أكثر إنسان يُحِب نفسه على الإطلاق المُؤمِن، ما رأيكم؟ المُؤمِن أكثر إنسان يُحِب نفسه والله العظيم! أكثر إنسان يحترم نفسه المُؤمِن، والفاسق والكافر والدنيوي والمادي والشهواني أكثر إنسان ساخط على نفسه، وعندي نظرية جديدة الآن في هذا أُفسِّر بها، حين ترى أي واحد يُستغرَق في الشهوات أو في المال أو في السُلطة أو في الظُلم وما إلى ذلك – أنا أقول لك – اعلم أن في حياته وخاصة في طفولته الكثير من الفصول غير السعيدة والفصول السيئة جداً جداً جداً، ما رأيك؟ يُمكِن أن تكون فصول فقر، ربما عاش لشهر أو شهرين وهو يأكل الخبز الحافي مع أمه وأهله، مُمكِن! فنقم – نقم على القدر ونقم على مصيره وما إلى ذلك – والآن يُريد أن يخط قدراً جديداً جداً جداً، لكن للأسف أيضاً هذا القدر مثل حرير دودة القز، شنق نفسه به المسكين، تشرنق به وأنهى نفسه، لم يعرف ماذا يفعل لأن ليس عنده فلسفة سليمة في الحياة.

المُهِم نرجع، انظر أين دورك وأين قدرك وأين الفراغ المُعَد لك، مثل الفراغ المُعَد للساطور الخاص بطاهي الأمير، وسوف تعمل بسلاسة وبسهولة ومن غير تعب، سوف تُنجِز بغير تعب! ولذلك يقول لاوتسو Lao-Tzu القائد الجيد هذا يكون في المُؤخَّرة، ولا يذهب أبداً ويقول أنا القائد وأُذكِّركم بأنني القائد، أنا أقول الآن – عدنان وليس لاوتسو Lao-Tzu – الريح حين تعزف وتعصف هل تُنادي على نفسها أنا الريح فانتبهوا؟ هل تقول أنا الريح بقياس كذا وكذا؟ لا تُنادي ولكنها تفعل يا حبيبي وبسهولة، أليس كذلك؟ وبعد ذلك يأتي العالم كله لكي يقول ماذا فعلت الريح والكل يتكلَّم بلسانها، هل حين فعل تسونامي Tsunami ما فعل أعطى رسالة تحذير في البداية؟ هل بعث لنا رسائل مُصوَّرة ومُشفَّرة؟ لم يبعث أي شيئ، فجأة دهم العالم ولم يقل شيئاً، بعد ذلك العالم التقط أنفاسه وأدرك ما تسونامي Tsunami هذا وما مداه وما قوته وماذا فعل وماذا دمَّر، وإلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة والعالم يتحدَّث ماذا فعل تسونامي Tsunami، أنت كُن هكذا، لا ترفع عنواناً، لا تكن إنساناً دعائياً، لا تُناد على نفسك وعلى بضاعتك، اسكت! عش بهذا المنطق التناغمي مع نفسك ومع الوجود، بعد ذلك إن كان هناك دعاية وكلام فغيرك سوف يقوم بها، وأنت لن تطلبها ولن تكون سعيداً بها، أنت تزهد في كل هذا!

يُقال إن المُعلِّم تشوانغ Chuang هذا – تشوانغ تسو Chuang-Tzu المُعلِّم الثاني هذا بعد لاوتسو Lao-Tzu – أراد يوماً أن يزور وزيراً في بلدة مُجاوِرة، وبالمُناسَبة الطاوية لا تُحبِّذ كثيراً الانتقال في البلاد بل تُزهِّد فيه، عجيب! تقول لا، ليس شيئاً حلواً أن تخرج وتُسافِر، كلام فارغ – قالت – هذا، يقول لاوتسو Lao-Tzu في الطاو Tao هناك من البلاد ما يُجاوِر بلادنا وهي قريبة جداً لغاية أن سُكان بلادنا أو بلدنا يسمعون صياح الديكة ونباح الكلاب هناك، يسمعونها! ولكن مِن أهل بلدنا مَن يُولَد ويعيش ويموت دون أن يخطر بباله أن يزور ذلكم البلد القريب، يُمكِن أن يفهم أحد أن لاوتسو Lao-Tzu يقول هؤلاء أغبياء وحمقى، لماذا لم يتحرَّكوا وتأمَّلوا؟ لا! يُمجِّد موقفهم ويُكرِّمه، يقول هذه هي الحكمة، لماذا؟ لأن هذه الزيارات والحركات والنُقل عند لاوتسو Lao-Tzu تُغذي الفضول الفارغ والتطلع السخيف، فلماذا؟ ما المنطق وراء كلام لاوتسو Lao-Tzu هذا؟ المنطق أن منطق الطاو Tao هو نفسه في كل مكان، منطق الطاو Tao هنا في ذرة مثل منطقه في مجرة، ومنطقه في القرية هذه منطقه في تلكم الحضارة، نفس الشيئ! عليك أن تكون عميقاً ولا تهولك المظاهر الخدّاعة وزهرة الحضارة، انفذ لكي تتناغم مع المنطق، وسوف تجده وأنت في مكانك، لا داع لأن تذهب هنا وهنا، على كل حال تشوانغ تسو Chuang-Tzu هذا حاول في يوم من الأيام أن يزور هذا الوزير، فبلغ هذا الوزير أن تشوانغ تسو Chuang-Tzu يُريد أن يغلبه على وزارته وأن يتقلَّد منصبه بدله، أي أنه قام بوضع خُطة وما إلى ذلك فذُعِر هذا الوزير، ونمى الخبر إلى مَن؟ إلى المُعلِّم تشوانغ Chuang هذا، عرف أن الوزير خائف! فلما بلغه قال له أيها الوزير الكريم هل سمعت عن الطائر الفلاني؟ أظنك سمعت به! إنه طائر مُجِد ومُجتهِد، يقطع الأُفق من المُحيط الجنوبي إلى المُحيط الشمالي، وهو في رحلته الشاقة الطويلة لا يكاد يتوقَّف إلا ليشرب لكن لا من كل عين ولا من كل ماء وإنما من البئر السحرية، وهو لا يأكل شيئاً إلا الفاكهة المُقدَّسة الفارسية – نوع من الفاكهة المُقدَّسة التي تنتمي إلى بلاد فارس – ولا يسقط إلا على المعبد المُقدَّس الفلاني، فقط هذا ما يفعله! وفي يوم من الأيام بينما كان هذا الطائر يطير من المُحيط الجنوبي إلى المُحيط الشمالي مر على بومة ظفرت بجُثة أرنبة مُتفسِّخة مُنتِنة، ففرحت بها جداً وتهيأت لالتقامها، فرمقته يطير بالقُرب منها، فخطر ببالها أنه سيسقط لكي يُشارِكها لقمتها الهنية، فقالت شو شو، وسمعت أيها الوزير أنك تُصيح في وجهي شو شو، قال له أنا الطائر النبيل هذا، ليس مثلي مَن يقع على مثل جيفتك المُتفسِّخة، أي وزارتك!

وهذا هو الطاوي الحقيقي، زاهد في كل المناصب وفي كل الحيثيات الفارغة، يقول لاوتسو Lao-Tzu اقبل بالعار، وستقول لي ما معنى القبول بالعار؟ أن تقبل بالفشل كما هو، قل أنا فشلت وأنا لست الأول، ماذا يعني هذا؟ كُن في المُؤخَّرة لتكون في المُقدِّمة، كُن تحت وستكون فوق، هذا منطقهم! عندهم هذا على كل حال.

نعود، إذن أيها الإخوة هدف الطاوية الفلسفية أو التأملية أو المدرسية – أسماء ثلاثة لنفس المدرسة – هي أن يتطابق ويتناغم ويتواءم طاو Tao الشخص مع طاو Tao الكون أو الوجود، هل هذا واضح؟ عبر المعنى الذي أوضحناه وعبر آلية الوو وي Wu-Wei، وقلنا ما هذه الآلية، ليس معناها الخمود أو الدعة أو الكسل أو اللافعل أو اللانشاط، في الحقيقة المعنى الصحيح لها – ليس الحرفي طبعاً، الحرفي معناه اللافعل، لكن المعنى العميق الفلسفي لها على العكس من هذا – الفعل الأقصى أو النشاط الأقصى، عبر ماذا؟ عبر الاستسلام لمنطق الطاو Tao، بهذا الاستسلام أنت تُنجِز أقصى ما عندك، ودائماً تكون ناجحاً، كما قلنا مثل الساطور الخاص بالجزّار، أرأيت؟ هو هذا، ويقول لاوتسو Lao-Tzu استمر في شد القوس، سوف تندم وتتوب عن الشد، ويُصبِح المنشار المشحوذ نحيلاً كليلاً، اشحذه باستمرار وفي النهاية لن تجد نصلاً يشحذه، سوف يُعدَم في النهاية، هو هذا! إذن ماذا أفعل وأنا سأقطع؟ تعلَّم من قصة طائر الوزير أو الأمير، كيف تشحذه؟ باستخدامه بالمنطق الصحيح، ليس بالشحذ العنيف هذا وإنما باستخدامه، سيبقى مشحوذاً!

قد يقول لي أحدكم هذا يُمكِن أن يُعطينا – نحن كمُسلِمين – الآن استبصاراً إيمانياً عملياً، ما هو هذا الاستبصار؟ هذا الاستبصار يُفيد أنني بجرعة إيمانية – يُمكِن هذا بالصلاة بقراءة القرآن أو بسماع موعظة – يُمكِن أن أبقى استمد منها كمعين لا ينضب إلى أن أموت، هذا مُمكِن، مُمكِن تماماً! ويُمكِن أن يحدث العكس، وهذا ما يحصل الآن في أُمتنا إلا مَن رحم الله، لكي تتحرَّك – لكي تقوم وتُصلي اليوم قيام الليل أربع ركعات أو لكي تدفع عشرين يورو صدقة لمسكين أو لكي تكف عن بعض قباحاتك – سوف تحتاج إلى خمسين ألف حديث، وسوف تحتاج إلى سماع القرآن بصوت المنشاوي وعبد الباسط والسديس وكل الدنيا، وسوف تحتاج إلى خمسين شيخاً مثلي يُنتفِّون شعورهم ويلطمون لكي يُحرِّكوا فيك شيئاً، وبالكاد تتحرَّك ثم تقع بعد ذلك في الحافرة، هذا الذي يحدث معنا الآن، شيئ يُجنِّن، أليس كذلك؟ هذا هو! وأمس خُطبتي كان لها علاقة بهذا المعنى، لكي أكون فاضلاً ونبيلاً ومُستقيماً لا أحتاج إلى كل هذه المواعظ والعلوم والتلاوات والأشياء والقراءات وما إلى ذلك، أحتاج إلى فهم مبدأ بسيط جداً جداً جداً، وأنا أكثر احتياجاً إلى أن يكون عندي إرادة أن أعمل بهذا المبدأ.

لاوتسو Lao-Tzu نفسه يتحدَّث عن الماء اللطيف العميق الانسيابي الهادي جداً والصافي جداً والقوي جداً، وقال لا يُوجَد شيئ مثله، سوف نرى هذا ربما في الفصول دون العشرين، سوف نقرأ الفصل هذا إن شاء الله، قال هذا الماء ينساب تحت الأشياء ويتلف حولها، هي لا تُعطيه الطريق وتُسكِّر عليه لكن هذا عادي وهو يلتف حولها، قال بعد ذلك يأتي إلى حافة الصخر المُسنَّنة الحدية ويظل يلتف، وإذا به يُدوِّرها، تصير مُدوَّرة مثل ذراع الكعاب، الغادة الخمصاء! تصير مُدوَّرة وجميلة وملساء، ويبدأ هو أيضاً يدور حولها دون أن يُعاني الالتواء الحدي، هو مَن فعل هذا، أليس كذلك؟ سلِّطه على الصخر وسوف يُفتِّته ولو بعد ماء سنة، سلِّطه على تل عظيم جداً جداً وسوف يُذيبه، أليس كذلك؟ هذا الماء، وهذا – كما قلنا – أكبر استعارة عندهم للطاو Tao وأنجحها على الإطلاق، فيه قوة غريبة جداً جداً هذا الماء المُساب، لأنه هو نفسه منطقه منطق الطاو Tao، الانسياب في الفراغات له، لا يُحاوِل المُعارَضة، لو الماء ركب رأسه وقال لا وسأحلف يميناً ولن أحنث فيه، فأنا لن أنحني من هنا، أنا أُريد أن أعبر طريقي عبر قلب الصخرة، فسوف يتعب كثيراً، أليس كذلك؟ سوف يتبخَّر قبل أن يفعل الشيئ هذا، لكن لا، هو ذكي ويعرف ماذا يُريد، أليس كذلك؟ هنا في الغرب يُقال لك انحن للعاصفة، رأسك ليس قدها، أنزل رأسك! لاوتسو Lao-Tzu يقول جميل جداً، بعض الناس مُتعِبون، يُحاوِلون أن يظهروا ويُحاوِلون أن يكونوا من ذوي الحيثيات ويُحاوِلون أن يتبجَّحوا عليك، هؤلاء موجودن في كل مكان وفي الصين طبعاً أكيد، قال لا مُشكِلة، قال اتركوهم، هؤلاء يُقدِّمون لنا عظمة، هم أنفسهم درس، يبدو أن الطاو Tao يمكر بهم ويستخدمهم لكي يُقدِّموا لنا عظة كبيرة جداً جداً جداً، لماذا؟ يقول لاوتسو Lao-Tzu لأن المنشار – أول ما تطال تطال عالي الشجر، العرب نفسها تقول نفس هذا الشيئ، الريح أول ما تطال تطال رؤوس الأشجار، أليس كذلك؟ الأشجار العالية هذه تكون هي العُرضة للضربات الأولى، وهي التي تنقص، الآن حين يأتي إعصار – Tornado – بسرعات هائلة مُخيفة جداً جداً هناك عمارات تنقص، ليست البسيطة التي من تتكون خمسة طوابق وإنما التي تتكوَّن من عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو سبعين طابقاً، تنقص مُباشَرةً! كأنما قطعت بسكين زبدة، تخيَّل! هو هكذا، هو هذا، هناك ضريبة، كل شيئ له ضريبة!

لذلك هذا أذكرني بنُقطة مُهِمة جداً جداً، وهي جوهر الفرق بين الطاوية الفلسفية أو التأملية أو المدرسية وبين الطاويات الإحيائية، الطاوية المدرسية تُريد الحفاظ على مُكتسَباتنا من قوة الطاو Tao، من تي Te الطريق هذه، هي تُريد أن تُحافِظ عليها! بلُغة الاقتصاد يُسمونها الحفاظ على صافي الربح، ولكي نُحافِظ على صافي الربح دائماً لابد أن نُقلِّل التكلفة، هكذا الاقتصاد يقول وهم يفعلون هذا، الطاويات الإحيائية تقول لا، أنا لا أكتفي بهذا، أُريد أن أزيد إجمالي الانتاج، بمعنى أنني لن أكتفي بحصتي من القوة، أُريد أن أُحاوِل زيادتها، عبر أكل أشياء مُعيَّنة وتمارين مُعيَّنة واستراتيجيات مُعيَّنة، لكن هؤلاء يقولون لا، نحن مُتواضِعون، مُتواضِعون جداً ونستسلم لمنطق الطاو Tao الحكيم، لنا حظ مُعيَّن مكتوب – كل شيئ مُقدَّر – فنحن نرضى بحظنا هذا ونقنع به ونستسلم له، لكننا لا نُحاوِل أن نخسره، دائماً نُحاوِل أن نحتفظ به، كيف نحتفظ به؟ عبر فلسفة الوو وي Wu-Wei هذه، الوو وي Wu-Wei هي – كما قلنا – فلسفة النشاط الخلّاق الفعّال، النشاط الأقصى وليس اللافعل الحرفي، هذا هو!

هذه كلها أشياء سوف نقرأها هنا، نحن للأسف لم نُكمِل شرح الشعار الخاص بهم، أي التاي شي Tai chi هذا، ماذا قلنا؟ قلنا الدائرة الكُبرى هي الطاو Tao الأصلي نفسه دون فعل دون تعينات، ويُشير إلى نفسه قبل الخلق، لا تُوجَد لا أرض ولا سماوات ولا إنسان ولا عقل ولا أي شيئ، لا يُوجَد أي شيئ غير الطاو Tao فقط، كأنه الله في عقيدتنا نحن، الله! كان الله ولا شيئ معه، لم يكن معه شيئ، هو هذا! بعد ذلك هناك الدائرة الوسطى التي تنقسم بالخط المُنحني إلى قسمين: الأسود والأبيض،  وفي الأسود دائرة بيضاء وفي الأبيض دائرة سوداء، هل هذا واضح؟ الأسود هذا هو اليانغ Yang، القوة الفاعلة! والآخر هو اليين Yin، القوة المُنفعِلة! والدائرة البيضاء في القسم الأسود سوف تكون روح أو جوهر أيضاً اليين Yin، أي أن النقيض يكمن في قلب نقيضه، أرأيتم؟ اليين Yin يكمن في قلب اليانغ Yang، واليانغ Yang نفسه يكمن في قلب اليين Yin، لماذا؟ قال هو هذا الذي يحدث، هذا مبدأ عمل الطاو Tao، اترك الشيئ يرتفع، اتركه! الارتفاع هو اليانغ Yang، أي قوة يانغ Yang، ارتفع! لأن السماء نفسها يانغ Yang والأرض يين Yin عندهم،  اتركه يرتفع! ارتفع ارتفع ارتفع – ما طائر وارتفع إلا كما طار وقع – ولابد أن يصل إلى درجة مُعيَّنة – تقول الطاوية – هي أقصى ما يُمكِن لليانغ Yang – يانغ Yang هذا الشيئ الآن – أن يفعله، سوف يصل إلى أقصى مدى وبعد ذلك سوف يبدأ الهبوط، الآن مَن بدأ يغلب؟ اليين Yin، الأبيض هذا، بدأ يغلب! فلماذا؟ لماذا تحول اليانغ Yang إلى اليين Yin؟ لأن أصلاً اليانغ Yang كان يفعل بأقصى جُهده وأقصى طاقته وكان يكمن فيه اليين Yin، الدائرة البيضاء الصغيرة هذه تكمن فيه وتنخر فيه هي، يفعل ويفعل وهو يظن أن له المُستقبَل كله، لكن لا! المُستقبَل ليس له، اللحظة له الآن والمُستقبَل لليين Yin، يصعد وبعد ذلك ينتهي الأمر فيبدأ الآن اليين Yin يفعل، يبدأ ينزل ينزل لكن يكمن فيه أيضاً اليانغ Yang، وحين يُظَن أن هذا رسب وانتهى يرجع من تخوم الأرض فينبت ويتبرعم ويخرج ثم يُحلِّق من جديد، أرأيتم؟ فلسفة الحياة والموت، هذه هي، سُبحان الله! ترى الشجر يطلع وما إلى ذلك ثم يأتي الخريف بعد ذلك، يقول لاوتسو Lao-Tzu حين يأتي الخريف لا يُوفِّر شجرة، لا يقول هذه حلوة كثيراً وطيبة وأطعمت عشرة آلاف عصفور ومن ثم سأتركها، لكن هذا لا يحدث، هذا خريف والكل لابد أن ينزل، يُنزِل الكل! فتتجرد الدنيا، تغلب عليها الجهامة والقتامة واليأس والقنوط، هكذا تراها أنت! لكن هذا منطق، منطق الحياة نفسها، تغيرات! وتسقط الأوراق – الأوراق الساقطة هذه – فتُغذي الأرض، تخيَّل! تُغذيها وتُغذي فيها قوة الحياة، بعض الناس كلما سقط ورق كنسوه، وهذا غلط، أكبر غلط هذا، تخيَّل! 

قديماً تحدَّثت في خُطبة عن البيئة عن السبب الحقيقي لنشوب حرائق مُدمِّرة في أمريكا – الولايات المُتحِدة الأمريكية – أعجزتهم أشهراً طويلة عن إطفائها، هل تعرف ما هو؟ البلدية الغربية كانت تعمل دائماً على كنس الأراضي باستمرار، وقالوا هذا كان تكنيكاً خاطئاً تماماً، كان لا ينبغي أن يُفعَل هذا، لأن هذا يزيد رطوبة الأرض نفسها وتنفسها، ويزيد الرطوبة حتى في اللحاء وما إلى ذلك، فأنت جفَّفتها – مارست عملية تجفيف صناعية – وجعلتها أقرب إلى الاشتغال، غلط! تماماً كما تشحذ – هذا الآن باللُغة الطاوية – النصل كثيراً جداً جداً جداً فيُصبِح أقرب إلى الصدأ، معروف أي شيئ يُشحَذ كثيراً يُصبِح أقرب إلى أن يصدأ، عرَّضته للصدأ – Rust – أنت فخرَّبته، غلط! ليس إلى هذه الدرجة، اتركه! دع الطبيعة تُحرِّك الوضع بمنطقها.

فهو قال هذا، هذه فلسفة الحياة وفلسفة الموت، هي هكذا! فلسفة العلم وفلسفة الجهل، العالم الذي يُحاوِل أن يعلم كل شيئ ويظن أنه فعلاً يستطيع هو مُخطئ، العرب والمُسلِمون قالوا فمَن ظن أنه علم فقد جهل، لا فائدة! خرج لنا اليين Yin الآن، العلم يانغ Yang والجهل يين Yin، أليس كذلك؟ المُعلِّم نفسه يانغ Yang، أي قوة يانغ Yang، والمُتعلِّم قوة يين Yin، استقبال! أليس كذلك؟ المطر والسماء قوة يانغ Yang، الأرض واستقبالها قوة يين Yin، أنا الآن جالس وهذا يين Yin، حين أقوم يكون هذا يانغ Yang، تخيَّل! كل شيئ في الفلسفة الطاوية والصينية عموماً يُفسَّر باليانغ Yang وباليين Yin، قيامك وجلوسك وأكلك وشربك واستماعك وكلامك وتعاطيك، كل شيئ يانغ Yang ويين Yin، كل شيئ! وكما قلنا حتى الفلسفة الكونفوشيوسية قالوا يانغ Yang، الفلسفة الطاوية قالوا يين Yin، حتى الفلسفات والأفكار فيها هذا، كيف تتقابل قُطبياً؟ التناقضات القُطبية المُتمِّمة طبعاً سنشرحها إن شاء الله!

نرجع، إذن هذا معنى هذا الشعار، أرأيتم كيف؟ هذا معنى هذا الشعار! هناك دورات لا تنتهي، دورات مُستمِرة أبدية، يخرج هذا من هذا وذاك من هذا باستمرار باستمرار!

عندهم الآن الموقف من الطبيعة، ما هو؟ هذا العالم الكبير جوزيف نيدهام Joseph Needham – كما قلنا أكبر عالم في الصينيات – يكتب في كتابه العظيم هذا والمشهور عالمياً طبعاً والمُترجَم تقريباً إلى مُختلَف اللُغات قائلاً برُغم أن الشعب الصيني لم ينجح في تطوير منظومات نظرية هائلة – مثل الإغريق مثلاً، ليس عندهم فيلسوف في حجم أفلاطون Plato مثلاً، أفلاطون Plato كما تعرفون عنده نظام System كامل، مذهب أو نسق! فكرة مُعيَّنة ومذهب يُفسِّر لك كل شيئ، وأرسطو Aristoteles نفس الشيئ، أليس كذلك؟ لكن هؤلاء لم يكونوا هكذا، وهذا الطاو Tao كله، ليس لا من قريب ولا من بعيد يُشكِّل نسقاً فكرياً مثل النسق الأرسطي أو الأفلاطوني أو السبينوزي، هو ليس هكذا، هو شيئ مُختلِف تماماً، القدرة التنظيرية عندهم ليست كالتي عند الغربيين، لذا قال هم لم ينجحوا في هذا – فإنهم طوَّروا موقفاً من الطبيعة كان مُشابِهاً إلى حد بعيد جداً للموقف الذي وجد علمنا الغربي نفسه مُضطَراً بعد ثلاثمائة سنة إلى الخلوص والانتهاء إليه، قال علمنا الميكانيكي، علمنا الغربي الميكانيكي! الميكانيكي، طبعاً هذا كان نموذجاً ميكانيكياً! بعد ثلاثمائة سنة أن يخلص وينتهي إليه، الطاوية طوَّرته من قديم بكل بساطة، ما هو؟ هذا طبعاً موجود عندنا في القرآن وفي الدين بشكل عميق جداً وقد تكلَّمنا عنه في مرات كثيرة، لكن ما هو؟ موقف التتام والتكامل والمُصادَقة مع الطبيعة، ليس المُعاداة وليس المُنابَذة وليس الاغتصاب وليس الإكراه.

الفلسفة الغربية العلمية من الصعب أن نُسميها فلسفة تسخيرية بالمُناسَبة، غلط! قد تقول لي أحدكم نحن عندنا نفس الشيئ، أنت كإنسان كل شيئ مُسخَّر لك، لكن انتبه! نقول إنه مُسخَّر، انظر إلى كلمة مُسخَّر، ليس أنت مَن سخَّره، انتبه! مَن المُسخِّر؟ الله، وكيف سخَّره لك؟ هو الآن مُسخَّر هكذا، أليس كذلك؟ هو هذا، فحين تأتي أنت وتُريد أن تنقض خُطة الله ومنطق الله في المُسخّرية هذه بأفكار مثل أفكار الغربيين – بالعكس – تكون عالجت الطبيعة بمنطق غير منطق التسخير، منطق العدوان والاغتصاب والإكراه ومنطق الغزو Conquest! ولذا يُقال غزو الطبيعة وغزو الفضاء وما إلى ذلك.

سوزوكي  Suzuki – دي. تي. سوزوكي D.T. Suzuki – هو أحد فلاسفة الصين الكبار جداً، حين وصل البريطانيون إلى قمة إفرست Everest – أعلى قمة جبلية في العالم – طبعاً احتُفِل بهذه المأثرة على أنها غزوٌ لقمة إفرست Everest، قالوا غزوناها، غزو! هذا كله غزو، فعلَّق دي. تي. سوزوكي D.T. Suzuki بقوله لو قُدِّر لنا نحن الشرقيين أن نُحرِز مثل هذه المأثرة لعبَّرنا عنها بأنها صداقتنا لإفرست Everest، نُصادِق الآن قمة إفرست Everest! وطبعاً إلى الآن يُوجَد جدال ونزاع حول هذا الموضوع، يُوجَد اثنان بالمُناسَبة وصلا إلى إفرست Everest، مَن الأول الذي وصل؟ هذا مُهِم جداً، انظر بعد ذلك إلى القمة الثانية – نسيت اسمها لكنها في اليابان، أعلى قمة في جبل عالٍ جداً جداً – التي وصل إليها مُتسلِّقون يابانيون ومعهم إنجليز وقبل أن يصلوها ببضعة أقدام تركوا الأمر، قالوا لا نُريد أن نصل إلى القمة، احتراماً لها! فلنتركها كما هي، فلتبق القمة قمة، الإنجليزي نظر هكذا واستغرب، ما المنطق هذا؟ قالوا هذا هو، اذهب أنت، إذا أردت أن تذهب فلتذهب، سجِّل السبق الخاص بك، هذا السبق اذهب وسجِّله لكن نحن لا نُريده، أرأيت؟ يُوجَد احترام حقيقي، يُوجَد احترام حميم للطبيعة، احترام لجلالها، جلال! بالمُناسَبة الكثير من الأدبيات الطاوية تُعبِّر عن الجلال هذا، الطبيعة فيها جلال، الطاو Tao نفسه جليل وهو الأجل، والطبيعة فيها جلال، اترك هذا الجلال، لا تغتضب جلالها، أنت لك شيئ من نوع مُختلِف أيضاً كإنسان، أليس كذلك؟ فتخيَّل هذا وهو منطق غريب جداً جداً، بقيت بضعة أقدام لكنهم قالوا لا، نكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله، كيف؟ قالوا هو هذا، فالإنجليزي – قال – إنه لم يستطع أن يستوعب هذا المنطق، لم يُفكِّر من قبل هكذا، غير مُؤهَّل المسكين لأن يُفكِّر بعقلية مثل هذه العقلية، يُريد العكس ويتساءل مَن الأول أيضاً؟ ليس بريطانيا وما إلى ذلك وإنما مَن الشخص الأول؟ يُريد أن يقول أنا!

بالمُناسَبة أنا نفسي كنت أُخطئ في فهم هذا الشيئ ولم أتنبَّه إليه بنفسي وإنما نُبِّهت عليه، مَن نبَّهني عليه أيضاً هو عبد الواحد يحيى – رينيه جينو René Guénon – في كتابه عن النظريات التقليدية، الوحيد الذي رأيته نبَّه على الشيئ هذا، عند الهنود كما عند الصينيين ليس مُهِماً بالمرة تحقيق الأشياء كرونولوجياً ونسبة الأشياء إلى الأشخاص بدقة، غير مُهِم! لذلك إلى الآن غير مقطوع – كما قلنا – بتاريخية لاوتسو Lao-Tzu، هل لاوتسو Lao-Tzu هذا فعلاً شخصية تاريخية كانت موجودة؟ متى وُجِد؟ غير معروف! عملية غير مقطوع فيها بالمرة، الفكر الهندي القديم فيه نفس الشيئ، جانبه التاريخي غامض جداً جداً جداً، والفكر الصيني فيه نفس الشيئ، والتاريخ الفارسي فيه نفس الشيئ، وأنا أقول لكم – وهذا ذكرته الآن في خُطبتي عن ذي القرنين – لولا هيرودوتس Herodotus – أبو التاريخ هذا – كتب تاريخ العالم وأرَّخ لجُزء كبير من تاريخ فارس وميديا لما كان عند الفرس هذا التاريخ ولما عرفوه، ليس لأنهم لا يمتلكون إحساساً بالزمان أو احتراماً للفردية أو احتراماً للحداثة أو تقديراً لصناعة التاريخ – والآن التاريخ يُصنَع، فهم عندهم هذا الشيئ وبحس عميق – لكن لأن عندهم روح كُلية، عندهم إحساس بالوحدة، وحدة المُجتمَع، وحدة الإنسان، وحدة الطبيعة، وحتى – كما قلنا – وحدة الآلهة، آلهة الأولمب مُتصارِعة، أليس كذلك؟ كزيوس Zeus وجماعته وبعض الآلهة الأُخرى، كلها في صراع دائم، وهذا ينعكس على مأساة البشر وشقاء البشر، فهذا ينعكس في شكل شقاء بشري، لكن آلهة الهند على العكس من هذا، كانت مُتحابة جداً جداً، وكما قلنا يُمكِن أن تعبد كالي Kali في معبد ساراسواتي Saraswati ويُمكِن أن تعبد شيفا Shiva في معبد فيشنو Vishnu مثلاً ، قالوا لك هذا عادي، ليس عندهم أي مُشكِلة!

هذه الروح الغرب لا يتميَّز بها، لا أكذب عليكم، أنا كنت مُتشائماً جداً وخائفاً وكنت أُخوِّف من هذا، لأنني لم أكن أعرف هذا، كنت جاهلاً مثلكم، هذه الصين لو حكمت العالم ماذا سوف يحدث؟ كنت أظن أنهم سوف يذبحون الدنيا وسوف يأكلون الدنيا، ليس هذا! اتضح أن هذا الكلام غير صحيح، حين نقرأ تاريخهم وفلستفهم نجد أن عندهم إنسانية وعندهم عمق أكثر من هذا الغرب ألف مرة، الآن بالمُناسَبة بدأ الغرب يلمسون هذا، الصين عندها استثمارات بدأت تدخل قليلاً في مصر، وسمعنا عمرو أديب يقول لا تستغربوا في السنة القادمة من أن يكون في محلي هنا مُذيع صيني، غزو في كل شيئ! غزو وبسلاسة وإنسانية، والناس يستقبلونهم بكل ترحاب، لماذا؟ ليس عندهم شروط، يقولون لك بالعكس، خُذ المليار هذه واستثمر فيها يا سودان، عندهم استثمارات رهيبة الآن في السودان! يقولون خُذ واستثمر، لكن أمريكا وأوروبا يا حبيبي وصندوق النقد والبنك الدولي ليسوا هكذا، شيئ يُجنِّن! عندهم شروط رهيبة جداً تتعلَّق بدينك وبشرفك وبتراثك وبقضاياك وبفلسطين وبأمك وبأبيك وباقتصادك وبدولتك وبشعبك بكل شيئ، ما هذا يا أخي؟ يذبحونك! لا يُعطون شيئاً إلا لذبحك، لا يُعطونك أبداً شيئاً من أجل حاجتك – والله العظيم – أو احتراماً لإنسانيتك، الصين تقول لا، بالعكس! اكسب أنت وأنا أكسب، وهذا المنطق الآن بدأ بعض الغربيين يفهمونه، يقولون Win Win، أي You Win, I Win، أنت تكسب وأنا أكسب! الغرب ليس عنده مثل هذا حقيقة، مذهبه الحقيقي I Win, You Lose، هو هذا! أنا أربح وأنت تخسر!

قديماً أنا اقتبست زيجلر Ziegler – المُفكِّر السويسري العظيم، حقيقة هو إنسان نبيل جداً ومُمتاز – الذي قام بعمل أمثولة فظيعة جداً، قال الرومان كانوا يُعامِلون الناس قائلين لنا السُدس ولكم خمسة أسداس أو لنا سُدسان أحياناً ولكم أربعة أسداس، قال ما أكرم هذه الخُطة! والرومان طبعاً يُؤرَّخ لهم على أنهم حكموا إمبراطورية ظالمة وغاشمة وكان عندهم روح عسكرية ولم يكن عندهم ثقافة حقيقة وغزوا العالم وكذا وكذا، لكنهم يا أخي كانوا عادلين إلى حد بعيد جداً جداً، أفضل منهم المُسلِمون حقيقة، لكن الرومان الأفضل بعد المُسلِمين، جيد أن يأخذ سُدسين أو سُدساً ثم يُعطيني البقية، يا سلام!مُمتاز جداً، خمسة أسداس أو أربعة أسداس، ماذا قال زيجلر Ziegler؟ كم الغرب الآن يُعطي الشرق كله؟ كم؟ الآن يأخذون بترولنا، يُعطيك الواحد منهم جُزءاً من ألف ويأخذ البقية – تسعة تسعة تسعة – له، وفي بعض المرات لا يُعطيك شيئاً والله العظيم، وفي بعض المرات يجعلك مديوناً له، ما رأيك؟ جشع رهيب جداً يا أخي، روح عجيبة لا تشبع!

نحن الآن نعيش الفوضى الفظيعة التي اسمها إنفلونزا الخنازير Schweinegrippe والتلقيح – Impfung – الخاص بها واللعبة الاقتصادية الحقيرة المكشوفة، أنا من أول يوم شممت الرائحة، لم اقتنع بالفكرة كلها، لأننا نعرف ونقرأ الكلام وننظر، الإنفلونزا – Grippe – العادية هذه تأتي كلنا سنة ويُسمونها الموسمية، مرض الإنفلونزا – Grippe – الموسمي يموت منه حول العالم كل سنة كم؟ خمسة ملايين، هل شعرتم بهم يوماً؟ كل سنة خمسة ملايين يموتون من الإنفلونزا – Grippe – العادية هذه، عادي! العالم فيه ستة ملايير يا حبيبي، فلا يشعر بهم أحد، يموتون عادي وبهدوء، لم يُحوِّلوا هذا إلى وباء – Epidemic – وما إلى ذلك، نعم لو صار مثل الإنفلونزا الإسبانية في التاسع عشر وأمات خمسة وأربعين مليوناً لكان الأمر مختلِفاً، لكن هذه مر عليها سبعة أشهر ومات مائة وسبعون في الأول، ما هذا؟ كلام فارغ، هذه لعبة، هذا أحسن مرض عرفته الدنيا، أُقسِم بالله! أكثر مرض فيه سلامة Safety، هذا مرض آمن جداً جداً يا أخي والله العظيم، فعلاً! ثم إن مُنظَّمة الصحة العالمية رُغم أنهم اشتروها وضغطوا عاليها قالت مُضطَره – تناقضت والناس لم يفهموا – نعم من جهة أعراضه ومن جهة التكهنات – Prognosis – الخاصة به هو الأكثر أماناً، ويتعافى المريض في أسبوع بشكل تام، فإذن ما قصتهم يا أخي؟ هناك لعبة يلعبونها يا أخي، هل هم صنَّعوها؟ الله أعلم، هل هم مَن تسبَّبوا في هذا؟ ماذا يُريدون؟ الآن بدأنا نسمع عن شيئ آخر، فهم عملوا هذا التلقيح – Impfung – للقضاء على البشر، وقد يكون هذا للتعقيم، حين تأخذه لا تُخلِّف، لن تُخلِّف ولن ترى أي أولاد بعد ذلك، وربما تُخلِّف وأولادك يموتون في أول سنة أو سنتين، وربما أنت تموت بعد فترة!

هنا في النمسا الآن بدأنا نسمع – في المدارس يقولون هذا، وأنا سمعت هذا من بناتي عن المُدرِّسين والمُدرِّسات – أن الذين ماتوا هنا ليسوا مَن أصابتهم الإنفلونزاGrippe، وإنما مَن أخذوا التلقيح – Impfung – هم الذين ماتوا، نسبة الموت رهيبة فيهم!

أمس كان عندي الدكتور عبد السلام، قال لي ابني أحمد – شاب عمره يصل إلى الرابعة والعشرين – أخذ التلقيح Impfung، فقلت له هو حمار، قال لي أنا قلت له إنه حمار، قال لي نفس العبارة! قال لي قلت له أنت حمار! أبوه جُنَّ لأن عنده فكرة عن هذا، هل تعرفون ما الذي صار؟ شاب – ما شاء الله – قوي طويل وعريض أخذ التلقيح – Impfung – هذا وحده دون أن يستشير أباه، وهذا الأب طبيب مُتخصِّص، قال لي في الليل كنا نائمين ووجدنا الباب يُدَق دقاً فظيعاً، فقمنا فزعين جداً، وإذا بالإنقاذ Rettung، فشعرنا بالخوف وقلنا لهم ما الأمر؟ فقالوا أنتم اتصلتم بنا، واتضح أن أحمد هو الذي اتصل بهم، الشاب كاد يموت! هذا الشاب حصل له هذا بعد أن أخذ التلقيح Impfung، بدأ يُنازِع فجاءوا في آخر لحظة وأدركوه، قلت له الله أنقذ لك إياه! وهذا يعني أن الفكرة بدأت تتبلور، يُوجَد قتل!

أنا قبل سنتين أو ثلاث سنوات – وعقدت هذه الخُطبة حتى في الدنمارك وعقدتها هنا – حدَّثتكم عن تقرير اسمه تقرير لوجانو Lugano، أكيد تتذكَّرونه! أنا قرأت هذا التقرير بنفسي والحمد لله، بعد ذلك ترجمه المصريون – بارك الله فيهم – في سطور ترجمة مُمتازة رائعة، قرأته – عندي النُسخة الإنجليزية – ووجدت أنه خطير جداً، هناك أُناس نبلاء – يبقى أيضاً الكثير من البشر المُحترَمين – سرَّبوه، هم الذين سرَّبوه رُغم أنه سري للغاية Top secret، ممنوع أن يطلع عليه أي أحد، سنة كاملة مُؤتمَر في لوجانو Lugano في سويسرا – سنة كاملة – دهاقنة وشياطين وسدنة الطُغيان العالمي من علماء اقتصاد ولاهوتيين وعلماء اجتماع وعلماء نفس وعلماء سياسة وماليين يجتمعون، سنة كاملة يجتمعون! سنة كاملة! ليس يوم أو يومين وإنما سنة، ومكتوب في التقرير الذي قرأته – أشياء تُقشعِر البدن أُقسِم بالله، كتبوها في التقرير الذي يُريدون إنفاذه – يجب الوقوف بالتعداد البشري كحد أعلى عند سبعة بلايين، لا يُسمَح أن يتعدى هذا العدد، لأنهم يتوقَّعون بعد ستين أو سبعين سنة أن العدد قد يصل إلى عشرين بليوناً، فلابد من الوقوف بهذا العدد عند هذا الحد، كيف؟ الآن قالوا هناك مُقترَحات، هذا – أنا أقول لك – واحد منها الآن، تجربة! الوباء هذا والكلام الفارغ هذا والتلقيح – Impfung – هذا!

حدَّثني شخص قائلاً نحن استوردنا كذا مليون تلقيح – Impfung – من هذا بحسب عدد الشعب، ما رأيكم؟ عدد الشعب – مثلاً – خمسة عشر مليوناً والدولة استوردت خمسة عشر مليون تطعيم، قلت له يا بابا زعامتكم ما شاء الله – عندها مُخطَّط للتوريث، وكل العرب عندهم توريث، ما شاء الله عليهم! لا كثَّر الله من أمثالهم، كلهم يُريدون أن يُورِّثوا، ولماذا هم يخافون؟ ورِّث! أنا أقول لك سوف تُورِّث وسوف تسير الأمور بسلاسة، أنت تتعامل مع قُطعان، لن يحدث أي شيئ فلا تخف، لكن هؤلاء الرؤوساء يخافون كثيراً ولا يُصدِّقون ما يحصل، يشعرون أنهم في حلم، فلن يحدث أي شيئ، سوف تُورِّث وأنا أعرف هذا، نحن لا نزال دون هذا المُستوى بكثير، أمة يُمكِن أن تتعادى وأن تتباغض وأن تتكافر من أجل كُرة – أُقسِم بالله – هذه تقبل أن يحكمها إبليس، أنا أقول لك هؤلاء لا يفهمون شيئاً، هؤلاء ضائعون، هذه نائس ضائعة، هؤلاء البشر ضائعون، أنا لم أُحِب أن أُعلِّق على الموضوع كله – والله العظيم – لأنه جنني، قلت لزوجتي أُقسِم بالله بحسب الذي أراه الآن هذه الأمة – الأمة العربية كلها وربما الإسلامية ككل – والله لو بعث الله عليها قنبلة ذرية تمحوها – والله العظيم – لكان عدلاً، أُقسِم بالله لكان عدلاً، ما عُدنا نستحق الحياة يا أخي، ما الأمم هذه؟ ما هؤلاء البشر يا أخي؟ كرة ماذا؟ وزفت ماذا؟ وكلام فارغ ماذا؟ ولعب ماذا؟ ما هذه الحقارة التي نحن فيها؟ ما هذا يا أخي؟ ما الحقارة هذه؟ يا ويلنا، يا ويلنا! والله – لا أعرف، أنا أخاف من هذا – يُمكِن شيئ مثل هذا يُدخِلنا جهنم والله، كل هؤلاء الناس سوف يقول لهم الله تعالوا، أنا أعرف ما في قلبك يا عبدي – سوف يقول للواحد منهم – فأنت لم تتمعر ولم تغضب ولم تحزن على أهل فلسطين وأهل أفغانستان وأهل العراق الذي يُذبَحون ويشوون مثلما فعلت مع الكرة، ما قصتك أنت؟ ستدخل جهنم، اذهب! مَن أصبح وأمسى ولم يهتم بأمر المُسلِمين فليس منهم، أي دين نتحرَّك به يا أخي؟ أين الجماعات الإسلامية هذه يا أخي؟ أين الفكر الإسلامي؟ قد تقول لي هم يتحدَّثون، يتحدَّثون يا أخي – ماذا نقول؟ – وبارك الله فيهم، لكنهم لم يفعلون شيئاً، لأن هذا يعني أنهم صاروا حمقى، هذا يعني أنهم لم يُؤثِّروا بشيئ في الأمة، لأنهم أيضاً يدخلون في معارك فكرية وهي معارك سخيفة، كله في غير الجدي، كله هزلي فارغ وتعيس جداً جداً، استغلوا حكاية النقاب وما إلى ذلك لكي يفتحوا أفواههم وفضائياتهم على مدار الأربع والعشرين بهبل، اللحية والنقاب وقصص كثيرة! أُصيبوا بالهبل يا أخي، كأن الدين ضاع بسبب النقاب، يا أخي تحدَّث عن قضايا الأمة الحقيقة، يا رجل تحدَّث عن وعي، تحدَّث عن أمثالك من المُغيَّبين، أنت غيَّبتنا وذبحتنا، أنت ومَن مثلك – أُقسِم بالله – جرَّفتم لنا حياتنا، جرَّفت لنا الدين أنت ومَن مثلك، انظروا إلى البلاء الذي أنتم فيه، لكنهم لا يفهمون شيئاً، هم ضاعوا وضيَّعونا!

انظر إلى الكرة هذه التي شقت الأمة كلها، تشقها بشكل عادي! وانظر إلى الشعوب العربية التي تنحاز إلى شعب دون شعب، لماذا؟ ماذا يقرب لي المصري أو العربي أكثر من أنه أخي في الإسلام والعروبة؟ لو هذا فاز أنا أفرح ولو هذا فاز أنا أفرح، لن أشمت وما إلى ذلك، وهذا إذا فرحت أصلاً في كل هذا الموضوع السخيف، أنا لا أفرح ولا أحزن بصراحة، كل هذا كلام فارغ، والله العظيم لا يعنيني – أُقسِم بالله – هذا، لو حصلنا على المركز الأول على مُستوى البشرية كلها – والله العظيم – لقلت هذا لا شيئ، هذا لا يُشكِّل لي أي شرف، هذا اسمه هبل، الشرف عندي أن يخترع واحد مُسلِم أو عربي دواء، يرفع رأسك ورأس أمتك إلى يوم الدين، عندي واحد مثل زويل – أحمد زويل – أشرف من الأمة العربية كلها والله العظيم، هذا رفع رأسنا يا أخي، هذا عبقري، ويُوجَد مثله مئات الألوف لكنهم لم يأخذوا نوبل Nobel مثله، هو أخذها! هذا الذي يرفع الرأس يا أخي، ولم نحتف به ولم نحتفل به، وعصمت عبد المجيد كرَّمه بكُتيب عندي، مُستحيل أن آتي به، كأنني أبصق عليكم إذا رأيتموه، لأنه بصقة في وجه زويل والله العظيم! كُتيب صغير من ثنتي عشرة صفحة تقريباً، قسماً بالله! هذا تكريم الجامعة العربية للدكتور أحمد زويل! تباً لهم يا أخي، لكن عبد المجيد كتب مُذكَّراته في مُجلَّد ضخم، كتب مُذكَّراته هكذا لكن تكريمه لزويل – العقل العربي العلمي، هذا أينشتاين Einstein العرب إن لم يكن أعظم من أينشتاين Einstein – أتى في كُتيب من ثنتي عشرة صفحة ثم سلَّم عليه وأعطاه ميدالية، أمة تعبانة، لا عقل لها، هنا في الغرب حين تدخل المدارس تجد أنهم وضعوا في كل مدرسة تمثالاً نصفياً لمُؤسِّس المدرسة الذي كان تربوياً كبيراً أو لعالم عندهم أو لفيلسوف أو لتربوي مشهور، يضعون تماثيل لهؤلاء في كل مدرسة وفي كل ساحة وفي كل حديقة، يُعلِّمون الأمة أن تحترم طاقاتها، ليس لعب كرة قدم! الناس أُصيبوا بالهبل والجنون، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩

على كل نرجع، أقول إن ندهام Needham هذا قال نحن في النهاية بعد ثلاثمائة سنة من العلم الميكانيكي نضطر أن نرجع إلى الموقف الطاوي من الطبيعة، موقف يرى ماذا؟ الصداقة، المؤاخاة، والتكامل، لماذا؟ لأن الفلسفة الطاوية كلها عموماً تنظر إلى التناقضات القُطبية، يُسمونها تناقضات قُطبية! ما معنى أنها قُطبية؟ ليست تناقضات في فراغ عدمي، هذه تناقضات قُطبية، الحياة نفسها – نفترض – أو ظاهرة حيوية أو وجودية هي محور له قُطبان، أليس كذلك؟ لا يُمكِن أصلاً أن تتم فكرة المحور إلا بقُطبين، أليس كذلك؟ فالكينونة نفسها تناقضية بطبيعتها، عندك القُطب اليمين – مثلاً – وعندك القُطب اليسار، يقول لاوتسو Lao-Tzu في الطاو Tao أيضاً ثلاثون محوراً في العجلة تلقتي كلها عند المركز، لكن لولا المركز ما كانت المحاور، وبالتالي ما كانت عجلة، أرأيت؟ وأنت عندك هكذا، كل محور في النهاية لها قُطبان، هما اللذان يُعطيانه كينونته ومحوريته، ولذلك في الطاوية كل الحقائق في نهاية المطاف نسبية، لا يُوجَد عندهم تشبث، لا يقولون هذه حقيقة مُطلَقة تحكم على كذا وكذا، لا! كل شيئ نسبي، لماذا؟ لا يبحثون عن إمكانية أن يكون المُطلَق مُطلَقاً بإطلاق، لا! أنت لا تستطيع أن تلحظ هذا، أنت نسبي في النهاية كبشر، بظروفك وعقليتك ومشاعرك أنت نسبي، أنت مُشرَّط، مظروف بظروف مُعيَّنة، ولذلك في النهاية أنت مُضطَر أن تنظر إلى الأشياء كلها من خلال شروطك، فسترى كل شيئ نسبياً، ولا مناص من هذا، ولذلك هم يحترمون ماذا؟ وجهات النظر التي تراها أنت مُتناقِضة أو مُتعارِضة لكن هم يرونها مُتعارِضة قُطبياً، تتام ولا تتشاكس، وقلنا هذا شعار نيلز بور Niels Bohr، المُتناقِضات مُتتامات أو تتام، هو هذا!

يحكون قصة هنا – مشهورة جداً في الأدب العالمي كلها لكنها قصة طاوية، هي من الأدبيات الطاوية – عن المُزارِع الذي فقد حصانه، كان عنده حصان وحيد، يقضي عليه كل أعماله وما إلى ذلك، في يوم من الأيام فر الحصار – لاذ بالفرار – فجاء جاره إليه يُعزيه، قدَّم أحر التعازي وما إلى ذلك، فقال له مَن يدري؟ لعله خير، مَن يدري أين الخير وأين الشر؟ قال له، فاستغرب الجار المُعزي من هذا المنطق، الرجل راضٍ ويتصرف بشكل عادي، لا يرى أن هذا شر، رب من الخير أن الحصان هرب، ما يُدريني؟ فاستغرب، كيف هذا يكون خيراً؟ هذا حصانك الوحيد!

في اليوم الثاني إذا بالحصان على حين غرة يعود ويستاق معه قطيعاً من الإبل الوحشية البرية، كلها أتى بها هذا الحصان، ففرح طبعاً الجار هذا وجاء يُقدِّم التهاني، قال له أُهنئك وأُبارِك لك وفعلاً كلامك صادق، فقال له مَن يدري الموضوع يحتاج إلى تهنئة أو تعزية؟ مَن يدري أين يكمن الخير وأين يتربَّص الشر؟ قال له، لا نعرف نحن، فاستغرب يا أخي، أهذا شر الآن؟ قال له لا أعرف، هل هذا شر أم خير؟ لا أعرف، القضية نسبية – Relative – إضافية، يُمكِن أن تكون هكذا ويُمكِن أن تكون هكذا!

وفعلاً في اليوم الثالث جاءت الأقدار لتُصدِّق منطق التحفظ لهذا المُزارِع، جاءت تُصدِّق تحفظ هذا المُزارِع، لماذا؟ جاء ابنه المُراهِق في عنفوانه وأراد أن يمتطي متن أحد الأفراس البرية هذه، وحشية هذه وشموس! فركضت به فانكسرت رجله، فجاء الجار يُعزي، قال له للمرة الثالثة تُصدِّق الأحداث تحفظك، أُقدِّم التعازي! قال له مَن يدري؟ لماذا تُعزي؟ أنا لست حزيناً، مَن يدري؟ هل الخير في أن يبقى سليم الساق أو الخير في أن تُكسَر رجله – قال له – أو ساقه؟ ما أدري قال له، لا أعرف، الله أعلم! ما قصتك هذه؟

وفي اليوم الرابع – وهو اليوم الأخير طبعاً للأحداث – يأتي جنود الإمبراطور ليستاقوا الشباب إلى الجُندية، حروب هذه! الله أعلم بما سيحصل، الذاهب ربما مفقود والعائد مولود، فتجاوزوا عن هذا لما وجدوا من كسر ساقه، فجاء جاره وقال له والله صحيح، وأُهنئ، قال له مَن يدري؟ لا نعرف!

وتبقى الحقائق نسبية، لا أحد يعرفها، كل شيئ مرهون بظروف خارج مُتناوَل الإنسان ومنطقه البسيط، هذه نسبية الحقائق!

فالمُهِم إذن هم يرون تكامل الإنسان في المشهد الطبيعي، أنت مُكوَّن من هذه المُكوَّنات، صحيح! عندك ربما مزية لأن يسمح لك وعيك بإدراك مُوسَّع لمشهد التكامل والحميمية في المشهد هذا، صحيح! هكذا هو الوعي الإنساني، ولذلك تحكي القصة أيضاً أن كونفوشيوس Confucius رمق مرةً لاوتسو Lao-Tzu يركب ثوراً أخضر – لا أعرف أن هناك ثوراً أخضر لكن هكذا تقول الأسطورة، تقول ثور أخضر – فاستغرب، شيئ عجيب! أيركب ثوراً؟ فقال له ما هذا؟ قال له لا شيئ، الحياة تركب اللاحياة، وتفسير هذه الكلمة – الحياة تركب اللاحياة – أنني رمز للحياة، بماذا؟ بالوعي، أنا إنسان أتمتَّع بالوعي وبالفضيلة، والمُتمتِّع بالوعي والفضيلة هو الحي، أما الذي يتحرَّك وينمو وله غرائز وشهوات كالحيوان فهو ليس حياً وإن رآه الناس حياً، هذا لا حياة عنده، كأنه يقول له هناك الكثير مِمَن تراهم حولك هم مثل هذا الثور، هم أموات! قال تعالى أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ۩، أموات! أنت ترى الواحد منهم يتحرَّك ويأكل ويشرب وما إلى ذلك، لكن ليس عنده فضيلة وليس عنده وعي، في حين أن هذا الذي يُعطيك مزيتك.

في الأدبيات الطاوية يا إخواني دائماً يكثر أن نجد المُحاوَرات اللطيفة والظريفة بين الطاوي المُتعمِّق الهادئ المُتواضِع وبين الكونفوشيوسي المغرور بمعلوماته وأفكاره، مثل ما يُحكى أن تشوانغ تسو Chuang-Tzu – المُعلِّم تشوانغ Chuang – التقى بأحد الكونفوشيوسيين – أيضاً هو مُعلِّم كونفوشيوسي – على جسر مضروب على متن نهر، فوقفا في يوم مُشمِس هكذا وضاحٍ، فقال  تشوانغ تسو Chuang-Tzu للكونفوشيوسي انظر، السمك يقفز حيث شاء ومتى شاء من هنا إلى هناك، إنها السعادة التي يشعر بها السمك، شعور محمود هذا، الشعور بالأشياء والوحدة أيضاً مع الأشياء واستبطان حتى مشاعر هذه الكائنات المُتحرِّكة! فماذا قال له هذا الكونفوشيوسي بعجرفة؟ بما أنك لست سمكة – قال له – فأخبرني بالله كيف استطعت أن تعرف ما الذي يُسعِد السمك مما لا يُسعِده؟ ما الذي يُعرِّفك بأن السمكة سعيدة؟ ربما تكون خائفة أو مذعورة مثلاً، هذا مُمكِن! ما الذي يُعرِّفك؟ فرد عليه للفور – انظر إلى هذا، هؤلاء أُناس عندها عمق وعندها أيضاً سرعة بديهة وقوة عارضة – قائلاً بما أنك لست أنا فكيف عرفت أنني أعرف أو لا أعرف ما الذي يُسعِد السمك؟ هذا يعني أنك إذا ضربت منطق الوحدة فكل شيئ سينضرب، لا! أرأيت؟ يُوجَد عمق في الكلام هذا، عليك أن تُؤمِن بمنطق الوحدة في كائنات الطبيعة، وهذه الوحدة – وحدة الطبيعة The unity of nature أو وحدة الوجود – هي التي تسمح لنا أن نعبر بهذه الطريقة الحدسية المُباشِرة – لا باستنباط فلسفي ولا علمي ولا تجريبي إمبريقي، لا! بحدس مُباشِر – وأن نستبطن حالات الوجود كله، ولذلك المُعلِّم تشوانغ تسو Chuang-Tzu يقول حلمت مرةً بنفسي أنني فراشة، ولم يخطر ببالي فراشةً – أنا كنت فراشة وعشت كفراشة فعلاً – أنني يُمكِن أن أكون غير فراشة، حين رأى نفسه في الحلم فعلاً فراشة – فراشة حقيقية – لم يشعر بأنه إنسان في شكل فراشة، مثل كائنات كافكا Kafka الممسوخة، مَن قرأ الصرصار لكافكا Kafka يعرف هذا، صرصار كافكا Kafka يعرف أنه إنسان، والمسكين كان يُعاني، أخته كانت تشعر به، لكن هنا الأمر مُختلِف، تشوانغ تسو Chuang-Tzu عنده منطق غير هذا، هذا منطق الأدب العبثي ومنطق الصياح والصراخ على لامعقولية الحياة الغربية، لكن هذا شيئ آخر أعمق بكثير، هذا منطق التواءم، قال أنا رأيت نفسي فراشة ولم يخطر ببالي أبداً حين كنت فراشة أنني يُمكِن أن أكون شيئاً آخر غير فراشة، قال ثم استيقظت ويا للعجب، وجدت نفسي تشوانغ تسو Chuang-Tzu، والآن لا يُخطِر ببالي أن أكون شيئاً غير تشوانغ تسو Chuang-Tzu، والسؤال الذي يطرح نفسه علىّ وحيَّرني هل أنا الفراشة التي ترى الآن نفسها  تشوانغ تسو Chuang-Tzu أو تشوانغ تسو Chuang-Tzu الذي رأى نفسه في الحلم فراشة؟ أين الحقيقة هنا؟ 

طبعاً قد تقول لي هذه مُجرَّد أسئلة، لكن الأمر ليس كذلك، فيها عمق رهيب أيضاً، صدِّقني! فيها عمق رهيب، حين تتأمل فيها تجد عمقاً غير عادي، هي ليست بهذه البساطة، هو ليس إنساناً أهبل لا يقدر على التعمق، ليست هذه القضية! لماذا؟ أنا ألحظ أيضاً الحديات، ماهيتي كإنسان، مَن أنا؟ وما تاريخي؟ إلى آخره، وألحظ قدرتي على تصنيف الكائنات، تصنيف علماء الأحياء وغيرها! لكن هو ليس كذلك، هو يلحظ المبدأ الساري في الوجود كله والذي يتعيَّن في شكل فراشة وفي شكل قرد وفي شكل تراب وفي شكل ماء وفي شكل ريح وفي شكل إنسان وفي شكل فكر وفي شكل حجر، هو يلحظ هذا! وتناغمه مع هذا المبدأ أحياناً يُعطيه القدرة على استبطان كل شيئ، لذلك عندنا حتى في التصوف الإسلامي يصل الوالي أو العارف إلى درجة فعلاً يتواصل فيها مع كل شيئ، مع الفنجان ومع المايك Mike ومع هذا ومع ذاك، مع كل شيئ! وأحياناً يكون عنده مقام غريب جداً جداً – هو من فروع المُسخَّرية – فيُطيعه كل شيئ بإذن الله تعالى، يتواصل معه عادي بشكل عادي، كما يتواصل مع كائنات ذات عقل وذات إدراك، شيئ لا يُصدَّق! وفعلاً الطاوية أيضاً تُؤكِّد هذا، أنت يجب أن تصل إلى هذا المقام – مقام التكامل والتتام مع كل أشياء الوجود – وسوف ترى ماذا سوف يحدث، لن تحصل على مُعجِزة أبداً وإنما سوف تحصل على توحد حقيقي مع كل شيئ وهو مُتواصِل، وسوف تجترح كل ما تُريد، لكن لن يكون عندك إرادة أن تُريد أن تجترح، ومع ذلك كل شيئ سوف عندك، شيئ غريب! هو هذا، هذا عمق هذه الأشياء، هذه ليست درجة من العدمية الفكرية أو النيهلية وما إلى ذلك، لا! شيئ أبعد من هذا.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن التناسخ، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، هذا ليس تناسخاً، التناسخ موضوع مُختلِف تماماً في الفلسفة الهندية، شيئ مُختلِف تماماً عن الموضوع هذا.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن وحدة الوجود، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم وحدة الوجود نعم عندهم، عندهم وحدة وجود! وبالعكس مُعظَم الدارسين للطاوية يقولون هذه لها أقانيم مُعيَّنة، الأقنوم الأول فيها وحدة الوجود، لذلك هم يعتبرونها فلسفة إلحادية لا تُؤمِن بالله في النهاية، هي ترى أن الخلق والمبدأ الأول وما إلى ذلك كله شيئ واحد لكن بالمعاني التي ذكرناها كأول اثنين.

نختم المُحاضَرة – إن شاء الله – ببعض القراءات لبعض الفقرات من الطاو Tao هذا كما هو، وبعد ذلك سوف نفتح المجال للأسئلة إن شاء الله.

إذن الطاو Tao الذي يُمكِن الإخبار عنه ليس هو الطاو Tao الأبدي، الاسم الذي تُمكِن تسميته ليس هو الاسم الأبدي، هو غير قابل للتسمية! غير المُسمى هو مُبتدأ السماء والأرض، المُسمى هو أم عشرة آلاف شيئ، وفسَّرت لكم ماذا تعني في الفلسفة وفي الأدبيات الصينية عشرة آلاف شيئ، كل شيئ! يعتبرون أن هذا أكبر رقم وينتهي الأمر، فحين أقول لحدكم عشرة آلاف شيئ فأنا أعني كل شيئ، دائم الرهبة – أي الطاو Tao هذا – يرى المحجوب، دائم الرهبة يرى المشهود، عجيب! هذان الاثنان ينبثقان من أصل واحد، ويظهر ذلك قبل الظُلمة، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ۩، هي المُدخَل لكل خفيات. انتهى الفصل الأول!

في الفصل السابع السماء والأرض ماكثتان إلى الأبد، لماذا تمكث السماء والأرض إلى الأبد؟ إنهما غير مخلوقتين، في ترجمة إنجليزية: غير مولودتين، ولذلك تعيشان إلى الأبد، ويبقى الحكيم في المُؤخَّرة، ولذلك فهو في المُقدِّمة، شرحنا هذا كله! ويظل مُنقطِعاً فهو مُستقِل، لكنه مُتحِد مع الجميع، ومن خلال الإيثار يبلغ الحكيم الكمال.

أن تقتصر على القليل خيرٌ لك من الامتلاء حتى النهاية، بالغ في شحذ المُدية تنثلم حافتها حالاً، كدِّس الذهب والفضة فلن تقدر على حمايتها، احتجن الثروة والجاه تقترب من الكارثة، انسحب عند إنجاز العمل، هذا هو سبيل السماء.

ثلاثون محوراً تشترك في مركز العجلة، لكن ثقب المركز هو الذي يجعلها صالحة للاستعمال، حوِّل الطين إلى إناء فالخلاء هو الذي يجعله صالحاً للاستعمال، في ترجمة إنجليزية: حوِّله إلى فنجان أو فناجين، كتبوا Cups، فصِّل أبواب وشبابيك الغُرفة فالفتحات هي التي تجعلها صالحة للاستعمال، يقصد الفراغات، ليس الفتحات وإنما الفراغات نفسها، من هنا فالفائدة تأتي مما هو كائن – من الجُزء الوجودي يقصد – وصلاحية الاستعمال مما هو غير كائن، يقصد من الجُزء الفارغ العدمي!

الخمسة ألوان تعمي العين، الخمسة أنغام تصم الأذن، الخمسة طعوم تُفسِد الذوق، الطرد والقنص يُخبِّلان العقل، النفائس تقود إلى الضياع، من هنا فالحكيم مدفوع بالشعور لا بالنظر، في ترجمة إنجليزية: بعين الباطن لا بعين الظاهر، هذا يكون بحسب فهم المُترجِم، تاركاً ما يراه لما يحس به.

في الفصل الثالث عشر تقبَّل العار طائعاً، تقبَّل الحظ العاثر كظرف بشري، ماذا تقصد من تقبّل العار طائعاً؟ كأن أحدهم يسأله، تقبَّل أن تكون غير نابه، ما معنى غير نابه؟ لست في المُقدِّمة، لست دائماً تحت الأضواء، لا! لا تكن مهموماً بالربح والخسارة، هذا يُدعى تقبّل العار طائعاً، خسرت أو ربحت نفس الشيئ! ماذا تقصد من تقبّل الحظ العاثر كظرف بشري؟ الحظ العاثر يأتي من كونك ذا جسد، فبدون الجسد كيف يُمكِن أن يكون الحظ العاثر؟

كُن هيّناً خشوعاً فسيكون لك الحق في رعاية كل الأشياء، أحبِب العالمين كما تُحِب نفسك – هذا له علاقة بخُطبة أمس – فسيُمكِنك أن تعتني مُخلِصاً بكل الأشياء.

من كلمات لاوتسو Lao-Tzu سأُحِب مَن يُحِبني وسأُحِب مَن يُبغِضني، وبذلك يصير الكل محبوباً، سأُطيع مَن يعصيني وأُطيع مَن يُطيعني، وبذلك يصير الكل طائعاً، وهكذا!

(ملحوظة) طرح أحد الحضور سؤالاً مُعلِّقاً على ما قرأه الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، فقال له فضيلته طبعاً أنت في النهاية ستُضطَر – وهذا لابد أن يكون تفسيراً سليماً، وأنت ستُضطَر طبعاً لأن هذا ليس بحسب هوانا – إلى تفسير كل هذه العبارات وفق المبادئ الأصلية للطاوية، لو أنت أخذت هذه العبارة فقط فلن يكون هذا شرطاً، لكن أنت في النهاية لابد أن تُعيد تفسير كل العبارات هذه وفق المبادئ الأصلية للطاوية طبعاً، وكما قلت لك هذه يُسمونها أقانيم، هذا صحيح!

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن معنى الأقنوم، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم طبعاً لفظة الأقنوم هذه أصبحت الآن لفظة معروفة، إذا نظرنا إلى السياق المسيحي فسوف نجد أن الأقنوم هو ظرف تعيني لمبدأ كُلي مُجرَّد، هذا يُسمونه الأقنوم Person، Person لا تعني هنا الشخص، حين نقول Person نعني الأقنوم، هذا ظرف تعيني لمبدأ مُجرَّد، هم أسموه Person! الآن في اللُغات الفلسفية – الفلسفة مثلاً التي في الشرق الأٌقصى – يقول الأجانب عنها الأقانيم، ولا يزال يُوجَد ما هو أكثر من هذا، ما المقصود بها؟ مبادئ، هنا هذا  مبدأ لكنه في اللُغة المسيحية ظرف تعيني لمبدأ مُجرَّد، أقنوم Person! لكنها هنا بمعنى المبدأ، مبدأ كل كبير، يُسمونه الأقنوم.

اخضع تغلب، انحن تستقم، افرغ تمتلئ، طبعاً لأن لا يُمكِن أن تمتلئ إلا بعد أن تكون فارغاً، لا يُمكِن أن تستقيم إلا بعد أن تكون مُنحنياً، إذا كنت مُستقيماً دائماً فلا يُقال هذا استقام، استقام بعد أن كان مُنحنياً، هذه التناقضات تتمات، هو هذا! أرأيت؟ لذلك هو عنده أيضاً هنا فصل لطيف جداً جداً يقول فيه يرى الناس الجمال فقط لأنهم يرون القبح، لو لم يُوجَد القبح لما رأيت الجمال، افترض عدم وجود القبح في الوجود ولن تعرف الجمال جمالاً أبداً، ولن تسميه، انتهى! لن تلحظه، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً.

أنا قلت ذات مرة في خُطبة قديمة في مسجد الهداية لو وُلِد البشر كلهم – كل الناس – أو واحدٌ منا حتى – واحد بحياله – ووجد أول ما وُلِد صوتاً مُتواتِراً في الكون لا ينقطع – مثلاً – فإنه لن يلحظه! وسوف يعيش ويموت – التحدي – دون أن يلحظه، غير مُمكِن علمياً وفيزيائياً، فقط في لحظة واحدة سوف يلحظه: لو انقطع هذا الصوت للحظة واحدة، ما الذي صار؟ سوف يقول، بعد ذلك سوف يعود الصوت، لذا هو سوف يلحظ هذا، لكن لماذا أنا استخدمت هذا المثال في مسجد الهداية قديماً؟ استخدمته لأن الله قال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، الله موجود وهو شاهد على كل شيئ، ليس فقط كل شيئ شاهد عليه وإنما هو شاهد على كل شيئ، ولا نقدر على أن نراه أو نحس به لفرط وجوده، لفرط ظهوره! وهذا سر الإحساس الغريب الذي فينا بإنه موجود، لا نقدر على تجاهل هذا الإحساس، سواء عندنا فلسفة أو ليس عندنا نحس بأنه موجود، نعرف أنه موجود، والكل هكذا! صدِّقني أكبر عاتٍ أو أكبر مُلحِد سارتر Sartre، أنا أرى أن ماركس Marx قزم – بالمُناسَبة – في الفلسفة الإلهية أو الثيولوجية أو الدينية عموماً، ماركس فيلسوف سياسي واقتصادي، أليس كذلك؟ اقتصادي بدرجة أولى، سياسي بدرجة ثانية، اجتماعي بدرجة ثالثة، وديني لاهوتي بدرجة أخيرة، أين الذي كتبه في الشيئ هذا؟ بسيط جداً جداً، وحتى إنجلز Engels تفوق عليه هنا، إنجلز Engels كتب أكثر منه، لكن سارتر Sartre خطير جداً، خطير وشرس! كتاباته عن وجود الله وإنكار الذات العُليا وكيف كذا وكذا شيئ فظيع! وكذلك ربطه ومُحاوَلة برهنته على أن وجودك وماهيتك وتحققك لا يُمكِن أن يحصل مع افتراض وجود الله، تخيَّل! فظيع الرجل وشرس جداً، عنده كتاب ضخم اسمه الوجود والعدم وهو صعب جداً!

مَن كان يتوقَّع أن هذا الرجل ساعة نازع طلب القسيس؟ هذا ما حصل طبعاً، هذا ثابت ومُتواتِر، هذه ليست حكايات! ادعوا لي القسيس قال، لماذا إذن؟ لماذا؟ أحياناً كتبت قبل يومين خاطرة – نعكس القضية دائماً، كبار يعكسون القضية، قد تقول لا أدري ما الذي خانني: عقلي أم قلبي؟ تعكس القضية يا رجل، عليك أن تسأل ما الذي خُنته أنا؟ ولصالح مَن؟ أهو الذي خانك؟ تكذب على مَن أنت؟ أنت الذي خُنت، وخُنت عقلك أم خُنت قلبك؟ في الأغلب دائماً نخون قلوبنا لصالح عقولنا، وعقولنا تعمل رهن حساباتنا ومصالحنا وحيثياتنا، هو هذا! يقول لا أدري ما الذي خانني: عقلي أم قلبي؟ تكذب على مَن؟ ألا زلت تضحك على نفسك؟ أنت مَن خان، لذلك أنا اليوم كتبت أيضاً خاطرة أُخرى، قلت فيها يُوجَد شيئ أهم بكثير من أن تسمع الحكمة، أي حكمة يُوجَد شيئ أهم منها بكثير فانتبه، أهم من أن تسمع كل حكم هؤلاء الحُكماء، ما هي إذن؟ أن تفرغ في البداية، لابد من أن تفرغ! تفرغ لكي تُهيئ نفسك أن تكون مُهيئاً، قبل!

هناك أُناس يأتون هنا لصلاة الجُمعة، وأنا في مرات – مثلاً – أنطق بأشياء خطيرة، وأنا أُدرِك قيمة ما أقول على المنبر هنا، هناك أشياء خطيرة جداً جداً جداً يحتاجها كل بشر وكل إنسان، يحتاجها الفيلسوف الكبير والعالم الفيزيائي والرجل ديني وإلى آخره، الكل يحتاجها! وأنا أحتاجها وهي ليست مني، ليست من مُقتنياتي هذه، هذه حقائق ملك للجميع، وأشعر أن بعض الناس يسمع وكأنه لا يعرف أي شيئ ولا يفهم أي شيئ بل لا يعنيه الأمر، وهو غير مُستعِد قليلاً لأن يُبئر الذهن، هذا يُسمونه التبئير Focusing، هو غير مُستعِد لأن يقوم بعمل تبئير لذهنه ولو لعشر ثوانٍ لكي يُحاوِل أن يلتقط ما الذي يُقال، فاتح فمه وجالس، وحين ينتهي الوقت يقوم مُباشَرةً، صار نشطاً! يذهب ويجري لكي يأكل السمك وما إلى ذلك، ما قصته هذا؟ ما الذي يحدث مع الناس؟ لذلك أنا كتبت هذه الخاطرة اليوم، يُوجَد شيئ أهم بكثير من أن تسمع الحكمة أو تدّعي أنك تسمعها أو تقولها، في الأول قبل هذا كله لابد من أن تفرغ، اركن واركد وانق واصف قليلاً، اجعل هذا الغبار ينزل كله!

الماء لا يُمكِن أن يعكس شفافيته ومرآيته إلا بعد أن يركد، يصير الآن صالحاً للشيئ هذا فيعكس! أنت في الأول اركد، وهذه الكلمة ليست أمراً بسيطاً جداً، هذا أمر صعب خالص، يعني أنك لابد أن تتخفَّف من خصوماتك، لابد أن تتخفَّف من أحقادك، من حساباتك، من أعمالك، من طموحاتك، من آمالك، من سجلاتك، من برامجك العشرية يا أخي، عملت برامج لعشرين ولثلاثين سنة!

أنا الحمد – هذا من نعم الله التي أشعر بها علىّ – في حياتي لم أُفكِّر في مُستقبَل أولادي، مُستقبَل ماذا هذا؟ لا خلقتهم ولا ربيتهم ولا رزقتهم، الحمد لله، هم يكبرون ويأكلون ويشربون وينجحون وفي المدارس يتفوَّقون، كل هذا برعاية الله، اعمل ما عليك واترك الباقي على الله بهدوء، لا تُصدِّع ذهنك! في حياتي لم أُفكِّر في الشيئ، لم أُفكِّر في رزقي في حياتي، ولا يعنيني ولو بقدر يسير، أُقسِم بالله! إذا فعلت هذا فسوف تعيش سعيداً، كل شيئ سوف يأتي في وقته بالمُناسَبة، لأنه ضمن لكل كل شيئ، فلماذا تُصدِّع نفسك؟ لكن هذا يحتاج إلى يقين ويحتاج إلى هدوء، اهدأ! اهدأ لكي تجد وقتاً تتفرَّغ فيه لأن تفكر بشكل صحيح ولأن تفهم كلام الذين فكَّروا بشكل صحيح، لكن هذه مسألة صعبة، ليست سهلة بالمرة! لكن الناس المساكين ليسوا كذلك، يركضون ركض الوحوش البشرية، عندهم شيئ كالمُحرِّك النفاث، تشتغل طاقتهم على مدار الأربع والعشرين ساعة، غير قادرين على أن يستمعوا إليك أو يستمعوا إلى الله والرسول، لا يستمعون إلى شيئ المساكين، والله العظيم! يحتاج الواحد منهم إلى أن يسمع القرآن بصوت كل المُقرئين لكي يتحرَّك ويقوم بعمل شيئ بسيط كأن يُقدِّم عشرة يورو، فظيع هذا الإنسان، ما هذا؟ ثم يُقال الأمة ميتة! الأمة تعبانة، هذا هو، أهم من سماع الحكمة أن تُهيئ نفسك أن تكون مُهيئاً لسماعها، اسكت لكي تقدر على أن تسمع ولكي تُولِّد بعد ذلك حكمتك الخاصة بك والتي على قدك أيضاً، أي النُسخة المحلية كما يُسمونها، النُسخة المحلية – Local version – الخاصة بك، نُسخة لك هذه، النُسخة الذاتية الشخصية سوف تُولِّدها وسوف تكبر – إن شاء الله – شيئاً فشيئاً، وهذا جمال الحياة وهذه رسالة الوجود، هذا أرى فيه المعنى.

كان سقراط Socrates يرى أن حياة بلا فكر وبلا مبدأ لا تستحق أن تُعاش، ولذلك هو عاش ومات من أجل مبدأ أيضاً، رفض! قالوا له سنُهرِّبك الآن والسجّان سيتعاون معنا، فقال لا، مُستحيل! بهذه الطريقة سأخون مبادئ، أنا من مبادئ ضرورة وجود دولة وسُلطة مركزية تحتكر العنف وتحتكر العدالة لكي تقدر الناس على العيش مع بعضها على الأقل، نحن نعيش في مُجتمَع، لسنا حيوانات! لو هربت لخُنت مبدئي، لا! أن أموت أحسن لي من أن أهرب، وفعلاً لم يهرب وتحسى سم الشوكران بكل أريحية ومات، الرجل عاش مبدأه، هذا هو! قد تقول لي – كما قلنا اليوم – إنك تُريد أن تعود إلى الشباب، لكن أتُريد الشباب القرود؟ قد تقول لي أُريد أن أعيش عشرين سنة؟ لكن ما قيمة أن تعيش عشرين سنة؟ هذا لا ينفع، ليس المُهِم أن تعود شباباً، ليس المُهِم أن تعيش عشرين سنة زائدة، المُهِم كيف تعيش؟ ومن أجل ماذا؟ وبأي مبدأ تعيش؟ أليس كذلك؟ وإلا في النهاية أنت سوف تموت، عشت عشرين سنة زائدة أو مائتي سنة زائدة وأيضاً سوف تموت، أليس كذلك؟ المُهِم كيف تعيش؟ وبماذا؟ ولماذا؟ حدِّد هذا، هذا السؤال لابد أن يكون أمام عينك على مدار الأربع والعشرين ساعة والله العظيم!

هناك أُناس ليسوا كذلك، منهم مَن يعيش أربعين سنة وثنتين وأربعين سنة وأربع وعشرين سنة فوق الثنتين والأربعين سنة دون أن يسأل نفسه يوماً كيف أنا أعيش؟ ولماذا؟ وبأي مبدأ؟ يُمكِن أن نضحك على أنفسنا باسم الدين، يقول الواحد منا أنا أعيش مُسلِماً وبالإسلام وللإسلام، أين إسلام؟ أين هذا يا بابا؟ أن تذبح الإسلام وتغتاله كل يوم عشرة آلاف مرة، كل يوم! حياتنا تُعتبَر مُخالَفات للإسلام، مُجمَل تفاصيل حياتنا هي مُخالَفات حقيقية للإسلام، ما رأيك؟ ولا نُحاوِل أن نلحظ المُخالَفات هذه، نلحظ فقط أننا أولياء للإسلام وأوفياء بالكلام، نقول نحن الإسلاميون، نحن المُسلِمون، روّاد المساجد! هذه أكبر أُخدوعة، ليست هكذا المسائل.

فالمُهِم يقول انحن تستقم، افرغ تمتلئ، تعرَّ تكن جديداً، خُذ القليل تربح، خُذ الكثير تكن مُشوَّشاً، من هنا يلزم العقلاء الواحد ويُصبِحون أُسوة للجميع، لا يُضاهون بذواتهم ويتألقون، لا يُبرِزون أنفسهم، لا يُكابِرون ويحظون بالاعتراف، لا يتبجَّحون فلا يتلعثمون، يا سلام! هذه عجيبة، لا يختصمون فلا أحد يُخاصِمهم، ولذلك قد تقول لي هذا المنطق ربما يكون ضد منطق الحرب والجُندية، وهذا صحيح طبعاً، لاوتسو Lao-Tzu في الطاو Tao هذا – ربما نرى هذا بعد قليل – أشعلها حرباً عجيبة على الجنود والحروب كلها، ضد العنف والإكراه والدم تماماً!

لذلك هناك عبارة لهوستن سميث Huston Smith جميلة جداً يقول فيها المكانة التي حظيَ بها العلماء في المُجتمَع الصيني عبر العصور تُعزى إلى كونفوشيوس Confucius، والمقعد المُنحَط الذي وُضِعَ فيه الجُندي يُعزى إلى الطاوية، كانت حرباً على روج الجُندية، ولذلك في أول فصل المُؤرِّخ كريل Creel قال نحن عندنا سوء تقدير – وهذا ليس سوء تقدير، إلى حد بعيد صحيح الكلام هذا، لا أعرف كيف هو انتهى إلى هذا، المُهِم قال سوء تقدير – للروح الجُندية عند الصينيين، وشاع عندنا كغربيين أن الصيني لا يُحارِب، وهذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه قال لا، ثبت خطؤه، لكن هذه ظواهر جُزئية، عموماً في التاريخ الصيني الصين دائماً كانت أكبر عاصمة في العالم، أكثر إمبراطورية عديد سُكان، في القرن الخامس قبل الميلاد كانت أكبر عاصمة في الصين، كم عدد سُكانها؟ خمسمائة ألف، كم عدد سُكان روما؟ خمسين ألفاً، كم عدد سُكان لندن في تلك الأيام؟ اثني عشر ألفاً، الصين خمسمائة ألف، شيئ عجيب! طيلة حياتها هي هكذا، لكن كان يأتي غُزاة بُسطاء جداً من الخارج ويستولون عليها دائماً، مُعظَم تاريخها كان هكذا، استيلاء! لم يكن عندهم النزعة الحربية الحقيقية هؤلاء الناس، يقدرون على الحروب لأنهم يُريدون كذا وكذا لكن ليس عندهم الجوع الحربي الأصيل مثل بعض الشعوب الأُخرى، ليس عندهم هذا، لماذا؟ بتأثير الفلسفة الطاوية هذه، وحتى الكونفوشيوسية لا تُحبِّذ الحرب كثيراً لكن تراها ضرورة ولازمة.

أن تتكلَّم قليلاً فهذا طبيعي، الزوابع لاتدوم كل صباح، أنت لا ترى زوبعة مُستمِّرة، إذا تكلَّمت كثيراً وكانت هناك زوبعة مُستمِرة لكان هذا إزعاجاً حقيقياً بصراحة، ظاهرة غير طبيعية، الطبيعة ليست كذلك، الوابل لا يدوم كل النهار، في ترجمة إنجليزية: الدنيا – قال – تعزف نصف النهار وتُمطِر النصف الآخر، هذه ترجمة ثانية لهذا القول، مَن يقف على طرف أصابعه ليس راسخاً، أي شيئ يُمكِن أن يتسبَّب في إيقاعه، لكن ماذا يقصد بالكلام هذا؟ لا يقف الموقف الطبيعي وذاك الرسوخ، يظل دائماً مُهيئاً للعثار.

مَن يمشي الوجيف – أي بسرعة – يعجز عن مُواصَلة العيش، مَن يُعدِّد مآثره للناس ليس مُتنوِّراً، البار بنفسه لا يستحق التبجيل، المُتباهي لا يُنجِز شيئاً، والمُدِل بنفسه جزوع، هذا هو طبعاً، لذلك الغربيون من أهل الإدلال ومَن يتبعونهم مِن عندنا عندهم مثل يقول ما هو أصعب من الوصول إلى القمة أن تبقى مُحتفِظاً بالقمة، عندهم هوس رهيب أن تبقى في القمة، لماذا؟ ماذا أُريد من القمة؟ لا أُريدها، لا أُحِبها ولا تلزمني، يُسعِدني أن أكون مع الناس، مع الجهور! أنا واحد منهم، كما قلنا أمس لا أعلو على واحد منهم، لا يهمني أن أعلو على واحد منهم ولا أُريد هذا، لماذا؟ جميل أن أشعر بأنني منهم ومثلهم، أليس كذلك؟ في الغرب يقولون لا، لابد أن تصل إلى القمة لكن القمة باردة يا أخي، ماذا أُريد منها؟ باردة جداً ومُتجلِّدة، أليس كذلك؟ يُحِبون هذا الجليد، هم يحبونه! ويقولون ما أصعب منه أن تحتفظ به، لكن أنا لا أُريده، القمة غرور وخداع، لذلك تجعلنا نرى الناس صغاراً، وهم ليسوا صغاراً، لكن هو خداع مُتبادَل، وكيف يرونني هم؟ يرونني صغيراً، قد يقول لي أحدكم لكنهم يرونني في القمة، وهذا غير صحيح! هم لا يرونك وإنما يرون القمة، هل فهمت ما أقصد؟ هو هذا السر، لو هم رأوك لرأوك صغيراً كذُبابة في القمة، قد تقول لي لكنهم يُبجِّلونني ويُعظِّمونني فلماذا؟ لأنهم رأوا القمة، إذن كما بحثت أنت عن خارج في نفسك هم رأوا الخارج فيك، لم يروا الداخل، فتبقى حقيراً عند نفسك وعند الآخرين، لابد أن تفهم المنطق هذا وهو صحيح، لذلك هؤلاء المساكين – أصحاب القمم الجليدية أو المُتجلِّدة هذه – في لحظة يرون أنفسهم في الحياة، أليس كذلك؟ حين يفقدون هذا الخارج!

تبعاً لأهل الطاو Tao كل أولئك طعام زائد ومتاع عارض، لا يجلب السعادة ولذلك يُجانِبه أهل الطاو Tao، لا يهتمون بالإدلال والإنجاز الفارغ وكل هذا! شيئ ما تشكَّل في السر، وُلِدَ قبل السماوات والأرض، في الصمت والخلاء أحادياً لا مُتغيِّراً، حاضراً أبداً، مُتحرِّكاً أبداً، قد يكون هو الأم لعشرة آلاف شيئ، هذا الرقم يأتي مرة ثانية، أرأيتم؟ هذا الرقم – عشرة آلاف – يتكرَّر دائماً، هذا يعني أنه لكل شيئ، أنا لا أعرف اسمه – عن الطاو Tao طبعاً – لكني أُسميه الطاو Tao ولكني لا أجد كلمة أفضل أدعوه ذا الجلال، أرأيت؟ أدعوه ذا الجلال، وهو من جلاله يجري، يجري بعيداً بعيداً، حتى إذا بلغ الغاية القصوى – هذه آليات عمل الطاو Tao، أرأيتم كيف؟ اليانغ Yang واليين Yin – قفل راجعاً، من هنا الطاو Tao جليل، السماء جليلة، الأرض جليلة، والملك أيضاً جليل، إنها القوى الأربع للوجود.

أتحسب أنك قادر على تولي أمر العالم وتحسينه؟ هذا مثل النقاش الذي دار بينه وبين كونفوشيوس Confucius، تتحدَّث عن العدالة – قال له – والإنسانية وتعظ بهما وتُعلِّمهما للناس! أنا لا أرى ذلك مُمكِناً، العالم مُقدَّس، هو هكذا كامل وعنده منطقه! ولا يسعك تحسينه، ولو حاولت تغييره فسيكون خراباً، مَن يكمن هنا؟ مِن هنا خرج مَن؟ روسو Rousseau، هذا روسو Rousseau! مَن قرأ إميل Emile لروسو Rousseau يعلم هذا، هذا روسو Rousseau – جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau – تماماً، ولو أردت أن تُلِظ به – أي تُلِح عليه لكي تُحسِّنه أكثر – فسيُفلِت من يديك، وهكذا تتقدَّم الأشياء حيناً وتتأخَّر حيناً، يصعب التنفس حيناً ويتيسَّر حيناً، وثمة حيناً قوة وحيناً ضعف، والمرء مرةً في الأعالي ومرةً في الحضيض.

حينما تُرشِد حاكماً – الحاكم بالمعنى الذي نعرفه، رئيس أو أمير أو وزير – إلى دروب الطاو Tao أشر عليه إلا يستخدم القوة – هذا الآن عن الجُندية، هذا الفصل عن الجُندية والحرب – ليفتح الدُنيا، لأن ذلك يُسبِّب المُقاوَمة فقط، وطبعاً لكل فعل ردة فعل، وكما قلنا هناك جدلية ثابتة دائماً، دائماً كل استعمار يُولِّد مُقاوَمة، إلا الآن في الأدبيات – ما شاء الله – الخيانية الفلسطينية والعربية، يُريدون أن يُوجَد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي المُجرِم دون أن يُولِّد مُقاوَمة، ويُعطونها غير اسمها، أي أنهم يستكثرون عليها اسمها ويكرهونها على غير اسمها، شيئ غريب وهو ضد منطق الأشياء! لكن في النهاية لو سألنا الطاو Tao هذا عن القضية الفلسطينية لقال هذا هو، أقرأت الفصل الثلاثين مني؟ هو هذا، لا أعرف مَن هي فلسطين ومَن هي إسرائيل لكن هو هذا، إذا وُجِدَت قوة أو عنف فهذا سوف يُولِّد نقيضه، لا كلام في هذا، سوف يحدث! حاربه وسمه إرهاباً لكن لن تُوجَد فائدة وسوف يتولَّد، خل علماء الأمة كلها تجمع على أن قتال اليهود كفر وشرك والأمة سوف تُشرِك وتكفر، ما رأيك؟ لأن هذا منطق الطبيعة، منطق الوجود، منطق الله في القلب، فما لكم؟ لا يُمكِن أن تُغيِّروا العنوان أو تُغيِّروا الحقائق، وهنا مُقاوَمة الفطرة، دفاع الحقيقة عن نفسها، وثأر الحقيقة لنفسها، ما رأيكم؟ من التزييف الذي يأتي باسم الدين وباسم المصالح!

إن غابات القتاد تنمو أينما يمر الجيش، والسنوات العجاف تأتي بعد حرب ضروس، طبعاً الحروب عندها تكلفتها، يُسمون الحرب هذه أم الانقطاعات، قم بما تدعو الحاجة إلى القيام به ولا تتخذ من القوة شعاراً، احصل على نتائج ولكن حذاري من جعلها سبيلاً إلى المجد، احصل على نتائج وإياك من التباهي، احصل على نتائج وإياك من التفاخر، احصل على نتائج فهذا هو السبيل الطبيعي، احصل على نتائج ولكن ليس بالقسر، فبعد القوة يأتي الوهن، وليس هذا بدرب الطاو Tao، ولأن إذا حصلت على نتائج وأحرزتها في النهاية وقيَّدتها بالتباهي والقوة تنتهي إلى ضعف فالنتائج سوف تذهب، ومن ثم سوف تخسر! لكن خلها نفسها دفاع نفسها بمنطقها ومن ثم سوف تخلد وتبقى دائماً، هذا صحيح!

إن مَن يسير خلافاً للطاو Tao يُخترَم على عجل، وهذا صحيح لأنه ضد المنطق الخاص بالطاو Tao، بعد ذلك قال الأسلحة الجيدة آلالات للخوف، هذا في الفصل الواحد والثلاثين أيضاً وهو عن الحرب، قال تمقتها كل الكائنات، ولذلك لا يستعملها أهل الطاو Tao قط، العاقل يُفضِّل اليسار وأهل الحرب يُفضِّلون اليمين، الأسلحة آلالات للخوف وليس أدوات العاقل الكيس، فهو لا يستعملها إلا إذا لم يبق لديه خيار، السلم والسكينة عزيزان على قلبه، ليس النصر بسبب الفرح، إن مَن يفرح بالنصر يفرح بالقتل، ولئن فرحت بالقتل فلن يُمكِنك استكمال ذاتك، هذا يعني أنك أفسدت نفسك، سمَّمت نفسك لأنك تفرح بدمار الآخرين وبكآبة الآخرين.

في المُناسَبات السعيدة تُعطى الأسبقية لليسار، في المُناسَبات الحزينة لليمين، في الجيش يقف القائد إلى اليسار ورئيس الأركان إلى اليمين، يعني هذا أن الحرب تُدار على شاكلة الجنائز، انظر إلى هذا، هذا عندهم في أدبياتهم وهو عجيب!

عندما يُقتَل عدد كبير من الناس ينبغي النواح عليهم بمرارة، ما الفرق إذن بين النصر والجنازة؟ كيف يُتحدَّث عن النصر؟ هذا هو!

الطاو Tao لا سبيل إلى تعريفه قط، وهو من الصغر في حالة التشكل بحيث يتعذَّر الإمساك به، لو استطاع الملوك والسادة ترويضه لأطاعتهم العشرة آلاف شيئ تلقائياً – يقصد كل شيئ – ولجاءت السماء والأرض صفاً صفاً ولانهمر المطر بسخاء ولن يحتاج الناس إلى المزيد من الأوامر – قلت لكم قبل قليل هذا، مَن يتناغم معه يجترح شيئاً أكثر من المُعجِزات، مَن يتكامل مع الطبيعة وما إلى ذلك يجترح شيئاً أكثر من المُعجِزات، كل شيئ يصير طوعه، هذا هو – ولأخذت كل الأشياء مجراها، حينما ينقسم الكل تحتاج الأجزاء إلى أسماء، ماذا عن الكل حين كان كُلاً بلا أجزاء؟ لم يكن له اسم، هذا هو المعنى، هو هكذا! ولذلك لا يُسمى، قال ثمة ما يكفي من الأسماء، على المرء أن يعرف متى يتوقف، وبمعرفة متى يتوقف يتفادى المشاكل، الطاو Tao في الدنيا كنهر يستقر به الجريان في البحر.

معرفة الآخرين حكمة، معرفة النفس تنور، التغلب على الآخر يقتضي القسر، التغلب على النفس يحتاج إلى القدرة، الذي ينكمش يجب أن يتسع أولاً، طبعاً هذه المفاهيم المُتقابِلة! الذي يخيب أن يكون شديد البأس أولاً، فالذي يفشل لابد أن يكون ناجحاً دائماً لكي يقدر على أن يفشل، الكثيف البال يجب إعلاؤه أولاً، وقبل الأخذ يجب أن يكون العطاء، هذا يُدعى إدراك سجية الأشياء، الضعيف الرخو يغلب الشديد الصُلب، لا يستطيع السمك أن يُغادِر المياه العميقة وينبغي ألا تُعرَض على الناس أسلحة الدولة.

الخيّر بحق لا يدري أنه خيّر، عندنا في التصوف الإسلامي يقولون من علامات المُخلِص ثلاث علائم، في رأسها أن يفنى عن إخلاصه فلا يعرفه أنه مُخلِص، لو شهد إخلاصه لبرئ منه الإخلاص، هذا نفس الشيئ! فالذي يرى نفسه مُخلِصاً – يقول أنا خيّر، أشعر أنني خيّر، أشعر أنني طيب وكريم – هو ليس كذلك، الخيّر بحق لا يدري أنه خيّر، ومن هنا فهو خيّر، هذا هو طبعاً، هل تعرفون لماذا؟ لأن لا حساب عنده طبعاً.

شخص من أصحابي ظهرت فيه تناقضات غريبة جداً، كل مَن يقترب منه بشكل زائد عن اللزوم يرتد ساخطاً عليه، ظاهره الطيبة والعطاء والخير، وأنا أدركت وجود تناقض في شخصية هذا الإنسان، وإلى الآن المسكين لا يُدرِك الشيئ هذا، إحدى الخصائص التي لاحظتها فيه أنه يُسجِّل كل شيئ، كل شيئ! حين يعطيك خمسة يورو يُسجِّل أنه أعطاك من غير أن تعرف، وأنت تشعر – بالعكس – أنه أبو الكرم، تقول هذا يُعطي كل شيئ بسماح وطواعية لكنه ليس كذلك، يُسجِّل كل شيئ! بعد عشر سنوات قد يحدث خلاف بينك وبينه فيفتح لك الملفات، هو لا يُطالِبك لكنه يقول لك فعلت وفعلت، شيئ خطير! أدركت هذا الشيئ الخطير، وأنا أعرف أُناساً في المُقابِل يُمكِن أن يُعطيك الواحد منهم عشرة آلاف شيئ وبعد يومين ينسى ما أعطى، يقول لك أأنا أعطيتك؟ تقول له يا أخي هذا كان قبل يومين! فيقول لك لا أعرف، وهو فعلاً لا يعرف، ما رأيك؟ لا يعرف ولا يلحظ! هذا الذي لا يدري أنه خيّر ولذلك هذا لا يحسب، هذا الخيّر فعلاً وهذا القادر على مُواصَلة العطاء في كل الجوانب، عطاء الحُب، عطاء الصداقة، عطاء الوفاء، والعطاء المادي البسيط، أسخف عطاء هذا! لن يشعر بعطائه ولذلك لن يُرهِقه الشعور بأنه أعطى كثيراً ومن ثم عليه أن يتوقَّف، لا! يبقى يُعطي، لكن الذي يحسب خطير وفظيع، هذا دائماً يرزح تحت شعور مُبهِظ بأنه تجاوز الحد وأعطى الكثير، يقول متى أسترد إذن؟ متى سيأتي وقت الاسترداد؟ ولذلك لاحظت أنا في لحظة مُعيَّنة أن هذا الشخص حين اختلف مع صديق من أصدقائه فُتِحَ باب المن بشكل لا تعرفه في طبيعة هذا الشخص، هو ليس منّاناً، لكنه أصبح المنّان رقم واحد، وكان يمن أمام كل الدنيا، قال أنا الذي فعلت له، أنا الذي عملت له، لابد أن يعرف هذا، أنا كذا وكذا! يُوجَد شيئ غير طبيعي، هو هذا، هذا الكلام كله يُلخَّص بكلمات مثل هذه، فالذي يُلاحِظ أنه خيّر وأنه يُعطي هو ليس كذلك، انتهى مُباشَرةً! الذي لا يُلاحِظ هو الخيّر الحقيقي.

طبعاً في بلادنا الناس تعوَّدوا أن يُلاحِظوا، وعندهم هنا مبادئ وأعراف كنت أُنكِرها في طفولتي وأكرهها كرهاً شديداً جداً، كل الناس هكذا للأسف تقريباً، وهذا عندهم حتى في الزيارات وفي العزاء وفي الأفراح وما إلى ذلك، يقولون مَن لم يأت إلينا لا نذهب إليه، والذين أتوا إلينا – يُسجِّلون ما يحصل – في عرس ابننا ماذا أحضروا؟ أحضروا ثلاثين كيلو سكر، أليس كذلك؟ سوف نُرجِع لهم ثلاثين كيلو سكر، ما هذا يا بابا؟ كم كنت أمقت هذا! ولا زلت أمقته، هذا شيئ سيئ، يُفسِد أخلاقنا ويُفسِد أخلاق أولادنا، من غير أن نشعر نُصبِح صورة من آبائنا وما إلى ذلك، هذا شيئ بغيض جداً جداً جداً، عليكم أن تُعطوا، أنا أقول لكم كل يُعطي بقدره.

قبل فترة كنت أقول لأحدهم ليت الناس يُدرِكون أشياء مُعيَّنة منها كرمي الشخصي، كنت أمزح معه! فقال لي كيف؟ قلت له أنا صعب علىّ أن أعط من وقتي يا أخي، والله العظيم أهون علىّ أن أُعطي مالاً، تعال وقل لي أُريد مائة يورو – مثلاً – وسوف أُعطيك إياهم وأنا غير آسف عليهم، خُذهم لك، عادي! ما قيمة المائة يورو؟ مع السلامة، ليس عندي مُشكِلة، لكن لا تأخذ من وقتي ساعتين أو ثلاث من أجل أشياء فارغة، هناك مَن يأتي إلىّ ويسهر إلى الساعة الواحدة ليلاً، فأشعر أنني سأُجَن أو سأموت أو سأهلك يا أخي، لماذا؟ هو لا يقدر على أن يفهم أن وقتك هذا شيئ ثمين لأن وقته ليس ثميناً، أليس كذلك؟ هو يُدرِك أن المال هو الثمين وليس الوقت، ربما أحضر هدية بعشرين يورو وهذا شيئ كبير، فتستحق الهدية أن تأخذ إحدى عشرة ساعة من وقتك يا عدنان، يا حبيبي خُذها – والله العظيم – وسوف أُعطيك معها مائة وخمسين يورو أيضاً، ما رأيك؟ وسوف أكون راضياً – أُقسِم بالله – ولن أذكرها، لكن وفِّر علىّ وقتي، فمنطق الناس في العطاء حتى مُختلِف، أليس كذلك؟ كل واحد يُعطي مما يراه هو ثميناً، فالناس لا يرون الثمين إلا اليورو والدولار، هذا هو الثمين عندهم، الوفاء والصداقة والمشاعر والأوقات الثمينة وسُمعة الناس وأعراضها التي تُقرَض كلها أشياء تافهة، لكن بالعكس هذا هو الثمين، فلابد أن نُعيد حساباتنا كلها في هذا المنظور، وسوف نرى أننا دائماً ما نخسر ونخيب.

الخيّر بحق لا يفعل شيئاً – لماذا إذن؟ – ولكنه لا يدع شيئاً غير مفعول، المعتوه يفعل دائماً – لأن هذا المبدأ نفسه، انظروا إلى هذا الأقنوم، نحن قلنا الكامل والخيّر هو المُتساوِق مع الطاو Tao، هذا الذي لا يخون قلبه ولا يخون الطاو Tao الخاص به،  أشعر بضرورة أن أفعل هذا وسأفعله، لن أتردد! انتهى الأمر، هذا أمر لازم، لن أحسب هذا بالعقل – ويبقى الكثير مُحتاجاً إلى الفعل.

لو كان لي حد أدنى من الشعور لمشيت في السبيل اللاحب لا أخاف من تنكبه، سلوك السبيل اللاحب – اللاحب تعني الواضح جداً والظاهر النهج – ليس عسيراً، لكن الناس يُحِبون التذبذب.

عندما يكتسي البلاط بالروعة تمتلئ الحقول بالأدغال، وتُصبِح الأهراء – هل تعرفون الأهراء؟ كياس القمح والشعير يُسمونها الأهراء – فارغة، البعض يلبسون الثياب الفاخرة ويحملون الصوارم،  أي السيوف! إن لديهم أكثر مما يستطيعون استعماله، أولئكم هم السادة اللصوص، كلا! ليس هذا بدرب الطاو Tao.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: