خطبة إنسان الإنسان – الحكمة –

video
الخطبة الأولى بعد انقطاع دام قرابة السنتين عن الإنسان والحكمة وتقسيماتها (النظرية والعملية) وعن التواضع والأنانية والأخلاق

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شرك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. اللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، على هذا النبي العربي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا *

صدق الله العظيم، وبلَّغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأحبتي في الله، أخواتي الفاضلات المُكرَّمات/

أود قبل أن أدلف إلى موضوع هذه الخطبة، التي أسأل الله أن يباركها وأن يتقبلها بأحسن قبول، أن أُعرب عن عظيم امتناني وجزيل شكري وعرفاني لكل مَن اهتم لشأني وحالي في فترة غيابي، التي قدَّرها الله تبارك وتعالى، وكان أمر الله قدرا مقدورا، مِمَن أعربوا عن حب كبير وعن صدق ساطع وعن أخوة لا يجزيهم عليها إلا الله تبارك وتعالى، الذي أسأله أن يُحسن جزاءهم جزاء شاكر وجزاء عارف وجزاء نبيل واف بحقوق الأخوة الإسلامية.

وإني لأضرع إلى ربي سبحانه وتعالى في هذه الساعة، من هذا المُقام، أن يُجنبهم جميعا وأهليهم وأحبابهم ومَن اتصل بهم، الأوصاب والأوجاع والبلايا والمكاره، وأن يُسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يتم عليهم أجمعين عافيته في الدنيا والآخرة.

أحبتي؛ إخوتي وأخواتي/

في هذه اللحظة من عمر الدنيا، ومن تاريخ البشر، وقد عم طوفان المعلومات، كما لم يعم من قبل، حتى أغرقنا، أو كاد، طوفان عميم مهول من الآراء والمُقاربات والنظريات، فضلاً عن الأذواق والتفضيلات، مُتاح للناس صوت وصورة وكلمة مكتوبة، مُتبرجة بألف شكل، مُزخرفة بألف لون، حقيق بأن يقف المرء مع نفسه، لنفسه ولغيره مِمَن يهتم لأمرهم وشأنهم؛ ليسأل ما الجدير، وما الحقيق، بأن يُنظر فيه وأن يُنتخب، بل أن يُعاد النظر فيه؟

أحسب أنكم تُقدِّرون المعنى الذي أرمي إليه! في ظل هذا الطوفان، إخوتي وأخواتي، يتيه أناس كثيرون، يضيعون، يفقدون البوصلة كما يُقال؛ لأن الإنسان إذا لم يكن مُتأهلاً للتعاطي مع موضوع بخصوصه أو بحياله، ثم عمه سيل جارف من الآراء والنظريات والمُقاربات حول هذا الموضوع، فعلى الأرجح والجدير أنه يستجيب له باستكانة وخضوع، مُدعيا أنه فهمه وأنه اقتنع به، فلا عجب إذن أن يكثر المروق من الدين ومن الأخلاق ومن قواعد السلوك التي غبر عليها قرون متوالية، وهي لا تزال تزداد تأكدا وأهمية وضرورة، إلا في هذه اللحظة من عمر الدنيا؛ اللحظة الغريبة الاستثنائية والمخيفة في آن!

كما اعتدنا على القول مُنذ أزمان إن أوجب ما يجب على المرء الذي يبغي لنفسه الخير والرشاد أن ينتخبه، هو ما يتعلق بفلسفته في الحياة، برؤيته لنفسه وللوجود قاطبة. وذلكم أن الحياة لا تتثنى ولا تتكرر، إنها حياة واحدة، لمرة واحدة، ثم تمضي. وبمضيها، نمضي إلى الأبد، بغير رجعة إلى هذه النشأة.

إذن حقيق وجدير، أن نجيل النظر وأن نُعمله وأن نُكرره مرة وألف مرة في انتخاب هذه الفلسفة، التي نعيش بها، وعيناها أم لم نعيها. ما من أحد إلا ويصدر في حياته، في مسالكه، وفي آرائه وتفضيلاته وترجيحاته، عن فلسفة ما! بعض الناس يكون واعياً بها، يُمكن أن يُقررها، ويدل على قواعدها وربما أيضا دلائلها ومُبرراتها ومُسوغاتها، ويدفع عنها في صدور ما يُعارضها من الفلسفات والرؤى الكونية الأخرى، وبعض الناس لا يكون واعياً بها بالمرة! وبين الاثنين بين واسع لطيف آخر من البشر، بلا شك، كما هو حال الدنيا! المنطق التطيفي الحاكم على كل شيء في هذا الوجود.

ولذلك ربنا تبارك وتعالى أشار بكلمة واحدة إلى هذا المعنى الضخم الجليل، حين قال عز من قائل يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا *.

مما يلفت أن فرعاً ليس طويل العمر، لا يزال في مهده أو في مُقتبل شبيبته، من علم النفس، يُعرف بعلم النفس الإيجابي Positive psychology، يُعنى بهذه الموضوعة كثيراً؛ موضوعة الحكمة Wisdom. ولهم مُقاربات عجيبة بهذا الخصوص، على أن التعريفات التي ينتهي إليها كل عالم وكل باحث، تقترب أحياناً وتبتعد من بعضها البعض! تقترب هذه التعريفات وتبتعد من بعضها البعض، وهذا شأن متجدد بخصوص هذه الموضوعة المُهمة؛ موضوعة الحكمة.

ففي البحر المُحيط لأبي حيان الأندلسي، العالم المُفسر والنحوي الكبير – رحمه الله تعالى، ورحم سائر علمائنا وأئمتنا – ذكر أن للسادة العلماء تسعة وعشرين قولاً في الحكمة. ينعتها فيقول بعضها قريب من بعض.

فمن قائل إنها الإصابة في العلم والعمل. وهو مُجاهد بن جبر تلميذ عبد الله بن عباس – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

ومن قائل إنها الإصابة في غير النبوة. ومثل هذا لا يُجيز أن تُفسّر الحكمة لا بالقرآن ولا بالسُنة؛ لأنه جعلها الإصابة في غير النبوة، وهو الإمام الجليل البخاري صاحب الصحيح، فبعد أن روى عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – أنه قال ضمني النبي – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – إلى صدره، ثم دعا لي. فماذا قال؟ اللهم علمه الحكمة. دعا له بأن يؤتيه الله الحكمة، التي مَن يؤتها، فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ *. قال إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ *، ولا حكمة بغير لب تام.

دعا لي بالحكمة. عقَّب الإمام البخاري، بعد أن ذكر رواية أخرى، أنه دعا له أيضاً بالكتاب؛ أن يؤتيه الله الكتاب، أي الفقه في الكتاب. على كلٍ قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري – رضوان الله عليه – والحكمة الإصابة في غير النبوة.

ومن قائل الحكمة نور إلهي، يُقذف في صدر المؤمن أو المؤمنة، يُفرِّق به، المؤمن أو المؤمنة، بين الإلهام – أي الرباني – والوسواس الشيطاني. هذه هي الحكمة!

وقيل الحكمة على أصل وضعها في لغة العرب، هي المنع. وأول ذلك المنع من الظلم. كما قال ابن فارس في مقاييسه – رحمة الله تعالى عليه -. ولذلك أحكمه – أحكم فلان صاحبه أو ابنه أو أخاه -، أي منعه من الظلم. كما قال جرير بن عطية بن الخطفى التميمي. الشاعر المعروف جرير، قال:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم…………إني أخاف عليكم أن أغضبا.

أبني حنيفة إنني إن أهجكم……………أدع اليمامة لا تواري أرنبا.

والشاهد قوله أبني حنيفة، أحكموا سفهاءكم! أي امنعوهم من الرذالة ومن الظلم والعدوان، وإلا يكون ما ذكر. تهديدات شاعر! تهديدات شاعر ليس يُعرف بكبير فروسية! على كلٍ فهذا هو الإحكام.

وقياس الحكمة حين تتعلق بتدبير النفس، أي بالأخلاقية، منع النفس مما يضع من مقامها، عند الله أولا، ثم عند ذوي المروءات ثانيا. تزم نفسك وتمنعها من أن تأتي ما يؤخذ عليها، من طرف الله سبحانه وتعالى، وهو الأهم والأخطر، أو من طرف العقلاء ذوي المروءات من الناس. تُحكِم نفسك!

ولذا هناك التقسيم التقليدي للحكمة. والحكمة في لغة الإسلاميين – وأعني بالإسلاميين المُتكلمين في الفلسفة والعلم وعلم الكلام من علماء المسلمين، وليس الإسلاميين بالمعنى الإسلامي المعاصر، فهذا على حد قول أو عنونة إمامنا أبي الحسن الأشعري مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلين، هذا هو المقصود بالإسلاميين، والحديث عن الحكمة عند الإسلاميين – من أمثال الفرابي وابن سينا ومسكويه، وحتى بعد ذلك الغزّالي والفخر الرازي، وأمثال هؤلاء – رحم الله الجميع، وغفر لهم -، الحكمة صارت على الطريقة أو على النمط التقليدي في التقسيم، فجعلوها حكمة علمية، أي نظرية، وأخرى عملية، أي تطبيقية.

وأما الحكمة الأولى، العلمية أو النظرية، فقسموها بدورها ثلاثة أقسام؛ العُليا، والوسطى، والدُنيا. فأما العُليا، فهي الإلهيات. وأما الوسطى، فهي الرياضيات. وأما الدُنيا، فهي الطبيعيات. فالرياضيات منزلة وسطى بين الطبيعيات والإلهيات، وهذا تقسيم مُفتخَر، بل شك، وعليه براهينه الكثيرة.

ثم قسَّموا الحكمة العملية، إلى ثلاثة أقسام، فقالوا تدبير المدينة. أي السياسة Politics. ثم تدبير المنزل، أو تدبير الأسرة. وهذا أصل الاقتصاد! إذن تدبير المدينة، أي السياسة، وتدبير المنزل أو الأسرة، وهو الاقتصاد بلغة العصر الحديث، الاقتصاد السياسي كما يُقال وكما صار يُعرف. وأخيرا تدبير النفس. تدبير النفس، أي الأخلاق، هذا علم الأخلاق، نعم! يتكلمون عن Morals  وعن Ethics، والفروق دقيقة بينهما، ولكن ليس هذا موضوع القول فيها.

على كل حال، هذا التقسيم تقسيم تقليدي أثير، وهو صحيح إلى حد بعيد، وله مُدخلية واضحة في الحكمة! له مُدخلية واضحة في الحكمة، لماذا؟ لأن إتقان المرء لهذه العلوم – ما يختص بالإلهيات، وما يختص بالرياضيات، وما يختص بالطبيعيات – بلا شك يُقيم عقله على سكة لاحبة، وعلى مهيع واضح، من الفكر الدقيق، من الفكر الدقيق المُختبَر المُعمَل المُجتهَد فيه، في شؤون خطيرة، أخطرها الإلهيات، ثم بعد ذلك شؤون هذا العالم، وفهم ما يتعلق به، على التجريد أو التطبيق! على التجريد أو التطبيق أو التشييء أو التعيين – إن شئتم -.

ثم بعد ذلك الحكمة العملية، بما يشمل ويضم في بطنه ويحوي السياسة والاقتصاد والأخلاق، بتفريعاتها المُختلفة.

وبلا شك، حقيق أن تكون الحكمة بهذا المعنى، ربما هي الحكمة، أو أكثر أشطارها!

أيضاً في لغة العرب الحكمة يا إخواني، يُقصد بها الإتقان. يُقال عمل عملاً، فأحكمه. ولذلك يُسمى حكيماً مَن يُتقن فناً أو صناعة. حتى أصحاب الصناعات، كانوا يُنعتون بالحكماء؛ لأنهم يُتقنون فنونهم وصناعاتهم. فلا بأس، هذا جيد.

هناك علم النفس الإيجابي، الذي لفت إليه قُبيل قليل بجملة عابرة. وكما قلت لكم تعريفاتهم ومُقارباتهم كثيرة جدا، تنأى وتقترب بعضها من بعض. بعضهم يقول الحكمة هي تحقيق التوازن، بين العقل والوجدان، بين الفردية والجماعية. بعضهم يقول الحكمة هي انتخاب ما يُحقق سعادة الفرد، من بين كل ما يتحصل لديه من معلومات وبيانات. وهذا عليه أيضا مُلاحظات.

تعاريف كثيرة، لا نُريد أن نُغرق في هذه التعاريف، تُطلب في محالها ومظانها، وهي موجودة قريبة، أحبتي!

هناك ما لفتني أيها الإخوة والأخوات، وقد اهتممت بهذا الموضوع من سنين، لكن لا على الانقطاع والتوفر، إنما على الانبعاث مرة بعد مرة، فتحصل لي تعريفات كنت أرى رجحانها في هذا الباب! أن الحكمة الحق والأجدر أن تكون كذا، أو يكون منها كذا؛ لأن من الحكمة أيضا أن تبعضها، لأن من الحكمة أن تبعضها! بمعنى أنك إذا وجدت رجلا، أو امرأ أيا كان؛ رجلا أو امرأة، يتكلم عن الحكمة، فيقطع التعريف، فاعلم أنه بعيد منها. فمن الحكمة أن تقول من الحكمة، وألا تقول الحكمة. من الحكمة كذا وكذا، ومن الحكمة كذا.

ولذلك رأيتم هذا التذييل الإلهي العجيب؛ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ *. هذا كله من الحكمة، وليس بعضه هو الحكمة كلها، وإنما كل أولئك من الحكمة، كل أولئك! فتبعيض الحكمة حكمة، تبعيض الحكمة حكمة! فالحديث عنها بصيغة التبعيض، هو من مُقتضى الحكمة.

لكن الذي لفتني حقاً أحبتي؛ إخواني وأخواتي، أنني كلما رجحت أن تكون مقولة ما قاعدة أو شبه قاعدة حكمية، وجدت القرآن الكريم سبق إليها، شيء عجيب! وإن توصلت إليها بمحض الفكرة والاجتهاد، أو وقعت عليها في كلام فيلسوف كبير أو مفكر ودارس منقطع خطير أو تربوي ناجح باز. القرآن الكريم يُشير إلى ذلك!

مثلا يُمكن أن يُفهم من كتابات شيخ الفلاسفة أرسطو Aristotle، وخاصة في كتابه الشهير في الأخلاق، أن الحكمة هي التوسط، بمعنى الوقوف على الوسط الذهبي، كما كان يدعوه! على الوسط الذهبي بين الأطراف – ال Extremes الآن يُسمونها، الأطراف! ال Extremes – المُتقابلة، الأطراف المُتقابلة!

والأطراف المُتقابلة، لو كانت مُتقابلة على سبيل الحسم والصرم، لما وجد عاقل، له الحد المقبول من عقل الإنسان، صعوبة أو مشقة في الفصل بينها، أليس كذلك؟ هذا كذا، وهذا كذا! لكن هذه الأطراف المُتقابلة، مع كونها مُتقابلة، إلا أنها مُتواصلة، وبالاصطلاح الذي ربما سمعتموه غير مرة مُتطيفة، طيف مُتصل! كما لا يُمكنك الفرق بين لون عند نهايته المُحتملة وبداية لون آخر؛ لأن هناك تطيفاً، كذلكم في مثل هذه المعاني، هناك تطيف.

فثمة وسط، يُمكن أن يُدعى بالوسط الذهبي، أو بغيره، أو بالوسط الصعب أو الصعيب، بين الكرم، أيها الإخوة، وبين الصرف. قد يكون كريماً إلى حد الصرف! ما الذي يُميز الصرف أو الإصراف من الكرم؟ يحتاج إلى حكمة، يحتاج إلى نور إلهي، إلى هداية من نوع ما، إلى عقل تام وافر!

ما الذي يميز بين الشجاعة والتهور؟ الشيء نفسه! هناك خيوط رفيعة، أيها الإخوة، جد رفيعة، بين هذه الأطراف المُتواصلة، وليست المُتقابلة حسماً وصرماً، بل هي أطراف، إلا أنها مُتواصلة، عند نهاياتها تتواصل بطريقة غامضة، تُصعّب أمر الفصل بينها.
ما الذي يُفرق بين الحلم والبلادة؟ قد يحلم ويحلم ويحلم، حتى يُظن بليداً؛ أنه لا يثأر لا كرامته، لا يثأر لمثابته! وقد لا يكون، قد يكون حليماً، وأنت أخطأت الحكم عليه. ما الفرق بين الحلم والبلادة؟

ما الفرق بين الاعتداد بالنفس والكبر؟ قد لا يكون مُتكبراً، لكنه مُعتد بنفسه. ومعنى كونه مُعتداً بنفسه، أي أنه يعرف لها قدرها، ويعرف قدر ما أوتيت من علم أو فهم أو خصلة حميدة أو جهاد في سبيل إلى الحق، إلى آخر هذه المعاني الجليلة الفاضلة النبيلة! ما الفرق إذن بين الاعتداد بالنفس وبين الكبر؟

ما الفرق بين التواضع والمهانة؟ قد يتواضع، حتى يُظن مهينا. وقد يتواضع، حتى يُطن ذليلا. فما الفرق بين التواضع والذلة، بين التواضع والمهانة؟ إلى آخر هاته الأمور الكثيرة المُشكلة!

ودون أن نخوض في تحديد هاته الفروقات، يُمكن في هذه المرحلة من النقاش أو الجدال، أن نتفق على أمر، وهو أن التوازن أو الوقوف في نقطة الاتزان والاعتدال بين الأطراف المُتقابلة مُقتضى الحكمة. وإليه الإشارة بقوله تبارك وتعالى وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *. عجيب! حتى في الإيتاء والنفقة والتصدق لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *. ثم عقبها بقوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا *. وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا *. إذن هذا الأصل من أصول الحكمة مُقرر، على وجه ولا أوضح، على وجه ولا أجلى، في كتاب الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ في كتاب الله تبارك وتعالى!

مما يُمكن أن يُقال إنه يقع من الحكمة في القلب معرفة المرء لقدره. رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. هذه معرفة المرء لقدره، أي قدر ما يقدر عليه، وقدر ما يليق به، وقدر ما هيأه القدر له، وقدر ما يُحسنه! وإذا عرف هذه الأقدار، عرف ما لا يستطيعه، ولا يقدره، ولا يُحسنه، أليس كذلك؟ فلم يتقحم على ما ليس في وسعه ومُكنته.

وقد روى أبو داود في سننه، بسند، وإن كان في ضعف، إلا أن المعنى جزل وجليل، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حُكماً – أي حكمة، وهذا وارد في أحاديث أخرى صحيحة. وإن من الشعر حُكماً. والحُكم هو الحكمة، في موارد كثيرة، وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا *، أي الحكمة. وإن من الشعر حُكماً -، وإن من العلم جهلاً، وإن من القول عيالاً. ما معنى هذه الدُرر الأربع؟ دُرر من دُرر الحكمة المُصطفوية – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -.

إن من البيان سحراً. قال صعصعة بن صوحان – التابعي الجليل، صاحب الإمام علي، عليه السلام، وكرّم الله وجهه – صدق نبي الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -. صعصعة بن صوحان لما سمع هذا الأثر الجليل، صدَّق النبي. قد تقولون ما أجرأه! لا، هو مُعتد بنفسه، واثق بفقهه، على دراية، مما أتاه الله من المعرفة والحكمة، ولا بأس. قال صدق نبي الله. كلامه هنا – قال – يُصادق عليه، بلا شك! وكل كلامه يُصادق عليه، انتبهوا!

صدق نبي الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -. فأما قوله إن من البيان سحراً، فذلكم أن الرجل قد يكون عليه الحق – قد يكون محقوقاً، وليس صاحب حق -، ويكون ألحن بالحجج – هكذا قال، أي بحُجته، في ذبه ودفاعه عن حقه، في المسألة، وفي القضية، أمام القاضي، أو أمام الناس المُتخاصَم إليهم -، فيأخذ ما ليس له! بماذا؟ بالبيان، بقوة البيان! إن من البيان سحراً. يسحر الناس! كأنه سحرهم، فأراهم غير الواقع وغير الحق وغير الحقيقة. وهكذا أيضاً ورد عن رسول الله في حديث أبي موسى، ولا نُطول بذكره، وهو في الصحيحين – رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -.

وأما قوله وإن من الشعر حُكماً، فهي المواعظ، التي تُلقى على ألسنة الشعراء. وهذا على حد قول أبي تمام – رحمه الله تعالى -:

ولولا خلال سنّها الشعر ما درى………بغاة العلا من أين تؤتى المكارم؟

ولذلك النبي أيضاً ذكر هذا المعنى في حق المُحقين الحكماء من الشعراء، الحكماء من الشعراء! وليس طبعاً – كما لا يخفاكم – كل الشعر على هذا الوصف، لكن المُراد منه!

وأما قوله – وهذا هو شاهدنا هنا – وإن من العلم جهلاً *، فماذا عنه؟ قد يقول مُتسرع كيف؟ كيف يكون العلم جهلا؟ أو كيف يؤدي العلم إلى الجهل؟ إن من العلم جهلاً! قال صعصعة بن صوحان وذلكم أن العالم – ….. أي بالشيء، أو بالفن، أو بالمسألة، أو بالباب من أبواب العلم، والعلم يتجزأ! أليس كذلك؟ لا يوجد أحد يُحسن كل شيء – يتعدى ما عنده من علم، فيتكلف ما لا علم له به. كما قال محمد بن الحسن – أحسن الله إليه وإلينا أجمعين معه -، قال إن هذا العلم حسن، وهو أحسن من كل شيء، وأكثر من كل شيء، فخذوا منه بأحسنه! لأن الأعمار لا تفي بحق أخذه كله. مُستحيل! تفنى الأعمار، ولم تأخذ جزءاً ربما من مليون مليون جزء من العلم، وخاصة في هذا العصر. العلم أكثر من كل شيء، وهو حسن كله! فخذوا منه بأحسنه. وربما كانت هذه مُقدمة الخُطبة! انتخب فلسفتك في الحياة، انتخبها بحكمة، كُن حكيماً فيما تنتخبه لنفسك من علم ورؤية ومعرفة واشتغال، تشتغل عليه في هذا الباب الكبير.

قال وذلكم أن العالم – أي بالفن، أو بالباب، أو بالمسألة – يتعدى ما عنده من علم، فيتكلف ما لا علم له به. هذا يحصل مع كثير من الناس للأسف – اللهم لا تجعلنا منهم – في هذا العصر بالذات، الذي فشا فيه القلم، كما قال رسول الله! هذا عصر الشيخ جوجل Google، وعصر النت Net، وما إلى ذلكم! طبعا بضربة واحدة يصل إلى معلومات كثيرة، يدّعي أنه تشبع بها، يدّعي انتحالها لنفسه، ثم يبدأ يُجادل ويتكلم، كأنه هو الذي ولّدها وافتجرها وابتكرها، وليس هناك! للأسف مجرد ادعاء وتظاهر. جنّبنا الله الادعاء والتظاهر والتشبع بما لم نُعط؛ لأن الله يُحب الصادقين، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *، وهذا من الصدق! وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ *.

ما الذي يحصل إذن؟ إذا تكلم العالم – صعصعة يتحدث عن عالم -، تكلف الكلام فيما لا علم له به، جهّله ذلك عند غيره. طبعا أصحاب الاختصاص الممعنون في هذا الباب يستجهلونه، يقولون هذا جاهل. على أنه ليس بجاهل محض، ليس بجاهل بصرف. هو عالم، لكنه عالم في أبواب أخرى، عالم في مسائل أخرى. يا ليته لم يتعد القول فيما يعلم! تجارأ وتجاسر، فتكلم بما لا علم له به. يتكلمون في العلم بلا علم، وفي الحق بلا تحقيق، وفي الفقه بغير فقه، فيأتون بالعجائب! إذن يستحقون ما يُوصمون به، من استجهال أو تجهيل غيرهم لهم.

فهذا معنى قول المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – وإن من العلم جهلاً. وأما الخاتمة – الدرة الرابعة الأخيرة -، فقوله – صلوات ربي وتسليماته عليه – وإن من القول عيالاً. ما معنى إن من القول عيالاً؟ قال صعصعة بن صوحان – التابعي الجليل – هو أن تبذل القول والحديث – أو قال الكلام والحديث – لمَن لا يريده، وليس من شأنه. تأتى إلى إنسان لا يهمه مثلا علم الفيزياء، وتبدأ تحدثه في الفيزياء وآخر النظريات الفيزيائية، ويقول لك هذا لا يعنيني أصلا. ولا يُلقي إليك بالاً! أنت تكون هنا ماذا؟ بذلت العلم لمَن لا يعرف قدره، أو لا يعنيه أمره! فتكون حططت من قيمة ماذا؟ من قيمة العلم. وأزريت على نفسك، ودخلت في موقف فضولي. هذا الموقف فضولي! أليس كذلك؟ هذا الموقف فضولي منك! وهذا معنى قوله عيالاً؛ وإن من القول عيالاً. عجيب!

إذن حتى هذه الدُرر العجيبة هي من الحكمة، بلا شك! هذه من الحكمة النبوية، هذه الدُرر الأربعة اليتيمة هي من عيون الحكمة النبوية – صلوات الله وتسليماته عليه -. ولذلك يُروى عنه، ولكنه لا يصح مرفوعاً، ومعناه صحيح، لا يصح مرفوعاً! لا تبذلوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. جميلة! لا تبذلوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها؛ لأنهم يضيعونها، لا يريدونها، لا يعرفون قدرها. ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

أحسب أن الشيخ الرئيس أبا علي بن سينا – رحمه الله تعالى – أخذ هذا المعنى النبوي، فقال مَن علَّم الفلسفة لمَن لا يستحقها ظلم الفلسفة، ومَن منع مُستحقاً لتعلم الفلسفة الفلسفة فقد ظلمه. المعنى نفسه! هذا تنويع فقط، هذا تنويع على قول المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

إذن أحبتي، من أهم مدارات الحكمة – أي ما تدور عليه الحكمة – معرفة الإنسان لقدره، ووقوفه عند حده، لا يخوض فيما لا علم له به! على فكرة، وإن كان أكبر عالم في مجاله. لا تغتروا بعالم كبير خطير، لا يمنعنا الإنصاف، أيها الإخوة، أبداً، بل يأمرنا ويُحرّج علينا، أن نعترف له بتبريزه وبمكانته ومثابته في علمه، إلا أن هذا أيضا لا يمنعنا من أن نحكم عليه أنه خاض في غير فنه. وكما قال الإمام الكرماني – شارح البخاري -ومَن تكلم في غير فنه، أتى بالعجائب.

حين يأتيني فيزيائي كبير، من أعظم فيزيائيي القرن العشرين، يقضي حياته مؤمنا بالله، يُدافع عن قضية وجود الله، ثم يختم حياته بالقول عُدت عن هذه القضية، وأنا أُقرر اليوم أن الله غير موجود – أستغفر الله، اللهم غفراً -، وأن الكون وُجد من لا شيء. جميل، جميل! دعوى! في الحقيقة، أول ما ستسمع هذه الدعوى، أنت ستعلم مُباشرة، من فورك، أن هذه الدعوى ليست علمية بالمرة! الكلام عن اللا شيء لا يدخل في ماذا؟ في أي علم طبيعي. مقولة اللا شيء تساوي ماذا؟ العدم. العدم ما هو؟ بطلان محض. لا شيئية محضة صرفة! والعدم لا يُخبر عنه، أعني العدم المُطلق، وليست الأعدام المُضافة، كعدم زيد وعدم عمرو وعدم السمع وعدم البصر، إنما العدم المُطلق. العدم المُطلق لا يُخبر عنه، والعدم المُطلق لا علية فيه ولا تمايز فيه، العدم المُطلق وليست الأعدام المُضافة! هذا هو العدم، لا يُخبر عنه. وثمة علاقة بين العدم المُطلق والمجهول المُطلق، أليس كذلك؟ المجهول المُطلق الفرض أنه لا يُخبر عنه، والعدم المُطلق لا يُحكم عليه، أو العكس! العبارة قريبة جداً.

لكن هذا العالم الفيزيائي الجليل – عالم كبير، لا شك! لا يسوغ لنا أبدا أن نقلل من نبوغه في هذا العلم المُهم – تكلم في قضية فلسفية! أنت لا تحسن الفلسفة، وقد أزريت على نفسك وبنفسك، حين ذهبت تبرهن للناس، أو أردت أن تبرهن، وليس ببرهان هذا، أن اللا شيء الذي أوجد الوجود، عجيب! أي كل شيء أوجده لا شيء، أي الوجود أوجده العدم. على أن الوجود نقيضه ماذا؟ العدم. العدم أصلا نقيض الوجود، والنقيضان لا يجتمعان، فكيف بالنقيض أن يُوجِد نقيضه؟ هذا تهافت فلسفي مُحزِن، لو صدر من طفل صغير، ابن بضع عشرة سنة، سنُشفق عليه ونرثي لحاله! وكل فيلسوف سيشفق عليه ويرثي لحاله، يقول له يا سيدي، أيها الفيزيائي الخطير، العدم والوجود نقيضان. وطبعا، كما لا يخفاكم، هؤلاء لا يعرفون حتى صور التقابل، التي يعرفها كل شادٍ من الفلسفة حروفاً، فالتقابل على أربعة أنحاء: تقابل الوجود والعدم، أي تقابل النقيضين، وتقابل الضدين، وتقابل المتضايفين، وتقابل الملكة وعدمها.

هؤلاء العلماء الفيزيائيون الخطيرون، لا خبر لديهم في هذه الأبواب، ليس تخصصهم، ولا يستطيعون أن يميزوا بين نقيضين وضدين ومتضايفين وملكة وعدمها، ليس تخصصهم! يتكلمون هكذا بالاصطلاح العامي، بالاصطلاح العامي وليس باصطلاح الفلاسفة المُتقنين.

فسيُقال له العدم ضد الوجود. وكل ما يثبت للوجود، ينتفي عن ماذا؟ عن العدم والمعدوم. وبعبارة مُلا صدرا – صدر المُتألهين، رحمة الله تعالى عليه – العدم بمثابة رفع لكل مراتب الوجود أو الوجودات. هذا هو العدم! بطلان محض، لا شيئية محضة.

بعد قليل يفجأنا هذا الفيزيائي الكبير بالقول الجاذبية هي التي أوجدت كل شيء. الجاذبية؟ الجاذبية قانون، والقانون يحتاج إلى ماذا؟ يحتاج إلى مُقنن. حتى لو تعدينا عن هذه النقطة، وهي بلا شك نقطة ضرورية، لكن القانون يساوي ماذا؟ يساوي علماً، يساوي فهماً، يساوي معرفةً، يساوي ضبطاً وحساباً، خاصة للكون، لإيجاد كل هذا ال Cosmos أو الكون! هل الجاذبية بهذا المعنى أو بأشطار أو بأجزاء أو بجزء من هذا المعنى، هي عدم؟ كيف عدم؟ انتهينا، انتهى! أنت أخبرت عنها، وأعطيتها ماهية. هذه الماهية هي ماذا؟ ماهية الجاذبية. أليس كذلك؟ أبداً. كيف تجعلونها عدماً؟ تخبط فلسفي مزر، من عالم فيزيائي كبير! ثم يأتي شباب صغار، لا دراية لهم لا بالعلم وحدوده ولا بالفلسفة وحدودها، وينزعون عنهم ماذا؟ ينزعون عنهم بقايا ما بقي لديهم من إيمان واعتقاد بالله، لا إله إلا هو! يعلنون قد ألحدنا وكفرنا؛ لأن العالم الكبير، وهو أفقه وأعلم منا في هذه الشؤون، قد ألحد، فنلحد من ورائه!

لذلك من الحكمة ألا يُتبع أحد على اسمه. وهذا شعار الجمعية العلمية الملكية بلندن، التي أسسها في القرن السابع عشر روبرت بويل Robert Boyle، العالم، بل العلّامة الكبير، وكان من أعضائها السير إسحق نيوتن Sir Isaac Newton. الجمعية العلمية الملكية بلندن، شعارها – ومكتوب على بابها إلى الآن باللاتينية – ما معناه وترجمته لا تتبع أحداً في كلماته على اسمه. هذا المعنى، هذه الترجمة الدقيقة، يُترجمها كثير من المترجمين العرب؛ ليس من أجل كلماتهم. لا، المعنى غير واضح. المقصود لا تتبع أحداً فيما قال، بناء على ماذا؟ على اسمه وشهرته، أن هذا نيوتن Newton، ستيفن هوكينج Stephen Hawking هذا، هذا أرسطو Aristotle، هذا ابن سينا! لا، أبداً! حين تكون أهلاً للحكم في هذه المسائل، احترم الناس، اعرف لهم أقدارهم، إياك أن تغمز قناتهم بغير حق، ولكن لا يُتبع أحد على اسمه.

طه حسين – رحمه الله تعالى – ذكرت لكم غير مرة أنه قال أعظم وأحكم كلمة قالها أحد – بعد النبيين طبعاً – كلمة الإمام علي – عليه السلام -. الإمام علي، نعم! يقول طه حسين أعظم كلمة! أعظم كلمة قالها بشر ليس بنبي، للإمام علي. وفعلاً حقيق! ماذا قال الإمام علي؟ حين قال للرجل إنك ملبوس عليك، الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق، تعرف أهله. الله أكبر! إذن قبل روبرت بويل Robert Boyle وإسحق نيوتن Isaac Newton والجمعية العلمية الملكية بلندن، المُسلِمون كانوا يُرسِلون هذه الحكمة إرسال مُسلمات، كانوا يُرسِلونها إرسال مُسلمات! إنك امرؤ ملبوس عليك، الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق، تعرف أهله.

والإمام المُجدِّد محمد عبده – رحمه الله تعالى – هو صاحب الكلمة العظيمة، التي قال فيها نحن لا نتبع الرجال على أسمائهم! أن هذا الإمام أبو حنيفة، وهذا الإمام الشافعي! على العين والرأس، أئمة، ونحن صغار، وما نحن بالقياس إليهم، إلا كبقل في أصول نخل طوال. حسن، ولكن في نهاية المطاف ليسوا معصومين، ليسوا أنبياء. مَن بلغ فينا درجة أن يحكم على بعض قولهم، فله ذلك، ويُطالب بالدليل، أليس كذلك؟ ويُطالب بالدليل. لا يُرد عليه قوله لمُجرد أنه ما هو – بعد مَن هو؟ – بالقياس إلى أمثال أبي حنيفة والشافعي مثلا؟ هذا خطأ، في الفكر الإسلامي هذا وفي الروح القرآنية خطأ. كلٌ يؤخذ منه ويُرد كما قال إمام دار الهجرة؛ الإمام مالك بن أنس – رضوان الله عليه -، إلا صاحب هذا القبر – وأشار إليه، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

إذن هذه الحكمة أيضاً، وهي حكمة جليلة، مذكور في كتاب الله؛ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا *.

قد يُبادر أحدكم أحبتي؛ إخواني وأخواتي، إلى السؤال؛ وما حاجتنا إلى مثل هذه الحكمة، في العصر الذي وصفته بالطوفان والحيرة والضياع؟ حاجتنا؟ والله من أحق وأمس الحاجات! تعرفون ما هي؟ لا تُسارع يا ابني، لا تُسارعي يا ابنتي، يا أخي، يا أختي، يا حبيبي، لا تُسارع إلى حسم موقفك، وأنك انتقلت من موقف الإيمان إلى موقف الكفر، ومن موقف التأليه إلى موقف النفي، بناء على كذا وكذا وكذا! قد تعجلت كثيراً، قد تعجلت كثيراً! هل بالفعل أنت درست كل ما له علاقة بهذه المسألة مما – عفواً، اعذرني – تُظهر لنا أنك تُحسنه أو تقول به أو تُفرغ عن منطقه؟ تتكلم بلغة العلم، أحياناً برطانة الفلاسفة، هل أنت فيلسوف حقاً؟ هل تعرف تماماً الفلسفة؟ هل درستها نسقياً؟ هل درست العلم؟ هذا العلم سواء كان فيزياء أو كيمياء أو Cosmology أو Astronomy أو رياضيات أو تطور أو غير ذلك، هل درسته حقاً؟ هل أنت حُجة فيه تقريباً؟ أي هل كلامك مُعتمَد على كل حال عند الحُجج، عند المُختصين؟ هل يُوافقونك على فهمك، وأنك لا نقول أوفيت على الغاية، لكن تاخمت الغاية، في فهم مُقررات هذه العلوم؟ هل فعلت هذا؟ هل استوثقت لنفسك؟ هل لو كان في المُقابل خطؤك في تقرير موقفك سيُكلفك أن تفقد ثروتك، هل كنت تحسم موقفك بهذه العجلة؟ سيُكلفك أن تفقد عيناً من عينيك، أو أذناً من أذنيك، هل كنت تحسم موقفك بخصوص الله والأديان وما تبع، بهذه السرعة وبهذه العجلة؟ عشرات ألوف الشباب الآن يفعلون هذا، أليس كذلك؟ وطبعاً واضح، لا نريد أن ننتقص أحداً.

فهذا من الحكمة، وهذا نحتاجه جداً! رسخوه في أنفسكم، وفي مَن تلوون، من أبناء وبنات وتلاميذ – أخاطب الأساتيذ والمعلمين والمشايخ والمربين والواعظين -، رسخوا هذا جداً! وأيضاً أقيموا من أنفسكم أحسن الأمثال عليه! أنكم لا تخوضون إلا فيما تُحسنون، ولا تتكلمون إلا فيما تعرفون.
في المثل التركي الحكيم لا يقول كل ما يعرف. الحكيم عنده الكثير! أشياء كثيرة، حتى لا يقولها! يقول بعض ما يعرف؛ مُراعاة لأشياء كثيرة! حدثوا الناس بما يعرفون، وفي رواية ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله؟ ما أنت بمُحدث قوماً بحديث، لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة على بعضهم. مُقدمة صحيح مُسلم، والإمام علي موقوفاً عليه – الحديث الأول -، إلى غير ذلك! هذا موجود.

إذن المثل التركي يقول الحكيم لا يقول كل ما يعرف! والأحمق يقول ما لا يعرف! الحكيم لا يقول كل ما يعرف، يُمسك عن كثير مما يعرف ويُحقق من العلم والفهم، لدواع كثيرة، مُراعاة الحال والسياق ومُراعاة المُخاطب! هذا هو الحكيم. وإن كتب، يُمسك عنان القلم عن الاسترسال في العبارة والجملة وتشقيق المعنى وتحقيقه؛ رحمةً بمَن يقرأ ويُطالع، أليس كذلك؟ هذا هو! مُراعاة المراتب! قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ *، كل مُيسر لما خُلق له، وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ *، قال السادة العلماء – الأوزاعي وغيره – رَبَّانِيِّينَ * يُعلمون الناس ويُربونهم بصغار العلم قبل كباره. الطفل لو أعطيته في أول نشأته الخبز، يموت، يموت! في أول ساعاته يموت. لا بد أن يُنمّى ويُنشّأ بماذا ويُغذّى؟ بالحليب الصرف. ثم بعد يُشاب له ويُمزج بأشياء أخرى، شيئاً فشيئاً، إلى أن يصير إلى حالة تهضم معدته معها اللحم، أليس كذلك؟ هو هذا! الحكمة! كُونُوا رَبَّانِيِّينَ *.

فالحكيم لا يقول كل ما يعرف، والأحمق يقول ما لا يعرف. نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الحكمة، وأن يُفرغ منها ما يُسعدنا ويُوفقنا في الدنيا والآخرة. اللهم آمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه وحبيبه وخليله وصفيه، صلوات ربي وتسليماته عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المُباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله/

ومن الحكمة، إخوتي وأخواتي، أن تقدر أن العصر الذي تعيش فيه، عصر قارب بين الناس، بين معارفهم وثقافاتهم ومُعتاداتهم ومفروضاتهم ومُسلماتهم، إلى غير ذلكم! فالعالم اليوم أصبح أكثر غنى وتنوعاً، من عالم ضيق صغير محصور، كان إلى وقت قريب أشبه بعالم مُغلق! كان الناس تقريباً يعيشون في عوالم شبه مُغلقة. أما اليوم، فقد ارتفعت الحدود، وانهدت السدود، وامتدت الجسور. لا تُوجد سدود وحوائط، تُوجد جسور، جسور تصل بين كل العالم، بين كل سكان هذا الكوكب المعمور، أليس كذلك؟ فالحكمة تقتضي إذن أن تُراعي السياق الكوني الذي تعيش فيه، وتعلم أنك تعيش في مثل هذا العالم الغزير الثر الخصيب. فلا تُرسل بعض ما انتهيت إليه من قناعة على أنه النهاية المُطلقة والغاية التي ما بعدها غاية في الباب! تواضع، من الحكمة أن تتواضع، وأن تبذل ما عندك بتواضع ومُحاذَرة. حتى إذا أُخذ عليك شيء، وبُيّن لك ما لم تكن تعلم، أو أُضيئت المسألة من جوانب أُخرى جديدة، لم تجد نفسك مُحرجاً. أنت المُتواضع، أنت الذي تأخذ وتُعطي.

وأيضاً كونك حكيماً – جعلني الله وإياكم حكماء ألباء أذكياء مُخلصين صادقين -، أخي الحبيب أو أختي الكريمة، سيجعلك تؤثر التحقق على الأنانة أو الأنانية. الحكيم من الصعب جداً أن يكون أنانياً. لذلك الحكيم أخلاقي في أعلى درجات الأخلاقية. هل يُمكن أن يتسع العقل والذهن للجمع بين الحكمة وبين الوغادة أو الرذالة أو الخساسة أو الوضاعة أو اللا أخلاقية؟ مُحال. الحكمة بطبيعتها أعظم استثمار في الروح الإنسانية، أعظم استثمار! وإليه الإشارة العجيبة المُعجبة بقوله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ *…إلى آخر الآية! ثم قال وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ *…إلى آخر الآية الكريمة. قال هذا متى؟ قال هذا في سياق هذه الآيات الكريمة، السياق عينه الذي فيه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا *. بعد قليل! بعد قليل سيُختم السياق بهذه الآية العجيبة، المسبوقة بقوله الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *. قال بعدها يُؤْتِي الْحِكْمَةَ *.

الحكمة تُوجب على الحكيم الاستثمار، يستثمر في نفسه! من الاستثمار إخواني، أن يبذل المال والعطاء لمَن يستحق، هذا من الحكمة، الاستثمار! والله قال بعض الناس لا يستثمرون في أنفسهم. يبقون ويظلون ماذا؟ ضحلين، ضحلين! ليس لهم عُمق، ليس لهم نضوج، كَمَثَلِ صَفْوَانٍ *، حجر، عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا *. تأتون تختبرون هذا الرجل، وقد يكون من أصحاب الشهرة أو من أصحاب السلطة أو من أصحاب المال، فتجدونه ضحلاً! وقد تجدونه يُعطي – هذه هي المُصيبة أيضاً! يُعطي ويُعطي الكثير -، حتى إذا شاممتوه كما تقول العرب، واقتربتم منه، لم تجدوا له عُمقاً، لم تجدوا في شخصيته جمالاً روحياً أو نضوجاً نفسانياً. شخص بسيط محدود وفقير، فقير بملء المعنى! بملء معنى الفقر، فقير! إلى ماذا فقير، وهو غني؟ لا، فقير إلى مدح الناس، إلى نظر الناس، إلى تصفيق الناس! يصفقون له، يهللون له، يحلفون باسمه! فقير المسكين، فقير!

هذا غير أخلاقي، انتبهوا! حتى في الفلسفات الحقيقية، هذا غير أخلاقي، وإن أعطى ما أعطى! لذلك الله تبارك وتعالى لم يقف عند قضية أن تُعطي فقط، تُعطي بأي دافعية؟ بأي حافزية؟ لماذا تُعطي؟ إن كنت تُعطي رِئَاءَ النَّاسِ *؛ لتعظم في أعينهم، وتُمدح لديهم، وتُكرّم، فأنت شخص فقير، وشخص صغير ومسكين! تحتاج إلى تربية حكيمة، تحتاج! ولذلك الآية الموالية وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ *، تتحدث عن استثمار روحي، استثمار نفسي، إنضاج للنفس، إنضاج للروح. لا يُعطي ليُقال، ولا يُعطي ليُمدح. يُعطي لينضج حقاً، وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ *. إنسان له ثقل أخلاقي، له وزن روحي، ووزن نفساني. هذا الإنسان لا تقلقله القلاقل، ولا تزيله الزلازل. حتى حين يُبتلى، وربما حين يزول عنه ماله ومجده، يبقى قوياً، عفيفاً، عزيزاً، صاحب شخصية، كريماً، نبيلاً، مُمتلئاً؛ لأنه مُمتلئ بالمعنى. كل هذا له علاقة بالحكمة، بل هو في قلب الحكمة أيضاً وجوهرها، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء *. القرآن قال هذا! القرآن ذيّل بهذه الآية العظيمة، هذا من الحكمة!

قبل أيام أحدث أحد أحبابي في الله، أقول له قد يكون المرء مُحسناً كبيراً، وفي الوقت عينه وغداً كبيراً. كيف؟ مُحسن ووغد؟ نعم، المُحسن الوغد. ليس أنا، قومه، ذكرياته، اعترافاته، تؤكد هذا، اعترافاته! ما أسر به لبعض خواصه يؤكد أنه كان وغداً كبيراً! وغد كبير، على أنه مُحسن كبير، أعطى الملايين! ربما يكون من أشهر الأسماء في القرن العشرين المُنصرم – في أوله، في الثلث الأول منه! هذا من أشهر الأسماء وألمعها يا إخواني في سماء العطاء والصدقة والعمل الخيري – أندرو كارنيجي Andrew Carnegie. مشهور! سيد الحديد والصُلب، مؤسس شركة المعادن الأمريكية التي آلت بعد بيعها إلى جي. بي. مورجان J. P. Morgan إلى U. S. Steel، أعظم شركة حديد وصُلب في USA، هذا كارنيجي Carnegie!

كارنيجي Carnegie هذا باختصار الذي موَّل وأنشأ ثلاثة آلاف مكتبة حول العالم، عشرات القاعات، عشرات المؤسسات البحثية، وبنى جامعات، شيء عجيب الرجل هذا! مجالس أيضاً ومُنظمات تنشط حول العالم، تبث السلم، وتُحارب الحرب والفقر والمُعاداة والبغضاء، شيء جميل نبيل، في الظاهر! لكنه أسر إلى خاصته في آخر حياته، قال له للأسف كل هذا فعلته؛ لكي أحسّن صورتي كإنسان آثم شرير. أنا كنت آثماً وشريراً! بدليل أن عمّاله كانوا يشكون دائماً منه، وهو صاحب الملايين! صاحب الملايين؛ لأن طبعاً لم يكن في عصر أندرو كارنيجي Andrew Carnegie ملايير. هو ثروته كانت أربعمائة وخمسين مليوناً. بمقاييس عام ألفين وعشرين، تساوي حوالي سبعين مليار دولار إلى خمسة وسبعين ملياراً. تبرع هو بثلاثة وستين ملياراً منها، بمقاييس عام ألفين وعشرين؛ لأنه تبرع بثلاثمائة وخمسين مليوناً. مُعظم ثروته – أكثر من ثلثي ثروته – تبرع بها! لكنه قال فعلت هذا؛ لكي أبيّض صحيفتي. أنا آثم شرير. في آخر حياته طبعاً الضمير بدأ يستيقظ؛ لأن عمّاله دائماً كانوا يشكون أنه يستغلهم ولا يُعطيهم ما يستحقون من أجور. وحين اعتصم بعض العمّال بإضرابات – أضربوا عن العمل -، أرسل لهم الشرطة، التي أردت مُعظمهم صرعى، قتلتهم! ماتوا!

لكن قال لصديقه، قال أيضاً مما فعلت؛ تخليت عن أعز أصدقائي، وضيّعت أطفاله وزوجته. أين الأخلاقية إذن؟ لماذا؟ لماذا تُضيّع أعز أصدقائك؟ ما الذي يكلّفك أن تكفل زوجه وأولاده من بعده؟ بضع مئات أو ألوف من الدولارات يا صاحب الملايين! لكنه إن فعل، لا يفعل إلا تحت أضواء الكاميرات. لا بد أن يُكتب ما يفعله بالبُنط العريض – لم يكن التلفزيون Television منشراً كثيراً في هذه الأيام، لكن بالبُنط العريض -؛ المُحسن الكبير!

انظروا إلى القرآن الكريم، ويتحدثون عن الأخلاقيات الدينية! الأخلاقيات الدينية هي الأولى، هي الأرسخ، هي الأعظم. كل مُحاولات إرساء الأخلاق والأخلاقية Morality على أساس غير ديني، لها نُقطة انكسار وهشاشة. هذا ربما يكون موضوع خُطب قادمة – بإذن الله تبارك وتعالى -.

ولذلك يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ *. هؤلاء لا عمق لهم! في نهاية المطاف هو قال عن نفسه شرير آثم. لن نقول أكثر من ذلك، ويُحزنني – يعلم الله – أن نقول هذا الوصف الذي وصف نفسه به؛ لأن الرجل أعطى الكثير، لكن كما نقول دائما الحسن الفعلي والحسن الفاعلي. في المنظور الديني التوحيدي التأليهي لا يكفي في الفعل ليكون فعلاً صالحاً، ماذا؟ أن يكون الفعل بحد ذاته صالحاً. لا بد أن تكون النية التي حفزت وبعثت ودفعت صاحبه على فعله صالحة طيبة مُضيئة. انظروا، هنا عظمة الدين!

لذلك هذا الذي يُعطي الملايير، لو لم يره أحد – افرضوه في هذه الحالة -، وجاءه مَن يسأله، وهو شديد الحاجة إلى بعض الدُريهمات، لكن بحيث أنه إذا أعطاه، لا يعلم بهذا أحد إلا الله، لن يعطيه. وها قد ضيع صديقه! لن يعطيه. لكن انظروا إلى الرجل الذي حدثنا عنه الإمام أبو حامد الغزّالي – قدّس الله سره -، بعد وفاة أخيه في الله، يقول أبو حامد كان يتفقد أهله؛ زوجه، وعياله، أربعين سنة! كل ليلة يأتيهم بالنقود وبالطعام، كأنهم أهله، أربعين سنة! والعجيب تقول زوجة صاحبه، تقول والله ما رأى وجهي فيها مرة، ولا رأيت وجهه. الله أكبر! الله أكبر! قال لك الأخلاقيات الدينية! نسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح علينا فتوح العارفين.

اللهم علِّمنا علماً نافعاً. اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ومن أوليائك الصادقين، ودلنا عليك دلالة الصادقين العارفين.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا. أصلحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمُتقين إماماً. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهّاب، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

عباد الله

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *. وأقم الصلاة.

تمت الخطبة بخمد الله

فيينا (29/10/2021)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: