فمَن يفقه الجواب فقط هو مَن يطرح السؤال، لكن يُمكِن نحن أن نستمع إلى الجواب وأن نفهمهه دون أن نفقهه إلا بعد أن نُعاني ما عانى السائل، هذا السائل يُعاني من عشرين سنة!

فنرجع ونقول أيها الإخوة إن هؤلاء انحرفوا فعلاً بالطاوية عن طريقها التقليدية – الطريق المُؤسِّس – وجعلوها ضرباً من تعاطي الوصفات السحرية للأشياء التي ذكرناها وسر الخلود وصد العفاريت والجان، ولذلك الآن إذا دخلتم بيوتهم – هناك بضعة ملايين بيت للطاويين في الصين مثلاً – فسوف تجدون أن بيوتهم عجيبة، كيف؟ طبعاً بعض الغربيين لم يلتقط سر هذه المسألة، فهمها جُزئياً فهماً صحيحاً لكنه في النهاية خاطئ، للأسف منهم سميث Smith مع أنه عميق جداً جداً، هنا رأيت أنه فشل، قال هؤلاء مُندمِجون في الطبيعة، يُؤمِنون بمبدأ وحدة الطبيعة Unity of nature، ولذلك هم بيوتهم ومعابدهم حريصون جداً على موضعتها وموقعتها بشكل يعكس انتماءها الطبيعي البيئي كما هو، كيف؟ في الغرب هنا – مثلاً – لكي يُقيم بيتاً أو بيوتاً أو مُجمَعاً سكنياً لابد أن يجتث الغابة – مثلاً – أو جُزءاً من الغابة، لابد أن يجتث جُزءاً من الجبل، لابد أن يُشوِّه البيئة، ويقوم بعمل مساحة مُستطرِقة ومُسطَّحة وبعد ذلك يبدأ يُهندِس، لكن الفكر الصيني لا يُؤمِن بهذا، بالعكس حين تبني معبدك أو بيتك افعل ذلك في الطبيعة كما هي دون أن تجور عليها، دون أن تُقلِّم أظفارها، فليكن البيت – مثلاً – في حضن الجبل، انتهى! هذا مُمتاز وجميل، ليكن في قُنة الجبل أو الهضبة، ليكن – مثلاً – بين أعطاف أشجار كثيفة في دُغل، في إبط الغابة، اتركه كما هو، ليكن من خلف الشُجيرات المُتكاثِفة كالدردار مثلاً، شجرة الدردار الضخمة هو من خلفها وهي تُغطيه، لا بأس!

هذا ما فهمه هؤلاء، وفهم هو – كما قلنا – صحيح نسبياً، لكن الطاويون الذين انحرفوا بالطاوية عن أساسها التقليدي لا يفعلون هذا لأجل هذا المعنى، ومعنى جميل هذا المعنى، لكنهم لا يفعلون هذا من أجله، يفعلونه لأجل شيئ ثانس، لاعتقادهم بالأراوح الشريرة والشياطين النجسة، ولذلك ترى بيوتهم من الصعب أن يُخلَص إليها بطريق مُباشِرة، لا! وإنما هي طرق مُتعرِّجة ودروب، بعد ذلك يجبهك جدار – مثلاً – مسدود، فتضطر أن تنعطف على اليمين مرة أُخرى ثم تنحدر إلى أسفل، ليجبهك جدار آخر في الجهة القبلية، وهكذا! بعد ذلك تنفذ إلى حُجرة، وهكذا! شيئ مُحيِّر، لماذا؟ مثل المتاهة Labyrinth، لماذا؟ قالوا لأن الشياطين حين تصطدم بجدار أو بشيئ تسقط فتموت، فنحن بهذه الطريقة نُنهيها، ولا يستطيع أن يخلص إلى بيتنا إلا بعد أن يدخل في هذه المداخل!

كل هذه أفكار فارغة لم يُؤمِن بها لاوتسو Lao-Tzu، لم يدع إليها ولم يُشرعِن لها أصلاً بأي طريقة من الطرق، لكن هم آمنوا بها، ولم يعبد هو شيئاً واضحاً، فقط هو أجل وقدَّس هذا الطاو Tao باللُغة التي حكاها أو حكينا عنها، هم عبدوا تقريباً كل شيئ، أصبحوا مثل بعض الديانات الهندية، عبدوا الفئران، عبدوا الغيلان، ولا يُوجَد غول لكن هم اعتدوا بالغول فعبدوا الغيلان، عبدوا بنات آوى، الثعالب! عبدوا الثعابين، وعبدوا لاوتسو Lao-Tzu نفسه، وهو لم يدّع في حياته أصلاً أنه نبي فضلاً عن أن يدّعي أنه إله من الآلهة أبداً، لكن هم عبدوا لاوتسو Lao-Tzu وعبدوا معه بعض الربات الأُخرى التي لم يكن لها وجود، إناث! كل هذا انحراف حقيقي، وهذا الانحراف – انظروا – مَن المسؤول عنه؟ مُؤسَّسة دينية، هذا خطر الدين حين يتحوَّل إلى كهنوت ومُؤسَّسات – تخيَّل – دائماً، لأن هناك منافع، وهناك مَن يكتب الأحجبة والتعاليق، وهناك مَن يطرد العفاريت ويستجلب الأرواح الطيبة، وهناك مَن يُحصِّن البيوت والأرواح والحمل وإلى آخره، هو هذا رجل الدين، أين يدخل على الموضوع – موضوع مُؤسَّسات دينية رسمية – يفسد الدين أو الفلسفة، ضروري يتم – كما أقول أنا – تدكينها، يُحوِّلها إلى دكاكين – Geschäfte – وتجارة وأعمال Business، هذا الذي حصل في الطاوية الشعبية المعروفة بالطاوية الدينية أو الكهنوتية بمُؤسَّساتها المُختلِفة، انحرافات شديدة جداً جداً جداً وقصص وأساطير وألغاز عجيبة غريبة جداً جداً وهي خُرافية عن الشياطين هذه ساكنة الجبال، منها مَن يسكن الجبال قالوا، وكلما ارتفع الجبل وكان جرمه أضخم وحجمه أكبر كلما كانت الروح الشريرة الساكنة فيه ألعن وأشد خُبثاً ومكراً وسُميةً، ثم تحدَّثوا عن أحد السحرة – أحد الشمانات والكهنة الخاص بهم – وكيف جلس مرة وبعد ذلك لاح له سبعة من العمالقة الضخام جداً، هو رآهم عمالقة! أشكالهم شبه عادية لكنهم كانوا عمالقة ومُخيفين جداً، ثم شرعوا في لعب النرد – أي القمار – وكان معه المرآة السحرية، فاستخرجها ونظر، سلَّطها عليهم هكذا ويا لهول ما رآه، رأى سبعة كلاب ضخمة مُخيفة جداً جداً جداً، هذه صورتهم الحقيقية، فتركها ثم قام واستل نصله واقترب منهم، جعل يدور بهم ثم طعن واحداً منهم فذُعِر، وفر البقية وسقط هذا، والتفت إليه مذعوراً ليجده هل هو العملاق أم الكلب؟ فوجد كلباً هائل الجُثة قد سقط ميتاً!

خُرافات وأقاصيص يشحذوا بها خيال الناس ويُغذوا بها مشاعر الخوف والرهبة والفزع من أشياء كلها خُرافية فارغة، ليس لها وجود، هذا عكس تماماً توجهات لاوتسو Lao-Tzu في التناغم مع الحياة وقانون الطاو Tao، تماماً عكسه! هذه اسمها الطاوية الدينية، بعض الناس حاول أن يُبرِّر لها فقال هذا لماذا؟ لأن لا يُمكِن للشعبي أو المُزارِع أو القروي العادي أن يتعاطى مع الطاوية التأملية ولا حتى الطاويات الإحيائية، فهي تحتاج إلى فائض وقت وتحتاج إلى تقنيات واستراتيجيات مُعقَّدة جداً، وهذه السلعة لا يمتلكها الإنسان العادي، ليس عنده هذه السلعة، ولذلك ضرورة أن تتحوَّل هذه الفلسفة إلى نوع من الدين المُؤسَّس بمُؤسَّسات لكي تُلبي رغبات الناس، الناس عندها مخاوف والناس عندها رجاءات، الناس يُصيبها الجفاف، أليس كذلك؟ فلا تسقط الأمطار، فتُريد مَن يستمطر هذه الأمطار، إذن دخلنا في الديني التقليدي بهذا المعنى، ليس دين الفلسفة هذا، الناس – مثلاً – تخاف من الفيضانات، تُريد مَن يصد عنها خطر الفيضانات ويحميها من الطوفانات، الناس تخاف من الرياح العازفة الزاعقة – مثلاً – والمُدمِّرة أحياناً، الناس… الناس… الناس… قالوا ضروري أن تتحوَّل هذه الفلسفة إلى نوع من الدين المُؤسَّس، ولذلك الطاوية الجماهيرية أو الشعبية هذه الدينية الكهنوتية جعلت الطاو Tao مُمكِناً وبيد حتى القراويين البُسطاء، وأنا أقول هذا غير صحيح، هذا ليس الطاو Tao، جعلت شيئاً مُبتدِعاً حادثاً بيد الناس، وليس بيد الناس حتى، في الحقيقة بيد المُؤسَّسات لاستغلال الناس وامتصاص عرقهم.

ولذلك طبعاً صار من كهنة هؤلاء المُتدينيين الطاويين مَن يُعطيك وصفات لإطالة العمر والتغلب على الأرواح الشريرة وطردها من البيت ومن المحلة وربما من القرية كلها لقاء نفحات هكذا من الأرز مثلاً، استغلال هذا، وهذا كلام فارغ كله، غير صحيح! الطاوية الحقيقية تبرأ من هذا تماماً، لكن هذه الطاوية الكهنوتية هي الأكثر تنظيماً، ومعروف لماذا ضرورة التنظيم، لأن هناك نزاعاً سوف يحدث، أليس كذلك؟ على هيراركية المراتب وعلى الدخل والخرج، لابد من التنظيم، وهذا التنظيم دقيق جداً جداً، فهي الوحيدة المُنظَّمة، الطاوية الفلسفية والطاويات الإحيائية تفتقر إلى التنظيم، أقل بكثير تنظيماً من الطاوية الدينية!

نأتي الآن إلى الطاوية الإحيائية أو الطاويات الإحيائية، لأن الكلام أيضاً سوف يكون فيها مُعجَلاً قصيراً، وبعد ذلك سوف نتفرَّغ – إن شاء الله – إلى الطاوية الفلسفية، الكلام سوف يكون فيها أطول، بالنسبة إلى الطاويات الإحيائية كما قلنا هذه الطاويات الإحيائية أرادت أن تهتم بالإنسان الشخص، الشخص الذي من لحم ودم، مُهِم قالوا هذا، وطبعاً هو مُهِم، الشخص عموماً والفرد – Individual – هذا مُهِم في الطاوية، رقم واحد، الأولوية للإنسان عندهم، لكنهم يُريدون أن يهتموا به بمعناه القريب العياني، أي الذي من لحم ودم، قالوا سوف نهتم أيضاً بهذا، سوف نرى هذا! هنا تكون أقرب إلى الطاوية الكهنوتية قليلاً، نهتم بالجانب الإكسيري، العمر والصحة والعافية، تهتم بهذه الأشياء الطاوية الإحيائية الفعّالة، القوة المُزدانة يُسمونها، ولذلك جرَّبوا أكل أشياء مُعيَّنة تعمل على أن يتدفق قوة الطيف التي اسمها التي Te عبر الإنسان – من خلال الإنسان في داخله وخارجه – بسلاسة، بحيث يكون أقرب إلى الصحة والعافية والتناغم مع الوجود كله، فجرَّبوا أكل أشياء وبالأحرى كل شيئ، ومن هنا تقريباً فكرة الشعوب الأُخرى عن الصينيين وأنهم يأكلون كل شيئ، وهذا صحيح! كل شيئ يأكلونه، الفئران والكلاب والخنازير والصراصير و و و ، لم يتركوا شيئاً، كل شيئ أكلوه! ليس لأنهم وسخون – أعني الصينيين – كما يظن البعض ويقول هو جنس وسخ، لا! هو جنس راقٍ، مُتعلِّم ومُثقَّف، ليس سهلاً لأنه عميق، هؤلاء أُناس ليسوا كما ظننا، نحن كنا نفهم غلط، هذا له أساس فلسفي وأساس ديني، هناك أساس ما، أساس مُعيَّن! قالوا هيا نُجرِّب، نُريد أن نُجرِّب، يُمكِن أكل بعض هذه الأشياء، والآن يضحك في المسجد إبراهيم لأنه سوف يقول لي بعض الناس حتى منا يظنون أشياء مثل هذه، هؤلاء موجوددون، هناك أُناس كذلك، هناك مَن يقول ربما لو أكلت – نفترض مثلاً – كبدة النسر لأعطتني قوة غير طبيعية، والعرب هكذا كانوا يُفكِّرون، والأئمة حتى ابن حزم ظنوا مثل هذا، هناك مَن قال يُمكِن أن نأكل البلاذر، البلاذر حين تأكله يجعل عندك ذكراة غير طبيعية، يحص اللحى هذا، حين تأكله ينزل شعر وجهك، يحص اللحى كما يُسمونه، يقولون حص لحيته بمعنى أضعها، يصير المسكين أقرع، حين تأكل البلاذر يحص لحيتك ويتسبَّب لك في مشاكل في الكلاوي، فالمساكين جرَّبوا أشياء كثيرة، وكل الشعوب تفعل هذا، المصريون فعلوا هذا بطريقة مُنظَّر لها ومُقنَّنة، قالوا نُريد أن نُجرِّب، وعندهم سجل كامل – علم صيدلة Pharmacology – عن كل نبتة وعن كل عُشبة وعن كل خنزير وعن كل صرصور وعن كل فأر وعن كل ثُعبان وعن ذيله ورأسه وماذا يفعل وماذا يُمكِن أن يُسبِّب، هذا هو طبعاً، وهذا أفاد البشرية إلى حد ما وطوَّر صناعات الصيدلة والشفاء – الهيلينج Healing – وما إلى ذلك، طوَّر كل هذا! فهم قالوا نُريد أن نُجرِّب كل شيئ لكي نرى ماذا يفعل.

وجرَّبوا أيضاً تقنيات غريبة جداً جداً في التعاطي مع أزواجهم ومع شركائهم – لن أذكرها لأنها أشياء مُخجِلة – لكي يروا فيما بعد قوة كيف تتدفق قوة اليانغ Yang ضد قوة اليين Yin، بمعنى أن الواحد منهم يسحب قوة اليانغ Yang من زوجته، وتُوجَد أنانية هنا، لماذا أسحبها وأترك المسكينة هكذا وهي أُنثى؟ قالوا نُريد أن نُجرِّب لكي نرى ماذا سوف يصير فيما بعد، فجرَّبوا الأشياء هذه ولم يتركوا شيئاً، هذا عبر البدن! المأكولات والمشروبات والجنس جرَّبوا أشياء تتعلَّق بها، عندهم تقنيات جديدة جداً، وهناك أشياء تمت عبر الحركة، كيف عبر الحركة؟ تمارين مثل تمارين الجُمباز – Gymnastics – لكنها تقوم على التأمل والطاعة كما يقولون، تقوم على التأمل والطاعة! استخدموها وهي دقيقة وقديمة، موجودة قبل الطاويين في الصين، أتوا بها ودعَّموها، قالوا يُمكِن أن نستفيد منها، أسموها تاي تشي تشوان Tai chi chuan، التمارين هذه اسمها تاي تشي تشوان Tai chi chuan، هذه التمارين القديمة التقليدية – قالوا – يُمكِن الاستفادة منها، بعد ذلك أدخلوا في الخط هنا الفن العسكري، أدخلوه وقالوا نُريد أن نستخدمه وأن نُعلِّمه لأبنائنا ولكهنتنا، وأدخلوا فلسفة اليين Yin واليانغ Yang، هذه سوف نرجع إليها اليوم، لكن أعتقد أن كلنا عندنا فكرة عنها ويُمكِن أن نشرحها الآن بسهولة، وطبعاً هذه الطاوية ليست مسؤولة عنها، مسؤول عنها فلسفة التغيرات، هذه قبل لاوتسو Lao-Tzu وقبل كونفوشيوس Confucius، موجودة! ويُوجَد كتاب مشهور جداً جداً قرأه طبعاً لاوتسو Lao-Tzu وقرأه كونفوشيوس Confucius، وفي الحوار تمت الإشارة إليه، فكونفوشيوس Confucius كان يعتمد عليه كثيراً وكان يحترمه، وهو كتاب التغيرات أو التحولات Transformations!

في التغيرات تُوجَد طبعاً فلسفة اليانغ Yang والين Yin كما يُسمونها، اليين المُؤنَّث Yin واليانغ Yang المُذكَّر، المُذكَّر هو الإيجابي، والآخر هو السلبي، هذا النور وهذا الظلام، هذا الفاعل وهذا المُنفعِل، هذا الخير وهذا الشر، هذا المُرسِل وهذا المُستقبِل، هذا الوجود وهذا العدم، هذا الفوق وهذا التحت، إلى آخره! قد تقول لي هذا عجيب، هل هذه اللُغة تُلخِّص لنا كل ما يُمكِن رصده من التناقضات في الوجود؟ بالضبط وتماماً، هو هذا! كل التناقضات التي نراها في الوجود تُلخَّص وفق مبدأ اليانغ Yang واليين Yin، ولذلك من الصعب أن نُترجِم اليانغ Yang واليين Yin بالمُذكَّر والمُؤنَّث، غير صحيح! أو وجود وعدم، غير صحيح! أو نور وظلام، غير صحيح! هو كل هذا، المبدأ الحاكم على كل هذه التناقضات والفاعل الذي فيها هو اليانغ Yang واليين Yin، عجيب! هل تعرفون رمزه؟ مَن عنده أي تليفون سوني أريكسون Sony Ericsson يُمكِن أن ينظر إلى الخلف، طبعاً الرمز الدقيق ليس دائرة واحدة وإنما دائرتان، هناك دائرة وبعد ذلك تُوجَد دائرة في داخلها، انتبهوا! والدائرة الكُبرى هذه مُفرَغة، ليس فيها أي شيئ، فقط خط بسيط، وبعد ذلك هناك الدائرة الأصغر منها قليلاً في الداخل، ومرسوم فيها الخط المُنحني الذي تعرفونه، بعد ذلك هذا الجُزء أسود وفي وسطه دائرة مُضيئة بيضاء، انتبهوا! مُهِمة جداً الدائرة هذه، وهذا الجُزء الثاني أبيض وفي وسطه دائرة سوداء، ما هذا الرمز؟ هو هذا، هذا في كتاب التحولات الصيني القديم وهو رمز مشهور جداً عالمياً!

نيلز بور Niels Bohr العالم الذري الكبير – أنا قرأت القصة هذه هنا في كتاب تاو الفيزياء The Tao of Physics، قرأتها في هذا الكتاب – في ألف وتسعمائة وسبع وثلاثين زار الصين، ويبدو أنه تعرَّف بسرعة على بعض أفكارهم وفلسفاتهم وأُعجِب بها جداً جداً، في ألف وتسعمائة وسبع وأربعين قُلِّد شعار النبالة: السير Sir، أعطوه لقب سير مثل إسحاق نيوتن Isaac Newton قديماً وفلان وعلان كالسير مينارد كينز Maynard Keynes في الاقتصاد وبعض الناس الكبار هؤلاء، أعطوه لقب فارس، وكان لابد من أن يختار شعاره، أي شعار نبالته كما يُسمونه، سألوه ماذا شعارك؟ فمُباشَرةً بعد تفكير يسير قال شعار نبالتي هو هذا الرمز الشهير الخاص بالتاي شي Tai chi كما يُسمونه، هو هذا الرمز المُتعلِّق بالتاي شي Tai chi، قال هذا رمز نبالتي، وسوف أكتبت تحته كلمة باللاتيني معناها التناقضات مُتمِّمات، وهذا جوهر الفلسفة الطاوية – الصينية عموماً وخاصة الطاوية – وسوف نشرحه اليوم، التناقضات مُتمِّمات، ليست مُتقابِلات، ليست مُتعادِمات، ليست مُتشاكِسات، وإنما مُتمِّمات! لأن نيلز بور Niels Bohr فلسفته الفيزيائية وميكانيكا الكم كلها تتطابق مع الفيزياء الأكثر حداثة، وهذا الكتاب يشرح هذا، هذا كتاب كامل من حوالي ثلاثمائة صفحة يحكي لك ويُترجِم لك التطابق المُذهِل والمُحيِّر والمُدهِش بين الطاويات – طبعاً هنا ليست الطاوية وحدها، حتى الزِنْ وحتى البوذية وحتى الهندوسية، كل هذا تحت عنوان الطاو Tao، طاو Tao الفيزياء – مع الفيزياء الأكثر حداثة والأكثر عصرية! النسبية وبعدها ميكانيا الكم، تشابه مُذهِل وغريب! في حين افترقت طبعاً في أشياء، أنا شخصياً حين كنت شاباً صغيراً وقرأت النسبية وبعد ذلك قرأت الكم راعني وجود تناقض رهيب بينهما وبين ما أعرفه من منطق الصوري الأرسطي الذي كنت أحترمه وأعتبرته مُؤسَّسة العقل النبيلة الجليلة المحكومة بقوانين العقل الخمسة، وجدت هذا كله ضاع مني، شيئ فظيع ومُخيف! لكن في يوم من الأيام حين كنت شاباً في يوغسلافيا تقريباً – لا أعرف تحديداً – عقدت مُحاضَرة مُوسَّعة وتطرَّقت فيها إلى مسألة فلسفة دينية وهي مسألة الآكل والمأكول التي وجدت حلها في اللامنطق الكمي هذا، لأول مرة! قلت هذا يعني أنه مُفيد، أحياناً يُعطي حتى مخرجاً من مآزق عقدية لأول مرة، أي أنني وجدت أن من المُمكِن عملياً أن يُستخدَم كمنطق جديد لفهم بعض الأشياء، ليس شرطاً المنطق الأرسطي – المنطق الثابت الجامد هذا – أن يكون هو الحقيقي والوحيد في الكون، غير صحيح! ولذلك الآن وُجِد لدينا منطق جديد، أولاً لا يُؤمِن بالحدية، يُؤمِن بالمُتصِل Continuum، يُوجَد اتصال ولا تُوجَد حدية مع أن حياتنا للأسف الشديد مُؤسَّسة على المنطق الحدي، ولذلك يُوجَد جُزء كبير جداً جداً منها ظالم!

سأعطيكم مثالاً بسيطاً ذكرته قديماً في مُحاضَرتي عن منطق ابن خلدون، لماذا يتفق – مثلاً – التربيون والتعليميون على أن مَن يحصل على خمسين في المائة يكون راسباً ومَن يحصل على نسبة واحد وخمسين يكون ناجحاً؟ لماذا النصف؟ لماذا لا تصل نسبة النجاح إلى الستين في المائة؟ لماذا لا تصل نسبة النجاح إلى الثلاثين في المائة؟ قالوا هو هذا، لابد أن نضع حداً، لابد من وضعه، هذا غير صحيح! وقالوا لو لم نضع الحد هذا لوضعنا غيره ولوقعنا في الدور، فلماذا هذا ليس هذا؟ لكن هذا غلط، المنطق كله غلط! يُمكِن ألا تكون هناك حدية، يُمكِن أن يُوجَد مُتصِل! الآن في النمسا هنا يُمارِسون هذا، ما رأيكم؟ ليس شرطاً أن ترسب لأنك حصلت على أربعة أو خمسة مثلاً، هذا ليس شرطاً! يُمكِن أن تحصل على خمسة في الرياضيات – Mathematics – وتنجح، لماذا؟ ليس شرطاً أن يُعتَد بهذه الخمسة وحدها، هم يُدخِلون الخمسة هذه أو الواحد – Eines – أيضاً مع سلوك الطالب ومع جديته ومع مُواظَبته ومع أدائه لواجباته ومع احترامه للمُدرِّس ومع تفاعله في الدرس، هل يفهم الدرس أم لا؟ قد يُجاوِب في عدة مرات وهذا يعني أنه يفهم، ربما حصل له Blocking، ربما المسكين أُرْتِج عليه في الامتحان، وهذا صحيح ويحدث كثيراً، كثيراً ما حدث لنا، ويحدث أحياناً هذا للأوائل، يُرتَج على أحدهم فينسى المسكين كل شيئ مع الرهبة، لأنه يُريد أن يحصل على المركز الأول، هذا قانون! والطاو Tao بالمُناسَبة يُنبِّه على هذا القانون.

الطاو Tao يقول حين تحرص على ضرورة أن تنجح سوف ترسب، وحين تحرص على أن تكون دقيقاً جداً جداً جداً سوف تقع في العبط، وهكذا! وهذا صحيح، تخيَّل! سوف نرى الآن هذا، المُهِم أن هذا موجود، والآن بدأ الأوروبيون يُدرِكون هذا، ربما هذا بتأثير ميكانيكا الكم والفلسفة النسبية والمُتصِل – Continuum – هذا، الحياة ليست محكومة بهذه الحدية، أليس كذلك؟ لا يُمكِن! تفكيرهم تغيَّر، قالوا متى انتهت العصور الوسطى ومتى بدأت العصور الحديثة؟ كلام فارغ! لا يُمكِن تاريخياً معرفة هذا، لا يُمكِن لمُؤرِّخ فلسفة أو مُؤرِّخ تاريخ أن يُوافِق على المنطق هذا، أن هناك سنة مُعيَّنة – نفترض مثلاً أنها سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة ميلادياً أو سنة سقوط القسطنطينية مثلاً بيد المُسلِمين – انتهت فيها العصور الوسطى وبدأت الحديثة، كلام فارغ! لأن معناها أن في السنة هذه كان لابد من اختلاف الفن والأدب والأسلوب – Style – المُتبَع طبعاً في الفن والأدب والعمارة والنحت والدين وإلى آخره، لكن لم يختلف أي شيئ، غير صحيح! ولكي يختلف أسلوب – Style – مُعيَّن ربما تحتاج أحياناً إلى سبعين سنة أو مائة سنة أو مائتي سنة، ليس سنة واحدة! ما هذا المنطق الغبي في تحديد الأشياء؟ قالوا نحن منطقنا هذا، لابد أن نُحقِّب، هذا اسمه التحقيب التاريخي، لابد أن نُحقِّب وأن نقول هناك عصور قديمة وعصور وسطى وعصور حديثة فضلاً عن المُعاصِرة Contemporary، إلى آخره! هذا لازم، لماذا هو لازم؟ لأن منطقهم منطق أرسطي ثابت جامد، أرأيتم؟ 

الفلسفة الصينية كلها والفكر الصيني يكفر بكل العبط هذا، يقول لا، هذا غير صحيح! ولذلك انظر إلى نيلز بور Niels Bohr الذي قال أنا أختار التاي شي Tai chi وأختار عبارة بسيطة جداً رمزية أقول عنها باللاتيني التناقضات مُتمِّمات، هذه الفلسفة الصينية وهذا نيلز بور Niels Bohr!

برتراند راسل Bertrand Russell زار الصين، هو زارها طبعاً وكان مثل الهارب سياسياً، اتُهِم بالخيانة طبعاً من بلده في إنجلترا لأنه كان ضد الحرب، عارض الحرب العالمية الأولى وعارض الثانية طبعاً وعارض القنابل الذرية، اتُهِم بالخيانة وسُجِن وهو لورد Lord، أكبر لوردات Lords بريطانيا آل راسل Russell هؤلاء، جده وأبوه وآخرون، قصة كبيرة! بعد ذلك هذا ذهب إلى الصين كالهارب، لم يكن هارباً لكنه ذهب إلى الصين، يُريد أن يترك دوشة أوروبا هذه والاتهامات التي تُلاحِقه، حاضر فيها سنة وبعد ذلك كتب يقول لقد اكتشفت بعد وجودي القصير في هذه البلاد أن الجنس الأبيض – يعني أوروبا وأمريكا وما إلى ذلك، هذا الجنس الآري الأبيض – ليس بالمثابة التي كنت أحسب، ولو قد هلك هذا الجنس من عند آخره في حرب عالمية كالتي قامت – قال – لن تفنى الحضارة ولن تهلك البشرية ولن يزول العلم والثقافة، أنا كنت أظن أننا – ما شاء الله – على قدر كبير من الأهمية فإذا ضعنا ضاع كل شيئ، قال لا، اكتشفت شيئاً آخر، إن الصين شعب عظيم، ليس من جهة عدده وعديده فقط  ولا حتى من جهة ثقافته العميقة النبيلة – قال – بل من جهة عقليته، إنه الشعب الأول في نظري في العالم، الذي يتسم بهذه العقلية التي تنزع إلى الوضوح ومُقارَبة الحقائق كما هي دون طبعها بطوابع خاصة، عنده وضوح! وطبعاً أنا سأُعلِّق، وقد علَّقت على الكلام هذا وكتبت تحته، أي تحت كلام راسل  Russell، هذا ينطبق على الكونفوشيوسية أكثر بكثير مما ينطبق على الطاوية، الطاوية لا تميل إلى هذا الوضوح، بالعكس! فيها إلغاز وفيها إبهام وفيها إلباس وتشبيه عجيب ودقيق جداً جداً جداً، يبدو أنه لم يسمع بهذا ولم يقرأه لكنه كان يُحاضَر، وطبعاً الصين في الفترة التي كان فيها بلاشك تدين مظهرياً ورسمياً وإدارياً واجتماعياً لروح كونفوشيوس Confucius وليس لروح الطاو Tao طبعاً، هذا معروف! هذا المظهر الذي كان فيها هو مظهر كونفوشيوسي، ولذلك هناك كلمة هامة حكاها كريل Creel في كتابه الفكر الصيني، هذا الكتاب أيضاً رائع وهذا الرجل أيضاً يعرف الصينية وعاش بينهم،  قال كما يقول الصينيون كونفوشيوس Confucius يجول بين المنازل والبيوتات، وأما لاوتسو Lao-Tzu فيقبع في الأعماق، وهذا صحيح! إدارياً وسياسياً وما إلى ذلك سوف ترى روح كونفوشيوس Confucius، لكن في العمق سوف ترى لاوتسو Lao-Tzu، انزع القشرة وانزع اللباس هذا وسوف ترى لاوتسو Lao-Tzu، هو هذا، لا يزال الجناحان هكذا، هما هذان! فطبعاً برتراند راسل Bertrand Russell لاحظ القشرة، قال يُوجَد وضوح وتُوجَد مُعامَدة ومُباشَرة للحقائق تماماً من غير كذا وكذا، ولذلك المسؤول عن تحريف الطاوية ما هو؟ غموضها، طبعاً يُوجَد غموض وهو غموض غير قليل فيها، وهذا الذي جعل بعض الناس ينحرف بها عن مسارها العتيد الأول، الغموض الذي فيه هو المسؤول! لو كانت واضحة تماماً كما بدأ كونفوشيوس Confucius لاختلف الأمر، لكن طبعاً هي روحها الغموض، لن تقدر على غير هذا، وسوف نرى لماذا هذا فيما بعد حين نشرحها.

نرجع، بالنسبة إلى الطاوية أو الطاويات الإحيائية – كما قلنا – طوَّرت هذه الأشياء وطوَّرت أيضاً – كما قلنا في مُقدِّمة الدرسة – استراتيجيات مُشابِهة تماماً للراجا يوجا Rāja yoga التي شرحناها في درس الهندوسية، مُشابِهة بشكل غريب سوَّغ لبعضهم أن يقول ما قال، لكن أيضاً هؤلاء أصحاب الطاويات الإحيائية لم يكونوا واضحين، لم يكتبوا تعاليهم بشكل جماهيري، بالعكس كتبوها بشكل ألغاز وأسرار يتعاطونها فيما بينهم في دواوينهم الخاصة، ربما يقول أحد المُؤرِّخين ذلك كان منهم نظراً لحساسيتهم البالغة إزاء النقد القاسي والمرير الذي جُوبِهوا به، فالمُعلِّم  تشوانغ تسو Chuang-Tzu نفسه الذي ذكرناه عدة مرات لاحقاً بعد ثلاثمائة سنة من لاوتسو Lao-Tzu وجَّه إليهم سهام نقده اللاذع بقوله إن من الناس – يقصد من الطاويين الإحيائيين، وهو كان طاوياً طبعاً، لكنه كان طاوياً فلسفياً – مَن يرغب أن يتنفس عميقاً وأن ينفث الهواء بعنف ويأخذ الهواء الطازج برقة تماماً كالدببة التي تتسلق الأشجار لكي تتنفس أعمق وأحسن، يسخر منه! كأنه يقول هؤلاء الناس لا يفهمون شيئاً وهؤلاء الناس أصبحوا مظهريين، فهم تحرزاً من هذا كانوا يجعلون مبادءهم فيما بينهم، يُمكِن اختبارها لمَن يُريد إذا ثبت ولاؤه بهذه الطريقة!

أخيراً أعتقد أفضى بنا الكلام إلى الطاوية الفلسفية، وهي الأهم طبعاً – كما قلنا – وهي التي يُمكِن أن تُثبِت أن لديها الكثير تُقدِّمه وتقوله للعالم، شبه فعلاً فلسفة عندها نوع من التكامل ونوع من الاتساق ونوع من العمق الحقيقي، موجودة هذا!

طبعاً الطاوية الفلسفية هدفها مُطابَقة طاو Tao الشخص مع طاو Tao الوجود، هذا الذي تُريده بشكل عام، تُريد أن يتطابق هذا مع هذا! إذا تم هذا فسيصل الشخص إلى الحياة الناعمة المُطمئنة العميقة، نوع من الطمأنينة ونوع من المعرفة العميقة بالمُطابَقة، كيف يتم هذا؟ أحسن شيئ الوو وي Wu-Wei، التقنية الأكثر شهرةً والأكثر نجاعةً يُسمونها تقنية الوو وي Wu-Wei، ما الوو وي Wu-Wei هذه؟ طبعاً هذه كلمة أيضاً اختُلِف كثيراً جداً في ترجمتها، ببعضهم يُترجِمها ببساطة باللافعل، اللانشاط، الخمود، أي ترجمة سلبية، كما ترجمها هادي العلوي، اللافعل واللانشاط وما إلى ذلك، طبعاً هذه الترجمة لها محاذيرها، أكبر هذه المحاذير أنها تُوحي بما لا تُؤمِن به الطاوية ولا تُريد أن يُسجَّل كموقف لها، وهو ماذا؟ الكسل والسلبية والانعزال، لا! الطاوية لا تُؤمِن بهذا، بالعكس! هي لا تُريد هذا، إذن ما ترجمة هذا بحسب المعنى الصحيح؟ لذلك يرى سميث Smith – مثلاً – وغيره أن الأفضل ألا نكون حرفيين وأن نُترجِم المعنى الذي يفهمه دارس هذه الفلسفة العميقة بالفعّالية القصوى أو النشاط الفعّال أو النشاط الأقصى أو النشاط الحيوي، عجيب! مع أن الترجمة الحرفية لها أنك لا تفعل، وفعلاً هي تفعل، هي معناها لا تفعل لكنها ليست بمعنى أن تكف عن الفعل، لا! أن تفعل عبر اللافعل، قد تقول لي كيف هذا؟ هذا موجود، وسوف نُبسِّطه بمثال بسيط جداً جداً.

يقول لاوتسو Lao-Tzu في الطاو Tao خير القادة الذي لا يقول شيئاً، ومع ذلك ينجح ويقود، الذي يكون في المُؤخَّرة، ولذلك يكون في المُقدِّمة، طبعاً أنا لاحظت أن هذا المعنى موجود حتى علم الإدارة الغربي والأمريكي بالذات وما إلى ذلك، لأن مع اكتشاف الطاو Tao وترجماته الكثيرة في مطلع القرن العشرين بدأ حتى علم الإدارة الغربي يتطوَّر تطوّراً غير طبيعي، وبدأنا نلحظ نفس المقولات أحياناً دون أن يُشار إليها، في الغرب هنا يُقال – مثلاً – خير المُدراء – Managers – هو الذي يُدير دون أن يقول أنا المُدير، هذا كلام لاوتسو Lao-Tzu يا حبيبي، نفس الكلام يا بابا، ولم يقله الغرب قبل أن يُترجَم الطاو Tao، لماذا؟ متى اكتشفتمون هذا؟ هذا من أفكار الصين بالمُناسَبة، لكن كيف يفهمه لاوتسو Lao-Tzu؟ كيف يُقدِّمه لنا لاوتسو Lao-Tzu؟ يُقدِّمه كالتالي: منطق الطاو Tao نفسه هو منطق خلق الكينونة، وهو منطق فاعل على الدوام عبر التغيرات المُستمِرة، نعم نسيت أن أُكمِل شرح التاي شي Tai chi أو الرمز الشهير لكن هذا يُوضِّحه لنا، قلنا هناك اليانغ Yang وهناك اليين Yin، هل هذا واضح؟ قلنا دائماً اليانغ Yang عموماً فيه معنى الفعل واليين Yin فيه معنى الانفعال، هذا أن يفعل وهذا أن ينفعل، هذا أن يُرسِل وهذا أن يستقبل، هذا يُعطي وهذا يأخذ، هل هذا واضح؟ ولذلك يقول بعضهم – ليس مُتندِّراً لأن هذه الحقيقة – لو قارنا بين الكونفوشيوسية وبين الطاوية فالكونفوشيوسية هي اليانع Yang الصيني والطاوية هي اليين Yin، هذا يفعل وهذا ينفعل، هذا الذكر وهذه الأُنثى، هذا النور وهذا الظلام، (ملحوظة) تساءل أحد الحضور قائلاً أهذه الكونفوشيوسية؟ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم طبعاً طبعاً طبعاً، تُؤمِن بالفعل وبالنماذج وبالأشياء الواضحة، ضروري أن تتدخل فتُعلِّم وتعظ وتعمل وتُبرمِج وتُعيد الإنتاج، هو هذا ولا يُمكِن غيره، ولذلك وقعت في شكلانية بغيضة حتى في النهاية، وُجِدَ نوع من الرسميات والشكلانيات، بخلاف الطاوية، بالعكس! هناك استسلام، لابد أن تستسلم، لكن لماذا؟ ليس لعدمية وليس لكسرك الذاتي، وإنما لمنطق الطاو Tao نفسه، لأن هو عنده منطق الذاتي، كل هذا الوجود انبثق من خلاله، وهو يعرف كيف يشتغل أحسن منك وأحسن من عقلك وأحسن من تفكيرك وأحسن من نماذجك السخيفة، يعتبرونها سخيفة وتافهة بالمُناسَبة، كلها نماذج سخيفة وتافهة! كلها يُحقِّرونها!

على كل حال هذا يراه بعض الكونفوشيوسيين سلبية يسخرون منها، وهم يرون الإجراءات الكونفوشيوسية شكلانية صارمة وتافهة ومُنافِقة، فيها نوع من الرياء والنفاق، وسوف نرى فيما بعد كيف يحدث هذا! المُهِم أن الطاو Tao هو الذي يفعل وله منطق الخاص الذي تولَّد منه كل أشياء الكون، يقولون تولَّدت منه العشرة آلاف، أي كل شيئ، كل شيئ من هذا المنطق، فالاستسلام له هو النجاح، كما قلنا أن تفعل معناها أن تكون، هكذا يقول لاوتسو Lao-Tzu، كيف أن تكون؟ قال أنت فقط استسلم لكينونتك الجديدة الآن، استسلم! بها ومن خلالها، وهي نفسها خلق للطاو Tao وفعل الطاو Tao، استسلم لها تماماً دون مُقاوَنة بالنماذج المُصطنَعة الخاص بك، قد تقول لي هل هذا يعني أنهم ينظرون إلى الطبيعة الإنسانية أو الطبيعة حتى نفسها الوجودية هذه نظرة تختلف عن النظرة الصناعية؟ تماماً، وتشجبها وتبرأ منها،  الآن الطبيعة – مثلاً – في الفكر الغربي يُوجَد موقفان منها، لدينا موقفان: موقف العلم الغربي، جاليليو Galileo، نيوتن Newton، وأمثال هؤلاء، وبالذات فرانسيس بيكون Francis Bacon، ويُوجَد موقف آخر وهو موقف الشاعر الإنجليزي الشهير – مثلاً – وردزورث Wordsworth، موقف جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، موقف – مثلاً – الأمريكي ثورو Thoreau صاحب العصيان المدني، وأمثال هؤلاء الرومانسيين، هناك موقفان لدينا! موقف يرى وجوب التدخل وإسقاط منطقك البشري المُستفاد والمُتراكِم على الطبيعة نفسها وإعادة تشكيلها بما يُطوِّعها ويُذلِّلها لك، ومنطق ثانٍ يقول كل هذا فساد وإفساد، والطبيعة جميلة وعندها منطقها الخاص المُمتاز والذي لا حاجة إلى الشك فيه بتجريبه، اتركه واستسلم له، وحالما تمتد يد الإنسان إليها تُحيلها إلى قباحة وترتد هي بالدفاع عن نفسها أحياناً بشكل عنيف، مثلما يحدث الآن، الجُنون المُناخي وتسونامي Tsunami والأعاصير وكل هذه المشاكل الكبيرة، فضلاً عن العصر الجليدي والتحرر الذي يحصل والذي يُسمونه الاحترار، إلى آخره! هذا منطق مَن؟  جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، وردزورث Wordsworth، هنري ثورو Henri Thoreau، وأمثال هؤلاء! الطاوية طبعاً عندها المنطق الثاني، الكونفوشيوسية أقرب إلى المنطق الأول، يُسمَح بالتعديل والتطوير، أدخل نفسك، ابرز شخصيتك، أسقط نفسك كإنسان على الوجود هذا، لكن هؤلاء يقولون لا، بالعكس! أنت انظر حتى إلى الفن الصيني عموماً، فهو ليس مُتأثِّراً بالروح الكونفوشيوسية، الفن مُتأثِّر بماذا؟ بالروح الطاوية، وضروري كفن طبعاً هذا، الآن لو قلت لي مَن أقرب إلى روح الدين: كونفوشيوس Confucius أو الطاو Tao؟ لقلت لك الطاو Tao طبعاً، ولذلك مَن سيكون الفن حليفاً له أكثر؟ الطاو Tao طبعاً، هذا معروف! أبوة الدين للفن أو بنوة الفن للدين قضية تقريباً شبه مُقرَّرة، لا يُمكِن إنكارها! يُوجَد فعلاً نوع من الصلة الوشيجة جداً والحميمة بين الاثنين – بين الفن والدين – باستمرار.

نحن اليوم عرضنا لجانب بسيط جداً جداً لكنه عميق، وهو المجازيات – الميتافوريات Metaphors – في الآداب والفنون، هو هذا! كلها بحث عن الله هي، تخيَّل! ففن المُنمنَمات – يُسمونه المنوريات Miniatures – هو فن صيني أيضاً، وطبعاً ازدهر في فارس – بلاد فارس – وهو موجود حتى إلى الآن، يُتعاطى معه في فارس وعندهم فنانون كبار في المُنمنَمات هذه، هذا الفن دائماً يُظهِر الإنسان ضئيلاً، لكي تبحث أنت في لوحة صينينة مُتأثِّرة بالروح الطاوية – وأكثرها مُتأثِّر طبعاً – عن الإنسان سوف تحتاج إلى أن تكون حاملاً لميكروسكوب Microscope، لكي تنظر وتبحث عن الإنسان إذا وُجِد، وفي أكثر هذه اللوحات لا يُوجَد، وخاصة في البانوراميات Panoramas، وهي المناظر الطبيعية، وحين يُوجَد الإنسان يُوجَد كمُكوِّن بسيط جداً جداً في ظلال اللوحة ودائماً في حالة حمل وصعود، يحمل شيئاً ويتسلَّق، إشارة إلى ماذا؟ إلى الروح الإنسانية الطالبة للكمال والتكامل Integration، بماذا؟ بالاندماج في روح الطبيعة، في المشهد، في البانوراما Panorama الطبيعية نفسها، هو هذا! وطبعاً تعكس لنا – كما قلنا – حتى البيوت والمعابد، كيف دائماً هي؟ في حالة تواشج مع الطبيعة، ليست في حالة تعادٍ وليست في حالة جور على الطبيعة بتعديلها، بالعكس! تتموضع فيها بكل تلقائية وسلاسة في المكان الذي تجد نفسها فيه، هو هذا المكان! تقول هذا لي وتتفضَّل، تماماً كما يبحث القطة – Cat – الآن في الغُرفة كلها عن مكان تنام فيه، وهو محكوم بقوانين مغناطيسية مُعيَّنة، تقول هو هذا مكاني، هنا منامي، انتهى!

ولذلك المُعلِّم تشوانغ تسو Chuang-Tzu الذي ذكرناه اليوم ضرب مثلاً طبعاً لطيفاً جداً ومُوحياً عن طبّاخ أو طاهي الأمير أو الوزير، هذا الطاهي عجيب جداً، عنده الساطور الذي لم يشحذه مُنذ تسع عشرة سنة لكنه شديد المضاء، حاد جداً، يقطع بشكل سحري، إذا أراد أن يُنزِل كتفاً فالكتف تنزل في لحظة من الثور، إذا أراد أن يفصل الكتف إلى قسمين أو ثلاثة فإنها تنفصل بسهولة هذه الكتف، كأنه ساحر! ألحوا عليه قائلين ما الذي تفعله؟ كيف تفعل هذا؟ لم نر أحداً يفعل هذا! فقال لهم الأمر بسيط جداً، هذا الساطور كما ترون رقيق تماماً كورقة، هو رقيق – عنده ساطور رقيق هو – وأنا لا أشحذه مع أنه مشحوذ على الدوام، كيف أفعل هذا؟ أنا سأقول لكم، انظروا هنا، دائماً تُوجَد الفراغات، الساطور – قال لهم – مخلوق ومشحوذ ليضرب في الفراغات، يبحث عن مكانه، مكانه ليس في العظم أو اللحم، هذا يُتلِّمه! أرأيتم؟ يقول لاوتسو Lao-Tzu في الطاو Tao – وسوف نقرأ هذا – اشدد واسحب القوس كثيراً وسوف تندم على الشد، إن مَن يمشي على رؤوس أصابعه سيتعب سريعاً والقاعد لا يسقط، منطق الطاو Tao! منطق الطاو Tao يقول ابحث عن مكانك، النبي قال رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، كل مُيسَّر لما خُلِقَ له، اعرف ما دورك وما الذي يُناسِبك بالضبط، لا تُحاوِل أن تغتصب غيره، لا تُحاوِل أن تتلبَّس بغيره، لا تدّع غيره وتظن أنك ستنجح.

انظروا بالمُناسَبة إلى أي إنسان ناجح وعبقري في أي مجال، أنا أقول لكم هذا سر نجاحه وعبقريته، رأى الفراغ المُعَد على قده، رأى الدور المرسوم له، رأى تماماً أين ما يُناسِبه، فمشى! مُمتاز جداً، يمشي في هذا، أليس كذلك؟ هو هذا، فقال لهم انظروا،  تُوجَد فراغات بين المفاصل، وهذا الساطور يهوي على فراغه، فيفعل – قال لهم – بكل نجاعة وأجده دائماً مشحوذاً دون أن أشحذه.

حكمة يا أخي! هؤلاء الناس عندهم حكمة، ولذلك برتراند راسل Bertrand Russell – كما قلت لك – لما عاش بينهم سنة قال وجدت أوروبا قياساً إلى هؤلاء كالطبل الأجوف، هو كان في البداية مغروراً باليونان والإغريق وفلسفاتهم، لكنه رأى أن الأمر ليس كما ظن، وهذا صحيح فعلاً، أنا الآن بدأت أفهم هذا، كلما تقدَّم عمر الإنسان أكثر اختلف فهمه أكثر، في الأول ما كنا نرى أووربا كما نراها الآن، كنا نرى فلسفات وأناساً عندهم عمق وفيزياء وكيمياء ورياضيات وأشياء كثيرة، لكن هذا كله طبل أجوف، فقراء جداً جداً ومساكين والله العظيم! عندهم فقر عجيب إنسانياً وروحياً هؤلاء المساكين، فقر غريب! أحد الهنود العظام – ربما هو طاغور Tagore – لما صنعوا غواصات وفجَّروا الذرة بعد ذلك في الخمس والأربعين قال لهم نعم بلا شك أنتم جديرون بهذا، تطيرون في الأعالي – قال لهم – أنتم كالطيور، وتغوصون في أعماق البحار بلا شك – قال لهم – كالأسماك والقروش العظيمة، صحيح! لكن إلى اليوم لم تتعلَّموا كيف تمشون على الأرض، طبعاً كبشر يقصد، مَن الذي يمشي على الأرض ويقصده؟ الإنسان، الله خلق لك قدمان تمشي بهما وليس أربعة، لكي يُؤكِّد أن عندك لياقة أن تمشي، ليس على أربعة! المشي على أربعة سهل جداً، حتى الحيوان يفعل هذا، لكن نحن على ثنتين نمشي، الإنسان يمشي هكذا، عندي امتياز أن أمشي على الأرض هنا، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ۩، هَوْنًا ۩: بطريقة طائوية، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ۩، بسهولة! 

يتحدَّث الطاويون أيضاً عن بعض الأشخاص الذي يُمكِن من مشيته أن تُقدِّره ما هو، وهذا صحيح! ما هو؟ بعض الناس حين يمشي تعلم أنه يُعاني، يُعاني مُعاناة نفسية أو مُعاناة عقلية أو مُعاناة جسدية، يمشي وكأنما الرجل في حالة صراع أو مُشاكَسة مع الأرض، يدب دبيباً المسكين، لماذا؟ وبعض الناس يمشي كأنه يطير على وجه الأرض، بسلاسة وسهولة! بعض الناس يحكي حين يحكي ويتكلَّم بسلاسة وسهولة عجيبة جداً جداً، تُطاوِعه الكلمات والمعاني تنسال على لسانه وعلى ذهنه وخاطره، بعض الناس ليس كذلك، المسكين كما قال مُصطفى الرافعي – رحمة الله عليه – أو قيل فيه كأنما يلد الكلمات والمعاني ولادة مع الطلق، آلام الطلق والمخاض! وتشعر بأنها ثقيلة ومُضمَّخة بالدم والنجاسة والإفرازات وما إلى ذلك، ليس هذا هو، وهكذا! بعض الناس حين يضحك ترتاح أنت وتضحك، تُضطَر أن تضحك معه، يضحك بسلاسة، بعض الناس حين يضحك كأنما يُشقِّق وجهه تشقيقاً، لأن المسكين يُعاني، لماذا؟ هذا لا يعيش منطق الطاو Tao هذا، الله قال يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ۩، يُوجَد تسليم، تُوجَد قناعة، يُوجَد رضا، يُوجَد انسجام مع روح الكون ومع روح الوجود ومع المنطق الساري في هذا الكون كله، هو هذا! يُوجَد انسجام، ومَن عنده هذا يعيش سعيداً سليماً – بإذن الله تعالى – ويبرأ من الأمراض النفسية والجسمية والعقلية، كل هذا يبرأ منه، فعلاً يعيش سعيداً ويموت سعيداً، ويُشيع السعادة في مَن حوله، يفعل هذا بسهولة وبسلاسة أيضاً، فهذا هو!

لذلك يقول أيضاً لاوتسو Lao-Tzu – وسوف نقرأ هذا هنا – الفناجين والبوّابات والنوافذ فائدتها مرهونة بما تكون، واستعمالها المُفيد مرهون بما لا يكون فيها، ماذا يقصد؟ يقول ما يُعطيها كينونة نعم هو هذا الجِرم الخزفي الموجود – التصميم Design هذا، هو هذا – لكن ما يجعلها مُفيدة لي فيُمكِن استخدامها الجُزء الفارغ فيها، أي غير الموجود، الفراغ هذا! لو كلها من الخزف لن تصلح لأن أشرب فيها، وطبعاً حين تقرأ هذه المقولة لن تفهمها، صعبة الكلمات التي مثل هذه، لابد أن تفهم بعمق ماذا يُريد الرجل هذا، كلام عميق يقوله! النافذة ما يُعطيها وجودها والتصميم – Design – الخاص بها نعم الحدود المعدنية والخشبية والقاطع الوسيط وإلى آخره – أليس كذلك؟ هي فلسفتها هكذا، والزجاج هذا حين يُغلَق يمنع الهواء وتسربه، هذا صحيح – لكن ما يُعطيها أن تكون نافذة فتُستعمَل نافذةً الفراغ الهوائي الموجود، الذي حين أفتحه يتجدَّد الهواء ويخرج ويجئ، هو هذا! لولا هذا لما كانت نافذة، لكانت جُزءاً من الحائط، لكانت حائطاً، والبوّابة نفس الشيئ!

لذلك ينظر الطاويون التأمليون الفلسلفيون حتى إلى العُرجان وإلى الحُدبان بتشريف وتكريم، لماذا؟ يرون فيهم التواضع المطلوب من الإنسان، يحترمون الأعرج هذا الذي يمشي هكذا دون أن يرفع نفسه، وهكذا كان يقول النبي، كم هو صغير مَن يرى نفسه كبيراً! أليس كذلك؟ كلنا نراه صغيراً يا جماعة، لا يُمكِن أن نراه غير ذلك، هو الوحيد الذي يرى نفسه كبيراً وهذه مُشكِلته، لا يقدر على أن يرى نفسه صغيراً والله العظيم! لكن هو لو رأى نفسه صغيراً لرآه الكل كبيراً، حتى لو كان المسكين أحدب وحتى لو كان أعرج يجلز على رجل واحدة، فالطاويون تعلَّموا أن يُعظِّموا هؤلاء، رأوا فيهم الإنسان العظيم، لماذا؟ لأنه يعكس ما يليق بالإنسان، أن يكون خاشعاً مُتواضِعاً يسيراً، لا يملأ ما ليس له!

أنت لا تستطيع أن تملأ الفضاء، قال تعالى إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ۩، أرأيت كيف يكون الفهم؟ ثم يُقال نحن لا نحتاج هذه الأشياء، لا! نحن نحتاج إلى أن نقرأ العلم والفلسفة وأدبيات العالم كله لكي نفهم القرآن أيضاً، ما رأيك؟ هذا الكلام أقوله الآن لأول مرة، ها أنا أحكيه لأول مرة! ولأول مرة يُمكِن أن تفهم الآية من هذا المنظور، سُبحان الله، شيئ غريب، هو هذا! كما يقول لاوتسو Lao-Tzu والطاو Tao القرآن أيضاً يقول هذا، لا تستطيع أنت غير هذا، مط جسمك، كم سيصير طولك يا أهبل؟ طولك كان مائة وثمانين وسيصير مائة وخمس وثمانين، مط نفسك وسوف يصير طولك مائة وخمس وثمانين، لكن ماذا بعد؟ البس الكعب العالي مثل النسوان، سيصير طولك مائة وتسعين، وماذا بعد؟ لن تطول برأسك السقف ولن تصير كقمة إفرست Everest، وحتى لو صرت إفرستي القمة لن تطول الشمس ولا القمر قبلها، أليس كذلك؟ ستظل إنساناً، اسكت فالأمر انتهى، هذا لا يليق بك، لذلك قال الله في الحديث القدسي الكبرياء ردائي والعزة إزاري، مَن نازعني واحدة منهما قسمته ولا أُبالي، ليس لك هذا! لذلك الطاويون طوَّروا هذا الاحترام التشريفي للعُرجان والحُدبان الذين يُظهِرون التواضع بشكل حسي وإن كان رُغماً عنهم، يحترمون كثيراً ويجلونهم ويُقدِّسونهم، لأن هؤلاء يعكسون ما يليق بالإنسان، هو هذا!

النبي عبَّر عن هذا المعنى بطريقة أيضاً جميلة جداً جداً، قال ما مِن عبدٍ إلا ناصيته بيد ملك، فإن هو تواضع لله رفعها الملك، هو يتواضع والناس يرون أنه شيئ كبير، لا يرونه بأعينهم وإنما يرونه بالعين التي سماها أيضاً لاوتسو Lao-Tzu – المُعلِّم لاو Lao – بعين الباطن، قال خمسة من الألوان قد تُعمي العين، خمسة من الأصوات قد تصم الأذن، خمسة من الطعوم قد تُذهِب الذوق، فعليك دائماً أن تستخدم عين الباطن، حتى لا تُعمى! وعين الباطن هذه مها ترى بها لا تُعمى، لكن عين الظاهر هذه يُمكِن أن تعمى بسرعة، وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۩، فتُفتَن أنت كما فُتِنوا، لا! وإنما انظر بعين الباطن إلى حقيقة ما مُتِّعوا هم فيه، وسوف تراه عرضاً حائلاً وظلاً زائلاً ودنيا كصُبابة الإناء تُوشِك أن تنفذ سريعاً بل هي نافذة، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ۩، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ۩، كله عدم وكله كلام فارغ، والله العظيم كله كلام فارغ، وفعلاً مَن أُوتيَ الحكمة يرى هذا ويعيش هذا، يعيش هذا تماماً! لذلك غير مُمكِن أن يستهويه خاطر أو فكرة أن أصير شيئاً كبيراً وأبرز – مثلاً – ويستمع إلىّ العالم، مثلما استمع إلى باراك أوباما Barack Obama يستمع إلىّ، وماذا بعد؟ كلنا استمعنا إلى أوباما Obama يوم تنصيبه ثم ذهب وأنهى حديثه، انتهى الأمر! ذهب وانتهى الأمر، أنا سجَّلتها وغير مُستعِد لأن أسمعها مرة أُخرى، سجَّلتها لكن انتهى الأمر، هذه هي الدنيا، طبيعتها زوالية، كلام فارغ! لا تُعلِّق نفسك بالزائل وإلا سوف تكون زائلاً، خل دائماً عين البصيرة تنظر إلى شيئ ثابت دائم لا يزول، لا إله إلا هو! اربط نفسك به باستمرار واعمل عنده، ادخر عنده واخزن عنده.

أنا سأُطوِّر لكم هذا المعنى بمثال أخير جميل جداً إن شاء الله، علماً بأنني قلت قبل هذا وسأقوله اليوم أيضاً لكن بطريقة ثانية، كل إنسان يبحث عن شيئ خارجه هو فقير ولن يجد نفسه، كيف هذا؟ ما معنى الكلام هذا؟ أنا أقول لك حين تبحث عن المال اعلم أن المال ليس أنت، المال شيئ خارجك، بدليل أنه قد يزول غداً لكن أنت ستظل كما أنت، تظل سعيداً دون أي مُشكِلة، مثلاً هناك إنسان اسمه سعيد وسيظل سعيداً أو إنسان اسمه محمد وسيظل محمداً، ذهب المال لكنه ظل كما هو ابن أمه وأبيه، أليس كذلك؟ المال ليس أنت، إذا أنت فكَّرت أن تبحث عن نفسك وعن هويتك وعن كيانك وعن احترامك وعن شعورك بالثقة في نفسك من خلال المال فلن تجد نفسك، قد تقول لي لا، أنت تقول هذا فقط لأنك مثالي يا شيخ عدنان وأنا سأجدها، لكنني أقول لك والله العظيم لن تجدها، ما رأيك؟ وسوف نرى مَن الذي سوف يحنث في يمينه، أنت تقول لي أنك ستجدها وأنا أقول لك لن تجدها، قد تجدها حين يقول لك أحدهم بتذلل السلام عليكم يا سيدنا أو يا سيدي، قد تجدها هكذا في تذلل الناس لك وفي سلام أعدائك عليك وفي توطية رؤوس أعدائك لك وأنت حتى قد تستلذ بهذا، لكنني أقول لك كل هذا أيضاً ليس أنت، وكل هذا يُقال ويُفعَل أمامك بغير صدق أيضاً، هذا ليس أنت، هذا شيئ آخر، هذه أفعال غيرك، أليس كذلك؟ أنا أُريد ما هو أنت، ما ما هو أنت؟ حين تزول كل هذه الأشياء الخارجية يبقى أنت أنت، هو هذا ما هو أنت، حين تذهب لكي تنام بلباس النوم – بالبيجامة Pajama – ينام معك هذا الأنت ويأتي إليك في حلمك، هو هذا أنت، أليس كذلك؟ لا أحد يحلم على قد كنزه في البنك، هذا ليس له علاقة بهذا، يُمكِن أن يكون عنده كنز وأن يكون عنده خمسون ألف حارس – بادي جارد Bodyguard – لكنه يحلم يومياً بشخص يأتي إليه ويطعنه بالسكين دون أن يُدافِع عنه أي أحد، المال لا يُحصِّنك في الحلم، أليس كذلك؟ ولن يُحصِّنك بين يدي الله، ولن يُحصِّنك من وخز الضمير والشعور بأنك البعيد خسيس ونذل لأن استخدمت وسائل غير مشروعة لتأثل هذا المال، أليس كذلك؟ أكلت أموال الفقراء واليتامى والمساكين وابتززت أصحابك وأقرب الناس إليك، سوف تقول لنفسك أنت الخسيس البعيد، أنت النذل الذي أعرفه أنه نذل، ومن ثم سوف تهرب من نفسك، لهذا السبب أنت تهرب من نفسك ولا تُحاوِل بالمرة أن تقعد مع نفسك، تُريد باستمرار أن تظل مع الناس، وخاصة الناس المُنافِقون الذين يُسمِعون كلاماً يُغذون من خلاله فيك هذا الغرور الكذّاب الخدّاع، أليس كذلك؟ ليس الناس الذين يقولون لك النصيحة الصادقة، أنت لا تُريدهم! فأنت تبحث عن هذا، لكن هناك مَن يبحث عن سُمعة، مَن يبحث عن شهادة، مَن يبحث عن كذا وكذا، كل هذا يبحث عن شيئ خارجه، أنا أُريدك أن تبحث عن نفسك في نفسك، شيئ يبقى مع ولا يزول، وحتى بُكرة – بعون الله – بين يدي الله – صدِّقني أنت ستُبعَث به، أي هذا الشيئ، هو هذا! وهذا الذي سيشفع لك وسيشهد لك، وهذا ما ستكونه غداً بين يدي الله، هو هذا! يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، سوف تُبعَث حافياً كما أنت، بكل كمال أعضائك وجلدك كما أنت، هذا هو أنت، انتبه! 

فهؤلاء الناس فارغون طيّارون هاربون من أنفسهم من حيث يظنون أنهم يبحثون عنها، مُهينون لها من حيث يظنون أنهم يُكرِمونها، أنا بالتفكير وجدت أكثر إنسان يُحِب نفسه على الإطلاق المُؤمِن، ما رأيكم؟ المُؤمِن أكثر إنسان يُحِب نفسه والله العظيم! أكثر إنسان يحترم نفسه المُؤمِن، والفاسق والكافر والدنيوي والمادي والشهواني أكثر إنسان ساخط على نفسه، وعندي نظرية جديدة الآن في هذا أُفسِّر بها، حين ترى أي واحد يُستغرَق في الشهوات أو في المال أو في السُلطة أو في الظُلم وما إلى ذلك – أنا أقول لك – اعلم أن في حياته وخاصة في طفولته الكثير من الفصول غير السعيدة والفصول السيئة جداً جداً جداً، ما رأيك؟ يُمكِن أن تكون فصول فقر، ربما عاش لشهر أو شهرين وهو يأكل الخبز الحافي مع أمه وأهله، مُمكِن! فنقم – نقم على القدر ونقم على مصيره وما إلى ذلك – والآن يُريد أن يخط قدراً جديداً جداً جداً، لكن للأسف أيضاً هذا القدر مثل حرير دودة القز، شنق نفسه به المسكين، تشرنق به وأنهى نفسه، لم يعرف ماذا يفعل لأن ليس عنده فلسفة سليمة في الحياة.

المُهِم نرجع، انظر أين دورك وأين قدرك وأين الفراغ المُعَد لك، مثل الفراغ المُعَد للساطور الخاص بطاهي الأمير، وسوف تعمل بسلاسة وبسهولة ومن غير تعب، سوف تُنجِز بغير تعب! ولذلك يقول لاوتسو Lao-Tzu القائد الجيد هذا يكون في المُؤخَّرة، ولا يذهب أبداً ويقول أنا القائد وأُذكِّركم بأنني القائد، أنا أقول الآن – عدنان وليس لاوتسو Lao-Tzu – الريح حين تعزف وتعصف هل تُنادي على نفسها أنا الريح فانتبهوا؟ هل تقول أنا الريح بقياس كذا وكذا؟ لا تُنادي ولكنها تفعل يا حبيبي وبسهولة، أليس كذلك؟ وبعد ذلك يأتي العالم كله لكي يقول ماذا فعلت الريح والكل يتكلَّم بلسانها، هل حين فعل تسونامي Tsunami ما فعل أعطى رسالة تحذير في البداية؟ هل بعث لنا رسائل مُصوَّرة ومُشفَّرة؟ لم يبعث أي شيئ، فجأة دهم العالم ولم يقل شيئاً، بعد ذلك العالم التقط أنفاسه وأدرك ما تسونامي Tsunami هذا وما مداه وما قوته وماذا فعل وماذا دمَّر، وإلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة والعالم يتحدَّث ماذا فعل تسونامي Tsunami، أنت كُن هكذا، لا ترفع عنواناً، لا تكن إنساناً دعائياً، لا تُناد على نفسك وعلى بضاعتك، اسكت! عش بهذا المنطق التناغمي مع نفسك ومع الوجود، بعد ذلك إن كان هناك دعاية وكلام فغيرك سوف يقوم بها، وأنت لن تطلبها ولن تكون سعيداً بها، أنت تزهد في كل هذا!

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: