استكمل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الإجابة عن الأسئلة التي طُرِحَت عليه قائلاً:
أختي الفاضلة – بارك الله فيها – علَّقت بتعليقات جميلة وطيبة، وطبعاً أخي عبد الواحد لم يُرِد أن يُوصِّف مُحاضَراتي بأنها توصيفية وإنما وصَّف ما حصل إلى الآن في الدارسات وكان واضحاً في ذلك، وطبعاً مُحاضَرتي لو استمرت – وهذا ظاهر من خلال جوابي عن بعض أسئلته – كانت ستكون الشيئ الآخر الذي ربما ترمين إليه، وأنا لم أتحدث يا أختي عن الإنتروبي Entropy، أي مبدأ الفقد في الطاقة والطاقة الفاقدة، فالإنتروبي Entropy شيئ مُختلِف تماماً، ولم أتحدَّث عن كلوسيوس Clausius والقانون الثاني في الحرارة الديناميكية، فأنا لم أتحدَّث عن هذا وإنما تحدَّثت عن المبدأ الإنساني Anthropic Principle، وكلمة Anthropic أتت من كلمةAnthropos “ἄνθρωπος”، وكلمة Anthropos “ἄνθρωπος” تعني إنسان باللاتينية، فهذا إسمه المبدأ الإنساني، وأنا طبعاً لا أُحِب أن أشرحه، لكن لو قرأتم كتابي – مُحاضَراتي المُفرَّغة – مطرقة البرهان سوف تقعون عليه، فأنا شرحته وتقريباً بإيجاز في الهامش وذكرت أن له ثلاثة صور وشرحتها أيضاً بإيجاز، فهذا إسمه المبدأ الإنساني Anthropic Principle وليس له علاقة بالإنتروبيا Entropy مُطلَقاً، وبارك الله فيكِ.

أخي الفاضل هنا سأل عن التغيير الحاصل في المُجتمَعات بخصوص وضعية الرجل ووضعية المرأة وما إلى ذلك وهل هذا يُمكِن أن ينجر عنه ومنه إعادة النظر في تفضيل الأم في باب البر على الأب لأنه المذكور في القرآن أيضاً وفي السُنة الصحيحة دائماً تفضيل الأم، في القرآن الكريم وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ۩، فهو مُباشَرةً بدأ بالأم وهذا أمر عجيب، والنبي يقول – كما تعرفونه – حينما سُئل مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، فقال الرجل له ثم مَن؟ قال ثم أمك، فقال ثم مَن؟ قال ثم أمك، فقال ثم مَن؟ قال ثم أبوك، لكن هذا يا أخي لا ينجر عنه هذا ولا ينبغي، هل تعرف لماذا؟ القرآن حين أعطى الأم مزية ليس لأن إنفاقها على ابنها أو عنايتها حتى بابنها في صغره لا يُرقَب ولا يُدرَك منه وحتى إذا شب وترعرع لم يجد هذه العناية وإنما يجد فقط العناية والرعاية من أبيه الذي يُنفِق عليه ويُعطيه المال مثلما قالوا، وإنما القرآن قال هذا حقها وأن السبب في ميزتها الزائدة في البر هو أنها حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ۩، فهو قال هذا ولذا بدأ بها، قال الله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ  ۩، أي أنها لقيت فيك الأمرين ولقيت فيك الأشدين، ومهما اصطنع إليك أبوك ومهما أعطاك وبنى لك من فلل وأعطاك من السيارات الفيراري وما إلى ذلك فإن هذا كله تقريباً لا يُساوي ربما أسبوعاً من الحمل أو زفرة من زفرات الوضع، فتبقى الأم في باب البر لها مزية، ثم لا تنس يا أخي في نهاية المطاف أن الام فعلاً هى الجناح الضعيف، فالأب عنده قدرة وعنده استقلاله وعنده حتى القدرة البدنية، والأم تحتاج إلى محبة أطفالها أكثر وإلى مزيد من برهم روعايتهم بها، فبلا شك تبقى الأم الأم الأم.

هنا يطلب أحد الحضور أن يتحدَّث فيسمح له الأستاذ الدكتورعدنان إبراهيم قائلاً تفضل، فيقول بدوره حديثاً يدور على أن الأم وخاصة في المُجتمَعات الحالية هى التي أحبت واختارت أن يكون عندها الابن وليس الابن هو مَن سعى إلى هذا، ومن ثم أتى تعليق الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً أنه فهم ما يرمي إليه المتُحدِّث وقال له لكن هى التي حملته وتعبت فيه يا سيدي، فعفواً أيضاً هذا لا يُؤثِّر على القضية لا من قريب ولا من بعيد، هل تعرف لماذا؟ أنا اخترت – مثلاً – أن أُحاضِر فيكم اليوم، وأن -الله – اخترت أن آتي من فيينا إلى هنا وأنا مُعتَل وتعبان، فأنا الذي اخترت هذا لكن لا يحق لك يا سيدي أن تقول لي يا أخي لا تتمحل ولا تتمعذر ولا تقل لي أنا أردت أن آتي وما إلى ذلك لأن عليك أن تُحاضِر رغماً عنك، فأنت الذي اخترت هذا ونحن لم نُرغِمك، بالعكس أنت تقول لي شكر الله لك، قال رسول الله مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فأنت تعبت وأتيت وتركت أهلك وألاودك وكتاباتك وأعمالك، وجزاك الله خيراً، وإن كنت اخترت هذا، فالأم لم تختر أن تُلقي مُحاضَرة وحنجرتها تعبانة بل اختارت أن تحمل بابنها هذا وأن ترعاه بهذه الطريقة، علماً بأنها ربما لم تختر أن تحمله ولكن اختارت أن تُواصِل حمله، فكان يُمكِن أن تجهضه، وكان يُمكِن لها أول ما تشعر بالتعب أن تقول لن أُواصِل الحمل لقد تحمَّلت الكثير، لكن بعض الأمهات يقول لها الطبيب هو الآن في الشهر الثامن أو التاسع لكن أنتِ الآن في حالة سيئة ولابد من الإجهاض فتقول له أنا – في نهاية المطاف – من المُمكِن أن أُضحي ليعش هو تحت كل الظروف، وأنا سوف أموت لكي يحيا، وهذا شيئ عجيب، فهذه هى الأم يا رجل، اسكت يا رجل، ومن هنا أنا تقديري للمرأة وتقديري للأنثى وللمرأة وتقديسي لها من خلال هذه المعاني، ولا أستطيع إلا أن أقول هذا، وأنا أقول لك وأنا عندي كثير كثير عاطفة بفضل الله وحب عجيب لأولادي أن هذا – والله العظيم – لا يُقارَن بحب الأم لأولادها يا أخي، وهم أولادي أيضاً وأنا أفدي أي أحد من أولادي بروحي ولكن هذا لا يُقارَن، فنحن الرجال أنانيون، لكن الأم تعطي عطاءاً بلا حدود وغير مشروط وغير ممنون، فهذا العطاء لا يعرف المنَّ يا رجل، وهذا شيئ عجيب، اذهب واسمع ما قاله سعدون جابر، اسمع “يا أمي يا أم الوفاء” وسوف تبكي – والله – يا رجل، فهو يقول – ياربي عليك يا سعدون – أنها لا تعرف المنّة، والله يحسن ختامك إن شاء الله.

على كل حال بالنسبة لموضوع دخول غير المسلمين في الأراضي المُقدَّسة تُوجَد أحاديث فقط عن رسول الله، ولعل هذه الأحاديث سيُعاد تفسيرها يوماً من الأيام على أنها أحاديث راعت الأوضاع الجيوسياسية تماماً كما فعل عمر بن الخطاب بنصارى نجران، فهو فعل هذا لأوضاع جيوسياسية بدليل أنه ترك اليهود وترك نصارى حتى غيرهم في أماكن أخرى، فهذا مُمكِن وهذا فعله النبي لأوضاع مُعينة، فحتى إذا ضرب الدين بجيرانه وتمت أسلمة كل الجزيرة وما إلى ذلك ما المانع بعد ذلك من أن يزوروا هذه البلاد حتى مكة والمدينة؟ أنا مُتأكِد لو فُتِح باب مكة والمدينة – هذا اجتهادي وقد أكون مُخطئاً – لغير المسلمين سوف يُسلِم الملايين، من خلال قراءتي أنا لمُذكِرات المسلمين الذين كانوا من الأجانب وأسلموا وجدت أن رحلة الحج ثبتت إيمانهم بطريقة عجيبة، مع أن الحج قبل أن يحجوا كان مثار للارتياب عندهم، كأنهم يقولون ما هذا الشيئ الأشبه بالكحلة كما يقول التوانسة، فهذا مُكعَّب أسود بسيط ساذج ومع ذلك يطوفون به ويبكون، فما القصة؟ هذه مظاهر وثنية ولا قيمة لا لحجر أسود ولا لحجر أسعد ولا لكل هذا الكلام، حتى إذا ذهبوا هناك – ونحن جربناها يا رجل – وجدوا حالة روحانية – لا إله إلا الله – فعلاً، وهذه الحالة رغماً عنك تتملكك وتتلبسك، فواضح أنه مكان مُقدَّس ومكان إلهي، وهو الذي يُسامِد في علو السماء البيت المعمور، فهذا في الأرض وذاك في السماء، ويُقال – لا إله إلا الله – أن في موضع مكة – شرفها الله وزادها مهابةً وبراً وحراسة – هى التي دُحيَت منها الأرض وبُسِطَت منها، ولك أن تتخيَّل هذا، وهذا شيئ غريب، فلماذا لا يُفتَح هذا الباب لغير المسلمين؟ أنا أدعو لهذا وأنا مُقتنِع بهذا وأنا مُتأكِد من أن هذا سيكون سبباً في إسلام ملايين من غير المسلمين، ثم ماذا قال تعالى؟ قال تعالى في القرآن الكريم الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ۩، هل يعجز الله أن يقول جعلناه للمسلمين أو جعلناه للمُوحِّدين أو جعلناه للمُؤمِنين؟ الله يقول لِلنَّاسِ ۩، ثم يقول سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ ۩، أي المُقيم والزائز، علماً بأن هذه المسألة هى التي تفرع عنها مسألة كراء دور مكة، وفيها المُناظَرة الشهيرة بين إسحاق بن إبراهيم الحنظلي – رحمة الله عليه – وبين إمامنا الشافعي، فهى مُناظَرة من أجمل ما يكون، فإسحاق بن إبراهيم الحنظلي كان يعتقد في الأول أن دور مكة لا تُكرى لأنها ليست ملكاً لأهلها، فلا يملك أحد شيئاً في مكة، فإذن هى لمَن؟ قال هذه ملك الأمة كلها، ولك أن تتخيَّل هذا، فالموضوع لم يتعلَّق فقط بقضية دخول غير المسلمين، لأنه قال مثل المسلمين أنها ملك للأمة كلها من المُوحِّدين، في حين أن الله قال لِلنَّاسِ ۩، ومن ثم يجب أن نُعيد هذا الاجتهاد، فحاجه الشافعي وأتى لها بأدلة كثيرة عجيبة، وطبعاً في البداية الشافعي استخف بالمسألة لأنها شبه بديهية عنده، فمال الآخر على صاحبه وقال له الرجل ليس هناك، أي ليس كما كنت أظن أنه إمام كبير ويُتحدَّث بإسمه ويُقال الشافعي قال كذا وكذا ، ففهم الشافعي لأنه ذكي جداً، وقال له أتُريد المُناظَرة؟ فقال له ما جئت إلا إليها، فقال فخذ إليك: قال الله وقال الله وقال الله وقال الرسول وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ثم أتى له بأدلة كثيرة لو اتسع لها المقام لذكرتها، والمُهِم أن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال فلما رأيت أنني قد أُفحِمت قمت، فانظروا إلى هذا الأدب، لم يقل له يا زنديق ويا كذا وكذا، لأن عنده تواضع وأدب ومن ثم قال أنه أفحمه، وهذا معنى أنه قال فلما رأيت أني قد أُفحِمت قمت، وهذا على كل حال من موضوع جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ۩، أما بالنسبة لبناء الكنائس فأنا عندي حلقة في برنامج آفاق عن هذا الموضوع، فعُد إليها يا أخي الفاضل وستسمع فيها – إن شاء الله – بعض ما فيه الغَناء والكفاية – إن شاء الله – بالأدلة، وقد قسمت الأقوال إلى ثلاث أقوال مشهورة وإلى آخره، وسوف ترى أن ما من دليل لدينا يستوفي شروط الدليل الشرعي – لا يُوجَد حديث صحيح واحد حتى ولو آحادي – يُحرِّم بناء الكنائس في الأرض المفتوحة عنوة وبالقوة، ما من حديث يقول هذا، بالعكس طبعاً، وهذه النصوص المنسوبة لعمر ولغير عمر وللرسول ولابن عباس وما إلى ذلك تُخالِف ظاهر كتاب الله، فالله يقول وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ – هل أنت لا تُحِب أن تُهدَّم يا الله؟ قال لك لا أُحِب أن تُهدَّم، أنا أحب تبقى الصوامع – وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ۩، وعودا إلى تفسير إمامنا الشيخ ابن عاشور، والله دائماً ما أقول عن هذا الشيخ جزاه الله عني وعنكم خيراً، فكم استفدت من هذا الرجل، لأنه عالم نحرير حقيقي مُجتهِد مُضيف، فهو أضاف الكثير لأنه رجل مُستقِل وجريء، يقول بأشياء ما قال بها أحد من قبله على كرهه للتفرد – يكره التفرد ويُصرِّح بهذا -ولكن اجتهاد يُؤديه إلى هذا، وعلى كل حال ابن عاشور حين فسَّر آيات سورة النور فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ۩ قال هذه ديورات النصارى وليست المساجد، وأتى الرجل – رحمة الله تعالى عليه – بأدلة عجيبة بعد أن قال هذه ديورات النصارى، فكيف تقول لي أنه لا يجوز أن تُبنى كنائسهم؟ هذا غير صحيح، بل تُبنى ونحن نُساعِد فيها حتى، ودائماً تذكَّر أن يستحيل أن تجلب الناس إلى دينك بالتزمت ومنعهم حقوقهم الملية، لكن أنا أقول لك أنك تجلبهم دائماً – والله – بالتسامح والتوسع، وعلى ذكر رسالتي في حرية الاعتقاد أنا ذكرت بعد أن طوَّفت على مدى تقريباً أربعمائة وخمسين صفحة بتاريخ أهل الذمة من أيام الرسول حتى الخلافة العثمانية ونهاياتها في القرن التاسع عشر شيئاً هاماً، واستخلصت استخلاصات كثيرة من تطواف دقيق جداً ومُرهِق كان لي، وفي رأس هذه الاستخلاصات أنني وجدت باستمرار شيئاً مثل الـ Diagram يُفيد بأن كلما زاد المسلمون تسامحاً واتسعوا لغيرهم كلما زاد عدد الداخلين في الإسلام، والعكس صحيح دائماً، فكلما تزمتنا وتشددنا وجورنا على الآخرين وتحيفنا ما دخل أحد في الإسلام، فنرجو أن نفهم هذا على كل حال.

يتحدَّث أخي الفاضل الآن عن التوارث بين الناس على اختلاف دينهم ومللهم، وأنتم طبعاً تعرفون أن المذاهب المتبوعة كلها تمنع التوارث مع اختلاف الدين لحديث ورد هنا على أن هناك اجتهادات مُخالِفة، لدينا اجتهاد معاذ بن جبل – اجتهاد يُنسب إلى معاذ – وأخذ به مُعاذ بن أبي سفيان وآخرون يُفيد بهذا، وعلى كل حال قالوا يُمكِن للمسلم أن يرث غير المسلم ولا يُمكِن لغير المسلم أن يرث المسلم، والدليل – الدليل في الحقيقة لا علاقة له بالدليل بصراحة إن كان هذا هو الدليل وحده – لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى، فما هذا الكلام يا أخي؟ قالوا الإسلام يعلو ولا يُعلى، ونفس الدليل موجود في مسائل أخرى، لكن قولهم – أي الإسلام يعلو ولا يُعلى – غير كافي، وإذا أنت أكتفيت بحديث آحاد في منع التوارث قد لا يكتفي به غيرك، وهناك خُطة أنا تقريباً مُقتنِع بها وأسير بها في نفسي على الأقل وهى أننا في التشريع نحتاج إلى حديث عزيز، هذا هو مذهبي وأنا أدين الله بهذا، ففي التشريع والحلال والحرام أُريد حديثاً عزيزاً، أيرواه عن رسول الله اثنان وعن كلٍ اثنان حتى يتخرج حتى النهاية، وهذا قليل جداً، من المُمكِن أن نسبته تصل إلى ثلاثة أو إلى خمسة في المائة من الأحاديث فقط، وبقية الأحاديث آحاد، إذا كنت تحب أن تأخذ بالآحاد لأنه مُلتئم بالكتاب وبروح الكتاب وبالمقاصد فلا عليك، وإن كنت ترغب عن أن تأخذ به وإن صح في الصحاح وغيره – هو يظل من الآحاد لأنه ليس عزيزاً – فلا عليك أيضاً من وجهة نظري ووفقاً لخُطتي، ويُمكِن أن تأخذ باجتهاد آخر يلتئم بنصوص الكتاب أو بغايات الكتاب ومقاصده، وعلى كل حال إخواننا الإباضية عندهم طريقة عجيبة في موضوع الوصية للوالدين، وطبعاً المعروف أنه لا وصية لوارث، لكن هذه الآية تقول هناك وصية وخاصة أننا لا نقول بالناسخ والمنسوخ، ومن ثم نقول هناك وصية للوالدين، والإباضية قالوا هذه الآية مُحكَمة وغير منسوخة، والوالدان يُوصى لهما وهما من الورثة في الأصل، فهذا ينطبق على الوالدين غير المُسلِمَين، فإذا كان الوالدان من غير المُسلِمين يجوز أن يُوصي الولد المسلم لهما أو البنت، وهذا كلام جميل، لماذا؟ لأنهما – والإباضية يتفقون معنا هنا – لا يرثان – أي الوالدان – بإسم الميراث، فهذا ممنوع طبعاً، ولكن يأخذان مالاً بإسم الوصية فيأخذان هذا بعد الموت، وهذا كلام جميل، ونحن من المُمكِن أن نأخذ بالاجتهاد الآخر لأن ليس عندنا أي حديث عزيز هنا ونقول يجوز أن يتوارث الناس على اختلاف دينهم، وسأقول لكم إن شئتم حتى تستريحوا أننا سنفترض أن أحدهما أسلم كما يحدث هنا في أوروبا وعنده أم كبيرة أو حتى رحم – مثل أخت أو أخ أو حتى زوجة ومعروف ما هو نصيب الزوجة وإلى آخره – مثلاً، وقد مرض بالسرطان ومن ثم قد يموت عما قليل أو عما قريب، وهو الآن خائف على مصير ذويه، فماذا يفعل مع زوجته المسكينة التي ليس لها أي مصدر للدخل؟ أنا أقول لكي يتخطى موضوع الميراث يُمكِن أن يكتب لها وصية، لأن تجوز الوصية لغير المسلم، ومن ثم تنتهي المُشكِلة، ويجوز أيضاً قبل أن يُدرِكه الموت أن يهبها هبة، ولتكن هذه الهبة مثلاً شطر ماله إذا أراد أو النصيب الذي تُعطاه الزوجة المسلمة بطريق الميراث إن لم يكن له فرعٌ فتُعطى الزوجة الربع، فإن كان فرعٌ وارث تُعطى الثمن، فهو يُعطيها هذا أو هذا بالهبة أو يكتب لها بالوصية، أي أن هناك إمكانية – إن شاء الله – للوصول إلى مخرج.

تسألني أختي الفاضلة هل أنا أعتمد على تفاسير المُفسِّرين أم لا لأنها ربما لاحظت – مثلاً – تعويلي على الفخر الرزاي في موضوعة مُعيَّنة، وهذا أمر عادي طبعاً جزئياً، فقد نتفق ونختلف معهم جزئياً، أي في التفسير جزئياً، لأنهم أصلاً يُفسِّرون جزئياً ولا يُفسِّرون مقاصدياً، ومن ثم يجب الانتباه إلى هذا، وإلى الآن الشيئ الذي ربما أُنجِز من تفسير القرآن إلى حد بعيد يتفق مع المقاصد أو يُقارِبها، أي التفسير الموضوعي، فقد تجد أنت – مثلاً – مُجلَداً كاملاً عن التوحيد في القرآن، يجمع لك كل الآيات التي تناوت قضية التوحيد – توحيد الله – بأكملها، وهذا كلام جميل، لكن هذا يكون بمثابة خُطوة واحدة يُمكِن توظيفها مقاصدياً، لأنه سوف يُساعدكِ جداً بسبب أنه أتى لكِ بكل مُفرَدات التوحيد في موضع واحد، ونحن عندنا – مثلاً – تفاسير أخرى موضوعية، فنحن لدينا الكثير عن السُنن الكونية في القرآن – وهذا كلام جميل – وعن النبوة والرسالة في القرآن وحياة محمد في القرآن والسيرة قرآنياً وهكذا وهكذا، فهذا التفسير يُمثِّل خُطوة واحدة يُمكِن أن تُوظَّف مقاصدياً، لكن فيما عدا التفسير الموضوعي كل التفاسير عبر الدهر هى تفسيرات جزئية أو تجزيئية، أي أنه يُفسِّر الآية بشكل جزئي، فطبعاً ضروري أن أعود إليهم لكي أتنور ولكي أعرف كيف فهموا الآية وما هى أسباب نزولها وما إلى ذلك، فهذا الشيئ طبيعي جداً وهذا لا يتناقض مع المقاصد، فالمقاصد أفق أعلى من هذا يستثمر هذه المواد التفسيرية الجزئية في تحقيق البرهنة، فهذا هو إذن وهذا جائز ومطلوب وأصلاً لا مناص منه ومن ثم لابد أن نفعل هذا.
أخر شيئ لدينا هو أن أخي الفاضل سألني عن مُفرَد التأويل وما إلى ذلك، وهذا معلوم على ما أعتقد طبعاً لكل من قرأ هذه المسائل وخاصة من قرأ في الدراسات التأويلية الحديثة، فهم يفعلون هذا باستمرار، والتأويل له جُملة معاني في اللغة العربية، والأوْل هو المصدر أيضاً، أي أنه يعود إلى معنى العود والرجوع، ومنه قولنا آل الأمر إلى كذا وكذا وكذا، ثم أن تحقق الأمر المُخبَر عنه سواء في رؤيا منامية أو بنص وحياني أو حتى بقول بشري في الواقع على ما وقع به الخبر يُعتبَر ماذا؟ يُعتبَر هو تأويله، قال تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ ۩، وذلك في سورة الأعراف حيث قال وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۩ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ۩، فما معنى قول الله يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ۩؟ أي يوم يتحقق في الواقع، ويوسف عليه السلام رأى رؤيا وبعد أربعين سنة في المشهور تحققت تماماً، تقول الآية الكريمة وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ – قيل الكل، إخوته وأبوه وخالته طبعاً لأن أمه كانت ميتة، والخالة بمنزلة الأم كما عند البيهقي – وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ ۩، والإشارة بـ هَٰذَا ۩ إلى ماذا؟ إلى المشهد، تقول الآية الكريمة إِنِّي رَأَيْت أَحَد عَشَرَ – أي إخوته وهو ثاني عشرة أو الثاني عشر، فهو ثاني عشرهم – كَوْكَبًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر – أبوه وأمه، أي خالته – رَأَيْتهمْ لِي سَاجِدِينَ ۩، فهو قال له – لا إله إلا الله – هذا هو المشهد، ولذا الآية تقول وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا – أي هذا المشهد – تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ ۩،عليهم السلام أجمعين، فهذا شيئ مُؤثِّر ومُبكي، لكنه حدث – لا إله إلا الله – بعد أربعين سنة، وطبعاً هو أتى من الجُب إلى سُدة الوزارة والحكم وأصبح عزيز مصر بعد ذلك، فالعزيز قطفير تبناه وأصبح هو عزيز مصر، فكان وزير التموين أو وزير الاقتصاد – عليه السلام – لكنه لم يُصبِح ملكاً، وعلى كل حال تقول الآية هَٰذَا تَأْوِيلُ ۩ بمعنى تحقق في الواقع، الآن هل للتأويل بهذا المعنى الموضوع لغةً علاقة بالتأويل الذي يعرفه ابن جرير الطبري وما إلى ذلك؟ طبعاً هناك علاقة واضحة تماماً، هل تعرف لماذا؟ لأنك حين تتدبر في الآية وتُحاوِل أن تُقارِبها وتُداوِرها وتفهمها من هنا ومن هنا ومن هنا وإلى آخره سوف تقترب من المعنى المُكتنَز في الآية ومن المعنى المُحتوَى في مطاوي الآية، كأنك تعود من خلال التفكير والفهم ومُداوَرة الآية إلى معنى الآية، ولذلك العلماء حتى من غير أن يتناولوا هذه الموضوعة بالذات فعلوا هذا، ومن هنا يُقال لك عن أحدهم أنه فكر ودرس وبحث وعاد إلى لا شيئ، فإذن كان يُمكِن أن يعود إلى حصيلة، لكن كيف يعود؟ هذه الكلمة مأخوذة من العود، ومن هنا التأويل مأخوذ، لأن التأويل يُمكِّنك أن تعود به إلى ما قلنا، وهذا معنى لطيف جداً جداً جداً، كأنه يقول لك كلما فكرت في القرآن أكثر وأكثر وأعمق فإن القرآن كريم لا يتوقف عن إمدادك بمعانٍ جديدة، ففي كل كرة سوف تعود بجديد، وهذا يُعطيك إياه التأويل، ولذلك نحن نُريد تأويلاً يتعدى التفسير، فالتفسير من الفسر والسفر – والفسر مقلوب طبعاً لكن يُوجَد المعنى نفسه – بمعنى الإيضاح والبيان والانكشاف، تقول الآية الكريمة وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ۩، فهو هذا إذن، فالتفسير يُمكِن أن تصل إليه بخُطوة بسيطة وقريبة، حيث يُمكِن أن تفتح المُعجَم ثم تُفسِّر لكن التأويل ليس كذلك، فالتأويل مسألة أعمق بكثير، حيث تبدأ بالمُعجَم ثم تبدأ بمتن اللغة ثم تستعين بعد ذلك بكل المُتاح من أجواء الآية ومن سباقها ومن سياقها ومن لحاقها ومن التطور الدلالي الذي أتى به المعنى مبثوثاً وإلى آخره، ولذلك – كما قلت لكم – القرآن يُراكِم المعنى، والمعنى ينمو في الكتاب – لا إله إلا الله – أيضاً، وأنت سترى أن القرآن يُنوِّع الألفاظ دلالياً، أي يُنوِّع الألفاظ دلائلياً، فاللفظ الواحد يأخذ مراتب من الدلالات، وهذا شيئ عجيب، وطبعاً هذا الذي سيفعله بعد ذلك حتى المُتصوِّفة وخاصة محي الدين بن عربي بطريقة عبقرية ومُخيفة، ومن ثم تقول سبحان الله، كيف يُعطي هذا الرجل اللفظ توليداً دلالياً مُتنامياً في كتبه، هذا شيئ عجيب، وعلى كل حال المسألة طويلة، والله تبارك وتعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۩، جزاكم الله خيراً يا إخواني وأخواتي على حُسن استماعكم وعلى صبركم علينا، وإلى أن ألقاكم – إن شاء الله – في أقرب فرصة أو في أقرب الآجال – إن شاء الله – كما يقول التوانسة أستودعكم الله جميعاً وجمعوات الذي لا تضيع ودائعه، ولا تنسوا أخاكم من صالح دعائكم بظهر الغيب أن يُثبِّتني الله ويلهمني الصدق والإخلاص وأن يتقبلني وغفر لي، وبارك الله فيكم.

(نهاية المُحاضَرة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: