بدعوة من جمعية الخيرية ببلجيكا

بدأ المُحاوِر حديثه بالصلاة والسلام على النبي وآله وأوضح أن هذا اللقاء سيكون مفتوحاً لتلقي الأسئلة لكن موضوعة اللقاء هى موضوعة مُحدَّدة وذات صلة براهن العالم الإسلامي وراهن المُسلِمين، وقد عنوَّن لهذه الموضوعة بعنوان الإسلام والسلام العالمي من جديد، وأشار إلى أن منذ الخمسينيات والمُسلِمون يكتبون عن هذه الموضوعة – أي موضوعة الإسلام والسلام العالمي – مشيراً إلى وجود كتاب للشهيد سيد قطب بعنوان السلام العالمي، وأضاف أن هذا الموضوع لازال مطروحاً على ساحة العالم حيث لا تزيده الأحداث والإيام إلا تعقيداً لوجود علاقات سياسية مُتشابِكة للعالم الإسلامي مع العوالم الأُخرى وخاصة الغرب وإن كانت علاقات سياسية مُتوتِّرة، وأكَّد أن هذه العلاقات السياسية المُتوتِّرة موجودة في كل مكان في العالم، لكن حين يُوجَد غلاف ديني وتبريرات دينية لبعض الأفعال السياسية تحدث المُشكِلة، فيُنعَت دين مُعيَّن – وهو الإسلام – بشتى أنواع النعوت مثل أنه يتسم بالعنف وأن له طبيعة عنفية وما إلى ذلك، ثم تساءل عن مدى صحة ما يُقال حول الطبيعة السياسية الجامحة أو الجموحة للإسلام، وتساءل أيضاً عن مدى الزعم بأن الإسلام هو استثناء فيما يخص الشأن السياسي وفيما يخص علاقة الدين بالسياسة، وأوضح أن هذه الأسئلة وأُخرى سوف تُطرَح – إن شاء الله – اليوم على الأستاذ الدكتور في لقاء ثانٍ لا شك أنه سيكون شيقاً ولا شك أنه سيفتح آفاقاً للتفكير وآفاقاً للحوار، وقال أنه يود أن يُرحِّب قبل كل شيئ بالأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم فقام الآخر بالرد والدعاء له بالبركة، ثم سأله قائلاً: هل هناك إمكانية للحديث عن المسألة الإسلامية كما تُحدِّث من قبل عن المسألة الآسيوية أو المسألة الأوروبية؟ هل هناك إشكال أو مسألة إسلامية فيما يخص السلام في العالم؟ هل الفاعلون بإسم الإسلام اليوم هم فعلاً مَن يقضوا مضاجع الأمن في العالم من خلال الحروب الأهلية هنا وهناك والتوترات السياسية والعمليات الإرهابية؟ هل هذا مُطابِق لواقع الحال أم أن هناك مُبالَغة في التحامل على الإسلام في هذه القضايا التي لها طبيعة سياسة وتُوجَد في كل الأمكنة في العالم؟ وأخيراً تساءل هل هناك ما يُمكِن أن نُسميه بالمسألة الإسلامية في قضية العنف وفي قضية السلام في العالم؟

أخذ الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم بطرف الحديث قائلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.

أما بعد، أحبتي في الله إخواني وأخواتي:

السلام عليكم – جميعاً – ورحمة الله تعالى وبركاته، كما تعلمون إلى وقتٍ قريب بل إن شئتم إلى يوم الناس هذا أكثر اللاجئين في العالم من المسلمين، فأكثر المطرودين من ديارهم والمجني عليهم وطالبي حق اللجوء هم من المسلمين، أكثر البُقع التي تنزف فيها الدماء هى الدماء المسلمة، هذه المُفارَقة العجيبة جداً – أن يكون المسلمون كذلك وفي الوقت ذاته يُتهَمون بأنهم أظلم أهل الأرض وأكثر أهل الأرض ظلماً وعنفاً – بسبب تظهير أفعال لأفريقاء ولأنفار من المسلمين هنا وهناك هى بلا شك أفعال إجرامية وعنفية ودموية، وينبغي ألا نتردد نحن كمسلمين في وصمها وفي دمغها بما ذكرت، أي إنها أفعال إجرامية وعنفية ودموية وكارثية، وأكثر المكروثين بها طبعاً – مرة أخرى أيضاً – من المسلمين، فأكثر الذين يُعانون من هذا العنف المُنفلِت من عقاله ومن هذا العنف المجنون هم المسلمون وإن عانى بلا شك أيضاً الآخرون، لكن متى ظهرت هذه الحالة بهذا الشكل الجهير وبهذا الشكل المُثير؟ بعد سقوط المُعسكَر الشرقي، وكلنا عشنا هذا نحن والجيل الذي أتى بعدنا، وعلى كل حال هم عاشوا هذا تماماً ولاحظوه وعايشوه يوماً بيوم وسنة بسنة، حيث تم تعميد الإسلام والأمة الإسلامية كعدو، أي كعدو جديد – العدو الأخضر – وبعدها صرنا نرى هذه التقليعات العجيبة وهذه الأفعال المُجرِمة التي تتم للأسف على أيدي مسلمين هنا وهناك في شرق العالم وغربه، لكن لماذا أذكر هذا؟ أذكر هذا لأن وللأسف الشديد مِن بين المسلمين والمسلمات مَن يعيش حالة الازداوج العاطفي كما يُتحدَث عنها في علم النفس Ambivalence – – فهو من جهة ما يشعر نفسه ملزُوزاً ومُضطَراً ومدعواً أن يُنكِّر هذه الأشياء، لأنها مُنكَرة وطبيعي أن المسلم الذي يُخاطِب الله عز وجل في سبع عشرة ركعة وينعته بالرحمن الرحيم أن يكون إنساناً يضج ويستنكر العنف والدم والقتل وخاصة في حق الأبرياء لأهداف سياسية وغير سياسية أو حتى لخدمة أيدولوجيات دينية أياً تكن هذه الأيدولوجيات وأياً تكن مُبرِراتها وذرائعها، فطبيعي أن يفعل المسلم هذا، لكن في الوقت ذاته للأسف الشديد يتم تزوير وتزييف وعيه بإسم الولاء والبراء، فيقول أحدهم له هذا أخوك المسلم الذي يجمعك وإياه الإسلام ومن ثم ينبغي أن تواليه وإن ظلم وينبغي ألا تتبرأ منه وإن تعدى وأجرم، هذا باطل من القول وزور سيدفع ثمنه الإسلام نفسه كما هو حاصل الآن، فسمعة الإسلام في العالم تتآكل،وطبعاً لسنا نتشكك أو نرتاب في أنه لو سُئل أي إنسان الآن في العالم – بوذياً كان أم هندوسياً أم مسيحياً أم لا دينياً أو أياً كان – عن أكثر الأديان دموية وعنفاً وتخويفاً فإنه سيقول لك الإسلام، وهذا أمر وعجيب، فهذا عكس حقيقة الإسلام تماماً، الإسلام حتى عبر التاريخ أخذ سمعة أنه أكثر الأديان تسامحاً، حيث كان مُتسامِحاً إلى حد غير طبيعي بشهادة مئات ومئات المُؤرِّخين والدارسين من الغربيين أنفسهم، فكيف تم بقدرة قادر بين يوم وليلة وبين عشية وضحاها تطويبه كدين عنيف وكدين مُجرِم وكدين عدواني؟ للأسف هذه هى الماكينة الإعلامية، وهذا هو الإعلام الذي يفعل هذا!

هنا يتدخَّل المُحاوِر في الحديث راغباً في أن يقول شيئاً، فيسمح له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً تفضل، فيقول المُحاوِر أن هنا بالضبط قد يُقال أننا نفهم أن هناك الكثير من المبادئ الموجودة في داخل الإسلام وطبعاً تدعو للسلام، لكن نحن نعرف – مثلاً – أن الفقه الإسلامي القديم قسم العالم إلى دار الحرب وإلى دار الإسلام، فيقول له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم، ثم يُكمِل المُحاوِر حديثه قائلاً حيث كانت تُوجَد هذه العلاقة المُتوتِّرة أو الحربية مع العوالم الأخرى، وهذا ما يُزَّكي هذه التصورات أو هذه المُسبَقات عن الإسلام، فماذا عن هذه المقولات؟ هل هى مقولات ثابتة أم هى مقولات فقهية نسبية يُمكِن الاستغناء عنها؟ وهنا يرد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً شكراً على السؤال الذي سأُجيب عنه لكن بُعيد قليل ثم أفرغ من الكلمة الأولى فقط، فأنا لدي تقييد مُهِم – أي قيد مُهِم – لابد أن أُصارِحكم به يا إخواني وقد ذكرته في المُناسَبات السابقة والآن لابد أن أعيده من جديد لكي أُذكِّر به!

المطلوب من رجال الإسلام ومن العلماء ومن الوعاّظ ومن الصحفيين ومن الكتّاب ومن المُفكِّرين ومن السياسيين حتى أن يلعبوا دورهم ولا يلعبوا دور غيرهم، بمعنى أنت كعالم مسلم ويُنظَر إليك على أنك عالم مسلم لابد في نهاية المطاف أن تتكلَّم بإسم النص وبإسم الله وبإسم الرسول وباسم الإمام – أي باسم الأئمة – وما إلى ذلك، فهذا المطلوب منك لأن لا يُنظَر إليك على أنك مُحلِّل نفسي – مثلاً – أو على أنك عالم في الاجتماع السوسيولوجي Sociology كأن تكون سوسيولوجياً مثلاً، لا يُنظَر إليك هكذا أبداً، فليس مطلوباً منك وليس صحيحاً بالمرة أن تلعب هذا الدور المُزيَّف لتأتي تقول لا لهذا العنف ونحن نستنكر هذا العنف ولكن الذين قاموا به حرَّكهم الغضب وحرَّكهم التهميش وحرَّكهم التمييز ضدهم وحرَّكهم الحرمان من حقوقهم لأنهم وأنهم، فهذا ليس دورك وليس مطلوباً منك وأنت لن تُحسِن أن تقول هذا، علماً بأن هذا سيفعله غيرك من المُعسكَر الآخر، فالمُعسكَر الآخر فيه أناس كثيرون ذوو ضمائر وذوو صدقية علمية ومنهجية ومن ثم سيفعلون هذا ويقولون، ولكن أنا في الحقيقة كعالم مسلم أو حتى كمسلم فقط لا ينبغي أن أتقمص هذا الدور، فهل تعرفون لماذا؟ لأن كل ما تُقدِّمه سيُنظَر إليه على أنه تبرير ديني، وفي الحقيقة أنت أردته تبريراً سوسيولوجياً مثلاً أو تبريراً اجتماعياً أو سياسياً لكن لن يُنظَر إليه كذلك، في حين أن لو قدمه سوسيولوجي أو سياسي غربي أو غير غربي سيُنظَر إليه في إطاره الصحيح العتيد على أنه تبرير سياسي أو تبرير سوسيولوجي وما إلى ذلك، وهذا أمر معقول فلا تفعل هذا، عليك كمسلم أن تدمغ هذا الإرهاب وهذا الإجرام، لا لكي ترضي الغرب أو الشرق ولا لكي ترضي أنفاراً من الناس أو مُعسكَرات مُعينة وإنما لكي تدفع عن دينك، لأن الذي يدفع الضريبة الآن هو الدين، ولذا – كما قلت لكم – تتآكل صدقيته وتشوَّهت صورته، فضلاً عن أنك حين تفعل هذا تقوم بإلهام أيضاً الشباب المُتردِّد الحائر الذي يقف بين القبيلين وبين المُعسكَرين وبين الضفتين بطريقة خاطئة غير مقصودة بأن يكون بطلاً أيضاً وأن يأتي مثل هذه الأفعال الشنيعة لأن هناك من سيُبرِّر له، لكن علينا أن نبعث رسالة إلى أبنائنا تقول أن مَن يفعل هذا لن يكون في نظرنا بطلاً ولن يكون إذا قُتِل أو قضى شهيداً ولن نُرجِّح أنه من المرحومين، بل بالعكس سيكون مُجرِماً، سيعيش مُجرِماً ويموت مُجرِماً وأمره إلى الله تبارك وتعالى، فهذا مُهِم جداً!

آتي الآن إلى سؤال أخي عبد الواحد – بارك الله فيه – فالقضية ليست تتعلَّق فقط بدار الحرب ودار الإسلام بل هى أوسع من هذا بكثير، وسأكون صادقاً معكم وأقول أن مُجمل النصوص التي تدور على آيات القتال وآيات الجهاد ومُجمل الأحكام الفقهية ومواقف جماهير الفقهاء تحتاج إلى إعادة نظر واضحة ومُباشِرة وجريئة وذكية ومقاصدية وتأخذ بعين اعتبارها مقاصد الشرع العُليا والغايات البعيدة لهذه الشريعة الإسلامية، ونأتي – مثلاً – إلى هذه التقسيمة أو الترسيمة الشهيرة التي تتعلَّق بدار الإسلام ودار الحرب، لأن طبعاً في وهل المسلم وفي ظن المسلم عبر العصور أن العالم كله كان مُنقسِماً إلى جزئين كما سمعنا إلى ذلك الرجل الذي قال انقسم العالم إلى فسطاطين، فهم يظنون هذا ويقولون العالم كله ينقسم إلى فسطاطين: دار حرب ودار إسلام، وهذا غير صحيح، وكل ما يدل على هذه التقسيمة إنما يدل على نسبيتها وعلى خصوصيتها، فدار الإسلام – مثلاً – في يوم من الأيام كانت فقط المدينة المنورة وما اكتنفها من أنحاء، وكان يُقال هذه دار الإسلام، وبعد ذلك ستُصبِح دار الإسلام جزءاً كبيراً من بلاد العرب – مثلاً – وما حولها، ثم ستتسع باستمرار وهكذا، لكن دار الحرب ماذا كانت؟ دار الحرب – انتبهوا إلى هذا لأنني الآن دقيق جداً – لم تكن العالم ولم يكن يخطر على بال الأئمة الأوائل أو حتى الصحابة أو التابعين بالمرة أن دار الحرب هى بلاد الهند والسند والشرق الأقصى والصين وما إلى ذلك، وبعد ثمانية قرون سيأتي الإمام القرافي – الشهاب القرافي رحمة الله تعالى عليه تلميذ العز بن عبد السلام – ليطرح مسألة أصولية في مُنتهى الغموض والدقة ولكنها في غاية الأهمية، وهذه المسألة إلى الآن لا تجد من يُعنَى بها من كبار الأصوليين على أنها خطيرة جداً، وهى قاعدة أو مسألة أو قضية العموم في الأشخاص وهل يقتضي العموم في الأزمان والبقاع والأحوال؟ ثم يضرب الإمام الجليل الذي لم يفر أكثر الأصوليين فريه وفي هذا العلم مثلاً فعلاً بمُشركي أو وثنيي بلاد الهند، فهل هؤلاء تنطبق عليهم الآيات التي تأمر بقتال المُشركِين وهى آية السيف – الآية الخامسة – مثلاً؟ لا تنطبق طبعاً، وواضح أنه بعيد جداً جداً جداً أن يُقال هذا، ويشهد طبعاً لمثل هذا الفهم الدقيق الثاقب أحاديث ثابتة وقوية وصحيحة منها حديث أبي داوود والنسائي عن أحد أصحاب رسول الله الذي يقول فيه دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، على أن الحبشة كانوا ماذا؟ كانوا نصارى بل كانوا عريقين في النصرانية المُسلَّحة، فهذه نصرانية مُسلَّحة اجتاحت بعض بلاد العرب، ومعروفة قصة النصارى الحبشيين واليمن وما إلى ذلك، ومع ذلك النبي يقول دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، فإذن لا ينطبق عليهم الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة، وهى آية الجزية التي تقول قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، والنبي نفسه – عليه السلام – لم يفهم من الآية أنها إذنٌ مفتوح أو أمرٌ مُحتَّم لازم بقتال النصارى أينما وُجِدوا، وأنا سآتيكم من قريب إلى شيئ أسهل من هذا وأبسط وهو أن النبي قال أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي رواية وأن محمداً رسول الله، وذلك في الحديث المشهور الذي يُمكِن أن يُسمى بحديث السيف، فهذه آية السيف وهذا حديث السيف، وهذا الحديث – أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس – مُخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعاً وعند أصحاب السُنن من حديث أبي هريرة مرفوعاً وغير ذلك، ماذا فهم الأئمة الكبار من هذا الحديث – مثل – الإمام مالك – إمام دار الهجرة – وأبو حنيفة والشافعي؟ الإمام مالك فهم من هذا الحديث أنه ينطبق فقط على الناس الذين هم كفار قريش، لكن قد يقول لي أحدكم هذا تحريف، وهذا ليس تحريفاً، كيف يُقال هذا؟ هل نحن مَن سيُعلِّم الأئمة الآن؟ هذا فهم الأئمة الذين هم أدرى بالنص وبلغة النص منا بمراحل ومفاوز وهم يعلمون أن الناس هنا بأدلة كثيرة لا يُمكِن الآن أن يتسع المقام لكي نأتي على بعضها لفظة عامة، فالناس من ألفاظ العموم، ولكن هذا العموم لم يدخله تخصيص، وأصالةً أُريد به خصوص، ففرقٌ بين عام خُصَّ أو خُصِّص وبين عام يُراد به الخصوص من أوله من غير تخصيص، مثل قوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ ۩، واضح هنا أن القائل غير المقول له، ولو كانت الأولى عامة والثانية عامة بلا استثناء لوقعنا في التناقض والمُفارَقة، فلابد من ضرورة المُخالَفة بين القائل والمقول له، وطبعاً هى مصداق لرجل واحد، تقول الآية الكريمة الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ – واحد – إِنَّ النَّاسَ – أبو سفيان والأحزاب – قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ۩، فليس المُراد كل الناس، إذن حديث السيف – إن جاز التعبير – الذي يقول أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس يتحدث عن الموقف من أُناس في دار حرب، لكن ما هى دار الحرب؟ وما حدود دار الحرب؟ مكة بسبب كفار قريش، علماً بان هذا ما قال به الإمام مالك، ورغم ذلك أيضاً السادة المالكية الفتوى عندهم على أنه يجوز أن يُعقَّد عقد الذمة وأن تُؤخَذ الجزية من كل الكفار بمَن فيهم كفار قريش، فما رأيكم؟ على أن مالكاً قال هذا، فمالك نفسه قال هذا وهذا الذي ثبت عنه، وهذا مُهِم جداً يا إخواني وأخواتي لشبابنا الذين يأتون – كما قلت لكم – يُفجِّرون ويقتلون بإسم الجهاد وبإسم القتال ويقولون الحديث الذي يقول أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس، فيا رجل تعلم وعُد إلى تراثك وتتلمذ بين أيدي الأئمة الكبار، هؤلاء هم أئمة الإسلام وأشياخ المسلمين فتعلم منهم وافهم، لا يجوز أن تجني على دينك، فيا لله للإسلام ماذا لقيَ من أبنائه؟ يا لله للإسلام ماذا لقيَ ويلقى من أبنائه؟ فهذا يحدث بسبب الجهل والتسرع، وعلى كل حال أبو حنيفة والشافعي – رضيَ الله عنهما – قالا أن المُراد من أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس كفار الجزيرة، أي أنهما وسعا الدائرة، لكنهما قالا كفار الجزيرة وليس كفار العالم، إذن ما معنى قضية دار الحرب؟ هذه دار مخصوصة دائماً، فليس سائر العالم هو دار حرب وإنما هناك دار مخصوصة فقط، لكن لماذا الآن يُقال هذا؟ سيأتي بعد ذلك السادة الشافعية ويُدخِلون في القسمة عنصراً ثالثاً وهو دار العهد للمُوادَعة أو دار العهد، وهذا شيئ جديد، لأن نحن عندنا دار إسلام ودار حرب والآن إذا عاقد هذا الحربي المسلمين وعاهدهم ووادعهم كما فعل كفار مكة في الحديبية سوف تُصبِح مكة الآن وما حولها دار ماذا؟ دار عهد أو دار مُوادَعة، في حين أنها بالأمس قبل إمضاء المُعاهَدة كانت دار حرب، وفي لحظة واحدة تحوَّلت إلى دار عهد أو دار مُوادَعة، لذلك في صحيح البخاري ماذا يقول ابن عباس في الأثر الذي قل أن نسمعه به رغم أنه خطير ومُهِم وفي الصحيح؟ يقول ابن عباس – رضيَ الله عنهما – كان المُشرِكون مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – على منزلتين، مُشرِكون – على الاستئناف طبعاً ولو قلت مُشرِكين على البدلية جائز، فيُمكِن أن يُقال كان المُشرِكون مع رسول الله مُشرِكين – يُقاتِلونه ويُقاتِلهم ومُشرِكون يُسالمونه ويُسالِمهم، وهذا فهم صحيح وواقعي وتوصيف دقيق للواقع، فإذن لا يجوز أيضاً – مرة أخرى – بالاستناد إلى عقلية دار الحرب وما وطأ لها وما مهد لها في أذهان هؤلاء مثل آية السيف – فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩ – وإلى آخره أن نقول غير هذا، فالآية التي قبلها – أي الآية الرابعة – من سورة التوبة تُؤكِّد أن مِن المُشرِكين مُشرِكين مُوادِعون أو مُوادَعون أو مُعاهَدون ومن ثم نكف عنهم، وفي الآية التي تليها أيضاً – أي الآية السادسة – قال الله وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ۩، ثم يقول في الآية السابعة كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، فواضح إذن من سياق الآيات وسباقها ولحاقها أن آية السيف – إن كانت هى الخامسة – في المُشرِكين لا تعني بالمُشرِكين كل المُشرِكين ولا مُشرِكي العالم ولا مُشرِكي الجزيرة، وإنما تعني نفراً مخصوصين من المُشرِكين هم الذين بدأوا المُعسكَر الإسلامي بالعدوان ومردوا على ذلك وبنوا خُطتهم على استئصال الإسلام وأهله ودعوته، أليس كذلك؟ فمن حق الرسول بل من الواجب – هنا جاء الأمر بقتال هؤلاء – أن ندفع عن أنفسنا.

إذن بكلمة حتى لا نُطوِّل عليكم لأن هذه الموضوعات مُشتبِّكة وطويلة أقول أن دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد مُجرَّد مُصطلَحات واقعية سياسية مُتحرِّكة تُلاحِق الواقع وتُوصِّفه، وطبعاً في نهاية المطاف إذا أردنا أن نتعمق فلسفة هذه التقسيمات الفقهية علينا أن نسأل السؤال العتيد باستقراء النصوص الشرعية النبوية طبعاً وقبل ذلك القرآنية فنقول ما هو أصل العلاقة بين المسلمين وبين غير المسلمين؟ هذا سؤال مُهِم جداً جداً، وهو مُهِم جداً في القانون الدولي الآن، فهل أصل العلاقة الحرب ومن ثم المسلم مأذون بل مأمور بإشعالها حرباً مفتوحة على العالم حتى يستتبعهم أو يخضعهم بأداء الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ أم أن أصل العلاقة السلم بحيث أننا نكف عمَن كف عنا ونُسالِم مَن سالمنا فإذا ما بدر منه عدوانٌ إلينا وبغيٌ دافعنا عن أنفسنا؟ طبعاً هذا السؤال مُهِم جداً، وبعد ذلك إن جاءت أيه فرصة للجواب عنه سنُجيب – إن شاء الله – وسنُفصِّل فيه مذاهب السادة العلماء.

يُتبَع الجزء الثاني

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: