ في من وقتٍ قريبٍ جداً، من زُهاء ثلاث سنين أو كذلك في أكثر من عشرين مُجلَّداً، كتاب عجيب في الفقه الشافعي، لأول مرة يُطبَع مُحقَّقاً بعناية العلّامة المصري المرحوم عبد العظيم الديب رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة، فهذا إمام كبير في الأصلين بالذات، أصول الدين أي علم الكلام وعلم التوحيد وأصول الفقه وفي الفقه أيضاً، أبو المعالي الجويني أستاذ أبي حامد الغزّالي، سمعنا كلمة دفنتني حياً، أي أنه شهد له، مع أنه كان يتبجَّح به كما قال عبد الغافر في الظاهر، يقول هذا تَلميذي، أرأيتم هذا؟ هذا تَلميذي، قيل وإن كان ينطوي على غير ذلك في الباطن، كان مُتنغِّصاً منه، لأنه شعر أنه سيكسف نوره، الله أعلم، لا أعتقد أن الكلام على البواطن يسوغ، مَن اطلع على باطن الإمام الجويني؟ بالعكس لعله كان سعيداً جداً جداً جداً، وهذا من آثار إخلاصه، لكن هذا تهور بعض العلماء، عجيب يا أخي! أنتم تقولون كان يتبجَّح به في الظاهر، إذن هذا هو الظاهر لنا، يتبجَّح به، يقول تَلميذي، أرأيتم؟ هذا أبو حامد، هذا الغزّالي، انتهى الأمر، لكنهم قالوا لأ ولعله كان مُتنغِّصاً منه في الباطن، شيئ عجيب هذا يا أخي، كيف يتم الحكم على البواطن؟ بالمُناسَبة من كلمات أبي حامد الطيبة جداً جداً التي أُثِرَت عنه أنك لا تجد عبداً يُسيء الظن في الناس ويحكم في بواطنهم إلا من خبث باطنه وسريرته، والمُؤمِن الصادق حسن الظن بالخلق جميعاً، هناك مَن يقول لك لأ، أنا أعرف باطنه، هذا ظاهره لكن باطنه أسوأ من هذا، هذا يكون لسوئه هو ولسوء باطنه، لكن المُؤمِن الصادق على العكس، حسن الظن ببواطن الناس، فهذه الكلمة لا تُقال في الإمام الجويني، رضيَ الله تعالى عنهم جميعاً وسامحهم وعفا عنهم ونحن معهم. اللهم آمين.

أبو طاهر السِلفي رحمة الله عليه – هذا الإمام الحافظ الكبير الذي عُمِّر، بلغ المائة وجاوزها، ومتَّعه الله بصحته، تخيَّلوا هذا كان في عشر المائة وكان يجلس في المجلس الطويل ويُملي من حفظه لا يخرم كلمة في السند ولا في المند، ولا يتحرَّك، لا يُغيِّر جلسته أبو طاهر السِلفي، ليس السَلفي وإنما السِلفي، والسِلفي بمعنى ماذا؟ كلمة فارسية معناها مشقوق الشفة فسُميَ السِلفي وليس السَلفي – يقول بلغنا أن الإمام أبا المعالي الجويني – رحمه الله تعالى – قال في تَلاميذه – طبعاً في أعظم تَلاميذه وهم ثلاثة الخوافي وإلكيا وأبو حامد – إذا ناظروا التحقيق للخوافي والحدسيات لأبي حامد – أي للغزالي – والبيان للكيا، أي إلكيا الهراسي، هذا أصله إندونيسي، علّامة شافعي كبير، صاحب أحكام القرآن وهو مطبوع، وهذا الرجل له مقالة عجيبة وقوية جداً في يزيد بن مُعاوية، من أحسن ما كُتِب في يزيد، فضحه وهتك أستاره إلكيا الهراسي تَلميذ أبي المعالي الجويني، قال التحقيق للخوافي والحدسيات لأبي حامد والبيان للكيا، انظر إلى هذا، طبعاً لا تكون الحدسيات إلا من فرط ذكائه وصفاء فطرته، أبو حامد يقع على الحقيقة بضربة واحدة، شيئ غريب الرجل هذا، هذا من فرط ذكائه رحمة الله عليه، قال التحقيق للخواف والحدسيات لأبي حامد والبيان للكيا، كما قال أيضاً – أي الإمام الجويني رضوان الله تعالى عليه – الخوافي أسدٌ مُطرِق والغزّالي بحرٌ مُغرِق أو قال مُغدِق – يجوزان الاثنان – وإلكيا نارٌ تُحرِق، هؤلاء تَلاميذي قال، فتكلَّم فيهم مرتين، فهذه شهادة الجويني في تَلميذه.

نكتفي – إن شاء الله – بهذا القدر على أن نُكمِل في حلقة أُخرى.
– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: إن شاء الله سيكون لنا مُتابِعة – إن شاء الله – في الحلقة القادمة في مُتابَعة هذه المُحاضَرة القيمة لشيخنا الفاضل الشيخ عدنان إبراهيم فيما يتعلَّق بذكرى تسعمائة سنة على وفاة الإمام حُجة أبي حامد الغزالي، وللحديث البقية إن شاء الله تعالى.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: