إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

أخرج الإمام ابن خُزيمة والإمام البيهقي، عن سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في آخر يوم من شعبانَ – في آخر يوم من شعبانَ، أي من شهر شعبان -، فقال يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مُبارَك، شهر فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً. مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمَن أدى فريضة فيما سواه. ومَن أدى فيه فريضة، كان كمَن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المُواساة، وشهر يُزاد في رزق المُؤمِن فيه. مَن فطَّر فيه صائماً، كان مغفرةً لذنبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيئ.

قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يُفطِّر الصائم. قال – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – إن الله – تبارك وتعالى – يُعطي هذا الأجر مَن فطَّر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مزقة لبن. وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. مَن خفَّف فيه عن مملوكه، كان مغفرةً لذنبه وعتقاً له من النار. فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين تُرضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما.

فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله – تبارك وتعالى – الجنة، وتعوذون به من النار. ومَن سقى صائماً، سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة.

هكذا هنّأ وبشّر إمام الكل، شرف الموجودات، وسيد المخلوقات، أمته ونحن منهم – بحمد الله تبارك وتعالى -، بقدوم هذا الشهر الكريم الفضيل. ولنا عودة إلى شرح بعض ما تضمنه الحديث الشريف في تضاعيف الكلام – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

وأخرج الإمام أبو بكر البيهقي أيضاً، عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -، قال لقد أُعطيت أمتي في رمضان خمس خصال، لم يُعطهن نبي قبلي. هكذا قال، لم يُعطهن نبي. وبالحري لم تُعطهن أمة نبي، قبله – صلوات ربي وتسليماته عليه -.

أما واحدة – يذكر الأولى -، فإنه إذا كان أول ليلة من رمضان، نظر الله – تبارك وتعالى – إليهم، ومَن نظر الله إليه، لا يُعذِّبه أبداً. اللهم إنا نسألك بك ونتوسل إليك بأحب عبادك وأشرف أنبيائك ورُسلك، أن تجعلنا محلاً وموضعاً لنظرتك الكريمة، ولا تحرمنا خير ما عندك بسيء ما عندنا يا رب العالمين. نبوء لك بنعمتك علينا ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

وأما الثانية، فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة. وأما الثالثة، فإن خلوف أفواه الصائمين حين يُمسون، أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الرابعة، فإن الله – تبارك وتعالى – يقول لجنته استعدي وتزيني لعبادي، فإنهم أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي. اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك.

وأما الخامسة – وهي الأخيرة -، فإنه إذا كان آخر ليلة من رمضان، غفر الله لهم جميعاً. اللهم اجعلنا بفضلك ومنّك من جُملتهم، ولا تحرمنا يا رب العالمين، ونحن ندعوك ونستغفرك ونرجوك ونبتهل إليك، إلهنا ومولانا.

إخواني وأخواتي:

هذا الشهر الذي أسأل الله – تبارك وتعالى – بعزه وبنوره الذي ملأ أركان عرشه أن يُبلغناه، ولم يبق له إلا ليلة أو ليلتان ربما، هذا الشهر مجلىً من مجالي فيض الرحمة ووسع المغفرة وسح النعمة. هل فضل وهل كرم أبعد وأوسع وأعظم وأجزل من أن تُدرِك يا أخي المُسلِم ويا أختي المُسلِمة بعبادة واجتهاد ليلة واحدة – بضع ساعات، فقط بضع ساعات – ما لا يُدرَك في ثلاثين ألف ليلة؟ ثلاثون ألفاً! لأنه قال لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩. وفي كل شهر ثلاثون ليلة. ثلاثون ألف ليلة! كأنك عبدت الله ثلاثين ألف ليلة، بالاجتهاد والدأب والصدق في ليلة واحدة.

لماذا؟ لماذا هذا الكرم كله؟ إنها إرادة المولى الأجل – لا إله إلا هو -، مالك المُلك، أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، أن يُدخِلنا الجنة، أن يُسعِدنا ولا يُشقينا. فوالله لا يشقى إلا شقي، ولا يهلك على الله إلا هالك. ولا يهلك على الله إلا هالك!

وقد يقول يا أحبابي قائلٌ إن صح هذا وثبت، فلن يدخل صائم النار، والجنة حتم له لازم. لا، يا ليت كان الأمر على هذا النحو! لا. لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩. مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩! وقد صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه قال رُب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والظمأ. هو صائم ظاهراً، يغر نفسه، وإنه لمغرور. والغرور هو الجهل، ليس الكبر. الغرور هو الجهل! يغر نفسه، وإنه لمغرور، لأنه – أي هذا المسكين – صام عما أحل الله وأباح، وأفطر نهاره – وليس ساعة الإفطار، هو نهاره مُفطِر، وفي كل ساعة مُفطِر – على الحرام، صام عما أحل الله، من طيبات المطاعم والمشارب وقُربان الأهل بالحلال، ولكنه أفطر على الكذب والغيبة والنميمة والسباب والبذاء والإقذاع والكلام في أعراض الناس وأكل أموالهم والإساءة إليهم وكسر خواطرهم ورميهم بالأفائك والعظائم. مُفطِر، هذا مُفطِر المسكين، مُفطِر! عند الله مُفطِر.

وقد رُويَ عن أمنا، أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، وهو أيضاً ما ذهب إليه إبراهيم النخاعي، شيخ الإمام الأعظم أبي حنيفة، فرويَ عنهما – رضيَ الله عنهما – أن الكذب من المُفطّرات. يُفطِر بها الصائم. لو كذب، يُفطِر، لا صوم له. وهذه أم المُؤمِنين، الصدّيقة عائشة – رضوان الله تعالى عليها -.

ومذهب الإمام أبي عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشام في وقته – رحمة الله تعالى عليه – أن الغيبة يُفطِر بها الصائم. وأما مذهب الإمام أبي محمد عليّ بن أحمد بن حزم، فقد عمم في المعاصي كلها. كلها تُفطِّر! فالأمر جد خطير.

أما مذهب جمهور العلماء فكالآتي، جماهير العلماء قالوا هذه لا يُفطِر بها الصائم بالمعنى الفقهي الظاهري، بحيث أنه يجب أن يقضي ذلك اليوم. مَن ذكرنا عنهم يا إخواني التفطير بما ذُكر للتو، قالوا يُفطِر وعليه القضاء. اليوم غير مُنعقِد، الصوم غير مُنعقِد، ويجب أن يقضي هذا اليوم بصيام كما أمر الله.

لأن الله – تبارك وتعالى – أمر وتلطف وتحبب وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، انظر إلى هذا، يُنادينا ويشهد لنا – اللهم اجعلنا من أهل شهادتك، اللهم اجعلنا مصداقاً لهذا النداء – قائلاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩. هل نحن من هؤلاء المُؤمِنين؟ اللهم اجعلنا منهم.

قال الإمام جعفر الصادق – عليه السلام – لذة النداء ذهبت بتعب العبادة والعناء. انظر إلى هذا، انظر كيف كان الناس، انظر إلى أهل الله، انظر العارفين كيف يفهمون وكيف يتذوقون كلام الله. الإمام جعفر! ابن رسول الله هذا، الإمام جعفر الصادق – عليه السلام – وقف مع يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩. وطبعاً هذا في كل موضع، أي إذا قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، يتحبَّب إليك، يُناديك، ويشهد لك بالإيمان، يُعنونك بعنوان شريف، أشرف العنوانات، عنوان الإيمان.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩. قال شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور – روَّح الله روحه في عليين -، قال لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ تقوم مقامل المفعول لأجله لــ كُتِبَ ۩. قال كُتِبَ ۩. لماذا كُتِبَ ۩؟ كُتِبَ ۩ لتتحققوا بالتقوى. هكذا هو فهمها. قال كلمة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ تقوم مقام المفعول لأجله. و: تَتَّقُونَ ۩ جواب لَعَلَّ ۩… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ هذه تقوم مقام المفعول لأجله، تكشف عن الغاية، لماذا فرض الله؟ لماذا كتب الله هذه الفريضة العظيمة الشريفة؟ تحصيلاً للتقوى، من أجل أن تتحققوا بحقيقة التقوى. فقامت مقام المفعول لأجله، لــ كُتِبَ ۩، للفعل المبني للمجهول كُتِبَ ۩، أي فُرض.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، فالتقوى هي هدف الصوم، بل هدف كل عبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩. كل العبادات هدفها أن تتحقق بالتقوى، تَتَّقُونَ ۩، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، تَتَّقُونَ ۩ ماذا؟ غضب الله وسخطه. ولذلك يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ۩، نحن نتقي الله، نتقيه بماذا؟ ونتقي سخطه بماذا؟ نتقي سخطه بأن نتنزه عن المحظورات، عن القاذورات، عن الكبائر، عن الإصرار على الصغائر. والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، يُحيلها كبيرة، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩.

إذن كما قال ميمون بن مهران أهون الصوم الامتناع عن الطعام والشراب والأهل. هذا أقل شيئ، سهل هذا، هين هذا. تمتنع عن الطعام والشراب والأهل، هذا شيئ سهل. الشيئ الصعب أن تتحقق بحقيقة الصيام. تصوم الأذن، لا تسمع ما لا يُحِبه الله، وهذه عندك، تستطيع أن تُفتي نفسك، استفت قلبك وإن أفتاك المُفتون وأفتوك وأفتوك. ما الذي يُحِبه الله – تبارك وتعالى -؟ هل ما أنت فيه أو هل ما أنت في سماعه الآن مما يُحِبه الله أو مما لا يُحِبه؟ فاختر لنفسك. أيضاً أن تتنزه وأن تُنزه بصرك عما لا يُحِبه الله أن تُبصِره وأن تنظر إليه وأن تراه. وهكذا في سائر الجوارح.

أهل الخصوص من الصوّام صومهم صون اللسان عن البُهتان والكذب. هذا صوم الخاصة، فهناك صوم العامة، وصوم العامة الامتناع عن المُفطِّرات الظاهرية الفقهية، الطعام والشراب والشهوة وما أُلحق بها، وهذه أُسس المُفطِّرات، هذا صوم العوام! صوم الخواص ليس كذلك، صون اللسان عن البُهتان والكذب، وصون سائر الجوارح.

أهل الخُصوص من الصُّوَّام صومُهم          صون اللسان عن البُهتان والكذب.

والعارفون وأهل الأُنس صـومُهم            صون القلوبِ عن الأغيار والحُجب.

اللهم اجعلنا منهم، الله أكبر!

إذن هناك ثلاث رُتب، ثمة ثلاث رُتب: صوم العامة، صوم الخاصة، وصوم خاصة الخاصة وهم أهل العرفان. العارفون بالله، أهل الأُنس والمُنادَمة، مُنادَمة الملأ الأعلى – لا إله إلا الله -، هم الموصولون بالله على الدوام، عندهم صوم آخر، وهذا الصوم في رمضان وفي غير رمضان.

والعارفون وأهل الأُنس صـومُهم            صون القلوبِ عن الأغيار والحُجب.

قال الإمام أبو القاسم بن محمد الجُنيد – قدَّس الله سره، شيخ الطائفتين: أهل الظاهر وأهل الباطن، أهل الإحسان وأهل العمل الظاهر -، قال وقفت على قلبي بوّاباً أربعين سنة، ألا يدخله إلا الله. اشتغلت أنا – قال – بهذا. قال أنا مُوظَّف. مُوظَّف! بوّاب على قلبي، لم أسمح لغير الله أن يدخل قلبي. الله أكبر، ما هذا التوفيق؟ ما هذا التوفيق؟ نسأل الله حُسن توفيقه وإسعاده. اللهم لا تخذلنا بسيء أعمالنا. أربعون سنة! يقول على مدى أربعين سنة لم أسمح لشيئ غير الله أن يدخل قلبي. ثم نسأل من أين لهم تلك الكرامات والمُكاشَفات والقدرة العظيمة على الاستقامة العجيبة التي لم يُسمَع بمثلها – إلا ربما في حق النببين طبعاً، وأعلى منها -؟ فهذا هو، نسأل الله إسعاده وتوفيقه. إسعاد، إسعاد! إسعاد وتوفيق من الله – لا إله إلا الله -، مُوفقية، مُوفقية كبيرة جداً، لا نهاية لها.

ولذلك يا إخواني وأخواتي سنبحث عنها على عجل مسألتين كُبريين:

المسألة الأولى، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما ثبت عنه الآتي، وهذا الحديث مُخرَّج في الصحاح، ففي الصحيحين من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً – وفي روايات مَن صام أيضاً -، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. الله أكبر! يفعل هذا إيماناً واحتساباً، يحتسب أجره فقط عند الله، ليس من أجل أن يُقال صائم، جهده الصوم. أبداً أبداً! ليس من أجل أن يُقال، وهو يفعل هذا طلباً للأجر من الله وحده، الصدق! فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩. الله لا يقبل إلا الخالص من العبادة والعمل، لا يقبل الشركة فيها، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. عند الإمام النسائي خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. سُبحان الله، يعود على الفطرة بريئاً جميلاً بشهر واحد، إذا صامه أو قامه، فكيف لو صامه وقامه – ما شاء الله -؟ إيماناً واحتساباً.

ومَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً – هذه ليلة -، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بزيادة: وتأخَّر. الله أكبر! قال علماء الحديث وهي زيادة صحيحة السند. أي بسند صحيح. غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. الله أكبر! ليهنأه الموت، إن مات في رمضان أو بُعيد رمضان. انتهى! يلقى الله بكل الحسنات التي زلفها، التي مهَّدها وقدَّمها، وليس عليه شيئ من السيئات، مغفور له ما تقدَّم وما تأخَّر. جميل!

السؤال الآن، هذه الذنوب التي تُكفَّر هل هي الصغائر والكبائر جميعاً، أو الصغائر وحدها دون الكبائر؟ المسألة خلافية. الإمام أبو بكر بن المُنذِر – من مُجتهدي السائدة الشافعية، رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – جزم بأن الذي يُكفَّر بالصوم المقبول والقيام المقبول الصغائر والكبائر جميعاً. قال الصغائر والكبائر.

والإمام أبو المعالي الجويني – أبو المعالي وليس أبا محمد، لأن أبا محمد هو أبوه، أبو المعالي الجويني إمام الحرمين، ابن أبي محمد، شيخ الشافعية في وقته – قال بل الصغائر دون الكبائر، الكبائر لا تُكفَّر إلا بتوبة مخصوصة. والإمام النووي – قدَّس الله سره – حكاه عن الفقهاء. قال هذا مذهب الفقهاء. طريقة الفقهاء أن الصوم المقبول المُحتسَب به لا يُكفِّر إلا الصغائر دون الكبائر، دون الكبائر!

واستدل هؤلاء – أعني الفقهاء – بما خرَّج مُسلِم في صحيحه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – الصلوات الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهن، إذا اجْتَنَبَ – بالبناء للمعلوم، إذا اجْتَنَبَ – الكبائر. وفي رواية بالبناء للمجهول؛ إذا اجْتُنِبَتْ الكبائر، قال إذا اجْتُنِبَتْ الكبائر. والمعنى واحد! إذن استثنى ماذا؟ الكبائر. فكأنه قال أما الكبائر، فلا تُكفَّر. حاشا الكبائر.

مع أنه قد يكون معنى الحديث أيضاً – قد يكون هذا معنى الحديث – إذا اجْتُنِبَتْ الكبائر في وقت أداء هذه العبادات، لا الكبائر السابقة. كل شيئ له جواب، وعلى كل حال الله أعلم بالحقيقة في ذلك.

ولذلك لابد من توبة، وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا ۩. أي ما الذي يحول يا إخواني بيننا وبين التوبة الآن ونحن على مشارف رمضان، نستروح أنسامه وروائحه الكريمة العُلوية؟ لابد أن نعقد النية.

بالأمس – أي الخميس – مات الشيخ الفاضل، المُحِب المحبوب، الشيخ فتحي الصافي – رحمة الله عليه. مات ولم يُدرِك رمضان – رحمة الله عليه رحمة واسعة -، ها قد ذكرناه ونسأل الله أن يُوسع له في رحمته، وأن يغفر له ما كان منه، وأن يجزيه خير الزكاء عمَن علَّم وعمَن وعظ وزكى ونصح وأمر ونهى. لم يُدرِك رمضان، لم يُدرِك! فيا أخي ويا أختي قد لا يُدرِك أحدنا – والله – رمضان، بقيَ ليلة أو ليلتان أو ثلاث على الأكثر، وقد لا يُدرِك بعضنا رمضان. وحتمٌ بعض المُسلِمين لن يُدرِك رمضان. اللهم لا تجعلنا منهم. انتهى، لن يُدرِك رمضان، انتهى! آخر رمضان هو رمضان السالف، ما الذي فعلت فيه؟ وما الذي فعلت بعده؟ هذا في علم الله.

فلذلك ما الذي يمنع أحدنا أن يعقد النية الصادقة الجازمة على التوبة من الذنوب جميعها، ويبكي، يسح الدموع، في جوف الليل، يبتهل إلى الله، يستعين بالله على نفسه الأمّارة بالسوء، على نفسه المُخادِعة الكذّابة المغرورة الغرّارة، يقول يا ربي أعني عليها، يا ربي انصرني عليها، يا ربي اجعلها مغلوبةً لي ومحكومةً لي، وليست غالبةً ولا حاكمةً؟ هنيئاً لمَن غلب نفسه، والويل لمَن غلبته نفسه – والعياذ بالله -.

أكبر حجاب عن الله – هذا أكبر حجاب عن الله – النفس، ليس الدنيا وليس الآخرين وما إلى ذلك، وإنما النفس. أكبر ما يحجبك عن الله نفسك، نفسك! حُبها لما حرَّم الله، كذبها، خداعها، عدم إخلاصها، روغانها روغان الثعالب – والعياذ بالله -، نفاقها، رياؤها، كبرها، عُجبها، عُنجهيتها، جهلها. فدائماً اطلب من الله أن ينصرك عليها، دائماً!

يا إخواني كان يُمكِن لأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أن يفتح باب التوبة يوماً في السنة، أو يوماً في العمر، أو ساعة في العمر. يقول هناك ساعة، مَن تاب فيها، تُبت عليها، وإلا انتهى الأمر، كل مُؤاخذ بكل ما عمل. أليس كذلك؟ لم يجعلها ساعة في العمر، ولا يوماً، ولا شهراً، ولا سنةً. كل الأوقات ظرف للتوبة. هل تُريدون أرحم من هذا؟ والله لا يهلك على الله إلا هالك. والله لا يهلك على الله إلا هالك! هناك مَن يعيش أربعين أو خمسين أو ستين أو سبعين سنة، ويدخل النار، بحُكم أرحم الراحمين، الذي جعل كل ساعات وكل لحظات ستين أو سبعين سنة ظرفاً للتوبة، ولم يتب! لم يتب، لم يُغفَر له، لم ينقم على نفسه ماذا تفعل، متى وكيف هذا ينجو؟ هالك. صدق رسول الله، لا يهلك على الله إلا هالك.

تُب يا أخي، يا مُؤمِن، توبي أيتها المُؤمِنة، أيتها المُسلِمة، توبوا إلى الله توبةً نصوحاً. مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ ۩، كلنا صائرون إليه. إياك أن تظن نفسك شاباً صغيراً، في شرخ عمرك، في العقد الثاني أو الثالث من عمرك! يموتون وهم أصغر منك وأقوى منك، أليس كذلك؟

أحد أحبابنا، أحد إخواننا – رحمة الله على روحه، وغفر الله كل ما كان منه – أعرفه جيداً، كان قوياً ورياضياً، وكان مُجتهِداً في دينه، يعتمر في كل رمضان ثلاثين عُمرة، ومن أصحاب الملايين، دنيا عريضة – ما شاء الله – وعبادة وتقوى واهتمام، وهو شاب. مات في شرخ شبابه، وفي اليوم الذي تُوفيَ فيه كان قد أجرى فحوصات، والنتيجة مثالية، النتيجة مثالية! كل شيئ في بدنه مثالي، مات وهو واقف على إشارات المرور، ينتظر أن تُفتَح له الإشارة الخضراء. لم تتحرَّك سيارته، فجاءوا ووجدوه ميتاً. راحت الدنيا، راحت الملايير، راح ظرف العبادة، ظرف الطاعة، وظرف المعصية، كل شيئ راح! تأمَّل، تأمَّل وكُن رجلاً، كوني أمةً وعبدة حقيقية لله، ابتهل إلى الله بصدق أن يُنقِذك من نفسك، وعودوا إلى الله.

إذا رمضان فيه كل هذه المُناسَبة وكل هذه الفُرص للمغفرة والترقي والازدياد، ووقع الاختلاف في الكبائر والصغائر. فإذن أُريد أن تُغفَر كبائري، فماذا أفعل؟ قال لك التوبة، لتكن التوبة، توبة نصوحاً – بإذن الله -. وقالوا في تعريفها كما قال الفاروق عمر – رضوان الله عليها – التوبة النصوح ألا يعود إلى ذنبه، حتى يعود اللبن في الضرع. اللبن إذا حلبته من ماشية أو بقرة – أعزكم الله -، هل يُمكِن أن يعود في ضرعها؟ مُستحيل. هو هذه التوبة النصوح، وليس كل يوم تعود وتغشى، تعود وتغشى، تعود وتغشى، كالمُستهزئ بربك، وتقول أتوب! استغفارنا يحتاج إلى استغفار. تقول رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

المسألة الثانية يا إخواني وأخواتي، انتبهوا! مغفرة الذنوب صغيرها وكبيرها شيئ، والتبعات شيئ آخر. وكان لابد أن يُنبّه على هذا، التبعات شيئ آخر! ما معنى التبعات؟ حقوق العباد. حين يكون لإنسان عليك يورو أو ألف يورو أو مئة ألف يورو – وبدأت باليورو، لو له يورو، بل ولو له نصف يورو -، لا يُمكِن أن تقول لي صُمت رمضان! نعم، صمُت رمضان وقُمت ليلة القدر، ولا يُغفر لك هذا، هذه حقوق العباد، لا يُوجَد مخرج منها إلا بأن تنخلع من مظالم العباد، وترد إليهم حقوقهم، وتستحلهم. تقول له اجعلني في حل وسامحني، تأخَّرت عليك، حقك هذا كان ينبغي أن أؤديه إليك قبل سنة، تأخَّرت عليك سنة كاملة! بعض الناس يتأخَّر عشر سنين أو عشرين أو ثلاثين سنة، يُماطِل في حقوق الناس، شيئ عجيب، شيئ لا يكاد يُصدَّق، نوم! هذا نوم، نوم الغفلة، ونعوذ بالله من نوم الغفلة، قافل غافل ميت، كالميت هذا! متى يا رجل؟ انخلع من مظالم الناس، أد إليهم حقوقهم، اليوم، الآن! قبل الغد، الآن! سارع، ومن ثم سينتهي الأمر، وستكون – ما شاء الله – في طمأنينة.

وعلى فكرة يا أخي المُسلِم، ويا أختي المُسلِمة، إذا كنتَ في حالة، وإذا كنتِ في حالة، لا تشتهي معها لقاء الله، فاتهم إيمانك. سأكون صادقاً معكم، صدِّقوني! وطبعاً مُحال أن العبد يكون مُقصِّراً، فضلاً عن أن يكون مُسرِفاً على نفسه، ويشتهي لقاء الله، يخاف طبعاً! هو يُحِب الله ولكنه يخاف من لقاء الله، لأن الله عدل، حكم عدل. وخاصة مع ظلمات العباد، عكس العبد الذي يشتهي لقاء الله، ويقول متى أتى وقت لقائه وساعة لقائه، فيا حياهلاً. وكانوا يقولون هل موتٌ يُباع، فنشتريه؟ قتل النفس حرام، ولكن لو كان يُباع الموت، لاشتريناه، والله! لماذا؟ نعجل إلى لقاء ربنا – لا إله إلا هو، لا إله إلا هو -.

طبعاً أعظم الجوائز هي لقاء الله، أعظم الجوائز! أن تعيش في جوار مليك، هو أكرم كريم، وأجود جواد، وأرحم رحيم – لا إله إلا هو -، في دار لا تخرب، ولا يموت  ساكنها. وأنتَ من ساكنها – إن شاء الله تعالى -، أنتَ وأنتِ. اللهم اجعلنا جميعاً منهم.

يقول شيخ الإسلام ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف – رحمة الله تعالى عليه – كان أحد الصالحين من سلف هذه الأمة يُكثِر الصيام والقيام. حياته – ما شاء الله – هكذا، في النهار صيام وفي الليل قيام، يُتعِب نفسه، تعب! في النهار تعب وفي الليل تعب، رغبةً فيما عند الله – تبارك وتعالى -. يقول فكان ذات يوم في المسجد، صلى الجماعة مع الناس، ثم خفق النوم برأسه، فنام.

فقام كالمُستبشِر، فقال له أحد صالحي أصحابه ماذا رأيت؟ قال رأيت رؤيا ولا أفضل ولا أكرم ولا أعجب! قال ماذا رأيت يا أخي؟ قال رأيت كأني في الجنة، وكأن خلقاً، عَرَفت أنهم ليسوا آدميين، يحملون أطباقاً، عليها أرغفة ببياض الثلج. أرغفة مثل بياض الثلج! وعليها – على هذه الأرغفة – دُر كالرُمان. ليس دُراً صغيراً، كالُرمان! فجاءوا إلىّ وقالوا كُل. قلت أنا صائم. قالوا صاحب الدار يأمرك أن تأكل.

قال فأكلت، ثم جعلت آخذ من هذا الدُر – دُر مثل الرُمان، شيئ عجيب – لأحتمله، فقالوا خله هنا، نغرسه لك، يُثمِر لك خيراً مما تُريد. قلت وأين؟ قالوا في دار لا تخرب، وثمرة لا تتغيَّر، ومُلك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رِضوان ورُضوى وقُرة عين، أزواج رضيات راضيات مرضيات، لا يَغِرن ولا يُغرن. فقلت فحيا هلاً.

ثم قالوا لي فانكمش فيما أنت فيه. خلك كما أنت! تابع في العبادة، في الصيام، في القيام. إياك أن تفتر، إياك أن تتعب. قالوا لي فانكمش فيما أنت فيها، فإنما هي غفوة، ثم تنزل بالدار.

قام وحدَّث صاحبه الصالح بهذه الرؤيا، فما مر عليه إلا جُمعتان – أسبوعان فقط – حتى انتقل إلى رحمة الله. انظر، انظر إلى أي درجة بلغت السعادة! فحتى الله يُثبِّته، خلك فيما أنت فيه، لأنك ستأتي إلينا قريباً، لا نُريد أن تُقصِّر، لا نُريد أن تتراجع. المُؤمِن في خير دائم، وهذه من علامات القبول على فكرة يا إخواني وأخواتي، هذه فائدة عظيمة، أتُريد أن تعرف من المقبولين وأن عبادتك كذلك؟ إن كنت في خير دائم، كل يوم أحسن من الذي قبله، فبعون الله أنت من المقبولين، عباداتك من المقبولة. طبعاً لأنها تُؤتي ماذا؟ ثمارها، أُكلها. ازدياد… ازدياد… ازدياد… وهكذا!

ولذلك المُؤمِن حين يَكبَر يا إخواني – ليس يَكبُر، يتعاظم، وإنما يَكبَر، أي حين يَكبَر في السن -، يُصبِح أجمل وأنور وأضوأ وأبهى، ترتاح له، وترتاح لمنطقه ولمنظره، لكل شيئ فيه يا أخي! لا إله إلا الله. والفاسق والفاجر على الضد من هذا تماماً، كلما كَبَر – والعياذ بالله -، ازداد ماذا؟ ازداد ظُلمةً ونكداً وسوءاً، حتى نفسيته تُصبِح مُرة وصعبة، شيئ عجيب! اللهم اعجلنا من المقبولين، من المسعودين المبرورين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

المُهِم، فرآه هذا الصالح من أصحابه ليلة وفاته، وإذا به يقول له – أي المُتوفى الصالح يقول له – أي فلان، ألا تعجب من دار غُرس لنا فيها ذلك الدُر في اليوم الذي حدَّثتك قد حمل؟ قال له الحكاية وقعت مُنذ أيام، غرسوا لي إياه وحمل، حمل! هناك أشجار وأشياء جديدة. قال فقلت له ما حمل؟ قال هيهات، لا يقدر أحد على وصفه. قال له لا أستطيع أن أُحدِّثك بماذا حمل هذا الدُر. قال هيهات، لا يقدر أحد على وصفه. قال لم يُر مثل الكريم إذا حل به مُطيع. لا إله إلا الله! قال له لم يُر مثل الله، أكرم الأكرمين، إذا حل به مُطيع – وليس عاصٍ، والعياذ بالله -. نعوذ بالله من عصيان أوامر الله وانتهاك مُحرّماته. لم يُر مثل الكريم إذا حل به مُطيع. انظر! انظر إلى بركة الصيام والقيام والعبادة والاجتهاد والصدق.

يقول تقي الدين، الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الآتي، وهو شبه النبيين. كانوا يُشبِّهونه بالأنبياء – أي هذا الرجل -، في منطقه وعبادته وصلاحه. عجيب الحسن البِصري – رضوان الله تعالى عليه -! يقول بلغنا أن ولي الله – تبارك وتعالى – وهو على نهر العسل مع زوجته الحوراء تُعاطيه الكأس – تُعاطيه الكأس، أي تقول له اشرب، اشرب. هذا على حافة النهر في الجنة، تُعاطيه الكأس – تقول له يا فلان لقد نظر الله – تبارك وتعالى – إليك في يوم كذا وكذا، حين كنت صائماً في حر الظهيرة – أي لم تُفطِر حتى، هذا ربما في الساعة الواحدة أو في الساعة الثانية، حر شديد وعطش وجوع، لم تُفطر، بقيت صائماً وواصلت يومك، هذا في حر الظهيرة – قد أجهدك الصوم، الجوع والعطش، فباهى الله بك الملائكة. الحوراء تقول له هذا وهي زوجته، تقول له أنا أذكر هذا الكلام، أنت ما كنت تعرف هذا، ولكن نحن كنا نعرفه، وأنا حضرت هذا الشيئ. تقول له باهى الله بك الملائكة، وقال يا ملائكتي انظروا إلى عبدي، حرم نفسه الطعام والشراب وشهوته من أجلي، أُشهِدكم أني قد غفرت له. تقول الحوراء فغفر لك في ذلك اليوم، وزوّجنيك. أنا من ذلك اليوم زوجة لك! فهذا هو، بالصيام! هذا هو.

أحد الصالحين صام حتى انحنى وأضر به الصوم، صوم في النهار وقيام في الليل وعبادة مُستمِرة، ثم تُوفيَ إلى رحمة الله، فرآه أيضاً أحد أهل الخير والصلاح من معارفه، فقال له يا فلان ما فُعل بك؟ قال وكان في أحسن حُلة. رأيته في أحسن حُلة! لباس جنائني فراديسي. قال فضحك، وأنشد:

قد كُسيَ حُلة البهاء وطافت                             بأباريق حوله الخدّام.
ثم حُلّيَ، وقيل يا قارئ ارق                         فلعمري لقد برأك الصيام.

هكذا خوطب، ارق! ما معنى ارق؟ أنت كنت تقرأ القرآن بالليل وبالنهار، وخاصة بالليل، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۩، ارق، اصعد. ولذلك قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين ينشق القبر عن المُؤمِن، يأتيه القرآن. قرآنه! المُؤمِن لا يتوسد القرآن، لا يُمكِن لمُؤمِن أن ينام طيلة الليل، قرآن هذا، لا يُوجَد نوم طيلة الليل، يُمكِن أن تقوم لك ساعة أو نصف ساعة، حسبما تستطيع. حتى مَن عنده مواعيد وعنده شغل، يُمكِنه أن يفعل ذلك. قُم نصف ساعة أو رُبع ساعة، قبل صلاة الفجر قُم، اقرأ شيئاً يا أخي، اقرأ صفحة أو صفحتين، ادع واستغفر. والله الذي لا إله إلا هو لا يُوجَد نعيم على الدنيا كهذا النعيم، أُقسِم بالله! ولا نعيم الطعام والشراب والمال والعلم والقصور والنساء، ولا شيئ! كنعيم أن تخلو بربك – لا إله إلا هو – في جوف الليل بصدق، بصدق! تعظيماً لله وحُباً واشتياقاً. جرِّبوا هذا يا إخواني، مَن لم يُجرِّب، فليُجرِّب، ولن ينقطع عنه – بإذن تبارك وتعالى -، مهما أخلص وصدق. مهما أخلص وصدق!

وهكذا، فالمُؤمِن الصالح لا يتوسد القرآن، أي لا ينام عليه. فيأتيه القرآن – يقول الرسول – كرجل شاحب الوجه. أي مُتغيِّر وتعبان. يقول له أي فلان، أتعرفني؟ وهو طبعاً لا يعرفه. يقول له أنا صاحبك الذي أظمأك في الهواجر وأسهر ليلك. أنا القرآن – يقول له -. يقول له أظمأك في الهواجر وأسهر ليلك، وكل تاجر من وراء تجارته. الناس مشغولون، هذا في التجارة، وهذا في الشهادات، وهذا في الكلام الفارغ طبعاً، وهذا ضيّع عمره سبهللاً، وأنت – ما شاء الله – مشغول بالعبادة، صيام وقيام وذكر وعمل خير وصدقات وأشياء طيبة. وكل تاجر من وراء تجارته!

إذن اليوم يوم الجزاء، يوم المثوبة، فيُعطى المُلك بيمينه. يقول له مُد يمينك. وهذا خارج من قبره، انظر إلى هذا، انظر إلى أي مدى بلغت الكرامة، ولا يزال هناك المزيد. يقول له مُد يمينك. فيُعطى المُلك بيمينه والخُلد بشماله، ثم يُلبَس تاج الوقار. ثم يُلبَس تاج الوقار! ويُقال له اقرأ واصعد في درج الجنة. في أحاديث أُخرى اقرأ وارق ورتّل كما كنت تُرتّل في الدنيا. فإن منزلتك – أي في الجنة – عند آخر آية كنت قرأتها. واحد قرأ عشرين ألف مرة، وآخر قرأ ثلاثين ألف مرة، وهكذا! هناك أُناس ختموا القرآن ثلاثين ألف مرة، شيئ لا يُصدَّق، ثلاثون ألفاً! ثلاثون ألف ختمة، أو عشرة آلاف، أو خمسة آلاف شيئ عجيب! بارك الله لهم في أوقاتهم وأزمانهم. كرامات طبعاً هذه، كرامات! هذه لا تكون بالعقل، ولكن هذا حاصل.

اقرأ واصعد في درج الجنة. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فلا يزال يقرأ ويصعد، إن ترتيلاً أو هزاً. بعض الناس كان يقرأ ترتيلاً، أي بطيئاً بالترتيل، وبعضهم كان يقرأ هزاً، أي بوتيرة أسرع، بغض النظر! لأن كله بجزائه. فلماذا إذن؟ الذي يقرأ هزاً، يفرغ سريعاً من السورة، وهذا معناه أن له مقامات مُعيَّنة، والذي يقرأ ترتيلاً، يفرغ بطيئاً، فعنده مقامات أكثر. كل شيئ بجزائه! فلا تطلبوا الكثرة بالعجلة. لا تطلبوا الكثرة بالعجلة – كما قالوا -. قال إن ترتيلا أو هزاً.

وصح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الصيام والقيام يشفعان في صاحبهما يوم القيامة. يقول الصيام أي ربي، منعته طعامه وشرابه بالنهار، فشفّعني فيه. ويقول القيام أي ربي، منعته النوم في الليل، فشفّعني فيه. قال فيُشفّعان. يشفع فيك صيامك، ويشفع فيك قيامك، فتدخل الجنة – بإذن الله تبارك وتعالى -. الله! الله!

وعلى ذكر مَن ختم القرآن كذا وكذا ألف مرة، السيدة نفسية، حبيبة المصريين، حيا الله المصريين، مصر وأهلها، حيا الله أمة محمد، كل أمة محمد. السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن المُجتبى. من نسل السبط – عليه السلام -، نفيسة! السيدة نفيسة، امرأة عجيبة، المُتوفاة سنة ثمان ومئتين من الهجرة.

السيدة نفيسة – عليها السلام – كانت ذات أموال عريضة كثيرة، وسعت بها المُحتاجين من أهل مصر. تبني هنا وتُعطي هنا وتتصدَّق هنا، رباطات وأوقاف، باستمرار! أحبها المصريون جداً، لعطاياها ولأنها طبعاً من النبعة ومن العترة المُطهَّرة – عليهم السلام أجمعين -، بنت رسول الله! كيف لا يُحِبونها؟ المصريون لهم اختصاص خاص بأهل بيت رسول الله، لهم حُب صادق في أهل بيت رسول الله، ولذلك قلت حيا الله المصريين. حُب غير عادي! يتغنون ويتناشدون دائماً دائماً بأهل بيت النبوة، شيئ عجيب، كابتهال حُب الحسين للشيخ طه الفشني، هم كذلك باستمرار، ما شاء الله عليهم، كانوا ولا يزالون – رضيَ الله عنهم -.

المُهِم، السيدة نفيسة هذه حفرت قبرها بيديها، مُستعِدة دائماً للموت، قبل سنوات حفرته بيديها وقالت هذا قبري، أُدفن هنا. وختمت القرآن اثني عشر ألف مرة. هناك اثنا عشر ألف ختمة. امرأة! انظر إلى العزيمة، أقوى من الجبال الرواسي. ختمت القرآن – عليها السلام – اثني عشر ألف ختمة، وصامت دهرها، لا تُفطِر إلا في الأيام التي لا ينبغي الصوم فيها. فقط! كل يوم صائمة، ليس في رمضان فقط، كل يوم! صامت دهرها. فلما دنا الرحيل ثقلت، تعبت! وثقل بها مرضها ووجعها، فاستدعوا الطبيب، فجاء، فألزمها بالفطر، قال لا، لابد أن تُفطر. قالت أخرجوا عني طبيبي، ودعوني مع حبيبي. قالت أخرجوا عني طبيبي، ودعوني مع حبيبي، قد صُمت دهري، ولي ثلاثون سنة، أسأل الله – تبارك وتعالى – أن ألقاه وأنا صائمة، أفأفطر الساعة؟ هذا لا يكون. لا! لا أُريد.

ثم شرعت في سورة الأنعام، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ۩، إلى أن بلغت قول الحق – لا إله إلا هو – لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۩. لم تُكمِلها، وفاضت روحها الشريفة – عليها السلام -. لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۩. وعلى فكرة الصالحون يتفق لهم هذا بشكل مُتواتِر، أنهم يموتون عند آيات فيها تبشير عجيب، سُبحان الله! عبر القرون، هذه الأمة عجيبة يا أخي.

أكثر ما يُعجّبني في هذه الأمة المُبارَكة يا إخواني كثرة الصُلحاء فيها والأولياء والعبّاد والمُكاشَفين والمُخبتين والأطهار الأبرار! وكل هؤلاء حسنات لرسول رب العالمين، لا إله إلا الله! هذا الذي يُعجّبني، معناها: ما هو قدر رسول الله؟ ما هو شرفه عند الله؟ ما هو أجره عند الله؟ ما هو أجره عند الله؟ صلوات ربي وتسليماته عليه. اللهم صل صلاة كاملة، وسلم سلاماً تاماً، على نبي تنحل به العُقد، وتنفرج به الكُرب، وتُقضى به الحوائج، وتُبلَغ به الرغائب وحُسن الخواتيم، ويُستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله، اللهم آمين، آمين، آمين، آمين. لا أرضى بها واحدة، حتى يكون معها ألف آمين.

المُهِم، فاضت روحها الشريفة – عليها السلام – إلى باريها، وكان زوجها أو بعلها هو الإمام إسحاق، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن رسول الله، الابن السادس لرسول الله، ابنه! إسحاق زوجها، هذا زوجها، ابن رسول الله، مُتزوِّج منها، شرف عظيم! فأراد أن يحتملها إلى البقيع في المدينة المُنوَّرة، لتُدفَن بجوار جدها رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فبكى أهل مصر والتمسوا وطلبوا ورجوا ودفعوا له مالاً عظيماً. جمعوا مالاً وقالوا له خُذ هذه الأموال، تُدفَن هنا، ونعمل لها ماذا تُريد، وهو يأبى، قال لا، أدفنها إلى جوار جدها رسول الله.

ولم تُدفَن إلى جوار جدها، لماذا؟ جاء جدها – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المنام، لابنه إسحاق بن الصادق، وقال له يا إسحاق لا تُعارِض أهل مصر في نفيسة، فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها. اجعلها بين أهل مصر. فدفنها في مصر، ولذلك قلت حيا الله مصر وأهل مصر. وحيا الله المُوحِّدين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله  وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

يقول روح الله عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الليل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تضعون فيهما. بِمَ تملأونهما؟ خزانتان!

تمثَّلوا وتخيَّلوا وتوهَّموا مليكاً، واسع اليد بالعطية، ندياً معطاءً نوّالاً، أباح ضيوفه وادياً في حماه. له ضمن حماه – ما لا يدخله إلا الملك ومَن أُذن له – وادٍ، له وادٍ عظيم عجيب. تخيَّلوا هذا! أباح ضيوفه وادياً، ونحن ضيوف الرحمن – إن شاء الله – في هذا الشهر الكريم. أباح ضيوفه وادياً واسعاً أفيح، من وديانه، فيه عجائب الدُر ونفائس اليواقيت والأحجار الكريمة والذهب والفضة، ورماله طيبة. رملة ناعمة نظيفة جميلة برّاقة!

وأعطى ضيوفه أكياساً – أوعيةً، أكياس! ربما الكيس يأخذ ثلاثين لتراً أو أربعين أو خمسين -، وأباحهم أن يحتملوا ما شاءوا. لأنه كريم، ملك كريم! قال لهم خُذوا ما تُريدون وعبئوا. الليل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تضعون فيهما، تملأؤنهما بماذا؟ آخ! لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩، القرآن دائماً يقول هذا، الإيمان الحق يحتاج إلى عقل يا إخواني، والله! أعقل عباد الله الطائعون العابدون، أولياء الله أعقل عباد الله وأذكى عباد الله، فازوا بالدنيا والآخرة، فائزون وسُعداء في الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا منهم.

فما حُكمكم على مَن أقبل على الرمل يملأ به أوعيته؟ هذا رمل جميل – يقول -، نظيف هذا، ألعب به أنا وصبياني. يملأ! ما حُكمكم؟ ليس أقل من الحُكم بالحُمق. أحمق! ستقولون أحمق. الرمل موجود في كل مكان، وموجود في كل وقت. لكن أين الدُر؟ أين نفائس اليواقيت؟ أين الذهب؟ وأين الفضة؟ أنت مسكين!

هذا حال مَن أسعده الله بأن بلَّغه رمضان، فهو يقطع نهار رمضان وليله في المُسلسَلات، في الفوازير، في الموسيقى، في الغناء، في التلفزيون Television، في الكلام، في النت Net، في الكلام الفارغ! ما هذا؟ ما هذا؟ حُمق! شفاني الله وإياكم من داء الحُمق.

كل شيئ يتوقَّف، كله يتوقَّف! عبادة وذكر وعمل صالح في الليل والنهار. إياك أن تفوت منك لحظة، إلا إن تعبت، فنمت، ونوم الصائم عبادة. حبذا نوم الصائم وقيامه! قالوا، وأنت نائم تكون هذه عبادة، ويُكتَب لك أجر العابد، لأنك نمت من أجل ماذا؟ التعب. فيما عدا هذا انتبه، كل شيئ يُؤجَّل، وكل شيئ عنده وقته، لماذا آخذ الرمال؟ لماذا؟ أُريد الدُر. وما هو الدُر؟ الصلاة، الأذكار، تلاوة القرآن، الصدقات، قيام الليل، مُدارَسة القرآن. ادرس القرآن وتعلَّم، هناك كُتب تفسير، خُذ واقرأ، هناك كُتب تفسير مُبسَّطة، مثل صفوة التفاسير، تفسير ابن كثير، هناك تفسير بسيطة، فاقرأ وتعلَّم أنت وزوجك وأولادك، فسِّر القرآن وتعلَّم.

النبي كان أجود الناس – يقول ابن عباس، في الصحيحين يقول النبي كان أجود الناس -، وكان أجود ما يكون في رمضان. يقول ابن عباس كان كالريح المُرسَلة – يقول هذا -، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة في رمضان يُدارِسه القرآن. أُخذ منها ماذا؟ مُدارَسة القرآن. هذا هو، ما نصحت نفسي وإياكم به، مُدارَسة القرآن، التفسير والتعلم، تعلَّم! إذا كنت لا تفهم، فقل هذا يُحوجني إلى أن أتعلَّم النحو، فتعلَّم أشياء في النحو، اذهب وتعلَّم، وكذلك تعلَّم أشياء في الصرف، وأشياء في البلاغة، وأشياء في أصول الفقه، لكي ترجع إلى القرآن وتتعلَّم وتفهم وتعرف كيف يُفهَم القرآن الكريم على قانونه وعلى دستوره، تعلَّم واتعب، هناك أجر عظيم – إن شاء الله تعالى -، أجر عظيم! وإياك أن تغفل. والنوم ليلاً خله، هذا إذا كان وقتك يسمح، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۩، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۩. هناك شخص عنده شغل، هذا شيئ آخر، لكن افعل ذلك، إذا كان عندك وقت. هناك شخص آخر ليس عنده أي شغل أو عنده شغل مُتأخِّر أو يستطيع أن يقوم في الليل ساعة أو ساعة ونصف أو نصف ساعة أو ساعتين، بحسب! قُم ولا تُضع نصيبك، إياك يا أخي! قد يكون آخر رمضان – أمد الله في أعمارنا جميعاً في طاعته -، قد يكون آخر رمضان! أليس كذلك؟ وقد لا تبلغ حتى آخره. الق الله بأحسن عزيمة وبأحسن نية – بإذن الله -، واستكثر من الخير يا أخي.

والله كلنا يا إخواني، كلنا نحتاج  إلى هذا الخير. والجنة قريبة، النبي يقول أقرب من شراك نعل أحدكم. وكذلك النار! والنار قريبة أيضاً، أليس كذلك؟ لا تظن أنها بعيدة، لا! ما بينك وبين الجنة – إن شاء الله تعالى نكون جميعاً على هذا النحو – وما بينهم – أعني الأبعدين الخائبين الأخسئين – إلا الموت، ما بينك وبين الجنة وما بينهم وبين النار إلا الموت، والموت أقرب إلينا من شراك نعلنا. في أي لحظة يُمكِن أن نموت، في أي لحظة يُمكِن أن يموت أي واحد فينا، أليس كذلك؟ في أي لحظة!

لذلك أنا أقول لك الجنة قريبة جداً جداً جداً، اجتهد لها، أقرب من الامتحان الذي سوف يأتي إليك بعد أسبوع، أقرب من الامتحان، الجنة قد تكون أقرب بكثير، فانتبه إذن، اجتهد لها واعمل لها يا رجل، دار الخُلد هذه!

منع القرآن بوعده ووعيده                          مُقل العيون بليلها لا تهجعُ.

فهموا عن الملك الكريم كلامه                    فهماً تذل له الرقاب وتخضعُ.

إذا قرأت القرآن، إذا فهمته، وإذا سمعته، فسيكون من الصعب أن تنام كما كنت تنام من ذي قبل، من الصعب! هذا حين تفهم القرآن. وقيل لأحد الصالحين نراك لا تنام! قال وكيف أنام وقد طيَّرت عجائب القرآن النوم من رأسي؟ قال هذا، كلما فرغت من عجيبة، وقعت في عجيبة. فالقرآن عجيب! قال كله عجائب هذا، تفهم هذا حين تقرأه، إذا فتح الله صدرك له.

يقول سيدنا عثمان لو أن هذه القلوب طهرت، ما شبعت من كلام الله. ما شبعت من كلام الله! كان الإمام مالك – إمام دار الهجرة، رضوان الله عليه – إذا دخل رمضان، نفر من تدريس الحديث. يقول لهم لا يُوجَد. توقفت عن أن أُحدِّث – يقول لهم -، لا يُوجَد تحديث ولا يُوجَد قال رسول الله. مع أنه حديث رسول الله هذا، أشرف شيئ بعد القرآن، ولكنه يقول لا، لا يُوجَد حديث في رمضان. نفر من تدريس الأحاديث والجلوس إلى أهل العلم، ولزم القرآن يقرأه من المُصحَف. رمضان كله قرآن، قرآن وقيام وعبادة. هذا الإمام مالك!

الإمام سُفيان الثوري كان إذا دخل رمضان، ترك كل شيئ، ولزم ماذا؟ القرآن، يتلوه ليل نهار، ليل نهار! لأنه قال ماذا؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، لشهر رمضان خصوصية بالقرآن، هناك خصوصية كبيرة جداً بينهما. وكان الإمام الشافعي له في رمضان ستون ختمة، يا الله! يختم القرآن كل يوم مرتين. أنت إذا قرأت القرآن بمرتبة الحدر – أي المرتبة السريعة هذه -، تحتاج ما بين سبع إلى ثماني ساعات، أي كان الإمام الشافعي يقضي ست عشرة ساعة في تلاوة القرآن، إلا أن يكون من المُكرَمين، ونحسبه كذلك، الذين يُبارَك لهم في الزمان، فربما ختمه في ساعة أو سويعة، ولا تُكذِّبوا هذا، والله إنه لموجود. حلفت لكم! لأن هناك أُناساً يقولون لكم أين هذا؟ نحن أهل الإيمان، لا يعنينا الملاحدة والكذّابين والذين لا يفهمون والمحجوبين، لا يعنينا كل هذا، وليتكلَّموا بما يُريدون، نحن أهل الإيمان، نُصدِّق ونعرف، وبعضنا يعيش ويختبر، أليس كذلك؟ فدعوا عنكم هذا، فهذا هو! وكان يحدث أعجب من هذا، والنبي قال الآتي، وهو في صحيح البخاري.

في صحيح البخاري قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – أمر داود – أبو سُليمان، عليه السلام – أن تُسرَج له دابته، فبين هي تُسرَج، إذ قرأ القرآن. والقرآن هنا على أنه لفظ مُشتَق، أي قرأ ماذا؟ الذي يُقرأ للعبادة. أي الزبور، المزامير! قرأها في خمس دقائق، فكيف هذا إذن؟ هذا هو، هذه كرامة للنبي، وكل مُعجِزة لنبي تكون كرامة لولي. قاعدة عند أهل السُنة والجماعة.

على كل حال له ستون ختمة الإمام أبو عبد الله الشافعي في غير الصلاة. قالوا وثبت مثل ذلك للإمام أبي حنيفة. كان يختم القرآن ستين مرة. تخيَّلوا! ستين مرة في غير الصلاة.

إذن تلاوة القرآن، قيام الليل يا إخواني، والصدقات. تصدَّقوا وتوسَّعوا. بعض الناس لا يُخرِج في رمضان – قال – إلا زكاة المال. يا أخي ما هذا؟ يا أخي ما أكزك! يا أخي ما أبخلك! يا أخي ما أبخلك بالخير على نفسك! يبخل على نفسه، يا رجل رمضان هذا، الزكاة واجبة، سواء كنت تُخرِجها في رمضان أو في غير رمضان، هي واجبة عليك. هناك صدقات غير الزكاة يا رجل، قدِّم لنفسك وامهد، لماذا تكنز وتبخل؟ ماذا تُريد من هذا كله؟ أعط، أعط، أعط، أعط. يا ابن آدم أنفق، أُنفِق عليك. اللهم أعط مُنفِقاً خلفاً وأعط مُمسِكاً تلفاً. كما في صحيح مُسلِم، الصدقات!

ولذلك الرسول كان أجود ما يكون بالخير في رمضان، طبعاً في رمضان! وعند الإمام أحمد فكان لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه. في رمضان تأخذ ما تُريد، اطلب ماذا تُريد، يُعطك الرسول، لأنه رمضان، إذن الصدقات أيضاً، إذن الصدقات!

وأهم من هذا كله وقبله وأثناءه وبعده وبعد رمضان: الانكفاف التمام عن المُحرَّمات. حفظ اللسان والسمع واليد والفرج، البُعد عن المظالم والمآثم والمغارم كلها يا إخواني.

نسأل الله – تبارك وتعالى – بفضله ومنّه أن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

اللهم بلِّغنا رمضان بفضلك ومنّك وحولك وطولك وكرمك وجودك، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين. اللهم اجعلنا فيه من المقبولين، من الصادقين المُخلِصين، واجعلنا فيه من الأبرار ومن المُقرَّبين. اللهم أعنا فيه على ما يُرضيك عنا ومنا من وجوده العبادات والتبتل والازدلاف إليك يا رب العالمين، صلاةً وصياماً وقياماً وتلاوةً وصدقةً وانكفافاً عن كل ما لا يُرضيك منا، بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، زِدنا ولا تنقصنا، وارض عنا وأرضنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم اغفر لنا ما كان منا في الدهر الأول، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنك أحسنت فيما مضى، فأحسِن إلينا فيما بقى، برحمتك يا أرحم الراحمين. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين. لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك. اللهم إنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وعورة وحاجة وعوزة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، ارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أبقيتنا، وارحمنا أن نتكلَّف ما لا يعنينا.

اللهم وألزمنا تلاوة كلامك الحكيم وذكرك القديم، على النحو الذي يُرضيك عنا ومنا، آناء الليل وأطراف النهار، ورضّنا بذلك، يا أرحم الراحمين. اللهم صل صلاة كاملة، وسلم سلاماً تاماً، على نبي، تنحل به العُقد، وتنفرج به الكُرب، وتُقضى به الحوائج، وتُنال به الرغائب وحُسن الخواتيم، ويُستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم. وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 3/5/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: