أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافيء مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

أما بعد إخواني الأفاضل وأخواتي الفضليات:

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وقف بنا الحديث أمس عند الروحية المُتكثِّرة وعرضنا عرضاً سريعاً لموقف الفيلسوف الألماني لايبنتز Leibniz وتكلَّمنا عن مذهبه في المونادات أو الذرات الروحية كما يُترجِمها بعضهم، طبعاً لدى الحديث عن الروحية المُتكثِّرة يتم عادةً الحديث أيضاً عن مذهب الفيلسوف الإنجليزي جورج بيركلي George Berkeley، وبيركلي Berkeley هو طبعاً فيلسوف مثالي، اليوم سيكون لنا عودة أيضاً أُخرى إلى بيركلي Berkeley لدى حديثنا عن طبيعة المعرفة بين الواقعيين والمثاليين، لأنه يقع في رأسه المثاليين المُسرِفين في المثالية الذاتية، على كل حال وبيركلي Berkeley أيضاً كان مِمَن أنكر الأسماء الكُلية أو المفاهيم أو المعقولات الكُلية، فهو اسماني بهذا الاعتبار، لكن أنكرها لاعتبارات غير الاعتبارات المدرسية التي بسببها أنكر أمثال وليم الأوكامي William of Ockham هذه المعقولات الكُلية، يُمكِن أن يكون مُناسِباً الآن أن أشرح ما هو المعقول الكُلي، باختصار ما هو المعقول الكُلي؟ لأنه ربما يتردد أكثر من مرة وسيتردد اليوم أيضاً وخاصة حين نبلغ بالحديث إلى الإبستمولوجيا Epistemology أو نظرية المعرفة.

نحن حين نتناول بحسنا الأشياء الموجودة في ساح الخارج أو في حاق الخارج الذي يقع عليه الحس هو أشياء مُتشخِّصة، هناك عبارة في الفلسفة العقلية تقول الوجود يُساوق التشخص، الوجود يُساوِق أو مُساوِق للتشخص فلا يُوجَد في الخارج إلا أشياء جُزئية مُتعيِّنة، في الخارج يُوجَد هذا الكوب وذاك الكوب وهذا الفرد وذاك الفرد وهذه السيدة وتلك، هذه أشياء مُتشخِّصة، فهذا معنى قولهم الوجود مُساوِق للتشخص، لا يُمكِن أن تجد لما يُعرَف بالشيئ الكُلي أو المفهوم الكُلي مصداقاً في الخارج، ففي الخارج لا يُوجَد شيئ اسمه الإنسان، في الذهن هذا موجود، أي هذا المفهوم في الذهن موجود، في الخارج لا يُوجَد الإنسان ولا تُوجَد الغزالة ولا يُوجَد الحيوان ولا تُوجَد الطاولة ولا تُوجَد السبورة ولا يُوجَد الضوء، يُوجَد هذا الضوء وذاك الضوء وهذه السبورة وتلك السبورة، أي أشياء مُتشخِّصة، على كل حال نحن نتناول بحسنا هذه الأشياء المُتعيِّنة المُتشخِّصة الموجودة في الخارج، فمن أين أتى هذا المفهوم الكُلي؟ نحن نرى هذه التفاحة وتلك التفاحة وتانك وإلى آخره، من أين أتى مفهوم التفاحة؟ مفهوم كُلي ينطبق على ما لانهاية له من التفاحات، ما وُجِدَ منها وما لم يُوجَد، فهذا المفهوم موجود، المُشكِلة أن هناك مِن الفلاسفة مَن أنكروا هذا المفهوم، قالوا هذا كلام فارغ، لا يُوجَد شيئ اسمه مفاهيم كُلية، هذه مُجرَّد أسماء، إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۩، ولذلك سُميَ هؤلاء بالاسمانيين أو بالاسميين، يقولون هذه مُجرَّد أسماء، هل فعلاً هي مُجرَّد أسماء؟ قالوا هذه أسماء مُشترَكة، وأنتم تسمعون باللفظ المُشترَك وسنشرحه أيضاً، لابد أن نشرحه، مثل أسماء عائلات مثلاً، عائلة شميت وعائلة الصغير وهكذا، هذا اسم عائلة، ومثل أسماء الأشخاص، هي أسماء مُشترَكة، مثل سعيد، هذا اسمه سعيد وهذا اسمه سعيد وهذا اسمه سعيد، وفي الحقيقة هناك في الخارج أشخاص باسم سعيد، لا يُوجَد شيئ اسمه سعيد هكذا بالمُطلَق، هذا غير موجود، فهذا اسم مُشترَك يُطلَق على هذا الشخص وعلى هذا الشخص وعلى هذا الشخص، فقالوا هذا مُشترَك لفظي، وليس أكثر من ذلك، لكن الفلاسفة الميتافيزيقيون ظنوا أن هذا المُشترَك اللفظي شيئ له مُسمى وله واقع وجعلوه من ضمن المفاهيم العقلية ولا حقيقة له، هذا وجه استدلال هؤلاء الاسميين على إنكار المفاهيم الكُلية، مِمَن أنكر المفاهيم الكُلية ديفيد هيوم David Hume الاسكتلندي، أنكرها لكنه أنكرها بحُجة أُخرى ربما تكون أكثر ذكاءً، قال في الحقيقة المفهوم الكُلي هو مفهوم جُزئي – الجُزء لا بأس به، تُوجَد أشياء في الخارج مُتشخِّصة – لكن هو جُزئي مُبهَم وجُزئي مُغبَّش، هذا الإبهام وهذا التغبيش هو الذي أوقعنا في وهم أن هذا المفهوم الجُزئي المُغبَّش ينطبق على أشياء كثيرة بلا نهاية، ما وُجِدَ منها وما لم يُوجَد فسميناه الكُلي، ضرب هيوم Hume مثلاً كالتالي، قال – مثلاً – قد ترى شيئاً من بعيد في الليل كأن يكون شبحاً مُعيَّناً، هذا الشبح مثل المفهوم الجُزئي المُبهَم، قال هذا الشبح يُمكِن أن تظن أنه شجرة أو أنه عملاق أو أنه مارد ربما من الجان – وهو لا يُؤمِن طبعاً بهذا كله ويعتبره من الخُرافات – أو أنه صخرة كبيرة مُستطيلة أو أنه أو أنه، لماذا؟ ما الذي سمح بانطباق هذا الشبح على كل هذه الأشياء؟ الشبحية، أي كون شبحاً، هو غير مُحدَّد ومُبهَم، لكن حين – مثلاً – يبدأ يتحدَّد خُطوة خُطوة كأن نفترض أنه يتحرَّك سوف تقول من المُستحيل أن يكون شجرة، الشجرة لا تتحرَّك، أي حركة انتقالية وليس حركة مكانية تراوحية، ثم بدأ يقترب منك، سوف تقول هو ليس صخرة، بقيَ أن يكون حيواناً أو إنساناً أو عفريتاً، أي واحدة من هذه الأشياء، لكن أنت رجل علمي ولا تُؤمِن بالعفاريت فاستبعدت هذا الاحتمال، قد يكون حيواناً، قد يكون حصاناً مثلاً، قد يكون حصاناً يركبه فارس أو راكب مُعيَّن، قد يكون رجلاً عملاقاً وهكذا، إذا اقترب قد تقول هذا حصان وبلا راكب مثلاً، قال هذه هي المفاهيم الكُلية الباطنة، مُجرَّد مفاهيم جُزئية مُغبَّشة، وهذا كلام ذكي وقد يُقنِع البعض، هذا اقتنع به هيوم Hume نفسه وهو رجل ذكي، هذا الرجل ذكي جداً بلا شك، لكن الفلاسفة العقليون ليسوا بتلكم البساطة أو السذاجة، الفلسفة العقلية أقوى فلسفة على الإطلاق، قوية جداً جداً ومُحكَمة، لا يُمكِن الفرار منها، ليست بهذه السهولة، ردوا على هذه الشُبهات وعلى هذه التشغيبات كالتالي.

لنبدأ بقضية المُشترَك اللفظي، أن هذا الكُلي مُجرَّد لفظي لا حقيقة له، مثل أسماء الأشخاص وأسماء العائلات وإلى آخره، طبعاً هذا الكلام يخلو أيضاً من التحقيق العلمي، ما معنى مُشترَط لفظي؟ وكيف؟ وهل فعلاً هذا مُشترَك لفظي؟ ليس مُشترَكاً لفظياً، هذا مُستحيل، فهو ليس من باب المُشترَك اللفظي، إذن لابد أن نُبيِّن ما هو المُشترَك اللفظي وما هو المُشترَك المعنوي وبعد ذلك نحكم في القضية، المُشترَك اللفظي هو لفظٌ أُطلِقَ مراتٍ على معانٍ مُتعدِّدة، أي تم وضعه على معانٍ مُتعدِّدة، هكذا التعبير العربي الفصحي، يُقال وُضِعَ اللفظ على المعنى وليس للمعنى، طبعاً يُعبِّرون ويقولون هو لفظٌ موضوع لـ، وهذا خطأ، ليس لـ وإنما على، فهذا تعبير فصيح ولا نستخدمه للأسف، فتم وضع هذا اللفظ أكثر من مرة على معانٍ مُتعدِّدة، أي أنه وُضِعَ مرة بإزاء معنى – أي على معنى – ومرةً أُخرى بإزاء معنى ثانٍ ومرة ثالثة بإزاء معنى ثالث وهلم جرا بحسب، لكن هذه المرات تبقى في النهاية محدودة، ليست مرات لانهائية وإنما مرات محدودة، ثلاث مرات أو أربع مرات أو سبع مرات بحسب، مثل ألفاظ الأضداد، باللغة المُعجَمية يُقال للمُشترَك اللفظي الضد، ويُوجَد مُشترَك لفظي حتى في الأصول وهذا شيئ ثانٍ فلابد أن نُفرِّق، ويُوجَد هذا في المنطق وما إلى ذلك، باللغة المُعجَمية – أي في متن العربية – يُقال له الضد، هذه ألفاظ الأضداد أو الألفاظ الضدية، كالعين مثلاً، هذا مُشترَك لفظي، العين وُضِعَت مرة بإزاء الباصرة، وضعوا هذا اللفظ على معنى الجارحة أو الباصرة، هذه اسمها العين الباصرة، فالعين تعني الباصرة، هذا صحيح لكن العين أيضاً تعني الجارية، العين الجارية، مثل عين الماء، أليس كذلك؟ هذه عين، فهي تعني أيضاً الجارية كما تعني الباصرة، وتعني ثالثاً الذهب، يُقال العين والفضة، أي الذهب والفضة، فالعين تعني الذهب، وتعني رابعةً السيد النبيل الوجيه في قومه، يقولون هذا من عيون الناس أو هذا عين قومه، أي وجه البسطة كما يقولون، وتعني مرةً خامسة الجاسوس، يُقال لك هذا عين لبني فلان على كذا أو عين للدولة الفلانية على الدولة الفلانية، أي أنه Spy أو Spion، فهي تعني كذلك، هذا لفظ ضدي، هذا هو المُشترَك اللفظي، لفظ واحد صحيح ولكن تم وضعه غير مرةٍ – أكثر من مرة – على معانٍ مُختلِفة بإزاء معانٍ مُتباينة والوضع مُتعِّدد، فالوضع مُتعدِّد وليس واحداً، ماذا يقتضي هذا؟ يقتضي أمرين لابد أن نستحضرهما وأن نجعلهما على ذُكرٍ منا، الأمر الأول أن مصاديق هذا اللفظ محدودة، فالآن العين – كما قلنا مثلاً – بإزاء الباصرة وبإزاء الجارية وبإزاء الذهب وبإزاء النبيل وبإزاء الجاسوس، خمسة معانٍ ربما، بعضها أقل من ذلك – بعضها أقل من خمسة – وبعضها أكثر بقليل، فهي محدودة بمعنى أننا لا نستطيع أن نُطلِق لفظ العين على ما لانهاية له من المصاديق، مصاديقها معانٍ خمسة، أي مصاديق هذه اللفظة – مثلاً – معانٍ خمسة، ثم ينتهي الأمر، هذا مُهِم جداً أن نستحضره، والشيئ الثاني الذي يقتضيه هذا المُشترَك اللفظي أننا لدى سماعنا إياه – حين نسمع كلمة العين مثلاً – نقف مُتحيِّرين، لا تدري المُراد بهذه الكلمة، إلا أن تقوم قرينة، نحن نُريد قرينة سياقية أو ذكرية أو أي قرينة، فإذا قامت القرينة فهمنا بالقرينة أن المُراد الباصرة وليس الجارية أو الجارية وليس الجاسوس وإلى آخره، من غير قرينة لا نفهم ما المُراد، أليس كذلك؟ كأن الكلمة أصبحت خمس كلمات وليست كلمة واحدة، وهذا صحيح فلابد أن نُعيِّن واحدة من هاته الخمسة، هذا مفهوم ومن ثم سوف تقولون لاح لنا ما تُريد أن تقوله، طبعاً أنتم الآن حين تسمحون لفظة الكتاب هل تقفون مُتحيِّرين؟ هل تقولون ما معنى الكتاب؟ هل هو يعني السماء أو الأرض أو هذا المكتوب؟ لا يحدث هذا، معروف ما هو الكتاب، بغض النظر سواءٌ أكان مصداقه هذا الكتاب أو ذاك أو ذلك، المُهِم أنه الكتاب، قلت الكتاب ومعروف ما هو الكتاب، أليس كذلك؟ لا نتحيِّر بين الكتاب والقلم أو بين كتاب ونجم أو بين كتاب وجاسوس أو بين كتاب وكذا وكذا، لا يحدث هذا، فهذا معروف، إذن هذا اللفظ – الكتاب مثلاً – وهو لفظٌ كُلي، الكتاب أو القلم أو الرجل وهكذا كلها ألفاظ كُلية General terms – حين نسمعه لا نقف مُتحيِّرين، إذن يبدو أنه ليس مُشترَكاً لفظياً، طبعاً ليس مشترَكاً لفظياً، هذا خطأ وتخليط، هذا كلام أُناس غير مُحقِّقين في الفلسفة، هذا ليس مُشترَكاً لفظياً، هذا كان أولاً، ثانياً – المُقتضى الثاني – حين نقول الكتاب هل تنحصر مصاديق الكتاب في خمسة كتب أو في خمسة آلاف أو في خمسة ملايين أو في خمسة ملايير؟ لا تنحصر أبداً، لانهاية لمصاديقه، أليس كذلك؟ كل ما وُجِدَ وما هو موجود وما سيُوجَد من كتب كله يُعتبَر مصداقاً للفظة كتاب – لمفهوم كُلي – بخلاف المُشترَك اللفظي، المُشترَك اللفظي له مصاديق مُحدَّدة، كما قلنا خمسة معانٍ، وهذا معنى الاشتراك فيه، لكن هذا ليس مُشترَكاً لفظياً، اللفظ الكُلي هو من قبيل المُشترَك المعنوي، فهمنا المُشترَك اللفظي، إذن ما هو المُشترَك المعنوي؟ المُشترَك المعنوي لفظٌ وُضِعَ مرةً واحدة ليتناول مصاديق كثيرة، كالرجل يتناول كل الرجال، ما وُجِدَ وما سيُوجَد منهم، المرأة لفظٌ كُلي يتناول كل النساء وما سيُوجَد منهن وهكذا، ومرة واحدة، الكتاب والقلم والماء والنار والتراب والطين والسماء والأرض والنجم وإلى آخره، مرة واحدة، يتناول مصاديق لا حصر لها، أحياناً لانهاية لها أحياناً قد يكون مصداقه مصداقاً واحداً، لا بأس لكنه قابل للتعدد، لنفترض الآن – مثلاً – أن العلماء اكتشفوا جِرماً سماوياً – ولا نقول طبعاً جُرماً، فالجُرم يعني الجريمة، لكن الجِرم هو الجسم – مُتفرِّداً في طبيعته، لا هو سديم ولا هو كوكب ولا هو نجم ولا هو حتى نوع خاص من النجوم مثل السوبرنوفا Supernova – المُستعِر الأعظم – وإنما شيئ مُختلِف تماماً في طبيعة مادته وحركته وتألقه وأسموه – مثلاً – الزيلارد، واكتشفوا واحداً، يستطيع الذهن – هذا سنعود إليه اليوم وهذا مبحث من مباحث الأنطولوجيا Ontology – مُباشَرةً أن يُجرِّد المفهوم الكُلي الزيلارد مثلما جرَّد مفهوم الكوكب والنجم والسديم والمُستعِر الأعظم، أليس كذلك؟ ولها مصاديق كثيرة، الأعجب من هذا أن الذهن قادر على أن يبتلع أو يُجرِّد مفهوماً كُلياً لشيئ لا مصداق له، شيئ خيالي أسطوري كمفهوم الرُخ أو العنقاء “الفينكس Phoenix”، فهذا غير موجود ولن يُوجَد، لكن هو مفهوم كُلي يُمكِن أن ينطبق على مصاديق كثيرة لو وُجِدَت لكنها لا تُوجَد، لكن هذا مفهوم كُلي أيضاً وهذا غريب، هذا هو المُشترَك المعنوي، لفظٌ وُضِعَ مرةً واحدة وليس مرات مُتعدِّدة وبإزاء معنى واحد مُحدَّد، لكن مصاديقه قد تكون مُحدَّدة لكنها قابلة أن تكون غير نهائية وغير مُحدَّدة، كم تستطيع قابلة، هذا هو المُشترَك المعنوي.

إذن بهذه الطريقة أثبتنا أن الأسماء الكُلية أو المفاهيم الكُلية ليست مُشترَكات لفظية كما ادّعى الاسمانيون، هذا غير صحيح، وهذا كان أولاً، ثانياً ما هو جوابنا عن ديفيد هيوم David Hume؟ هيوم Hume قال الموضوع الشبحي، هو جُزئي ولكنه شبحي وإلى آخره، لكن هذا كلام غير صحيح، كلام فيه نوع من الذكاء وفيه نوع من الفهلوة لكنه ليس كلاماً فلسفياً عميقاً، لماذا؟ سنلفت نظر ديفيد هيوم David Hume إلى صنوف من المفاهيم لا يُمكِن أن تكون جُزئية شبحية ومع ذلك هي مفاهيم كُلية وموجودة ونُقِر بها نحن – هو حر – لكن مثل ماذا؟ مثل المفاهيم الكُلية التي لا مصاديق لها أصلاً ويستحيل أن يُوجَد لها مصداق لكي تقول شبحي وغير مُحدِّد وحين يتحدَّد أمامك تعرف كذا وكذا، أي أن هيوم Hume يُعيدك إلى ماذا؟ إلى الحس طبعاً، وخاصة أن ديفيد هيوم David Hume هو فيلسوف تجريبي حسي، على طريقة جون لوك John Locke لا يُوجَد شيئٌ في العقل ما لم يُوجَد قبلاً في الحس، وهذا كلام فارغ، كما قال نقّاد هذه التجريبية طبعاً الجافة، هيوم Hume وأمثاله يعتبرون العقل لوح شمع، الحس هو الذي يُشكِّله كيف شاء، وطبعاً هذه قمة التهافت الفلسفي، واليوم سنُناقِش أيضاً هذا وسندخل في نظرية المعرفة، هذا الكلام أيضاً خالٍ من التحقيق والتدقيق إطلاقاً، فهو دائماً يُعيدك إلى الحس، لكن ماذا يفعل مع المفاهيم الكُلية التي لا مصداق حسياً لها؟ مثل ماذا؟ لأنها – كما قلنا – مُستحيلة، مثل مفهوم العدم وهو مفهوم كُلي، مثل مفهوم المُستحيل، ومثل أيضاً المفاهيم الكُلية الأسطورية كالعنقاء والرُخ وهذه الأشياء، أليس كذلك؟ ولعل منها أيضاً المهدي المُنتظَر، فنحن لا نعرف، مفاهيم أسطورية ليس لها مصداق وهذا أولاً، ثانياً لابد أن نلفت نظر هيوم Hume أيضاً وأشياعه وأتباعه إلى صنف آخر من المفاهيم وهي المفاهيم الكُلية المُجرَّدة، مُجرَّدة لا تنتمي إلى العالم المادي، كالملك والله – تبارك وتعالى – والروح والنفس، هذه مفاهيم كُلية، الآن لا يُمكِن أن يُعيدنا مرةً أُخرى إلى المُحاكَمة للحس والحسيات لأنها مُجرَّدة، هي تنتمي إلى المُجرَّدات لا إلى الحسيات ومع ذلك هي مفاهيم كُلية، ماذا يقول؟ هل هي شبحية ومع ذلك يُمكِن بعد ذلك نزع هذا التشبح عنها بالتدقيق التجريبي؟ هي ليست كذلك أصلاً، هي مُجرَّدة فماذا يفعل؟

ملحوظة سأل الحضور الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم سؤالاً فقال له انتبه إلى أن النقاش ليس أنه يُؤمِن أو لا يُؤمِن، النقاش من حيثية المفهوم، لا تخلط أنت في هذا، وهذا مُهِم جداً أيضاً، ثم قال أنت الآن ذكَّرتني بشُهبة أيضاً لهيوم Hume والاسمانيين فذكِّرني أن أقولها، هذا اسمه خلط بين حيثية المفهوم وحيثية الوجود، هذا لا يقع فيه فيلسوف مُتقِن، هيوم Hume وأمثاله يقعون فيه، وإلى الآن يقعون في أمثال هذه الأشياء، فمثلاً حتى لا أنسى بما أنك ذكرت هذا الشيئ هم قالوا الدليل على أن هذه المفاهيم الكُلية غير موجودة وأنتم تزعمون في حق – طبعاً أنا أعرف أن الموضوع بدأ يصعب قليلاً، تجاوز موضوع التاريخ وما إلى ذلك، لكن هذه هي الفلسفة، ونحن نُحاوِل خُطوة خُطوة، وهذه البدايات، هذا شاطيء، أي شاطيء الفلسفة، هذه الأشياء البسيطة لا تزال هي المفاهيم والبداية – المفاهيم الكُلية أنها تحل في الذهن بوصف الكُلية والوحدة، وهذا صحيح حيث تزعم الفلسفة العقلية هذا لكنهم قالوا هذا غير صحيح، لأنها مُتعدِّدة وليست مُتوحِّدة، قلنا كيف؟ قالوا شأنها شأن كل شيئ، بدليل وجودها في أذهان مُختلِفة، إذن تعددت وفقدت الوحدة، وبدليل أنها في الذهن الواحد تتعدد من وقت إلى وقت بحسب الالتفات وبحسب عدم الالتفات، وظنوا أن هذا اعتراض قوي، هذا اعتراض مُتهافِت جداً، لماذا؟ لأنهم خلطوا فيه بين حيثية المفهوم وحيثية الوجود، نحن نُسلِّم أن هذه المفاهيم الكُلية إذا نُظِرَ إليها من حيثية الوجود مُتعدِّدة وليست مُتوحِّدة، طبعاً تتعدد، وإذا نُظِرَ إليها من حيثية المفهوم فهي مُتوحِّدة بلا شك، أي أحد منها مفهوم مُتوحِّد من حيثية المفهوم لا من حيث الوجود، ولأضرب لكم مثالاً يضح به المعنى المُراد، لنفترض أن لدينا الآن هنا جهاز عرض بروجيكتور Projector – مثلاً – يعرض صورة مُحدَّدة وصورة ثابتة وليست مُتحرِّكة، وبعد ذلك أرسل هذه الصورة فعكسها على هذه الشاشة التي هي من قماش فظهرت هنا، ثم أطفأنه وعرضها على الجدار، ثم عرضها مرةً ثالثة على السقف الخشبي، ومرة رابعة ربما عرضها على قميص أحدنا، بلا شك هنا أن هذه الصورة تعددت وجوداً، من حيثية الوجود تعددت، لكن من حيثية هي هي كصورة مُتوحِّدة، هي ذات الصورة، أليس كذلك؟ الجهاز لن يُعطينا صورة جديدة، هذه نفس الصورة، كذلك موضوع المفهوم، المفهوم واحد، مفهوم الرجل أو مفهوم الإنسان أو مفهوم الماء أو مفهوم النار مفهوم واحد، لكن كونه ينوجد أو يُوجَد في أذهان كثيرة وفي الذهن الواحد على مرات بحسب الالتفات وعدم الالتفات وإلى آخره موجود، فما هذا الخلط؟ ما هذا الخلط السخيف بين حيثية الوجود وحيثية المفهوم؟ فحين نُناقِش المفاهيم انتبه إلى أننا لا نُناقِش حيثية الوجودية – ولذلك نقول سواء يُؤمِن أو لا يُؤمِن هو – وإنما حيثية المفهوم، وهو يتكلَّم عن المفهوم بما هو مفهوم، وليس عن أنه مفهوم واقع أو غير واقع، هذا لا يهمنا فانتبه، هذا لا يُنقِذه ولا يُسعِفه، بعد ذلك إذا هو غير مُقتنِع اليوم سوف نأتي له بمسألة أقوى من هذه، وهي أقوى بكثير، مثلاً هناك مفاهيم تقبل المُتقابِلات، أي أنها تقبل الأضداد، والتقابل أنواع طبعاً، من أنواع التقابل التقابل بالتناقض وهذا شيئ ثانٍ لكن يُوجَد التقابل بالتضاد، والضدان لا يجتمعان معاً لكن يُمكِن أن يرتفعا معاً بخلاف المُتناقِضين أو النقيضين، مثل ماذا؟ مثل الألوان، الأسود والأبيض والأحمر وهكذا، هذه أضداد وليست نقائض، ما هو المفهوم الكُلي الذي تندرج تحته مُفرَدات هذه الألوان؟ مفهوم اسمه اللون Color، أليس كذلك؟ هذا المفهوم كُلي، هل هذا المفهوم فعلاً هو شيئ جُزئي باهت وغائم؟ بمعنى لو أخذنا أحد مصاديقه – مثلاً – كاللون الأسود هل هذا اللون هو شيئ غير واضح بحيث أنه يُمكِن أن ينطبق على الأحمر والأخضر وما إلى ذلك؟ غير صحيح، شيئ واضح ومُحدَّد، وهو مصداق لمفهوم اللون، وكذلكم ضده – الضد الأزهر له – وهو الأبيض، أليس كذلك؟ مصداق واضح للمفهوم الكُلي – اللون – ومع ذلك هو مُحدَّد وواضح تماماً، ليس مُشتبِهاً ومُغبَّشاً وبعد ذلك يحصل له تميز فنعرف بحيث أنه يقبل الانطباق على ألوان شتيتة، هذا غير صحيح، هو في قمة وضوحه ومع ذلك هو مصداق واضح للمفهوم الكُلي المُسمى باللون، هكذا يُفكِّر الفلاسفة العقليون، دقة عجيبة في التفكير، أُناس أقوياء طبعاً، وشيخهم الأكبر قديماً كان أرسطو Aristotle وهو له وزنه فضلاً عن الأناس العباقرة الذين كانوا على هذه الفلسفة العقلية، يأتينا هؤلاء الحسيون والتجريبيون وهم أُناس أدركوا شيئاً وغابت عنهم أشياء كثيرة، وهذه هي مُشكِلتهم، ليسوا مُتعمِّقين كفاية.

نرجع إلى ما كنا فيه، فهذا هو المفهوم الكُلي، الآن لا شُبهة حول وجود المفاهيم الكُلية، المفاهيم الكُلية تُسمى المعقولات، لماذا نُسميها المعقولات؟ لماذا هذه بالذات نُسميها المعقولات؟ سنشرح لكم أيضاً ونُبسِّط، لدينا نوعان من الفكر، ما يُعرَف بالتصورات ثم ما يُعرَف بالتصديقات، إذن التصورات ثم التصديقات، نترك التصديقات الآن، التصديقات هي القضايا والأحكام أو تقرير أحكام مُعيَّنة ويُمكِن اختبارها لنعرف هل هي حقيقية أم زائقة وصحيحة أم كاذبة، نأتي بالتصورات، التصورات تبدأ أولى درجاتها بالاتصال بالخارج عبر وسائل الحس، فأرى هذا الكوب مثلاً، أراه وصورته مُباشَرةً تنعكس في ذهني، هذه الصورة تُسمى صورة حسية، هذا عمل الإحساس حقيقةً، وهذه صورة حسية، بعد ذلك التفت عنه لكن يبقى له صورة في ذهني ليست انعكاس لهذا الجسم الخارجي، هذه الصورة التي بقيت حين أُغمَض عيني أو يُؤخَذ من أمامي أو أستذكره بعد يوم أو حتى بعد عشر سنين وأقول – مثلاً نفترض – الكوب الذي كان أمامي ولونه بيج تُسمى الخيال، هذه صورة خيالية، الآن يأتي العقل ويتصرَّف في هذه الصورة بإسقاط مُشخِّصاتها التي تميزها وتُفرِّق بينها وبين مثيلاتها، هناك أكواب كثيرة وهناك أكواب أكبر وهناك أكواب أصغر وهناك أكواب بلا عروة – الكوب الذي أمامي عنده عروة، أي يد وممسك، لكن هناك أكواب بلا عروة – وهناك أكواب حمراء وخضراء وهناك أكواب خشبية وهناك أكواب زجاجية، وهذا كوب من خزف، وتُوجَد أنواع من الخزف والبورسلين وإلى آخره، وفعلاً تختلف شكلاً وحجماً ولوناً ومنظراً وإلى آخره، العقل يُدرِك أن كل هذه الأشياء يُوجَد بينها شيئٌ مُشترَك يعتصم بهذا المُشترَك ويُسقِط كل المُشخِّصات، اللون والحجم وبعروة أو بغير عروة ومن بورسلين أو من خشب أو من نحاس وإلى آخره، كل هذه الأشياء لا يهتم بها العقل، وهذا عمل غريب للعقل، هذه قدرة ولياقة لهذا العقل الذي أُوتيه الإنسان – سبحان الله – ومن هنا يُسمى الإنسان عاقلاً، يُسقِط كل هذه الأشياء ويُبقي المُشترَك، أي الجامع المُشترَك، وينشأ المفهوم الكُلي، مثل مفهوم الكوب، حين تقول لأحدهم هل هذا كوب؟ يقول لك نعم، هذا كوب، تقول له ماذا عن هذا الجسم الخشبي؟ يقول لك هذا كوب، وماذا عن هذا الجسم الحديدي؟ يقول لك هذا كوب، هذا كبير لكنه كوب، هذا صغير وهذا لونه أحمر أو أخضر وهكذا لكنه كوب، قد يُخرِجه عن حد كوب إلى حد كأس – مثلاً – أو شيئٌ آخر أو إبريق لكن أيضاً بطريقة مُحدَّدة وواضحة عند العقل، فالعقل يقوم بهذا العملية، هذا الشيئ الثالث الذي كوَّنه العقل واسمه الكوب أو كما قلنا اسمه الماء أو اسمه الحائط أو اسمه الصالة وإلى آخره من المفاهيم الكُلية واسمها المعقولات، المُدرَكات أو المفاهيم الكُلية وتُمسى المعقولات، هذا العمل الفريد للعقل، وهنا يبدأ العقل، هناك كان الحس مع أنه طبعاً لا عمل للحس بدون عقل، الحس من غير عقل لا قيمة له، وهذا سوف نعرض له بالتفصيل لدى كلامنا عن الفلسفة النقدية لكانط Kant، أي الفلسفة المُتسامية أو المُتعالية لكانط Kant، لأن الحس بلا عقل أيضاً لا يستطيع أن يُؤدي أي شيئ، لكن العمل الذي تظهر فيه شخصية العقل ودور العقل هو في هذه المرحلة.

الآن يُوجَد شيئ سوف يكون أغمض قليلاً لكنه مُهِم وقد يكون أهم بلا شك، لكن قبل أن نُفضي إليه أقول أعتقد أنني شرحت لكم الآن كيف يقوم العقل بتكوين المفاهيم الكُلية، أنا اعتمدت نظرية أرسطو Aristotle بشرحي هذا لأن أكثر الفلاسفة مُقتنِعون بها، مُلا الصدرا الشيرازي غير مُقتنِع بها، هو مُقتنِع بفلسفة أُخرى، ولذلك يُسمونها بالفلسفة المُتعالية، جُزء من سر التسمية هذه أنه قال تُوجَد طبقة في الذهن – ليست طبعة مادية وإنما طبعة في العقل، أي مُستوٍ أو أفق أو مصاف في العقل – تُحتفَظ فيه الصور الحسية والخيالية، وتُوجَد طبقة ترتفع إليها وتسكن فيها الصورة الكُلية والمفاهيم الكُلية، قال هذه طبقة خاصة هناك ليست بطريقة التجريد، الذي شرحته لكم ولكن هو التجريد أو ما يُسمونه بالانتزاع، إذن التجريد أو الانتزاع وفي ترجمة عربية قديمة له اسمه التقشير، وهذه الترجمة جيدة، وإن كانت كلمة التقشير ليست لغة فلسفية وإنما لغة مطبخ لكنها مُفهِمة، التجريد والانتزاع لغة فلسفية لا تُفهِمنا كثيراً – يُقال التجريد – لكن التقشير التي هي لغة المطبخ نفهمها، مثل ماذا؟ نفترض لدينا جذع شجرة أو فرع – مثلاً – غليظ وتنشعب منه فروع وأوراق وأشياء وزوائد وفضول وذيول، وجاء شخص وقشره أكثر من مرة، وهذا اسمه التثقيف، ومن هنا كلمة الثقافة، الثقافة من ثقف أو ثقَّف العود، شذَّبه وهذَّبه وجعله أملساً ناعماً وجميلاً، فهذا هو التقشير، قشَّر الأشياء التي ليس لها علاقة بحقيقة الجذعية في هذا الجذع، هو يُريد استبقاء الجذع فقط أو استبقاء هذا العمود من الخشب فقط فعمل له تقشيراً، الذهن يقوم بعملية تقشير أو تجريد أو انتزاع لهذه الأشياء – كما قلنا – التي تحصَّلها عن طريق الحس سواء مصاديق كثيرة – وفي أكثر الأحوال تكون مصاديق كثيرة – أو مصداق واحد كما يحدث أحياناً، انتبهوا إلى هذا، بعض الفلاسفة اشترطوا إلى أن الذهن لكي يُولِّد مفهوم كُلياً يلزم في البداية أن يقع الحس على مصاديق كثيرة، وهذا غير صحيح، وطبعاً عموماً ليس شرطاً فقط الحس الظاهر حيث يُوجَد الحس الباطن، مفهوم الخوف أليس مفهوماً كُلياً؟ هل له ما بإزاء في الخارج؟ هل له مصداق في الخارح اسمه الخوف؟ لا يُوجَد هذا في الخارج، الذي في الخارج اسمه الأسد، أليس كذلك؟ كوني أخاف من الأسد هذا شيئ ثانٍ، لا يُوجَد شيئ في الخارج اسمه الخوف من الأسد، يُوجَد الأسد وأُوجَد أنا، أي أنا والأسد فقط أما الخوف هو شيئ ثانٍ، هذا مفهوم نفساني انفعالي، بالحس الباطني نحن أيضاً نلتقط هذا المفهوم وهذا المصداق، بالحس الباطني طبعاً، ويُمكِن أن يكون هذا بالحس الظاهري لكن هذا شيئ ثانٍ، ليس شرطاً أن تكون إحساسات ظاهرية حيث تُوجَد إحساسات باطنية.

سأضرب لكم برهاناً يُؤكِّد صحة هذا المنزع الثاني، لو رأى أحدنا جسماً ما – أي جسم، مثل هذا الكون حتى – لكن مُلوَّناً بلون لم نره من قبل، وهذه عملية مُمكِنة جداً، هذا أمر عادي ومُمكِن، قد يُبتدَع لون لم نره من قبل، ولنُسمه – مثلاً – الميلازي، اللون الميلازي، لعلنا رأينا الميلازي لمرة واحدة، فهذه أول مرة والذهن يقبل مُباشَرةً أن هذا اللون يُمكِن أن يُنتزَع منه مفهوم كُلي اسمه الميلاز، أي اللون المليزي – وينطبق على أشياء كثيرة تكون مُلوَّنة بالميلازي، أليس كذلك ؟ رغم أنه رآه مرة واحدة، لم ير عشرة أشياء أو ألف شيئ من الأشياء مُلوَّن بالميلازي لكي يُجرِّد مفهوماً وهذا غريب، إذن الذهن لديه هذه القدرة، فحتى من مصداق واحد يستطيع أن يعرف ما يُشخِّص وما يخرج عن حد التشخيص، أي ما يُفرِّد وما يخرج عن حد التفريد، أن هذا هو الذي يُفرِّد هذا الشيئ لكن يُوجَد شيئ يجعله مُشترَكاً مع أشياء ومصاديق أُخرى كثيرة، الإنسان يُدرِك هذا وبضربة واحدة، لكن أكثر ما يحصل أن الذهن يقع عن طريق الحس على مصاديق كثيرة ثم يقوم بالتجريد، وقد شرحنا لكم كيف يكون التجريد، فحجم الكوب ليس هو المُهِم وكون له عورة أو ليس له ليس هو المُهِم ولونه ليس هو المُهِم والمادة التي صُنِعَ منها ليست مُهِمة، الشيئ له علاقة ربما بشكل كوب وبالوظيفة والغاية منه، هو هذا، فهذا اسمه الكوب فقط، هذا المفهوم الكُلي للكوب، هذا الكوب ويظل في الذهن، فالذهن يقوم بهذا بطريقة التجريد، وأرسطو Aristotle كان يقول بنظرية التجريد أو نظرية الانتزاع أو نظرية التقشير، الآن هذه الكُليات هي المعقولات، هذا عمل العقل الأصيل، أرسطو Aristotle عرَّف الإنسان بأنه حيوانٌ ناطق، وطبعاً للأسف هذه الترجمة العربية رديئة جداً، أرسطو Aristotle لم يُرِد ناطقاً بمعنى أنه يتكلَّم ويُقلقِل بلسانه، ما قال هذا ولا أراده، هو أراد الحيوان المُتعقِّل، الإنسان هو الحيوان العاقل المُتعقِّل، وأراد بالمُتعقِّل بعبارة دقيقة صانع المفاهيم الكُلية، هو هذا، الإنسان هو الحيوان صانع المفاهيم الكُلية، لا يُوجَد حيوان آخر يصنع المفاهيم الكُلية بهذه الطريقة إلا الإنسان، وتبدو روعة العقل حين نرى التقسيم الإسلامي الثلاثي، فالتقسيم الغربي عموماً من أيام اليونان ثنائي، لكن الإسلاميون أتوا بتقسيم ثلاثي لهذه المعقولات، وهذا مُهِم جداً أن نفهمه وان نتفكَّر فيه، فقسَّموا هذه المعقولات والمفاهيم الكُلية إلى ثلاثة أقسام باعتبارات، باعتبار العروض، أي المنشأ والوجود، وباعتبار الاتصاف، اتصاف المصداق بها، أي بالمفهوم، إذن يُوجَد عندنا عروض ويُوجَد عندنا اتصاف، فقسَّموا هذه المفاهيم إلى ثلاثة أنواع تعود إلى نوعين رئيسين، نعرف بعضها من بعض بالوقوف على ماهياتها، فنعرف أن هذا إنسان وهذا الإنسان رجل وهذا الإنسان امرأة وهذه الطاولة وهذه الكاميرا Camera وهذه غُرفة وهذا شارع وهذا كذا وكذا، هذه هي الماهيات، أي الحقائق، فالماهيات هي حقائق الأشياء، أي ما يقع في جواب ما هو، ما هو الإنسان؟ الحيوان العاقل، الحيوان صانع المفاهيم الكُلية وصانع المعقولات، أليس كذلك؟ هذا الإنسان وهذا حد الإنسان، لماذا؟ لأن هناك مُشترَكات كثيرة بين الإنسان وبين الغزالة والحصان – أكرمكم الله – والحمار وإلى آخره، هذه كلها حيوانات، جسم نامٍ مُتحرِّك بالإرادة، هذه كلها حيوانات، وماذا بعد؟ ماذا عن الإنسان؟ هل الإنسان فقط جسم نامٍ مُتحرِّك بالإرداة؟ لا، تُوجَد زيادات، أهم زيادة أنه مُتعقِّل أو ناطق كما قال العرب، فناطق تعني أنه مُتعقِّل ومُدرِك للمفاهيم الكُلية وهو صانع المفاهيم الكُلية، هذه ماهية الإنسان، ماهية الفرس بالفصل كما يقول المناطقة، نُريد أن نُعرِّف بالجنس وبالفصل، أليس كذلك؟ فالفرس هو حيوانٌ صاهل، هذا الصهيل لا يتأتى إلا من فرس، لو كان عنده أي شيئ آخر يفصله من المُتشابِهات لعرَّفناه بها دون أي مُشكِلة، لكننا وجدنا هذا الصهيل، والأسد حيوانٌ زائر، والقط حيوانٌ ماءٍ، هكذا يقولون، فهذا اسم فاعل، هو حيوان ماءٍ لأنه يموء، هذا هو، وهكذا فهذا فصله، الغزال حيوانٌ باغم وإلى آخره، هذا هو الفصل، وهذه هي الماهيات، فالآن المفاهيم الأولى هي المفاهيم الماهوية، ما هي صفتها في الفلسفة العقلية؟ وما هو تعريفها؟ هي المفاهيم التي عروضها في الخارج واتصافها في الخارج، منشؤها ووجودها من أين؟ من الخارج، وقد رأينا الغزال والغزلان فأدركنا ماهية الغزال، أليس كذلك؟ وبعد ذلك أسميناه الغزال، وعلى ماذا ينطبق هذا اللفظ؟ على كل مصاديقه، هذا غزال وهذا غزال وهذا غزال، أليس كذلك؟ فعروضها في الخارج واتصافها في الخارج، فهي تُحمَل على أشياء خارجية، أليس كذلك؟ نقول هذا غزالٌ أو هذا الحيوان غزالٌ وهذا الشيئ – مثلاً – كوبٌ أو هذا الشيئ طاولةٌ تُحمَل، أليس كذلك؟ وكذلك مع الطوب وما إلى ذلك، هذه كلها ماهيات، هذا معنى اتصافها خارجي، فعروضها خارجي واتصافها خارجي، هذه المسألة واضحة، وهي قوالب المفاهيم، هذه قوالب مُهِم جداً، نحن نتعاطى مع العالم الخارجي عبر المفاهيم الماهوية، لماذا؟ لأن المفاهيم الماهوية هي التي تُحدِّد حدود الموجودات وحدود الأشياء ونُفرِّق بين هذا وهذا بها، لكن يُوجَد شيئ يُحدِّد ويُعيِّن أنحاء الموجود وليس حدوده، هذه مفاهيم فلسفية وهي أعقد شيئ ولذا سنتركها إلى وقتٍ لاحق وستكون رقم ثلاثة، نأتي الآن إلى المفاهيم الثانية أو الثانوية.

المفاهيم الثانية أوالثانوية تنقسم قسمين، منطقية وفلسفية، نبدأ بالأسهل وهي المنطقية، أي مفاهيم ثانية منطقية، كيف تُعرَّف؟ سيُحفَظ تعريفها إن شاء الله، وهو سهل، لأن هذه – الماهوية – عروضها خارجي واتصافها خارجي، فهذه الأولى سهلة، أما الثانية – المنطقية – عروضها ذهني واتصافها ذهني، فعروضها في الذهن والاتصاف لا يقع بها في الخارج وإنما يقع في الذهن، وهذا غير واضح ولذا نحتاج إلى أمثلة، بغير أمثلة لن نفهم – مُستحيل – طبعاً، كيف تكون عروضها في الذهن؟ طبعاً هذا اسم على مُسمى، هي اسمها مفاهيم ثانية، لماذا جعلناها ثانية وليس أولى؟ لأنها تتأسَّس على الأولى، لابد أن تتقرَّر عندنا المفاهيم الماهوية، مثل مفهوم الإنسان – كما قلنا – أو الرجل أو المرأة أو الكوب، هذه مفاهيم ماهوية، وهذا مُهِم إذا تقرَّر لدينا – مثلاً – مفهوم الإنسان، وهذا اللفظ كُلي كما قلنا، هذا معنى المفهوم، مفهوم عقلي بمعنى كُلي، وهذا لفظ كُلي، جئنا وقلنا هذا المفهوم وهو الإنسان يتصف بالكلية، لأن في الخارج وفي الحقيقة لا يُوجَد إلا هذا الشخص وهذا الشخص وهذا الشخص، وقلنا في أول الدرس الوجود مُساوِقٌ للتشخص وللتعين، فالتشخص هو التعين، أنا لن أرى في الخارج الإنسان، هذا مُستحيل، أنا لا أرى الإنسان ولكن أرى هذا الإنسان وذاك الإنسان، أي مصداق الإنسان، لكن الإنسان أين يُوجَد هذا؟ في الدماغ، في هذه الطنجرة، ليس في الخارج وإنما في الذهن، في الذهن موجود، هذا المفهوم – سبحان الله – موجود في الذهن، إذن هذا أين عروضه ووجوده ومنشؤه؟ في الذهن، أليس كذلك؟ وبعد ذلك آتي وأصفه، فأقول هذا الإنسان هو مفهومٌ كُلي وليس مفهوماً جُزئياً، والمفهوم الكُلي في المنطق هو الذي يقبل الذي الانطباق على كثيرين، بخلاف المفهوم الجُزئي، لا يقبل الانطباق على كثيرين، مثل هذا الرجل وهذا الكوب، هذا جُزئي، لكن الكوب والرجل كُلي، ينطبق على كثيرين، فهذا جُزئي وهذا كُلي، الآن حين جئت أنا ووصفت مفهوم الإنسان – هذا مفهوم طبعاً – وصفته أنه كُلي، أليس كذلك؟ قلت الإنسان كُليٌ، هذا الوصف بالكُلية لشيئ في الخارج أم لشيئ في الذهن؟ لشيئ في الذهن طبعاً، لا يُمكِن شيئ في الخارج تصفه بأنه كُلي، هذا مُستحيل لأن الذي في الخارج جُزئي، وهذا معنى قولنا المفاهيم الثانية المنطقية عروضها ذهني واتصافها ذهني، هذا هو طبعاً ولا يُمكِن غيره، وهكذا كل المفاهيم المنطقية، أرأيتم؟ كل المفاهيم المنطقية ستكون عروضها في الذهن واتصافها في الذهن، وسهل جداً إدراك هذا، يُوجَد ما هو أصعب قليلاً، وهذا لن نُخربط فيه، تخربط فيه هيوم Hume وكانط Kant وهيجل Hegel وأكثر الفلاسفة، وهذا يحدث إلى اليوم، وسر تخليطهم وتخبيطهم الفلسفي أنهم لا يُميِّزون – انتبهوا إلى أن الوضعيين المناطقة إلى اليوم لا يُميِّزون – وأبوا – لأنهم غير قادرين على أن يستوعبوا – أن يُميِّزوا أو فشلوا أن يُميِّزوا بين المفاهيم الثانية المنطقية والمفاهيم الثانية الفلسفية، ولم يفعل هذا إلا الفلاسفة الإسلاميون مُنذ العصور الوسيطة، وهذا ذكاء هائل عند الإسلاميين، قالوا لا يزال يُوجَد عندنا نوع ثانٍ من المفاهيم الثانوية أو الثانية، قالوا مفاهيم ثانية فلسفية، طبعاً تُوجَد إشكالية حتى في التسمية، لن أُصدِّع رؤوسكم بها لكن هي هكذا، اسمها مفاهيم ثانية فلسفية وتعريفها كالتالي، عروضها في الذهن واتصافها في الخارج، وهذه غريبة، الأولى العروض والاتصاف في الخارج وكانت سهلة، أعني الماهوية، الثانية العروض والاتصاف في الذهن وكانت سهلة، هذه مُختلِفة، أخذت من كل طرفٍ بنصيب، فقالت لا، أنا أعرض – أي أُوجَد وأنشأ – في الذهن، والاتصاف الخاص بي – الحامل – في الخارج، هذه اسمها المفاهيم الفلسفية، وهذه طبيعة المفهوم الفلسفي، وهذا الذي يُفرِّق بينه وبين المفهوم المنطقي، كيف؟ ومثل ماذا؟ المفاهيم الفلسفية يُلاحَظ أولاً أنها مفاهيم ثنائية، مثل وجود وعدم، بالقوة وبالفعل، علة ومعلول، ثابت وسيّال، واحد ومُتكثِّر، المفاهيم الفلسفية كلها بطبيعتها مفاهيم ثنائية مُتقابِلة، هذا لو أوحى إلينا بشيئ سوف يُوحي بماذا؟ سوف يُوحي بأن هذه المفاهيم الفلسفية مأخوذة بطريق المُقارَنة طبعاً، وجود المُتقابِلات يعني وجود المُقارَنة، من غير مُقارَنة سوف يكون من المُستحيل أن الإنسان يستنبط مفهوماً فلسفياً، وهذا يعني أنها تُعوِزها المُقارَنة، فهي تحتاج مُقارَنة، لكي نقف على مفهوم فلسفي لابد من المُقارَنة فعلاً، مثل ماذا؟ نأخذ مفهوم السببية، لأنه يُمثِّل مُشكِلة كبيرة وخاصة عند هيوم Hume وعند كانط Kant وهؤلاء الجماعة، لذا سنأخذ مفهوم السببية أو العلية، وهو لكل ظاهرة سبب، لكل أثر مُؤثِّر، لكل معلول علة، هذا هو المعنى،Cause and effect، السبب والمُسبَّب أو الأثر والمُؤثِّر أو العلة والمعلول، هذه كلها نفس الأشياء لأنها أسماء مُترادِفة، الآن أنت ترى النار، وبعد ذلك ترى الماء فوق النار قبل أن يغلي، إذا غلى يُصبِح الأمر أسهل، لو جاء أحد البدائيين أو طفل صغير ووضع يده في الماء سوف يجد أنه حار، إذا لم يلتفت – أي دون التفات – وحاول أن يربط بين حرارة هذا الماء وبين النار التي تتقد تحته سوف يكون من المُستحيل أن يُدرِك أن النار هي سبب حرارة هذا الماء، لن يقدر على هذا، قد يرى هذا الموضوع لمائة مرة ولا يلتفت، علماً بأن هذا الذي حصل ولا يزال يحصل في كل الظواهر العلمية، أليس كذلك؟ تُوجَد أشياء كثيرة – هذا موجود في العلم – تكون موجودة إلى أن يُقيِّض الله لهذه الظاهرة عالماً ذكياً حادساً مُتلفِتاً يقظاً فيقول لا، يا جماعة لماذا لا يكون السبب كذا؟ هو موجود والآن سوف نختبر، وحين يختبر يتضح أنه السبب، وقد غفل الناس عن ذلك – مثلاً – مئات بل ألوف السنين، طبعاً هذه طبيعة العلية، فلا يُمكِن أن تُحصِّلها بضربة واحدة، وإنما تُحصِّلها بالالتفات وبالمُقارَنات، فتقوم بعمل مُقارَنات وقد تقوم بعمل تجربة إذا أردت، ثم بعد ذلك تستطيع أن تستنبط أن هذا علة لهذا وهذا معلول عن هذا، أما مُجرَّد التأمل في مفهوم الحرارة ومفهوم النار ومفهوم النار لا يُؤدي إلى استنباط أن هذا علة لهذا، لا يُؤدي إلى هذا، لابد من الالتفات ولابد من الاختبار لهذا الذي التُفِتَ إليه، علماً بأن هذا هو المنهج العلمي، هو يتم بهذه الطريقة، وهذا المنطق الأصولي، السبر والتقسيم، قد نظن أن هذه العلة وحين نُجرِّب يتضح أنها لا ليست هي، هذا غير صحيح، يقول لك هذا لا مُدخَلية له في العلة أو في التعليل أو في العلية، سوف نُجرِّب الوصف الثاني، مثلاً الخمر حين فكَّر فيها الفقهاء قالوا ما هي العلة؟ قد تكون السائلية، أي لأنه سائل، لكن هذا غير صحيح، فالماء سهل، هل هو حرام؟ لا، إذن ليست السائلية، ليست هذه علة التحريم، قد يكون اللون، اللون كان – مثلاً – عنابي أو أحمر غامق، لكن ليست هذه العلة، قالوا هناك الكثير من العصائر والأشياء التي لونها على هذا النحو وهي ليست حراماً، إذا هذا يعني أن لا مُدخَلية للون في التعليل، ليس هو العلة، قد يكون كذا وكذا وكذا وبعد ذلك قالوا لعله يكون لأنه من عنب، لكن هذا غير صحيح، فمن المُمكِن أن تصنع عصيراً من العنب وتشربه، هذا حلال، إذن ليست العلة في أنها من عنب، وهذا أمرٌ غريب، فهل حتى ليست هذه؟ لا، ليست هذه أيضاً، ثم قالوا من المُمكِن أن يكون السبب كذا وكذا ثم قالوا في النهاية يُمكِن أن يكون السبب هو الإسكار، أي لأنها تُسكِر، ثم قالوا يبدو أن فعلاً هذا هو السبب، ولذلك إذا توفَّرت هذه العلة في أي شيئ آخر كان سائلاً أو غير سائل، وطبعاً هم صدَّعوا رؤوسهم في الحشيش، إلى اليوم في صعيد مصر وما إلى ذلك يشربون الحشيش، حتى المشائخ وقرّاء القرآن بعضهم يفعلون هذا، قالوا غير ثابت تحريمه، ما هذا؟ واستدعى الأمر أن تُؤلَّف فيه رسائل، فلدينا زهر العريش في تحريم الحشيش للإمام الزركشي رحمة الله عليه، قال لكي يقتنعوا بأنه مُحرَّم، يا أخي يُوجَد تعليل هنا، الشريعة تدور مع العلل، الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً، أي شيئ يُخمِّر المخ ويذهب به لابد أن يكون حراماً بغض النظر هل هو سائل أو مشموم أو مشروب وما إلى ذلك، بغض النظر عن كل هذا هو حرام وانتهى الأمر، هذه هي العلة، فهذه طريقة السبر والتقسيم للبحث وتعيين العلة، وهي طريقة ذكية وطريقة منهجية وتُستخدَم حتى في الإمبريقيات، أي في التجريبيات.

نأتي الآن إلى شرح التعريف فانتبهوا، نحن حين استنبطنا مفهوم العلية من حوادث كثيرة – علة ومعلول وبالمُقارَنات والالتفات – كان هذا الموضوع ليس موجوداً في الخارج، هو يُوجَد في الذهن، الذي في الخارج دائماً عندنا ماء وعندنا نار، أليس كذلك؟ عندنا قطن وعندنا نار، عندنا بنزين وعندنا نار، هذه الأشياء فقط، لا يُوجَد شيئ اسمه علة ومعلول وبعد ذلك مفهوم مُجرَّد اسمه العلية وهو أيضاً لفظ كُلي، العلية من الألفاظ الكُلية بغض عن أنها علية كذا لكذا وما إلى ذلك، هي أيضاً من المفاهيم الكُلية، على كل حال هذا غير موجود في الخارج، هو موجود في الذهن، لا يُمكِن أن تأتي بأحد وتضع إصبعه وتقول له هذه هي العلية، هذا غير موجود، حتى حين تقول له – نفترض مثلاً – أن النار هي علة احتراق القطن لا تُلاحِظ العلة، هيوم Hume نفسه لاحظ وقال الذي في الخارج نار وقطن وقطن يحترق، لكن لا نُلاحِظ لا علةً ولا معلولاً، نُلاحِظ أشياء مُتشخِّصة، قال يحدث دائماً ويتواتر أن كلما قرَّبت هذا من هذا حدث هذا، قال هذا اقتران، مُجرَّد اقتران لا يدل بالضرورة العقلية على هذا المفهوم، فأنكر مفهوم العلية هيوم Hume، قال هذا مُجرَّد اقتران يحصل دائماً، أي تعاقب، شيئ يعقب شيئاً باستمرار، وطبعاً نحن حتى كإسلاميين وكفلاسفة عقليين ليس عندنا مُشكِلة أن نقول فعلاً هذا اقتران وخاصة بحسب النظرية الأشعرية فانتبهوا، هذا يتفق مع نظرية أهل السُنة والجماعة، الأشاعرة يُؤكِّدون هذا، وقبل هيو Hume أصلاً أبو حامد الغزالي وكل الأشاعرة قالوا فعلاً العلية هو نظام اقتران، لأن الانفراد بالخلق والإيجاد لله رب العالمين فقط، أنت تشرب هذا الماء فينشرب وينساغ معك، لكن حتى الانشراب والانسياغ بفعل الله فانتبه، وبعد ذلك يحصل الشعور بالري، الشعور بالري مخلوق لله فانتبه، ولكنه مخلوق عبر شرب الماء، وهذا صحيح، وجرت سُنة الله أنه لا يخلقه إلا عقب شرب الماء، لكن الله هو الذي خلق الماء وخلق الشارب وخلق الانشراب وفعل الشرب والشعور بالري، أرأيتم؟ هو الذي خلق كل هذه الأشياء – لا إله إلا هو – انفراداً، وخلقها وفق سُنة التعاقب، هذا عقب هذا وهذا عقب هذا، لو شاء – تبارك وتعالى – يُبطِل هذا التعاقب، أليس كذلك؟ وفعلاً تُقدِّم القطن إلى النار فلا يحترق وتُقدِّم إبراهيم في النار فلا يحترق، الله فك الارتباط، لو كانت النار تفعل بذاتها وبأمرها وما إلى ذلك لما أمكن فك الارتباط، ويُوجَد أُناس ردوا على هذه النظرية الأشعرية وقالوا هذا غير صحيح، وإلا ما معنى قوله قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي ۩ هذا يعني وجود خاصة فيها، لكن هذا ليس قوياً، ولذلك الله خاطبها قائلاً كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا ۩، لو ما فيها الخاصة إذن ما تُخاطَب، أليس كذلك؟ فربنا فك الارتباط، يُمكِن أن يكون قول الله كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا ۩ تعبيراً عن انفكاك الارتباط لكن لا حاجة إلى هذه المُجازَفة ولذا سوف نقول حتى لو فيها خاصة فالخاصة تفعل بأي قانون؟ بأمر الله أيضاً، أليس كذلك؟ ومتى تفعل؟ عقب كذا وكذا، ومن ثم سنرجع أيضاً إلى التصور الأشعري وسنرجع إلى قول الله اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ۩، ولذلك العلوم الطبيعية – وقد ذكرت هذا أمس ونوَّهت به – تعترف بكل تواضع أننا لا نملك التفسير، لا نُفسِّر نحن لأننا لا نعرف، نحن نصف حتى إلى مراحل مُتقدِّمة من الوصف الدقيق لكن في نهاية المطاف لم الأمور كانت على هذا النحو؟ وُجِدَت هكذا، مَن الذي أوجدها هكذا؟ أرأيتم؟ مَن الذي دسترها وقننها أن تكون موجودة هكذا؟ رب العالمين، وهذا معنى انفراده بالخالقية لا إله إلا هو.

في يوم من الأيام كتب السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton مُعلِّقاً على اكتشافه قانون الجاذبية، كتب الجاذبية كذا وكذا وكذا وأنا قننتها بقوانين، ثم قال ولكن أنا لا أمتلك تفسيراً، أدهشه هذا القانون العجيب الذي انتهى إليه طبعاً لهذه الظاهرة وقال لا أمتلك تفسيراً، لماذا الأمور تجري على هذا النحو؟وهذا عجيب، ولماذا هي على هذا النحو وتتناسب طردياً مع الكُتلة وعكسياً مع مُربَّع المسافة؟ قال لا أفهم لماذا، يُوجَد شيئ موضوع على هذا النحو، وطبعاً كون نيوتن Newton يتساءل فهذا التساؤل له دلالة فلسفية ولاهوتية عظيمة جداً التفت إليها الفيلسوف البريطاني المُتأمرِك ألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead وهو مُعاصِر راسل Russell والذي كتب معه الـ Principia Mathematica، التفت وكتب في كتابه عصر التحليل يقول إن نيوتن Newton باعترافه هذا يُشير إلى حقيقة ضخمة أو هائلة أو كبيرة أو عظيمة، ما هي؟ أن هذا الكون ليس عالماً من موات، الأموات لا تحمل أهدافاً، وبالتالي لا يُطلَب لها تفسير، أليس كذلك؟ لكن حين تُوجَد أهداف مُعيَّنة وغايات وتقوم ضرورة التفسير وطلب التفسير فهذا يعني أننا بإزاء عالم حي وعاقل، وانتهى وايتهيد Whitehead إلى ضرورة أن يكون هناك خالق مُبدِع حكيم وعاقل بتعبيرهم طبعاً، نحن نقول حكيم لا إله إلا هو، هو الذي أودع هذه القوانين وهو الذي شغَّلها، هو الذي ضبطها هذا الضبط، ولو كان كل الكون مُغلَقاً وكان مُكتفياً بالمادة وكان عالماً من المادة ومن الموات فالأموات لا يحملون أهدافاً. يقول وايتهيد Whitehead.

أتُبدِع الكون كعقدٍ نظيم                       وتُودِع الذر نظام السديم

طبيعةٌ عمياء في ذاتها؟                         إنما المُبدِعٌ رب عظيم.

الطبيعة لا تستطيع أن تُقنِّن نفسها، هذا هو، فمُجرَّد التساؤل عن الهدف وُمجرَّد طلب التفسير له دلالة – كما قلت – هائلة في ميدان اللاهوت وميدان الفلسفة أيضاً.

نعود إلى موضوعنا، الآن لدينا موضوع الاتصاف، إذن فهمنا موضوع العروض، أي النشوء والانوجاد، ماذا عن الاتصاف؟ هل يُمكِن أن نقول – هذا قول – النار هي سبب الاحتراق؟ طبعاً، ونحن نقول هذا ونفعله دائماً، ولذلك الاتصاف يأتي خارجياً، عروض هذه المفاهيم الفلسفية في الذهن والاتصاف خارجي، هذا سبب هذا، الرياح سبب تحرّك السحاب، السحاب حامل الأمطار، نزول الأمطار سبب بقلان البقل وخروج النبات، فهذا جائز دون أي مُشكِلة فلسفياً، فنقول العروض ذهني والاتصاف خارجي، هذه لمحة سريعة عن المفاهيم الكُلية وعن أقسامها وعن موقف الاسميين وموقف العقليين وهي مُهِمة لمَن يدرس الفلسفة حتى يكون على بينة من أمر هذه المسائل.

نأتي الآن ونُكمِل الجُزء الخاص بالأنطولوجيا Ontology بشيئين كما أعتقد، الشيئ الأول أن نتعرَّض لخصوم الميتافيزيقا وخصوم الأنطولوجيا Ontology، وبعد ذلك ربما أيضاً نضرب مثلاً على مسائل الأنطولوجيا Ontology، وهو مثل آخر غير الذي ضربته، ذاك من مسائل الأنطولوجيا Ontology لكن هذا مثل آخر نختم به ثم ندخل إلى نظرية المعرفة إن شاء الله تعالى، طبعاً خصوم الميتافيزيقا أقدمهم على الإطلاق هم مُنكِرو الحقائق، الذين أنكروا الحقائق، وإنكار الوصول إلى الحقائق لابد أن يكونوا خصوم كل فكر وكل معرفة، ومن ضمنها المعرفة الميتافيزيقية، السفسطائيون مثلاً، إذن أول خصوم للميتافيزيقا هم السفسطائيون، ولذلك لا جرم كان أكبر خصوم السفساطئيين سقراط Socrates وأفلاطون Plato وأرسطو، وقد تحدوهم، أيضاً الشكّاك – أصحاب مذهب الشك أو أصالة الشك – شكَّلوا خصوماً للميتافيزيقا أو للأنطولوجيا Ontology، لماذا؟ لأن الشكّاك – اليوم سأتكلَّم عن الشك ومذهب الشك بتفصيل أكثر في أول نظرية المعرفة إن شاء الله – عموماً يعتمدون في الصيغة المُبسَّطة للشك على الأقل تعليق الحكم، أي Suspension of judgment، يقول لك أنا لا أقدر على أن أعرف، لا أعرف هل هو مُمكِن أو غير مُمكِن، لا أعرف هل هو صحيح أو غير صحيح، أي أنه يُعلِّق، طبعاً الذي يُعلِّق الحكم مُستحيل أن يُؤمِن بنظام كامل في المعرفة اسمه الأنطولوجيا Ontology أو الميتافيزيقا، يقول لك لا أعرف، فهذا يُشكِّل خصماً، أما الشاكون الذي ينفون والذي يُنكِرون – طبعاً هؤلاء يُنكِرون المعرفة من أساسها – هم أيضاً خصوم.

لدينا العصور الوسطى، في العصور الوسطى الإسلامية قام هناك خصوم للميتافيزيقا في رأسهم ابن حزم رحمة الله عليه، كان خصماً عنيداً للميتافيزيقا، وأيضاً الإمام أبو المعالي الجويني، عبد الملك إمام الحرمين وشيخ حُجة الإسلام الغزالي، طبعاً هو ليس فيلسوفاً بل هو مُتكلِّمٌ عظيم جداً وهو من أذكياء الدنيا والبشر، له كتب مُوسَّعة مُمتازة ومُحكَمة في علم العقائد بالطريقة الأشعرية أشهرها الشامل، هذا الرجل عارض الميتافيزيقا اليونانية، عارضها في أكثر مسائلها، تأثَّر به وبغيره أشهر مُعارِضي الميتافيزيقا أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، طبعاً هو تساءل وقال بالنسبة للجانب الرياضي والهندسي ليس عندنا معه مُشكِلة، وقال بالنسبة للفلسفة الطبيعية – الطبيعيات – فيها حق وفيها باطل وهذه مسألة تجريبية ليس عندنا مُشكِلة فيها، قال المُشكِلة أين؟ في الإلهيات، يعني الميتافيزيقا بالمعنى الأخص، قال المُشكِلة في الإلهيات وكفَّر الفلاسفة المشائيين في المسائل المعروفة عنهم والتي فصَّلها في كتابه تهافت الفلاسفة، طبعاً أبو حامد في نهاية المطاف – كما قلت أمس ربما – هو فيلسوف، وهنا ينتصر أرسطو Aristotle مرة ثانية، أنت حين تُهاجِم الفلسفة ترى أنك مُنخرِط فيها وأنك فيلسوف بمعنى ما، فحين تذهب تُهاجِم الفلسفة تجد نفسك تتفلسف كما قال أرسطو Aristotle، أبو حامد إلى اليوم العالم كله صنَّفه فيلسوفاً، يُقال أنه من كبار الفلاسفة الإسلاميين، كأنه قال أنا يا جماعة كنت ضد الفلسفة لكن قيل له أنت فيلسوف، ولذلك صدق أبو بكر بن العربي – رحمة الله عليه – المالكي، ليس مُحي الدين الصوفي وإنما أبو بكر العربي المالكي صاحب قانون التأويل و صاحب العارضة وإلى آخره، أبو بكر بن العربي ماذا قال؟ كان شيخنا أبو حامد يقول لقد دخلت في بطون الفلاسفة ولم أستطع الخروج منهم، هو اعترف بهذا، الفلسفة تُؤثِّر على الإنسان وعندنا سحر خاص حقيقةً، طبعاً الفلسفة اليوم حتى في عصرنا هذا – وهذا جميل ولا بأس لكن ليست هذه الفلسفة الميتافيزيقية – تُستخدَم كثيراً جداً، يُقال لك – مثلاً – فلسفة الاقتصاد، أليس كذلك؟ جلال أمين عنده كتاب أنا نصحت به، وهو مُمتاز اسمه فلسفة علم الاقتصاد، من أجمل ما تقرأ، يذكر فيه تحيزات علم الاقتصاد والأحكام المُسبَقة والمُتحيِّزة، وعلى كل حال يُقال فلسفة الاقتصاد وكذلك فلسفة السياسة – وهو علم برأسه – وفلسفة القانون – هناك كتب كثيرة في فلسفة القانون – وفلسفة الدين – وفلسفة الدين أصبح فن برأسه ونحن نتوه في فلسفة الدين – وإلى آخره، لكن ما معنى فلسفة الدين وفلسفة السياسة وفلسفة التاريخ؟ شبنجلر Spengler وتوينبي Toynbee وسوروكين Sorokin وهرنشو Hearnshaw هؤلاء الجماعة عندهم كتباً في فلسفة التاريخ، ما معنى هذا؟ المقصود هنا ليست الفلسفة الأنطولوجية أو الميتافيزيقة وما إلى ذلك، وإنما المقصود الرؤية العامة، لماذا؟ لأنهم أدركوا في النهاية هذا، حين تقول لي فلسفتي في الحياة كذا وكذا تكون هذه هي، أي الخُطة العامة التي تنطلق منها أو الناظم الذي ينظم أفكارك وسلوكاتك وخياراتك، ولذلك تقول فلسفتي، أحياناً نستخدمها في بعض المرات بمعنى أكثر خصوصياً، فيقول أحدنا – مثلاً – ما فلسفة الموقف الخاص به؟ أمريكا – مثلاً – اتخذت موقفاً عن كذا وكذا فما فلسفة الموقف السياسي هذا؟ هذه فلسفة موقف، وأحياناً تكون فلسفة حياة كاملة، أي Weltanschauung، هذا يجوز وهذه هي الرؤية العامة، هل هذا يصح أن يُسمى فلسفة؟ بمعنى ما يصح، لماذا؟ لأن الفلسفة في جوهرها – وقد تُلاحِظون أنني تعمَّدت ألا أُعرِّف الفلسفة، أنا لم أُعرِّفها إلى الآن، أنا عرَّفتها تعريفاً لفظياً فقط، بعد أن ننتهي سنرجع ونقول ما هو تعريف الفلسفة بعد أن نكون فهمنا الفلسفة ورأيناها وتمرَّسنا بها قليلاً على الأقل في ثمانية عشر ساعة – بمعنى من المعاني فعلاً هي تفكير نسقي يُحاوِل أن ينظم أشياء كثيرة مُتفرِّقة وُمتباعِدة بناظم واحد، هذه هي الفلسفة، مَن لم يكن كذلك ليس فيلسوفاً، حين تجد إنساناً – مثلاً نفترض – يُلقي مُحاضَرة أو يُؤلِّف كتاباً في سمطٍ واحدٍ فعلاً يُقرِّب بل يصنع مزيجاً مُتناسِقاً جميلاً من مفاهيم دينية واقتصادية وقانونية وأدبية تقول هذا فيلسوف، هذا الرجل فيلسوف يا أخي، يُفكِّر بعقلية فلسفية، أين الفلسفة هنا وهو لم يتطرَّق إلى المسائل الفلسفية التقليدية؟ في هذه العقلية الناظمة وفي هذه العقلية المُوحَّدة، وهذا معنى فلسفتي في الحياة وفلسفة الموقف وفلسفة القانون وإلى آخره، أي الناظم أو الروح العامة السارية في هذا الشيئ يُمكِن أن تُفسِّر أشياء كثيرة مُتخالِفة، فأبو حامد الغزالي – رحمة الله تعالى عليه – أصبح فيلسوفاً على الرغم منه، ابن تيمية طبعاً ليس من أعداء الميتافيزيقا فقط بل ومن أعداء المنطق أيضاً وألَّف كتابين مشهورين وأصاب في أشياء كثيرة فينقده للمنطق، لكنه أيضاً كان ضد الفلسفة الميتافيزيقية، ابن تيمية وأتباعه من المُفكِّرين الكبار كانوا كذلك، فخر الدين الرازي لم يكن مُتعاطِفاً مع قضايا كثيرة في الفلسفة المشائية، كان مُتكلِّماً كبيراً وكان فيلسوفاً، فخر الدين الرازي فيلسوف حقيقةً لكن هو مُتكلِّم، وهو مُتكلِّم أشعري وإن خالف الأشاعرة أيضاً في مسائل غير يسيرة لكنه خالف الفلاسفة أيضاً في مسائل عديدة وانتصر للمُتكلِّمين وخياراتهم، مَن أيضاً في العصر الوسيط؟ المُهِم أن في العصر الوسيط الأوروبي لا يُوجَد أحد كان ضد الميتافيزيقا، وهذا غريب، لا يُوجَد ولا نستطيع أن نقع على فيلسوف واحد كان ضد الميتافيزيقا، هل تعرفون لماذا؟ بسبب الكنيسة، تُقطَع رأسه مُباشَرةً، يُخوزَق على خازوق أو يُحرَق في النار وما إلى ذلك، ولذلك لو وُجِدَ أحد تهجس نفسه بمُعاداة الميتافيزيقا فقد انطوى أو طوى أضالعه على ذلك حتى مات، ديكارت Descartes نفسه كان عنده بعض العلاقات مع الساسة ومع بعض الملوك ووضعه جميل ومع ذلك عاش في خوف ومات في خوف وأطلق عبارته الشهيرة عاش مَن بقيَ في الظل، كأنه يقول لنفسه كُن بعيداً، ما علاقتي بهذه المشاكل؟ وحين ذهب يتفلسف قال لهم بالعكس أنا مع الدين من الأول وأنا مع الله – ولك أن تتصوَّر هذا – ومع الرب الكبير والله هو البداية وهو النهاية وهو ضمان حتى صدق التفكير وصدق الحقيقة، قال لهم أنا مع الله فلا تخافوا مني، لأنهم قد يقطعوا رأسه، جوردانو برونو Giordano Bruno المسكين وذلك في عام ألف وستمائة بعد أن سجنوه، وهو عالم كبير وفيلسوف أيضاً، وكان عالماً في الفلك ومات في سن الأربع والأربعين تقريباً، أي أنه كان شاباً، قال لهم تُوجَد إمكانية لتعدد العوالم، وأنكساغوراس Anaxagoras قال هذا، أليس كذلك؟ وهو قال بنفس الشيئ، قال هناك عوالم أُخرى ويُمكِن أن تكون فيها حيوات، قالوا له وكيف الخلاص والكفّارة؟ هل لا يُوجَد مسيح ولا يُوجَد صليب؟ طبعاً أنت زنديق كافر، وهو لم يكن يُفكِّر بهذه العقلية، لم يُفكِّر لا في المسيح ولا في الصليب، قالوا هذا الكون كله كون الرب وابن الرب، أليس كذلك؟ والرب بعث ابنه الوحيد وضحى به وسفك دمه وبعد ذلك تقول لي يُوجَد تعدد عوالم، انظروا إلى هذه العقلية الجامدة، ولذلك عندههم الحق أن يكرهوا الدين في أوروبا وما إلى ذلك، ما هذا الدين الذي هو ضد العلم وضد الفلسفة وضد الفكر وضد أي شيئ يا أخي؟ ويُقال لك الإسلام ضد العلم، لكن بالعكس الإسلام ليس كذلك، والله لا تجد حتى نظرية فلسفية علمية لطيفة إلا يُمكِن أن تستأنس لها بشيئ في القرآن يا أخي، تعدد العوالم الذي بسببه حُرِقَ جوردانو برونو Giordano Bruno في القرآن بشكل واضح، قال الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، تفضَّل هذا أول شيئ، قال الله رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، فالله قال لك تُوجَد عوالم، لم يقل حتى عوالم وإنما قال عالمين، أي جمعها جمع ما يعقل، أليس كذلك؟ هذا اسمه جمع مُذكَّر سالم، جمع ما يعقل “عالمون”، وقال لك هذا مُلحَق بجمع المُذكَّر لكنه جمع مُذكَّر، في النحو يُقال لك هذا مُلحَق بجمع المُذكَّر، لكن لماذا هو ليس عوالم؟ لماذا قال عالمون؟ لكي يقول لك كلٌ عنده إدراك ولعل تكون هناك مخلوقات مُكلَّفة بشرع آخر لكن عندها إدراك وعندها إحساس بدورها الوجودي وعندها ارتباط بخالقها لا إله إلا هو، كما قال الله لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، وكما قال أيضاً وَإِنَّ مِنْهَا – من الحجارة – لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ ۩، أليس كذلك؟ بالعكس القرآن يقول هذا بشكل واضح عن تعدد العوالم، قال الله اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ۩، تفضَّل, هذه آية مُخيفة، يقول الله وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ۩، قال الله سبع أراضين، سبع سماوات وسبع أراضين، ابن عباس يقول هذه الآية لو أخبرتكم بتفسيري أو بفهمي فيها لرجمتموني، أي سوف تقولون هذا زنديق أوهذا كفر، هذه الآية تُخوِّف، فيها شيئ غير معقول، وابن عباس بعد ذلك أخبر وقال لأنه يتأثَّم من كتم العلم – أي شعر بالإثم – بالحديث رواه أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن أبي الضُحى – التابعي الجليل – عن ابن عباس، وقال البيهقي سنده صحيح ولكن شاذٌ بمرة، أي قال شاذ بالمرة، قال المتن شاذ وغير معقول، لكن هذا المتن معقول، ابن عباس صح عنه هذا الكلام واليوم العلم يقول متنه معقول ومعقول ومعقول، قال سبع أراضين في كل أرض آدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم ومحمد كمحمد وابن عباس كابن عباسكم، إذن قال سبعة، فالبيهقي رواه بسنده وقال سند صحيح لكنه شاذٌ بمرة، هذا هو ديننا، لو المسكين برونو Bruno سمع هذا الحديث لقال لهم تفضَّلوا، انظروا إلى المُسلِمين المُتنوِّرين الذين يقولون سبعة وأنتم تُنكِرون علىّ وذبحتموني، هذا الدين والحمد لله، وفي كل المسائل – والله – هو كذلك، والله لا تُوجَد مسألة تسببت في مشاكل عندهم إلا كانت عندنا محلولة وكانت من أبسط ما يكون، قال الله وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا – أليس كذلك؟ لم يقل فيها وإنما قال فِيهِمَا ۩ – مِن دَابَّةٍ ۚ ۩، قد يقول لي أحدكم المقصود الملائكة، وهذا غير صحيح، كيف تقول الملائكة؟ هل العربية تسمح لك أن تُسمى الملائكة دواباً؟ أصلاً هي كائنات طيّارة لا تُسمى دواباً، قال الله دواب، قال الله وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ۩، إذن قال الله وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ۩ فانتبهوا، أي جمع هذا؟ هذا هو، سوف تلتقي هذه الكائنات – بعون الله تعالى – والبحث عن حيوات عاقلة خارج الأرض سوف يُثمِر ولو بعد عشرة آلاف سنة، وسوف نلتقي بهذه المخلوقات، وقال الله إِذَا يَشَاءُ ۩ ولم يقل إن يشاء، لو قال إن يشاء فهذا سوف يعني أن هذا قد يحدث وقد لا يحدث، انتبهوا إلى أن هذا هو الفرق بين إن وإذا، إن تجزم الفعل المُضارِع، أليس كذلك؟ لكن لا تجزم في المعنى طبعاً، قال الله إن يشأ الله – مثلاً – يُعطي كذا، فيُمكِن ألا يشاء، فهي تجزم إعراباً ولا تجزم في المعنى، فهي عكس إذا، إذا لا تجزم، قال الله إِذَا يَشَاءُ ۩ وليس إذا يشأ، مثل إن يشأ، وإنما قال إِذَا يَشَاءُ ۩، فهي لا تجزم إعرابياً، وهي جزمٌ في المعنى، لا تقل إن طلعت الشمس أتيتك، هذا خطأ، قل إذا طلعت الشمس، لأنها حتماً سوف تطلع، لا تقل إن طلعت الشمس، لا معنى لأن تقول إن طلعت الشمس، لأنها حتماً سوف تطلع، قل إذا طلعت الشمس أتيتك، المُهِم هذا هو القرآن، فنرجع إلى هؤلاء الجماعة مرة أُخرى، لم يقدروا في العصور الوسطى الاوروبية على أن يُصرِّحوا بمُعاداة الميتافيزيقا، هذا مُستحيل، وهنا قد يقول لي أحدكم ليست كل الميتافيزيقا تتحدَّث عن رب العالمين، فهي ليست كلها عن الإلهيات بالمعنى الأخص، تُوجَد إلهيات بالمعنى الأعم، مثل مواضيع الوجود والماهية والوحدة والكثرة والعلية وإلى آخره، هذه كلها مسائل ومفاهيم فلسفية، وهذا صحيح لكن الكنيسة قالت أنا تبنيتها، أنا تبنيت ميتافيزيقا أرسطو Aristotle وأي أحد يُعارِضني يُقتَل، طبعاً هي حتى تبنت طباً مُعيَّناً وجغرافيا مُعيَّنة وسموها الجغرافيا الكنسية وأي أحد يُخالِف فيها يُقتَل، عندهم في الجغرافيا أن الجهة الأُخرى من الأرض خالية، أرض يباب لا يُوجَد فيها أحد، وسموها الـ Antipode، الـ Antipode هي الجهة الثانية، وحين جاءوا وقالوا لا فلعل في الـ Antipode سكّان قيل لهم لقد كفرتم، ومَن يقول هذا سوف يُقتَل، لأن المسيح لم يذهب هناك، لم يبلغنا أن المسيح ذهب إلى الـ Antipode، وهذا يعني أنك تكفر بالرب، شيئ من الجنون، وفعلاً قُتِل أناس من أجل إنكارهم خلو الـ Antipode من السكّان، قالوا يُوجَد أُناس، واتضح بعد ذلك أنها أرض مهولة، على كل حال فهؤلاء خصوم الميتافيزيقا في العصور الوسطى، مَن هم؟ فقط الإسلاميون، أما أوروبا ليس فيها أي خصوم في العصور الوسطى.

في العصور الحديثة خصوم الميتافيزيقا كثيرون، فولتير Voltaire كان يقول إذا رأيت رجلين يتجادلان ولا يفهم أحدهما عن الآخر شيئاً – لا هذا فاهم ولا ذاك فاهم، مثل حوار الطرشان كما يقولون – فاعلم أنهما يتجادلان في الميتافيزيقا، قال هذه مسألة صعبة وغير مفهومة، هم لا يفهمانها أصلاً ومع ذلك يُؤمِنان بها، تُوجَد عبارة أروع منها لويليام جيمس William James، وقد تحدَّثنا عنه أمس في حديثنا عن البراجماتية، ويليام جيمس William James ماذا قال؟ قال الفيلسوف الميتافيزيقي مثله مثل رجل أعمى – لا يرى – دخل إلى غُرفة مُظلِمة في ليلة ظلماء يبحث عن قطة سوداء ولعلها غير موجودة، قال هذه الميتافيزيقا، وطبعاً هذه سخافة، الذين يدرس الميتافيزيقا ويرى براهينها وقوتها يعلم أن هذه سخافة، واليوم سوف أُعطيكم مثالاً واحداً عن أصالة الوجود والماهية، وسوف نُثبِت أن الأصالة للوجود وليست للماهية، وسوف نرى كيف يكون التفكير الميتافيزيقي، هذا هو التفكير الميتافيزيقي والأنطولوجي، وسوف نرى الدقة والذكاء – شيئ عجيب – عند هؤلاء الفلاسفة، يُقال قطعة عمياء وسوداء ورجل أعمى إلى آخر هذا الكلام، طبعاً العلميون أو العلمويون الذين يرون أن مصدر المعرفة هو العلم وحده فقط وهو العلم التجريبي طبعاً أنكروا الميتافيزيقا، الوضعيون بدءاً من أوجست كونت Auguste Comte وانتهاءً بالوضعيين المناطقة أيضاً كل هؤلاء من عند آخرهم أنكروا الميتافيزيقا، الفرق بين منطق الوضعيين وبين منطق الوضعيين المناطقة أن الوضعيين يقولون القضايا الميتافيزيقية نعم يُمكِن أن تكون قضايا واقتراحات – Propositions – ليست فارغة من المعنى – يُوجَد لها معنى – لكنها غير مُجدية في الحياة وغير نافعة، لماذا نُضيِّع فيها أوقاتنا ونكد فيها عقولنا وأدمغتنا؟ أما الوضعيون المناطقة ولنا الآن بعد قليل – بعد دقيقة ربما – وقفة مُسهَبة إلى حدٍ ما معهم نُناقِشهم فيها الحساب قالوا القضايا الميتافيزيقية أصلاً من أصلها ليست قضايا، هي كلام فارغ، تركيبات لغوية لكن ليس لها أي معنى من الأصل أصلاً، وهذا عجيب وهو موقف مُتطرِّف، أكثر المواقف تطرفاً في نقد الميتافيزيقا موقف الوضعية المنطقية.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: