إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ۩ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ۩ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ۩، كما يقول – جل مجده – وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ۩، ويقول نبينا الصادق المصدوق – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – بئس مطية الرجل زعموا، ويقول شاعرنا الحكيم:

وَالدَّعَاوِي إِنْ لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا                                   بَيِّنَاتٌ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ.

فيصير صاحب دعوى عريضة في العلم دعي علم وليس عالماً، ليس عالماً بل دعي علم، وهلم جرا! ويقول الراحل – عالم الفلك الأمريكي الأشهر – كارل ساغان Carl Sagan الدعاوى الكبيرة تحتاج إلى أدلة كبيرة.

فهل يصلح أن يُقال – مثلاً – إن مكة ليست مكة؟ مكة الحجاز التي يتوجَّه إليها زُهاء مليار وثمانمائة مليون مُسلِم على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم من سُنة بمذاهبها الأربعة المعروفة وشيعة إمامية وشيعة زيدية وإباضية وإسماعيلية – كل هؤلاء يتوجَّهون إلى قبلة واحدة، على أنها قبلة المُسلِمين في البيت العتيق، في البيت الأمين الحرام، في مكة الحجاز – ليست مكة، وهذه القبلة ليست القبلة، ولا مكة الحجاز هذه هي التي بُعِث فيها محمد بن عبد الله، هذا إن كان لمحمد بن عبد الله وجود أصلاً، لأن وجود محمد مشكوك فيه أصلاً.

هذه تهريفات وتخريفات، وهذا خيال صبياني، لا نقول هذا خيال خصيب أو خيال مُجنِّح، بل نقول هذا خيال صبياني تهويمي، أشبه بالكوابيس، لكن هذا العلم وهذه الدراسة وهذا هو الاستشراق، هذا ما يُعرَف الآن بالاستشراق الجديد، وأنتم تسمعون بالاستشراق الجديد، الاستشراق الجديد فرعان الآن.

إذن هناك فرعان، الفرع الأول كان في بداية عقد الثمانينيات، أي بعد سنة ثلاث وسبعين، حين أُعلِن تقريباً وفاة الاستشراق القديم الكلاسيكي بعد زُهاء مائة وسبعين سنة من عمره، هناك القرن التاسع عشر وهناك سبعون سنة – سبعة عقود – من القرن العشرين، انتهى هذا الاستشراق الكلاسيكي التقليدي، وجاء الاستشراق الجديد، الذي تُمثِّله خير تمثيل وتقريباً تكاد تحتكر تمثيله مدرسة المُراجِعين أو التنقيحيين، أي الــ Revisionists، علماً بأن المدرسة التنقيحية سأتحدَّث عنها بُعيد قليل.

الفرع الثاني أو الجانب الثاني من الاستشراق الجديد انبثق بشكل انفجاري بالذات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويُعنى هذا الاستشراق الجديد بالإسلام السياسي وحركات الإسلام الأصولي، ومعروف طبعاً نجوم وأعلام وعمد هذا الاستشراق المعني بالفكر الإسلامي السياسي، مثل جوديث Judith Miller ودانيال بايبس Daniel Pipes، وحتى برنارد لويس Bernard Lewis تحوَّل إلى هذا الخط، مع أنه من المُستشرِقين التقليديين إلى حد بعيد جداً، لا علينا، لكن نحن الآن سنقف مع المدرسة التنقيحية، مدرسة المُراجِعين، مدرسة المُراجِعين أو المُنقِّحين.

المدرسة التنقيحية مدرسة عجيبة غريبة، طبعاً جاءت مُنسجِمة ومُستجيبة لنزعات ما بعد الحداثة، نفس الشيئ! للنزعة التفكيكية، واعتمدت التفكيكية التي لا يُمكِن أن يُقال إنها منهج، التفكيكية ضد المنهج أصلاً، لا تُؤمِن بالمنهجية، لا تُؤمِن بالمراكز وبالمُنطلَقات، لذا سوف نُسميه التفكيكية دون أن نقول المنهج التفكيكي، أي هذه كلمة كبيرة على التفكيكية، لا يُمكِن أن يُقال هناك منهج في التفكيك.

اعتمدت إذن التفكيكية يا إخواني وأخواتي، ولا أُريد أن أُطوِّل بهذه المُقدِّمة، لأن ليس هذا موضوع الخُطبة، لكن لابد من هذا التقديم حتى نُسوِّق أو نُسيِّق الأفكار التي سنُناقِشها ونقودنا لهذه الأفكار في سياقها السليم، سنُناقِش اليوم قضية واحدة فقط، وطبعاً سنُناقِش جُزءاً بسيطاً جداً من هذه القضية، مُجرَّد فتح باب للنقاش، ولذلك لابد من خُطبة ثانية، ولا نُريد أن نجعلها ثالثة ورابعة، حتى لا يتحوَّل المنبر إلى سلاسل علمية ومُحاضَرات أكاديمية، لكن لابد من هذا التسييق.

هؤلاء المُراجِعون الجُدد طبعاً دشنوا سبيلهم ودشنوا منهجهم عبر أعمال هؤلاء الثلاثة، فهناك الأمريكي الشهير البروفيسور Professor جون وانزبرا John Wansbrough، علماً بأن جون وانزبرا John Wansbrough العرب يُسمونه جون وانسبرو، وهذا غير صحيح، وانزبرا Wansbrough هو بروفيسور Professor أمريكي شهير، وكان أستاذاً كبيراً في مدرسة جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية، أي في the University of London’s School of Oriental and African Studies، وهي SOAS، كان أستاذاً هناك، وهذه طبعاً – احفطوا هذا الاسم، أعني اسم SOAS – مُهِمة جداً، هذه مُؤسَّسة بريطانية شهيرة، وطبعاً ليست في عراقة كامبريدج Cambridge ولا أوكسفورد Oxford، لكن كامبريدج Cambridge وأوكسفورد Oxford بمثابة مطابع – Presses – لها، كامبريدج Cambridge وأوكسفورد Oxford دائماً ما تطبعان لــ SOAS، تطبعان أعمالها وتقومان بإشاعة هذه الأعمال بين الناس وبين الأكاديميين، ومن هنا أخذت بعض الانتشار، على أن كبار المُستشرِقين التقليديين الحاذقين الراسخين جداً في الاستشراق والذين أوفى بعضهم على تسعين سنة في عمره – وهم مُحقِّقون معروفون على مُستوى العالم – قد كتبوا مُراجَعات أليمة وصعبة جداً وناقدة بشكل تهديمي لأعمال هؤلاء المُراجِعين الجُدد، سخَّفوها جداً، حقَّروها جداً، وهي تستحق ذلك، لأنها فعلاً ليست عملاً علمياً يُحترَم، مُجرَّد تهويمات خيال.

طبعاً ولولا أنه أُلِح علىّ من أكثر من سنة أن أتناول مثل هذه الموضوعات لما تناولتها، لأنني لا أُريد هذا، أنا تناولت موضوع الأصل السرياني والآرامي للقرآن أيضاً على عجل، ولا أُريد ولا أرغب في شغل الناس بهذه الأشياء، لكن يبدو أنها لا أقول بدأت تطفو على السطح وإنما بدأت تأخذ بتلابيب كثير من المواقع العربية، وخاصة الإلحادية والعلمانية والليبرالية والمسيحية والشانئة للإسلام والمُعادية للإسلام، وللأسف شبابنا – كما أقول دائماً – مكشوفون، غير مُحصَّنين، ويبدو أن المنابر على اختلافها – ليس منابر المساجد وإنما المنابر الثقافية – لم تُحصِّننا، لم تُحصِّن شبابنا، أمام أي شُبهات سخيفة يرتعدون، يقلقون جداً، يُزلزَلون، وبعضهم يقول لك انتهى، هذا دين أكل عليه الدهر وشرب، هذا الدين خُرافات، انتهى كل شيئ، شيئ غريب جداً!

وطبعاً هذه المدرسة التنقيحية العجيبة والغريبة تُريد الآتي، وهنا في الجوهر – كما يُقال – وفي القلب يمثل شيئ من عجرفة، أنا بالنسبة لي أشمئز منها، عجرفة تبعث على الاشمئزاز، هؤلاء – وهم قلة إلى حد ما – المُراجِعون التنقيحيون يُريدون أن يُعلِّمونا مَن ربنا، مَن نبينا، ما كتابنا، ما مُقدَّساتنا، ما محجنا وقبلتنا، وما تاريخنا، هذه الأشياء كلها لا نفهمها نحن، نحن لا نعرف ربنا، لا نبينا، لا كتابنا، لا قبلتنا، ولا تاريخنا، ولذلك يخلقون لنا أشياء جديدة عوض هذه، يخلقون لنا نبياً جديداً، كتاباً تاريخاً، تاريخاً جديداً، مكة جديدةً، وقبلة جديدة، شيئ غريب! مُنتهى العجرفة، حتى لم يعد لنا الحق بعد اليوم أن نتمثَّل أو أن نضرب المثل بالمثل الشهير أهل مكة أدرى بشعابها، لماذا؟ لأن أهل مكة المساكين لا يدرون ما مكة أصلاً، مكة هي البتراء، مكة هي البتراء في جنوب الأردن يا أخي، علم هذا ودراسات، مكة هي بتراء الأردن، عاصمة مملكة الأنباط، وليست مكة الحجاز، فأهل مكة لا يدرون ما مكة، عوض وفضلاً عن أن يدروا شعاب مكة، لا يدرون شيئاً، يجب أن تشطب على هذا المثل، تهويم غريب وعجيب جداً.

على كل حال جون وانزبرا John Wansbrough نشر في سنة سبع وسبعين – أي قبل أن ينشر الراحل الكبير إدوارد سعيد Edward Said كتابه عن الاستشراق بسنة واحدة – كتابه Quranic Studies، أي دراسات قرآنية، ودشَّن به الأمر، لكن لم يأخذ ذلك الزخم الإعلامي الذي أخذه كتاب الثنائي الدنماركية باتريشيا كرون Patricia Crone – باتريشيا كرون Patricia Crone تُوفيت في سنة ألفين وخمس عشرة، وأعتقد أن وانزبرا Wansbrough تُوفيَ قبل ذلك بنحو قليل، على كل حال لكن أيضاً هو مُتوفى – ومايكل كوك Michael Cook، كتبا هما الاثنان كتاباً أثار ضجة إلى حد ما، اسمه الهاجرية، أي Hagarism، الهاجرية!

أطروحة الكتاب باختصار أن محمداً كان مُجرَّد رجل انتحل اليهودية بطريقة فيها نوع من التحريف، لعب على عواطف اليهود الذين اضطهدتم فارس وبيزنطة بالذات، ومقدسهم أو قبلتهم – بيت المقدس – كانت تحت النفوذ البيزنطي أو الروماني كما نقول، ولذلك وعدهم بالعودة إلى أرض الميعاد، أن نعود إلى أرض الميعاد، أي محمد كان مُبتدِعاً يهودياً، ليس حتى مسيحياً، هذه أطروحة ثانية، هذه ستُسعِد جداً جداً جداً كبير ومُدشِّن حتى الاستشراق الكلاسيكي اليهودي الألماني أبراهام جايجر Abraham Geiger، وذلك في سنة ألف وثمانمائة وثلاث وثلاثين، أطروحته الشهيرة جداً أراد أن يُثبِت فيها أن القرآن مُجرَّد تلفيق من الكتاب المُقدَّس، بالذات من العهد القديم، ليس أكثر من هذا، محمد هرطوقي مُبتدِع يهودي، وهناك نصارى يقولون لك لا، هو مُبتدِع مسيحي، كما صوَّره طبعاً دانتي أليغييري Dante Alighieri في الكوميديا الإلهية Divine Comedy، لكن لا علينا من هذا، هذه كلها تهويمات، فهذا معنى الهاجرية، والهاجرية باختصار فرقة من الفرق تمتح من الديانة اليهودية، تُؤمِن بالعودة إلى أرض الميعاد، ومفهوم الهاجرية وأطروحة الهاجرية لكرون Crone وكوك Cook تقول بأن عرب الشمال هم الذين أسَّسوا لهذه البدعة الجديدة، وليس عرب الجنوب، هؤلاء جاءوا من الشمال – الشمال الغربي بالذات -، أي عند البتراء هكذا، ولم تُحدِّد هي تماماً، وعلى هذا بنى مَن جاء بعدها، سواء توم هولاند Tom Holland – من هؤلاء التنقيحيين أو المُراجِعين – أو دان جيبسون Dan Gibson، دان جيبسون Dan Gibson هو الذي طبعاً شغلنا وشغل الناس – ولهذا أُلِّح علىّ أن أتناول الموضوع – بالوثائقي الشهير في ثمانين دقيقة أو أزيد بقليل من ثمانين دقيقة عن المدينة المُقدَّسة مكة، مكة ليست الحجاز، مكة هي البتراء، هو بنى على أطروحات باتريشيا كرون Patricia Crone الدنماركية تماماً.

باتريشيا كرون Patricia Crone حين نشرت الهاجرية قدَّم ريفيو Review أو مُراجَعة كما نقول الآن عميد المُستشرِقين الألمان – وأعتقد لا يزال حياً إلى اليوم، شيخ كبير مُعمَّر مُخيف، ويُلقَّب بالألمانية لقباً لا أُريد أن أذكره، لقب فيه كفر حتى من كثرة ما يُبجِّله الاستشراق الألماني – فان إس Van Ess، يوزف فان إس Josef Van Ess هو صاحب كتاب علم الكلام الإسلامي في مُجلَّداته الست بالألمانية، بلا شك هو مُستشرِق مُطلِع ومُتعمِّق جداً جداً وعليم بالمصادر الإسلامية بطريقة مُذهِلة حقيقةً، لكن قدَّم مُراجَعة أليمة جداً أشبه بالسباب الأكاديمي للهاجرية، قال كلام فارغ هذا، هذا كلام فارغ – قال – وليس له علاقة بالعلم، ويُمكِن لمَن شاء طبعاً – هذا ليس مجال أن نُفصِّل – أن يعود إلى هذه المُراجَعات في مجلات علمية مشهورة.

بعد تقريباً إحدى عشرة سنة – في ألف وتسعمائة وثماني وثمانين – نشرت كتابها الآخر، وفي نظري هو أهم من الهاجرية – أهم من كتاب الهاجرية -، وهو Meccan Trade and the Rise of Islam، أي التجارة المكية أو تجارة أهل مكة وصعود أو ظهور أو بروز الإسلام، هذا كتاب كبير، أكبر من كتاب الهاجرية، قدَّم له مُستشرِق آخر، قد نقول إنه قريب من يوزف فان إس Josef Van Ess الألماني في قدراته، في صدقيته العلمية، وفي جبروته الأكاديمي، شيئ رهيب! وهو البروفيسور Professor الكبير جداً والمشهور روبرت سيرجيانت Robert Serjeant، هذا مُستشرِق كبير جداً، قدَّم مُراجَعة أيضاً، وعنوان المُراجَعة صادم جداً، هو ذكر عنوان الكتاب، وقال Review: Meccan Trade and the Rise of Islam: Misconceptions and Flawed Polemics، هكذا قال! قال Misconceptions، أي مفاهيم مغلوطة أو مفاهيم خاطئة، قال and Flawed Polemics، أي ومُحاجاجات مجنونة، تخيَّلوا العنوان! مُحاجاجات مجنونة، أي حمقاء، قال Flawed Polemics، هكذا العنوان في مجلة الاستشراق الأمريكي.

ومُنذ البداية قال السيدة كرون Crone انبعثت من تحيزاتها العميقة، مُتحيِّزة جداً ضد الإسلام، هكذا قال، هذا واضح جداً، لأن هذا ليس عملاً علمياً، هذا عمل مُهلهَل، لا يتوفَّر على أي شروط علمية وأكاديمية، قال انبعثت وعقدَّت عملها بسوء فهمها للنصوص، لا تفهم العربية – قال – جيداً، لا تفهم! كيف لو قرأ هذا البروفيسور Professor العظيم – وقد تُوفيَ طبعاً – عمل دان جيبسون Dan Gibson؟ هذا الآن هز العالم العربي وهز العلمانيين والملاحدة عندنا، قالوا هذا دين أكل عليه الدهر وشرب، وهم فرحون بسببه وطائرون به، وللأسف بعض العمائم النجسة – وأسمح لنفسي أن أقول هذا والله على منبر رسول الله، عمائم هكذا ولحى – تُروِّج لهذا الرجل ولأطروحات هذا الرجل وبطريقة ساخرة وحمقاء ورقيعة، تخيَّل! لا أدري كيف هذا يا أخي، شيئ غريب يا أخي، لو كنت عدواً للإسلام ولا تُؤمِن بالله ولا بمحمد ولا بالقرآن انزع هذا الشيئ، انزع هذا العار عن رأسك، ارم به في الزبالة، والأمر سينتهى وقل هذا، لكن لا تلعب هذه اللُعبة المُزدوَجة الحقيرة، لا تضع عمامة وأنت تقول أنا رجل دين، ثم تُشكِّك في الإسلام، تضرب كل أصول الإسلام، وتسخر حتى من القرآن.

(طبعاً الذي يُتابِع يعرف أعني مَن، لا أُحِب أن أذكر الناس بأسمائهم، وكل هذا على اليوتيوب YouTube، ولأشهد بالله أنه لا يُحسِن أن يقرأ كتاب الله من مُصحَفه يا أخي، المُصحَف أمامه ويقرأ كل شيئ بطريقة غالطة، لا يعرف كيف يقرأ سطراً واحداً، لا يقرأ دون أن يغلط، ولا يعرف لام التعليل ولا اللام المُزحلَقة ولا أي شيئ، كله غلط! وهو مُعمَّم وفي الثمانين من عمره، ثم يأتي ويسخر! نقول له قل أنا مُتطفِّل سخيف على مائدة دان جيبسون Dan Gibson الكندي، قل أنا مُتطفِّل سخيف على مائدة هذا المُستشرِق الكندي الذي يُريد أن يُشكِّك المُسلِمين في قبلتهم، شيئ غريب جداً).

فكيف لو قرأ هذا الأستاذ الكبير عمل دان جيبسون Dan Gibson؟ أنا اطلعت على دان جيبسون Dan Gibson إلى حد ما، واطلعت أكثر طبعاً على باتريشيا كرون Patricia Crone، وهي المُؤسِّسة الحقيقة حقيقةً أكثر من أستاذها وانزبرا Wansbrough، وبلا شك السيدة عندها أعمال علمية كثيرة، وفيها نوع من الضلاعة، لكن هذا الرجل له عمل واحد، الآن منشور تقريباً، وهذا الوثائقي مُهلهَل جداً جداً جداً، دان جيبسون Dan Gibson هذا انتقائي، وهذه الانتقائية موجودة في كل المُراجِعين أو التنقيحيين، هؤلاء انتقائيون بشكل تبرأ منه العلمية والأكاديمية، هذه هي!

يهون عليهم – ويفعلون هذا دون أن يطرف لهم جفن كما يُقال – أن يُشكِّكوا بالقرآن جُملة، يقولون القرآن مُلفَّق ومُخترَع، تم تأليفه، وانتهى التأليف في نهاية القرن الثاني الهجري والثامن الميلادي، شيئ غريب وعجيب جداً جداً يا إخواني والله! حتى محمد ليس له وجود تاريخي، تم اختراعه بعد اللحظة التي افتُرِض وجوده فيها بسبعين سنة، تم اختراع محمد اختراعاً، وليس له ذكر في أي مصدر غير عربي وغير إسلامي، سواء بيزنطي أو قبطي أو فارسي أو حبشي أو أرمني، لا يُوجَد – قال لك – له أي ذكر أبداً، هل فعلاً لا يُوجَد له أي ذكر أبداً؟ ألا تُوجَد أي إشارة؟ قال لك لا تُوجَد، بعد سبعين سنة فقط حدث هذا، فيبدو أن هذا حصل على يد بني أُمية وبالذات مع أُمية، مُعاوية هذا هو الذي اخترع الإسلام، حين أراد أن يُصبِح إمبراطورية هذا الدين، ويتشكَّك كثيراً المُسلِمين الذين لا اطلاع لهم، يقولون لك ما هذا؟ هذه مُصيبة يا أخي، ألم يُذكَر؟ لماذا لم يذكر إذن؟ هل هذه مُؤامَرة عليه؟ ونفس الشيئ يحدث مع مكة، دان جيبسون Dan Gibson يقول لك مكة لا ذكر لها في أي مصدر غير إسلامي، ولم تُوجَد هذه إلا بعد ماذا؟ إلا بعد ما يُعرَف بالإسلام، شيئ غريب! هل لا ذكر لها؟ أي ألم يذكَّرها أي مُؤرِّخ آخر فارسي أو روماني أو إغريقي أو بابلي أو مصري؟ ألا يُوجَد هذا؟ قال لك لا يُوجَد أبداً أبداً أبداً، باتريشيا كرون Patricia Crone لم تجرؤ على أن تقول هذا، لم تُشكِّك في وجود مكة التاريخي، نعم لم تجعل لها عراقة تاريخية لكنها لم تُشكِّك حتى في وجودها، رُغم أن كتابها كله – أعني كتاب Meccan Trade and the Rise of Islam – هذا عن تجارة مكة لكنها أرادت أن تقول مكة ليست مركزاً تجارياً عظيماً ومُزدهِراً وكبيراً أبداً أبداً، هي فقط مركز تجاري، اعترفت بأنها مركز تجاري، لكن هذا المركز خفيف وبسيط، فقط خفيف وبسيط، ونحن نقول إن هذه ليست حتى أطروحة كبيرة يا إخواني – هذا لكي نكون واضحين يا إخواني -، وانطلق منها طبعاً دان جيبسون Dan Gibson، واسمحوا لي بالآتي، فأنا الآن ربما شوَّهتكم، لكن أنا أعرف أن هذه سياقات لابد أن تكون واضحة حين نتكلَّم عن الموضوع.

دان جيبسون Dan Gibson أخذ كلامها وذهب به إلى آخر الشوط دونما دليل أو حتى شُبهة دليل، إرادة! إرادة أن يكون الأمر كذلك، والرجل يظن أنه أتى بأدلة، على كل حال لابد أن أقف هنا فقط لكي أدخل في موضوع مكة، على ماذا استند هذا الرجل حين قال مكة هي البتراء وليست هذه المكة؟ أي نحن – ما شاء الله – عبر ألف وأربعمائة سنة لا نستقبل القبلة التي أرادها الله والقبلة التي استقبلها رسول الله، إذن كل صلاة الأمة باطلة، كل تدين هذه الأمة باطل وعبادتها، هذه ليست مكة، مكة في البتراء، المدينة الوردية، المدينة الحمراء، مدينة الأنباط، على ماذا استند؟

قال لكم أولاً القرآن يقول أم القرى، انظروا إلى هذا، هو هنا صار يحتج بالقرآن على فكرته، لأنه يُساعِده، لكن فيما عدا ذلك لا يحتج به، وصحيح أن القرآن لقَّب مكة أو كناها بأم القرى في ثلاثة مواضع، في الأنعام وفي القصص وفي الشورى، أم القرى! هذا صحيح، وهنا يأتي باحث في الوثائقي، لا أدري مَن هو ولا ما هو، هو باحث عربي كويتي، ونقول له هذا عيب في حقك، أترضى أن تكون بيدقاً في هذه الرقعة؟ وواضح أنك بصراحة لا تُحسِن… لن نصفه لأننا لا نُريد أن نقع في الناس.

يأتي إليكم هذا الباحث الكويتي طبعاً في وثائقي مَن؟ دان جيبسون Dan Gibson، في وثائقي دان جيبسون Dan Gibson يأتي الباحث الكويتي ويقول طبعاً قال أم القرى، وحين تسمع أم القرى تتوقَّع مدينة رائعة، عظيمة، مُزدهِرة، ذات أسوار، وبعد ذلك يستتلي أحدهم – إما دان جيبسون Dan Gibson أو غيره، لا أدري مَن – ويقول ذات مبانٍ عامة، أي Public buildings، يقول ذات مبانٍ عامة، وذات حدائق، ثم إن القرآن أكَّد أن فيها مزروعات وفيها أثمار وفيها مياه وخضرة، وهي مُعشوشِبة وغناء، إلى آخره، إلى آخره! قال مكة ليست كذلك، لكن مَن قال هذا؟ مَن قال هذا؟!

أولاً هل هذا معنى أم القرى؟ يُمكِن لدان جيبسون Dan Gibson وللأخ الكويتي هذا ولأي واحد أن يعود إلى كُتب المُفسِّرين، القديم منها والحديث، أنا لم أجد مُفسِّراً فيمَن عُدت إليهم على الأقل – لم أعد إلى كل المُفسِّرين لأنهم بالمئات – يقول هي أم القرى لأنها مدينة مُزدهِرة، عظيمة، ونُقطة التقاء القوافل التجارية في تلك المنطقة أبداً، لم يقل هذا أي مُفسِّر! لكن لماذا سُميت هكذا إذن؟ علماً بأن هذا لقب قرآني، أي هذا من مُبتكَرات القرآن الكريم، القرآن هو الذي لقَّب مكة بأم القرى.

قد يقول لي أحدكم هي أم القرى لأنها محج المُسلِمين وهذا واضح، لكن هي محج العرب قبل الإسلام، هي محج العرب قبل الإسلام وهذا معروف، هي كعبة العرب، العرب عندها كعاب أو كعبات كثيرة، قريب من ثلاثين في قول بعضهم، لكن بالذات كعبة قريش أو كعبة مكة هي الأقدس، والعجيب أن المُؤرِّخ اليوناني ديودورس الصقلي Diodorus Siculus – أي Diodorus of Sicily – في القرن الأول قبل الميلاد حين تكلَّم عن مكة لم يذكرها هكذا بالاسم، ذكرها بالوصف، والوصف ينطبق عليها في رأي عشرات المُستشرِقين، انتبهوا! قال في بلاد العرب هناك مدينة مُقدَّسة، يحترمها ويعتد بها ويعتبرها الثموديون والسبئيون، هذه مُلاحَظة مُهِمة جداً جداً، لماذا؟

لأن الثموديين أين يعيشون؟ في الشمال الغربي من جزيرة العرب، في مدائن صالح، يعيشون في الشمال الغربي، أي في الأعلى، جميل! نحن نعرف أين مكة، هي في الحجاز، أتت في المُنتصَف على الساحل، هي مدينة ساحلية، وعندها ميناء، وهو ميناء شعيبة، وذكرته باتريشيا كرون Patricia Crone، قالت نعم، كان عندها ميناء، هذه المدينة كانت موجودة، وكان عندها تجارة وما إلى ذلك، لكنها كانت بسيطة فعلاً، أي لم تكن عالمية، لأنها مدينة صحراوية أو شبه صحراوية، وبعد ذلك السبئيون كانوا أين؟ في الجنوب الغربي، هؤلاء في أعلى الأربيا Arabia أو الجزيرة العربية، وهؤلاء في أدنى العربية أو الجزيرة العربية، أين ينبغي أن تكون المدينة المُقدَّسة التي تحظى باحترام وتقديس الجميع؟ لا فوق ولا تحت، في المُنتصَف، هذه مكة! ولا تُوجَد مدينة بهذا الوصف كما قال ويليام موير William Muir إلا مكة، هذا المُستشرِق الشهير قال نحن نقول بهذا ونقطع به، لأن لا تُوجَد مدينة في حدود علمنا تحظى أو حظيت باحترام العرب جميعاً ثموديين وسبئيين إلا مكة، فهي مكة، مذكورة بلا شك!

وطبعاً ذكرها حتى بطليموس Ptolemy، كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolemy أو بطليموس الإسكندراني Ptolemaeus of Alexandria – المُؤرِّخ والجغرافي وصاحب المجسطي Almagest طبعاً، هذا العالم الفلكي الكبير بطليموس Ptolemy، ومن هنا يقولون لك هناك النظام البطلمي – ذكر مكة بالاسم الآخر الذي يُرجِّح أيضاً عشرات المُؤرِّخين والمُستشرِقين أنه لمكة، وهو ماكورابا Macoraba، ماكورابا Macoraba هي مكة، صارت اختصاراً لها فيما بعد.

باتريشيا كرون Patricia Crone أحبت أن تغمز هذه المسألة، وقالت لا، أنا أُرجِّح – لكن هذا أيضاً ترجيح – أن ماكورابا Macoraba هي جُدة أو جَدة، لكن هذا غير صحيح، هل تعرفون لماذا؟ لأن ماكورابا Macoraba مذكورة أيضاً لدى بعض المُؤرِّخين الرومان، يُمكِن أن نأخذ – مثلاً – أشهر مُؤرِّخ روماني على الإطلاق، وهو بليني الأكبر Pliny the Elder، بليني الأكبر Pliny the Elder هو أكبر مُؤرِّخ على الإطلاق، هذا الذي وصلنا من أعماله فقط عمل واحد في التاريخ الطبيعي في نحو أربعين مُجلَّداً، وهناك عشرات المُجلَّدات التي فُقِدت بالكامل للأسف الشديد، مُؤرِّخ مُذهِل ومُخيف وعقلية موسوعية، ذكر ماذا؟ ذكر الآتي، حين تكلَّم عن جُدة سماها – أي سمى جُدة – ماذا؟ ميناء مكة، ميناء ماكورابا Macoraba، قال Portus Mochorabae، هكذا قال! Portus Mochorabae، أي ميناء ماكورابا Macoraba، وفعلاً جَدة تبعد سبعين كيلو متر عن مكة، أشبه أن تكون ميناءً لماذا؟ لمكة، طبعاً في القديم وفي الحديث هي ميناء مكة، هذا الصحيح! فباتريشيا كرون Patricia Crone تُحرِّف وتقول لك ماكورابا Macoraba هي جُدة، غير صحيح! جُدة هي ميناء للماكورابا Macoraba، كما قال مَن؟ بليني Pliny، بليني الأكبر Pliny the Elder قال هي ميناء للماكورابا Macoraba، اسمها Portus Mochorabae، هل هذا واضح؟ جميل!

نعود، إذن المُفسِّرون قالوا هي أم القرى لأنها محج العرب ومحج المُسلِمين، يحجون إليها ويأوون إليها ويعقلون إليها كما يأوي ويعقل الأبناء إلى أمهم الشفوق الحنون، هذا معقول جداً، بعضهم قال مكة أم القرى لأن الله دحى الأرض من تحتها، فكأن القرى ما تقرت إلا بعد أن تقرت مكة، هكذا! هي أم القرى لأن ما تقرت القرى ولا تمدنت المُدن إلا بعد ماذا؟ بعد أن دحى الله الأرض من تحت مكة، هكذا! هذا كلام غيبي ولا تُوجَد طبعاً أدلة، لكن هذا الذي قالوه، لم يخطر على بال واحد أن يقول إنها أعظم مدينة وإنها مُزدهِرة وذات أسوار ومبانٍ عامة وحدائق وإنها غناء ومُعشوشِبة، ما هذا الكلام الفارغ؟ من أين أتيتم به؟

قال لكم القرآن في مواضع أُخرى يُؤكِّد هذا، وهذا غير صحيح، القرآن يُؤكِّد بشكل واضح – وهذا بإجماع المُسلِمين المُفسِّرين – الآتي، إبراهيم حين أتى بزوجه هاجر – عليها السلام – وابنه إسماعيل في القصة المعروفة قال رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ۩، قال غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ۩، أي قاحل، أجدب، عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ۩، أي حوِّلها إلى ماذا؟ حوِّلها إلى قرية، حوِّله إلى مدينة، حوِّلها إلى مكان يعيش فيه الناس، حتى لا تبقى هكذا، كانت فارغة، ليس فيها شيئ، وادٍ غير مأهول، غير مسكون، ليس به حسيس ولا أنيس ولا ونيس، ولذلك – سُبحان الله – انظروا إلى إعجاز القرآن الكريم، هذه عظمة القرآن الكريم، في آية قال لكم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ۩، قال بَلَدًا ۩، فلما تبلد البلد وتقرت القرية قال رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا ۩، دعا مرتين، دعا قبل أن يتبلَّد البلد، ودعا بعد أن تبلَّد البلد، فهنا قال اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ۩، وهناك قال اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ ۩، وهذه اللفتة أشار إليها في وقته محمود الزمخشري، جار الله الزمخشري – العلّامة العظيم – في الكشّاف هو الذي قال هذا وهو الذي فهمه، رحمة الله عليه.

على كل حال قال رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۩، الآن يأتي سؤال، الرزق المدعو به – أن يُرزَق أهل هذه البلدة مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۩ – سبيله ماذا؟ سبيله إما أن يُنبِت الله – تبارك وتعالى – الأشجار والزروع والثمار في تلك الأرض، وإما أن يُيسِّر ويُهِّيء جلب الثمار إليها، تاريخياً وواقعياً وقرآنياً ما الذي ثبت وحصل؟ هل خرجت فيها الأشجار والزروع والثمار أم كانت تُجلَب إليها؟ كانت تُجلَب إليها، وما زالت تُجلَب إليها، ليس عندها كفاية أبداً في هذا الباب، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ۩، سماه ماذا؟ حَرَمًا آمِنًا ۩، أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، قال يُجْبَىٰ ۩، انظروا إلى القرآن الكريم، لكنهم أرادوا أن يُشكِّكوكم في القرآن، وأتوا فقط لكي يرقصوا وهم فرحون، وقالوا القرآن كذا والقرآن كذا، يُريدون أن يهدوا القرآن بالقرآن!

يُوجَد حقد، الغرض مرض، طالما أنت مُغرِض لن تفهم، ولذلك من ضمن هؤلاء – لأنني ذكرت بعض النقّاد – سيرجيانت Serjeant، أي روبرت سيرجيانت Robert Serjeant، ومن المُستشِرقين الكبار جداً جداً والذين نرفع لهم القُبعة الألمانية أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth، اكتبوا الاسم هذا، تعيش إلى اليوم وهي مُخيفة، هذه هي المُؤسِّسة مع مُشارِكين آخرين – لكن هي الرئيسية – للمشروع الألماني العظيم، الذي هو أحسن من مشروع هولندا – لايدن -، وهو الموسوعة القرآنية الخاص بأركون Arkoun الذي قدَّم المُقدَّمة وكان مُتأثِّراً بالتنقحيين للأسف الشديد، في آخر مُقدَّمة أركون Arkoun للموسوعة القرآنية الخاصة ببريل Brill بهولندا – في آخر هذه المُقدِّمة – دس هكذا الراحل محمد أركون Mohammed Arkoun أن القرآن تقريباً فعلاً مُؤلَّف وأنه تم الانتهاء من تأليفه في نهاية القرن الثامن الميلادي، ما هذا؟ نفس شُبهات أو تخريفات وتهريفات التنقحيين.

فأنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth – بالألمانية يختلف نطق Neuwirth طبعاً عن نطقها الإنجليزية – هي مُستشرِقة ألمانية عظيمة ومُحترَمة، وكتبت أيضاً مُراجَعات وتعقيبات على أعمال التنقحيين، وجلدتهم جلداً علمياً قوياً، وقالت الآتي عن التاريخ حين يفقد موضوعيته، لأن التنقحيين طبعاً – انتبهوا إلى هذه النُقطة – ينطلقون من مبدأ الواحد، وهو أن كل المصادر العربية والإسلامية في التاريخ الإسلامي بالذات – تاريخ صدر الإسلام ونشأة الإسلام – غير مُعتمَدة، وغير قابلة للاعتماد الأكاديمي والعلمي، لماذا؟ وعلى أي أساس؟ هو هكذا، هوى! مع أن – سُبحان الله – هذه المصادر تُجمِع إجماعاً من غير استثناء على مئات المسائل، وطبعاً لا تُوجَد مصادر إلا ويقع بينها اختلافات وبعض التعارضات، هذا طبيعي جداً جداً، لكن هذه المصادر تُجمِع إجماعاً من غير استثناء على مئات المسائل، من بينها الصدقية التاريخية لمحمد والصدقية التاريخية للقرآن ونزول القرآن وجمع القرآن أيام محمد واكتماله على قلب محمد وفي حياة محمد والصدقية التاريخية لمكة – مكة الحجاز والكعبة والحج، كلها تُجمِع على اختلاف الفرق والأعراق والأجناس والمُدوِّنين والمُؤرِّخين إطلاقاً، لكنهم قالوا لا، هذه غير مُعتمَدة.

ولذلك تقول البروفيسورة Professor أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth حين يفقد التاريخ موضوعيته ما الذي يحصل؟ نفقد محمداً والكعبة والحج والقرآن وكل شيئ، ونبدأ نُهوِّم في مُختلَقات، قالت هذا الشيئ غير معقول وغير مقبول، تماماً مثلما قال البروفيسور Professor روبرت سيرجيانت Robert Serjeant، قال هذا الشيئ في أول وفي استهلال مُراجَعته التي ذكرت عنوانها، في هذا الاستهلال قال هؤلاء صدَّروا لنا أو أنتجوا لنا خُلاصات وآراء غير عقلية – أي Irrational – وغير منطقية، وبالتالي غير مقبولة، قال هذا كلام فارغ، وفي النهاية قال أنا أُقيِّم عمل السيدة كرون Crone بعمل طالب لم يتخرَّج بعد، هذا ليس عمل بروفيسورProfessor مُتخصِّص وأستاذ كبير، لأنه لا يكتب بهذه الطريقة الانتقائية وبهذه الطريقة المُهلهَلة أبداً.

نعود إلى كنا ما فيه، يبدو أننا سنضطر إلى أن نتوقَّف يا إخواني بسبب وقت صلاة العصر، إن شاء الله سنُكمِل في نصف ساعة – لأننا نحتاج إلى خُطبة ثانية – لكن بعد صلاة العصر هذا الموضوع الحسّاس والمُهِم جداً، من المُمكِن أن يكون بعض الناس غير مُتحسِّس منه، لكن من المُمكِن أن يُبتلى به.

من المُمكِن أن يكون ابنك مُتحسِّساً منه، وقد يُخرِجه هذا من الإسلام، وابنتك نفس الشيئ، وأنت ربما تهتز في يوم من الأيام لو اصطدمت به، لذلك خُذ الموضوع بجد، الموضوع طُرِح ولم يبق بأيدينا شيئ، هذه الموضوعات تُطرَح الآن، وها هي تُدوِّم – تعمل دوامات -، فلابد أن نتعاطى معها في البداية، وأن نفهم ماذا كتب هؤلاء، ماذا قال هؤلاء، وماذا ادّعى هؤلاء، ثم بعد ذلك لابد أن نتسلَّح بماذا؟ بالنقد والنقاش العلمي.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 5

اترك رد

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    قد تبدو تخرصات دان جبسون مقربة ولا تلامس عقل ولا قلب أي شخص، وهي بالتالي لا تستحق كل هذا الاهتمام، ولكني محتار لم يبذل شخص (دعي) كل هذا الجهد لتأليف كتاب بهذا الحجم وهو يدرك أنه لن يصل إلى عقول ذات قيمة،
    الأمر ويحيرني وأنا أبحث (منذ مدة) عن مغزى مثل تلك التحريات، وبعضها ليس له علاقة لا بالإسلام ولا بالمسلمين. فمثلا: هناك قنوات فضائية وأدعياء كثر يجاهرون بأقوال غريبة كالقول بعدم كروية الأرض أو بأن الشمس لا تبعد عن الأرض إلا ببضعة كيلومترات. ترى لماذا وما الغايات التي يمكن تحقيقها وهل هناك جهات مستفيدة من وراء ذلك؟ أم هي بشطحات جحاوية؟
    والسلام

  • مشكلتنا أن بمجرد طرح شخص غربي لنصرة أو فكرة مهما كانت تافهة تجد العديد من يسانده ونضيع أوقاتا كثيرة للرد عليها. الرد بسيط من القرآن : أعرض عن الجاهلين

%d مدونون معجبون بهذه: