إذن ماذا نستفيد من هذا؟ إذا حدَّدنا هذه الغاية هل فعلاً يُمكِن لهذه الغاية وهى الله – تبارك وتعالى – أن تُلهِم الأحياء وأن تُلهِم المُؤمنين شيئاً يجعلهم شيئاً مُختلِفاً ويجعلهم بشراً مُختلِفين عن الآخرين وأكثر جدارة بالحياة وتجعلهم مُرشَّحين لأن يجعلوا الحياة مكاناً أكثر صلاحيةً للعيش، أي للعيش المُتراحِم وللعيش الكريم والعيش المُبدِع والمُضيف؟ طبعاً بلا شك سوف يضح هذا من خلال النُقطة الثانية،وأعتقد أن تحديد الغاية على هذا النحو البسيط والواضح والمُلهِم – بإذن الله تبارك وتعالى – سيُفضي بنا إلى الحديث عن مقاصد الخلق، أي مقاصد الخالق – عز وجل – من الخلق ومن الإنسان ومن هذا الجنس أو النوع الآدمي، وهذه المقاصد – كما تعلمون جميعاً وجمعوات – يرى التسالم تقريباً من مئات السنين، من أيام الراغب الأصفهاني وربما حتى من قبل على أنها مقاصد الاستخلاف والاستعمار والعبادة، قال الله إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ۩ وقال أيضاً هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩ فضلاً عن أنه قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩، وهذه المقاصد يبدو أن العلاقة بينها أكثر قوة ومتانة مما يبدو لأول وهلة، وهذه المقاصد الثلاثة – مقصد الاستخلاف ومقصد العمارة ومقصد العبادة – أقترح أنها تمدنا بإمكانية بَلْوَرَة منظور للأوامر القرآنية وللأوامر الإلهية، وهو منظور مقاصدي، بحيث نقول هناك طائفة من الأوامر القرآنية هى أوامر استخلافية، تنظر إليك من زاوية الخلافة ومن زاوية كونك خليفة الله، هناك أوامر استعمارية أو عمرانية، وهناك أوامر تعبدية أو عبادية، كيف؟ الآن العلاقة بين الاستخلاف والعمارة والعبادة تجري على هذا النحو أيضاً المُبسَّط جداً، الخلافة أو الاستخلاف بما هو يُشير أو يُؤشِّر إلى الإبداع عبر إنجاز مُهِمة الفهم والبحث والدرس ثم بعد ذلك التسخير والارتفاق، ويتعلَّق بالتسخير والارتفاق الإبداع والإضافة، وفي الحقيقة هذا ما يفعله هذا النوع الإنساني، وهذا شيئ غريب، لكن هذا ما يفعله الإنسان دون أن يدري ربما بهذا الإطار العقدي له وهذا التصور القرآني له، لكن حين يفعله واعياً به وواعياً بمثاره وبمبدئه يختلف الحال ويختلف التفاعل معه، فالإنسان فعلاً من أهدافه العُليا ومن نشاطاته المُقدَّرة والمشكوَرة والمُتواصِلة عبر القرون تلك المُتعلِقة بفهم هذا الوجود فهم نفسه والعالم من حوله، ثم بعد ذلك أتى ارتفاق هذا العالم ودخلنا الآن في التسخير، فارتفاقه والانتفاع به مُسخَّراً له لا يتم إلا عبر تفكيك شيفرة هذا العالم – كود Code هذا العالم – وقوانين هذا العالم، والعجيب أن القرآن أشار إلى هذا بطريقة مُعجِزة إعجازية، لكن قد يقول بعض الناس نحن في الحقيقة الذين نجحنا في ابتداع واختراع كثير جداً من المُخترَعات والآليات التي جعلت حياتنا أكثر سهولة وأكثر مرونة وأكثر إنتاجية فأين التسخير هنا؟ طبعاً أنت لم تُفلِح في أن تفعل هذا إلا عبر قوانين التسخير، أولاً لأن الطبيعة معقولة، وأينشتاين Einstein عنده كلمة مشهورة جداً جداً يقول فيها أكثر شيئ عصي على الفهم – بخصوص طبعاً العاالم الطبيعي وبخصوص الوجود والعالم – هو أن هذا العالم قابل للفهم، ولا جواب لهذه المُلاحَظة العبقرية من أينشتاين Einstein طبعاً إلا بأن هذا العالم المعقول الذي وصفه السير جيمس جينز Sir James Jeans وآرثر إدينجتون Arthur Eddington أيضاً بنفس المنطق فكرة أكثر منه جسماً، فهذا العالم هو فكرة حقيقية، والعقل يتخلق كل هذا العالم، وطبعاً هذا يُمكِن تفسيره ببساطة، لأنه عالم مصنوع مُبدَع مخلوق مُقدَّر لله لا إله إلا هو، مصدر العقل ومصدر الوعي ومصدر الإدراك ومن ثم طبيعي أن يكون كذلك، وأينشتاين Einstein كان ذكياً جداً حين لاحظ هذه المُلاحَظة التي تقول أن أكثر الأشياء صعوبةً على الفهم والإدراك أن هذا العالم قابل للإدراك، فلماذا هو قابل للإدراك؟ لأنه عالم مُدستَر وعالم مُقونَن ومحكوم بدساتير دقيقة وبقوانين، قال الله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩ وقال أيضاً وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، والقرآن في آيات يذكر ويُقرِّر أن البحر مُسخَّرٌ لنا لكذا وكذا وكذا ولتجري أيضاً الفُلك فيه بأمره لا إله إلا هو، فإذن البحر مُسخَّر من أجل أن تجري الفُلك، وفي آيات أخرى الفُلك مُسخَّر لنا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ۩ ، فهذا واضح هنا، هذا هو قانون التسخير، مع أن الفُلك من صنع الإنسان، فالفُلك ليس كائناً طبيعياً موجوداً في الطبيعة، هو إبداع إنساني، هذا الإبداع لم يكن ليكون لولا ما سمحت وتسمح به قوانين الوجود ذاتها، فهذه قوانين الوجود، ولا معنى لصناعة الفُلك بغير ماذا؟ بغير قوانين الطفو وبغير القوانين الحاكمة على الماء، ولذلك البحر مُسخَّر لكي يسير فيه الفُلك ولكي تجري فيه الفُلك، أي السفين أو السُفن، لكن في نفس الوقت أيضاً هذا الفُلك وهذا السفين مُسخَّر ليجري في البحر بالقوانين أيضاً التي يعرفها المُنشئون والمُهندِسون الذين يصنعون هذه الأبدان والأجسام الضخمة التي تطفو على سطح الماء، فهذا قانون التسخير وهذا له علاقة بالاستخلاف.

الخليفة الذي أُعطِى أمانة الخلافة في هذه الأرض قادر على أن يفهم وقادر على أن يتعاطى مع ما استُخلِفَ فيه وقادر على أن يرتفقه وأن يستفيد به مُسخَراً وقادر على أن يُبدِع ويُضيف بالتحويل وبالتركيب وبالدمج وبالإضافة وبالتشذيب والتهذيب.

محمد إقبال – كما ذكرت غير مرة – لفت نظرنا إلى أن الله – تبارك وتعالى – خلق الغابات والأحراج وخلق الدُغل لكن الله لم يخلق البساتين، لا يُوجَد بُستان طبيعي في الطبيعة، فالبُستان يصنعه الإنسان، والله – تبارك وتعالى – خلق الشمس والقمر لكنه لم يخلق – بطريقة مُباشَرة طبعاً كما خلق الشمس والقمر – السراج والضوء والمصباح الكهربائي، الإنسان هو الذي فعل هذا ولذا هو الخليفة، ولذلك تقول الآية فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، منذ القديم الفيلسوف العربي الإسلامي الشهير أبو يوسف الكندي – فيلسوف العرب المُتوفى سنة مائتين وستين للهجرة – لاحظ أن الخالق اثنان، خالق عن الحقيقة وقال ليس هو الإ الله تبارك، وهذا صحيح لأنه خالق من عدم – لا إله إلا هو – وخالق يُؤثِّر ولا يتأثر، ودائماً المسألة تسير في خط واحد، أثر من الله لا ينعكس عليه في الجهة المُقابِلة أبداً، لذا قال هذا الخالق الحقيقي، وهناك خالقيون مجازيون وهم نحن، يخلقون بمعنى يُحوِّلون ويُركِّبون ويجعلون ويُصيِّرون ويُهذِّبون ويُشذِّبون ويرتفقون، وهم يُؤثِّرون ويتأثرون، لذلك هم خالقون مجازيون، تقول الآية الكريمة فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، وأنا أقول لكم أن هذه الآية فيها دغدغة لغرور الإنسان وفيها مواساة، الرب الجليل يربت على أكتافنا ويُدغدِغ غرورنا ويقول أنتم خالقون بمعنى من معاني الخلق، وهذا المعنى المجازي الذي اهتدى إلى طرف منه الفيلسوف الكندي مثلاً، وهذه الدغدغة التي تُرضي غرورنا هى التي أطلقت لسان إقبال بالقول ربي أنت خلقت الدُغل وأنا خلقت البُستان – يُخاطِب الله – وأنت خلقت الليل والظلام وأنا خلقت المصبح، فهو يقول هذا وهو يعلم طبعاً أنه خلقٌ مجازي، وهذا الخلق المجازي وهذا الإبداع وهذه الإضافة وهذه القدرة على الارتفاق والتسخير كلها تتعلق بالإنسان خليفةً، إذن إذا وجدتم في القرآن الكريم أوامر تهدف إلى هذا ويُمكِن أن يكون الصدع بها والعمل بها ناهضاً بمُهِمة إنجاز هذه المهام العظيمة الجليلة – مثل الإضافة والإبداع والارتفاق والتركيب والتحويل والتصيير وإلى آخره – فاعلموا أنها أوامر استخلافية، وقد يقول لي قائل على مُستوى أكثر معنويةً لدينا العدل – تحقيق العدل مثلاً – الذي هو كالميزان، فالعدل ضمن الاجتماع البشري ميزان كالقانون الطبيعي في الوجود المادي، تقول الآية الكريمة وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ۩، مُباشَرةً الله يُحوِّل من هذا التوازن الطبيعي إلى التوازن الاجتماعي، وهذا هو مفهوم العدل، ومن هنا قال الله لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ۩، إذن هذا ميزان الهئية الاجتماعية، فميزان الشرع هو ميزان، كما أن الكون وكما أن الطبيعة وعالم الطبيعة محكومة بميزان، فهذا ميزان وهذا ميزان، ولابد دائماً من المُوازَنة بين الميزانين، وكما استقر الوجود بالميزان ينبغي أن يستقر الاجتماع البشري ولا يستقر إلا بهذا الميزان، لكن هذا الميزان هل هو مُعطىً للإنسان ناجزاً؟ هل أُعطِى له ناجزاً على وجه النجوز أم على الإنسان أن يستعمل دائماً فكره وحدسه وبصيرته مُستضيئاً أولاً طبعاً وأصالةً بأضواء الشرع؟الاحتمال الثاني طبعاً، لذلك العدل عملية صعبة جداً، ومسألة القضاء وتولي القضاء والعدل القضائي – مثلاً نفترض – يحتاج إلى إبداع ويحتاج إلى الخليفة، لأن الخليفة يُؤشِّر إلى الإبداع، وابن القيم الجوزية عنده كتاب رائع جداً إسمه الطرق الحكمية، وهذا الكتاب مبني على مقولة واحدة وفكرة الكتاب فكرة جميلة جداً ونبيلة تقول باختصار ليس بالضرورة أن نصل إلى ما يُحقِّق العدل عبر فقط النصوص الشرعية وعبر ما نص عليه الشرع، بل يُمكِن أن نُحقِّق العدل بأشياء أخرى كثيرة موكولة إلى اجتهادنا، والكتاب ملآن وغاص بالأمثلة التي تُؤكِّد هذا، وهذا شيئ عجيب، فليس بالضرورة أن نلتزم ما أتت به النصوص الشرعية لتحقيق خُطة المعدلة أبداً، لكن يُمكِن أن نلتزمها ونلتزم أيضاً ما يُوحي به العقل والحكمة والتجربة والاستقراء، ثم أتى بأمثلة كثيرة، فالكتاب مُبدِع لهذه الجهة بالذات، ولذلك تحقيق الاتزان وتحقيق العدالة أو المعدلة في الهيئة الاجتماعية يتبع ماذا؟ يتبع الخلافة، فالأوامر هنا تكون أوامر خلفية، تقول الآية الكريمة يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ ۩، وهذا أمر عجيب، لكن هذا لأنك خليفة، والخليفة منذور للإبداع، فعليك أن تُبدِع دائماً بكل حيلة، وطبعاً قصص القضاة الأذكياء كثيرة مثل سليمان النبي – عليه السلام – في قصة حُكمِه بين المرأتين، وقُضاة المسلمين قصصهم بالمئات أو بالمئين تُؤكِّد هذا، فهم استثمروا ذكاءهم الفطري وقدرتهم البصيرية الحدسية لتحقيق العدل واستخراج الحق من بين فروع الباطل ومن بين شذور الباطل، فهذا هو الخليفة إذن!

هناك العمارة، والعمارة تتبع الخلافة، هى مُتواشِجة معها لكنها تتبعها، بهذا الدرس وبهذا الدرك وبهذا البحث وبهذا الفهم وبهذا الإبداع والإضافة تتحقَّق الآن العمارة، والخلافة تُوفِّر المادة التي يشتغل عليها المُعمِّر، وتأتي العبادة بعد ذلك، لكن انتبهوا إلى أن هذا يُقال فقط في الرُتبة، لكن في العمل وفي الأمر نفسه كلها مُتزامِلة مُتزامِنة، العبادة ليست شيئاً يتلوا هاتين المرحلتين بل يتخللهما، كما يقع النشاط الروحي – كما قلت لكم – في طول النشاط المادي والدنيوي – في طوله لا في عرضه – أيضاً، ولذلك أنت تقوم بإنجاز مهام الخليفة أو مهام الخلافة ومهام العمارة مُحقِّقاً العبودية، لأن هذا جوهر عبوديتك، لقد ضل ضلالاً بعيداً من ظن من المسلمين – وهم كُثُر للأسف في كل زمان ومكان – أن العبادة لا تكون إلا بمُجافاة الحياة والانسحاب من دنيا الناس والإنزواء بُعداً عن الفتن والمعاصي وما يُوحي بالانغماس في الدنيا وشهواتها، ولذا هم ضلوا ضلالاً بعيداً، ومن هنا أنا أقول لكم أن هؤلاء لم يُعظِّموا نصيب الروح، بالعكس بخسوا الروح حقها، فالروح لا تتألق ولا تشتعل إلا عبر إنجاز مهام الخلافة ومهام العمارة، هذا هو الإنسان الذي أراده الله، لكن هل يظن هؤلاء وأمثالهم أن الله – تبارك وتعالى – فعلاً أرادنا أن نتخلى عن ماهيتنا الإنسانية لنُحاوِل أن نلتحق بماهية ملكية؟ قد كان يمُكِنه أن يخلقنا أملاكاً، وقد خلق الأملاك وهى موجودة – هناك ملائكة كُثُر – بالفعل، أليس كذلك؟ وهذه لا عندها مهام استخلافية ولا مهام عمرانية أبداً، عندها مهام عبادية محضة ومن ثم يُسبِّحون ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يفترون فقط، لكن نحن لسنا ملائكة، نحن الكائن الذي كان مسجود الملائكة، قال الله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، فهذه النفخة من روح الله، وطبعاً هذه النسبة نسبة تشريف وليست نسبة تدل على التبعيض والجزئية، نعوذ بالله فهذا تجسيم وإلحاد، لكنها نسبة تشريف مثل بيت الله وناقة الله وإلى آخره، إذن الله يقول وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، وأعتقد أن هذه النفخة هى النفخة التي جعلت الإنسان الخليفة وعامر الأرض والعابد الحقيقي لله بمعنى مُتميز جداً للعبادة، ومن ثم يجد نفسه عبر إنجاز مهام الخلافة ومهام العمارة!
إذن نُقطة التوازن التي يحصل معها الرضا والسعادة للفرد وللجماعة – الرضا الحقيقي والسعادة الحقيقية – لا تكون إلا بهذا الإطار التصوري، وطبعاً لابد أن نُجاوِّز التصور بعد ذلك إلى العمل وتدبير شؤوننا عبر هذا الإطار المعتقدي التصوري، فنُقطة التوازن تكون هنا، التوازن بين عمل الدنيا والمهد أو التمهيد للآخرة – فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۩ – لا يكون إلا بهذه الطريقة، لا يُمكِن ولا يصح قرآنياً أن يعتقد المسلم أنه يُمكِن أن يقترب من الله تبارك وتعالى وأن يكدح إلى الله عز وجل مُنزوياً مُنسحِباً من الدنيا، الله سوف يقول له بماذا أتيت؟ أنت لم تأت بشيئ، أنت فاشل تماماً وأنت خالي الوفاض طبعاً، أنت لم تتقرب أصلاً إلىّ لأن هذه ليست طريق القُربة إلىّ، طريق القُربة إلىّ عبر الخُطة التي رسمتها أنا وليست الخُطة المُريحة السهلة التي أردتها أنت، طبعاً رُغم أنه نصب في الركوع والسجود والذكر والبكاء لكن هذه الخُطة سهلة، وهذه الخُطة السهلة لم تُحقِّق الإلهية، هذه خُطة ثانية يقترحها الإنسان على نفسه، لكنها كما أعتقد لا تلتقي مع خُطة الله في نقاط كثيرة بل في أهم النقاط، وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل حين فهموا الدين، وأنا أعتقد أن الصحابة هم أكثر مَن فهموا الدين وفق هذا المنظور القرآني الصحيح، لذلك كانوا الأكثر إنجازاً والأكثر إبداعاً والأكثر عطاءاً على الإطلاق، وفعلاً كانوا يتقربون ويزدلفون إلى الله – تبارك وتعالى – عبر تحقيق هذه المهام مثل مهام الخلافة ومهام العمارة، وانظروا إلى رجل مثل عمر بن الخطاب عبقري الإسلام، الرجل العجيب المشهور بباني المُدن في الإسلام، سبع مُدن كبار على الأقل هذا الرجل خطها وأصدر أمراً ببنائها، ولذا كان لقبه باني المُدن في الإسلام، وليس فقط فاتح البلدان وما إلى ذلك، وهو مُدوِّن الدواوين وصاحب فلسفة العدل أو العدالة العجيبة والنادرة في نزاهتها وفي استقامتها في تاريخ الدنيا، فكيف هذا؟ كيف أصبح عمر ما أصبح؟ بفهمه لهذه الروح القرآنية، لكن لكي أُوضِّح هذه النُقطة يا أحبتي لابد أن أقول كيف يُمكِن أن نقترب من الله – تبارك وتعالى – وأين نطلب الله وأين نجد الله تبارك وتعالى، فهذه الأسئلة مُهِمة جداً، ولا يُمكِن لأحد أن يزعم أنه يطلب الله مُجرَّداً، أي الله – لا إله إلا هو – هو كما هو، الله في ذاته، فهذا لا يُمكِن، هذا لا سبيل لأحد إليه، أنت لا يُمكِن أن تُقارِب ذات الله كالذوات على الإطلاق من جميع الجهات، هو – لا إله إلا هو – واجب الوجود، وواجب الوجود من جميع الجهات، وأنت مُمكِن الوجود، ومُمكِن الوجود من جميع جهاتك، فلا تُوجَد أي مُناسَبة،
لا تُوجَد أي مُناسَبة بين التراب ورب الأرباب وبين الخالق والمخلوق، لكن عندك خُطة واحدة القرآن دلك عليها، وهى أنك تطلبه – لا إله إلا هو – في المجالي التي شاء بحكمته ولطفه – لا إله إلا هو – أن يظهر لنا فيها، والقرآن قال لك تستطيع أن تطلب الله في كلياته، فإذن لابد أن نبحث عن هذه الكليات، مثلاً تقول الآية الكريمة اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، فإذن لابد أن نذهب إلى كل شيئ لكي نراه من زاوية المخلوقية، ومن ثم دخلنا الآن في علم الطبيعة وعلم الفيزياء وعلم الكيمياء والفلسفة طبعاً والفلسفة الميتافيزيقية ودراسة الوجود بما هو وكل العلوم بشكل عام، قال الله اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، وقال أيضاً وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، وهذا إمعان الآن في العلوم، لأن الآن إذا قلت فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩ لابد أن تخرج من الفلسفة الميتافيزيقية وتدخل في باطن العلوم – كل العلوم – وفي رأسها علم الطبيعة والفيزياء ثم سائر العلوم المُختلِفة!

قبل فترة اطلعت على دراسة لأحد العلماء الروس العظام وكم أسفت أن مسلماً لم يكتب هذا الكتاب، علماً بأن الرجل كان يشتغل في هذا الميدان من أكثر من ثلاثين سنة، وكانت البداية مع مقالة نشرها في مجالة أثار بها تأميلاً كثيراً عند بعض الفلاسفة والعلماء الذين اطلعوا عليها، وهذا الكتاب الذي أنجزه بعد ثلاثين سنة – كتاب في حوالي خمسمائة صفحة – يُبرِز لك العلاقة العلاقات الرياضية الدقيقة المُعجِزة بين كل مراتب المخلوقات، فهو فعل هذا في خمسمائة صفحة بطريقة رياضية، وطبعاً هذا الرجل يُصرِّح بإيمانه تماماً وأن هذا لا يُمكِن أن يدل إلا على خالق وضع كل شيئ في موضعه – وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩ – تماماً، وهذا العالم الروسي الكبير من ثلاثين سنة كأنه يُفسِّر هذه الآية وكأنه يُحاوِل أن يفهم هذه الآية وقد فعل أحسن مما فعل أي عالم مسلم أو مسيحي أو يهودي، فهو طبعاً قد يكون مسيحياً – لا أدري دينه – وقد يكون بدأ مُلحِداً حتى – لا ندري – لكن انتهى إلى مُؤمِن وثيق الإيمان بالله عز وجل.

تقول الآية الكريمة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، فإذن لابد من البحث عن الله في الجمال، في جمال الوجود وجمال الطبيعة وجمال المرئيات وجمال المسموعات – مثل النغم واللحن والإيقاع والموسيقى والشعر في إيقاعه والكلام والألحان – وجمال الوجود وجمال الروائح، أي الجمال المُطلَق، فالله يقول لك ابحث عني في الجمال، لكن هل لنا فلسفة في الجمال؟ هل لنا نظريات حقيقة في الجمال يُمكِن أن نُصدِّرها للعالم؟ نحن لا نعتني بهذا كثيراً مع أن القرآن يقول هذا، الله يقول لك هنا تجدني وهذه هى الطريقة للوصول إلىّ لأنك لا يُمكِن أن تصل إلىّ ذاتاً – لا كالذوات – أبداً، يستحيل أن يحدث هذا، ليس لك سبيل هنا، لكنك تصل عبر هذه المجالي وعبر الكليات، تقول الآية الكريمة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، وهذا من الحُسن، أي من الجمال.

ألفتكم يا أحبابي إلى نُقطة لها قدر هائل من التأثير الجواني فينا حين نلتفت إليها، فهى لها قدر هائل من هذا وتهز أوتار الروح، ما هو السر في أننا لا نشبع من الجمال؟ اسألوا هذا السؤال، نحن لا نشبع من الجمال ولا نرتوي من الجمال، علماً بأننا لا نحصل على الرضا التام بالجمال، فما رأيكم؟ من أجل ذلك أنت تقرأ – مثلاً – كتاباً علمياً مرة أو مرتين أو بضع مرات ثم تمله تماماً لكن حين تُحِب أغنية تسعمعها مئات المرات في حياتك، وأحياناً تنقضي حياتك وأنت تسمعها، كل شهر والثاني تعود تسمعها، وعظماء المُطرِّبين والمُطرِّبات الناس يسمعونهم باستمرار حتى بعد أن يموتوا، والنغم أيضاً يُسمَع على هذا النحو، واللوحات الجميلة الفنية تُعرَض باستمرار لمئات السنين والناس يتملونها، والطبيعة نفسها فيها هذا حين ترى نفسك في أحضان الطبيعة من خلال منظر طبيعي إلهي جميل تلتقي فيه السماء بالأرض وبالنبات وبالحيوان وبالمُكوِّنات مُكوِّنةً لوحة إلهية جميلة فتشعر أنك تُريد أن ترتمي فعلاً في أحضان هذا العالم وتُريد أن تحتضنه بين يديك، ولكنك أيضاً لن تشبع ولن ترتوي، فلماذا؟ تُريد أن تَجوزَه إلى شيئ آخر، علماً بأن هذا الإحساس الجمالي كما أعتقد وأزعم هو الذي دعا البشر جميعاً تقريباً في كل اللغات وفي كل الثقافات إلى أن يُبدِعوا جمال اللغة عبر أساليب المجاز، المجاز اللغوي كالمجاز الاستطيقي وكالمجاز الجمالي، فأنت تُريد أن تَجوزَه وأن تعبره منه إلى شيئ آخر، فما هو هذا الشيئ الآخر؟ هو هذا!

لماذا حين تسمع بمجاز في شعر أو في تعبير نثري عادي إنشائي أحياناً تدمع ويقشعر بدنك وتشعر بخشوع؟ ليس الموضوع بحد ذاته هو السبب ولكن الطريقة نفسها تُوحي بشيئ هو الذي جعلك تخضع لهذه المشاعر الداخلية الخشوع.

يُتبَع الجزء الثالث

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: