إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ۩ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ۩ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

يبدو أن القضية كل القضية ستتكشَّف يوم القيامة عن مسألة إيمان ولا إيمان، عن مسألة مُفزَّعين خائفين ومسألة آمنين موفورين مأمونين. أما الذين هم أحق بالأمن وأهله وأجدر به، فــ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩، مسألة إيمان ولا إيمان.

يقول – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، ولا يسرق حين يسرق وهو مُؤمِن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مُؤمِن، ولا ينتهب النُهبة تستشرف إليه أعين الناس حين ينتهبها وهو مُؤمِن. حديث لطالما تُلي على مسامعنا، ومر على أبصارنا في الكُتب والصحائف.

أحسب – إخواني وأخواتي – أن أفضل أو من أفضل ما يُفسَّر أو يُؤوَّل به هذا الحديث الجليل هذه القصة المُتخيَّلة في التراث العرفاني:

فيما تحكي القصة أن مُريدي الشيخ أبي اليزيد البسطامي – قدَّس الله سره – أتوا إليه ذات يوم شاكين الشيطان، أي وهذا الشيخ الجليل، لقد برَّح بنا وأتعبنا وأشقانا هذا الشيطان الرجيم اللعين، إنه يختلس إيماننا، ويُراوِدنا عنه.

فسكت الشيخ، ثم إنه فيما تقول الحكاية استدعى الشيطان، حكاية مُتخيَّلة، لكن فيها دلالة وعظة كبيرة، استدعى الشيطان! أيها الرجيم اللعين، ما شأنك وشأن هؤلاء المُريدين الصادقين المساكين؟ قال أيها الشيخ الجليل، لست أملك من أمر أحدهم شيئاً، وتعلم وأعلم أن الله – تبارك وتعالى – بعدله ورحمته لم يجعل لي سُلطاناً على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون.

يُفرِغ الرجيم عن منطق القرآن، وهو مُحِق، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ۩، وإني لأخاف الله جداً، قال أنا أخاف الله رب العالمين، كما في القرآن الكريم، في غير موضع أيضاً، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۩… و: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۩، لكن يا شيخي الجليل ما يحصل هو التالي. طبعاً مُستحيل أن يكون الشيطان بريئاً تماماً أو بارئاً تماماً، أي لا علاقة له بالقضية، كيف؟ له مُدخلية واضحة، له مُدخلية واضحة! هو يُبيِّن، يكشف الآن النقاب عن هذه المُدخلية.

قال ولكن يا شيخي الجليل ما يحصل هو التالي، أنا أُراقِبهم، ألوذ بهم، أُطيف بهم – أي أطوف، أطاف ويُطيف، أُطيف بهم -، وأكثر هؤلاء – قال له أكثر المُريدين، وأكثر الناس أيضاً، أكثر مَن يستعلن بالإيمان، يرفع راية الإيمان، عنوان الإيمان، مُؤمِن! هو مُؤمِن، الإيمان ليس عنواناً، وليس شارة تُرفَع، حقيقة تُعاش، وإلا… معروفة بقية القصة، قال وأرقبهم، فأجد أن أكثرهم على النحو الآتي – أو مُعظَمهم يُلقون من إيمانهم هنا وهناك، لهذا السباب أو لذاك، لهذا الطمع أو لذاك، يلوح له طمع، فيُلقي إيمانه لأجله، لأن الإيمان يتناقض مع هذا الطمع، الإيمان يتناقض مع الزنا، لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن. فُرصة لاحت ونهزت وسنحت، وفتاة جميلة، وتُريديني، هذه هي، فلماذا لا؟ أين الإيمان؟ لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن.

حتماً النبي لم يُرد – لم يُرد حتماً هذا – أن يقول لنا إن مَن يزني لا يُؤمِن بأن الله موجود، مُستحيل! هذا المعنى بالغ السذاجة، بالغ الخوارجية والتنطع الديني الفارغ، الذي لا يُربي نفساً على فكرة، ولا يحد مُصطلَح ومفهوم الإيمان بحدود حقيقية، قابلة لأن تُنعِشه وأن تُنضِجه وأن تجعله مفهوماً تربوياً، يُغيِّر النفس ويُجوهِرها، مُستحيل! هذه طريقة المُتنطِّعين في الدين، الذين يُكفِّرون بالكبائر، إذن أنت كفرت، لا! هذا غير صحيح، مُستحيل، هو غير كافر بالله، هو لا يزال مُقتنِعاً بأن الله موجود، لكن ما الإيمان الذي نفاه النبي هنا؟ واضح أن النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – لا يستخدم الإيمان بهذا المعنى الأدنوي المُؤسِّس، المعنى الأدنوي المُؤسِّس أن تُؤمِن بأن الله موجود، الإيمان في استعمال رسول الله تماماً كما هو في موارده العديدة في الكتاب العزيز، مفهوم مُركَّب، شديد التركيب والتعقيد والتداخل والاعتمادية.

إذا آمنت بأنه موجود، وآمنت بأنه يسمع ويرى، وآمنت بأنه رقيب عليك، أو قائم عليك، وأنك مأخوذ عليك في صغير الأمر وكبيره، في كل ما تأخذ وتترك، فإذن ينبغي أن تعيش أو ينبغي أن تُبرهِن هذا الإيمان بالكيفية التي تسلك بها وتعيش بها، يستحيل أن تزني وشيخك يرقبك، يستحيل! وربما يستحيل أن تزني أيضاً وجارك السكير الخمير الذي تُعيِّره بسُكره وخمره وتُدل عليه بصلاتك وربما بلحيتك أو بنقابك ولجبابك، أيضاً يستحيل أن تزني وهو يراك، لكن تزني ورب العالمين يراك، أين الإيمان؟ النبي يقول أي إيمان هذا؟ عن أي إيمان تتحدَّثون إذن؟ ما قيمة هذا الإيمان؟

إذن هو لا يعيش هذه الحقيقة، أن الله معه حقاً، وأنه لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۩، وأنه لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ۩ ولا تغيب عنه غائبة، لا في السماوات ولا في الأراضين، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، وهو لا يعلم فقط أعمالك وسلوكاتك، هو يعلم سرك، سرك الذي تكذب على نفسك بصدده وخصوصه، أنت تعلم في قعر نفسك – والإنسان على نفسه بصيرة، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ – أن نيتك الحقيقية هي كذا وكذا، وتأتي تُخادِع نفسك عن نفسك، وتُحاوِل أن تُفهِمها غير ذلك، تقول لا، أنا نيتي الخير، ونيتي أن أقوم بأمر الله. كذب! أنت تعلم أنك تكذب، أنت لا تكذب على الناس فقط، تكذب على نفسك، الله يعلم أنك تكذب وأنك تكذب على نفسك، هذا هو الله كما عرَّفنا بنفسه، لا إله إلا هو! يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، ما هو أخفى من السر، ما هو أخفى من السر! هذا بعض ما هو أخفى من السر، أنت لا تعيش هذه الحقيقة حين تزني، ترقب الناس، ترقب الفسقة والمُؤمِنين، فتدع الآثام والمُوبِقات، لكن تأتيها حين تكون في خلواتك، فأين الرقابة لله – تبارك وتعالى -؟ إذن أين الإيمان بالله؟ الرقابة من مُقتضى الإيمان مُباشَرةً.

وهذا هو الإيمان على فكرة، هذا هو الإيمان الذي يصنع الرجال، ويصنع إيمان الله حقاً، ويصنع الأمم التي تكون جديرة بأن تكون محل رعاية وعناية الله، التي يُوفِّقها الله ويَهديها سُبلها ومراشدها، بل أحسن مراشدها، هذا الإيمان الحقيقي البسيط، بكل هذه البساطة، رُغم تركبه وتعقده مفهومياً، لكن في المُمارَسة هذا هو الإيمان إذن بكل بساطة، أنت تُؤمِن أن هذا يراك، وهو واحد من البشر – هذا البشر الضعيف، وكما قلنا ربما السكير الخمير الفاسق -، فلا تأته أمامه، ما قد يعود عليك بالمعرة والملامة، لا! لأنك تُؤمِن، يبدو أنك تُؤمِن بوجود البشر البُسطاء الضُعفاء، وأنهم ينبغي أن يُراعوا، أكثر من إيمانك بالله، واضح! أكثر، واضح أنه أكثر، هل هذا واضح؟ شيء خطير يا إخواني هذا، شيء خطير!

هذا معنى لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، ولا يسرق… ولا يشرب الخمر… ولا ينتهب النُهبة… وهو مُؤمِن! يقول لا، هو لا يعيش حالة الإيمان، هو يدّعي الإيمان، هو يدّعي! ولذلك نعود إلى الآية الجليلة من سورة النحل، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ۩… هذا هو! إذن القضية مُرتبِطة بماذا؟ بالإيمان. إذا أنت مُؤمِن، فلن يكون للشيطان عليك سبيل، لن يكون للشيطان عليك سُلطان، بحيث تأتي المُوبِقات والأعمال المُدمِّرة، أما الصغائر، فنحن بشر ضُعفاء، لا ينجو منها أحد، لا ينجو منها أحد! وتقول لي وهل المُؤمِن إذن معصوم من الكبيرة؟ محفوظ، وليس معصوماً، وقد – ولا يتناقض، أي لا يتناقض أنه قد – يرتكب بعض هذه الكبائر، لكن المُؤمِن إذا ارتكب كبيرة، سارع مُباشَرةً إلى الندم والنزوع والتوبة، وأصلح ما أفسد، ولا يترك الأمور كما هي حتى يتوب: مِنْ قَرِيبٍ ۩… أي حين يبدأ يشعر بأنه سيموت أو حتى يدخل في النزاع، الله قال هؤلاء لا أقبل توبتهم، في القرآن! في سورة النساء، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۩… الله قال هؤلاء لا أقبل توبتهم، لأنهم كذبة، كذبة! الصادق هو الذي يتوب، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ۩… هؤلاء من جُملة المُتقين، الموعودين بــ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ۩… وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩… وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩، إذا أتى صغيرة أو كبيرة، تلومه. لِمَ فعلت هذا؟ كيف سمحت لنفسي؟ تباً لساعة الغفلة، تباً لحال الغفلة، ويعود ويبكي ويُصلِح ويتصدَّق، كما كان هدي السلف الصالحين، يتصدَّق بصدقات حتى يغفر الله له، ويُصلِح ما أفسد قدر ما يستطيع، هذا المُؤمِن الذي يعيش في حالة فعلاً من الرقابة الدائمة، المُحاسَبة الدائمة، الحضور الدائم مع الله – تبارك وتعالى -، والله قال هذا مُمكِن، مُمكِن! ولكن إذا فعل هذه الفاحشة ينزع مُباشَرةً، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۩، يُبصِر، أف! كنت أعمى. وطبعاً كل مَن تاب وكل مَن ترك الكبائر والفواحش، يرى نفسه حين يتوب وينزع – بفضل الله تبارك وتعالى – أنه كان أعمى، يقول أف، كم كنت أعمى! كيف عشت ولم أكن أشعر بقُبح هذه الأشياء، بسوء هذه المآتي والأفعال والقبائح؟ كيف؟ كيف؟ يُصبِح مُحتاراً! هذا لأنك كنت أعمى، كنت أصم أعمى وأنت بعيد عن الله، الآن أيقظك الإيمان، بل كنت ميتاً، فأحياك الإيمان، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ۩… اللهم أتمم لنا نورنا، واغفر لنا، إنك على كل شيء قدير.

إذن هذا هو، وبهذا فسَّر أبو يزيد البسطامي الحديث، أنا أعتقد أنه فسَّر جوهر هذا الحديث، في هذه الحكاية المُتخيَّلة، الشيطان قال له أنا لا أسرق الإيمان، لا أستطيع أن أسلبهم إيمانهم، مُستحيل! ليس لي سُلطان، ولكن أنا أنتظر، أنا رأس مالي، حيلتي، كل ما بيدي من آليات ووسائل: الوسوسة، والزخرفة، والتزيين، فقط، فقط! لكن القرار الأخير عنده، في عقله وفي قلبه، عند هذا العبد المُكلَّف، ليس عندي، عنده هو!

وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ – آية المقام، تلونها اليوم – مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ۩… افعل كذا، افعل هذا، خُذ هذه، وخُذ هذا. فقط! ودعوة مُزيَّنة طبعاً، القرآن يتكامل، دعوة مُزيَّنة، يُزيِّن لك هذا، هذا شيء جميل، فخُذه، تغوَّل هذا الحق، وسوف تُعيده بعد ذلك – إن شاء الله -، وذلك إذا أغناك الله، خُذ هذا المال، اسرقه، اسرق هذه الأمانة، تغولها، غُلها، خُنها، واستثمرها، ثم أعدها من قريب، أعدها كما هي وزيادة. هكذا يضحك عليك، كأنك تضمن أن تعيش إلى شهر أو شهرين.

ذات مرة كان الماء بعيداً عن النبي – عليه السلام، حدث هذا ذات مرة – ربما بمقدار خُطوة أو خُطوتين، فضرب الأرض ويتمم، ثم سعى إليه وتوضأ. يا رسول الله ما هذا؟ قال خشيت ألا أبلغه، درس عملي، يُعلِّمهم، هذا عملي، وفعلاً كم حصل هذا لأُناس! ليست حكاية أن الواحد منهم يتحرَّك خُطوتين، بل – والله – كم سمعنا قصصاً عن مَن يرفع اللُقمة إلى فمه، فلا تسقط في فمه، وتسقط من يده قبل أن تقع في جوفه، ويموت! ليست مكتوبة له، لُقمة يأخذها، فتقع من يده، ويموت، كما سمعنا هذا! ونحن نرى هذا في حياتنا، ونراه في مقاطع اليوتيوب YouTube كل يوم، يُصلي أحدهم وما إلى ذلك، ثم يسقط ميتاً، وهو راكع أو وهو قاعد أو وهو ساجد، ورأينا الشيخ المُبارَك الذي كان يُعطي درساً، وهو يُعطي الدرس سلَّم روحه، لا إله إلا الله! هذا الموت، هذا الحق، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۩، هذا هو! فالنبي علَّمهم هذا عملياً، قال لهم لا أدري، لست آمن أن أبلغ هذا الماء بعد خُطوتين، مَن الذي يُعرِّفني؟ فأنا أكون على طهارة وأتيمم، تيمَّم بسرعة ثم سعى إلى الماء بعد خُطوتين وتوضأ، يُريد أن يُعلِّمهم، تربية! هذه تربية، وليس باسم الدين الآن نفعل الأفاعيل، وتخريجات غريبة عجيبة، ما أنزل بها من سُلطان، يقولون لك لا، والمصالح والمفاسد و… سياسة! هذه سياسة، وليست دين، الدين ليس هكذا، هذه سياسة، اترك هذا للساسة وأهل السُلطة، أهل الدين أهل صدق، أهل نُصح، أهل وضوح. لا تُوجَد لُغتان، ولا يُوجَد باطن وظاهر، هو هكذا، ومَن لا يُعِجبه هذا، فهو حر، هو هذا، وقد تكون مُخطئاً على أنك صادق، صادق فيما تقول، صادق فيما تنصح، صادق فيما تأتي، ومَن لا يُعجِبه هذا، فهو حر، هذا هو الدين.

يقول إبليس اللعين فأنا بكل بساطة أيها الشيخ ألتقط ما ألقوه، ألتقط ما ألقوه! ولذلك أنا سأعنون خُطبة اليوم: زبّال الإيمان. وأنتم فهمتم الآن دلالة العنوان، زبّال الإيمان! الإيمان الذي يُقَم ويُزبَل هو هذا الإيمان، الإيمان الكاذب الضعيف الحقير، الذي يزول بأدنى طمع، بأوهى وأوهن الأسباب.

يقول – صلوات ربي وتسليماته عليه – مَن اقتطع حق أخيه بيمينه، حرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. والحديث في صحيح مُسلِم وفي موطأ مالك، ودائماً دائماً ما نتساءل: كم وكم وكأين من مُسلِم وكأين من مُسلِمة اقتطع حقوقاً – وهي حقوق أيتام وحقوق أرامل وحقوق ربما مساجد وبيوت لله – بيمينه الباطلة! تغوَّل الحقوق بالأيمان، وقد يحلف على المُصحَف بالعشرة أيضاً وهو يعلم أنه كاذب، النبي يقول حرَّم الله عليه الجنة، حتى ولو كان ما أخذه خمسين يورو، حلفت على خمسين يورو وأخذتها من أخيك أو من البائع؟ انتهيت، أنت أنهيت نفسك يا مسكين، قد يقول لي أحدهم ما هذا؟ هل هذا بسبب خمسين يورو؟ ليس بسبب خمسين يورو، بسبب أنه بهذا الحلف الكاذب باسم الله، كأنه أعلن كُفره بالله، ويقول له أنا أتحداك، ألست أنت حكم وعدل ومُسيطر ومالك المُلك؟ أنا سأستخدم اسمك وأستخدم قُدسيتك، وسأحلف به لكي أنال ما حرَّمته عليه، وأرني ماذا ستفعل، أرني! قال لك الجنة مُحرَّمة عليك، ولك النار أيها التاعس البائس.

الصحابة ريعوا، داخلتهم روعة، خوف، فزع، فقال أحدهم يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيرا؟ أي – كما قلت الآن – لو كان خمسين يورو، وهذا كلام فارغ الآن، أو كان خمسة يوروات. قال وإن كان قضيباً من أراك. انظر إلى قطعة السواك هذا، وهذا يُشترى بسنت، بل هذا لا شيئ، هذا عود في الصحراء، نبات صحراوي، وعند الإمام مالك في الموطأ كررها ثلاث مرار: وإن كان قضيباً من أراك، وإن كان قضيباً من أراك، وإن كان قضياً من أراك. ثلاث مرات! هذا الإيمان، هذا الإيمان الحق، الذي يحجز صاحبه ويُعلِّمه كيف يُوقِّر الله – تبارك وتعالى -، وكيف أنه من المُستحيل أن يحلف باسم الله كاذباً، في كذب وعلى باطل، يستحيل! مهما كان الثمن، ومهما كان الطمع، مُستحيل! يُوجَد إيمان هنا يحجز، يُوجَد إيمان يحجز.

الإيمان يحجز أن تعدو على إخوانك، أن تعدو على النفوس المعصومة، مَن أشار إلى أخيه بحديدة – بموس هكذا، أو بسكين هكذا، لكي تُخيفه – لعنته الملائكة. الملائكة! وطبعاً ظاهر الحديث أنها تلعنه طالماً ماذا؟ هو يفعل، لعنة الله عليه، مطرود من رحمة الله، لماذا تُخيف الناس؟ لماذا تُخيف النفس المعصومة؟ والحديث في صحيح مُسلِم عن أبي أُمامة، مَن أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة. تخويف الناس، إرعاب الناس، العدوان على الناس!

سوف تقول لي أتُحدِّثنا عن حديدة وما إلى ذلك؟ هناك أُناس تقتل، يقتلون الناس، يقتلون الأبرياء، في سبيل وفي سبيل، لا! واضح هذا هنا، هنا لا نحتاج إلى حديث، ولا نحتاج إلى البسطامي والقصص، القرآن واضح جداً جداً، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، سوف تقول لي وماذا عن الجلّاد؟ الجلّاد ما علاقته؟ الجلّاد قتل بقضاء القاضي، القاضي الشرعي! الآن سواء القاضي قضى بحق أو قضى بباطل، الجلّاد لا عليه من هذا، إلا أن يكون مُوقِناً – أي الجلّاد، إن كان على شيء من علم أو شيء من دراية، وكان مُوقِناً بهذا، عرف وسمع – بأن هذا يُقتَل بباطل، ممنوع أن يقتل، وإلا هو ملعون، داخل ومُنضوٍ تحت حُكم الآية كهذا القاضي وكشهود الزور، لا يُوجَد هذا، هذا الدين، هذا الدين! وهذا رب العالمين، هذا شرعه، ولا يُوجَد كلام غير هذا، أما جلّاد لا يعرف، يظن أن هذا القاضي يقضي بشرع الله، وأن هذا قُتِل بحق، فهذا شيء آخر، أما إذا كان يعرف، فالأمر مُنتهٍ، ولا يُوجَد غير هذا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ۩، لا يُوجَد غير هذا، لأنك عارف أن هذه قتلة بباطل، فكيف تُقدِم عليها؟ لا يُوجَد عندك أي عُذر.

إذن وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، بالله هل سمعتم بمثل هذا التخويف؟ مبلغ علمي ليس في كتاب الله مثل هذه الآية، شيء مُخيف! ولذلك في سُنن أبي داود، حصل الآتي في حديث مُحلِّم بن جثامة – لا أُريد ان أسوقه، والحديث طويل وجميل، ولكن موضع الشاهد هو آخره -، كان مُحلِّم بن جثامة هذا صحابياً، قتل صاحباً آخر – أي قتل صحابياً – من أشجع، من قبيلة أشجع، قتله هكذا عمداً وعدواناً بسيفه، وكان الإسلام لا يزال في بدايته، هذا في بداية الهجرة، في غُرة الإسلام كما في الحديث، وطبعاً هناك اجتماع وقبيلة القاتل وقبيلة المقتول وقصة وأُناس كثيرون، دائرة كبيرة! والنبي يُحاوِل أن يُصلِح، وكان أول غير قضى به رسول الله، وكان أول غير قضى به رسول الله، وما معنى أول غير؟ أول دية، لأن هذه الدية تُغيِّر القود، القود: النفس بالنفس، القصاص! وهذا في القتل العمد طبعاً، القتل الخطأ ليس فيه القصاص، وإنما في القتل العمد النفس بالنفس، تأتي الدية كتغيير، دعونا من القود، وهذا إذا رضيَ طبعاً أولياء الدم، أي أهل القتيل، خُذوا الدية، ولذلك تُسمى الغير، تُسمى الغير! وكان أول غير قضى به رسول الله في الإسلام – صلوات ربي وتسليماته عليه -.

المُهِم في آخر الحديث: وكان مُحلِّم بن جثامة جالساً في طرف الناس، فلم يزالوا حتى تخلص، أي الناس كانوا يُوسِّعون له، هيا اذهب، اجعل النبي يراك، لكي يستغفر لك، فمُصيبتك عظيمة -، حتى صار بين يدي رسول الله. فلم يزالوا يتخلصوا، أي به، حتى صار بين يدي رسول الله، وكان رجلاً طويلاً، أي واضح أنه قوي، وربما غرته قوته وما إلى ذلك، كان رجلاً طويلاً، فطأطأ رأسه، وقال يا رسول الله قد أتيت هذا الذي أتيت، أي أنا أعترف، قتلته، قتلته عمداً، فاستغفر لي، وأنا نادم على ما فعلت، فاستغفر لي الله يا رسول الله. قال يا مُحلِّم قتلته بسلاحك في غُرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لمُحلِّم. النبي! وطبعاً الصحابة ريعوا، شيء مُفظِع، هذا الحديث حين قرأته قبل سنوات وشرحته مرة، وجدت أنه مُفظِع ومُخيف، اللهم لا تغفر لمُحلِّم. يقول الراوي يعلو بها صوته. النبي بصوت عالٍ يقول لا تغفر له.

على فكرة وهذا ليس فقط في حق مَن قتل النفس المعصومة، ومَن شارك، ومَن تواطأ، ومَن كتب تقريراً – أي في النفس المعصومة -، يا ويله من الله، هذا الإيمان، هذا الإيمان! في حجة الوداع ماذا حصل؟

طبعاً يقول الراوي فرأيته وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه، صار يبكي، أي أيقن باليأس، استشعر اليأس من رحمة الله، لا يُوجَد إلا هذا، نفس معصومة هذه، الآدمي بُنيان ربه، ملعونٌ مَن هدمه. النبي قال لك هذا، قال لك لا يجوز لك أن تأخذ سواكاً من أخيك بغير طيب نفسه، النبي قال لك إنه خصيمك لو أخذت قضيب الأراك هذا – أي عود السواك – من أخيك بغير طيب نفس، هكذا غلبته عليه، قوة واقتدار كما تقول العامة، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأنا خصيمه أو قال حجيجه يوم القيامة، قال خصومتك معي أنا، ممنوع أن تأخذ فلساً واحداً من أحد بغير حق، فكيف تأخذ حياته؟ كيف تأخذ أقدس وأثمن ما أعطاه الله (الحياة)؟ على أي أساس؟

ممنوع أن تأخذ ماله، وممنوع أن تقرض عِرضه وأديمه، ممنوع! كأن تقول هو يرى نفسه، هو مُتكبِّر، مُتساهِل، مُتسيِّب… إلى آخر ما لا أدريه، وهم الآن يقذفون بأشياء أُخرى أيضاً، إذا كان هناك مُسلِم عنده حتى اجتهادات وأفكار، فإنهم يقولون لك هو علماني، ليبرالي، مدسوس في الإسلام! يا ما شاء الله عليكم، يا ما شاء الله، يأخذونها هكذا، يا ما شاء الله، أي يتكلَّمون بسهولة. كل المُسلِم على المُسلِم حرام، دمه وماله وعِرضه وألا يُظَن به إلا الخير. يا الله! حتى الظن؟ حتى الظن، ممنوع! لا تُرسِل حبل ظنك على غاربه، أي أظن في الناس كما أُريد، وأُصنِّف الناس هكذا بالتوهم: وهذا مدسوس، وهذا عميل، وهذا ما لا أدري، وهذا خائن، وهذا… على أي أساس؟ ما هذا؟ مسكين أنت!

وعلى فكرة – انظروا إلى الآتي – أنا أتكلَّم الآن وبي هذا الحماس وبي ذاكم الألم، وأنا مُتأكِّد أنكم تستشعرون مثل هذا الألم، تقولون يا الله ويا لله! يا الله ويا لله للمُسلِمين! لو كانت الامة تفهم دينها على هذا النحو الذي أراد الله ورسوله، وتُطبِّق شيئاً منه، لكنا أرقى الأمم على وجه الأرض، على وجه الأرض نعم، نعم! لأنه لا يُمكِن أن يُوجَد، بل لا يُوجَد شرع ولا دين ولا فلسفة ولا أدب ولا موعظة ولا تعاليم، تُربي أصحابها بمثل هذه الطريقة الأرقى، الأرقى! حتى الظنون، حتى الظنون السيئة ممنوعة، اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ۩… قرآن هذا، مِنَ الظَّنِّ ۩… الله قال لك الظَّنِّ ۩… قد يقول أحدهم يا الله، هل الله يأمرنا بهذا؟ نعم، والأمر للإيجاب والتحتيم، وانظر إلى هذا، وترك لك هامشاً ضيقاً، قال لك كَثِيرًا ۩… لأن بعض الظن لا أستطيع أن أتجنَّبه، لا أستطيع أن أتجنَّب – مثلاً – الظن بالسوء في رجل أراه من أهل الخير، لكنه وضع نفسه في موضع – والعياذ بالله – سيء، رأيته يُراوِد – مثلاً – امرأة بائعة هوى في الشارع عن نفسها ويلمسها، فكيف أظن به الخير؟ لا أستطيع، أنا بشر طبعاً، سأُحاوِل قدر ما
أستطيع إذن، لكن رأيته يلمسها أصلاً أنا ويُريدها وكذا، فمُستحيل أنه ذهب إليها يدعوها إلى الله – تبارك وتعالى -، أي صعب هنا، صعب! فالله قال لك كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ۩… افعل هذا إذا لم تكن القضايا لائحة، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام، مُعلِّم الناس الخير – على مثل الشمس فاشهد. أي هناك شيء أنت رأيته وأنت مُتأكِّد منه، وأنت طُلِبت للشهادة، وطبعاً هناك شيء اسمه الستر، تستر أيضاً إذن، فلست تُعيِّر ولا تشمت ولا تفضح، المُؤمِن لا يُعيِّر ولا يشمت ولا يفضح، حتى مع أعدائه! يستر، ويطلب من الله الستر على كل صاحب عيبة وصاحب ذنب، هذا المُؤمِن، المُؤمِن كائن جميل جداً.

وفي الحقيقة يا إخواني كان مُدخلي الأصلي لهذه الخُطبة: أردت أن أكشف وأن أُبيِّن عن معنى، لِمَ، لِمَ قامت الحضارات حين قامت ونشأت المدنيات حين نشأت وأُسِّست على الدين؟

فلاسفة التاريخ والحضارة تقريباً مُطبِقون ومُتفِقون على أن الحضارات والمدنيات الإنسانية نشأت على الدين، كلها! وحتى الملاحدة منهم قالوا نحن نعترف، هذه حقيقة. هناك مؤاخاة وهناك مُصادَقة مُنذ مطلع التاريخ – من بواكير التاريخ – بين الدين والحضارة.

يُفسِّر لنا هذا عبر أحد النماذج التحليلية القوية هنا واحد مُلحِد، يُفسِّر لنا سر هذا الاعتلاق وهذه المآزرة وهذه المُصادَقة والمُساعَدة بين الدين والحضارة، وهو فرويد Freud، سيجموند فرويد Sigmund Freud، أبو التحليل النفسي المُلحِد، العالم النمساوي المُلحِد، في كتابه قلق في الحضارة، قال لأن الدين فعّال جداً في ضبط الغريزة. الدين يجعلك لا تبقى حيواناً، وفي الحقيقة كلنا حيوانات، نحن في مُستوى من مُستوياتنا حيوانات، طبعاً نحن كائنات حية ونحن حيوانات، نحن ثدييات Mammals، ونحن رئيسات Primates، من الرئيسات! أليس كذلك؟ هذا هو، فهذا تصنيفياً، ولا يُوجَد كلام غير هذا هنا، وهذا كلام علمي، أي صُلب، فلا يُوجَد فيه كلام غير هذا، نحن حيوانات، من شُعبة الحبليات، أي من مملكة الحيوان، شُعبة الحبليات، وبعد ذلك فقاريات، وبعد ذلك ثدييات، وبعد ذلك رئيسات، ونحن من أشباه الإنسان، ونحن الإنسان الآن، الهومو سابينس سابينسHomo sapiens sapiens – إن شئتم -، العاقل العاقل.

ففرويد Freud قال لك هذا، قال لك الدين يضبط الغريزة. أي غريزة؟ قال لك أنت تشترك مع الحيوانات في الغرائز. ولكن من رحمة الله نحن أقل الحيوانات غرائز، أي حيوان تأخذه تجد أن كمية الغرائز التي فيه مهولة، فلماذا إذن؟ لأن العقل عنده لم يتطوَّر، النيوكورتكس Neocortex – أي القشرة الدماغية الحديثة هذه – لم تتطوَّر عند الحيوانات، هي موجودة عندنا نحن بالذات، عند الرئيسات، وخاصة عند الإنسان طبعاً – ما شاء الله -، بصراحة أكبر كائن على وجه الأرض عنده هذه القشرة – هذا نسبياً طبعاً، نسبة الدماغ إلى حجم الجسم – هو الإنسان، رقم واحد! قبل الفيل وقبل الحوت وقبل أي شيء آخر، الله هكذا أعطاه هذا، فهل هذا واضح؟ ولماذا أعطاه هذا؟ طبعاً لأن القشرة الدماغية الحديثة هذه لها وظيفة، فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ۩… لكي تصير مُهياة لأن تتلقى ماذا؟ تتلقى الغيب، تتلقى المفاهيم الغيبية، هناك شيء وراء الكون، مُستحيل هذا في حق الحيوان، الحيوان لا يستطيع أن يفهم هذا، كأن تقول له ها هو الكون، وفيه قوانين، وفيه دساتير، وهي تُسيِّره، ولكن هناك شيء وراء الكون كله. سوف يقول لك لم أفهم. لن يفهم، الإنسان قادر على ذلك، ويطرح هذه المسألة باستمرار، فهو عنده عقل، وعنده عقل جبّار، أوسع من الكون نفسه، هو وسع الكون نفسه درساً وعلماً، شيء رهيب، عقل مُخيف.

وطبعاً نحن نستطيع أن نعيش بصراحة بنصف عقلنا، بل إذا كنا صادقين، بثُلث عقلنا. الشِمْبانزِي Chimpanzee عنده ثُلث عقلنا، حوالي أربعمائة وخمسين سنتيمتراً مُكعَّباً، أي سي سي CC، ونحن عندنا حوالي ألف وثلاثمائة، وهناك بعض الناس الذين عندهم ألفا، هذا حجم دماغ الواحد منهم، ولكن هذه حالات قليلة، ألفان! ألفان سي سي CC، أي طنجرة كبيرة هكذا، ولكن الشِمْبانزِي Chimpanzee عنده ثُلث عقلنا، حوالي أربعمائة وخمسين سنتيمتراً مُكعَّباً، والشِمْبانزِي Chimpanzee أنتم رأيتم حاله، ذكي وخطير وليس كائناً سهلاً، ذكي جداً، وهو يعيش ويُدافِع عن نفسه، وعنده بعض التقنيات البسيطة وكذا، وهذا معروف، وحاله يسير، ها هو من ملايين السنين وهو يعيش مثلنا، نوع من الأنواع! لكن نحن لسنا شمبات Chimps ولسنا غوريلات الجبل، نحن شيء مُختلِف، هذا لكي نتلقى كلمات السماء، لكي نتعامل مع الله، نتعامل مع الغيب، لكي نُربي الضمير، لكي نتكلَّم عن القيم وعن الفضائل وعن الخير وعن الشر وعن الصلاح وعن الطلاح وعن الدنيا وعن الآخرة، لكي نُنشئ الحضارات والمدنيات، لا يُوجَد حيوان أنشأ حضارة ومدنية إلا الإنسان، فقط! فرويد Freud المُلحِد يقول لك السبب هو ضبط الغريزة.

لدي مُقارَبتي البسيطة والسهلة جداً جداً، بالله – أنا مُحتاج، أنا مُفتقِر، أنا شحّاذ، أشحذ منكم هذا التفسير – دلوني على شيء يضبط الغريزة ويُرشِد إلى ضبطها مثل قوة التدين؟ ليس مثل المُتدينين، قطّاعي الرؤوس، وسلّاخي الفروات والجلود، والذين يأكلون الحرام قبل الحلال، ثم تقول لي إن الواحد منهم مُتدين، دع عنك هذا الهراء كله، أنا أتحدَّث عن الدين الحقيقي، مثل دين آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، الذين كانوا ورعين، وكانوا صادقين ومُعظِّمين لحُرمات الله، هم أعوام وبُسطاء، ولكن عندهم تعظيم عجيب يا أخي – والله العظيم – وعفة عن أعراض الناس.

والله أعرف امرأة عامية، لم تدخل مدرسة وما إلى ذلك، أعرفها وكل أولادها يشهدون لها بالآتي، ابنتها تقول أشهد بالله لم أسمع أمي يوماً ذكرت أحداً بسوء. وأُقسِم بالله! شيء يقشعر له البدن، وقد كانت امرأة صالحة، عاشت وتُوفيت امرأة صالحة نظيفة ربانية شفّافة، وامرأة عاقة وذكية، على أنها أُمية، لا تكتب ولا تقرأ، ابنتها قالت لي فماً لأذن – إن جاز التعبير- لم أسمعها يوماً ذكرت أحداً بسوء لأنها تخاف الله، ولم تترك فرضاً في حياتها.

هذا التدين الذي أراده الله، وذكرنا الآن نماذج وأنماطاً من ضبط الغريزة في الإنسان، على أن الإنسان للأسف الشديد يا إخواني في مُعظَم تاريخه برهن ولا يزال على أن غرائزه تسطو به جداً، أليس كذلك؟ ما خبر الجينوسايدس Genocides هذه؟ ما الإبادات الجماعية والتطهير العرقي هذا في القرن العشرين؟ وربما هذا وقع أيضاً في القرن الحادي والعشرين هنا أو هناك، ما الذي يصير هذا؟ ما قضية قتل الأطفال؟ ما قضية استعمار الشعوب الأُخرى واستغلالها ومص دمائها؟ وأنا أتحدَّث بهذا وفي ذهني رافائيل ليمكين Raphael Lemkin، صاحب حُكم المحور في أوروبا المُحتلة. الكتاب الشهير، الذي صك فيه لأول مرة مُصطلَح الجينوسايد Genocide، ليمكين Lemkin يهودي طبعاً، وهو أحد – أي هو وعائلته – ضحايا المحرقة (الهولوكوست Holocaust)، وهو رجل قانوني عظيم، وإنسان تحرري كريم، واستخدم – أي هو استخدم – المُصطلَح هذا، أعني الجينوسايد Genocide، وعنده طبعاً مفهوم واسع جميل، ينبغي أن يُستحيا من جديد، الجينوسايد Genocide ليس مُجرَّد إبادات لشعوب أو قبائل أو عشائر أو أعراق فقط، لا! هذا غير صحيح، قال هو أوسع من هذا. قال الجينوسايد Genocide في تعريفي – أي هذا التطهير العرقي كما يُترجَم – هو الأنشطة المُنظَّمة الهادفة إلى تدمير حياة المُجتمَعات الأُخرى ومُقوِّماتها، ويدخل في هذه الأنشطة الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والروحي والأخلاقي والديني والعلمي والثقافي. قال كل هذا داخل في الجينوسايد Genocide، كلها يدخل في مفهوم الإبادة، أن تُبيد الآخر.

من حق الآخر أن يكون له تاريخه، مساره التقليدي، مساره الحضاري اللُغوي الديني الثقافي والعرقي أيضاً، من حقه! وأن يستمر في الوجود، جمال الوجود في هذا التغاير، جماله في هذا التغاير! لكن كان ليمكين Lemkin – أي رافائيل ليمكين Raphael Lemkin – لا يكاد يفهم ما الذي يحصل في عالم البشر في العصر الحديث، وما هذه الحروب العالمية، وما هذا الهولوكوست Holocaust، وما هذه المحارق، وما الاستعمار الأوروبي. هو استخدم الجينوسايد Genocide كنموذج تفسيري للاستعمار الأوروبي، قال نحن مارسنا الجينوسايد Genocide في حق الشعوب الأُخرى. ويُقال لك فرنسة الجزائر! كيف يُقال هذه فرنسة؟ هذا الجينوسايد Genocide للجزائر، اترك الجزائر وشأنها، اتركها ودينها ولُغتها وحريتها وتقاليدها وعاداتها وملابسها وفلكلورها، أنت ليس لك علاقة بها، مَن أنت؟ قال هذا كله إبادة، أي الجينوسايد Genocide. ليمكين Lemkin قال هذا كله إبادة.

الناس الذين تخصَّصوا أيضاً في دراسة الثدييات وخاصة الرئيسات – أي الــ  Primates – قالوا لك هناك شيء مُخيف، كنا نجهله عبر التاريخ عن هذه الحيوانات. وقد صدمتنا في القرن العشرين، لأن هناك دراسات طويلة المدى، أو طويلة الأمد، أُجريت على هذه الرئيسات العُليا بالذات، وتبيَّن أنها لا تقل فظاعة عن الإنسان، وفي الحقيقة هذه ليست قضية أنها لا تقل فظاعة عن الإنسان، التفسير الصحيح أن الإنسان امتداد لها، أصلاً هو حيوان مثلها، هي تفعل هذا من أُفق حيوانيتها، تفعل ماذا؟ تقولون. عن ماذا تتحدَّث؟ تقتل أبناء جنسها، وعلى فكرة قديماً نحن كنا حالمين، وكنا نتعلَّم على يد كتّاب شرقيين وغربيين حالمين، لا يعرفون العلم حقيقةً، ليس عندهم توسع في هذه المجالات ربما، يقولون لك الإنسان وحده – يقولون وحده – الكائن الذي يُمعِن في قتل أبناء نوعه، وربما في المُجتمَع الواحد، وذلك في الحروب الأهلية، ويتوحَّش في قتلهم وإبادتهم، أما الحيوانات الأخرى – باركها الله، بما فيها الفهود والسباع والذئبان، أي الذئاب – فليست كذلك، هذه تقتل لتعيش. لا! غير صحيح، هذا غير صحيح، وُثِّق علمياً مائة وتسعة عشر نوعاً – أي حوالي مائة وعشرين نوعاً Species، فهناك مائة وتسعة عشر نوعاً على هذا النحو -، كل نوع فيها يقتل أبناء نوعه ويفترسهم، ومن ضمنها بل وفي رأسها الشِمْبانزِي Chimpanzee، الشِمْبانزِيس !Chimpanzees

وهناك كتاب كامل عن هذه القضية – على الأقل هذا في الفصل السابع عشر -، وهذا الكتاب أصبح نصاً كلاسيكياً ومُهِماً جداً جداً في علم الرئيسات، لخبيرة القردة الإفريقية المشهورة عالمياً جين جودال Jane Goodall، وهو كتاب اسمه ماذا؟شمبات غومبي: أنماط السلوك. وغومبي في تنزانيا. قالت The Chimpanzees of Gombe: Patterns of Behavior. كتاب رائع مُخيف، الفصل السابع عشر منه صادم، كان صادماً حتى لأصحاب الدراسات والمُقارَبات الثقافية والحضارية، قالت لك لم نكن نعرف أن الشمبات Chimps – أي الشِمْبانزِيس Chimpanzees – يعدو بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم صغار بعض. وحدَّثتنا عن تجربتها، وهي طبعاً درست الشمبازات Chimps في Kasakela لخمس وعشرين سنة، أي رُبع قرن، وهذه طريقة الباحثين الجادين، رُبع قرن! وقالت لك هذه فترة غير كافية، لأن الشِمْبانزِي Chimpanzee يمتد عُمره إلى خمسين سنة، فإن أعطاني الله عُمراً – هي تقول هذا -، فسيكون من المفروض أن أدرسه خمسين سنة. هذا لكي أفهم الشِمْبانزِي Chimpanzee، ومن خلال الشِمْبانزِي Chimpanzee أفهم الإنسان، الذي هو ابن عمه فعلاً وامتداد له. وقد يقول لي أحدهم هل أنت مُتأكِّد من أن الإنسان على هذا النحو؟ طبعاً، ولا أحد يُنكِر أننا وفقاً لمُكوِّن حقيقي فينا حيوانات، وتصرفاتنا تُوكِّد هذا، تصرفاتنا!

كم مرة سمعتم عن قصص الاستعمار الذي يُبيد الشعوب الأُخرى ويقتل الأطفال حتى لا يكبروا ولا يُطالِبوا بثأر الأجيال! هم يفعلون هذا، يقنصون الأطفال الصغار، وربما ترونهم في التلفزيون Television أيضاً في العصر الحديث، شِمْبانزِي Chimpanzee! هذا الشِمْبانزِي Chimpanzee.

هي كانت مصعوقة، كيف يقتل الشِمْبانزِي Chimpanzee صغير الشِمْبانزِي Chimpanzee؟ كيف هذا؟ وظنت أن هذا للهيمنة، وهناك أُناس ظنوا أنهم مُصابون بالزومبية، أي مرض الزومبية، وتعرفون ما هو، وأُناس قالوا يُمكِن أن تكون العناصر المعدنية في الأكل والشرب أثَّرت فيهم، لأنهم قريبون من البشر، وأُناس قالوا… هناك خمسون سبباً! وجاءت عالمة الرئيسات أيضاً من هارفارد Harvard سارة بلافر هردي Sarah Blaffer Hrdy – أي سيره بلافر هردي – وقالت لا، أنا درست هذا وتعقبته، الشِمْبانزِي Chimpanzee يفعل هذا، كيف؟ هو لا يقتل أي صغار، يقتل صغار الذكور الآخرين، وهم الذين صاروا في جماعة أُخرى، انشقت عن الجماعة الأصلية. فلماذا إذن؟ لماذا تقتل الصغير المسكين هذا؟ وربما التهمه أيضاً، شيء مُخيف مُرعِب، لم يكونوا يظنون أن الوضع هكذا! قال لك هذا لكي يُقلِّل – يعمل تقليلاً، اختزالاً، تخفيضاً، أيReduction – من نجاحه التناسلي، فأنا أمتد وأكثر وأموت ثم يأتي أولادي وأحفادي، وهو يفنى. هذا الــ Reproductive success، أي النجاح التكاثري، النجاحي الإنجابي، لكي نُقلِّله نفعل هذا.

وسوف تقول لي والله هذا يحدث عندنا، البشر يفعلون هذا في بعضهم! كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus طبعاً – ما شاء الله – وهو الرمز الكبير، فعل هذا في الهنود المساكين الحُمر، سموهم الحُمر، وهم ليسوا هنوداً أصلاً، ليسوا كذلك من الأصل، ولكن أعطوهم اسماً جديداً، وتعرفون كيف حصل هذا، وكانت هناك البطانيات والأمراض هذه والقتل والرصاص وكذا، ولذلك رافائيل ليمكين Raphael Lemkin كان ينظر إليه على أنه إبادي فظيع، كان يقول أنا أنظر إلى كولومبوس Columbus هذا – وهم يُقدِّسونه، أي شعبه وكذا – على أنه إبادي – أي Genocidist – فظيع. إبادي فظيع! يفعل هذا؟

نحن أيضاً – وهذا ليس استعماراً – في القرى، في الأنجاع، في بلادنا (بلاد العرب والمُسلِمين) نفعل هذا، أحياناً بطريق السحر أيضاً، نعمل سحراً، نربطها فلا تُخلِّف، وأنتِ ما علاقتك بها؟ لا تُريد ذلك، لا تُريد للآخرين أن يُخلِّفوا، نحن فقط نُخلِّف، ونرث هذه الأرض الصغيرة. الشيء نفسه! نزعة حيوانية، نزعة غوريلية، شمبية، مانكية. السعادين – الــ Monkeys – تفعل هذا أيضاً، سعادين اللانغور Langur بحسب دراسات علمية في جبل أبو Abu – أي في منطقة جبل أبو Abu، Mountain Abu region، وهي في الهند، اسمها الــ Langur monkeys – تفعل هذا، يقتلون الصغار – أي صغار الآخرين -، وربما افترسوهم أيضاً، ونحن سعادين، ونحن شمبات Chimps، نفعل هذا، القرآن قال لك نعم، وأنت مُهيأ لأن تفعل هذا دائماً، ولكن انتبه، تُوجَد عندك مُعادَلة واحدة وحل واحد: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ۩… لن تفعل هذا إذا آمنت بالله، واستخدمت عقلك. وأنا طوَّرتك، وأنا رقيتك، وأنا نفخت فيك مِنْ رُوحِي ۩، وجعلتك خلقاً آخر، لكي تتعالى على أن تُواصِل حياتك كحيوان، أنت لست حيواناً، فيك حيوان، طبعاً الحيوان يربض في دمائنا، ولكن إياك أن تُغذيه، إياك أن تُطعِمه، إياك أن تُرسِل حبله على غاربه، جوِّعه هذا، أضعِفه، أتعِبه، وقوّ الروح فيك، قوّ الملاك الذي فيك.

العلماء لا يستخدمون اللُغة الدينية هذه، أو اللُغة الروحية، لا يقولون لك هذا حيوان وهذا إنسان وما إلى ذلك. لا! عندهم لُغة أُخرى تتطابق تماماً مع اللُغة الدينية، وكان يُمكِن أن نعلم هذا لو كنا مُنصِفين، وقد حدَّثتكم مرة عن هذا، وعقدت خُطبة عن هذا الموضوع، فالإنسان فيه ثلاثة أدمغة: الدماغ الزواحفي، وهذا موجود من ثلاثمائة وخمسين مليون سنة، وهو موجود فعلاً، وبعد ذلك هناك دماغ فوقه، انظر أنت إلى جذع الدماغ، رأس جذع الدماغ مثل الحزام هكذا، أي Girdle، يُحيط به، هذا اسمه المُخ الحوفي، ولذلك يُسمونه المُخ الحوفي، من الحافة، يُشكِّل حافة جذع الدماغ، هكذا يُحيط به كالحزام، وهذا اسمه الــ Limbic system، أي النظام الطرفي، الجهاز أو المُخ أيضاً الحوفي، هذا مُخ الثدييات، مُخ الثدييات! هذا المُخ الغرزي، هذا مُخ غرزي أيضاً، هذا يُحافِظ على الحياة، صراع البقاء – أي الــ Survival -، الجنس، الأكل، الشُرب، المسكن، المأوى، يقوم بالمُحافَظة على الذرية، إنتاج ذرية، ويعمل على تربية الذُرية، Breeding and rearing، وهذا كله يتعلَّق به المُخ الذي في المُنتصف، حلو! هذا مُتطوِّر قليلاً، ولكن هذا مُخ غرزي، هذا مُخ الشِمْبانزِي Chimpanzee ومُخ الغوريلا ومُخ كذا، هذا هو، انتبه! وهذا المُخ مُخ غرزي، لا يعرف القيم ولا الحلال ولا الحرام، غريزة! المُخ الغرزي هذا – انا أقول لكم – تتحرَّك به الشعوب المُتخلِّفة والشعوب البدائية، وإذا أردت أن تكشف كم فيك من بدائية ومن تخلف ومن غريزة ومن حيوانية، فعليك أن تنظر إلى مقدار حجم المُخ الغرزي في قراراتك وسلوكاتك وأفعالك وتفضيلاتك، والله العظيم!

الثقافات المُتخلِّفة أحبابي – إخواني وأخواتي، هذه الثقافات المُتخلِّفة، ولن أقول البدائية، لأن البدائية لا تعني حتى التخلف دائماً، انتبهوا حتى لا نكون مُتحيِّزين، هذه الثقافات المُتخلِّفة، والثقافات الحيوانية الشرسة – عندها نموذج السطو، نموذج الغلب، نموذج القوة، نموذج العدوان، هذا حيوان! نموذج حيواني، نموذج الثأر، نموذج الثأر! سيئة بسيئة مُباشَرةً، بل بمائة سيئة، فنجهل فوق جهل الجاهلين. نعم، ثقافة غرزية، ثقافة حيوانية، الدين ليس كذلك، لا! فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۩، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩، تكظم غيظك على مَن أساء إليك وداس على طرفك، وأنت تستطيع أن تسحقه سحقاً، عندك سُلطة، عندك قُدرة، أو عندك قوة القانون، يُغطيك، ولكن أنت لا تُريد، تكظم غيظك، الناس تغضب بالنيابة عنك، وأنت كاظم للغيظ، عفيف اللسان، ما أجمل هذه الحضارة! هذه الحضارة، هذا المُتحضِّر، الثقافات المُتخلِّفة لا تنظر إليه مُتحضِّراً، تنظر إليه على أنه درويش وأهبل ومُغفَّل وضعيف، وهيا ندوسه. أنت مُتخلِّفون، سوف تعيشون التخلف، وسوف تأكلون بعضكم البعض مثل الشمبات Chimps والغوريلات هذه.

الثقافة المُتحضِّرة في جوهرها دينية، ترقب الله وتُؤمِن بالفضائل والقيم، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أسَّس لهذا بشكل واضح في حديث مُخرَّج في الصحيحين – في البُخاري ومُسلِم -، عن أبي هُريرة، ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. ونحن صغار كنا نتحفَّظه، ليس الشديد بالصُرعة. لا، هذا غير صحيح يا رسول الله، كيف هذا إذن؟ في ثقافاتنا المُتخلِّفة هذه، ثقافاتنا الحيوانية الشمبية الشديد بالصُرعة، مَن الذي يقدر على أن يكسر الثاني؟ مَن الذي يقدر على أن يدس على طرفه ويجعله غير قادر على أن ينتصر وينتصف لنفسه؟ هذا القوي و(الشاطر) والبطل والفهلوي. النبي قال هذا غير صحيح أبداً، هذه حيوانية، هذه غريزة تُهلِك المُجتمَع، قال ليس الشديد بالصُرعة. فُعلة، أي مَن يصرع الآخرين كثيراً، كلما صرعه أحد صرعه، أي من كثرة ما هو قوي، ليس الشديد بالصُرعة، مثل هُمزة ولُمزة وأُكلة وقُعدة، وهكذا! وإنما الشديد الذي يملك نفسه عنده الغضب. تستغضبه بقول أو فعل أو تلميح، وهو لا يغضب أبداً، يحلم ويعفو ويصفح، كما كان النبي، وهو المثال رقم واحد في الحلم والصفح والتجاوز والإغضاء والكرم والتجاهل عن هؤلاء، لأنه مُتحضِّر، وقد بنى حضارة، وخلق وأخرج أمة بنت حضارة بسرعة، كانت أمة مُتحضِّرة، لأنها كانت مُتدينة تديناً جوهرياً، ليس تديناً غرزياً.

وسوف تقول لي وماذا عن الأفعال التي تُمارس باسم الدين ومورست باسم الدين؟ وماذا عن العدوان على الشعوب وعلى الناس؟ أنا أقول لك هذا اغتيال للدين، تفريغ للدين، أُقسم بالله! غش للدين، تسميم للدين، تفجير للدين من داخله، هذا ديناميت يُفجِّر الدين، هذا ليس الدين، الدين ممنوع فيه هذا، القرآن – والله – من أوله إلى آخره يمنع العداون، ويُثرِّب ويُدمدم على المُعتدين أياً كانوا، هل هذا واضح؟ ويدعو إلى الإنصاف، وإلى العدل، وإلى السلم، وإلى الصفح والعفو، دائماً! هذا القرآن يا إخواني، وحين يأذن لك بأن تنتصر لنفسك، إنما يكون هذا في باب الدفاع فقط، أن تدفع عن نفسك، لأن الآخر إذن بنى خُطته على أن يُبيدك، على ألا يُعطيك فُرصة في الاستمرار في البقاء، فلا بد أن تدفع عن نفسك، هل تعرف لماذا؟ بصراحة من أجل الحياة ومن أجل البقاء، لأن حين يفنى مثلي – أي صاحب القيم، وصاحب الفضائل، وصاحب الرسالة الإيجابية الحضارية -، يبقى هؤلاء الوحوش، يُفسِدون الحياة، هذا إيذان بانتهاء النوع الإنساني، لو بقيَ هؤلاء، لانتهى هذا النوع، ولأفنى نفسه. لكن لا بد أن يبقى الفاضلون، ولذلك إذا اضطروا إلى حمل السلاح في آخر المطاف دفاعاً عن وجودهم فقط، وعن أنفسهم – ألا يفنوا -، فلهم ذلك، القرآن قال لا بأس في هذه الحالة. وهذا عدل، فأنصفوا القرآن، ودعوا الافتراء والكذب في وجه القرآن هكذا، فلا يُقال إن دين محمد والقرآن شريعة القتال والقتل والعدوان. غير صحيح، غير صحيح! والمُنصِفون – بفضل الله – في الشرق والغرب فعلوا هذا وفهموا هذا.

إذن هذا الدين ليس غريزة، هذا الدين ليس غريزة! الدين ليس غريزة، الدين يأمر بالتعالي على الغريزة، وليس فقط ألا تقتل وألا تسرق وألا تزني، لا! وأيضاً وألا تكذب وألا تغتاب وألا تنم وألا تغش، وأن تصدق في النُصح، وأكثر من هذا كما قلنا: وألا تتجسس، وألا تُسيء الظن، وألا تستطيل في أعراض الناس. وفي حجة الوداع يقوم – صلوات ربي عليه، نفسي ونفوس العالمين له الفداء – ويقول لهم في أي بلد أنتم؟ البلد الحرام، في أي شهر أنتم؟ الشهر الحرام، في أي يوم أنتم؟ في أي كذا؟ فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

والنبي قال من أربى الربا أن يستطيل المرء في عِرض أخيه. لا تتكلَّم في أعراض الناس، لا تُصنِّف الناس، لا تُسقِط أشياء على الناس، إياك! إياك أن تفعل هذا، لكي تكون مُتحضِّراً، لئلا تبقى غرزياً، ولن أقول أكثر من هذا، لئلا تبقى محكوماً بقوة الغريزة.

أختم بكلمة واحدة:

العلماء المُتخصِّصون الآن – كما قلت – لهم لُغة، حين تُفكِّكها وتفهمها، تجد أنها هي اللُغة الدينية بصراحة، ولكن المُصطلَحات مُختلِفة، قالوا لك المُخ الغرزي هو الذي يُملي عليك: إذا استطعت أن تتغوَّل أي شيئ، فلتتغوله. إذا استطعت أن تأخذ امرأة أحدهم، فلتأخذها، أي لك، وأنجب منها أولاداً بالحرام. إذا استطعت أن تأخذ فلوس أحدهم، فلتأخذها. إذا استطعت أن تأخذ أرضه وملكيته، فلتأخذها. هذا المُخ الغرزي، مُخ حيواني، هو يُحِب هذا، لأن هذا – قالوا لك – لا يُكلِّف، وهذا مُريح. يأتي إلىّ كل شيء على البارد، غنيمة باردة!

ما الذي يُعارِضه؟ ولا أتحدَّث عن الدين الآن، أنا أتحدَّث عن علم الأعصاب، وعلم الأعصاب هذا علم كامل، قال لك الذي يُعارِضه النيوكورتكس Neocortex، القشرة الدماغية الحديثة. وذلك في الإنسان، في الإنسان الروسي والأمريكي والمُسلِم والكافر والمسيحي واليهودي والبوذي والأصفر والأحمر، الإنسان كإنسان، أي الهومو سابينس Homo sapiens هذا، كل إنسان يكون هكذا، يُوجَد عنده المُخ الحديث، يقول له لا، هذا غلط، هذا غير صحيح، اذهب واتعب، اذهب واشتغل واعرق واتعب وحصِّل القليل مما ستتغوله بارداً، هذا أفضل لك، وأفضل للمُجتمَع، وأفضل للمسار الحضاري والمشوار الإنساني و… هذا هو! إذن واضح أن الإنسان فينا يتطابق مع ماذا؟ مع الروح ومع الدين، والحيوان فينا يتطابق مع الغريزة، أليس كذلك؟ ومع الحيوانات.

فلنشأ ولنختر لأنفسنا، إما أن نُواصِل في طريق الغريزة والحيوانية، وإما أن نرتقي (بالدين) – أقول هذا بين قوسين -. أنا لا أستطيع تصور أي شيء غير الدين، وكما قلت لكم أشحذ الجواب، ما من قوة يُمكِن أن تُهذِّب النفس وتضبط الغريزة وتُعلي من خيالات وعواطف وأفكار الإنسان مثل قوة ماذا؟ قوة التدين، ومُراقَبة الله – لا إله إلا هو -، والعلم أننا لله وأنا إليه راجعون، وبين يديه موقوفون، وعلى كل ما أتينا وتركنا مُحاسَبون.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، وفقِّهنا في الدين، وعلِّمنا التأويل.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قُدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 26/10/2018

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: