إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

حوار لا سجال أو الكارثة

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ۩ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۩ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۩ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ۩ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۩ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۩ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۩ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩، إذا فهمنا أن هذا التطفيف يتجاوز القمح أو الشعير والبندورة والذرة إلى الآراء والمواقف والاجتهادات والمصالح سنكون بخير وبخيرٍ كثير وسوف نتقدم وننتشل أنفسنا من ورطاتنا التي تورطنا فيها.
قبل يومين اتصلت بي شخصيةٌ مسلمة وفي الحق إسلامية قضت حياتها في تبني وحمل هم المشروع الإسلامي والإلتزام به والتبشير به في حدود ما أوتيت – في حدودِ ما آتاها الله، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ ۩ – لكي تسأل هذه الشخصية في حزن وتمرر لماذا يسألونني عن رأيي في الوقت الذي يعلمون أن رأيي لا يتطابق مع رأيهم وأكثر من ذلك في الوقت الذي يدرون أن رأيي لا يُغيرُ من الأمرٍ شيئاً لأنني لست شخصيةً قيادية ولست مُتنفِّذاً؟ لماذا؟ قلت لها الجواب بسيط وسهل وقريب، هم يُريدون إشارة إذعان، إنهم يُفاوِضونك ويُقايضونك على استقلالك وعلى حرياتك وعلى أناك، فيجب أن تتطابق ويجب أن تُساير ويجب أن تمتثل وإلا، وبعد (إلا) القوس مفتوح لا يُغلِق من الإحراج النفسي ومن السخرية المُبطَّنة ومن الإقصاء ومن تشويه السمعة وإلى آخره، وهذا في الحالات العادية، أما في حال نشبت حرب أهلية فإنه القتل، أول شيئ يحدث القتل مُباشَرةً لكل مَن لا يمتثل ولكل مَن لا يتطابق، أسهل شيئ القتل، فانتبهوا لأن القضية خطيرة، هذا التدرج بل هذا التدهور في الحقيقة من الإحراج والسخرية المُبطَّنة وتجهيم الوجه والسحنة بتعالٍ عليك مُمكِن ينتهي في فرصة قريبة جداً إلى القتل وسفك وتسييح الدم، فالعلاقة جدُ متينة وقوة وحاضرة بين الطرفين – بين طرف السخرية وطرف سفك الدم – لأن البنية واحدة، هى البنية التي تشعر أنها تمتلك الحقيقة المُطلَقة وتقول أنا وفقط أو نحن وفقط، أهلاً بنا ووداعاً لكم، أنا أفوز وأنت تخسر، أنا واحد وأنت صفر، أي مُباراة صفرية كما تقول نظرية الألعاب Game Theory، فهم يقولون نحن نفوز وأنتم تخسرون، نحن كل شيئ وأنتم لا شيئ، نحن نحضر وأنتم تغيبون، وهذا منطق مُخيف مُرعِب، ولذلك حين يُقال إن التسامح ليس مُجرَّد فضيلة بل أكبر من ضرورة فإن ما هو أهم أن يُقال إن التسامح يُشكِّل الحد الأدنى وليس الحد الأمثلي وليس الحد الأقصوي والأعلى وإنما الحد الأدنى Minimum، فأقل شيئ ينبغي أن نُؤكِّد عليه هو التسامح، هذا أقل شيئ وهو الحد الأدنى، لأن بدون هذا الحد الأدنى تدخل المُجتمَعات في فوضى وفي احتراب وفي تنافٍ وفي تناسخ، فينسخ بعضها بعضاً وينفي بعضها بعضاً ويمسح بعضها بعضاً، ولذا الحد الأدنى هو التسامح.

العجيب أننا كلما تسامحنا فتحدَّثنا عن التسامح وشجبنا التعصب بكل أشكاله ومبانيه وتمظهراته – الديني منه والثقافي والسياسي والأيدولوجي، فهذه هى المظاهر الأربعة الأشهر للتسامح وللتعصب طبعاً في المُقابِل، لأن التعصب كما قلنا لكم هو الضد النوعي للتسامح – يأتيك مَن يعترض ومَن يُعلِّق ومَن يُريد أن يُقيّد وأن يُحدِّد وأن يأتي بألف تحفظ، ويأتيك مَن يُريد أن يشطب على كل الكلام ليقول لك وهل أتسامح مع قاتل أبي؟وهل أتسامح مع الذي يحتل وطني؟ وهل وهل وهل وهل؟ لكن مَن قال لك هذا؟ مَن أفهمك هذا؟ هذا أصلاً بسبب غياب ثقافة التسامح، وفي ظل هذا الغياب طبيعي جداً أن تجد جامعياً أو أكاديمياً لا يفهم ما هو التسامح ويبدأ يُقيّد ويتنقَّد عليك كما يفعل مُراهِقٌ غِر لا يعرف شيئاً في دنيا الفكر والثقافة فضلاً عن أن يُنظِّر لكيف تعيش الجماعات والطوائف والمذهبيات والأحزاب في أمة مُهدَّدة بالطرد من الجغرافيا والتاريخ معاً كما يُقال دائما، فيقول هل أتسامح مع قاتل أبي؟ مَن قال لك أصلاً هذا؟ هل هناك مَن قال على مُستوى العالم – من العالمين – أن التسامح يعني شطب القوانين وأن المُجتمَع المُتسامِح مُجتمَع بلا قوانين وأن المُجتمَع المُتسامِح مُجتمَع لا يعرف ترسيم وتحديد وترتيب عقوبات على الجرائم؟ مَن قال لك هذا؟ ما معنى هل أتسامح مع قاتل أبي؟ هذا شيئ غريب وطريقة عجيبة في التفكير تُحِبطنا حقيقةً، قهى تُشعِر الإنسان بالإحباط، هلهذا هو مُستوى شبابنا؟ هل هذا مُستوى الجامعيين؟ هل هذا مُستوى المُفكِّرين الدارسين؟ في كل مرة تحدثنا فيها عن الحرية يأتيك بألف تحفظ، لأنه في الحقيقة لا يُريد أن يُنظِّر للحرية وهو مُستمتِع بالعبودية، فالحرية ستأتي بكذا وكذا وكذا وكذا وكذا، وطبعاً هذه الدنيا ليست عالم التمحض ولا التجرد، لا يُوجَد فيها خير مُطلِق ولا يُوجَد فيها شر مُطلَق، لا يُوجَد أي شيئ مُطلَق في هذه الدنيا، فكل شيئ له مزايا وله مسالب وله إيجابيات وله سلبيات، وهذا أمر طبيعي ينطبق حتى على الحرية وحتى على التسامح، فهذا يحصل مع كل شيئ، وحتى التعصب له إيجابياته طبعاً كما قال دي نرفال de Nerval، فالتعصب له إيجابياته، كما قال تعالى وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۩، لكن سلبياته أعظم من إيجابياته مليون مرة، أليس كذلك؟ فليس هكذا تُورد الأمور وليس هكذا يُدار عالم الفكر أو الأفكار، التسامح لا يعني إلغاء القوانين، ولذلك الآن هنا في الغرب الذي يتحدَّث كثيراً عن التسامح – وبلا شك أصاب أقداراً هائلة من التسامح – نعيش نحن هنا كمسلمين مرفوعي الرأس بفضل هذا التسامح فنخطب ونُؤذِّن ونُكبِّر ونُصلي، وطبعاً لم ننل كل حقوقنا ولا ينال أحد كل حقوقه لأن هذه المُجتمَعات ليست مُجتمَعات مثالية، لم تُغلِق قوس التاريخ لكنك تنال أكثر مما تناله في بلدان عربية وإسلامية بإسم الإسلام وبإسم حتى أخوة العروبة وليس فقط أخوة الدين وإنما إخوة العروبة أيضاً، فلا تنال ربما عُشر ما تناله هنا، وحتى العُشر كثير وهذه حقيقة، هنا يتحدَّثون في مُجتمَعات التسامح وعيش التسامح والتنظير وفلسفة التسامح وأشكلة التسامح – يُشكِلون هم حتى على مفهوم التسامح – عن التسامح المُتعصِّب كهربرت ماركيوز Herbert Marcuse، فهو يقول لك هذا التسامح تعصبي، حين لا تُعطي الناس القدر الكافي من المعلومات ومن الحقائق ومن المُعطيات وحين لا تُمكِّن الجماهير والعامة من أن تصل إلى مصادر المعرفة ومصادر المعلومة فإن هذا التسامح قمعي طبعاً، لأن هذه الجماهير في نهاية المطاف ستسير في اتجاه السُلطة التي تخلق لها الرأي وتُحدِّد لها الاتجاه، يقول ماركيوز Marcuse هذا التسامح قمعي ويُؤشكِّل – هذه الأشكلة – مفهوم التسامح، وهذا الشيئ جيد جداً ونبيل ومُتقدِّم لأن هذا مُتقدِّم فكرياً وثقافياً، هم يتحدَّثون عن زيرو Zero تسامح، يقولون لك إزاء أشياء مُعينة هناك صفر – زيرو Zero – تسامح أو تسامح صفر، فمثلاً إزاء خطف الأطفال لا يُوجَد تسامح – زيرو Zero تسامح – لأن لا ينبغي لدولة على الإطلاق ولا لجهاز أمن أن يتساهل وأن ويقول لك سوف نتسامح، هل تتسامح مع هؤلاء الوحوش؟ هل تتسامح مع هؤلاء الغيلان الذين يخطفون الأطفال ويعدمونهم مُستقبَلهم أو مُستقبَلاتهم – إن جاز التعبير- ،ويُدخِلونهم في دائرة جهنمية من تجارة الجنس والمُتع والفسق؟ هذا شيئ غريب، لكنهم يفعلون هذا طلباً للنقود وطلباً للمال وطلباً للثراء الفاحش السريع، وخطف النساء بالملايين، وطبعاً هذه المرة نساء بيض، هذا الرقيق الأبيض وليس الرقيق الأسود بالملايين، فهناك خطف النساء وتجارة الأعضاء وجرائم قتل مُقنَّنة، وكل هذا يحدث في الغرب الأوروبي والأمريكي، ولذا يقولون لك تسامح صفر، وبعد ذلك يُدخِلون الإرهاب في هذا، وهذه قصة كبيرة وقصة مُعقَّدة، لكن الإرهاب – إذا اتفقنا على أن شيئاً ما هو الإرهاب الحقيقي – معه التسامح صفر، غير مسموح أن تُنفِّذ برنامجك السياسي وأن تُمارِس ضغوطات سياسية بقتل مدنيين عزل لا ذنب لهم ، هذا هو الإرهاب الوقح القبيح الذي لا ينبغي أن يتسامح معه أحد تحت أي ذريعة، يتم قتل وحجز واختطاف مدنيين وأخذهم كأسرى وهم عُزل لا علاقة لهم بهم لكي تفرض خيارك السياسي، فبلا شك هذا إرهاب، سواء بإسم الدين أو بإسم الوطن أو بإسم أي شيئ، هذا لا يعنيني المُهِم هو أنه إرهاب والتسامح معه صفر، والكل يتفق على هذا، لكن نعود إلى جواب سؤال تلك الشخصية المُلتزِمة دينياً التي تسأل بمرارة وبأسى وبحزن وتقول لماذا؟ لماذا يُصِرون على معرفة رأيي وهم يعلمون أن رأيي لا يتطابق مع رأيهم ويختلف عن رأيهم على الأقل في هذه الجزئية يا سيدي مع أنه يتطابق في خمسين ألف جزئية؟ الآن فقط حين أعربت عن حرياتك وعن استقلالك وقلت أن عندك شخصية وعندك كيان وقلت أستطيع أن أقول لجماعتي أو لحزبي أو لتنظيمي أو لجماعة مسجدي أو لجماعة مذهبي أو لطائفتي أو لدولتي (لا) لأنني غير مُقتنِع ولن أتطابق معكم تم نسيان كل التطابق وكل الامتثاليات والمُسايرات السابقة، فنأتي الآن إلى هذه النُقطة فقط، لكن لماذا هى مُحرِجة إلى هذه الدرجة هذه النُقطة؟ لماذا تُحرِجهم؟ لماذا تُضايقهم؟ لماذا تستفزهم؟ لأنها تُؤكِّد أنك أنت أنت وأن باستطاعتك أن تقول أنا، وهذا غير مُحبَّذ للأسف في كل الدوائر القمعية التي تقوم على التسلط على الناس واحتكار الحقيقة وادّعاء أنهم يتكلَّمون بإسم الحقيقة، سواء الحقيقة السياسية أو الثقافية أو الدينية أو الأيدولوجية وإلى آخره، بغض النظر عن أي شيئ، فانتبهوا لأن هذا أخطر شيئ، ومن هنا أنا أقول لك كل مَن لا يُؤكِّد على استقلالك ومَن لا يحترم رأيك ومَن لا يحترم حريتك ومَن لا يحترم اختلافك معه لا يُمكِن أن يدعي أنه يُريد الخير لك، لا بإسم الدين ولا بإسم الوطن ولا بإسم أي شيئ آخر، هذا يُريد أن يُمارِس سُلطةَ عليك ويُريد أن يقمعك فقط ويُريد أن يُمارِس سلطته فقط، وبمقدار ما يُمارِس سُلطته عليك هذا المسكين المأفون نفسياً يجد نفسه وتتضخم ذاته عند ذاتها وتتضخم نفسه عند نفسها – كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ۩ – وهكذا، فهو يتضخم ويشعر بنفسه لكن في مُقابِل أن يُحوِّل أو يُحيل الآخرين إلى أصفار، وهذا ثمن باهظ ومسلك لا إنساني، وهو أول مَن يدفع ثمنه أيضاً، لأنه يتحوَّل إلى طغيان فارغ ويفقد إنسانيته، لم يجد إنسانيته الحقة بهذه الطريقة!

شخص وحيد – طبعاً هذا شخص مُجرَّد غير مُعيّن – يُمكِن أن يتحدث بإسم الحقيقة الكاملة ولن أقول حتى المُطلَقة وهو النبي أو الرسول، ولا يُراد بهذا محمداً وإنما المُراد هو كل نبي وكل رسول من عند الله، هذا الذي تُنادِمه السماء وتُوشوِش له و تُحدِّثه، هذا الوحيد الذي يقول أنا أستطيع أن أتكلَّم بإسم الحقيقة، لأنه نبي وثبتت نبوته بمُعجِزة مثلاً، وهذا هو العجيب واللافت، وهو جميل ويلفت بجمال وجلال، جلال الدين الحق الذي جاء ليُحرِّرنا، لم يأت لكي يُحيل نفسه إلى سُلطى تُمارَس علينا بإسم السياسة وبإسم الكهنوت وبإسم كذا وكذا، الدين لا يكون هكذا أبداً، أنت عبدٌ لله وحده فقط، لست عبداً للسُلطة ولست عبداً للشيخ أو للفقيه أو للمُلا، وأنا لست عبداً لأحد، أنا عبدٌ لله الحق، والحق من عند الله، بمقدار ما يبدو لي الحق أخضع وأُذعِن، والإذعان عملية قلبية، قال الله لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، ولنأخذ مثال النبي محمد لأن تراثه محفوظ مصون وكامل بين أيدينا، أي هذا الكتاب الأعز الأجل وهو القرآن الكريم، والعجيب أن في هذا الكتاب وفي عشرات الآي الكريمات – ليس في آية أو آيتين أو ثلاثة أو أربع وإنما في عشرات الآي – لا يفتأ القرآن يُذكِّر ويُؤكِّد ويُنبِّه الرسول نفسه – عليه السلام – بأنك لست إلا مُبلِّغ، لست إلا مُنذِر، أنت لست شهيداً ولست وكيلاً زلست حفيظاً فلا تُحاسِبهم ولا تُسيطر عليهم، أنت لست عليهم بجبار، وهذا أمر عجيب، كأنه يقول له اسعد بحقيقتك الوحيانية الإلهية وبلغها وادع إليها وبشر بها لكن بوسيلة الإقناع فقط وليس بغير الإقناع، لأن من طبيعتها ألا تُؤدَى ولا تتأدي إلى أحد إلا بالإقناع، قال تعالى لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، لكن يا ويلنا، سلوا كتب التفسير وسلوا المُفسِّرين عن هذه الآية، الله يقول بعبارة واضحة – لا نقول صحيحة لأن هذا القرآن تواتر طبقياً ولكن نقول أنه قال بعبارة واضحة صريحة – لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩، وهذا المقطع بالذات ذهلت فيه العقول، أنا شخصياً لم أقع على كلمة واحدة لمُفسِّر تستطيع أن تشفي الغليل أو العليل وتنقع الغليل، لماذا؟ ما سر هذا التعليل بهذه العبارة العجيبة قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩؟ بالعكس هذا التعليل أشكل على طائفة من العلماء وقالوا هذا ليس بتعليل، لكن واضح أنه تعليل، وجهابذة التعليل فهموا أنه تعليل، فالله يقول لَا إِكْرَ‌اهَ ۩، و(لَا ۩) للنفي طبعاً، لأن (لا) التي للنهي لها علاقة بالأفعال وليس بالأسماء، فإذا رأيت إسماً فهذه قطعاً (لا) نافية وليست ناهية، وهذا خبر وليس إنشاءاَ، لكن يُوجَد معنى الإنشاء، وهذا طبيعي لأن يترتب عليه هذا المعنى الإنشائي، فالله يقول أن هذا هو الحال والحقيقة، وهذا الخبر إلهي حاكٍ عن حالة تكوينية، فالله خلق البشر وضاغهم هذه الصياغة وعلى هذه الشاكلة، وهى أن بواطنهم وأن قلوبهم حرة مُستقِلة لا يُمكِن أن تُخضَع، وهل تعرفون ما هو أصعب من هذا؟ ما هو أصعب من هذا – والله العظيم – هو أنك أنت نفسك لا تستطيع أن تُسيطر على باطنك، وهذا أمر عجيب، أي أنه يقودك وأنت لا تقوده، فهل تستطيع – مثلاً – أن تتخذ قراراً بالحب؟ لا يُمكِن، تقول أنا أُبغِض هذا الإنسان وهو يُبغضني وألعنه ويلعنني ولا أستطيع أن أضغط على زر الآن بقرار فأُحِبه، أنا أُريد أن أُحِبه ومصلحتي في محبته لكنني لا أستطيع، فأنت تستطيع أن تُنافِقه وأن تتملقه وأن تُداهِنه وأن تُداجيه – تملق ومُداهاة ومُداجاة – لكن لا تستطيع أن تُحِبه حتى لو كانت مصلحتك وأمنك وحياتك ومُستقبَلك بين يديه، فأنت لا تستطيع هذا، تستطيع أن تُظهِر له أنك تُحِبه وهذا نفاق وكذب، لكن قلبك في الداخل لا يُريد أن يُحِبه، أنت تُريد أن تُحِبه وتقول أفضل أن يُواطئ ظاهري باطني وأن أُحِبه حقاً لكي أُنجِز وأُحرِز مصالحي لكنك لا تستطيع، فهذا يا أخي شيئ أنا لا أملكه من نفسي فكيف تُريد أنت أن تملكه مني؟ هذا شيئ عجيب يا أخي، أي سُلطة تملكه مني؟ لا سُلطة كهنوت ولا سياسة ولا سياف ولا جلاد ولا غيره، وهذه هى حكمة الله في خلق هذا الإنسان ليكون خليفته في الأرض، فهذا هو الإنسان إذن،لكن الأديان والنُظم والأيدولوجيات والأفكار والتنظيرات التي تسمح للبشر أن يسطو هم بضمائر بعض وأن يكون رقيباً بعضهم على ضمائر بعض هى نُظم لا إنسانية وهى نُظم طغيانية وضد الخُطة الإلهية في الخلق، فالله يقول بوضوح لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، وهذا خبرٌ في معنى النهي بلا شك لكنه حاكٍ عن حالة تكوينية فطرية خلقية، فهكذا صاغنا الله تبارك وتعالى، ثم علله – عز من مُعلِّل – فقال – جل من قائل – قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩، لأن الرشد واضح مُنماز، فقد انماز الرشد من الغي وافترق، هذا النور وهذا الظلام، هذا الشمال وهذا اليمين، هذا حق وهذا باطل، هذا ليل وهذا نهار، فالأمور واضحة إذن، لكن كيف يُمكِن أن تكون هذه الجُملة الجليلة تعليلاً لخبر – لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ – وبالتالي ما ترتب عليها من معنىً إنشائي ومن تكليف هو لا تُكرِهوا أحداً؟ الله يقول إذا كنت خلقت الإنسان على هذه الشاكلة لا ينبغي لأحد أن يُكرِه أحداً ولا للنبي محمد لأنه ليس عليهم بجبار، قال الله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ۩، فأنت مُذكِّر فقط لكنك لست بجبار، لا يُمكِن أن تقول لهم آمنوا أو أقتلكم أو
ادخلوا في ديني وإلا أذبحكم، فالله يقول له هذا فعل الجبابرة، وسبحان الله في آيات قرآنية كثيرة فعلاً لم يفعل هذا إلا الجبابرة وإلا الطواغيت، مَن الذين ذبَّحوا وصلَّبوا في جذوع النخل؟ مَن الذين قتَّلوا – لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْلَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا۩ الناس؟ مَن؟ الطواغيت دائماً والكفار، أسلوب الإكراه والطغيان والاضطهاد دائماً اصطنعه ومارسه الكفّار والطواغيت، هل مارسه نبيٌ واحد؟ مولانا جلال الدين الرومي – رضوان الله عليه – ماذا يقول؟ يقول مِن الأنبياء تعلَّمنا الحرية، وصدق في هذا،الأنبياء هم المُعلِّمون الأوائل للحرية، الأنبياء هم الذين جرَّأوا الناس أسياداً وعُبداناً على أن يقولوا للمُجتمَع – كل المُجتمَع – لا لسنا معكم، أنتم غالطون ومُخطئون، وهذا أمرعجيب، ثم ذُبِّحوا وشُرِّدوا وقُتِّلوا – الأنبياء وأتباعهم – أيضاً، ولذلك يقول الرومي في المثنوي من الأنبياء تعلَّمنا الحرية، لكن من الطواغيت تعلَّمنا الطغيان والعبودية، وهذا الطغيان والعبودية تلبس بلبوسٍ ديني بعد ذلك عند اليهود وعند النصارى وعند المسلمين لأننا لسنا بدعاً في الأمم ومن الأمم وسوف نرى لماذا!

أحدهم يكتب يقول لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩ ليس تعليلاً، لماذا يا مولانا؟ هذا تعليل طبعاً، والجهابذة قالوا العباقرة قالوا هذا تعليل، لكنه قال لو كان تعليلاً فالعلة وصفٌ ظاهرٌ مُنضبِط يدور معه الحكم وجوداً وعدماً – وهذا صحيح وهو كلام الأصوليين – فيُصبِح معنى الكلام إذا لم يتبين الرشد من الغي يجوز الإكراه وهذا باطل، لأن الرشد قد لا يتبين من الغي لطفل أو لمجنون أو لمَن لم يسمع بالإسلامِ أصلاً، لكن نحن قلنا له هؤلاء فعلاً ليسوا مُكلَّفين بالشرع، وهؤلاء فعلاً لا تقوم عليهم حُجة ولا تُبلى معاذيرهم، فمَن قال لك هذا؟ أُلزِم الحُجة وبليت معاذيرهم، فيا أخي هذا أمر عجيب وكلام غريب جداً، فمَن قال لك هذا؟

هو لم يفهم وجه التعليل، لكن ما هو وجه التعليل في قول الله لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩؟ وجه التعليل – والله تبارك وتعالى عنده العلم والحكم – كالآتي:

متى تختار أنت؟ متى تُمارِس حريتك ولا تشعر بأنك مُكرَه مُضطَر ملزوز مُلجَأ؟ متى يحدث هذا؟ حين تختار، ولا اختيار إلا بين الواضحات غير المُشتبِهات وغير المُلتبِسات وإلا لا يكون اختياراً وإنما يكون قِماراً ويكون مغامرة ومُقامَرة، وأقول لك سأرمي بالعملة، لديك النقش والطرة فاختر تحت طائلة قطع الرقبة إذا أخطأت، وهذا عجيب، هذا ليس اختياراً، هذا Fifty-Fifty لأن من المُمكِن أن تُقتَل في أي لحظة، هذه مُقامَرة ومُغامَرة بحياتك، لأن ما معنى أن يُقال هنا اختر؟ سوف تختار ماذا؟ هذا ليس اختياراً، هذا غير صحيح، علماً بأن هذا من خطأ اللغة التي نبَّه عليها فيتغنشتاين Wittgenstein، وهو من أحسن مَن نبَّه على هذه الأخطاء، فلا ينبغي أن يُقال لهذا اختيار لأن هذا ليس اختياراً والاختيار بين النور والظلام – وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ۩ – وبين اليمين والشمال وبين الليل والنهار، فيٌقال أمامك هذا وهذا فاختر، أمامك طريقان شتى، مُستقيم وأعوج – كما قال ابن الرومي – فاختر إما المُستقيم وإما الأعوج:

أمامك فانظر أيَّ نهجيك تَنْهُج                             طريقان شتى مستقيم وأعوجُ

هذا هو الاختيار فانتبهوا، لكن إذا كانت الأمور مُلتبِسة مُشتبِهة مُتداخِلة لم يكن ثمة مجال للاختيار الحق، فهذا ليس اختياراً، هذه مُغامَرة ومُقامَرة لكن الله ما كلفنا بهذا، الله يقول لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، بمعنى ماذا؟ بمعنى أن أمر الدين مُنبنٍ على وقائم على الإذعان القلبي والتسليم الرضائي الاقتناعي الذاتي الباطني، لماذا يا الله؟ قال السبب هو قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩، فأنا بعثت خليلي وحبيبي وختام أنبيائي ورسلي بدين هو دين البيّنة، كم مرة وصفه الله بأنه دين بيّن وكتاب مُبين ودين البيّنة ووصفه أيضاً بأنه نور وهدىً – في الحج هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ۩ – وما إلى ذلك؟ هذا هو دين الهُدى المُستقيم، هو دين البيّنة ودين النور، والنبي – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – سراج مُنير، فهو يقول هذا دين انماز من كل البواطيل والأباطيل، كلها في وديان وهو في واد، كلها في جهات – توزعتها الجهات – وانفرد هو بخُطة في جهة، ولذا قال قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ۩، فانتهى كل شيئ إذن، ولذلك ليس هناك ثمة مُوجِب للإكراه بل المجال مجال اختيار والاختيار أسبابه قائمة، فإن آتاك أحد وقال لك سأختار عنك سوف يكون هذا تسلطاً وطغياناً بغير مُبرِّر، لماذا؟ أنا أستطيع أن أختار، فإذا اخترت الضلال والشر والظلام سوف أتحمل مسئولية اختياري، ولذلك قال الله فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ۩، تعليل وأي تعليل؟ تعليل من أروع ما يكون التعليل.

الله يقول لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، وعودوا – كما قلت لكم – إلى كتب التفسير واستقروا ما فيها واستشيروا المُفسِّرين، لن يُقضى عندكم العجب، عجبُ عاجب حقيقة، لكن منهم من أراح رأسه وأخذ الأمر – كما نقول – من قصيره وقال لا نأخذ بهذه الآية، وأنا سأقول لكم الحق وهو أن هذه الآية باطلة، ومن ثم سوف تقول لي يا أخي اتق الله، لكن هم – والله – قالوا هذا، قالوا هذه باطلة، لكنك سوف تقول لي متى قالوها؟ وأنا أقول لك هم – والله – قالوها، كلٌ قالوها لأنهم قالوا هذه منسوخة، وانتبهوا إلى أن هذا تعبير فني وتعبير تقني يسطرون به حقيقة المعنى، على أنهم – كلهم – حين عرَّفوا وحدوا لنا النسخ وقالوا النسخُ هو إبطال حكمٍ شرعيٍ بدليلٍ شرعيٍ مُتأخِّر، فهذا هو النسخ عندكم، أي أنه إبطال، لذلك لنكن صريحين مع الحقيقة ونُواجِه الحقيقة كما هى من غير تقنيع، فنقول أن الآيات المنسوخة تعني آيات باطلة، ليست باطلة تلاوتها وإنما باطلة أحكامها، فهى أحكامها باطلة، لكن كيف نقول باطلة والله يقول لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ۩ وعلى كل حال لن ندخل في موضوع النسخ لكن هذه هى الحقيقة، هم قالوا أن آية لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩ باطلة لأن نسختها آية السيف، والعجب العاجب أن آية السيف هذه لم تنسخ فقط آية لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، وآية لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩ لم تستبد ولم تتفرد وحدها بتقرير هذه القاعدة الدينية الكُلية التي تقول أن البشر أحرار في اختيار مُعتقَداتهم ومُنتحَلاتهم بل شركتها في هذا مئات الآيات من غير مُبالَغة، فأنا أقول لكم هناك مئات الآيات – أقل شيئ هو مئتان وخمسون آية لأن قد تكون أكثر من هذا، فإذن هى مئات الآيات – تقول هذا، فهل
تعرفون ماذا قالوا؟ قالوا كلها باطلة، وهذا غير معقول، هل تُوجَد مئتا آية كلها أنزلها الله ليُبطِّلها بآية واحدة؟ متى حدث هذا يا أخي؟ أي دين هذا؟ أي تفسير هذا؟ أي فقه هذا؟ هذه أمة تُنظِّر للاضطهاد وتُنظِّر للإكراه وتُنظِّر لأصنام الطائفية، لكي تكون طائفياً حتى النُخاع وتقول نحن فقط لأن هذه طريقتنا، وهذه طائفية حتى على مُستوى الأمة، وهذا شيئ غير معقول، بعضهم يستحي – المُعاصِرون يستحون ولا يقولون هذا لأن هذه مفضوحة ورائحتها فائحة – ويقولون هذا مخصوص، أي يُخصِّصون العموم لأنه هذا نكرة في سياق النفي، ففي آية لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩ عندنا نفي وعندنا نكرة ومن ثم تعم، أي تعم كل ما يُمكِن أن يخطر على بالك من صور الإكراه، لكنهم قالوا هذا إكراه خاص بأهل الكتاب والمجوس، وهذا إكراه خاص بكذا وكذا، وخصوصه زمنياً وقالوا بعد أن استخلص الله بلاد العرب لرسول الله ودخلوا في الإسلام أتت آية لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩ لكن قبل ذلك وُجِدَ الإكراه، وعلى كل حال بعضهم أوَّل هذا وأنا أحصيت لهم من وجوه التأويل ثلاثة عشر وجهاً، وطبعاً يضيق المقام عن هذه الأمور، ولا حاجة للمقام إلى ذكرها، لكن يُوجَد ثلاثة عشر وجهاً في تأويل لفظة الإكراه ولفظة الدين، فهم أوَّلوا الدين مرتين وأوَّلوا الإكراه في إحدى عشرة مرة والنتيجة هى إكراهٌ في الدين، بل يتجاسر بعضهم مثل إمام كبير – رحمة الله عليه وغفر الله لنا وله – ويقول بلى هناك إكراه، وهذا أمر عجيب، عجيبة هذه الجرأة على الله، ولذلك أنا قلت لكم في خُطبة الهداية المردودة هذا، والآن هذه هداية مردودة، فالقرآن هداية مردودة – ردتها هذه الأمة – وهداية مهدورة، الله يقول لَا إِكْرَ‌اهَ ۩ وهو يقول بلى هناك إكراه، وهل يقوم الدين وينتشر وينتصر إلا بالإكراه؟ كيف هذا؟ هذا إمام – والله – من أكبر الأئمة وهو إمام متبوع وأقسم بالله على هذا، وهذا شيئ يقشعر له البدن، نا أقشعر بدني منه، فهم يتلون كلام الله ويعرفون الآية التي تقول لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ ۩، بماذا تُجيب الله إذن؟ بماذا ترجع يوم القيامة إذا قال لك يا عبدي أنا قلت لك لَا إِكْرَ‌اهَ ۩ وأتيتك بأدلة كثيرة على أن هذه القاعدة كُلية لا تُنقَض؟ القواعد لا تُنقَض، فكل ما شأنه شأن القواعد لا يُنقَض في دين الله، وهذه قاعدة وليست حكماً شرعياً عادياً وإنما قاعدة من القواعد، والشاطبي له كلام من أجمل ما يكون في الموافقات يتحدَّث فيه عن عدم منسوخية وعدم قابلية القواعد للنسخ، وهذا من أجمل ما يكون وقد أتى في زُهاء سبع صفحات، فأصولياً لا تقبل القاعدة أن تُنقَض، هذا خبط وخلط منهجي، لكن أنتم قلتم معاشر الفقهاء هذا، فما المُشكِلة إذن؟ لماذا فعلوا هذا؟ أنا اقول لك أن هذا هو المُهِم، هذا المطلوب للسلطة السياسية التي تُريد أن تستنعج – تُحوِلهم إلى نعاج وأغنام – الناس، ومطلوب للسلطة الكهنوتية ولسلطة رجال الدين، لكن أنا أنكش رأسي وأنكش فكري وأقول أين في كتاب الله أنه يجب أن نتبع العلماء وأن نرجع إليهم في كل شيئ؟ طبعاً لابد أن يكونوا من العلماء والمُتخصِصين لكي نرجع إليهم ولا مُشكِلة في هذا، لكن هذا قليل جداً جداً جداً، والأدلة التي يُعوِّلون عليها هى بمعزل عما ذهبوا إليه، قالوا أن الله قال فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ ۩ وهذه الآية – والله – ليست فيهم، هذه الآية في أهل الكتاب وفي قضية الاعتقاد واقرأو السياق لكي تعرفوا هذا، لكنهم قالوا أن الله قال فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ۩ وأصبحت هذه الآية في العلماء والفقهاء وهى ليست فيهم، هذه في أهل الكتاب، والذكر هنا هو الكتاب الأول، فانتبهوا إلى هذا الاقتطاع، جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩، ثم قالوا أن الآية الكريمة تقول لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ ۩ وهى ليست فيهم أيضاً، هى في شأن دنيوي لا ديني وفي شؤون مدنية وفي شؤون حربية وشؤون سلمية – الحرب والسلم – أيضاً، قال الله وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ۩، فهذه في القضايا التي تتعلَّق بالكيفية التي تعيش بها الناس مثل حالة الحروب والمشاكل، ففلان – مثلاً – يُريد أن يغزونا أو الدولة الفلانية أو حدثت خيانات وما إلى ذلك، ولذلك الله يقول وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ – في السلم أو الحرب – أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ۩، وهنا لم يقل إلى الله وإلى الرسول لأنه هذه قضية دنيوية ليس لله علاقة بها، فانتبهوا وانظروا إلى دقة القرآن الكريم، وإلا كان يقول ولو ردوه إلى الله والرسول وأولي الأمر، لكنه لم يقل هذا أبداً، مَن كان الحاكم؟ مَن السائس؟ رسول الله، فطبعاً يُرَد إليه لأنه القائد الأعلى للدولة في السلم والحرب، قال الله وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ۩، فإذا كانت القضية عسكرية اسأل القائد العسكري، إذا كانت لها علاقة بالجيش اسأل العساكر، إذا كانت قضية مدنية اسأل المسؤول، مثل جامع الصدقات أو المُصدِّق أو المسؤول عن أي شيئ، ثم قال الله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ ۩، أي لعلموا هذا الأمر، لكنهم جعلوها في الفقه والحلال والحرام، والآن نرى مُؤسَّسات تفخر وتقول أنه بفضل الله في كذا وكذا سنة أصدرت كذا وكذا ألف فتوى، وهذه ليست مفخرة، وقد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ وأنا أقول هذه ليست مفخرة، الصحابة كانوا يفخرون أنهم ما سألوا رسول الله – أسئلة طبعاً خلَّدها القرآن الكريم، مثل وَيَسْأَلُونَكَ ۩، – إلا بضع عشرة مسألة، وابن عباس قال هذا، قال ما سألنه إلا في بضع عشرة مسألة، ويُقال ثلاث عشرة مسألة في رواية، هذا هو فقط، فهل تعرفون لماذا؟ لأن خُطة الله التشريعية تقول امضوا على هينتكم، كله مُباح إلا ما رأيتم إشارة الحظر أمامكم وقد كُتِبَ عليها قف – Stop – بخط أحمر كبير، وهذا قليل طبعاً، تقول الآية الكريمة قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، وتقول الآية الكريمة أيضاً وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ ۩، فهؤلاء المُحرَّمات من النساء وما وراء ذلك كله حلال، هذه هى طريقة القرآن الذي يقول هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۩، فالأصل في الأشياء الإباحة، وهذا هو دين الله تبارك وتعالى، هو دين حرية وليس دين كهنوت، ومن هنا قال لك امض على طيتك وامض على هينتك، فإذا وجدت إشارة كُتِبَ عليها قف – Stop – توقف وسل التشريع، لكن فيما عدا ذلك لا تكن مُهوَّساً ولا تكن مسكوناً بهاجس التحريم، كأن تقول عن كل شيئ أنه حرام، لكن الآن طريقة الفقهاء وخاصة في العصر الأغبر هذا جعلت للناس عقليةً ومزاجاً علمياً معرفياً دينياً يقوم على أن الأصل في كل شيئ هو الحظر والتحريم، ولذلك الفرد المسكين إذا أراد أن يلبس خاتمه فإنه يسأل هل نلبسه في هذا أم في هذا؟ هل نلبسه في الشمال أم اليمين؟ هل هذا حلال أم حرام؟ وهذا حلال يا أخي، هذه مسألة زينة – كلها على بعضها مسألة زينة – فقط، فلماذا تُدخِل فيها حلال وحرام؟ دين الله أعظم من هذا وأجل، لكنني سأجد مَن يقول هذه هى السُنة قطع الله لسانك، وهذه يا رجل مسائل ترفيهية تكميلية لا يُمكِن إلا أن تكون كذلك، لكن مسألة حلال وحرام – ومسألة حرام بالذات – مسألة عظيمة غليظة في دين الله، فكلمة حرام كلمة مُخيفة جداً، والنبي ما كان عنده الحق أن يُحرِّم من تلقائه ومن لدنه، هذا ممنوع وهو الرسول، والآيات على هذا بالعشرات أيضاً، لكن هذا موضوع ثانٍ، وعلى كل حال الآن الناس ينطلقون بهذه العقلية، فيقول الواحد منهم كل شيئ مُحرَّم لذلك لابد أن أستفتي، فهؤلاء المساكين في كل شيئ يستفتون، وطبعاً هذا تُحوَّل إلى تجارة، والتليفون – – Phone الفقهي موجود وتُؤخَذ الأموال والمليارات – والله العظيم – من أجل الإفتاء، فضائيات تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة وهى تتكلَّم في الدين والإفتاء والحلال والحرام والمشاكل، وهذا أمر غير معقول طبعاً، وهذا هو التدين الشمولي، علماً بأن فكرة التدين الشمولي تعني أن يدس يده – ولن أقول خشمه، حاشا لله، وإنما سأقول يدس يده ويدس إصبعه – في كل شؤون حياتك وفي كل ما هب ودب، وهذه فكرة بعيدة جداً جداً جداً من هدي القرآن الكريم، لكنني سوف أجد مَن يقول هذا غير صحيح يا رجل، قال الله مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، وأنا أقول له هذا لا يُراد به القرآن يا أخي، اقرأ القرآن جيداً، الكتاب الذي لم يُفرَّط فيه من شيئ هو اللوح المحفوظ وليس القرآن يا رجل، وحتى إن قلنا أنه القرآن وليس اللوح المحفوظ فالمقصود في قوله مِنْ شَيْءٍ ۩ أي من شيئ من شؤون التشريع، والتشريع القرآني قائم على مبدأ الاقتصاد، أي الاقتصاد في التشريع والاقتصاد في الاعتقاد أيضاً، فهذا هو دين الله فقط، وهو بسيط وهين وجميل ويُمكِن أن يُحاط به بسرعة، على عكس دين المُؤسَّسة وهذا التدين الشمولي الذي يدس أصابعه في كل شيئ من حياتك ولا يجد سناده ومُبرِّره في كتاب الله، لكنه يجد سناده – بل أسندته – في كلام وفي سلوك الفقهاء المُؤسَّسين لهذه المُؤسَّسات الفقهية الدينية، أي المُؤسَّسات المعنوية طبعاً وحتى المادية، لكن المقصود هنا المعنوي بالمعنى الاجتماعي، فهذا هو إذن، ولذلك يقولون لك أصدرنا كذا وكذا فتوى ويتحدَّثون ألوف الفتاوى التي لا نحتاجها، فلماذا كل هذا العدد الهائل المُخيف من الفتاوى؟ لأن الحياة أصبحت حياة توقف، فنحن – مثلاً – كلنا تقريباً نقود السيارات، ونُحِب أن نقود السيارات على الخط السريع – Highway أو Autobahn – طبعاً، لماذا؟ لعدم وجود علامات توقف مكتوب عليها قف – Stops – كثيراً، في كل مائة وخمسين كيلو تظهر لك علامة عليها كلمة قف – Stop – لوجود تحويلة، ولذا نحن نُحِب هذه، لكن السياقة داخل البلدة تُتعِبنا جداً جداً، لكن بالنسبة للمسلمين لا يُوجَد طريق سريع – Highway – بل كلها أزقة وإشارات تقول توقف هنا وتوقف هنا وتوقف هنا وهكذا، ففي كل منطقة لابد من أن تتوقَّف ولذلك نحن مُعتقَلون، عندنا حالة جمود عقلي وجمود فكري وجمود فقهي ونعيش في حالة اعتقال، فنخاف أن نجتهد وأن نقول رأينا.

نرجع إلى موضوع السُلطة ومُمارَسة السُلطة، كل مَن لا يُؤكِّد استقلالك وحريتك ولا يرضى بأن يكون لك رأيك وموقفك وإن خالف وإن خالف رأي الناس – كل الناس – هو لا يُريد أن يهديك ولا يُريد منك أن تنمو ولا لك أن تتكامل، وإنما يُريد أن يُمارِس سلطته عليك، وطبعاً لو سألنا أين تجد السُلطة نفسها؟ هل تجد السُلطة نفسها في الإباحة أم في التقييد والتحديد؟ فإننا سنعلم أن كل سُلطة تجد نفسها في التقييد والتحديد، السُلطة – كل سُلطة – جاءت أصلاً لماذ؟ للمنع والتقييد والتحديد، هذه هى السُلطة، فلا تُوجَد سُلطة تجد نفسها في الإباحة، هذا أمر مُستحيل، هى تجد نفسها في المنع أكثر بكثير، ولذلك حين تُمارَس علينا سُلطة معرفية وسُلطة إفتائية وسُلطة فقهية وسُلطة علمية سيُصبِح طبعاً عالمنا عالماً مشحوناً بالتحديدات والتقيدات والمحظورات والتابوات التي لا عد لها ولا حصر على الإطلاق، وسنُعتَقل كما قلت لكم، لكن النبي ليس له هذا الحق، هذه سُلطة بإسم الدين وتستند على حقيقة مُطلَقة وتستمد شرعيتها من الغيب، فهذه هى السُلطة، وهناك سُلطة بإسم السياسة وتستند على الكلام بإسم الحقيقة المُطلَقة وتستمد شرعيتها وصدقيتها من الزعيم أو من السُلطة ككل حين تكون سُلطة اندماجية إن جاز التعبير، لكن في الأكثر تستمد هذا من الزعيم، علماً بأننا نرى الآن تنظيراً غريباً لخلق زعماء، لكنهم ليسوا زعماء بالمعنى الإيجابي وإنما زعماء بالمعنى التصنيمي كما قال مالك بن نبي، قال الأمم الواعية المُتحضِّرة تصنع زعماءها لكن نحن نُصنِّع أصنامنا، فهذه أصنام تُعبَد، ولذلك يخلعون على مَن يُريدون أن يُحوِّلوه إلى صنم ويُسنِدون إليه صفاتٍ ونعوتاً ومكارم وأمثاليات عجيبة تُلحِقة بعالم الملائكة أو بعالم القادة العظام، مع العلم أن مثل هذه العقلية أنتجت لنا الفاشية وأنتجت لنا النازية وأنتجت لنا ستالين Stalin ولينين Lenin، ولذلك المسرحي العظيم برتولت بريشت Bertolt Brecht أو بريخت Brecht ماذا كتب يقول؟ كتب يقول طوبى لأمة ليس لديها أبطال، فهو يقول لعنة الله على الأبطال والبطولة، لأنه عاش طبعاً في حقبة رأي فيها ماذا فعلت هذه البطولة وماذا فعل هؤلاء الأبطال في الناس، ومن ثم قال طوبى لأمة ليس لديها أبطال، فنحن لا نُريد أبطالاً، لكن أنا أقول لكم أن في الحقيقة ما مِن أمة ليس لديها أبطال، وكل أمة بلا أبطال هى على شفير الاضمحلال وبصدد الزوال، لكن أنا أقول لكم فرقٌ بين البطل وفرقٌ بين الآلهة، ولذا طوبى لأمة ليس لديها آلهة – آلهة زائفة طبعاً – ولها إلهٌ واحد – لا إله إلا هو – فقط، فهذا هو الذي يُحرِّرنا، أما بالنسبة للأبطال فلابد لنا من الأبطال، لكن تصنيم الأبطال لا يجوز.
نعود ونقول إذن المسألة خطيرة، فهى ليست مسألة ترف وفضول فكري، فنحن لا ندعو إلى التسامح ونبذ التعصب لأننا نُريد أن نُمارِس استعراضيات تنظيرية أبداً والله، لكن الموضوع أخطر مما نتخيَّل ونتصوَّر، مع أنه الآن الأمة العربية بالذات هى الأمة رقم واحد في العالم التي لا ينبغي أن تمتري في خطورة هاته الطروحات وأهميتها، هذه الأمة بالذات ينبغي أن تُدرِك هذا لأنها الآن تعمل على ماذا؟ تعمل -كما قلت لكم – على التنافي، على أن ينفي بعضها بعضاً وأن يمسح بعضها بعضاً وأن يُشيطَّن بعضها بعضاً، فمَن نُصدِّق؟

الإخوان المسلمون في مصر بلا شك فشلوا وأُفشِلوا، علماً بأنني قلت هذا من على المنبر، فهذه قناعتي وقد أغضبت كثيرين من أحبابي لكن لا بأس، فهم فشلوا وأُفشِلوا ومارسوا الفشل بشكل مُركَّب وغريب، ولكن هل هم فعلاً كما يُصوَّرون اليوم؟ هل هم شياطين؟ هل هم شياطين محض لا خير فيهم وهم أعداء لله وللوطن وللتاريخ وللجغرافيا ولكي شيئ؟ هل هم الآن المسؤولون وحدهم عن كل ما حدث ويحدث؟ هذا – والله – شيئ غريب ومنطق غريب جداً جداً وهو شيئ لا يكاد يُصدَّق، لماذ؟ لماذا حين أختلف معك يجب أن أُحوِّلك إلى شيطان؟ أنا لست شيطاناً ولست ملاكاً، أنا بشر وأنت بشر، وأنت تُخطيء وأنا أُخطيء، وأنت تُصيب وأنا اُصيب، ولذلك أنت تربح في مرات وأنا أربح في مرات، وأنت تخسر في مرات وأنا أخسر في مرات، وطبعاً لا يُمكِن أن تربح وأربح إلا أن يخسر كلانا، فتخسر قليلاً وأخسر قليلاً ومن ثم نربح معاً، فهذا هو المنطق البشري الطبيعي، وهذه هى المُجتمَعات التي تُريد أن تعيش وتمتد وتنمو، لكن ما يحدث أنني لا أستطيع أن أُخالِفك وأدحض حُجتك حتى أُحوِّلك إلى شيطان، لابد أن تستحيل شيطاناً في البداية وهذا غير معقول، لكن هذا يحدث حتى حين يختلفون مع الشيعة، وقد رأينا عالماً كبيراً ومرجعية قضى سنوات من عمره في التقريب مع الشيعة – وهذا الشيئ حسن، ونحن نُحِب التقريب مع كل الأطياف، فكيف مع مسلمين مُوحِّدين أمثالنا؟ – وبعد ذلك اختلف واختلفت التوجهات فقال هم مُشرِكون لأنهم يقولون يا عليّ ويا حسين، فأنا قلت على هذا المنبر أن هذا – والله – شيئ جميل، بعد ألف وأربعمائة سنة اكتشفنا أن الشيعة يقولون يا حسين ومن ثم اتضح أنهم مُشرِكون بعد ألف وأربعمائة سنة، هم طوال حياتهم يقولون يا عليّ، وعندما كنت تتقارب معهم كانوا يقولون يا عليّ ويا حسين ويا عباس ويا جعفر، وأنت عندك مِن جماعتك السُنة مِن الصوفية مَن يقولون طوال حياتهم يا عبد القادر ويا أبو العباس المرسي ويا عبد السلام بن مشيش ويا سيدي البدوي ويا فلان ويا علان،فكفرِّهم إذن أيضاً، بهذا المنطق ينبغي أن تُكفِّر الأمة كلها سُنةً وشيعة، فلا تقل هذا يا إمامنا – أطال الله عمرك – ويا عالم، أين الإنصاف؟ ماذا تُريدون أنتم؟ ماذا تُريدون لدينكم ومن دينكم؟ ماذا تُريدون من أمتكم ولأمتكم؟ يجب أن تكونوا واضحين، فإن لم تكونوا واضحين يجب أن نكون نحن وأمثالنا واضحين وأن نتكلَّم بوضوح مُحدَّد حتى وإن كان جارحاً، ونعتذر عن كل استطالة لكن لابد أن تُقال الحقائق، فلماذا تُشيطِّن الآخر؟ حتى يتسنى لك أن ترد عليه، لكن ينبغي من غير أن تشيطنه أن ترد عليه يا سيدي، ونقول لك حاوِره لا تُساجِله، فنحن لا نُريد السجال Polemic، والآن سأشرح لكم ما هو السجال هذا لأن حياتنا كلها سجالية لا يُوجَد فيها أي حوار، فهم
يتحدثون لك عن الحوار وعن الاتجاهات المُتعاكِسة في حين أن لا يُوجَد عندنا أي حوار وإنما يُوجَد سجال فقط، أمة تتساجل ولا تتحاور لأنها لا تعرف الحوار أصلاً الآن، لكن في القديم هذه الأمة عرفت الحوار كما لم تعرفه أمة – إي والله – بفضل الله تبارك وتعالى، في مساجدها كان يجلس اليهود والنصارى والثانوية والزردشتية والزنادقة ويُدافِعون عن مذاهبهم شعراً ونثراً، بل ويسخرون – كما قلت لكم مرة – أحياناً من آيات كتاب الله في المساجد، ولم يكونوا يُقتَلون ولا يُحكَم عليهم بالإعدام، لكنك قد تقول لي أين كان هذا؟ ماذا عن قتل الزنادقة؟ وأنا أقول لك هذه كلها أمور سياسية، فانتبهوا إلى أن أي أحد سمعتم عنه في التاريخ أنه قُتِل فإنه قُتِلَ سياسةً حتى الحلّاج، فالقتل كان للسياسة وبالسياسة وليس للدين وبالدين فانتبهوا،
لكن هذه الأمة كانت أوعى منها الآن للأسف الشديد، والآن الأمر خطير لأنه قد يصل إلى الحد الذي صوَّره أحسن تصوير – فيما أعلم – عالم النفس الاجتماعي البريطاني الشهير تاجفيل Tajfel، فماذا قال تاجفيل Tajfel؟ قال لو أن أحدنا جاء واعترف أمام الناس بأنه في الأسبوع الماضي قتل اثنين ومن أجل مصلحته الشخصية أو مصلحة أسرته النووية – زوجته وأولاده – فلن نجد خلافاً حول اعتداده – أي حول عدِّه – مُجرِماً من المُجرِمين، فلابد أن يأخذ جزاءه العادل – أي لابد أن يلقى جزاءه العادل – إذن، وهذا أمر مُؤكَّد لأنه قتل اثنين من أجل مصلحته ومصلحة أسرته، ومن ثم هو مُجرِم، لكن انظروا الآن إلى هذه المُفارَقة العقلية، يقول تاجفيل Tajfel مُستتلياً ولكننا لو وجدنا شخصاً اعترف على نفسه – هذا إقرار والإقرار سيد الأدلة كما يقولون مع أنه حُجة ناقصة – بأنه قتل أو أعان في الأسبوع الماضي على قتل ألفين من البشر – انتبهوا لأن هذا الذي يحدث عندنا في بلادنا اليوم، ولكن لا يُقتَل اثنان وإنما قد يُقتَل ألفان، قد يقتل أحدهم بشراً يملأون هذا المسجد ثلاث مرات أو يساعد أو يُحرِّض أو يأمر أو يأذن بقتلهم من أجل مصلحة جماعته الحزبية أو العنصرية أو اللغوية أو السياسية أو العشائرية وإلى آخره – فسوف تُعتبَر هذه في مُجتمَعات مُعينة – هذا الرجل مُتواضِع قليلاً لأنه لا يُحِب أن يقول عندنا كغربيين، كأنه يقول نحن برئنا من لوثة هذه العنصريات على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية وليس قبلها بكثير، فنحن برئنا وإن كانت براءة غير كاملة – جريمة حقيقية أفظع من الأولى، لكن في مُعظم المُجتمَعات الأخرى سيُسكَت عن هذا ويُغض عنه الطرف، وأنا أقول لكم في مُجتمَعات مُعينة – للأسف – منها الآن مُجتمَعات عربية ومسلمة هذا يُشجَّع ويُبارَك، بالعكس هذا يُصوَّر للناس على أنه طريق مُعبَّد إلى الجنة، بمقدار ما تقتل أكثر منهم لعنة الله عليهم تكون قد طهرت البلد من الأوباش والأنجاس والملاعين، وهذا – والله -غريب، ويُوجَد هنا تساؤل فلسفي وهو هل من المُمكِن أن القيم تتفاوت هذا التفاوت وتزدوج هذه الازداوجية بحيث يغدو القتل مرةً جريمة ومرة عبادة وقُربة ووطنية وشرفاً فقط لأنه مرة يتم بإسم شخصي ومرة يتم بإسم جماعة؟ هل من المُمكِن أن يحدث هذا؟ هذا غير معقول، قد يقول لي أحدهم وماذا عن الحرب؟ أنت تتكلم بأي منطق يا عدنان؟ أنت مسلم ودينك دين حرب ويُوجَد حرب وقتال ويُقال لديكم قاتلوهم ، وأخرجوهم ويُتحدَّث عن والسيف والجهاد وما إلى ذلك، وأنا أقول لا والله، كفى افتراءاً على هذا الدين، أقسم بالله كفى افتراءاً، علماً بأن في رؤوس المُفترين على هذا الدين علماء هذا الدين، ويجب أن أكون واضحاً، وقد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ وأنا أقول لك اقرأ القرآن من أوله إلى آخره لكن قراءة نسقية بمنهجية صارمة علمية وستعجز وستفشل مائة مرة أن تبني نظرية تقول القرآن يُبيح – ليس يأمر حتى وإنما يُبيح – العدوان على الناس، هذا مُستحيل، القرآن – والله – لم يفعل هذا ولو لمرة واحدة بفضل الله عز وجل، هذا هو القرآن فاتركونا من الفقهاء الآن مع احترامنا للكل، افعل هذا وستفشل في إيجاد هذه النظرية، القرآن من أوله إلى آخره لا يُمكِن أن يُساعِدك على بناء مثل هذه الفرضية الباطلة، لا يُمكِن أن يسمح لك أن تبدأ بعدوان على الناس، لماذا العدوان؟ مرة لتأخذ أموالهم وتدفعِّهم الجزية ومرة عند بعضهم يُقال الدين ما انتصر ولا انتشر إلا بالإكراه، أي لكي تدخلهم في الدين، لكن يا أخي قال الله لَا إِكْرَاهَ ۩، قال هذه ليست مُشكِلة، سوف نُكرِهه في البداية وبعد ما نُكرِهه سنجد فوائد جمة، وهذا أسلوب صبياني، لكنه يقول أنه بعد أن يُخالِط المسلمين ويُلابِسهم سوف تظهر له محاسن الدين فربما هدى الله قلبه، عجبك ربك من أقوامٍ يُقادون إلى الجنةِ بالسلاسل، فينسب إلى محمد ما يشاء ويقول حديث في البخاري، علماً بأن هذا الحديث ليس عندي فيه أي مطعن، لكن هذا الحديث يتحدَّث عن وضعية مُختلِفة تماماً،
ما هى هذه الوضعية؟ أن يأتي إنسان ويعتدي فعلاً على المسلمين فيردون عدوانه فيقع في أسرهم – هو أسير- فيرى حُسن مُعامَلاتهم، علماً بأنهم ما قتلوه ولا بدأوه بالعدوان، أليس كذلك؟ حتى لا يُقال هم قاتلوه لكي يدخلونه في الإسلام، فهذا كذب يا أخي، لكن هو قاتلهم فردوا عدوانه فوقع في أيديهم أسيرا فلما رأى حُسن مُعامَلتهم دخل الجنة, فعجب ربك لإقوامٍ يُقادون إلى الجنة بالسلاسل، هذا المعنى الصحيح للحديث، لكن لا تقل لي معنى الحديث أنه إذن للناس بالعدوان لنُدخِلهم في ساحة الإسلام حين نأخذهم أسرى أو نذبحهم أو نوردهم على جهنم بسرعة من أقصر طريق على الشمال، هذا غير معقول والقرآن لا يقول هذا فانتبهوا، ولذلك القرآن لا يقول لك ذبح الآخرين في ساحة الحرب عمل أخلاقي وجميل إلا حين يكون أخلاقياً، ومتى يكون أخلاقياً؟ حين يكون صداً لروحهم، روح الذبح وروح الدمار والخراب التي تُريد أن تجعلني أنا وأولادي وأهلي وبلدي ضحية، فهنا يجب أن أدفع عن نفسي.

ذكرت لكم أكثر من مرة فيلسوف التسامح الكبير والمُجتمَع المفتوح كارل بوبر Karl Popper، ماذا يقول بوبر Popper؟ كان يتحدث عن عبثية اللاتسامح، متى؟ بالتسامح نفسه، التسامح هو الذي يُعطي اللاتسامح مجالاً لكي يعبث ويُعربِّد، كيف هذا؟ حين تقول أنا سأتسامح مع الكل – كما قلنا – بغير تأكيد على ضوابط قانونية وضوابط أخلاقية وحتى كونية مع الكل – أي مع تجار الأعضاء البشرية ومع خاطفي الأطفال والنساء ومع الإرهابيين ومع العدوانيين ومع كذا وكذا – فإنه يقول لك هذا سيجعل اللاتسامح يُعربِّد ويعبث ويعيث في الأرض فساداً، أي Ran amok بمعنى أنه يعيث في الأرض فساداً، لكن كيف هذا؟ قال لأن اللاتسامح حين إذن سيقضي على المُتسامِحين وعلى التسامح نفسه ويبقى اللاتسامح في هذا العالم، ولذلك الشاعر الإيطالي جوزيبي Giuseppe في القرن الثامن عشر ماذا قال؟ هذا الشاعر الساخر قال لو كنت بابا فقط لبعض الوقت – أي أن أكون الـ Pope في الفاتيكان لبعض الوقت – لجعلت الغضب من الأسرار الكنسية المُقدَّسة، أحياناً يلزمنا قليل من الغضب لكي نُدافِّع عن أنفسنا، باسكال Pascal يقول العالم – والتاريخ يثبت هذا – تحكمه القوة وليس العدل، وأيضاً هذا باطل لدينا، بالعكس لماذا لا تحكمه القوة العادلة؟ هل لا يُوجَد هذا؟ هل ليس لدينا أمل في أن تكون قوة وعادلة؟ ليس العدل وحده يمشي على رجلين وإنما القوة العادلة، وعلى كل حال هذه عبثية اللاتسامح.
للأسف ضاق بنا الوقت ونحن اليوم صُوَّم أو صائمون فلابد أن نُريح أنفسنا قليلاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم يا إخواني وأخواتي.

 

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

ذكرت لكم أن فرقاً كبيراً بين السجال والحوار، وطبعاً هذه كلها مُصطلَحات فانتبهوا، قد يقول لي أحدكم أن السجال هو الجدال ونحن طبعاً نعرف هذا، فكلمة Polemics تعني الجدالات أو وجوه الجدل، لكن نحن نُريد أن نتكلم الآن مفهومياً، فالجدل ليس لنا مُشكِلة معه، القرآن يقول جدل بالتي هى أحسن، إذا جدل أو جدال بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩ فهذا يُساوي الحوار، قال الله وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۩، إذا جدل مُجرَّداً هكذا وبالتي هى أسوأ فهذا الذي يُسمى الآن بالمُصطلَح الحادث السجال Polemic، فإذن ليس عندنا مُشكِلة لأن هذه مُصطلَحات ولا مشاحة في الإصطلاح، فإذا أحكمنا المعنى تساهلنا في القالب وفي اللفظ إن شاء الله.

هناك سجال وهناك حوار، ونحن الآن تقريباً لا نكاد نعرف الحوار وإنما نعرف السجال ومن ثم نتساجل، نحن نتساجل في الفضائيات وفي برامج التوك شو Talk Show وحتى في الكتابات وفي الصحف وعلى المنابر وفي أوقات الانتخابات ضمن الصراعات الحزبية في بلادنا، فكله سجال إذن، لكن ما هو السجال؟ السجال باختصار تقنيات بلاغية إقناعية وليست برهانية حجاجية، فقط من أجل أن تعبيء الناس وتُقنِعهم، لذلك صدِّقوني المُساجِل مُمكِن يستخدم كل وسائل التخديع مادياً ورمزياً ومعنوياً أيضاً دون أي مُشكِلة، اليابانيون حين احتلوا الصين ماذا فعلوا؟ أتاحوا لهم الأفيون بلا ثمن وبأسعار نازلة تماماً واطئة، هذا سجال كولونيالي – إن جاز التعبير – وتغييب للعقل بالكامل، ونفس الشيئ فعله هتلر Hitler لما احتل بولندا، حيث أتاح لهم الڤودكا Vodka بأسعار رمزية، لكي ينام الشعب، والآن أنا أقول لكم أكثر من دولة عربية – أنا صُدِمت حين سمعت هذا – تُتاح فيها المُستقبِلات – الريسيفرات Receivers – المفتوحة على مائتين وثلاثمائة كارتة مُعظمها من القنوات البذيئة الخليعة – والأفضل أن نسميها القنوات القذرة، لأن كلمة بورنو Porno معناها القذارة أصلاً، ومن ثم سوف نقول القنوات القذرة – مجاناً، فمَن يُصدِّق هذا؟ أنت هنا في أوروبا أو في أمريكا لكي تُحصِّل هذا تدفع كل كارتة لها ثمناً سنوياً، فتدفع مائتين يورو أو ثلاثمائة يورو أو أربعمائة دولار لأنها قنوات وسخة، لكن في العالم العربي – هذا في الدول العربية فانتبهوا – هذا الريسيفر Receiver مفتوح على ثلاثمائة كارتة أو مائتين كارتة أو كذا مجاناً تقريباً، بثلاثين يورو أو بثلاثين دولار، فكيف هذا يا أخي؟ مَن وراء هذا الكلام؟هذا مُهِم لكي تفهموا ماذا يحدث معنا وماذا يُراد لهذه الأمة، هذا تحطيم من جميع النواحي، أقسم بالله هناك نية لتحطيم هذه الأمة وتحطيم أخلاقها وتحطيم دينها وتحطيم وحدتها وتحطيم ما بقيَ منها حتى النهاية، لكي تُصبِح تراباً يُمسَح به الإرض، مُجرَّد غبار بشري، وعلى كل حال نفس الشيئ فعله هتلر Hitler – كما قلنا – حين أتاح الڤودكا Vodka، وهذا التغييب قام به ماشادو Machado أيضاً، لكن مَن هو ماشادو Machado أولاً؟ ماشادو Machado هو الحاكم بأمره في كوبا – كوبا قبل الشيوعية – وكان مُتألِهاً، فهل تعرفون ماذا كان يفعل ماشادو Machado؟ كلما قدَّمت له أجهزة الأمن والاستخبارات تقريراً بأن الناس على وشك أن ينفجروا وقالوا هناك احتمال أن ينتفض الجمهور أو الجماهير مُباشَرةً تنزل إعلانات عن أفلام خلاعة بأسعار رمزية في السينما Cinema، وبالفعل كل مرة تنجح هذه التقنية لكي ينفض الناس، وهذا تخدير لهم، ماذا قال كيتو للشعب اليوغسلافي السابق؟ قال لهم اتركوا لي السياسة ولكم الخمر والنساء، وفعلاً هكذا عاشوا، أنا عشت في يوغسلافيا وعشت في أوروبا الغربية ورأيت هذا، وهذا مُستحيل طبعاً، لا يُوجَد قياس – واسألوا أبو الريحان – بين نسبة السُكر والعُهر هناك وهنا، هذا شيئ مُخيف ومُرعِب، وخاصة هذا السُكر شيئ مُرعِب، فهو قال لهم اتركوا لي السياسة ولكم الخمر والنساء، وهذا تغييب للعقول، هذه ماريجوانا ومُخدرات Drugs، وطبعاً هناك مُخدرات للعصبية ومُخدرات الطائفة ومُخدرات المذهب ومُخدرات الأيدولوجية، وهذه المُخدرات أكثر فتكاً والعياذ بالله، كأن يُقال – كما قلت لكم – أنتم أنتم، أنتم صفوة الله المُختارة، إن تهلك هذه العصابة لن تُعبَد بعد اليوم، ونحن سمعنا هذا في سجالات سياسية أيضاً لأن كلها لهدف سياسي انتخابي، فهناك مَن قال إن تهلك هذه العصابة لن تُعبَد بعد اليوم، فكيف هذا؟ هل أنت محمد وهؤلاء أتباعك يا حبيبي وأنت في بدر – الفرقان – مثلاً؟ ما هذا الكذب؟ أنت مُجرَّد حزب ومُجرَّد جماعة أتت تخوض معركة الانتخابات في بلد عربي، بلد مثل أي بلد في العالم الذي فيه مليار ونصف مسلم، فكيف تقول إذا نحن فشلنا وهلكنا لن يُعبَد الله بعد اليوم؟ تضحك على مَن يا رجل؟ ما هذا العته؟ والناس تسكت وتبكي لأنهم يتأثرون لأنهم إن يهلكوا سوف يذهب الإسلام، فما هذه العقلية؟ هذا شيئ غير معقول والله العظيم، لكن نحن نعيش بهذه العقلية ونعيش في هذا العالم، وهذه كلها مُخدرات تُخدَّر بها الجماهير ويُخدَّر بها الفرد، وهذا – كما قلنا – تحت طائلة العقاب والإقصاء والإحراج وما إلى ذلك، فإذا لم تفعل هناك أشكال من الضغط – Press أو Pressure – تُمارِسها الجماعة عليك، وطبعاً نحن حتى لا نتفطن إلى أننا جماعات مُحبَطة، فنحن شعوب مُحبَطة وواضح أن من المُستحيل أن نعيش كما ينبغي أن نعيش، فعلى الأقل ينبغي أن نعيش كما يعيش هؤلاء الناس هنا في الغرب، تُوجَد حرية ويُوجَد رفاه اقتصادي ويُوجَد احترام لنا وما إلى ذلك، هنا لا يُوجَد ترويع من أجهزة الشرطة أو أجهزة الاستخبارات ولا يُوجَد ترويع ديني ولا ترويع حزبي وطائفي ولا أي ترويع من الخمسين ألف نوع من الترويع، لكن في المُجتمَعات تلك الفرد يجد نفسه مشدوداً أكثر إلى أن يندك – يندك اندكاكاً – في الجماعة بل يتماهى فيها، فهويته تُساوي دائماً هوية الجماعة لأنه يتماهى مع جماعته، هل تعرفون لماذا؟ لأسباب كثيرة بعضها تربوي، لأننا هناك أيضاً ننشأ في مُجتمَعات منذ نعومة الأظفار تُفهِمنا أن كل ما حولنا عدوٌ لنا إلا نحن – أي جماعتك – فقط، لكن كل شيئ عدو لك، فالعالم الخارجي كله عدو لك بلا شك، هناك الجن والعفاريت وهناك السحر وهناك العين والأعمال، وكل هذا يتربص بك في الليل وفي النهار، فالفرد المسكين يشعر بالانسحاق وبالضعف لأنه يحتاج إلى قوة، ثم يكبر هذا الفرد ويشعر بالعار وبالحياء من أنه يخاف من جن أو من عفريت أو من أبي رجل مسلوخة والغيلان وكل هذا الكلام الفارغ، فهذا كله كلام فارغ لكن الخوف موجود في داخله، فهذا المسكين يخاف فعلاً، وهو مسكون بالعفاريت، فماذا يفعل؟ يخجل ويبدأ يُخرِج هذه الأشياء على عدو ما، لابد أن يكون أمامه عدو آخر هو العفريت والغول وأبو رجل مسلوخة والجني والمارد وما إلى ذلك، ويبدأ يتسلط عليه بالمُعاداة وأساليب الإفناء والمحو والإقصاء، لأن المُجتمَعات – كما قلت لكم – تُمارِس الإسقاط – Projection – والإحباط، والآن سأقول تحليلاً علمياً عن الإخوان المسلمين الآن، وقد أكون مُخطئاً فيه لكن الأرجح أنه صائب إن شاء الله، علماً بأنني قلت لهم هذا الشيئ وهم غضبوا مني، حين ذهبت إلى مصر التقيت بمئات الناس من غير مُبالَغة، فقط اثنان أحدهما من الإخوان المسلمين هم مَن تعاطفوا مع الإخوان، أما بقية كل مَن التقيت بهم من سائق السيارة إلى الشخص الأكاديمي إلى إعلامي إلى غير ذلك كلهم ضدهم، وأنا كنت مصدوماً، لماذا؟ هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة؟ لو رأيت اثنين ضدهم وواحداً معاهم لكان الأمر معقولاً، لكن كل هؤلاء ضدهم لماذا؟ أخي أبو ياسين حكى لي نفس الشيئ تقريباً وقال لي خمسة وثمانون في المائة من الناس ضدهم وهذا صحيح، فهل تعرفون لماذا؟ هذه آلية تُمارِسها الشعوب والجماعات دون وعيٍ منها وخاصة بعد الثورات، نحن عملنا ثورة قوَّضنا بها نظام مُبارَك – هذا الجبروت المُبارَكي – والآمال كبيرة والتوقعات بعيدة وعالية جداً، أليس كذلك؟ فشعوب الربيع العربي اعتقدوا أنهم إن شاء الله سوف يعيشون مثل النمسا أو مثل بريطانيا أو مثل أمريكا لكن هذا لم يحدث، وهناك أشياء حتى شهدت تراجعاً أيضاً، فأُحِبطوا – حدث لديهم إحباط Frustration – جداً، وانتبهوا إلى أن الشاب والشابة أو الفرد عامة حين يُحبَط يكون كالجماعة حين تُحبَط التي لابد أن تُحمِّل شخصاً ما المسئولية، هذا مثل كبش الفداء أو كبشة المحرقة Scapegoat، فلابد أن تبحث عن كبش فداء تُحمِّله مسئولية هذه الإحباطات وتقول أن هذا هو السبب، لكن هذا يا أخي ليس السبب، هو ليس له علاقة، وهذا سر نقمة الناس الغريبة الآن على الإخوان المسلمين بشكل غير معقول، فهم تسببوا في هذا ربما بنسبة خمسة في المائة أو عشرة في المائة، والتسعون في المائة هى آلية تُمارِسها الجماعات، فأصبحوا كبش فداء وقيل هم المسؤولون عن كل شيئ.
عالمان شهيران في عالم النفس الاجتماعي أتيا ذات مرة من المرات إلى مُعسكَر جيش فيه شباب، هؤلاء الشباب أعدوا أنفسهم من أسبوع – من أسبوع كامل – لماذا لكي يحضروا عرضاً مسرحياً أحبوا أن يحضروه في هذه الليلة، فقيل لهم يُوجَد اختبار عسكري الآن، والاختبار كان طويلاً جداً وصعباً والأسئلة كانت مُعقَّدة فاستغرقت الوقت بحيث ذهب وقت المُشاهَدة، فطبعاً حدث إحباط هنا لأن ذهبت المسرحية، لكن قبل أن يشرعوا في إعطائهم الأسئلة – أي أسئلة الامتحان – أعطوهم استبياناً آخراً يُحدِّدون فيه الصفات المُستحَبة وغير المُستحَبة في بعض الشعوب، وطبعاَ الشعوب العدائية عند الأمريكان هم المكسيكيون واليابانيون، فأعطوهم هذا لكي يُحدِّدوا ما طلبوه، وطبعاً أكثر شيئ كان الصفات غير المُستحَبة، فاليابانيون غير جيدين، والمكسيكيون غير جيدين أيضاً، وذلك بنسبة ستين في المائة من الصفات غير المُستحَبة، وبعد الإحباط أعطوهم نفس الاستبيان وقيل لهم أن القديم وقع عليه قهوة أو أي شيئ آخر فقولوا لنا مرة أُخرى الصفات المُستحَبة وغير المُستحَبة في اليابانيين وفي المكسيكين، فعلت الصفات غير المُستحَبة مُباشَرةً من نفس الأشخاص وبعد ثلاث ساعات أو أقل، بسبب الإحباط أيضاً، فهنا حدث إحباط ولابد الآن من كبش محرقة نُحمِّله المسئولية، في حين أن هذا الياباني أو هذا المكسيكي ليس له علاقة لكن هذا يحصل معنا.
للأسف الوقت أدركنا فأقول باختصار أن السجال – كما قلت لكم – آليات إقناعية بلاغية لا تتوخى الحقيقة -هى غير مُلتزِمة بالحقيقة – لكن كل ما تتوخاه وتلتزم به تحطيم الخصم، كأن يُقال أنا هدفي أن أُحطِّمك فقط، سواء بالكذب أو بالبهتان أو بأي شيئ، وأيضاً السجال دائماً يقوم على البساطة، بساطة صبيانية كأن يُقال الذي ليس معانا ضدنا، مَن هذا؟ بوش Bush الصغير، ومن ثم يُقال يُوجَد فسطاطان، فسطاط الحق والباطل، مَن هذا؟ ابن لادن، علماً بأن هذه نفس العقلية، فعقلية بوش Bush هى عقلية ابن لادن تماماً، هذا مسلم وهذا مسيحي لكنهما نفس الشيئ، وهذا عدو لهذا وهذا عدو لهذا ولكن لديهما نفس البنية ونفس آلية التفكير التي تقول الذي ليس معانا ضدنا، وهذه تبسيطية واختزالية فظيعة، وكل السجالات تقوم على التبسيط فانتبهوا، السجال إذا دخل في العمق وبدأ في الحُجج والتفنيد – Refutation – وكل هذا الكلام يفشل، السجال هذا يفشل وإن كان بصدد أن يتحول إلى حوار، لكن الحوار شيئ آخر، ولذلك أنت تدخل السجال وتخرج كما دخلت تماماً دون أي جديد، لا جديد تحت الشمس كما يُقال، فمادة السجال معروفة مُسبَقاً، ومن ثم تدخل السجال ولا تُريد أن تُطرأ عليك تساؤلات، فلست بصدد أن تتعاطى مع الحقيقة من زاوية جديدة، أنت فقط بصدد أن تتلوا بياناً، هذا هو المُساجِل الذي عنده بيان – Brief – مثل البيان العسكري فقط وينتهي كل شيئ!

ما يحدث الآن – كما قلت لكم – في العالم العربي سجال وليس حواراً وليس مُحاوَرة وليس نقاش Debate، فهذا ضد هذا، لكن ما هو الحوار؟ هو على العكس تماماً، الحواريعترف بالآخر وبحريته في التعبير عن نفسه وفي الإشكال علىّ وفي نقد موقفي وفي طرح أسئلة بصدد موقفي وآرائي، أنا نفسي أيضاً أُعطي نفسي الحرية أن أُدافِع عن موقفي لكن مع المرونة في أن أُغير موقفي!
أتمنى أن أرى اثنين في العالم العربي يتناقشا – في الاتجاه المُعاكِس وغيره – ويقول أحدهما للآخر أنت – والله – مُحِق، لقد أصبت وأنا كُنت مُخطئاً، فنعشك الله كما نعشتني، أين منطق أبو حنيفة والشافعي وفلان وعلان؟ قال أحدهم ذات مرة لأبي حنيفة يا إمام هذا الكلام الذي تقوله لعله الحق الذي لا باطل فيه، كأنه يقول له أنت – ما شاء الله – كشف الله عنك الحجاب، فهل تعرفون ماذا قال له؟ قال له كلا يا أخي لا تقل هذا، الذي أقوله لعله الباطل الذي لا حق فيه!

يا سلام، هذه عقلية جبارة، ولذلك أبو حنيفة يبقى إلى اليوم أبا حنيفة، لأن أبا حنيفة كان يتحرَّك بهذه العقلية ومن ثم قال له هذا مُجرَّد اجتهاد أو رأي، ماذا قال سيدنا عمر؟ قال لا تجعلوا خطأ الرأي سُنة، هو حكى عن نفسه هذا وقال أنا من المُمكِن أن أُخطيء، فلا تجعلوا خطأ الرأي سُنة.

المُحاوِر موقفه مُختلِف تماماً، المُحاوِر يُريد أن يُداوِر الحقيقة، أي يدور حولها من زوايا جديدة، ولذلك هو مرن ويُحِب الأسئلة ويُحِب إثارة الأسئلة ويفتح الأسئلة، لكن ما معنى أنه يفتح الأسئلة؟ معنى هذا أن هناك أسئلة تُفتَح ولا تجد لها جواباً، فيقول لك هذا سؤال مفتوح، لكن المُساجِل عنده جواب عن كل شيئ، أي شيئ تطرحه عليه يكون الجواب عنه حاضراً، ولذا هذه سجاليات – Polemics – وليست حواريات، لكن المُحاوِر يقول لك هذا السؤال مفتوح أو لا يزال السؤال مفتوحاً، فكيف هذا؟ يقول لك هذا السؤال مفتوح ولا جواب عنه، فهيا نتعاون أنا وأنت لعلنا نصل إلى الجواب في يوم من الأيام، فلذلك نحن نحتاج إلى الحوار ولا نحتاج إلى السجال، لكن مَن يتكلَّم بإسم سُلطة ويُريد أن يُمارِس سُلطة وخاصة إذا كانت سُلطة حقيقة مُطلَقة لا يُمكِن أن يكون إلا مُساجِلاً، لا يُمكِن أن يكون مُحاوِراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر والطف بنا فيما جرت به المقادير برحمتك يا أرحم الراحمين، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (11/10/2013)

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: