إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل من قائل – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ۩ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ۩ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ۩ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ۩ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ۩ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ۩ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۩ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۩ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ۩ مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۩ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

يقول ولي الله، الرجل الصالح، وهيب بن الورد لو أن العباد خافوا نار جهنم خوفهم الفقر، لنجو منها. أي أن خوف الناس في العموم من الفقر، أعظم من خوفهم حتى من نار جهنم. لو أن العباد خافوا نار جهنم كما يخافون أو خوفهم الفقر، لنجو منها – أي من نار جهنم -. والناس من خوف الفقر في فقر.

قال عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – اثنان – يعني أمرين – من الشيطان، واثنان من الله – تبارك وتعالى -. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ۩، يقول لكم أمسكوا الأموال ولا تُنفِقوها، فإنكم تحتاجون إليها. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۩، ثنتان أو أمران اثنان من الشيطان. وأمران من الرحمن – تبارك وتعالى -، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ۩، إذا ارتكبتم الفاحشة والمعاصي، لأن الله – تبارك وتعالى – في جانب الإنسان. الشيطان هو عدو الإنسان الأكبر، والله دائماً في جانب عبده، جانب عبده الذي يعقل إليه ويؤوب إليه بالعمل والنية والتوبة. وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۩، الفضل هنا في مُقابِل الفقر هناك، والمغفرة هنا في مُقابِل الفحشاء هناك. الفضل! والله واسع الفضل، لا إله إلا هو، ومَن أوسع مِنه فضلاً؟

إخواني وأخواتي:

الأسباب عموماً كما يُقال، وكذلك الشروط والموانع، عقلية وعادية وشرعية. بنا – أي حري بنا – في هذا المقام أن نعرض لجُملة من الأسباب التي كشف عنها الوحي وكشف عنها الشرع، والتي يُتوصَّل بها أو يُتسبَّب بها إلى سعة الأرزاق ومُبارَكتها. كما سمعتم لأن عُظم أو مُعظَم خوف الناس ومُعظَم اهتمام الناس وانشغال الناس، إنما هو بالرزق. بل لا نُبالِغ إذا قلنا مُعظَم ذنوب الناس وخطايا الناس، إنما هي بسبب الرزق أيضاً، إنما هي بسبب الرزق! ومن هنا كان الصالحون يُشدِّدون إلى الغاية على موضوع الرزق، أن يكون من حلال، وأن يُنفَق في حق. فمَن كسب رزقه من حلال وأنفقه في حقه، فهو بأحسن المنازل، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في حديث أبي كبشة الأنماري، الذي أخرجه الإمام الترمذي.

حتى أن منهم مَن قال – وهو عبد الله بن المُبارَك، الإمام، الحافظ، المُحدِّث، المُجاهِد، الزاهد، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لأن أُمسِك درهماً من شُبهة – درهم من شُبهة يقع علىّ، أضبطه ثم أُنحيه من رزقي – خيرٌ لي من أن أتصدَّق بمائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف. حتى عد ستمائة ألف، تخيَّل! يُشدِّدون جداً، أن يكون الرزق حلالاً طيباً مُبارَكاً، ليس فقط من حرام، وليس فيه شُبهة، أدنى شُبهة.

قال سُفيان الثوري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لرجل جاء يسأله أن يُحدِّثه عن فضيلة الصلاة في الصف الأول، قال له انظر يا أخي ماذا تُدخل بطنك – أو جوفك -، ثم لا تُبالي إن صليت في الصف الأخير. أي ليست العبرة أن تُصلي في الصف الأول وأن تُكثِر الحج والعمرة، العبرة أن تُطيِّب طُعمتك، ألا تُدخِل جوفك ولا جوف عيالك وأبنائك، إلا الحلال المحض، الحلال الخالص، البعيد من كل شُبهة، لأن الرزق الحرام – والعياذ بالله – مُدمِّر، مُدمِّر لصحة الدين والضمير والبدن، ومُدمِّر لسعادة الدنيا ومُوجِب لضنكها وشقائها، وإن كثر، أي وإن كثر هذا الرزق الحرام – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

حتى لا نُطوِّل إخواني وأخواتي بالمُقدِّمات، نُريد أن نستعرض على سبيل عرض النماذج فقط – إنما هي إضاءات وتذكيرات، وإلا فكل عنصر من هذه العناصر يحتاج ربما إلى خُطبة برأسه وبحياله – ما هي الأسباب التي كشف عنها الشرع الحنيف، الشرع الكريم، والتي يُبسَط بها الرزق، يُتسبَّب بها إلى بسط الأرزاق وتكثيرها ومُبارَكتها – إن شاء الله تعالى -؟

في رأس هذه الأسباب تحقيق العبودية لله – تبارك وتعالى -. ويدخل في هذا السبب الجُملي العام مُلازَمة التقوى، مُلازَمة التقوى والتفرغ للعبادة بالمعنى الذي سنشرحه – إن شاء الله – بُعيد قليل، التفرغ للعبادة والاستقامة على الطريق. والشواهد كثيرة في الكتاب والسُنة، لكن – كما قلت – يا أحبتي نذكر نماذج – إن شاء الله تعالى -، يُستدَل بها على غيرها.

قال – تبارك وتعالى – وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ۩، قال وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ۩، إذن الاستقامة على نهج الله وعلى صراط الله – تبارك وتعالى -، تُوجِب السعة والإغداق في الأرزاق والأفضال الإلهية وإسباغ النعم، ظاهرها وباطنها. قال – تبارك وتعالى – أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۩، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۩… ماذا؟ لم يذكر المعمول، لم يذكر المعمول! يكفي عبده كل ما أهمه.

قال العلّامة ابن قيم الجوزية – رحمة الله تعالى عليه – وبقدر تحقق العبد بالعبودية للرب – لا إله إلا هو -، تكون كفاية الرب له. على قدر ما تتحقق بعبوديتك لله، يكفيك الله – تبارك وتعالى -، تأتيك الكفاية والعون من الله – تبارك وتعالى -. العبادة! والدين كله ما هو؟ الدين كله ما هو؟ عبادة ثم استعانة، عبادة! تتفرَّغ للعبادة، للاستقامة، للتقوى، للتوكل، تتحقق بالعبودية، يأتيك العون. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، في كل صلاة! ونقرأها وكأننا لا نفهمها. فهذا هو الدين، تتحق بالعبودية، يأتيك العون من الله. واطلب، اطلب وتمن، ماذا تُريد؟ واطلب الآن، حين تتحقق.

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۩، اعبده واستعن به، اعبده وتوكل، المعنى واحد، المعنى واحد! ومعنى التوكل على الله – تبارك وتعالى – اعتماد القلب على الوكيل، الذي هو الرب – لا إله إلا هو -، حسبي الله ونعم الوكيل. فالتوكل هو اعتماد القلب على الوكيل، ومعنى اعتماد القلب هنا على الوكيل، بحيث لا يرى فاعلاً في الوجود كله على الحقيقة إلا الرب – لا إله إلا هو -. كل ما عدا الله مُجرَّد أسباب ظاهرية، الله يُهيئها أو يمنعها – لا إله إلا هو -، هو مُسبِّب الأسباب ومانع الموانع، أليس كذلك؟ فإذا أراد أمراً، هيأ له أسبابه ومنع موانعه. وإذا لم يُرده، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرضين على إحداثه، ما قدروا على إحداثه، والله ما قدروا على إحداثه، ولو كان أدنى الأمور وأحقر الأمور وأبسطها وأسهلها، ما قدروا على ذلك.

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۩، لا إله إلا هو! وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ۩، فهو موجود أبداً أزلاً سرمداً، لا يموت ولا يغيب، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۩، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۩، انظر إلى هذا التعبير بــ  لَفَتَحْنَا ۩، كنوز ملأى غاصة، تحتاج إلى ماذا؟ استفتاح. والاستفتاح يكون بماذا؟ بالتقوى والتوكل والاعتماد والإحساب والتحقق بالعبودية. هذه الطريق، لا يُمكِن غير هذا، واضحة! الطريق عامة وواضحة. وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩.

قال عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إن أعظم آية فرجاً في كتاب الله – إن أعظم آية فرجاً، أي أعظم الآيات في موضوع الفرج، في موضوع المخرج من كل هم ومن كل ضيقة، إن أعظم الآيات فرجاً أو إن أعظم آية فرجاً في كتاب الله تبارك وتعالى – قوله – عز من قائل – وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۩، مَخْرَجًا ۩ من كل نائبة ومن كل ضيق، من كل مُشكِلة ومن كل مُعضِلة، عضلت به أو عضلت بمَن أحبه وأحب عونه ولم يستطيعوا، الله يجعل له المخرج، بماذا؟ بالتقوى. ولن نتحدَّث عن التقوى وما هيتها، ولكن من أفضل ما قيل فيها، أن تتقي غضبه وسوء عقابه. وكيف تتقي غضب الله وسوء عقابه؟ بطاعته في أمره ونهيه، فقط! هو هذا، وفي الخلاء والجلاء، وفي السراء والضراء.

هناك أُناس عبيد الإحسان، وليسوا عبيد الامتحان. فإذا أعطى الله الواحد منهم وأغدق عليه، يعبده – ما شاء الله عليه -، وإذا ابتلاه الله بشيء من الضيق وبشيء من التنقص في الأموال أو في الأنفس أو في الثمرات وفي الأرزاق، يرتد في حافرته – والعياذ بالله -، فيعود مُسرِفاً فاجراً، وربما كافراً مُلحِداً مُجدِّفاً. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ ۩، يقول – تبارك وتعالى – خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۩، يقول خَسِرَ الدُّنْيَا ۩، فهو لم يكسب حتى بهذا الدنيا. أنت حين تتخلى عن الله، تظن أن الدنيا ستأتيك راغمة؟ لن تأتيك راغمة أبداً، لن تأتيك راغمة!

فهذه أعظم آية فرجاً في كتاب الله، أي وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۩، قال وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۩. لا إله إلا الله! تأتيه الأرزاق والبركات والنعم السوابغ، من حيث لا يُؤمِّل ومن حيث لم يخطر له على بال، فهذه طريقة الله، طريقة الله – تبارك وتعالى -. وطريقة المُتقين المُتوكِّلين أن اعتمادهم كله عند التحقيق على الله – تبارك وتعالى -، وإنما يأخذون بالأسباب الظاهرية تعبداً، لأننا مأمورون أن نأخذ بهذه الأسباب الظاهرية.

وإليه الإشارة بقول النبي الميمون المُبارَك – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – لو أنكم توكَّلون – أي تتوكَّلون – على الله حق توكله، لرزقكم – وفي رواية لرُزقتم -، كما يرزق الطير، تغدو – أي بالغدو، في الصباح – خماصاً – تغدو خماصاً، أي فارغة الحواصل، فارغة الحواصل! أي لن نقول البطن، وإنما الحواصل، الحواصل فارغة -، وتروح – أي في المساء أو في العشي، هذا في المساء – بطاناً – أي شبعى ملأى -. والإشارة هنا أيضاً إلى التسبب بقوله تغدو، هي رائحة جائية، هي لا تُرزَق وهي في أعشاشها فقط، لا! هي تتحرَّك.

ولذلك إليه نبَّه وتنبَّه الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال ليس في هذا الحديث ترك الأسباب، بل فيه عكس ذلك، فيه الأخذ بالأسباب، لكن مع ماذا؟ مع التوكل على الله. لأن هذا الطير من أين يعلم رزقه وأين رزقه وكيف يُرزَق؟ لا يعرف هذا الطير المسكين، ولكنه يأخذ بالأسباب الظاهرية، فيرزقه الله على ضعفه.

أذكر أني قرأت للجاحظ في الحيوان، أنه ضرب مثلاً بالبعوضة، قال من أين لهذه البعوضة – الكائن الضيئل الصغير الحقير الضغيف، أدنى نسمة تطير بها بعيداً، أي بالبعوضة، أدنى نسمة! خفيفة جداً -، من أين لها أن تضع خرطومها النحيل الضعيف في جلد الجاموس – والجاموسة جلدها خشن وقوي جداً -؟ قال لو أدخلت إبرة، بالكاد تدخل، فكيف يدخل خرطوم البعوضة ويمتص الدم؟ انظر إلى هذا، ذكي الجاحظ – رحمة الله عليه -، في كتاب الحيوان هذا، مُلاحَظة بسيطة هذه، مُلاحَظة بسيطة وسهلة وقريبة، من أين؟ وكيف؟ الله – تبارك وتعالى -، رازق كل ما خلق – لا إله إلا هو -، كما هو خالق هو رازق – لا إله إلا هو -، وكما هو هادٍ هو رزّاق – لا إله إلا هو -، هو هذا! وأهل اليقين يعلمون هذا.

إذن لرُزقتم – أو لررزقكم – كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح – أي تعود في المساء – بطاناً. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – هذا. التفرغ للعبادة والتحقق بالعبادة يحتاج إلى تفرغ، والتفرغ لا يعني الانقطاع عن المعائش، أي أن تترك عملك أو وظيفتك وكسبك، أبداً! بالعكس، هذا إنكار للشرع وهذيان وخروج من العقل، ثم تقول لي الله سيرزقني وأنا جالس. الله ما أمرك بهذا، والنبي نهى عن هذا، والقرآن أرشد إلى عكسه تماماً. والنبي كان يستغرب، يُعبِّر عن عجبه، من رجل يجلس في المسجد في غير وقت الصلاة، ماذا تفعل وأنت جالس؟ هذا ليس وقت صلاة! قال – تبارك وتعالى – في آخر الجُمعة، ونحن في يوم الجُمعة الأزهر المُبارَك، قال فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ۩.

كان عراك بن مالك – أحد التابعين المدنيين – إذا صلى الجُمعة، خرج ووقف بباب المسجد، ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم قد أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت في الأرض – ها أنا أتحرَّك، لقد خرجت – كما أمرتني، فارزقني منك رزقاً حلالاً طيباً. نعم! فهم، فهم دقيق وعمل، وليس فلسفة وخُطباً ومواعظ، هذا عمل. افهم الشيء واعمل به، افهم الشيء واعمل به!

يا رسول أُرسِلها وأتوكَّل؟ يتحدَّث عن ناقته، أي أُرسِلها دون أن أربطها في وتد؟ قال بل اعقلها وتوكَّل. اعقلها وتوكَّل! الأخذ بالأسباب لا يُنافيه التوكل، والتوكل لا يقتضي إهدار الأسباب إطلاقاً، بل لا معنى للتوكل إلا بالتسبب، وهذا موضوع آخر، وقد فصَّل فيه الأئمة والعلماء – جزاهم الله عنا خير الجزاء وأحسنه وأجزله -، ولكن هذا موضوع آخر.

إذن التفرغ للعبادة لا يعني الانقطاع عن الكسب والمعائش، بل يعني ما ذكرت، وهذا ليس كلامي، هذا كلام العلماء والشرّاح. قال مُلا عليّ القاري – رحمة الله تعالى عليه – وهو العلّامة الكبير، في مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، طبعاً للتبريزي، عند هذا الموضع، قال التفرغ للعبادة بمعنى إفراغ القلب لها. إفراغ القلب! أي حين تأتي تُصلي، تفرَّغ. فلا تأت تُصلي وأنت عقلك كله وهمك في الدنيا. الدنيا تهتم بها في ثماني ساعات، جئت في هذه السويعة لمُدة عشر دقائق، فلتُقبِل على الله فيها. هذا معنى التفرغ، ليس معناه أن تترك الدنيا وتجلس في المساجد والخوانق والزوايا ثم تطلب الرزق، فالسماء لا تُمطِر ذهباً ولا فضةً. كما قال الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، مُنكِراً على المُتأكيين، وليس المُتوكلين. أنكر عليهم هذا، قال فقد علمتم أن السماء لا تُمطِر ذهباً ولا فضةً. اخرجوا، اسعوا، واكتسبوا، ثم توكَّلوا. اجعلوا اعتماد القلب على الله – تبارك وتعالى -، وليس على الشطارة والعلم والذكاء. الشطارة والعلم والذكاء أسباب أيضاً، خُذ بها، ولا تجعلها رباً لك، لا تجعل ثقتك بها، وإلا كنت قارونياً، لا ربانياً، إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ۩، فخسف الله به الأرض، هو مُعتمِد على أسبابه وعلى ذكائه! قال عندي خبرة في البيزنس Business، عندي خبرة في الاستثمار، أنا رجل شاطر وماهر. فخسف الله به ودمَّره، لا! لكن هذه أسباب، تُؤخَذ وتُصطنَع، تُؤخَذ ولا تُصطنَع ولا يُعتمَد عليها ولا يُوقَف عندها، بل تُتجاوَز إلى يقين القلب، بفعل الواحد – لا إله إلا هو -.

إذن التفرغ للعبادة بمعنى ماذا؟ تفريغ القلب، والإقبال على الله بالصدق، ولو في هذه السبع أو الخمس أو العشر الدقائق، هذا هو المطلوب، ومثل هذه العبادة هي التي تُقبَل، بل ذكر العارفون وكثير من مُحقِّقي العلماء، أنه ما من مُسلِم وما من مُؤمِن يرفع يديه، يدعو مُتحقِّقاً بشرط الدعاء ومعناه في عُمقه، إلا استُجيبه، ولو طلب حتى المُستحيلات، أي العاديات. يُستجاب له! ولكن نحن لا يُستجاب لنا، لا يُوجَد عندنا هذا التفرغ، الذي يُعطي اليقين، التفرغ الحقيقي الذي يُعطي اليقين ليس عندنا، ندعو ونحن شاكون ساهون لاهون، فلا يُقبَل، فلا يُقبَل! كأننا لم ندعه – لا إله إلا هو -.

ماذا لو أتيت إلى أكرم الناس – رجل معروف بالكرم الشديد البالغ، وهو أكرم الناس، ويُحِب أن يتكرَّم -، وقلت له أنا في مُعضِلة، أنا في ورطة كبيرة، أنا مديون، أنا غارم، وكذا… وكذا… لا أدري هل يُمكِن أن تُعطيني، لو أعطيتني، يكن خيراً منك، لا أدري كذا؟ هو سيكره هذا منك جداً وسيغضب، لأنك تُبخله. أنت بهذا الشك وبهذا التردد وبهذا التذلل كأنك تُبخله. هو يُعطي مُباشَرةً!

رب العالمين هو أكرم الأكرمين – لا إله إلا هو -، ولذلك لا بد أن تدعو وأنت مُوقِن بالإجابة، دون تردد. لو ترددت، فأنت أسأت الأدب، ونقص إيمانك، فلا يُستجاب لك، حري ألا يُستجاب لك. ولكن الدعاء لا بد وأن يكون بيقين، وهذا يُنتِجه تفرغ القلب للرب – لا إله إلا هو -، تفرغ القلب للرب!

ولذلك رأى أحد الصالحين من أسلافنا – من أئمة التابعين -، رأى رجلاً يُريد أن يبيع أشياء في المسجد، فقال له يا أخي هذه سوق الآخرة، أما سوق الدنيا فخارج المسجد. أي هذا المسجد للعبادة – قال له -، أأتيت لكي تبيع حتى في المساجد؟ بع في الخارج، أما هنا فللتفرغ، أنت دخلت لمُدة رُبع ساعة أو نصف ساعة، فلتُفرِّغ نفسك فيها لله، عُد فيها إلى الله حقاً. كما نقول املأ البطارية واشحن. لكن الناس لا تفهم ولا تُميِّز، يقولون لك دين ودنيا. دين ودنيا؟ ذهب الدين وبقيت الدنيا، صارت المساجد للدنيا أيضاً، وطبعاً هناك دعايات حزبية وتجارية وجماعية ولغير ذلك، ما شاء الله، لكل شيء، ولكنها ليست لله، ما صارت لله، و: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩. ينبغي أن تبقى لله، ولله وحده – لا إله إلا هو -، لا شريك له.

إذن إخواني وأخواتي التفرغ يكون بهذا المعنى. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال الله – تبارك وتعالى – ابن آدم – أي يا ابن آدم – تفرَّغ لعبادتي – بالمعنى الذي شرحناه للتو -، أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت يديك شُغلاً، ولم أسد فقرك. الله! حديث قدسي جليل صحيح. ابن آدم تفرَّغ لعبادتي – بالمعنى الذي ذكرناه -، حين تُقبِل، أقبِل علىّ حقاً، بيقين. ولا يُمكِن أن تُقبِل حقاً وصدقاً وأنت عاصٍ، ومُقيم على المعاصي. تستحي وتقول ماذا؟ أي يقين؟ اليقين من أين؟ من أين يأتيني اليقين وأنا خارج من المعصية، وأنا زاولت المعصية قبل قليل، وعلى نية مُزاولتها بعد الصلاة والدعاء؟ لن يُستجاب لك، وأنت تعرف هذا، صح! لكن تفرَّغ بشرطه، ادعه بشرطه، يُستجب لك، مُباشَرةً – بإذن الله تعالى -.

ابن آدم تفرَّغ لعبادتي، أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت يديك شُغلاً – أي تصير مشغولاً، مشغولاً دائماً، ليس عندك أي وقت، أنت مشغول ومُقطَّع في الهموم -، ولم أسد فقرك.

في الحديث الآخر الجليل مَن أصبح والدنيا أكبر همه… أي وهي كذلك، مَن أصبح والدنيا أكبر همه، ليس الآخرة، ليس الله، الدنيا! انتبهوا، وهذه ليست حالة الكفّار فقط، هذه حالة كثير من المُوحِّدين، يُصبِح والدنيا أكبر همه، وسوف نرى هذا، فهو لم يقل والدنيا من همه؛ لأن طبعاً كل واحد يهتم بالدنيا، كل واحد هكذا، والإنسان ما دام في قيد الحياة، تتجدَّد همومه. كل يوم عنده همه؛ هم نجاح ابنه، هم تزويج ابنته، هم قضاء دينه، هم كسب رزقه، هم… هم… هموم كثيرة، وأشياء كثيرة، لا ينقطع الإنسان من هموم الدنيا، هذا هو! لا بأس، لكن لا ينبغي أن تكون الدنيا أكبر الهم. وفرق كبير بين الاثنين، لو كانت الدنيا من همك، لكن الله والآخرة أكبر همك، لن تعصي الله في سبيل ماذا؟ إحراز الدنيا. مُستحيل، مُستحيل! والعكس صحيح، لو كانت الدنيا أكبر همك والله ليس هو الأكبر، ستعصي الله وتنسى الله وتتغافل عن أمره ونهيه في سبيل ماذا؟ في سبيل الدنيا. انتبهوا، هذا هو!

مَن أصبح والدنيا أكبر همه، جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له. ضاع عليه الأمر هذا المسكين! ومَن أصبح والآخرة أكبر همه، جعل الله غناه في صدره، أو قال غناه في نفسه – غني النفس، حتى وإن كان قليل ذات اليد، يشعر بالغنى، ويعيش حياة الأغنياء المُتعففين، نعم -، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا راغمة، وكان الله إليه بكل خير أسرع. ما أجمل هذه الخاتمة! وكان الله إليه بكل خير أسرع. الله يُسارِع له بالخيور، يُسارِع له بالخيور، بالأشياء التي تُسعِده وتكفيه وتُرضيه، بسرعة! لا إله إلا الله.

قال العلماء هذا في مَن كانت الآخرة أكبر همه، فكيف بمَن كانت الله أكبر همه؟ نعم! طبعاً هناك أُناس لا الدنيا ولا الآخرة أكبر همهم، هناك أُناس نعم كذلك، ليست الجنة وليست النار أكبر هم الواحد منهم، أكبر همه رضاء الله – عز وجل -، يُريد فقط أن يرضى الله عنه ويُحِبه، فقط! فالموضوع ليس موضوع جنة ونار وحور وعين وما إلى ذلك، فهذا ليس هو أكبر همه، أكبر همه الله، ماذا سيكون جزاؤه؟ الله أعلم. شيء كبير، وهو لا يزال أكبر من هذا بكثير. أرأيتم؟ الموضوع هذا طويل، ونجتزئ فقط بهذه النماذج، في قضية التفرغ للعبادة، التحقق بالعبودية، ويدخل فيها – كما قلنا – ما ذكرناه.

السبب الآخر الاستغفار، وهو قريب أيضاً من السبب الأول، قريب! ولكن نخصه؛ لأن القرآن خصه. ونحن اليوم افتتحنا بصدر هذه السورة الجليلة، من أجل هذه الآيات، ماذا قال نوح لقومه؟ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۩ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۩. نعم! معناها للاستغفار خصوصية، للاستغفار خصوصية وميزة خاصة، في ماذا؟ في استمطار العطاء، واستدرار الأرزاق والنعم وبركات السماء. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۩ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ۩، عجيب! حتى الذي ليس عنده أي ولد، يستغفر. إذن وما معنى هذا؟ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ۩، قال وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ۩، أي بساتين، وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ۩، لا إله إلا الله! بسبب الاستغفار.

دلالة الآية أن أعظم شؤم يلحق الإنسان إنما يلحقه بعد الشرك بالله، بسبب ماذا؟ المعاصي والذنوب. المعاصي تحبس النعم، وتُنزِل وتُوجِب النقم – والعياذ بالله -، وتُوجِب النقم المعاصي! ولذلك لا بد أن نُكثِر من الاستغفار، لأن ما أحد منا معصوم، الكل مُعرَّض للخطأ والنسيان والغفلة والعصيان، ولذلك يستغفر، وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.

وفي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عباس – رضيَ الله عنهما -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما أكثر – وفي رواية ما لزم – عبد الاستغفار، إلا جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن أين أخذها النبي؟ من هذه الآية.

ماذا قال هود لقومه في سورة هود – السورة مُسماة باسمه -؟ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ۩. قال وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ۩. أعتقد هذه الآية الثانية والخمسون من سورة هود، الشيء نفسه! ولذلك قال السادة المُفسِّرون في آية هود وفي آية نوح دلالة على أن الاستغفار تُستنزَل به الأمطار والأرزاق. الاستغفار!

يقول أحدهم رأيت رجلاً جاء إلى مجلس الحسن البِصري، وقال له يا تقي الدين السماء لم تُمطِر هذا الموسم، ونحن في جهد شديد. قال عليكم بالاستغفار. بعد حين – لا ندري في اليوم نفسه أو بعد أيام – جاءه رجل آخر، وقال له يا تقي الدين ليس عندي ولد، ماذا أفعل؟ قال له عليك بالاستغفار. وهذا يسمع، غريب! هذا في كل شيء يتحدَّث عن الاستغفار؟ وجاء رجل وقال بُستاني، أو حديقتي، ينقصها الماء – أي عطشى -، الأشجار والنباتات جفت. فقال له عليك بالاستغفار. جاءه رابع يشكو له الفقر وقلة ذات اليد، فقال له عليك بالاستغفار.

وربما هذا في مجالس أو في أسابيع مُختلِفة، ولكن هذا تابع ما جرى. قال فقيل له يا تقي الدين جاءك رجال شتى، في مسائل شتى – واحد في الجدب، واحد في قلة المطر، واحد في قلة الولد، وواحد في قلة ذات اليد -، وأمرت الجميع بأمر واحد! قال ليس من عندي. أي أنا لا أؤلف. قال، قالوا من أين؟ قال من قوله – تبارك وتعالى – فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۩، قال يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۩، هذا أولاً، أتُريد أن تستسقي؟ عليك بالاستغفار. قال وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ ۩، هذا ثانياً، أتُريد الغنى؟ عليك بالاستغفار. قال وَبَنِينَ ۩، هذا ثالثاً، أتُريد الأولاد؟ عليك بالاستغفار. قال وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ۩، وهذا رابعاً.

الإمام عامر بن شراحيل الشعبي – إمام الكوفة، رحمة الله عليه – يروي أن سيدنا عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وقد جهد الناس من قلة المطر، خرج معهم يستسقون – خليفة الأم خرج يستسقي -، فلم يزد على الاستغفار، قال أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله… وظل يستغفر ويستغفر ويستغفر، ثم عاد. فقيل يا أمير المُؤمِنين ما صلاة الاستسقاء هذه؟ ما الاستسقاء هذا؟ لم نرك استسقيت، أنت جعلت تستغفر والناس جعلت تستغفر خلفك ثم عدت!

قال لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء التي يُستنزَل بها القطر. مجاديح السماء! والآن سنُفسِّر ما هو المجدح. قال لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء التي يُستنزَل بها القطر. ثم تلا قول الله – تبارك وتعالى – فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۩ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۩. والمجاديح باختصار هي نجوم السماء التي تغيب، وبعضها العرب كانوا يرونها أنواءً، يربطون المطر بها، وهذا على سبيل الكناية فقط، وإلا فالأمر كله رباني إلهي. قال التي يُستنزَل بها القطر – رضيَ الله عنه وأرضاه -. وما أفقهه! انظر كيف يكون الفقه في دين الله، هذا الفقه في دين الله – تبارك وتعالى -.

أيضاً إخواني وأخواتي من أوسع الأسباب وآكد الأسباب التي تُستنزَل بها الرحمات والأرزاق والبركات العلويات صلة الأرحام. ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه البُخاري، من حديث أبي هُريرة، مرفوعاً؟ ماذا قال النبي؟ مَن سره أن يُبسَط له في رزقه – تُريد رزقاً مبسوطاً واسعاً عريضاً؟ مَن سره أن يُبسَط له في رزقه – ويُنسأ له في أثره – وفي روايات؛ في عُمره، في أجله، أي يمُد له في العُمر، أي يكون عنده أجل يصل إلى سبعين سنة، ويُمكِن أن يصير ثمانين أو تسعين، عجيب! بماذا؟ -، فليصل رحمه. الله! فليصل رحمه.

من أوكد الأسباب صلة الرحم. ولماذا ذكرت هذا؟ المُسلِم قد يعصي، وقد يُذنِب، وقد لا يستقيم تماماً، ومع ذلك يكون باراً بأرحامه ووصولاً لهم، ويتسع رزقه. عجيب! أي هذه تعدل حتى بالذنوب، أثرها أقوى من أثر الذنوب في منع الرزق، وهي ماذا؟ بر الأرحام وصلة الأقارب، بر الأرحام والأنسباء، مُهِم جداً هذا.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم. وهذا أخرجه أحمد والترمذي. قال تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة الأثر. انظر إلى التعابير النبوية الجزيلة والعظيمة، وهذه وعود إلهية مُخيفة، وعود إلهية من أجل ما يكون!

فإن صلة الرحم محبة في الأهل. طبعاً إذا أردت أن يُحِبك أهلك وقراباتك، فصلهم. والصلة كيف تكون؟ بالمال، وبقضاء الحوائج، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء لهم، وبالتعطف عليهم والرفق بهم. قاله ابن أبي جمرة – شيخ المالكية، رضي الله عنه وأرضاه -، قال هذا معنى صلة الأرحام. بكل هذه الأشياء، بكل هذه الأمور، كلها صلة الرحم.

لكن بالله، ما معنى الأرحام؟ ما المقصود بالأرحام؟ باختصار حتى لا تنسوا الأرحام هم الأقرباء، الأقرباء! الذين يربطك بهم نسب، هناك نسب دموي، سواء أكانوا ورثة أم غير ورثة. أي معناها الورثة وذوو الأرحام بلُغة علم الفرائض أو علم الميراث، كلهم داخلون في ماذا؟ في الأرحام. وسواء أكانوا ذوي محرم – أي من ذوي المحارم – أو غير ذوي محرم، بغض النظر! كلهم أقارب، وهذا هو الراجح. بعض العلماء قالوا لك لا، الأرحام ذوو المحارم فقط. قال ابن حجر لا، الأول أرجح. وأتى بأدلة على ذلك، وهذا هو الصحيح – إن شاء الله -. كل الأقرباء! إذن أبناء العم، أبناء الخالة، الإخوة، الفروع، الأصول، كله! كله… كله… كله… كله أرحام هذا، كله أرحام. هل هذا واضح؟

روى الإمام ابن حبان في صحيحه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أعجل الطاعات ثواباً – طاعة تتقرَّب بها إلى الله، تُثاب عليها عاجلاً، أي لا يُؤخَّر ثوابها إلى الآخرة، تُثاب عليها في الدنيا، وطبعاً ثوابها في الآخرة جزيل – صلة الرحم. إذن ما هي؟ صلة الرحم. إن أعجل الطاعات ثواباً، صلة الرحم. حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة – النبي يقول هذا، هم ليسوا مُستقيمين، ليسوا أتقياء، فيهم فجور، يركبون بعض المعاصي -، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، بتواصلهم. وما احتاج أهل بيت يتواصلون. الله لا يُفقِرهم، لا إله إلا الله! أي إذا رأيت في عائلة مُمتَدة كبيرة فقيراً، فاعلم أنهم مُتدابِرون مُتباغِضون مُتقاطِعون مُتصارِمون. وإذا رأيت فيهم غنىً وسعةً، فالأرجح أنهم ماذا؟ مُتواصِلون مُتراحِمون. حتى ولو كانوا فجرة! بعضهم يرتكب بعض  ماذا؟ الذنوب والمُوبِقات. والنبي يقول هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

إذن صلة الرحم بالذات شيء خاص يا إخواني، فعضوا عليه بالنواجز، أي عضوا على هذا السبب بالنواجز. وأيضاً من الأسباب الإحسان إلى الناس عامة، وإلى الضعفاء والمُنكسِرة قلوبهم خاصة، وأيضاً إلى طلبة العلم – الشرعي بالذات – خاصة.

إذن الإحسان إلى الناس عامة، الضعفاء والمساكين خاصة، وطلّاب العلم خاصة. كل هذه أبواب وأسباب لتوسيع الأرزاق ومُبارَكتها – إن شاء الله تبارك وتعالى -، وذلكم لقوله – عز من قائل – إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩. ولما رواه أبو هُريرة وأخرجه مُسلِم في صحيحه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن نفَّس عن مُؤمِن كُربة من كُرب الدنيا، نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة. ومَن ستر مُسلِماً، ستره الله في الدنيا والآخرة. ومَن يسَّر على مُعسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. الله! هذه هي، هذه هي! تُريد أن الله يُعينك في كل شيء – ليس فقط في المال، في كل الأمور -؟ كُن في عون الناس، كُن في عون إخوانك، امش في عونهم. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

يروي مُصعب بن سعد بن أبي وقاص طبعاً وهو الصحابي الجليل والفارس النبيل – رضيَ الله تعالى عنهما -، يقول رأى سعد لنفسه فضلاً على غيره… أي سعد رأى نفسه، هو من أوائل من أسلم، أول مَن ضرب بسهم في سبيل الله، فارس مغوار، فتح الله به الفتوح، أول مَن جمع له رسول الله أبويه، أول واحد النبي قال له بأبي أنت وأمي، وربما هو الوحيد الذي جمع الرسول له أبويه، هو سعد بن أبي وقاص! قال له بأبي أنت وأمي. أي أفديك بأبي وبأمي. مسألة كبيرة هذه، النبي يقول له هذا! فرأى نفسه، العُجب يتطرَّق أحياناً إلى النفوس النبيلة العظيمة، مثل هذه النفس الطاهرة.

فرأى أن له فضلاً على غيره، ثم علم الرسول بهذا، أي أن سعداً يرى نفسه على بعض الناس، أي كأنه قال الحمد لله، وهذا من فضل الله، ليس مني، لكن هذا من فضل الله، أنا أحسن. فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟ قال له لا تر نفسك، لا! يُمكِن أن يكون سبب نصرك ورزقك وجود إنسان (غلبان) مُنكسِر فقير مسكين، أنت لا تراه أصلاً، أي كما يقول إخواننا الشاميون لا ترفعه من أرضه، مَن هو هذا؟ هذا سبب نصر الله لكم ورزق الله لكم. عجيب! وهذا الحديث صحيح.

وفي الحديث الآخر قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ابغوني في ضعفائكم، فهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟ وفي رواية بصلاتهم ودعائهم. قال بصلاتهم ودعائهم. أي الله يستجيب صلاة ودعاء الضعيف المُنكسِر أكثر من القوي المُنتصِر المُعجَب بنفسه. الله عند المُنكسِرة قلوبهم من أجله – لا إله إلا هو -.

ما معنى ابغوني في ضعفائكم؟ اطلبوا رضائي في إحسانكم إلى الضعفاء. هذا هو! هذا معنى ابغوني. أتُحِب أن أرضى عنك – الرسول يقول – وأُحِبك؟ فعليك أن ترحمم الضعفاء وتُحسِن إليهم.

روى الترمذي في باب الإحسان بالذات إلى أهل العلم، أن رجلين، وكانا شقيقين – أي أخوين -، على عهد رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان أحدهما يحترف، أي عنده مهنة يشتغل منها، والآخر يأتي الرسول. قال الشرّاح أي للعلم. الآخر مُنقطِع للعلم، كل يوم يأتي لكي يتعلَّم أشياء وما إلى ذلك، وهذاك يصرف عليه. فلما كان ذات يوم جاء المُحترِف، وشكا أخاه إلى رسول الله. أي قال له يا رسول الله أنا مُحترِف، وأنا أتعب وما إلى ذلك، وهو يقعد فقط – أي (فاضي أشغال) – لكي يتعلَّم. فقال له – عليه الصلاة وأفضل السلام – لعلك تُرزَق به. ما يُدريك أنت؟ لعل الله فتح لك هذا الباب، بسبب ماذا؟ بسبب بركة طلب أخيك هذا للعلم. هو (مش قاعد بطّال)، هو يطلب العلم الشرعي، يطلب العلم الشرعي!

كان الإمام عبد الله بن المُبارَك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يخص بالنفقة طلّاب العلم، وهو كان تاجراً مُتموِّلاً، هو إمام وشيخ الإسلام في وقته، شيخ الإسلام! وكان تاجراً، وكان عنده تجارة – ما شاء الله – بمئات ألوف الدنانير. يخص بالعطاء والإحسان طلّاب العلم، يُعطي العلماء وطلّاب العلم الكثير الكثير، فقيل له يا إمام لو أنك عممت بصدقاتك! أي عمم، وأعط الآخرين كلهم. قال لا، إني نظرت، فلم أر منزلة أرفع بعد النبوة من منزلة العلماء. أنا أتقرَّب إلى الله ببر العلماء، أُعطي العلماء وطلّاب العلم. غيري يُمكِن أن يُعطي الآخرين، وليس عندي أي مانع طبعاً، ولكن أنا أُريد أن أهتم بالعلماء بالذات. فهذا ليس معناه أن غير العلماء لا يُعطون، يُعطون ولكن خل هذه باباً لإنسان آخر؛ باب خير لإنسان آخر. أنا أُريد هذا الباب، أن أُعطي أفضل الناس بعد الأنبياء. انظر إلى هذا الذكاء، هؤلاء كانوا أُناساً أذكياء، قال أن أُعطي أفضل الناس بعد الأنبياء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

من جُملة الأسباب التي يُطلَب بها سعة الرزق الصدق في التبايع. وهذا أمر نفتقده الآن كثيراً وكثيراً جداً، وهو أمر داخل في عموم الأمر بالأمانة. الأمانة والصدق في كل شيء!

للأسف الأمانة والصدق في التبايع – في البيع والشراء – أصبحت نادرة جداً في أمة محمد اليوم، وهذا من علامات الساعة للأسف. استفحال الخيانة وانزواء الأمانة من علامات الساعة التي صحت بها الآثار والأخبار – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث المُخرَّج في الصحيحين البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما. وإن كذبا وكتما، مُحقت بركة بيعهما. الله! فإن صدقا وبيّنا. ما الفرق بين الصدق والتبيين؟ الصدق يكون في صفات السلعة المرغوبة. أي هذه السلعة من مُميزاتها كذا وكذا وكذا. اصدق ولا تنسب إليها صفات ومزايا ليست فيها، اصدق واذكرها بمزاياها الواقعية. والبيان أو التبيين يكون في ماذا؟ في صفات السلعة غير المحبوبة. أي في مساوئها. بيِّن، قل هذه فيها عرج، هذه بالت عندنا الدم، هذه السيارة موتورها – من Motor – ليس عالي الجودة، الكربريتر Carburetor فيه عطل. اذكر هذا، إياك وغير هذا. اصدق فيما يُمدَح وبيِّن فيما يُذَم، هذا معنى الصدق والتبيين.

قال فإن صدقا وبيّنا. انظر إلى هذا، النبي كلامه جامع مانع، ليس فقط صدقاً، وبيّنا أيضاً. قال فإن صدقا وبيّنا؛ لأن بعض الحقيقة هو أخو الباطل. فيها وفيها، إذن وماذا بعد؟ وبيّنا. فيها أيضاً بعض المساوئ، اذكر الاثنين. انظر إلى النبي، أوتيَ جوامع الكلم. قال فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما. وإن كذبا وكتما، مُحقت بركة بيعهما. لا إله إلا الله! الموضوع خطير جداً.

أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – له قصة تتعلَّق بهذا الموضوع. وعلى فكرة مثل هذه القصص تكشف لنا النقاب؛ لماذا هؤلاء أئمة؟ لِمَ صار هؤلاء أئمة؟ لِمَ بورك لهم في علمهم؟ من بين مئات ألوف العلماء وما إلى ذلك، لماذا هناك أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة من الأئمة، إلى الآن الأمة كلها من عند آخرها، تتعبد بمذاهبهم؟ والله شيء عجيب يا أخي، وما هذه البركة؟ وكم سيُكتَب له ويُجرى عليه من أرزاق هذا ومن حسنات! لا إله إلا الله، الإمام الأعظم – يقولون لك – أبو حنيفة. على الأقل ستون في المائة من أمة محمد على مذهب أبي حنيفة. شيء غير معقول، كم يُجرى عليه هذا من الخير إلى يوم الدين! لماذا؟ أنت ترى في أبي حنيفة الجانب الأصولي والفقهي فيه فقط، لا! انظر إلى جانب الإحسان والعبادة والصدق والأمانة يا حبيبي، شيء مُخيف ومُرعِب، وله أمثال طبعاً – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

أبو حنيفة يقول عنه المُوفَّق بن أحمد المكي الخوارزمي في كتابه الشهير في مناقبه (مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة)، يقول جاءه رجل وقال له يا أبا حنيفة أُريد ثوبين، أتجمَّل بهما لأصهاري، وأحسِن إلىّ في البيع – أي قال له توص بي، فأنا لا أعرف وما إلى ذلك -. قال له عُد إلىّ بعد جُمعتين، لعلهما يقعان. ما لونهما؟ قال ألوانهما كذا وكذا. قال خلال جُمعتين – إن شاء الله – يتم الأمر. وكان أبو حنيفة طبعاً خزازاً، وبعض الناس لا يعرف هذا، كان يبيع الخز، أي هو تاجر قماش، وكان يُرسِل البضاعة ويأتي بها وكذا، فيعيش من عرق جبينه. كان خزازاً، يبيع الخز، الحرير الخشن.

بعد جُمعتين جاء الرجل، فقال له عُد إلى من الغد. فعاد، فدفع إليه ثوبين فارهين وجميلين جداً. فقال كم أزن للخادم؟ قال درهماً. قال له أتهزأ بي يا أبا حنيفة؟ درهم ماذا؟ أقل شيء أن يكون هذه ثمنها ثلاثين ديناراً أو شيئاً كهذا. قال له درهماً؟ أي هذا سُدس الدينار، فكيف إذن؟ قال له لا يا أخي، لا أهزأ بك، ولكن حين طلبت مني الثوبين، بعثت بضاعة إلى بغداد – وهو في الكوفة طبعاً، أبو حنيفة كوفي – باسمك، وضمنت خطر الطريق – أي لو كان هناك قطّاع طرق وما إلى ذلك، فهذا سوف يكون علىّ، هذا في ضمانتي، وليس في ضمانك أنت أيضاً. انظر إلى هذا، انظر إلى النُصح، الدين النصيحة، ينصح لأخيه، لا إله إلا الله -، فجاءني أثواب بعشرين ودرهم، بعت التي بعشرين، وبقيت التي بالدرهم، فأنا أبيعك بما قامت علىّ، ولا أُحِب أن أتكسَّب عليك. لكن لماذا لا تتكسَّب وأنت تاجر ولا تعرفه؟

فالرجل دعا وبارك وقال جزاك الله خيراً. غير معقول هذا، أي هذه هدية! وأخذ الثوبين، فقيل له يا إمام لِمَ فعلت هذا؟ هل تسبق، أو هل سبقت، لك به معرفية؟ فقال لا والله، أول مرة رأيته فيها حين أتى قبل أسبوعين. فلِمَ فعلت هذا إذن؟ هو ليس صديقاً وليس لك معرفة به، لو كان صديقاً، لكان هذا معقولاً جداً! قال لأنه قال لي أحسِن إلىّ في البيع. وقد رويت عن فلان، عن فلان، عن ابن عباس، أنه قال إذا قال المُسلِم لأخيه أحسِن إليه، فقد ائتمنه. فوالله ما أترك شيئاً أقدر عليه من الإحسان، إلا فعلته، لتسلم لي أمانتي. الله! شيء مُبكٍ، أُقسِم بالله شيء مُبكٍ، نبكي حسرة على أنفسنا، وحسرة على الكذب الذي نعيشه والدجل والبُعد عن النصيحة والصدق في كل أمرنا، إلا ما رحم الله. اللهم اجعلنا من القليل المرحومين، وعُد بنا يا ربي يا عوّاد بكل خير، إلى أحسن ما في دينك، وأحسن ما في هذا الهدي الكريم.

إذن هذا هو، البيعان بالخيار يا إخواني، هذا سبب من الأسباب المُهِمة، أي الصدق في التبايع. يقول أحدهم رأيت جارية جاءت بمطرف خز – أي ثوب، ثوب من حرير أيضاً – إلى يونس بن عُبيد. وهذا من صغار التابعين، أدركه الإمام الشافعي وله عنه كلام، إنسان نبيل وطيب وصالح وتقي. جاءته بثوب، وقالت يا فلان نُريد أن نبيع هذا الثوب. قال بكم؟ قالت له بستين درهماً. أخذه ودفعه إلى جاره، وهو أيضاً مثله، وقال له بكم ترى؟ قال له بمائة وعشرين. أي قال له هذا يسوى مائة وعشرين. قال له وأنا أرى كذلك. أرى كذلك! أي هذا ثمنه، ليس ستين، كيف يكون ستين؟ ثمنه مائة وعشرون.

فدفعه إليها وقال يا أمة الله إن أردتِ أن تبيعي بمائة وخمسة وعشرين، اشترينا. يا أخي ما هذا؟ مذهولون! أليس كذلك؟ وأنا مذهول، نسمع وكأننا لا نُصدِّق. الآن بدأنا نفهم، حين نسمع مثل هذه الأشياء، نفهم حقاً لِمَ فتح الله عليهم، لِمَ أعزهم، لِمَ نصرهم، لِمَ جعلهم أئمة للمُتقين، ولِمَ أخزانا الله وأذلنا. وسأقولها واضحة! كأنه لا علاقة لنا بهؤلاء الناس، غير معقول يا أخي، هي تبيع بهذا! فقالت له يا سيدي أهلي أمروني أن أبيع بستين. قال عودي فاستئمري. ارجعي البيت وقولي لهم يونس بن عُبيد وجاره التاجر الآخر يقولان هذا الثوب يسوى مائة وعشرين. أي الضعف! الدين النصيحة، الدين ليس كلام منابر مثل هذا أبداً، وليس لحى، وليس حجاباً، وليس نصوصاً، قال الله وقال الرسول، أبداً! الدين مُعامَلة، الدين صدق.

ونكتفي بهذا، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين. اقسِم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا. لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 26/7/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: