بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

في الحقيقة اختصاراً للوقت أيها الإخوة – لأنني كتبت زُهاء صحيفتين ونصف،وهذا بحث سريع فلم أتقص كثيراً – نقلت أيضاً من الإصابة لابن حجر أمثال هذه العبارات عن جماعة من الأئمة، تبصير المُنتبِه بتحرير المُشتبِه عن جماعة، تُحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل للإمام العلائي عن جماعة، كثيرون هم الذين يُقال فيهم له رؤية وليست له صُحبة ولأبيه كذا، يُميِّزون ويُغايرون بين الرؤية والصُحبة، ستقع على العشرات مما يُنبِّهك على أن هناك مَن فرَّق بينهما ولم يُعادِل بينهما!

قال الإمام أحمد في مسلمة بن مخلد ليست له صُحبة، مع أن أحمد روى عنه قوله وُلِدت حين قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة وقبضه الله – أي قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم – وأنا ابن عشر سنين، هذا يعني أنه قطعاً رأى النبي والتقاه غير مرة، الإمام أحمد نفى صُحبته، لذلك قلنا لكم الإمام أحمد يُروى عنه في المسألة قولان، قول كقول الأصوليين يشترط المُلازَمة الطويلة وقول كسائر المُحدِّثين أو كمُعظَم المُحدِّثين، ولذلك علَّق الحافظ ابن حجر على قول الإمام أحمد بقوله فلعله أراد الصُحبة الخاصة، ما المُراد بالصُحبة الخاصة؟ هذا يبدو أنه مُصطلَح، قال الصُحبة الخاصة، فما المُراد؟ الصُحبة الشرعية، هناك الصُحبة العامة وهي الصُحبة اللُغوية التي يتلمحها في تعريفهم أهل الحديث، الإمام البخاري – رحمة الله عليه – في مُقدِّمة التاريخ الأوسط – عنده التاريخ الأوسط وقال هذا في المُقدِّمة – كتاب المُختصَر من تاريخ هجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمُهاجِرين والأنصار وطبقات التابعين لهم بإحسان، عجيب! وهذا الذي سوَّغ للعلماء أن يقولوا للبخاري قولان، لماذا؟ يقول الصحابة والمُهاجِرون والأنصار، مَن ليس مُهاجِرياً وليس أنصارياً لم يبق إلا أن يكون تابعياً، سوف تقول لي هل هو تابعي رغم أنه رأى الرسول؟ نعم، رأى الرسول والتقاه وقد يكون روى عنه لكن ليس صجابياً، وأقول لكم بالدليل – بكتاب الله – هذا المذهب هو القوى والأقوى، القرآن يُسمي هؤلاء تابعين ولا يُسميهم صحابة، الصحابة حسب القرآن الكريم هم المُهاجِرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، واشترط القرآن الإحسان في المُتابَعة، ليستحقوا وعد الله تبارك وتعالى، إذن لدينا مُهاجِري وأنصاري وتابعي، البخاري في مُقدِّمة التاريخ الأوسط جرى على ذلك، الإمام مُسلِم – وهذا قوله وليس له قولان في المسألة، له قول واحد يُواطيء به قول الأصوليين – قال في كتابه الطبقات ذكر تسمية مَن رووا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مِن الرجال الذين صحبوه ومَن رووا عنه مِمَن رأوه ولم يصحبوه، واضح جداً أن مُسلِماً – رضيَ الله عنه وأرضاه – يُميِّز بين الرواة من الصحابة والرواة من الذين رأوا الرسول ورووا عنه غير أنهم ليسوا صحابة، مما يدل على أن له مُصطلَحاً يختلف عن السائد في تعريف الصُحبة، هو مُصطلَح الأصوليين، أي كما اصطلح الأصوليون وبعض علماء الأحاديث، هذا هو، رجل رأى النبي مُسلِماً وروى عنه ونحن نروي عنه، قال إنه ليس صحابياً، وهذا ليس عجيباً لنا وقد فهمنا لماذا يقول هذا، قال مِمَن رأوه ولم يصحبوه لصغر سنٍ أو نأي دار، النبي لا يُصاحِبه الصغار، النبي يُصاحِبه دائماً الكبار في الغزوات وفي الحل والترحال، قال أو نأي الدار، جاء والتقى بالنبي لساعات أو أيام وبعد ذلك رجع إلى داره وبقيَ فهناك، إن كان رجع – لكن هذا استقصاء مني – عن أمر رسول الله – الرسول أمره بهذا – فهذا لا يُؤثِّر في صُحبته الشرعية كجماعة من الصحابة لا نُطيل بذكرهم.

أبو حاتم الرازي من أئمة الجرح والتعديل هو وابنه عبد الرحمن، قال حُسين بن عليّ بن أبي طالب – رضيَ الله تعالى عنهما – ليست له صُحبة، طبعاً هو صغير، كأنه يشترط ماذا؟ يشترط طول المُلازَمة مع البلوغ، لأن الحُسين وُلِدَ في السنة الثالثة للهجرة، أي تُوفيَ رسول الله وله نحو سبع سنوات، هذا رأى الرسول آلاف المرات والنبي يضمه ويُقبِّله وينزل على المنبر ويأخذ الحُسين وكذا وكذا، ريحانتاي من الدنيا، يقول ريحانتاي، أقول تعليقاً: مَن لم يشم رائحة رسول الله ورائحة رحمة الله ورائحة الجنة حين يُذكَر الحسن والحُسين وحين يقرأ عنهما هذا في قلبه شيئ، النبي يقول ريحانتاي، ماذا يشم منهما؟ ينبغي أن تشم كل عطرٍ طيبٍ يُذكِّر بالآخرة وبالرحمة وبالمنازل وبالقُربة، بعض الناس يتحرَّك في قلبه شيئ إذا ذُكِرَ عليّ أوالحسن أو الحُسين أو ائمة أهل البيت، لا يُعجِبه ذلك، لا يُعجِبه! نسأل الله أن يحفظ علينا قلوبنا، اللهم آمين يارب، ونسأله أن يحفظ علينا إيماننا أيها الإخوة، هؤلاء بضعة رسول الله، هؤلاء لحمه ودمه وعصبه وعظمه، أبناؤه يا إخواني.

قال ليست له صُحبة، هذا مُصطلَح ولا تُوجَد مُشكِلة على كل حال، بعض الناس يقول هذا يصدمنا، الحُسين ليست له صُحبة عند أبي حاتم! أقول لا يضره، أيهما أشرف: أن يكون من أصحاب رسول الله أو يكون ابنه وسبطه؟ حُسين مني وأنا من حُسين، أحب الله مَن أحب حُسيناً وأبغض الله مَن أبغض حُسيناً، قتل الله مَن قتل حُسيناً عليه السلام، يقولون اجتهد فأخطأ، قتلوه بالاجتهاد الخاطيء، على كل حال الحُسين يا إخواني له شرف أعظم بكثير من شرف الصُحبة، أنه ابن رسول الله، أنه سبطه، ذريته! لحمه ودمه، لا يحتاج إلى الصُحبة، لا يحتاجها حُسين عليه السلام، ابن رسول الله، كفاه! انتهى الأمر، هذا حُسين!

أبو حاتم نفسه قال عن محمود بن الربيع – وهذا صحابي صغير، من صغار الصحابة سناً، وهو الذي روى عنه البخاري في الصحيح عقلت من رسول الله مجةً مجها، في الدلو! قال أذكر هذه، كنت صغيراً والرسول أخذ كذا ثم مج فيه، أعقل هذا قال، هذا صحابي رأى الرسول وعقل هذه المجة، ماذا قال عنه أبو حاتم الرازي – له رؤية وليست له صُحبة، ميَّز أم لم يُميِّز؟ ميَّز، فمذهبه مذهب الأصوليين، رضيَ الله عنه، وكذا قال أبو حاتم في يوسف بن عبد الله بن سلام الحبر اليهودي الذي أسلم، قال له رؤية وليست له صُحبة، وفي عبد الرحمن بن عثمان – رضيَ الله تعالى عنهما – قال له رؤية وليست له صُحبة، بلديه وعصريه أبو زُرعة – أبو زُرعة الرازي – والإمام أبو داود السجستاني صاحب السُنن قالا كلاهما في طارق بن شهاب – وهذا صحابي أدرك الرسول رجلاً، لم يكن طفلاً صغيراً، لما التقى بالرسول ورأى الرسول كان رجلاً، وفي حروب الردة كان في صفوف المُقاتِلين ضد المُرتَدين، لكن كلاهما قال في طارق بن شهاب الآتي – له رؤية وليست له صُحبة، لأنها لم تطل، له رؤية لأنه التقى بالنبي ورآه لكن ليست له صُحبة، هل هذا واضح؟

نأتي الآن إلى نقول عن بعض الأصوليين غير هؤلاء، هؤلاء كانوا من علماء الحديث، أعني أبا حاتم والإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو زُرعة وإلى آخره، نأتي إلى الإمام الباقلاني، وعجبت للتحريف، أين الأمانة العلمية؟ عجيب جداً، بعض الكتب والمُصنَّفات يذكرون الباقلاني يُعرِّف الصُحبة على طريقة المُحدِّثين وهذا غير صحيح، الباقلاني له عبارة طويلة، هذه العبارة مُحصِّلها في النهاية أنه لا يرضى بنعت أحد أو بتشريف أحد بهذا اللقب إلا مَن كثرت صُحبته واتصل لقاؤه، قال فوجب لذلك ألا يجري هذا الاسم في عُرف الاستعمال إلا على مَن هذه حاله، ما المُراد بحاله؟ التي وصفها قبل سطر، قال مَن كثرت صُحبته واتصل لقاؤه، قال هذا هو، بعد أن ذكر أن اللُغة تتوسَّع كما ذكرت لكم، قال لا، نحن نحمل على العُرف، قال هذا الصحابي وإلا لا يكون صحابياً، هذا مذهب الباقلاني، هذا مذهب أبي بكر الباقلاني!

الإمام الماوردي الشافعي – أقضى القضاة – فيما نقل عنه الحافظ السيوطي في تدريب الراوي على تقريب النواوي رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال الصُحبة يُشترَط فيها أن يتخصَّص بالرسول ويتخصَّص الرسول به، تُريد مُدة زمانية مُتطاوِلة، هذا هو!

الإمام حافظ المغرب ابن عبد البر – رضوان الله تعالى عليه – اشترط البلوغ في الصُحبة كما أنه – أي ابن عبد البر – لمَن طالع كتابه الماتع الاستيعاب له رأي هام، عنده كتاب في تراجم الصحابة اسمه الاستيعاب، لو قرأت هذا الكتاب الذي أُنكِر عليه فيه أشياء لأن هذا لا يأتي على هوى بعض الناس أو على طريقتهم حتى نكون مُنصِفين سوف تعلم أنه ذم من الصحابة مَن لم تحسن سيرهم ولم يفوا لله ولرسوله بعهدهم، كان يذمهم ويذكر بوائقهم ولا يرعوي، يقول كذا وكذا، لا يفهم أن الصحابي معصوم أو محفوظ من الخطأ أو ينبغي أن نسكت عنه، واقرأوا الاستيعاب، اقرأوا سيرة الوليد بن عُقبة في الاستيعاب وسيرة مُعاوية بن أبي سُفيان في الاستيعاب وأمثال هذين، اقرأوا سيرة أبي الغادية وحرقوص بن زهير وأبي الأعور السُلمي وبُسر بن أبي أرطأة وسوف ترون ماذا يقول ابن عبد البر في هؤلاء، لا يسكت عن أحد من هؤلاء ابن عبد البر رحمة الله عليه.

الإمام المازري المالكي والعلّامة العظيم هو شارح البرهان – شارح البرهان للجويني – في أصول الفقه، ماذا قال هذا الإمام الجليل؟ قال لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل مَن رآه يوماً أو زاره عاماً أو اجتمع به لغرض وانصرف – قال ليس هذا الصحابي عندنا، هذا الكلام لا نُؤمِن به – وإنما نعني به الذين لازموه وعزَّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزِلَ معه أولئك هم المُفلِحون، ثم قال في الصحابة عدول وغير عدول، على هذه الطريقة في التعريف والخضوع للنص والوقائع الثابتة يخرج لدينا ويتحصَّل لدينا أن في الصحابة عدولاً وفيهم مَن ليس بعدلٍ، قال في الصحابة عدول وغير عدول، ولا نقطع إلا بعدالة الذين لازموه وعزَّروه نصروه واتبعوا النور الذي أُنزِل معه، بعض العلماء أعظم النكير على الإمام المازري لقوله هذه العبارة، قالوا لا، لا يجوز وهذا غلط وهذا فيه إخراج من الصُحبة لأمثال فلان وعلان، لكن لا يهمنا، هل نحن نُريد أن نُكثِّر فقط الصحابة؟ ماهذه التعلة؟ كأنهم يُريدون فقط أن نُكثِّر عدد الصحابة لأن هذا سوف يكون أحسن، بالعكس هذه ليس لها علاقة بالمسألة، كثرة ماذا؟

الإمام ابن المُلقِّن – رحمة الله تعالى عليه – يقول فالمعروف من طريقة أهل الحديث أنه كل مُسلِم – أي الصحابي، الصحابي مَن هو؟ – رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وإن لم يصحبه، أنت تتحدَّث عن رؤية وليس عن صُحبة، الرؤية شيئ والصُحبة شيئ آخر، كيف تُعرِّف الصُحبة بالرؤية؟ كيف تقول مَن رأى النبي كان كذا وكذا؟ هذه ليست صُحبة، هذه اسمها رؤية وليست صُحبة، الصُحبة لا تكون هكذا إلا لُغةً فقط، لُغة فقط يُقال صحبه دقيقة من يوم فصار صاحباً، لا تُوجَد مُشكِلة هنا، لكن في العُرف وفي الاصطلاح وبحسب النصوص لا يكون هذا صحابياً، قال هذا معروف من طريقتهم وإن لم يصحبه، ثم قال وطريقة الأصوليين أنه مَن طالت مُجالَسته على طريقة التبع له والأخذ عنه، قال هذه الطريقة المرضية!

الآن أيها الإخوة طريقة المُحدِّثين، فرغنا الآن من طريقة الأصوليين وقد تكلَّمنا فيها بعض الكلام، طريقة المُحدِّثين – كما قلنا لكم – يُعرِّفون الصحابي بأنه كل مَن لقيَ النبي أو رآه مُؤمِناً به ومات على ذلك، زاد ابن حجر في نُخبة الفكر وإن تخلَّل ذلك ردة، حتى أنهم قالوا هل تُعتبَر صُحبة مَن رآه ميتاً قبل أن يُدفَن؟ النبي حين تُوفيَ جاء رجل وأسلم ورأى النبي، هو رأى النبي لكن النبي لم يره، بعضهم قال نعم يُعَد صحابياً، شيئ غريب، يتوسَّعون جداً في مسألة الصُحبة، كما قلنا لكم من أبرز القائلين بهذا – عموماً هذا القول قول جمهرة المُحدِّثين – الإمام أحمد وتلميذه الإمام البخاري في القولين الآخرين، ابن الصلاح وابن تيمية وابن كثير والإمام أبو عبد الله الحاكم المُتهَم بالتشيع يقولون بهذا، وقد صنَّف أبو عبد الله الحاكم الصحابة ثنتي عشرة طبقة في كتابه معرفة علوم الحديث، لأنه توسَّع مثلهم أيضاً في تعريف الصحابي، لكنه يُنكِر على الصحابي إذا لم تحسن سيرته ويستقم سلوكه، لذلك كان لا يُحدِّث بفضائل مُعاوية قط، وابتُليَ بسبب هذا، ابُتليَ فقيل له يا أبا عبد الله لو تحدَّث بفضائل مُعاوية حديثاً أو حديثين فقال لا يأتي من قلبي، لا يأتي من قلبي! لا أتحدَّث ضد عقيدتي وضد فهمي للدين قال، لا أفعل هذا، مَن هذا؟ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري صاحب المُستدرَك ومعرفة علوم الحديث وكمية أجناسه، الإمام الحافظ الجليل للأسف لما ترجم له العلّامة الإمام الذهبي – رضيَ الله تعالى عنهما كلايهما – قال سُئل عنه أبو إسماعيل الهروي الأنصاري – صاحب المنازل الحنبلي المشهور – فقال رافضيٌ خبيث، يقول هذا عن الحاكم، فقال الذهبي الله يُحِب الإنصاف، ليس رافضياً خبيثاً لكنه شيعي، قال شيعي هذا، كان يُظهِر حُب عليّ وأهل البيت وفاطمة والحسنين وكذا، وفيه انحراف عن مُعاوية، لا يتكلَّم عن مُعاوية بخير، لا يتحدَّث بفضائل مُعاوية، فذهب الإمام ابن حجر ووسَّع هذا الكتاب، وأين تكلَّم الذهبي؟ هذا في ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ميزان الاعتدال – يعرف هذا كل طلّاب العلم – كتاب للضعفاء، لا يُترجَم فيه إلا لمَن فيه كلام، فالإمام ابن حجر وسَّع هذا الكتاب وزاد فيه زيادات طيبة وسماه لسان الميزان، قال بما معناه أبو عبد الله الحاكم أجل مقاماً وأعظم خطراً وأشهر ذكراً من أن يُوضَع في كتاب الميزان، قال أنا لا أُوافِق الشيخ الذهبي، ليس مثل الحاكم مَن يُوضَع في ميزان الاعتدال، جعلته من الضعفاء، لماذا؟ ينتقد على الذهبي، لماذا؟ لأنه يتشيَّع، يكفي فقط جريمة أن تُظهِر حُبك لأهل البيت وتُقدِّم عليّاً على بعض الصحابة، إن قدَّمته على أبي بكر وعمر فأنت رافضي، انتبه! هذا ما قاله ابن حجر، قال تعريف الرافضي الذي يُقدِّم عليّاً على أبي بكر وعمر، تُصبِح رافضياً، أي أن الرافضي هذا أخو الزنديق، شيئ مثل الزندقة، شيئ فظيع جداً جداً، مع أن هناك زُهاء ثلاثين من الصحابة كانوا يُقدِّمون عليّاً على كل الصحابة، من الصحابة أنفسهم! هل هؤلاء رافضيون خُبثاء؟ ومِن الصحابة مَن قدَّم زيد بن حارثة، أعتقد هذا ثابت عن أبي هُريرة، كان يقول أحسن صحابي على الإطلاق – ليس أبا بكر وعمر – زيد بن حارثة، عنده أدلة على هذا، ومنهم مَن قدَّم الشيخين، وهؤلاء هم الكثرة الكاثرة، وطبعاً أبو بكر يتقدَّم على عمر، ومنهم مَن رتَّبهم على ترتيبهم في الخلافة، أي الأربعة، ومنهم وهم سُنة الكوفة – وهذا تشيع يُعتبَر – مَن قدَّموا عليّاً على عثمان، أولاً أبو بكر وبعد ذلك عمر وبعد ذلك عليّ وبعد ذلك عثمان، قالوا لا، هذا تشيع، هؤلاء سُنة الكوفة! كانوا سُنة، وهكذا، إذن هذه المسألة ليست قطعية يا أخي، هذه مسألة اجتهادية، ومنهم – هذا استقصاء سريع – مَن لم يُفضِّل أحداً على أحد، هذه طريقة الإمام مالك، هل تعرفون الإمام مالك؟ إمام المذهب مالك بن أنس الأصبحي صاحب المُوطأ والمُدونة، الإمام مالك قال لم أر أحداً مِمَن لقيت مِن الأشياخ – مِمَن أخذ عنهم العلم – يُفضِّل أحداً على أحد من أصحاب رسول الله، ولكن كانوا يُفضِّلون الجُملة على الجُملة، يقولون – مثلاً – أهل بدر أفضل من أهل بيعة الرضوان، أهل بيعة الرضوان أفضل مِمَن أتى بعدهم، أي الجُملة على الجُملة، هذا مذهب يا أخي، لا تُلزِمني بأن أُقدِّم – مثلاً – فلاناً على فلان وتجعل هذا ديناً وإذا لم تأخذ فأنت رافضي خبيث أو أنت كذا أو في قلبك دخلك أو كذا، لماذا؟ هذه مسألة اجتهادية، مسائل علمية هذه يا أخي لابد أن نتوسَّع فيها!

لذلك أيها الإخوة – كما أشرت في خُطبتي أمس – جيد جداً ولائق وسائغ ومطلوب حتى – ليس لائقاً وسائغاً فقط بل ومطلوب في العلم سواء هذه العلوم أو علم المقالات والفرق، علم العقائد بالذات، أي علم الكلام – أن تُطرَح وجهات النظر – كل وجهات النظر – على سواء كما هي حتى في البداية من غير مُحاجة حتى يتأنس طالب العلم بأن في المسألة أكثر من قول وأكثر من وجهة وأكثر من طريقة وأكثر من مذهب، لكن دائماً طالب العلم كالعامي إذا كان يعتقد أن المسألة فيها قول واحد فقط أو قولان فليس بعد الحق إلا الضلال، فقولي هو الحق والباقي ضلال، لكن إذا كان فيها خمسة أو ستة مذاهب تُصبِح المسألة صعبة ونتراجع ونقول المسألة فيها منادح للنظر، من مسائل الاجتهاد!

الإمام ابن عبد البر الذي ذكرته اليوم أكثر من مرة ما مذهبه؟ هذا علّامة كبير، حافظ المغرب هذا، صاحب الاستيعاب يُترجِم فيه للأصحاب، من أوسع الكتب ومن أدقها ومن أحسنها وإن أُخِذ عليه أشياء – كما قلت – على طريقة غيره، وهو صاحب التمهيد والاستذكار، مذهبه أن البدريين والرضوانيين لا يعدل بهم أحد، هؤلاء الأفضل على الإطلاق، أما مَن بعدهم – أي مَن بعد الرضوانيين – فقد يُوجَد في الأمة مَن هو خيرٌ مِن بعضهم، هذا مُمكِن، عنده مُمكِن، مُمكِن أن يكون عمر عبد العزيز أفضل – مثلاً – من أمثال مُعاوية وأبي سُفيان وخالد وعمرو بن العاص وأمثال هؤلاء، لماذا لا؟ ما المانع؟ أنت لو سألتني الآن – سأقول هذا وهذا يُغضِب بعض الناس – وأجبتك عن ضميري بل لا تسألني وإنما سل نفسك لو خُيِّرت أن تكون مُعاوية بن أبي سُفيان أو عمر بن عبد العزيز تختار مَن؟

(ملحوظة: قال بعض الحضور عمر بن عبد العزيز، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أنت اختر لنفسك، أنت اختر) ثم استتلى قائلاً: عمر لم يقتل الصحابة ظُلماً، مُعاوية قتل بعض الصحابة ظُلماً ومعروف أنه قتلهم ظُلماً، صحابة قتلهم صبراً وظُلماً، مُعاوية أفسد على المُسلِمين خُطة الخلافة، بدل أن تكون شورية جعلها مُلكاً عضوضاً كما أخبر النبي وصدق النبي فيما أخبر، مُعاوية عبث وفعل أشياء كثيرة سنذكرها بالتفصيل حتى لا يستعجل علىّ مَن ينتقد في مُحاضَرات أطول من هذه عن مُعاوية بالأدلة وبالأسانيد والتخريجات إن شاء الله تبارك وتعالى، لكن ابن عبد العزيز لم يأت شيئاً من هذا، صنع العدل فقط وأقام المعدلة بين المُسلِمين، أنت تُريد أن تُحشَر بعمل أحدهما، اختر لنفسك، سيُقال لك لا، هذا كلام ضلال وباطل وكلام عاطفي، ليس من العلم، وسُئل عبد الله بن المُبارَك أيهما أفضل: عمر بن عبد العزيز أم مُعاوية؟ فقال للغبار الذي دخل في أنف فرس مُعاوية وهو يُقاتِل مع رسول الله خيرٌ من ابن عبد العزيز كذا وكذا مرة، وهذا كلام عاطل عن كل حلية وبرهان، مَن أذِنَ لنا أيها الإخوة أن نُفضِّل التراب على عباد الله الصالحين؟ هل يُوجَد تراب أفضل من عمر بن عبد العزيز؟ هذا كلام باطل، لا تستطيع أن تقول التراب الذي مشى عليه رسول الله أفضل من عمر بن عبد العزيز، الشرع لا يأذن لك بهذا، ممنوع أن تقول هذا، ممنوع شرعاً!

في صحيح مُسلِم عن رسول الله – في الصحيح – أنه قال في حديث قطف العنب الذي تقدَّم إليه لكي يقطفه ثم كع: فأوحى إلى أقرهم فإنك أسلمت وأسلموا وهاجرت وهاجروا وجاهدت وجاهدوا فلم أر لي عليكم فضلا إلا بالنبوة، كيف تقول لي للغبار الذي دخل في أنف فرس مُعاوية وهو يُقاتِل مع رسول الله خيرٌ من ابن عبد العزيز كذا وكذا مرة؟ هذا يعني أن فرس مُعاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز كذا وكذا مرة، الفرس نفسه لأنك تُفضِّل الغُبار الذي دخل في أنف فرس مُعاوية على عمر بن عبد العزيز، هذا كلام عاطفي، هذا الكلام العاطفي لا يقول به أحد، وأنا مُتأكِّد ابن المُبارك لا يقول مثل هذا، هذا من الذي نسبه ووضعه بنو أُمية إلى أمثال عبد الله بن المُبارَك، وإن كان قاله هو ليس معصوماً، رضوان الله تعالى على ابن المُبارَك لكنه أخطأ في ظننا بلا مثنوية، لا يُفضَّل لا الفرس ولا الغُبار على مثل عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس والعبد الصالح، أليس كذلك؟ هذا هو، هذا الفهم في الدين، كيف تقول لي غباراً وكلاماً مثل هذا؟ غير معقول يا أخي!

نعود مرة أُخرى، اللهم صل على سيدنا محمد، قلنا هذا يُنسَب إلى مَن ذكرنا أيها الإخوة، قد يقول لي أحدكم أنت ذكرت أنه لا مشاحة في الاصطلاح، لا تقييد في الاصطلاح، لعلماء الحديث أن يصطلحوا على ما شاءوا، نعم لهم أن يصطلحوا على ما شاءوا، ليس لدينا مُشكِلة، هل تعرفون أين تبزغ المُشكِلة؟ حين يصطلحون على أن مَن هذا حاله هو صحابي ثم يُريدون منا أن نُسلِّم وأن نخضع بأن مَن هذا حاله وفق هذا التعريف وهو صحابيٌ عدلٌ من أهل الجنة قطعاً ولا يجوز تنقصه ولا انتقاده ولا نيله بكلمة مما ثبت من أفعاله، لا يجوز مُطلَقاً وهو عدلٌ بلا قيد ولا شرط غير الصُحبة، هذا الذي لا نقبله، أي كأنهم أسقطوا خصائص الصحابي في تعريف الأصوليين على الصحابي وفق تعريفهم، الأصولي قال الصحابي الذي طالت مُلازَمته واختص بالنبي وإلى آخره، فقالوا كل صفات هذا الصحابي نحن سوف نُسقِطها على الصحابي وفق تعريفنا، أي واحد مِمَن شهد النبي في حجة الوداع صحابي وهو عدل نقطع له بالجنة وكذا وكذا، هذا الذي لا نقبله لأنه مُصادِم للكتاب والسُنة ومُصادِم للعقل، الآن دخلنا في الجُزء الأمتع من المُحاضَرة، كيف يُصادِم هذا الكتاب والسُنة والعقل أيضاً؟ كيف؟ سوف نرى، يحتجون علينا دائماً بالآيات، يا أخي لا يجوز، كيف تجرح مَن عدَّله الله ورسوله؟ نقول أين في كتاب الله أن كل هؤلاء مِمَن سميتموهم صحابة عدول لا يُجرَح أحد منهم وإن كان مجروحاً في الواقع؟ قال تعالى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۩، ما العُسرة هذه؟ هي معركة تبوك، معركة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، في الحقيقة لم تقع بفضل الله معركة وكفى الله رسوله والمُؤمِنين القتال لكن كانت ستقع مع الروم، وسورة التوبة تُفصِّل في مجاريات هذه الغزوة التي لم تقع، وفيها تخلَّف الثلاثة المعروفون، قال الله وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ۩، كعب بن مالك ومُرارة بن الربيع وهلال بن أُمية، هؤلاء الثلاثة الله أخبر أنه تاب عليهم أيضاً، جميل جداً، يقولون هذه الآية حُجة، لماذا؟ لأن سورة التوبة من آخر ما نزل من كتاب الله تبارك وتعالى، والعُسرة كانت في السنة التاسعة، أليس كذلك؟ فإذن هذا كلام حُجة لنا يقولون، في الحقيقة ليس حُجة لهم، هذا الكلام حُجة لنا عليهم وليس حُجة لهم علينا، كيف يا إخواني؟ أنا سأقول لكم.

في تبوك أو العُسرة كم كانت عدة الصحابة الذين ذهبوا مع رسول الله وكانوا في جيش رسول الله؟ ثلاثين ألفاً، في الراجح المشهور كانوا ثلاثين ألفاً، الأنصار والمُهاجِرون – قال الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ۩ – إخوانهم لا يُشكِّلون ثُلثهم، أقل من الثُلث حقيقةً، دعونا نقول الثُلث لكنهم كانوا أقل، أي أقل من ذلك، لماذا خص الله بتوبته المُهاجِرين والأنصار في هذه الواقعة؟ أليس في الآية إشارة إلى شيئ ما ينبغي أن يُفهَم؟ الله لا يقول أنا تُبت على جيش العُسرة، جيش العُسرة فيه الطُلقاء، أليس كذلك؟ الذين أسلموا يوم فتح مكة، فيه عُتقاء ثقيف، فيه الأعراب، فيه أخلاط من الناس، والله أعلم بنية كلٍ وغاية كلٍ، فالله اختص بتوبته مَن ذكر، قال أنا تُبت على المُهاجِرين والأنصار وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ۩ بعد ذلك، عجيب! هذه حُجة لنا واضحة وليست حُجةً لهم، نقول لهم أين توبته على بقية الجيش؟ أين توبته على ثلاثين ألفاً؟ تاب – تبارك وتعالى – على بضعة آلاف، والآخرون سُكِتَ عنهم، لأن الله أعلم بنواياهم وأعلم بأحوالهم، منهم الصادق لا ريب ومنهم مَن هو دون ذلك، هذا ينبغي أن يُسأل هذا السؤال لكن لم يُسأل، يُستدَل بهذه الآية الكريمة على العوام والناس البُسطاء، يقولون لك يا أخي القرآن قال، الله قال كذا! هل نحن عندنا مُشكِلة مع المُهاجِرين والأنصار؟ رضيَ الله عن المُهاجِرين والأنصار، تاب عليهم بغير قيد أو شرط، أليس كذلك؟ لم يقل هذا، بغير قيد أو شرط تاب عليهم، حفظ سابقتهم كما يقول العلماء، لقد حفظ الله سابقة المُهاجِرين والأنصار فتاب عليهم.

وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ                                     جاءت محاسنه بألفِ شفيع.

رضيَ الله عن المُهاجِرين والأنصار، هذه كانت أول آية، بعد هذه بقليل جداً قال تعالى في التوبة أيضاً وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ – يُوجَد شرط هنا في الاتباع، ما هو الشرط؟ الإحسان، إحسان الاتباع – رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩، هل هذا واضح؟ نأتي إلى الآية الآن ونُفسِّرها تفسيراً مُتمهِّلاً، قال الله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ ۩، مِنَ ۩ هنا قد تكون تبعيضية وقد تكون بيانية، قد تكون تبعيضية وقد تكون بيانية تجنيسية على نحو قوله تبارك وتعالى رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ۩، أي اجعل أزواجنا وذرياتنا لنا قرة أعين، لا يُمكِن أن يفهم أحد أن مِنْ ۩ هنا تبعيضية، لا يدعو أحد قائلاً يا ربي اجعل بعض أولادي بخير وبعضهم أدخِله جهنم، لا يقول هذا أبداً، اجعل كل أولادي، لا يدعو أحد قائلاً اجعل بعض زوجاتي جيدات مُبارَكات والبعض الآخر منهن إلى حيث ألقت، لا يقول هذا أبداً، مِنْ ۩ هنا بيانية، قال الله رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ۩، أي هب لنا أزواجنا وذرياتنا صالحين وصالحات، هذا المقصود، فهنا مِنَ ۩ في قول الله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ ۩ قد تكون بيانية فيُصبِح المعنى كالآتي: السابقون الأولون الذين هم المُهاجِرون والأنصار، هكذا يُصبِح المعنى، مَن هؤلاء؟ هم هؤلاء، كما أقول لك الفطاحلة الجهابذة الأفذاذ الألباء الفصحاء من العلماء الدُعاة الجالسين معنا، ما المقصود؟ كل هؤلاء كذلك، قد تقول لي مَن هم هؤلاء؟ فأقول لك هؤلاء الذين يجلسون معك، كلهم وليس جماعة منهم فصحاء ألباء أذكياء، هذه من بيانية، قد تكون بيانية وقد تكون تبعيضية، إذا كانت تبعيضية فيكون المقصود بعض هؤلاء وليس الكل، قال وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ ۩، هناك سابقون من المُهاجِرين والأنصار، وبعضهم غير سابقين، سوف تقول لي كيف؟ كيف بعضهم سابقون وبعضهم غير سابقين؟ طبعاً، هل الهجرة يا إخواني تمت في يوم واحد أو في عام واحد أم اتصلت الهجرة؟ اتصلت، من يوم أذِنَ فيها رسول الله ثم هاجر هو وصاحبه – رضيَ الله تعالى عن صاحبه وصلى الله عن رسوله وآله وسلم – إلى يوم قال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيةٌ، واختلف العلماء: هل امتدت الهجرة إلى الفتح بمعنى فتح الحُديبية أم امتدت إلى فتح مكة؟ سوف تقول لي وهل الفتح إلا فتح مكة؟ طبعاً، في صحيح البخاري…. لكن كونوا معنا، إن شاء الله بعد فاصل يسير نعود إليكم.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: