قال الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩ وقال أيضاً وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩، وقد يسألني أحدكم قائلاً هل الأرض هنا الجنة؟ وهذا غير بعيد، فهذا مُمكِن جداً جداً، وفي آخر الزمر ما يُؤكِّد تأكيداً بعيداً وليس قطعياً أن الأرض الجنة، تقول الآية الكريمة وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ ۩، مع أن الآية أيضاً تحتمل الأرض المعهودة، فقد يُراد بها أرضنا، فقد أورثنا الله إياها ومكَّننا فيها بحيث عبدناه مُخلِصين له الدين بحيث لا نُفتَن في ديننا وكانت العاقبة أن دخلنا الجنة وتبوأنا مُبوءاً حسناً بحمد الله، فهذا مُمكِن وهذا أيضاً تفسير صادق، قال الله وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ فقد تكون هذه الأرض المعهودة أو هذا الكوكب أو هذا البسيط أو هذا المعمور، وفي قول الله عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ يدخل طبعاً دخولاً أولياً المُؤمِنون الصالحون، هل تعرفون لماذا؟ لأن القرآن من أوله إلى آخره كالمُصرِّح بأن الإيمان بالله خُطة صلاح وإصلاح، ومن هنا في عشرات المواضع – لست أذكر كم بالتحديد لكن يُوجَد ربما أكثر من ثمانين موضعاً عن هذا وعلى كل حال لابد أن أتحقق – دائماً يُقرَن بين الإيمان وعمل الصالحات، فيقول الله آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩ باستمرار، في مُقابِل – وهذا معروف للجميع – أن الكفر والشرك والوثنية دائماً هى خُطة فساد، ولذا الأنبياء يقولون لأقوامهم باستمرار وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ۩ ويقولون أيضاً وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۩ ولذا قال الله عن فرعون إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ ۩، فهذا إفساد باستمرار، ولذا الكفار مُفسِدون ولا يُصلِحون من حيث الأصل، أما المُؤمِن فالمفروض فيه من حيث الأصل أن يكون دائماً صالحاً مُصلِحاً باستمرار، فهذه علاقة طردية المفروض ألا تتخلف بين الإيمان وعمل الصالحات، إذن يدخل في قوله عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ المُؤمِنون الصالحون دخولاً أولياً، والآن يُوجَد سؤال حرج جداً وهو هل يدخل غير مُؤمِن بالمعنى الإصطلاحي عندنا للإيمان في هذا؟ هل من المُمكِن أن يكون هذا صالحاً وأن يعمل الصالحات؟ علماً بأننا نقول العطف للمُغايرة في قول الله آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، فواضح أن الأصل في العطف المُغايرة، إذن عندنا مفهوم الإيمان وعندنا مفهوم عمل الصالحات، وبطبيعة الإيمان يُولِّد ويبعث ويحفز على عمل الصالحات، لكن غير المُؤمِن هل يُمكِن أن يعمل أعمالاً صالحة تصلح بها حياة الناس؟ هذا مُمكِن وهذا مُشاهَد وبكثرة، فقد يكون جذر هذا جذراً دينياً تُورِث عبر القرون وعبر آلاف السنين دون أي مُشكِلة وبقيَ يُمارِس أثره، على أن عمل الأشياء الصالحة لا يُعوَّل عليه في باب الثواب الأخروي إذا انفك عن الإيمان وخاصة ضديد الإيمان الذي يكون مع مع قيام الحُجة وقطع المعذرة، أي الحُجة الرسالية والبلاغ المُبين، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، لما قال تبارك وتعالى – كما قلنا أمس ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ۩ قال أن هذه الأعمال الصالحة مثل تجاوزالعقبة وفك الرقاب وغيرها من الأعمال الصالحة طبعاً ينبغي أن تكون من مُؤمِن مُتواصٍ بالصبر ومُتواصٍ بالمرحمة، أي فعل تشارك، فإذا لم يكن مُؤمِناً لا يُعقَد عليها أملٌ في الثواب الأخروي لكن في الدنيا لا مانع من أن يُقال إنها أعمالٌ صالحة صلاحاً دنيوياً وصلاحاً عمرانياً وليس صلاحاً دينياً ملياً يُعقَد عليه أمل النجاة وأمل الثواب، فعلى كل حال يقول الله الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩، إن جاز وساغ هذا التفسير فإنه سيُفسِّر لنا ما قد يبدو لبعض الناس مُفارَقة، وهو كيف يتمكن اليوم – مثلاً – من السيادة في الأرض أُناس غير مُوحِدين وأُناس غير مُؤمِنين؟ علماً بأن هذا الجواب ليس جوابي وإنما هو جواب بعض الأئمة الكبار ومن قديم وهو جواب قرآني، وعلى كل حال الجواب هو لأنهم مُصلِحون، نحن مُفسِدون ونحن أقل إصلاحاً منهم، فهم عندهم عدالة وعندهم الشورى – أي الديمقراطية – وعندهم تراحم وعندهم تناصف وعندهم إصلاح في الأرض وعندهم تعمير للأرض، ولذا بطبيعة الأمور هؤلاء يسودون ويتمكنون، لكن من أين أخذ علماؤنا هذا المعنى الخطير؟ هذا المعنى خطير جداً وهو عكس المعنى المُستكِن في أذهان مُتطرفي أهل الأديان بما فيهم المسلمون، فهذا مُمكِن جداً في حق رجل غير مُوحِد أو غير مُؤمِن أو إيمانه مُختَل ومن ثم يسود الأرض ويتمكن وأنت لا تتمكن، ومن ثم قد تقول لي أن هذا هو معنى العبارة المشهورة التي تكلَّم فيها ابن تيمية وحتى الفخر الرازي وقيل هى أثر لكنها لم تثبت عن رسول الله وهى أن المُلك يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم، وعودوا إلى آخر سورة هود للآية المائة وسبعة عشر التي يقول فيها الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، فهو لم يقل حتى صالحون وإنما قال مُصْلِحُونَ ۩، وهى عبارة أدق من صالحون من مُصلِح ويُصلِح، هذا هو الصلاح الدنيوي، فالإصلاح يكون بالصلاح الدنيوي، وأما الصالح فهو صالح ومُصلِح طبعاً بالصلاح الأخروي أيضاً، لكن ماذا قال الفخر الرازي؟ نأتي الآن لكي نُفسِّر الآية، قال الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ ۩، فهل كلمة بِظُلْمٍ ۩ تعود على فعل الله أم على فعل العباد؟ المعنيان مطروحان، فمنهم مَن قال تعود على عمل الله ، ويُصبِح معنى الآية وما كان ربك ليُهلِك القرى ظالماً لهم، فالله لا يظلم لقوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِم النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۩ ولقوله أيضاً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩، فهذا المعنى الأول، أما المعنى الثاني وهو معنى أهل السُنة والجماعة – هذا تفسير أهل السُنة والجماعة – أنها تعود على أعمال العباد، فقالوا وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ – غير المُؤمِنة وغير المُوحِدة وغير المُسلِمة لله – بِظُلْمٍ ۩ واختُلِفَ في هذا الظلم، طبعاً والأرجح أنه الشرك، أي ما كان ربك ليُهلِك قرى مُشرِكة، فهذا عن الناس الذين أشركوا وكفروا بالله تبارك وتعالى، لقوله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩ ولقوله أيضاً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ۩، ففُسِرَ بالشرك، أي أتى بإيمان وتوحيد من غير شرك وليس ظلم النفس كأن يترك ربما فرضاً أو كأن يسب أحداً أو ما إلى ذلك، فهذا شئ ثانٍ، وهذا يُرجَّى له الغفران – إن شاء الله – بالتوبة، أما الشرك مَن وفى به ينتهى بالنسبة له كل شيئ لقول الله لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ۩، إذن وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ – بشركها – بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، يقول الفخر الرازي مُصلِحون فيما بينهم لأنهم يتعاطون الإنصاف، أي العدل، فهم يعدلون ويُوجَد عدل كما نرى الآن في حال الأمم غير المسلمة، فهم عندهم عدل أكثر مننا بكثير، ويعدلون حتى مع المسلمين أنفسهم – سبحان الله – عدلاً أحياناً يُبكي المسلمين، فيُقال ما هذا العدل؟ عدل عجيب جداً، أحدُ الناس المُعارِض لدولته طلبته الدولة وقالت نحن نُريد هذا المُعارِض فأعطونا إياه، وطبعاً – ما شاء الله – لو أُعطِى معروف ماذا سيُفعَل به، لكنهم قالوا أعطونا إياه، وإذا لم تُعطونا إياه سنلغي الصفقة الفلانية، وهى صفقة بمليارات، لكن لم يحدث هذا لوجود فصل بين السُلطات، وهذه هى الديمقراطية الحقيقة، حيث يُوجَد فصل بين السلطات، ولايقدر لا رئيس الدولة ولا الملك ولا رئيس البرلمان على أن يتدخل، فلا يُمكِن لأحد أن يتدخل أبداً، وجاء القضاة ودرسوا هذا الملف الخاص بهذا الرجل وقالوا هذا لا نُسلِّمه، هذا الرجل بريء وسوف نُعطيه الجنسية ويبقى لدينا هنا إلى النهاية، فهذا شيئ يُبكي، ولذا بكى المسلمون في ذلك اليوم، هذا شيئ عجيب، فما هذا العدل الذي لديكم؟ فهم قالوا لهم نحن لا نُريد ملياراتكم وسوف يبقى الرجل هنا وقد أعطيناه جنسية البلد على أنه مُعارِض شرس وعنيد، فلكم أن تتخيَّلوا هذا، لكن هذا هو العدل، ومن هنا يقول الفخر الرازي أو كما قيل أنه في الأثر المُلك يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم، إن الله ليقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم – يُقوِّض – الدولة الظالمة وإن كانت مُؤمِنه مُوحِدة، يا الله، هذا شيئ عجيب وخطير، لكن هذا له علاقة بالصلاح والإصلاح، فقبل أن نتحدَّث عن الصلاح والإصلاح ونحن مُؤمِنون صالحون لابد أن نفهم هذه الأشياء، في رأس الصلاح والإصلاح يجب أن نسير في خُطط المعدلة والعدل والإنصاف، وهذا العدل يكون بمعناه المُطلَق الذي لا يقبل التنسيب، أي عدل في القريب والبعيد وفي الحبيب والبغيض وفي المُؤمِن والكافر وفي السلم والحرب، وآي الكتاب دلت على هذا، قال الله يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩، يا الله، فلابد أن تعدل وأن تقول الحق ولو على نفسك، وطبعاً نفسك أقرب شيئ إليك، فهى أقرب من نفس أبيك وأمك إليك وأقرب من نفس أهلك وإخوانك وخلانك، ومن ثم يجب أن تعدل حتى في نفسك وأن تقول أنا البادئ وأنا الظالم، نعم القضاء حكم لي وحكم عليه لكن أنتم لا تعرفون ما حصل، أستغفر الله فقد كنت أنا الظالم وأنا البادئ وأنا عائد عن ظلمي، الله أكبر، ولذا أنا أقوللك أن مثل هذه الأفعال قد تدخلك الجنة بضربة واحدة بإذن الله تبارك وتعالى، لأن هذا هو العدل، وهذا معنى أن بالعدل قامت السماوات والأرض، فأكثر شيئ يُبغِضه الله هو الظلم، وأنتم رأيتم الآن هذا، ونحن الآن فرغنا من نقل معنى كلام الفخر الرازي رضوان الله عليه وقدس الله سره، فهذا معنى كلامه، الله يقول حسب هذا التفسير – وهو تفسير أهل السنة والجماعة خلافاً للمُعتزِلة – أنا قد أسكت وأُمهِل – هذه خُطة إمهال لكن طبعاً من غير إهمال – المُشرِكين الوثنيين الظالمين أنفسهم بالشرك إذا كانوا يتعاطون المعدلة وإذا كانوا مُصلحين بالإنصاف والعدل، فأنا أتركهم وأمهلهم لكنني لا أُمهِل المُوحِدين إذا كانوا ظلمة، ومن هنا قد تقول لي هذا – والله – يُمكِن أن يكون سبب البلاء الذي نحن فيه اليوم – هذا قرآنياً وهذه فلسفة قرآنية – البلاء الذي فيه الأمة العربية والإسلامية اليوم وهذه الحروب والمذابح والتفجيرات، لأنها أثر من آثار الظلم الذي فشى فينا، وهذا لا يقتصر فقط على ظلم الحُكام لنا – لا والله وإن كانوا ظلمونا ظاماً كبيراً طبعاً، هدانا الله وإياهم وأصلحنا وإياهم – ولكن يشمل ظلمنا لبعضنا البعض أيضاً، فحتى بعض المشائخ وأهل العلم وأهل الدين عندهم ظلم وبهتان وفجور وتنابذ وتراشق بالتكفير والتبديع والزندقة والعمالة، وهذا شيئ فظيع مُخيف، وهذا ظلم رهيب لدينا، فلا تشعر أنك تعيش في أمة لديها حس العدل ولا تشعر بحس عدل حقيقي، وقد يُهدَم الرجل ويُهدَم الشيئ ويُهدَم المبنى بخطأ بسيط، فمن المُمكِن أن يكون هذا هو سبب هذا البلاء كله، والله الآن سيُهلِكنا لأن هذه سُنة قدرية وهذه مدلول عليها بلسان الشرع أيضاً، وطبعاً هذا شيئ قدري لأننا لا نسير في خُطة العدل، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.

انظروا إلى الشيئ الجميل الذي سنقوله الآن، فنحن قلنا أن عندنا الإحياء وعندنا الرحمة وعندنا الإصلاح وعمل الصالحات والسلام – تحدَّثنا عن قول الله يُفسِد ويسفك – وما إلى ذلك، لكن العجيب أننا قلنا أن هذه الأعمال الصالحة تُفسَّر كأثر لمقصد الإحياء، والقرآن صرَّح بهذا، وهذا أمر عجيب، لكن أين صرَّح بهذا؟ قال الله مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩، وهذا أمر عجيب، فنحن رجعنا إلى الإحياء مرة أُخرى، الله يقول الإيمان مع الأعمال الصالحة – هذا هو الإصلاح الحقيقي وهو الذي يشمل الإيمان مع الأعمال صالحة – يُساوي ماذا؟ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩، فعُدنا إلى مقصد الإحياء، لذا ألا تُلاحِظون أن هناك خُطة حقيقية مقاصدية في القرآن الكريم بهذه الطريقة؟ هذهخُطة واضحة مُحكَمة وشديدة وحسنة الحبك والنسج، فهى منسوجة ومحبوكة بطريقة ربانية، لأن هذا كلام الله، ولذا أعتقد أن هذا الترتيب من المُهِم جداً أن يُراعَى، لكن – كما قلت لكم – قد يتنقد عليا بعض الناس، وهذا جميل جداً ومطلوب، فقد يقول لي أحدهم هناك مقصد أعم – مثلاً – من هذا المقصد وأنا أقترحه الآن، وهذا جيد ولذا نُريد أن نرى هذا ونُريد أن نرى إحدى الآيات التي تُفسِّره، وهذا يأتي بالاستقراء – استقراء الآيات – وحُسن قرائتها، فإذن الإصلاح يدخل بلا شك بنص هذا الآية في الإحياء، إذن هو أثر من آثار مقصد الإحياء الذي هو أثر من آثار مقصد الرحمة التي هى رأس مقاصد الشرع الكريم، قال الله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩.

الآن نأتي إلى مقصد العدل، فأي المقصدين ترونهما أكثر عمومية وشمولية: الإصلاح أم العدل؟ قطعاً الإصلاح، فالعدل سيكون مصداقاً من مصاديق الإصلاح، فإصلاح الأرض هذه يكون بالعدل، لأن – كما رأينا قُبيل قليل ونوَّهنا – أمور الناس لا تنتظم إلا بالعدل، فإذن الحياة لا تصلح إلا بالعدل، وفي الأثر بالعدل قامت السماوات والأرض.

القرآن الكريم – أنا ذكرت هذا قبل ليلتين ولكن الآن هذا موضوعه العتيد إن شاء الله – أشار بطريقة جميلة ولا أجمل – هذه طريقة الرب لا إله إلا هو وجل وعز في مجده وعليائه – إلى أن نظام الكون محكوم بمعنى الاتزان، فهو مُتوازِن لأن فعلاً يُوجَد اتزان رهيب، واقرأوا في علم الفلك واقرأوا عن المجرات وكيف أنها تتداخل أو يتداخل بعضها في بعض، فهناك مئات مليارات النجوم تدخل في مئات مليارات النجوم، فهذا شيئ عجيب، ولك أن تتخيَّل هذا، فكل شيئ يحدث بدقة وكل شيئ له قانون، قال الله وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، فيُوجَد ميزان حقيقي واتزان – Balance – حقيقي كما يقولون، ومن ثم الكون مُتزِن فعلاً بفضل الله تبارك وتعالى، وحياتنا البشرية هنا لا يُمكِن أن تنهض إلا على أساس من الاتزان الكوني، فلكم أن تتخيَّلوا لو أن الأرض حول الشمس تسير بسرعات غير مُنتظَمة، ماذا سيحدث لنا هنا على الأرض طبعاً؟ وماذا سيحدث للمواقيت والمواعيد؟ هذا شيئ غير مُحتمَل بالمرة، لكن الآن لدينا اليوم فيه أربع وعشرين ساعة وكل ساعة فيها كذا وكل كذا فيه كذا وما إلى ذلك، فهذا كله دقيق جداً، لماذا؟ لوجود حركة مُنتظَمة دقيقة لا تتفاوت بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا هو النظام الكوني، والذي يحفظ استقرار الكون هو الميزان، والسؤال الآن هو هل يُمكِن للمُجتمَع أو للهيئة الاجتماعية أو للاجتماع الإنساني أن يتوصل إلى ميزان يستقر به الاجتماع الإنساني استقرار الكون فيُصبِح صورة أخرى من الاستقرار -استقرار حقيقي – ويأمن الناس والكل يأخذ حقه؟ هذا مُمكِن شرعاً طبعاً، فالله يقول شرعاً هذا مُمكِن، ونحن مدعوون إلى تحقيق هذا الميزان عبر تطبيق وفهم شرع الله كما أراده الله، لكن هذا طبعاً بالفهم المقاصدي الغائي وليس بالفهم الحروفي الفقهي المُجَزِأ المُتجَزِئ المُتشظي والمُتناسِخ – الناسخ وهذا المنسوخ وإبطال العمل بالأشياء – طبعاً، فهذا شيئ أشبه بالهوى وبخُطة الهوى، والهوى عكس الميزان، قال تبارك وتعالى وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ – الهوى غير الميزان – لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ۩، إذن يُوجَد ميزان، فميزان الذهب – مثلاً – لا يُمكِن أن تضع فيه شيئاً يزن عشرة جرامات فقط فيقول لك هذا يزن خمسة جرامات اليوم، فالعشرة جرامات دائماً ما تكون عشرات جرامات، وإذا وضعت فيه مائة وخمسة جرامات سوف يقول لك هذه مائة وخمسة جرامات ، لأنه ميزان والميزان لا يتحيز لأحد، وعكس الميزان الهوى، فيُقال لك هذا اليوم عندي بخمسة وغداً عندي بخمسين وحين أُحِبك أرفعك إلى السماك الأعلى وحين أُبغِضك أسخطك وأخسف بك سابع أرض، فهذا هوى، ومَن يقول هذا هو إنسان أهوائي ويميل مع أميال نفسه والعياذ بالله، لكن الله ماذا يقول؟ يقول أنا أقود وأُدبِّر هذا العالم بالميزان – وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ – وليس بالهوى، لأنه لا هوى لله تبارك وتعالى، ولا بأهوائهم كما يقترحون، ولذا يقول الله وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ۩- فإذن عُدنا إلى خُطة الإصلاح – السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ۩، وهذا شيئ عجيب وشيئ تقشعر له الأبدان، فإذن يُوجَد فساد ويُوجَد صلاح وإصلاح، ومن ثم عُدنا إلى خُطة الصلاح، فهذا يأتي بعد هذا بحسب هذا الميزان، فالعدل يأتي بعد الصلاح والإصلاح مُباشَرةً، ولذا هذا يُفسَّر بهذا وهذا يُفسِّر هذا، ومن هنا قال الله لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ۩۩، فإذن الله يقول إذا أرداتم لاجتماعكم البشري أن يتزن فلا يختل وأن يستقر فلا يتقلقل ابحثوا عن الميزان وأعملوه وشغلوه، فقد قال هذا هو لكن أين؟ قال وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩، فالله يقول يُوجَد ميزان يخصكم، ويُوجَد ميزان يخصني، لكن هذا الميزان الذي يخصني أنا كفيل به، فالشمس والقمر والمجرات وما إلى ذلك أنا كفيل بها، وحتى ميزان جسمك – كيف يتحرك وكيف يتفاعل، أي فسيولوجيا الجسم وإلى آخره – أنا كفيل به، لكن علاقتك بالآخر – أياً كان هذا الآخر سواء كان فرداً او جماعة – ميزانك أنت، فابحث عنه وسوف تجده في وحيي وفي شرعي فأقمه، قال الله أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ۩، فهو يُراوِح بين الحسي وبين المعنوي وبين ما هو قريب من المُجرَّد وبين ما هو قريب من المادي المحسوس حتى يُثير فينا الفكر والاستبصار، فهذا نوع من الإثارة، قال الله لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، يا الله، فإذن يُوجَد ميزان، هذا ميزان كوني وهذا ميزان شرعي، فالله يقول أنا أردت منه أن يكون ميزاناً ينفي الهوى البشري وينفي أن تميلوا مع أميال نفوسكم بل أن تُكيفوا أنفسكم وتصاريف أحكامكم مع الميزان وليس العكس، وهذا معنى أن الله يقول وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ۩، و إلى الآن لا يُوجَد مقصد لأن هذه تهيئة وهذه مادة، فما هو المقصد؟ المقصد يمثل في قوله لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، يا الله، فالمقصد هو العدل، والميزان هو أس العدل ومادة العدل وما يُهيء للعدل وما يُنتِج العدل، ولذا نقول الآن مرة أخرى على المسلمين أن يُبدئوا وأن يُعيدوا وأن يُفكِّروا كثيراً في موضوع العدل.

يجب أن أتوقف الآن وإن كان هذا كله بمثابة تمهيد للموضوع، لكن – إن شاء الله – سنُكمِل مرة أُخرى على أنني كنت سآتيكم في الجزء الثاني بمقاصد كثيرة مُتفرِّعة من هذه أو مقاصد بحيالها وهذه المقاصد كلها بنص الكتاب مقاصد رحمانية، لأن كتاب الله – تبارك وتعالى – هو الذي يُبرهِن لكم هذا، فالقرآن يقول لك هذا لأنه رحمة وهذا لأنه رحمة وهذا لأنه رحمة وهكذا، فهذا شيئ عجيب عجيب عجيب، ولذا في النهاية سوف تجزم قاطعاً مُوقِناً بأن أم المقاصد فعلاً هى الرحمة وأن هذه الشريعة ما جاءت إلا لتكون رحمة، وهذا سنتركه الآن وربما نتحدَّث عنه – إن شاء الله – هناك في مسجد الشورى – بعون الله – في خُطبة جمعية أو ما إلى ذلك لكي نصل هذا بهذا.

إذن أكتفي بهذا القدر، وشكر الله لكم على حُسن استماعكم جميعاً وبارك الله فيكم.

(يُتبَع الجزء السادس)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: