أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين الذي عم برحمته جمیع العباد، وخص أھل طاعته بالھدایة إلى سبیل الرشاد، ووفقھم بلطفه حتى فازوا ببلوغ المُراد، وأحمده – سُبحانه وتعالى – حمداً كثيراً، وأُصلي وأُسلِّم على أشرف خلائق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين صلاةً وسلاماً تامين أكملين إلى يوم الدين.

أما بعد، إخواني الأفاضل، أخواتي الفاضلات، السادة العلماء والمُفكِّرين:

أُحييكم بتحية الإسلام الطيب المُبارَك، فالسلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، تساءل المُؤرِّخ الشهير البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee يوماً عن أعظم الشخصيات تأثيراً في المسيرة البشرية، ولم يتردَّد الرجل الذي سلخ من عمره ثنتين وأربعين سنة يدرس الحضارات البشرية وفرغ من دراسة سبع وعشرين منها في الجواب بأنهم موسى، عيسى، محمد، كونفوشيوس Confucius، وبوذا Budda، إنهم مُؤسِّسو الديانات الكُبرى، هذا الذي قرَّره المُؤرِّخ الفيلسوف يُوشِك أن يُوافِقه وأن يُواطئه عليه مُعظَم المُفكِّرين من ذوي الوزن الثقيل.

جورج برنارد شو George Bernard Shaw – الأديب المسرحي الأيرلندي الشهير – قال أعظم قوة تأثيراً في الدنيا وفي الناس تظل دائماً الدين، الدين هو أعظم قوة على الإطلاق، لا يُمكِن أن يحل شيئٌ آخر محله، لكن قد يُسارِع بعض الناس إلى القول ربما هذا يُناسِب أو ينطبق على مرحلة خلت، ولا يُناسِب المرحلة التي نعيش، التي استبحر فيها العلم حتى طغى على المناهج الأُخرى والطُرق الأُخرى في استكشاف الكون واستكناه الإنسان والوجود، وهذا غير صحيح، ربما صح في بداية السكرة العلموية، التي شهدها آخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فعالم النفس الإنساني أبراهام ماسلو Abraham Maslow الشهير كتب مرة يقول نحن في حقبة من الزمن يُعَد فيها غير طبيعي مَن يميل إلى التدين، والذي أُرجِّحه أنه في القرن الحادي والعشرين سيُعَد غير طبيعي مَن ليس مُتديناً، الدين ينمو ويتحرَّك.

وزير الثقافة الفرنسي الشهير والفيلسوف والأديب العالمي أندريه مالرو André Malraux قال القرن الحادي والعشرون سيكون دينياً وإلا فإنه لن يكون، وهذا ما نشهد مصداقه الآن، هناك صحوة للأصوليات الدينية في العالم أجمع، اليهودية، المسيحية، الإسلامية، والهندوسية، حتى هناك منشط تبشيري بالديانة البوذية في أوروبا، في أمريكا، وفي أسقاع كثيرة في ربوع العالم.

إذن الدين له اعتباره أو تجدد اعتبار الدين في الحقبة التي نعيش، ولذا حديثنا لابد أن يكون مُبرَّراً حين نتناول عالمية الإسلام، طبعاً قد نتذكَّر في هذا المقام وفقاً لبعض المصادر الغربية أنه كان يُرجَّح في بداية القرن العشرين أن يزول الإسلام في ظرف جيل واحد، هذا ما كُتِب في بداية القرن العشرين، سيزول الإسلام! وقرأن قبل أشهر في أحد الأخبار أنه مع نهاية القرن الحادي والعشرين سوف يكون مُسلِماً ذلكم الرجل الذي تُصادِفه من بين كل رجلين، أي سيكون نصف سُكان العالم من المُسلِمين، مع أنه تُنبيء بزوال الإسلام واندحاره وفنائه في جيل واحد مع بداية القرن العشرين، سيكون نصف العالم من المُسلِمين في نهاية القرن الحادي والعشرين!

والعجيب أن أكثر من أربعين في المائة أو زُهاء أربعين في المائة من مُسلِمي اليوم هم من ذراري وأنسال الذين لم يكونوا مُسلِمين قبل خمسائة سنة، هكذا الإسلام يتقدَّم بسلاسة وبهدوء، دون جعجعة ودون إزعاج، لكن مَن يكشف عن بنية هذا التقدم بلا شك يُخامِره كثيرٌ من الانزعاج، مِمَن يشنأون الإسلام ولا يودون له الخير.

هل الإسلام مُرشَّح – إخواني واخواتي – فعلاً ان يقود الركب البشري التائه الحائر؟ ولا نُريد أن نعتذر عن هذا الوصف، لأنه فعلاً بلا شك حائر وتائه، وانتهى إلى نوع من العدمية، اللاحداثة أو مابعد الحداثة أو ماوراء الحداثة – Post modernism – هي مُجرَّد امتداد منطقي للحداثة، مصير الحداثة هو هذه الحالة من السيولة العدمية النهيلية، فهل الإسلام مُرشَّح أن يُؤدي دوراً حقيقياً؟

يكتب اللاهوتي الذي انقلب مُلحِداً كافراً بالمسيحية – بعهديها القديم والجديد – إرنست رينان Ernest Renan الفرنسي ليس هناك من سبب يحملنا على أن نجزم باستحالة أن يستعيد الإسلام دوره من جديد وبعقول أبنائه الولود وطاقاته الخصبة أن يُنشيء حضارة أحسن وأكثر تفوقاً من زميلتها في الماضي، أي ما يُعرَف بالعالمية الإسلامية الثانية، قال ليس عندنا سبب يحملنا على أن نجعل هذا في حيز المُستحيل، إنه في حيز المُمكِن.

أنا أعلم أيها الإخوة كما تعلمون وتعلمن أن بعض المُسلِمين يرى في هذا الكلام معزوفة جميلة لكنه لا يستوثق منه ولا يُوقِن به، هل فعلاً نحن مُرشَّحون لهذا الدور؟ هل يُمكِن أن نكون أصحاب وحملة هذا الدور وهذا المشعل للبشرية؟ هل يُمكِن ونحن في هذه الوهدة الزرية من التخلف، من النكوص، من التراجع، من التشرذم، ومن التشعع والتشظي؟ هل هذا مُمكِن؟ أكثر من مُمكِن، هذا أكثر من مُمكِن!

المُستشرِق أيضاً هاملتون جب Hamilton Gibb – وهو لا يُتهَم بولاء الإسلام ولا محبته، ودراساته الكثيرة تشهد على ذلك – كتب يقول في نزاع بين الشرق والغرب إذا كان لابد من العثور على وسيط لتسوية هذا النزاع وبشكل مقبول من الجميع فأنا أُرشِّح الإسلام وحده، لديه هذه القدرة! الإسلام يستطيع أن يحل أزمات العالم ونزاعات العالم، وهناك العبارة التي تعرفونها جميعاً والتي فاه بها جورج برنارد شو George Bernard Shaw @@@9:22 الهندي في اللقاء الشهير، قال البشرية تحتاج إلى رجل كحمد يحل لها مشاكلها وهو يحتسي فنجاناً من القهوة، من أسهل ما يكون! لأن هذا ما حدث من قبل، وما سيحدث – إن شاء الله – من جديد في الدورة الجديدة، في العالمية الإسلامية الثانية.

لا أُطوِّل بهذه المُقدِّمات التي تُدغدِغ عواطفنا وتبعث فينا الأمل، وهذا الشيئ في حد ذاته ليس بالشيئ المُستقبَح، لابد أن نستنجد بالأمل في لحظات الإحباط، لابد أن نستنجد ببريق النصر في حقبة الهزيمة، هكذا تفعل الأمم الذكية، وهكذا علَّمنا الكتاب الأجل، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۩، استنجاد بذكرى النصر في حقبة أو في لحظة الهزيمة، هذا منهج قرآني، لا بأس!

عالمية الإسلام، خصوصية الهوية وعالمية الرسالة، هل من المُفترَض ونحن الآن في عصر بل في قلب عصر العولمة أن نُفرِّق بين العالمية والعولمة؟ موضوع طويل، لكن باختصار أرى ان لفظ العالمية يُوحي بالتلقائية، ومن ثم يُؤشِّر إلى الجدارة، فالجدير اللائق يُصبِح عالمياً بثقله وبوزنه، هذا حصل مرات كثيرة في التاريخ، علماً وأدباً وفناً، إلى آخره! العالمية تُوحي بتلقائية تنتدب فيها التصدير والتعمد، أما العولمة فيحصل فيها القصد، لذلك ما يُعولَم قد يكون جديراً وقد يكون غير جدير، أليس كذلك؟ الآن تعولمت أنماط كثيرة ومناهج ليست تصلح، بالعكس! وهي تعد بمُستقبَل كارثي لمَن ينهجها نماذج للعيش وأنماطاً للتفكير والسلوك، يصدر عنها ويفرغ عنها، لكن تتعولم، لذلك فرٌ بين الفكرة المُنتصِرة وبين فكرة المُنتصِر، ما يتعولم الآن هو نمط حياة المُنتصِر، تفكير المُنتصِر، وصورة المُنتصِر، أما الفكرة المُنتصِرة حين تتعولم تكون عالمية، تم عولمتها لكنها عالمية، لو لم يحصل هذا القصد لربما سلكت سبيلها أيضاً بسهولة وبسلاسة إلى العالمية وأصبحت كونية، هذا ما يُمكِن أن نستحضره بسرعة مما يُناسِب المقام بين العولمة والعالمية من فروق.

فالإسلام إخواني الآن قابل للعولمة بحسب جُهد المُسلِمين البررة من أبنائه وبناته، لكنه يحمل كل مُخوِّلات ومُسوِّغات العالمية، لأنه عالمي بامتياز مُذ كان، وسوف نرى! هذا جُزء رئيس بل هو الجُزء الأعظم والأجل من مُحاضَرتنا اليوم إن شاء الله تبارك وتعالى.

طبعاً لست أُريد ان أُذكِّركم بأن القرآن المكي حافل وملآن وطافح بالآيات التي تُؤكِّد عالمية الدين والرسالة، المكي! بلا لا تُوجَد آية صريحة في عالمية الرسالة في القرآن المدني على طوله، كلها فرغ الله – تبارك وتعالى – من إلقائها في القرآن المكي، حتى لا يُقال محمد كان يتدرج بحسب الظروف، وقال ذلك أكثر من مُستشرِق للأسف الشديد وأكثر من تائه من أبنائنا الذين يحملون يافطات الليبرالية والحداثية والعصرنة وما إلى ذلك، قالوا محمد كان يتدرج – ومن هنا تاريخية دينه وشرعه ورؤيته الكونية الدينية – بحسب الإملاءات والظروف، لذلك بدأ مُسالِماً ومُلايناً، غير مُخاشِن ولا مُصادِم، في المرحلة المكية، لأنه كان مُستوحِشاً ضعيفاً مُنفرِداً، إلا من قليل من أصحابه وأتباعه، فلما صار إلى قوة ومنعة واستظهار سل السيف وأعلن مبدأ القوة وصار القتّال بعد أن كان الضحّاك، هكذا يزعمون! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۩.

هذه الحقيقة البسيطة التي ذكرتها تُؤكِّد عظم هذه الفرية، فهي فرية بلا مرية، القرآن المكي من أول يوم نص على العالمية، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، في سورة الأنبياء! والاستثناء هنا إما أن يكون من أعم الأحوال أو من أعم العلل، وما أرسلناك لعلة من العلل إلا لهذه العلة، أي لنرحم بك الخلائق أجمعين، وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، وللناس كافة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۩، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ۩، وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ۩، إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ۩ في موضع وحيد من سورة الأنعام في كتاب الله كله، ذِكْرَى ۩! كلها آيات مكية!
الم ۩ غُلِبَتِ الرُّومُ ۩، في مكة! فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۩، لماذا يهتم الإسلام بهذه الأحوال الكونية؟ لأنه دين عالمي، لا يرى نفسه مُنقطِع السبب ولا مبتوت الصلة بالعالم وما يجري فيه في أنحائه ومطاويه، بالعكس! إنه مُنخرِط في هذا العالم، سياسةً وفكراً وحضارةً وأدباً وفناً، وهذا ما أنجزه المُسلِمون في قرنين من الزمان فحسب!

جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru الهندي في كتابه لمحات من تاريخ العالم قال كل أمة تحتاج على الأقل – في الحد الأدنى – إلى ثلاثة أجيال لكي تُنجِز مشروعها الحضاري، إلا الأمة الإسلامية فعلت هذا في جيلين، انتهت من الأساس في جيلين! لماذا؟ قال لأن الإسلام من أول يوم اختصر الطريق حين جعل العلم شيئاً مُكرَّماً ومُقدَّساً، لم يكن على الأمة أن تُصارِع الجهل بوحشته وقتامته وعبوسه، من أول يوم! اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۩ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۩ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۩، واليوم لا أعتقد أن البشرية أدركت مدى الكرامة الإلهية التي يُمكِن أن يجتنيها الركب البشري من جراء استخدام العلم والفكر، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ۩، بالعلم الآن مَن الذي يُحمَل في البر والبحر والجو؟ مَن الذي يُرزَق من الطيبات بالعلم؟ ولذلك اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩، كلما قرأت أكثر تُكرَم أكثر، هذا هو الإسلام!

جورج سارتون George Sarton عميد مُؤرِّخي العلم في القرن العشرين، في موسوعته الضخمة في تاريخ العلم يقول الحضارة الإسلامية التي نشأت وشبت ونمت وترعرعت في أقل من قرنين من الزمان يُمكِن وصفها على سبيل التمثيل – أي نُمثِّل لها، مثلما فعل فلان وعلان، مثل ماكدونالد MacDonald وزيغريد هونكه Sigrid Hunke، ماذا أعطى المُسلِمون وماذا قدَّموا في الطب، في الهندسة، في الفلك، في الحيل، وإلى آخره؟ – لكن لا يُمكِن تفسيرها تفسيراً مفهوماً، أقر الرجل بأنها مُعجَزة، يُوجَد سر مُغلَق غير مفهوم، مُعجِزة! قوم خرجوا وانبعثوا من جوف الصحراء اللاهية وفي أقل من قرنين من الزمان يكتبون في العلوم، الفنون، الفلسفات، الآداب، وكل مناحي الفكر والإبداع البشري باللُغة العربية وحدها – يقول فيليب حتي في مُطوَّل تاريخ العرب – أكثر مما فعلت كل الأمم بكل اللُغات والألسنة، شيئ مُذهِل، شيئ مُحيِّر! أحياناً أنا أشك، هل نحن فعلاً أخلاف لهؤلاء الأسلاف؟ هل يربطنا بهم حبل أو سبب ما؟ لا نكاد نُشبِههم، كانوا شيئاً عجباً فعلاً، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، أخرجها الله – تبارك وتعالى – لكي تبعث الخير والنور الوضّاء في العالمين، وليعيش العالمون نهاراً موصول الشروق بالرحمة والخيرية والعدالة على طول قرون مُتطاوِلة بفضل الله تبارك وتعالى، فنحن بلا شك – بإذن الله تبارك وتعالى – مُرشَّحون لذلك.

ونعود إلى العالمية، عالمية الإسلام بإزاء عولمة فكر الإسلام ومناهج الإسلام وشرائع الإسلام والرؤية الكونية للإسلام المعروفة بالعقيدة، يُسمونها في الغرب الرؤية الكونية، أي الـ Big picture، Weltanschauung بالألمانية والــ Worldview بالإنجليزية، هذه الرؤية الكونية هي العقيدة، في الاصطلاح هنا اسمها العقيدة، بلا شك هذه كلها تُؤكِّد أن عالمية الإسلام أمر مقطوع به بإذن الله تبارك وتعالى، الغرب تعولم، أليس كذلك؟ لكن انظروا إلى صامويل هنتنجتون Samuel Huntington في صراع الحضارات، يعترف – وهذا يُحسَب له – ويقول نحن لم نُفلِح في نقل ديننا ونمط حياتنا إلى الآخرين لصلوحيته – لأنه صالح – وإنما بالعنف المُنظَّم الذي حملنا عليه المقهورين، يقول هنتنجتون Huntington الحقيقة التي يتنساها الغرب لكن المقهورين لا ينسونها!

الغرب المسؤول يا إخواني في مائتي سنة فقط بل في القرن العشرين وحده عن مقتل مائتين وخمسين مليون ضحية، هو مسؤول عن تسعين في المائة من هذه الضحايا، الحديث عن مائتي وخمسين مليون! والآن يُلقى علينا دروس في حقوق الإنسان وفي الرحمة وفي الإرهاب، شيئ غريب! هذا ما يُقال في حق الإسلام ونبي الإسلام!

لكن عالمية الإسلام هل لها معيار مُعيَّن؟ ما معيار العالمية؟ ما الذي يُبرِّرها؟ لماذا؟ البشرية عندها فكر، عندها ذكاء، عندها فنون، عندها فلسفات، وعندها عباقرة، في الغرب هذا بالذات! ماذا سيحتاج منا؟ ماذا يُمكِن أن نُقدِّم؟ ما ننحاز إليه إخواني وأخواتي مع ثُلة من العلماء والمُفكِّرين الرشدة البررة أن المعيار والمُرجِّح الأول رحمانية هذا الدين، أول شيئ! والذي ينبغي أن يُعيد تأويل النص الإلهي في الكتاب والسُنة ومعايرة وروز أفكار واجتهادات وآراء الفقهاء والعلماء دائماً وفقه، الرحمانية! لقوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، هذا هو الذاتي في الإسلام، الذاتي الأكبر، الجوهر، والنواة الصُلبة التي يتمحور حولها كل شيئ في هذا الدين هي الرحمانية، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، هي النواة الصُلبة! يُمكِن أن نُعيد قراءة كل شيئ بما يُحقِّق هذه الرحمانية، وهذا ما يحتاجه العالم، هذا العالم القاسي الغليظ العاسي، لأننا مُتهَمون بأننا قُساة وبأننا إرهابيون وبأن نبينا كما يقول مُحدِّثونا وخطباؤنا ووعاظنا هو الضحوك القتّال وهو الذي جعل الله رزقه تحت ظل رُمحه وهو الذي بعثه الله بالذبح، انظروا! انظروا إلى مُناكَفة ومُناكَدة القرآن الكريم باسم الأحاديث وباسم المرويات، الله يقول وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ وهم يقولون إلا ذبحاً وإلا سيفاً! كيف يُمكِن أن ينسلك هذا في ذهن مُحترَم؟ لا ندري كيف يُمكِن أن ينسلك هذا في ذهن امرئٍ مُحترَم.

كم ضحايا المُشرِكين – وهذا في إحصاء ابن عبد البر وفي غير كتاب ابن عبد البر – الذين قطت سيوف الصحابة رؤوسهم؟ كم؟ كم قتل الرسول؟ في معركة بدر سقط سبعون مُشرِكاً، في معركة أُحد بضعة عشر مُشرِكاً، في معركة الخندق ثلاثة، وتعرفون قصتهم! في فتح مكة زُهاء عشرة، في حُنين عدد يسير جداً، وهكذا طُويت صفحة مُكامَعة ومُصارَعة الشرك والوثنية بهذا العدد المنزور من الضحايا، ثم يُقال غنه الضحوك القتّال وهو نبي الملحمة وهو نبي الذبح وهو شيخ الإرهابيين! أسَّس حضارةً وأُمةً وديناً، وانعطف التاريخ انعطافته المُبارَكة به وبدينه وبصحبه، بهذا العدد المنزور أيها الإخوة والأخوات!

نعود إلى الكتاب المُقدَّس، نعود إلى العهد القديم! كم عدد ضحايا حروب التوراة؟ حروب الأنبياء وأتباع الأنبياء – أنبياء إسرائيل – كم عدد ضحاياهم؟ فقط مليونان وسبعمائة وخمسون ألفاً، غير معروفة! لكنها موجودة ومكتوبة في العهد القديم، الذين ماتوا في الحروب الدينية الإسرائيلية فقط مليونان وسبعمائة وخمسون ألفاً، إزاء أقل من سبعين! الذي سقط في عهده سبعون مُشرِكاً، عندوا وتصدوا لهؤلاء الربانيين، ثم يُقال هؤلاء إرهابيون، أما أولئكم فما شاء الله، هم منبع الرحمات، هكذا يُكذَب على الحقائق وعلى النصوص وعلى الواقع وعلى العقل، هَذا كلامٌ لَهُ خَبيءٌ، مَعناهُ لَيستْ لَنا عُقُول كما قال شيخ المعرة.

إذن الرحمة! إذا أردنا إخواني وأخواتي أن نُعرِّف بديننا، أن نُعيد إنتاج تبشير أو خطاب تعليمي وتعريفي بهذا الدين العالمي علينا أن نبدأ بالرحمة، علينا بطريقة ما أن نقول للناس نحن قوم نبينا – عليه الصلاة وأفضل السلام – الذي نعتز به ونُقدِّسه علَّمنا أنه دخلت النارَ امرأةٌ في هرة، بسبب هرة دخلت النار! لم تنفعها لا صلاتها ولا صيامها، وهو الذي علَّمنا – كما في الصحيح – أنه دخلت الجنة امرأةٌ – أكرمكم الله، تعرفون ماذا نعني بهذه اللُغة ونستحي بذكرها – في كلبٍ، أعزكم وأعزكن الله جميعاً وجمعاوات، في كلبٍ! وتعرفون قصتها مع هذا الكلب، دخلت الجنة! في كل كبد رطبة أجر، هكذا النبي يُعلِّم، عليه الصلاة وأفضل السلام.

يُقلِق أحياناً ويُزعِج بحث بعض المُسلِمين وطلّاب العلم عن نصوص جُزئية بحيالها لكي يُبرهِنوا بها على مُسوغية أو جواز أو إباحة أن نُقدِّم الخير والندى لمُشرِك أو لكافر أو لغير مُسلِم، هذا مُزعِج جداً جداً جداً، الأصل أن نُقدِّم الخير لكل أحد يا إخواني وأخواتي، هذا الأصل! وهو مُؤسَّس قرآنياً، الاستثناء هو الذي يحتاج إلى نص بحياله، لو قلت لا يجوز سأقول لك أنت المُطالَب لأنك مُخالِف للأصل، في قواعد الأصول مَن خالف الأصل هو الذي يُطالَب بالدليل، الأصل أن الخير والندى لكل الناس، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩.

طبعاً أنا واهم أن بعض المُسلِمين والمُسلِمات يحسبون ويظنون أن معنى  آية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ أنكم خير الناس وانتهى، لا! الآية لم تقل هذا، الآية تقول أنتم خير الناس للناس، أنتم خير الناس للناس! أي أنفع الناس للناس، فهذا معنى قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، اللام هنا – لِلنَّاسِ ۩ – ليست مُتعلِّقة بالضمير في كُنتُمْ ۩، إنما بــ أُخْرِجَتْ ۩، أي للناس أُخرِجت، فيصير المعنى أنتم خير أمة للناس أخرجها الله.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هُريرة رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، قال أبو هُريرة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩: خير الناس الناس، أنتم خير الناس للناس! وروى أبو بكر بم المُنذِر الشافعي بسنده عن ابن عباس مثله، قال خير الناس الناس، أي أنفع الناس للناس، الخلق عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، هذا هو الأصل! مَن خالفه يُطالَب بالدليل، لكن لا نُصدِّع رؤوسنا ورؤوس الأمة بالبحث عن دليل برأسه لكي يُبيح لنا أن نفعل الخير مع كافر أو مع غير مُسلِم، وبالمُناسَبة أُحِب هنا أن أُسجِّل مُلاحَظة كان يُمكِن أن تُدرَج ضمن نُقطة أُخرى: (حتى فهم المُسلِمين المُعاصِرين اليوم وبعض المُسلِمين حتى السالفين للكفر والكافر يحتاج إلى تقويم قرآني، الكفر ليس موقفاً مُكتفياً بذاته ومُغلَقاً على ذاته، ليس موقفاً سالباً، الآن لو سألت أي مُسلِم أو مُسلِمة مَن هو الكافر؟ سيقول لك كل مَن ليس بمُسلِم فهو كافر، وهذا غير صحيح! القرآن يقول وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ۩، قال يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ ۩! وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ۩، في سورة النساء، انتبهوا! كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ۩، إذن الكفر موقف إيجابي، أي موقف فاعل، موقف بإزاء موقف! تُعرَض عليه الحقائق بأدلتها الناصعة وبراهينها اللائحة وتُلزِمه الحُجة – هذه الدلالة – إلا أنه يعند ويستكبر ويأبى، هذا هو الكافر، هذا الذي الذي سيذهب إلى ستين داهية، ليس إنساناً لم يسمع ولم يعرف ثم تقول لي إنه كافر، هذا أمره إلى الله، الله أعلم بما كانوا عاملين أو فاعلين).

لذلك الإمام أبو حامد الغزّالي – وهو الفقيه، الأصولي، الصوفي، والمُتكلِّم، رحمة الله تعالى عليه، هذا العقل الضخم الذي قال فيه العقاد لم يعرف الشرق والغرب على تاريخه مُفكِّراً مُفكِّراً في حجم أبي حامد الغزّالي، أبو حامد شيئ عجيب – في آخر حياته وفي آخر كتاباته قال والذي أدين الله – تبارك وتعالى – به أن أكثر خلق الله داخلون في رحمة الله، لأن الدعوة لم تبلغهم على وجهها، فليس جيداً وليس مُستحَباً أن ننظر للعالمين على أنهم كفّار، ونُقنِع أنفسنا ونُعلِّلها ونحن الذين لم ننشط لدعوتهم ولا لهدايتهم بأنهم كفّار ومن أهل الجحيم ولا نُسأل عن أصحاب الجحيم، هذا الكلام مُخالِف للقرآن، الكفر موقف إيجابي، ولذلك تستطيع ان تدمغه وأن تصمه بالكفر بعد أن تُلزِمه الحُجة، هذا هو! ولذلك قبل ذلك نحن نبذل الخير والندى لكل العالمين، ونطلب الأجر الجزيل من رب العالمين تبارك وتعالى، وتعلمون النصوص وهي كثيرة جداً! مثل لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩ في المُمتحنة وغيرها، لا نُريد أن نُطوِّل بهذا.

أول شيئ إذن موضوع الرحمة، الشيئ الثاني موضوع العمار، الراغب الأصفهاني في الذريعة إلى مكارم الشريعة لخَّص مقاصد الله – تبارك وتعالى – من الخلق ومن التكليف وإرسال الرُسل وإنزال الشرائع، قال للعبادة والعمارة – هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩ – والاستخلاف، فنتحدَّث عن العمارة!

اليوم أُس فكرة العالمية لهذه الحضارة الغربية أنها حضارة عمارة، استبحرت في العلوم والتقنيات والعمران، شيئ عجيب! وفك طلاسم الكون، كون الطبيعة طبعاً! كون الطبيعة وكون الشهادة، طبعاً هنا أفتح مُزدوَجين: (بفضل الله مع هذا الاستبحار بدات تُتاخِم عالم الغيب).

قرأت قبل سنين لعالم فزيائي كبير – من حملة نوبل Nobel وهو مُتخصِّص في فيزياء الكم – عبارة اقشعر لها بدني وقلبي، قال هذا الرجل الذي ظللنا نفعله نحن أو نعمله نحن علماء الفيزياء أننا كنا نكشط طبقات عن وجه الرب، والآن في هذه المرحلة من تطور علومنا الطبيعية صار يلوح لنا وجه الله تبارك وتعالى، بقيت طبقة رقيقة جداً جداً! أي هذا العلم تاخمهم مع الحقيقة الإلهية المُطلَقة أكثر، العلم قبل مائة سنة كان سبباً للإلحاد، اليوم هو أكبر داعية للإيمان، لأن من المُستحيل أن تكون عالماً كبيراً وغير مُكابِر ثم تدّعي الكفر والإلحاد، من الصعب أن تفعل هذا!

هذا الاستبحار في العلوم والعمران! هل الإسلام يُمكِن أن يُؤدي رسالة هنا؟ بالعكس! يُمكِن كما أدى وأحسن بإذن الله تبارك وتعالى، سأجتزئ لأن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيلات كثيرة بمعنى واحد، من أجمل ما يُمكِن أن يُعاد به إنتاج النص الديني فهماً طبعاً وتأويلاً أن نفهم – إخواني وأخواتي – وأن نُفهِم الآخرين أن الدينوي يقع في طول الديني وليس في عرضه كما يقول الفلاسفة، ما معنى هذا؟

طبعاً ما يقع في عرض غيره يخضع لقانون المُزاحَمة، وأحياناً لقانون الاستبعاد، شارع – مثلاً – بعرض عشرة أمتار لا يستطيع أن يحتمل سبع سيارات تسير في وقت واحد، مُستحيل! ربما يتسع إلى أربع مثلاً، وينتهي الأمر! لابد أن تتأخَّر بقية السيارات، لأن كل سيارة تقع في عرض أُختها، مُزاحَمة! لكن حين تمشي سيارة على الأرض وطائرة في السماء لا تُوجَد مُزاحَمة، هذه تمشي في طول الطائرة، السيارة تمشي على الأرض في طول الطائرة! لا تُوجَد مُشكِلة.

الآن أبنائي أو أبناؤكَ أو أبناؤكِ أحدهم يمتلك لُعبة مُعيَّنة، هو يمتلكها في عُرض امتلاك أخيه لشيئ آخر، لذلك إذا ما نازعه أخوه عليها فإنه يغضب ويشكي ويبكي ويتفجَّع، لكن امتلاك الأب لهذه اللُعبة – وهو الذي اشتراها من حُر ماله لابنه الصغير الذي عنده ربما أربع سنوات – يختلف، الأب يمتلكها والابن يمتلكها، لكن الابن يمتلكها في طول مُلك أبيه لها، أليس كذلك؟ بالمُناسَبة هذه مفتاح – Key – بسيط يُمكِن أن يُساهِم في حل مُعضِلة القضاء والقدر بإذن الله، لم يتبأ له علماء الكلام، لكن هذا يُمثِّل مُقارَبة فلسفية للموضوع، نحن نمتلك أجسادنا ونمتلك أموالنا في طول مُلك الله لها وليس في عرضه.

الجميل أنه يُمكِن لهذه المُقارَبة أن ننقلها وأن نقتبسها في قضية العبادي والعادي، وفي قضية الدنيوي والأُخروي، علماً بأن هذا الفصل مُستكرَه، هذا الفصل الذي جاز علينا للأسف الشديد هو مُستكرَه بحسب المنطق الديني الصحيح العظيم، لا يُمكِن لأن هذا في طول هذا وليس في عرضه، هذا في طول هذا وليس في عرضه! بمعنى أنك يُمكِن أن تكون أكاديمياً ناجحاً وتحمل جائزة نوبل Nobel، وأنت بهذا التفوق والتبريز تتقدَّم خُطىً فسيحة إلى رب العالمين، وتكدح إليه كدحاً بأبحاثك وورقاتك واكشتافاتك، نعم! تعبد الله بهذا التبريز الأكاديمي، يُمكِن أن تكون مُدير شركة مُثرياص وناجحاً، وأنت بهذا الإثراء والنجاح تتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى، ما خلصت النية وصح القصد، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، وهو من نصيب الآخرة أيضاً وسيُوضَع في الميزان وتُبيَّض به النواصي وتُثقَّل به الموازين، يُمكِن!

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وفي بضع أحدكم صدقة، تأتي شهوتك وتُؤجَر، حديث أبي ذر في الصحيح، يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته وله أجر يُؤجَر فيها؟ قال أرأيتم لو وضعه أو جعله في الحرام أكان يُجزى به؟ قالوا نعم، قال أفتُجزَون على الشر ولا تُجزَون في الخير؟ هذا فيه أجر تماماً مع أنه عمل غرزي، عمل غرزي وليس عملاً عبادياً محضاً أو طقوسياً، يقع في الطول وليس في العرض بإذن الله تبارك وتعالى، ولذلك نحن نُمارِسه باسم الله، نُمارِسه باسم الله ونُضفي عليه شيئاً من قداسة الدين، أين يُوجَد كتاب مُقدَّس مثل هذا؟

في كتاب المسيحية المُقدَّس – في الإنجيل، العهد الجديد – الحقَ أقول لكم – أي أقول الحقَ لكم، هذا مُمكِن، منصوبة على الاشتغال، الحقَ أقول لكم – إنه أسهل أن يدخل جملٌ في ثقب إبرة من أن يدخل الأغنياء في الملكوت، لكن القرآن الكريم بالإزاء – إخواني وأخواتي – يُسمي المال خيراً، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ – نائب الفاعل، الوصية مفتوحة – لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۩، قال إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ۩، ما هو الخير؟ المال، يُسميه خيراً! نِعم المال الصالح للرجال الصالح في حديث أحمد في المُسنَد، رضيَ الله تعالى عن أحمد، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ، يُسميه خيراً! ما هو المال؟ المال نبض الحياة، وعصب الأمم والاقتصاد والنهضات، ومادة كل تقدم، كيف؟ هذا الإسلام بفضل الله، يقول هذا يقع في الطول ولا يقع في العرض، لا تُوجَد مُشكِلة، يُمكِن أن تُبرِّز في كل شيئ وأن تعتبر نفسك عابداً لله تبارك وتعالى.

إخواني وأخواتي:

أنا – والله – سلخت من عمري بضع سنين وأنا أشعر بالإثم، أنا رجل – بإذن الله تبارك وتعالى – أُحِب المعرفة والقراءة إلى حد الهوس، لكن قضيت سنين من حياتي وأنا أتأثَّم وأُؤَامَر نفسي، هل أُواصِل أم أنقطع؟ كنت أظن أنني كلما قرأت في الطبيعة – أي في الفيزياء – أو في الفلك أو في الفلسفة أو في المنطق أو في التاريخ أو في السياسة أنني أبتعد عن الله – تبارك وتعالى – وأُضيِّع عمري، تأثَّرت ببعض أفكار الصوفية، ولكن شيئٌ ما كان يقول لي لا، لا تلو! أتوقَّف قليلاً لبضع ساعات ثم أمضي، لو وجدت مَن يدلني على مثل هذا الفهم لربما وفَّرت على نفسي عناءً نفسياً كبيراً، للأسف لا نفهم مثل هذا الفهم، يُقال لكم ليس من عُدة الآخرة، انتبهوا! وهذا خطأ نقع فيه، هذا بعض ما أخطأ فيه شيخنا أبو حامد الغزّالي قدَّس الله سره، يقول لك في الإحياء الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان كما لا تجتمع الضرائر، الدنيا والآخرة كإنائين كلما أفرغت من أحدهما امتلأ الآخر ولا يمتلأن معاً، الدنيا والآخرة كالشرق والغرب كلما أخذت مُشرِّقاً فإنك تكون قد ابتعدت عن جهة الغرب، ما هذا؟ هذا التفكير كارثي، هذا التفكير لا يُمكِن أن يُنشئ حضارة ومدنية، لذلك عصر أبي حامد الغزّالي – مُتوفى سنة خمسمائة وخمس  للهجرة – شهد تراجعاً، هذا العصر بالذات في بداية القرن السادس توقَفت العلوم الكونية في العالم الإسلامي تماماً، لم يعد هناك أي تقدم حقيقي، كانت هناك بعض الإسهامات لكنها كانت إسهامات مُتواضِعة، فهذه المسألة لابد أن نُدقِّق عليها كثيراً – كيف يقع الدنيوي في طول الأُخروي بإذن الله تبارك وتعالى؟ – ومن ثم نرتاح من أشياء كثيرة.

الزنوج في أمريكا إلى عهد قريب – إلى الستينيات – كانوا يقولون Honey in the sky، الهناء في السماء! Honey in the sky تعني العسل في السماء، أي مَن أراد الآخرة فعليه أن يتخفَّف من الدنيا، في الأسطورة المصرية الفرعونية تقول الأسطورة لقد قُسِّمت أرض مصر إلى أربع وعشرين حصة أو نصيباً، أربعٌ منها للسُلطان، للفرعون! وعشرٌ منها – أي عشر حصص – أو عشرةٌ منها – أي عشرة أنصباء – للجُند، وعشرة أنصباء للأمراء، تمت القصة وانتهى كل شيئ! فتساءل سائل من الرعية وماذا للشعب؟ قالوا له النصيب الخامس والعشرون، لكن ليس في الأرض، في مملكة السماء! هذا أحياناً يُقال للمُسلِمين بطريقة مُعيَّنة، لكن المُسلِم لا يقبل هذا المنطق، المُسلِم يستحضر بالبداهة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، بالبداهة بفضل الله عز وجل! لكن لابد أن تُعمَّق هذه المعاني والمقولات في حياة المُسلِمين.

أيضاً لابد أن نُدقِّق في خطابنا التعريفي بالإسلام والتبشير به على شخصية رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، مُهِم جداً! لماذا؟ هنا أستذكر قصة لطيفة أعجبتني للعلّامة الهندي الكبير سُليمان الندوي، تقريباً هو بشهادة شيخنا أبي الحسن الندوي أحسن مَن كتب كتاباً في سيرة رسول الله ودفع عنه الشُبهات والتشغيبات، للأسف لم يُترجَم إلى اليوم، تُرجِمت له مُحاضَرات بسيطة، خمس مُحاضَرات! لكن كتابه يقع في زُهاء أربع مُجلَّدات ضخام، السيرة النبوية للعلّامة سُليمان الندوي، وهو شيخ أبي الحسن الندوي قدَّس الله سره الكريم ورضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الشيخ سُليمان الندوي – رحمة الله تعالى عليه – علّامة باحث موسوعي كبير، يحكي عن نفسه أنه مُنصرَفه من حج بيت الله الحرام جمعته الرفقة في السفينة بشاعر الهندي الأكبر روبندرونات طاغور Rabindranath Tagore، قال والناس يُحدِقون به، المُثقَّفون! طاغور Tagore شاعر الدنيا، قال فاقتربت منه وانتهزت الفُرصة وسألته، أيها الشاعر الحكيم أسألك سؤالاً، قال تفضَّل، قلت له ما سر أن الديانة الهندوسية وهي الديانة فيما يبدو الأكثر تسامحاً في العالم – بحسب النص المُقدَّس عندهم لا تُوجَد ديانة كالهندوسية، الهندوسية ترى كل الأديان والشرائع والمِلل والنِحل طرقاً إلى الحقيقة، تقول هذه طرق، تُشبِّه الحقيقة بقنة جبل، بذروة جبل! والأديان والشرائع والمِلل والنِحل هي طرق في هذا الجبل، مُفضية كلها إلى القنة، إلى الذروة! هذه الهندوسية، ولكنها ديانة غير تبشيرية – ليس لها امتداد خارج شبه القارة الهندية؟ لماذا؟ فعلاً هذا سؤال كبير ومُحيِّر، لكن انظروا إلى الشاعر المُفكِّر، طاغور Tagore فيلسوف! مُباشَرةً بادره بالجواب – يبدو أن هذه المسألة صدَّعته وفكَّر فيها طويلاً، فالجواب حاضر – وقال له السبب يا سيدي أن الهندوسية لم ولا – إلى الآن – تنعم بشخصية حية – من لحم ودم – تُجسِّد مُثلها وقيمها العظيمة جداً، غير موجود! عندنا شخصية أسطورية، شخصية ملحمية لاهوتية وتاريخية، غير واقعية! ثم استتلى طاغور Tagore يقول مثلاً بخلاف الإسلام، الإسلام يحظى بمحمد! وبالمُناسَبة المسيحية تحظى بعيسى، لكن فرقٌ كما بين السماء والأرض، فرق كما بين الأرض والسماء السابعة!

ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة يقول موسى كان قبل الإسلام وقبل محمد شخصية هامشية، لا يكاد يُعرَف! وإنما بدأ التعريف بموسى بفضل القرآن ومحمد، ديورانت Durant – دارس الحضارات وتاريخ حضارة الدنيا – قال بدأ التعريف بموسى في العالم بفضل القرآن وبفضل محمد، عجيب! أما عيسى – عليه السلام – فعيسى إلى الآن الشكوك – هذا من جهة نظرهم، لكن هذه عقيدة بالنسبة لنا – تتكاثر حول وجوده التاريخي، لا تُوجَد أي مصداقية لوجوده التاريخي، يُسمونها الــ Historical credibility، لا تُوجَد أي معقولية تاريخية لوجوده، أما محمد – عليه السلام – فليس كذلك، هذه أكبر مزاياه تاريخياً، وهذا ما كتبته الموسوعة البريطانية – أي موسوعة بريتانيكا Encyclopædia Britannica – في إحدى طبعاتها، استهلت مُباشَرةً مادة محمد بقولها لقد وُلِدَ محمد في ضوء التاريخ الكامل، لا يُمكِن التشكيك في المعقولية التاريخية لمحمد عليه السلام، هذا مُهِم جداً، نُؤسِّس عليه وبعد ذلك نبدأ نتحدَّث عن هذه الشخصية الكاملة، مضرب المثل في الكمال التألهي والإنساني، بعض الناس يقول النبي كان يمزح، يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان يضحك حتى تبدو نواجزه الشريفة، هذا شيئ غير عادي، غير عادي بالمرة إخواني، انتبهوا! لأن بعض المشايخ لا يكاد يضحك، خاصة إذا حاضر أو وعظ الناس وأبرق وأرعد، يرى أن هذا يغض منه! في تراثنا العلمي والتعليمي إذا ضحك العالم ضحكة فقد مج من العلم مجة، ممنوع! موجود هذا في كل كُتب أدب المُتعلِّمين، العالم المفروض أن يتجنب الضحك والمزاح وأن يكون عبوساً قمطريراً قاتماً، غير صحيح! النبي كان يضحك ويمزح مع الرجال والنساء، ومازح النساء، رأيتكن أكثر أهل النار وما إلى ذلك، مازح النساء ومازح الأطفال!

رالف والدو أمرسون Ralph Waldo Emerson – الأمريكي الشهير، صاحب المقالات – قال لا أُريد أن أُكابِر فأُخفي إعجابي بالسيد المسيح – قال شخصية مُعجِبة بلا شك – لكن لن أُصادِق على اعتباره نموذجاً للكمال الإنساني، لا! ولذلك أقول المسيح ليس قدوةً لي، إلى الآن الكلام غير مفهوم! لماذا؟ يقول إمرسون Emerson لأنه لم يثبت لدي أنه تبسَّم مرة واحدة، لا تستطيع في العهد الجديد كله أن تقع على فقرة أو كلمة تُؤكِّد أن المسيح تبسَّم، وفي ركب إمرسون Emerson سار الناقد والروائي الشهير الإيطالي – لا يزال حياً – أومبرتو إكو Umberto Eco، صاحب اسم الوردة، رواية شهيرة جداً جداً! وصاحب الدراسات السيميائية المشهورة عالمياً، أكيد المُخرِج – أين المُخرِج إدريس؟ – يعرفه تماماً، أومبرتو إكو Umberto Eco يقول في اسم الوردة على لسان أحد أبطاله وبحسب علمي لم يثبت أن المسيح تبسَّم مرة واحدة، لكن محمد كان يتبسَّم، كان يمزح، وكان يضحك، كان يتبسَّم عليه السلام! هذه خاصية غير عادية إخواني، خاصية غير عادية تجعل الدين فعلاً شيئاً من صميم الحياة، من نسغ الحياة، يُمكِن أن تكون مُتديناً وأن تكون كذا وكذا كما قلنا قُبيل قليل، هذا يقع في طول هذا، من غير أي تعارض، من غير أي إرهاق للنفس الإنسانية وحاجاتها ونزعاتها، من غير أي إرهاق! بكل بساطة يتم هذا.

بعد ذلك الذكاء، محمد – عليه السلام – كان مضرب المثل في الذكاء وحُسن التدبير والتحيل عسكرياً وسياسياً، حتى أن بعض المُتعجِّلين للأسف – لا أُريد أن أصفهم بأقذع من هذا الوصف ولن أذكر اسماً – كتب كتاباً عن الرسول والسياسة، يقول فيه والذي انتهيت إليه أن محمداً كان براجماتياً، مارس السياسة بعجرها وبجرها، كما يُمارِسها أي سياسي اليوم، وهذا غير صحيح! والله هذا محض الكذب، لا السياسة القرآنية ولا السياسة النبوية تقول هذا، ويعلم هذا مَن قرأ كتاب السياسة النبوية وهو دستور لهذه السياسة وهو تخريج الدلالات السمعية لأبي الحسن الخُزاعي، وعليه بنا العلّامة المغربي والمُحدِّث والبحّاث الكبير عبد الحي الكتاني كتابه التراتيب الإدارية، هذا يتحدَّث عن الدولة ونظام الدولة النبوية، مُستحيل! إنها سياسة من نوع مُختلِف تماماً، على كل حال النبي سُنةً والنبي رسولاً وقرآناً كان يحض على الذكاء ويُكافئ عليه، القرآن ملآن وطافح أيضاً بالآيات التي تتمدح بالعقل وبالتفكير وبالتدبر وبالنظر، كثيرة جداً!

في المُقابِل أيضاً برتراند راسل Bertrand Russell – المُلحِد الإنجليزي الكبير والفيلسوف والتربوي والمُصلِح والسياسي أيضاً – يقول – نفس الشيئ – لم أقرأ آية واحدة في الكتاب المُقدَّس تمتدح الذكاء الإنساني، بالعكس! عند المسيحيين – مثلاً هكذا، كأنها مقولة من مقولات اللاهوت، مقولة – أن تذهب إلى الجنة وأنت معصوب العينين خيرٌ لك من أن تذهب إلى النار وأنت مُفتَّح العينين، أي عطِّل العقل وعطِّل كل شيئ واقبل حتى المُتناقِضات والأشياء غير المعقولة من أجل أن تذهب إلى الجنة، يبدو أن طريق الجنة عندهم هو طريق تعطيل العقل، بعكس ديننا! وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ۩، عجيب جداً! طبعاً هذه الآية عند كل أو عامة المُفسِّرين لا مفهوم لها، وطبعاً ينبغي ألا يكون هذا مُنتفياً، مُستحيل أن يكون لها مفهوم، أعني مفهوم المُخالَفة طبعاً في الأصول، مفهوم المُخالَفة! لأن لا يُمكِن أن يُبرهِن أحدٌ على إله آخر من دون الله، مُستحيل! لكن حتى مع صحة تطبيق هذه القاعدة الأصولية الآية تُوحي بشيئ عجيب، كأنها تقول مِن وراء وراء مَن استطاع أن يُبرهِن – ولن يستطيع طبعاً وليس بالمُستطيع – وجود إله آخر من دون الله فليفعل ولن يجد شيئاً من عتب أو ملام، لكن هذا مُستحيل، هذا الدين من أول يوم هكذا.

التسامح والمُشترَكات إخواني وأخواتي، المُشترَكات كثيرةٌ جداً بيننا وبين أهل الأديان والمِلل الأُخرى، كثيرةٌ جداً! لن أذكر الأشياء المعروفة لنا طبعاً، وكل هذا يأتي تحت عنوان إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً – منصوبة على الحالية – وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۩، وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۩، في الأنبياء وفي المُؤمِنون – وهذه مرفوعة على الحكاية – طبعاً، لكن سنجتزئ بمثال واحد أضربه لكم قد تجدون فيه بعض الطرافة.

الله – تبارك وتعالى – يقول وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩، ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ في الأحقاف، ما هي هذه الأثارة؟ يبدو أنها – أي هذه الأثارة – من بقايا تراث النبيين الدارس الذي عفت عليه السنين والأيام، وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩، لفت نظري أنه في الهندوسية – إخواني وأخواتي – يتحدَّثون عن البراهمان Brahman، البراهمان Brahman هذا الإله الأكبر، طبعاً في الهندوسية يُوجَد أكثر من ثلاثمائة وأربعين مليون إله، عندهم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مليون إله لكن الجميل – انتبهوا، قد تقولون لي ما أصل هذه الآلهة؟ هل عندها أصل؟ الكل عنده أصل إلهي، للأسف لعبت وعبثت به يد التحريف، كما تلعب يد الطفل بغُرة الكتاب، لأن الله قال وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩ – واللطيف أن الهندوسية إلى اليوم تقول هذه مظاهر لعمل الإله، تُختزَل وتُجرَّد كلها في النهاية في إله واحد، مَن وصل إلى مُلاحَظة أو تلمح أو عيش – عيش روحاني طبعاً – هذه التجربة يُسمى عندهم المهاتما Mahatma، تسمعون بالمهاتما غاندي Mahatma Gandhi، هذا المهاتما Mahatma! المهاتما Mahatma يغيب عن الكثرة ويشهد تجريد الوحدة، أي يشهد أنه لا إله إلا إله واحد، إذن هذا المُشترَك، هذا يُؤشِّر إلى المُشترَك، أكثر من ثلاثمائة وأربعين مليون إله لكن لابد أن ينتهوا في النهاية إلى ما قلت، وكانوا يُفسِّرون هذا ويقولون هذه مُجرَّد فرعيات وآثار لأفعال الله، لكن الله في ذاته – كما يقول المسيحيون الآن في اللُغة اللاهوتية المُعاصِرة، أي In itself بالإنجليزية أو An sich بالألمانية – واحد لا يتعدد، شيئ عجيب! هذا مُهِم جداً.

هناك النرجونا براهمان Nirguna Brahman والساجونا براهمان Saguna Brahman، النرجونا براهمان Nirguna Brahman في اللاهوت الهندوسي هو الله في ذاته، لا يطاله وصف، ولا يناله خاطر أو توهم، هذا النرجونا براهمان Nirguna Brahman! أما الساجونا براهمان Saguna Brahman فهو الله كما يتجلى في الفكر البشري، للوعي الإنساني، وللخاطر، ويتجلى دائماً مُنسَّباً – غير مُطلَق – طبعاً، بلا إطلاقية! يتجلى بقصور، ويخضع دائماً للتصحيح، هذا الساجونا براهمان Saguna Brahman! في الأوبنشاد Upanishad – المتن الهندوسي الشهير عالمياً، تُرجِمت حتى أجزاء منه إلى الإنجليزية وغيرها، هذا درسه شوبنهاور Schopenhauer، ماكس بلانك Max Planck، نيلز بور Niels Bohr، والكثير من الكبار – هناك حيث ينقطع شعاع البصر وينعقد اللسان ويتوقف الفهم ينبثق الكلام والحديث عن اللامُفكَّر فيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، لا تتفكَّروا في ذات الله – النبي يقول – وتفكَّروا في خلقه، فإنكم لن تقدروه حق قدره، مُستحيل! لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، كيف يُمكِن أن تُقارِبه ذاتاً وهو الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩؟ هذا أمحل المُحال، لا أقول من أمحل المُحال بل هو أمحل المُحال، ليس دونه مُنتهى ولا وراءه مرمى، لا إله إلا هو! إذن الساجونا براهمان Saguna Brahman والنرجونا براهمان Nirguna Brahman.

في البوذية الماهايانا Mahayana – البوذية قسمان – يتحدَّثون عن الدارماتا دارماكايا Dharmata Dharmakaya، الدارماكايا Dharmakaya ترمز إلى الله، البوذية الأصلية يُقال – بوذية بوذا Budda – كان فيها نوع من وجود بالله، لكن البوذية التي وصلتنا للأسف الشديد ديانة بلا إله، في الحقيقة كان يُوجَد نوع من البحث، الدارماكايا Dharmakaya! إذن دارماتا دارماكايا Dharmata Dharmakaya، الدارماكايا Dharmakaya رمز إلى الله، الدارماتا دارماكايا Dharmata Dharmakaya هو في ذاته، المُستخفي الذي لا يُتوهَّم، وبعد ذلك عندنا يوبايا دارماكايا Upaya Dharmakaya، الدارماكايا Dharmakaya رمز إلى الله، واليوبايا دارماكايا Upaya Dharmakaya هو الذي يتجلى وينكشف لعباده، لكل بحسب طاقته واستطاعته، جميل! نفس الفكرة، شيئ عجيب، شيئ عجيب جداً!

لدينا في علم الكلام الإسلامي أو في العقيدة الإسلامية وفي اعتقادنا الإسلامي الله في ذاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، الله أسماء وصفات يُمكِن أن يُقارَب، لا إله إلا هو! أليس كذلك؟ نبحث عنه عدالةً، نبحث عنه رحمةً، نبحث عنه لطفاً وعطاءً، ونبحث عنه إحساباً وكفايةً وتوكلاً، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، مُمكِن! وبالمُناسَبة مُقارَبة الله كذات – لا إله إلا هو – وهي طبعاً مُستحيلة تماماً – لا يُمكِن أن تُقارِب ذاتاً لا يشركها في أي شيئ من ميزاتها أي شيئ في العالم أو في الكون، كيف تُقارِب؟ – لا يُمكِن أن تُقايس، مُستحيل! لا يُمكِن أن تُعيَّر، لكن  مُقارَبة الله كمعنى يُمكِن أن تُقايس وأن تُعيَّر بمُحاكَمة السلوك، كم فيك من الرحمة؟ فأنت قريب من الله، كم فيك من العدل؟ أنت قريب من الله، كم فيك من الصدق والوفاء والبر والعفة والأمانة؟ أنت قريب من الله تبارك وتعالى، هذا يُمكِن أن يُقايس، وهذا من شأنه أن يُحدِث نهضة في السلوك حقيقةً ونهضة في نمو الروحانية والمعنوية لدى الإنسان والإنسانة، المُسلِم والمُسلِمة.

إذن حتى البوذية لم تخل من نفس المفهوم، في اليهودية واضح جداً، يتم التفريق بين إله التوراة – يقولون – وبين إله القبيلة يهوه Jehovah، إله القبيلة هذا مرهون بظروف تاريخية مُعيَّنة، ولا يُمكِن فهمه إلا بفك سر هذه الظروف التاريخية المُعقَّدة التي مررنا بها كيهود يقولون، أما الإله في ذاته – تبارك وتعالى – فهذا شيئ آخر جليل، في الكابالا Qabalah – وهي التصوف اليهودي – يُفرِّقون بين حقيقة الله المُطلَقة غير المُتجلية وبين الحقيقة المُتكشِّفة.

بالنسبة للمسيحية – وأختم بها – في هذا المجال لها تراث طويل عريض المسيحية، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۩، مع أنهم أصحاب الثالوث والأقانيم الثلاثة وما إلى ذلك، لكن هناك نفس التمييزات، وطبعاً النقول والدراسات عندهم بالمئين وليس بالعشرات، كلها تُؤكِّد أن الله في ذاته أيضاً – يُسمونه God in sich، جُملة بالألمانية وبالإنجليزية، ليس Gott وإنما God، يقولون God n sich، الله في ذاته، أي In itself، الله في ذاته – شيئ مُحجَّب، قالوا هذا شيئ مُحجَّب لا يُدرَك.

سانت أوغسطين Saint Augustine أو القديس أوغسطين Augustine – في القرن الخامس الميلادي، معروف جداً، صاحب مدينه الإله والاعترافات – يقول الله في ذاته – أي الله كما هو – لا يُمكِن أن يصل إليه فكرٌ، أي فكر لا يُمكِن أن يصل إليه، حتى فكر الأنبياء، مُستحيل! شيئ مُختلِف تماماً، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، أما الله @56:0@@ – @@@ باللاتينية، @@@ @@ – فهذا كما يتكشَّف لعباده قال، للمُتروحِنين والسالكين والطارقين أبوابه تبارك وتعالى، نفس الشيئ!

الآن سيكون جيداً إذا أخذنا هذا الشيئ وأتينا إلى العالم وقلنا لهم نحن سنُعطيكم الجوهر والأصل والخُلاصة، لماذا أنت يا هندوسي عليك أنت تقطع ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة – ومُمكِن تُصبِح مهاتما Mahatma وتشهد الوحدة من خلال الكثرة وتغيب عن الكثرة في تجريد الواحدية، ومُمكِن تفشل في هذا، أليس كذلك؟ – لكي تصل؟ نحن عندنا الأمر قريب جداً جداً جداً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ اللَّهُ الصَّمَدُ ۩ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۩ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ ۩، لم يقل حتى ليس مثله، كأنه قال لو فرضت له – وفرض المُحال ليس بمُحال – مثلاً فليس مثل هذا المثل شيئ، شيئ عجيب! هذه طبعاً طريقة عربية في المُبالَغة، يُقال ليس مثل فلان مَن يفعل هذا، حين تسمع بشيئ يُذَم به إنسان – يُقال فلان فعل كذا وكذا أو اقترف كذا وكذا – تقول ليس مثله مَن يفعل، لا تقول هو لا يفعل، هذه تبرئة بسيطة، لكن ليس مثله مَن يفعل تبرئة عميقة جداً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩.

(ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أعتقد أن وقتي قد انتهى، أعتذر وأشكر الجميع، فمد له أحد المُنظِّمين في مُدته الزمنية من أجل أن يستكمل حديثه، فقال له فضيلته حسناً، بارك الله فيك.

إخواني وأخواتي:

القرآن الكريم حين نقرأه كما قرأه كثيرون مِمَن تضوأوا بأضوائه واستهدوا بنوره وهدايته نجد أنه يأخذ على الإنسان مجامع قلبه، ينوط بالقلب كما تقول العرب، يستبد بالإنسان! لكن من أجل ماذا؟ ولماذا؟ ما ميزة القرآن – كتاب الإسلام – عن سائر الكُتب السماوية أو المنسوبة إلى السماء؟ القرآن يرفض التفكيك، تفكيك الوجود، تفكيك الإنسان، تفكيك أجزاء حتى من الإنسان، تفكيك العقل الإنساني مثلاً، ممنوع! تفكيك الضمير الإنساني، وتفكيك السلوك! التفكيكية هي الملمح الأغلب الساحق للفكر الغربي اليوم، حضارة تفكيك، فكر تفكيك، ومناهج تفكيك!

طبعاً يُمكِن للتفكيك أن يُعترَف به منهجاً من أجل فقط الدرس العلمي في البدايات، لكن أن يُصبِح نمطاً في التفكير ونمطاً في العيش والسلوك هذه كارثة، يدفع المُجتمَع كما الفرد ثمناً باهظاً ومُرهِقاً له، في الغرب هذا شيئ طبيعي جداً، ترون هذا في الأفلام، تقرأونه في الروايات وفي الكتابات السياسية وما إلى ذلك، تجدون مَن يقول ضميري كعسكري مرتاح، ضميري كعسكري! انتبهوا، هذا ضميري العسكري وهذا ضميري البدني، أي إذا خلع بدلته فربما يتحرَّك الضمير، لكن طالما هو يلبس بدلة العسكري فالضمير مرتاح، يُدمِّر ليبيا أو الجزائر أو لبنان مثلاً، يقتل مئات الألوف وهو مرتاح، عادي! ضميري كعسكري مرتاح، ضميري كعالم مرتاح وأنا أفعل هذا الشيئ، عجيب! أنت تصنع كارثة للدنيا، كارثة للبشرية، براون Braun – مخترع الصواريخ الألماني في أمريكا – يقول لا يهمني أين يسقط الصاروخ، أنا عالم ومُهندِس، يهمني أن ينطلق، لكن أين يسقط؟ هذا لا يعنيني، أنا عالم! أشرت إلى هذا في مُحاضَرة أمس، هذه النزعة يُسمونها نزعة الحيادية الأخلاقية Amoralism، الحيادية! يقول لك لا يعنيني هذا، لست معنياً بالمسألة من أصلها، ما يعنيني كمُهندِس وكمُخترِع أن ينطلق الصاروخ، إذا انطلق فالأمر سينتهي، أنا نجحت! بعد ذلك يقع على مشفى أو على حضانة أطفال أو على ملجأ لأيتام، هذا لا يعنيني، تفكيك! شخصية مُفكَّكة.

الأسرة طبعاً هناك مُفكَّكة، أي في الغرب، مُفكَّكة تماماً! وأنا هنا طبعاً قد أستميح أستاذنا الكبير الدكتور طارق السويدان لأُعلِّق فقط بكلمة صغيرة على موضوع التيك أواي Take away، موضوع البرجر Burger والماكدونالدز McDonald’s وما إلى ذلك، أنا لا أقول يُخامِرني – بالعكس – بل أُرجِّح أن هذا نمط خطير في العيش والحياة، يبدأ شيئاً بسيطاً ثم يختلف الأمر، وأنا مُتطفِّل على منهج أستاذي أيضاً وحبيبي الدكتور المسيري رحمة الله تعالى عليه، المسيري تكلَّم كثيراً في موضوع التيك أواي Take away هذا، وعلى عادته في أحد المُصطلَحات اللطيفة سماه المكدلة، قال هناك ظاهرة المكدلة، من ماكدونالدز McDonald’s، قال هذه ظاهرة ليست بسيطة، ليست بريئة قال، فيها تحيز Prejudice، فيها تحيز خطير جداً، وتحيز واضح، غير مُستخفٍ! يُوجَد تحيز واضح، هذه ليست قضية أن تأكل أكلاً – وهذا الأكل طبعاً يتميَّز بالكفاءة، سريع، تتناوله بسرعة، يسد الجوع، وينتهي كل شيئ – لأن هذا يُشكِّل اجتياحاً لأنماط حياتنا، التي تقوم على العلائقية، الحميمية، التواصل، والأسرية.

أعتقد الأسرة العربية والمُسلِمة عموماً في اليوم على الأقل يجتمع أفرادها لمرة أو مرتين لكي يأكلوا مع بعضهم، في الإفطار صباحاً والعشاء مثلاً، وربما الغداء والعشاء أيضاً، لكن مع التيك أواي Take away هذا لم يعد موجوداً، الأب يأكل في الخارج، الأم تأكل وحدها، والأولاد يأكلون بمفردهم، هذا يُشكِّل نمطاً مُختلِفاً، يُفكِّك الروابط الأسرية شيئاً فشيئاً!

قرأت لعالم تنمية – وهو خبير تنموي أمريكي – شيئاً هاماً، هذا رجل عجيب جداً! وبالمُناسَبة هو أخذ هذا من تقرير اللجنة الأربعين – التي امتدت أربعين سنة بل أكثر من أربعين سنة – أمة في خطر، هذا تقرير مشهور جداً، أمة في خطر! كُتِب هذا بشكل بدائي في تقرير أمة في خطر، قالوا الآن حتى التعليم – المسألة كانت التعليم – الأمريكي بدأ ينقص ويتراجع، لماذا؟ جُملة أسباب، من ضمنها التيك أواي Take away هذا، البرجر Burger والماكدونالدز McDonald’s وما إلى ذلك طبعاً، قالوا عندنا نمط يقوم كله على الكفاءة السلسة العالية وعلى السرعة وعدم الاصطبار، يأكلون وهو يمشون، حتى يُمارِسون هذا في دراستهم أيضاً بطريقة التيك أواي Take away، بسرعة! وهناك تعبير لن أذكره يُعبِّرون به عن هذا، نفس الطريقة! شيئ مُخيف، قالوا هذا انعكس على العملية أيضاً التربوية والتعليمية، ما عاد الطالب حتى في المرحلة العُليا يقرأ المُطوَّلات والمُجلَّدات ويُقارِن وما إلى ذلك أبداً، يُريد  مُلخَّصاً سريعاً، يقرأ المادة في عشرين أو ثلاثين صفحة وينتهي كل شيئ، هذا أخَّر التعليم! بسبب التيك أواي Take away هذا، وضاعت الأسرة، فهذا خطأ على عكس ما يبدو في البداية، وعلى كل حال أستاذنا بحسه الاستراتيجي والنقدي أيضاً لاحظ، قال هذه المظاهر في البداية غير خطرة، لكن إن تجذَّرت وما إلى ذلك تعود بالنقض والمحو على الأصول، وهذا أعجبني جداً، الأسرة والأصول! هذا صحيح، لكن نحن في البداية لابد أن نبتعد عن هذا، كما يقولون الدفع خيرٌ من الرفع، ولابد أن نُبادِر هذه الأشياء بإقامة جسور، جسور مُعيَّنة مدروسة أيضاً ولها استخطاطية ما.

إذن التفكيك! تفكيك الأسرة، تفكيك الإنسان، تفكيك القيم، تفكيك الضمير، تفكيك بين العقل والروح، تفكيك بين العقل والنفس، وتفكيك بين النفس والجسد، ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead يقول تفكيك عقل الإنسان ومُكوّنات الشخصية الإنسانية من أسوأ ما مُنيت به حضارتنا الراهنة، فُكِّك الإنسان!

القرآن أحبابي – إخواني وأخواتي – لا يعترف بهذه التفكيكية، وهو كتاب عجيب، بين تقرأ فيه تعليقاً على مسألة عسكرية حربية إذا به يقفز بك قفزةً لكنها مقبولة وسائغة وجميلة إلى العالم الآخر، يُذكِّرك بلقاء الله – تبارك وتعالى – وما إلى ذلك، يقفز بك من الدنيا إلى الآخرة ومن الآخرة إلى الدنيا، من طلب الرزق إلى طلب الأجر، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ۩، شيئ عجيب! مُنشبِك فيه الاقتصادي بالاجتماعي بالسياسي بالثقافي بالروحاني بالدنيوي بالأُخروي انشباكاً عجيباً، في كل آية وفي كل سورة بشكل مريح وسلس، طبيعة الحياة هي هكذا!

أحد الاقتصاديين الكبار يقول لا يُوجَد مُشكِلة اقتصادية ومُشكِلة اجتماعية ومُشكِلة تربوية ورابعة ثقافية، قال هذا الكلام غير صحيح، التفكيكية يُناقِضونها! ما يُوجَد مشاكل مُؤشكَلة، مشاكل مُنشبِكة، أنت تحل من هنا وتتعقد من هناك، لابد أن يكون الحل كُلياً وشاملاً، القرآن يُعطينا هذه المزاجية في التفكير، الشمولية!

دوستويفسكي Dostoyevsky – الأديب الروسي العبقري – كتب مرة يقول في إحدى رواياته إذا وقع في بلدة ما جريمة فكل أهل البلدة مسؤولون عنها، ليس المُجرِم وليس أهل المُجرِم، كل أهل البلدة مسؤولون عن هذه الجريمة.

الاقتصادي المصري اللامع جلال أمين – هذا الرجل تقريباً يُساير المسيري، لكن من ناحية اقتصادية في عقليته ومِزاجه النقدي، وأنا أنصح بقرائته، له كُتب في مُنتهى الجمال والإبداع، جلال أمين المصري، لا يزال حياً – يقول في هذا الصدد لا نستطيع الآن أن نأتي نُخاطِب دولة لكي تُساهِم في حل مُشكِلات مُعيَّنة، قال أنا أشك في نجاح هذه المُحاوَلة، في عصر العولمة علينا أن نعمل كأسرة بشرية يداً بيد وساعداً بساعد لكي نحل مُشكِلات ستعجز كل أمة أو وطن بحياله أن يحلها وحده، هذا هو فعلاً! حُب العولمة والسيولة، سيولة الأفكار، المعلومات، الأشياء، وحرية نقل طبعاً الأفكار، الأشخاص، البضائع، الأموال، والأخبار، كل شيئ! سيولة، حالة سيولة، فعلاً هذه عالمية، لأول مرة تتحقَّق بهذه الكيفية، فلابد على العالم كله أن يتعاون، ومن هنا أيضاً ضرورة أن يُساهِم الإسلام في عالميته الثانية، في نقاش العالم، في مُحاوَرة العالم، لكن بأسلوب راقٍ ومناهج مُعتبَرة ومُحترَمة، حتى نُساهِم في إنقاذ أنفسنا وفي إنقاذ الآخرين، ولنُبرهِن أيضاً مرة أُخرى أننا من خير أمة أُخرِجت للناس.

روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة بن دعامة السَّدوسي رضيَ الله تعالى عنهما، قال بلغنا – هذا طبعاً ليس مُنتصر السند، لكن يُقبَل في بابه – أن عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – تلا قوله – تبارك وتعالى – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، وقال أيها الناس مَن سره أن يكون مِن تلكم الأمة فليؤد شرط الله فيها.

إذن التعاطي مع القرآن على أنه كلٌ واحد مُتشابِك مُتعالِق يخلق مِزاجاً ومنهجيةً في التفكير يُمكِن فعلاً أن تُساعِد في حل بعض أزمات العالم الكُبرى.

كاريل Carrel في كتابه الإنسان ذلك المجهول – أعتقد هذا في الفصل الأول، قرأته في صباي الباكر – أبدأ وأعاد في التركيز على أننا سنفشل حتماً في حل مُشكِلات الحضارة لأننا نعمد إليها بطريق التفاريق، قال هذا لن ينجح، لن ينجح! بأي طريقة من الطرق لن ينجح.

تأكيدً على ترجيح نجاح مُساهَمة الإسلام – إن شاء الله – في حل مُشكِلات العالم الراهن سأذكر لكم شيئاً يروق لي ويروق لكم إن شاء الله، الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون Nixon – ريتشارد نيكسون Richard Nixon – كتب كتاباً اسمها انتهز الفُرصة – ترجموه الفُرصة السانحة – أو اهتبل الفُرصة، وصف فيه الإسلام بأنه حية رقطاء، والقضاء عليها لابد أن يكون بقطع رأسها، أساء إلى الإسلام الرجل إساءة بالغة في هذا الكتاب، وكان له مُستشار ثقافي، الآن اسمه فاروق عبد الحق تيمناً بعمر الفاروق، مُستشاره الثقافي! قال له يا سيادة الرئيس أنت وقعت في خطأ غليظ، خطأ كبير! أنت أسأت إلى دين لا يستحق هذه الإساءة، من أعظم الأديان، قال له الإسلام؟ قال له الإسلام، قال له حسناً، إذا قرأت بعض القراءة في هذا الشيئ فأعد لي دراسة مُبسَّطة عن الإسلام، تُعرِّفني به تاريخاً وعقيدةً وشريعةً وحضارةً، فذهب هذا الرجل – ولم يكن قد أسلم بعد – وبدأ يقرأ في الإسلام، ظن أنه في شهرين أو في ثلاثة أشهر سينتهي منه، لكن المسألة تطاولت معه فاستغرقت من عمره سنتين ونصف السنة، الإسلام هائل الاتساع، وذلك لدراسته عقيدةً وشريعةً وتاريخاً وحضارةً، هائل الاتساع الإسلام حقيقةً، دين عظيم هذا، ليس أي كلام! فاستغرق في هذا سنتين ونصف ثم أعلن إسلامه بعد ذلك، نيكسون Nixon طبعاً أُسقِط في يده، لماذا أسلمت؟ قال له أسلمت من أجل كذا وكذا وكذا، وجاء هذا – فاروق عبد الحق – إلى مركز أبي النور في دمشق ستة أشهر، تعلَّم شيئاً من العربية وتعمَّق في الإسلام، مُستشار نيكسون Nixon الثقافي! بعد ذلك فرغ نيكسون Nixon من آخر كُتبه – وأعتقد هو عاشر كتاب له، عنده عشرة كُتب – ما وراء السلام، أعتقد في الفصل الخامس – في تضاعيف الفصل الخامس – قال إذا عملنا مع الأمة الإسلامية يداً بيد وساعداً بساعد فإننا لن ننجح فقط – بمعنى ما قال – في إحلال السلام بل في شيئ سيكون وراء السلام، سننعم نحن وهذه الأمة والعالم كله معنا بثمار حضارتين نبيلتين، الإسلام واحدة منهما.

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمد في أعمارنا جميعاً وجمعاوات حتى نشهد هذه الدورة، دورة عالمية الإسلام الثانية، التي يعم فيها النور – نور الهُدى والتوحيد – العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وشكر الله لكم جميعاً وجمعاوات حُسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

(انتهت الندوة بحمد الله تبارك وتعالى، وقام الأستاذ الدكتور طارق السويدان بتكريم الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، والحمد لله رب العالمين).

07/02/2011

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: