إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – من قائلٍ في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۩ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۩ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط . آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

في عهد ما بعد الثورة – إن جاز التعبير – رأينا وسمعنا مَن طلع على الناس يُخوِّف بالحكم الإسلامي ويدعو في المُقابِل إلى الحكم المدني والحكم العلماني وكأنهما نمطانِ مُستقِلانِ يُقابِلان الحكم الإسلامي من كل الوجوه، فإذا عنى الحكم المدني شيئاً عنى الحكم الإسلامي ضديده أو ضده وعكسه، وإذا أفهم اصطلاح الحكم العلماني الناسَ شيئاً فإنه ينبغي أن يُفهَم عكسه من الحكم الإسلامي، وهذا تشغيب وتلبيس وتدليس على الناس، وأول ما أودُ أن أُشير إليه إلى أن مُصطلَح الحكم العلماني مُصطلَحٌ فضفاض ورجراج ويُوشِك ألا يكون له معنى، والعلمانية ليست نظاماً في الحكم وليست رؤية في الحكم مُحدَّدة ولذلك يُمكِن أن يكون النظامُ – أي نظام الحكم – علمانياً وأن يكون قهرياً جبرياً استبداداياً شمولياً، فنظام هتلر Hitler كان نظاماً علمانياً ولكنه شمولي، نظام فرانكو Franco ونظام ستالين Stalin من النُظم العلمانية ولكنها نُظُم قهرية استبدادية وشمولية، ويُمكِن أن يكون النظام علمانياً وأن يكون ديمقراطياً، أي أن الديمقراطية ليست من لوازم العلمانية والشمولية ليست من لوزامها أيضاً فهما يتقاطعان وينفصلان، ولا يجوز أن نكذب على الناس وأن نُشوِّش رؤيتهم بالحديث عن الحكم العلماني، فالحكم الديمقراطي نفسه ليس صيغة واحدة، ودائماً إذا ذُكِرَ الحكم الديمقراطي أو النظام الديمقراطي مُباشَرةً يثور السؤال أي نوع؟Which One?، أي نمط من الديمقراطية؟ الأنماط كثيرة جداً جداً جداً.

نستمع في هذه الأيام إلى مَن يُخوِّف من نشوء أحزاب إسلامية كأنها كارثة وكأنه لا يُوجَد في ألمانيا وهى عريقة في الديمقراطية وفي إيطاليا – مثلاً – وفي دول أخرى أحزاب ديمقراطية مسيحية، هذه موجودة فلماذا لا يُسمَح للمسلمين أن يكون لهم حزب ديمقراطي إسلامي؟ لماذا يُخوَّف منها؟ يلعبون لا أقول على المناطق الضبابية بل بالعكس يلعبون في الظلام لأن هذه الأمور غير واضحة لكثير من الناس، فالحكومة الإسلامية يُعادِلونها بالحكومة الدينية، وأيضاً هذا كذبٌ مُضاعَف وغش للأمة وخيانة للفكر، المُفكِّر لا يُمكِن أن يكون خائناً على هذا النحو الفج، مَن قال أن الحكومة الإسلامية حكومة دينية؟ لم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن نادى مُنادٍ أو نظَّر مُنظِّر أو فقيه أو إمام خاصة مِمَن اشتغلوا بالفقه السياسي بالحكومة الدينية، الإسلام يتعارض على طول الخط مع الحكومة الدينية بطبعه وبجوهره، وجوهر الإسلام ما هو؟ التوحيد، فإذن لا حكومة دينية.

الحكومات الدينية عرفتها الحضارات القديمة، فالحضارة الفرعونية المصرية القديمة عرفت الحكومة الدينية، وكان الملك فيها يحكم على أنه ابن الإله، فهذه هى الحكومة الدينية، ولا حق لأحد أن يتكلَّم عن شرعية حكمه لأنه ابن الإله، لا حق لأحد أن يُحاسِبه أو يُراقِبه أو ينتقده لأنه ابن الإله الكامل المعصوم، والحكومة الفارسية القديمة كان يحكم فيها أبناء الآلهة أيضاً ولهم تأنس شديد في الحضارات القديمة بهذه الأفكار، في أوروبا الوسيطة – أوروبا في العصور الوسطى – الكنيسة كانت تحكم بحقٍ إلهي وتفويض إلهي وتوكيل إلهي، فالبابا هو وكيلٌ عن الله ومُفوَّض من لدن الله وما أحله فهو حلال وما حرَّمه فهو حرام لأن عنده حق التشريع، ولا فصل بين السُلطات، هناك تغوّل كامل.

الإسلام بجوهره – كما قلت لكم وهذا مُقرَّر عند كبير المسلمين وعند صغيرهم – وجوهره التوحيد يتعارض بل يتناقض على طول الخط مع أي شكلٍ من أشكال الحكم الديني أو الثيوقراطية Theocracy، فلم يُوجَد لدينا ثيوقراطية؟ لا يُمكِن أن يُوجَد هذا، لو سألت أي مسلم ما هى طبيعة الخلافة الإسلامية؟ أنتم تتحدَّثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وغير هؤلاء الخلفاء الأفاضل الجلة فما هى طبيعة الخلافة؟ مَن هو الخليفة؟ وكيف يُستخلَف؟ أهو خليفة الله في الأرض؟ لدينا نصوص أن الإنسان خليفة الله، فالله – عز وجل – اتخذه خليفة، قال الله إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ۩، فهل هذا الخليفة هو خليفة الله ووكيل عن الله؟ لم يقل بهذا أحد على الإطلاق، هو امرؤٌ واحد منا، مصدر السُلطة الذي خوَّله أن يحكم في الناس هو الشعب، وهو لا يحكم حكماً مُطلَقاً غير مُقيَّد بل حكماً مُقيَّداً ومُقيَّداً بدستور مفهوم للناس ومُتاح للناس جميعاً في غير لبس، ولذلك طاعته مُقيَّدة وليست مُطلَقة، فليس له طاعة مُطلَقة على الناس ولا يبقى مُؤبَّداً، يُمكِن أن يُعزَل في أي لحظة ويُمكِن أن يُقتَل أيضاً، فمصدر السُلطة هو الشعب، والآن لو سألت أي فيلسوف سياسي أو أي دارس للسياسة وقلت له “حدِّد لي واذكر لي الأسس الرئيسة للحكم المدني ” فإنه سيقول لك هى كثيرة ولكن أهمها – أهم هذه الأسس – ثلاثة، أولاً – هذا الأهم بالمُطلَق – الأمة مصدر السُلطات، فهو يقول لك أن السُلطة أو الحكم من الشعب وللشعب – لمصلحة الشعب – وبالشعب، وهذا تعبير جميل جداً، فهى من الشعب وللشعب وبالشعب – Of People, By People, For The People – وهذا مُمتاز وهو موجود في الإسلام، وُجِدّ بشكل واضح طبعاً، فالأمة مصدر السُلطة وليس الله هو مصدر السُلطة، الله مصدر السُلطة في الحكم الديني وفي الحكومات الدينية، فالبابا يقول أنا مُفوَّض من الله، والملك الفرعوني يقول أنا من الله وأنا ابن الله وأنا ابن الآلهة، والملك الفارسي يقول أنا ابن الآلهة، والإمبراطور الياباني يقول أنا ابن الآلهة وهكذا، لكن في الإسلام مَن هو ابن الآلهة؟ هذا كلام فارغ وهو غير موجود، فمحمد نفسه – عليه الصلاة والسلام – هو عبدٌ بشرٌ مثلنا غير أن الله شرَّفه بالرسالة وابتعثه بالنبوة، فهو بشر، واللطيف أن محمداً لم يُعبَد لا في حياته ولا بعد موته إلى يوم الناس هذا، فعلى حد علمي لم تُوجَد فرقة ألَّهت محمداً ولكن وُجِدَ مَن ألَّه عليّاً – عليه السلام – مثلاً، فالوضع مُختلِف، لماذا؟ لأن النبي ظل يُؤكِّد صباح مساء وليل نهار على أنه بشر، وظل يتصرَّف على أنه بشر، والأحاديث تواترت عنه فلم يُمكِن الكذب عليه، أما عليّ – عليه السلام – فأمكن الكذب عليه ورأينا فرقاً من فرق الشيعة كثيرة جداً وهى بالعشرات خرجت من باب الإسلام ضربةً واحدة بتأليهها لعليّ بن أبي طالب، وحتى إخوتنا الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية الاثنا عشرية يُكفِّرون هذه الفرق ويقولون هذه فرق زنديقة وكافرة وباطنية لأنها تعتقد الألوهة أو الإلهية في عليّ، لكن محمد ليس كذلك، وهو عاش عبداً رسولاً ومات كذلك، وهو – عليه الصلاة وأفضل السلام -في ذهن وفي وعي المسلمين إلى اليوم عبدٌ بشرٌ رسول، فهذا هو!

إذن الأمة مصدر السُلطة، ومصدر التشريع بشكل عام عند المسلمين الدين، أي الله، فالكتاب والسُنة مصدر التشريع، الحلال والحرام وما يجوز ولا ما لا يجوز، فمصدر التشريع الدين، ومع ذلك هذا المصدر أو مصادر التشريع مرنة ومفتوحة وهناك نُدحةٌ ومجالٌ لأن نجتهد في ما لا نص فيه بمعنى القطعي، فالنص القطعي الذي لا يكون مثاراً لاختلاف الأنظار واعتراكها، وهنا لا اجتهاد في مورد النص لأن لا اجتهاد مع نص، أما مع وجود آيات وأحاديث ليست واضحة مُجمَلة أو مُطلَقة أو عامة يدخلها تخصيص وتقييد وتبيين وأشياء مُشتبِهة يُمكِن للعقل هنا أن يتقدَّم وأن يجتهد أيضاً ولذلك يختلف هذا الاجتهاد من مُجتهِدٍ إلى مُجتهِد، فهناك نُدحة وهناك المسكوت عنه أو ما يُسمى دائرة العفو، وما سكت عنه فهو عفوٌ، فاقبلوا من الله – سبحانه وتعالى – عافيته، ومن ثم يُمكِن أن نتقدَّم وأن نشتغل هنا وأن نجتهد أيضاً، فهذه ليست مساحة مُغلَقة الاجتهاد، والتشريع ليس ميداناً مُغلَقاً مُسوَّراً أبداً، هو مُسوَّر ومحوطٌ – ليس مُحاطاً وإنما محوط، من حاط يحوط وليس حاط يحاط أو يحيط – بقواعد رئيسة وجُملة مقاصد لو عُرِضَت على العقول السليمة من غير المسلمين لتلقتها بالقبول والاستحسان، فالأمور بمقاصدها مثلاً، الضرر يُزال، لا ضرر ولا ضرار، يُغتفَر في الوسائل ما لا يُغتفَر في المقاصد، المصلحة العامة تُقدَّم على المصلحة الخاصة، اليقين لا يزول بشك وإنما يزول بيقين مثله، فالشك لا يُزيل اليقين وهكذا، فهذه قواعد عقلية مُمتاز وهى كثيرة، والقواعد الفقهية لو عُرِضَت على كبار القانونيين لتم استحسانها، وقد عُرِض بعضها في أكثر من مُؤتمَر كان أحدهم هنا في فيينا قبل حوالي أربعين سنة ولقيت استحساناً هائلاً من العقليات القانونية المُحترَمة، وقيل ألديكم مثل هذا التفكير ومثل هذا المنهج ومثل هذه الطرائق قبل ألف ومائتين سنة؟ نعم، لدينا هذا، فهذا هو الإسلام لأنه مرن!

إذن الأمة مصدر السُلطة وليس الله هو مصدر السُلطة، لا أحد يكون وكيلاً عن الله ولا أحد يكون مُفوَّضاً عن الله، ولذلك يأتي بشراً ويذهب بشراً ويقول كما قال أبو بكر للناس في أول خُطبة له أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، فهو يُحرِّضهم على نفسه ويقول لهم ثوروا علىّ إن وجدتموني أخرج عن طاعة الله وعن دستور الأمة وعن شرعها ومنهاجها وعن مصلحتها، لأن هذا الشرع جاء لمصلحة الأمة وجاء ليُقيم المعدلة والنصفة والمُساواة وليُقيم عمود الحرية ويُظلِّل الناس بظلال الكرامة والعزة والاستقلال والشعور بالمسئولية، فهذا هو إذن، ولذا قال لهم فلا طاعة لي عليكم، وعمر قال مثله وأزيد، فقد حرَّض الناس مزيد تحريض، وذكرنا هذا في الخُطب السابقة، وكذلك عثمان الذي كان يقول أمري لأمركم تبع، وعليّ عاش وسلك بينهم كأنه واحد من أنزلهم طبقة وهو مَن هو، فكان يركب على حمار ويجلس معهم في أسواقهم ويذهب ميثم التمّار فيبيع مكانه للناس، وهذا شيئ عجيب، لكنه كان يفعل هذا وهو خليفة وأمير مُؤمِنين، فهذا هو إذن، هذا هو الإسلام، لا ألوهية إلا لله – تبارك وتعالى – ومن ثم لا تأليه لأحد ولا تفويض من الله لأي أحد!

العجيب واللافت – وهو لافتٌ بحق – أن النبي نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أسَّس لسُلطته على الناس وفق هذا المنظور ووفق هذا المنهج، أي بهذا المنهج ذاته، فكان يعرف أن لا سُلطة له على الناس إلا بالبيعة، فكان يطلب البيعة، لماذا تطلب البيعة؟ لأن لابد من هذا حتى وهو نبي، فالنبوة لا تُعطيه ضمانة وصلاحية مُطلَقة أن يتصرَّف في الناس على غير ما يهوون وما يُحِبون، والناس كانت ستقول له لن نعترف بهذا، ولكن إذا أعطوا صفقة يمينهمعن سماح ورضا طواعيةً فهم الرجال يلتزمون بذلك وحقيقون أن يلتزموا، ولذلك في بيعة العقبة الثانية ومُنذ بيعة العقبة الثانية بدأ هذا الأمر يضح، فكان النبي يُؤسِّس لشرعية سُلطته استناداً إلى البيعة وليس إلى مُجرَّد عنوان النبوة والرسالة طبعاً، والقرآن واضح حتى في هذا الصدد وكان يقول له عنوان النبوة والرسالة لا يُعطيك صلاحيةً أو صلوحيةً أن تُبلِّغ المباديء والعقائد على النحو الذي تُريد، والله يقول له وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۩، فلا تقل أنا نبي وأنا سأتكلَّم بالأسلوب الذي يُعجِبني وسأسبكم وأسب آباءكم وأمهاتكم وأُثرِّب عليكم وأُدمدِم كما قال مجنون ليبيا وإلا فلكم الذبح والنوح، هذا لم يحدث أبداً، بل كان يقول له حتى هذه العقائد الربانية وجوهر الرسالة وذوبها لابد أن تُبلَّغ للناس بالتلطّف وبحُسن التأتي وبالليان والتحبب، وهذا ما لا يفهمه بعض الدُعاة، فالواحد منهم بإسم أنه شيخ وبإسم أنه داعية يُكلِّم الناس من عالٍ وبأسلوب فظيع وعجيب كأنه يحتكر رحمة الله – لا إله إلا هو – وهذا لا يجوز، فهو قال له هذا وهو نبيٌ رسول، تقول الآية الكريمة وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ۩، فهذا أمرهم وأمر سياستهم حرباً وسلماً، أمرهم هم لأنهم هم الذين يُسالِمون وهم الذين يُحارِبون وهم الذين يدفعون الثمن، وما أنت إلا واحد في نهاية المطاف، فإن حييت أو قُتِلت فأنت واحد، ولكن هم يدفعون الثمن، أليس كذلك؟ يا ليت حمقى العرب – لا أقول حكّام العرب – الذين يقودونهم يفهمون هذه البديهيات، لكنهم إذا حزبهم أمر لم يجدوا مفزعاً يفزعون إليه إلا الشعب ويقولون لهم يا أيها الشعب الكريم ويا أحفاد الأبطال، الآن تقولون هذا؟ الآن تطلبون منا أن نُقاتِل عنكم وعن كراسيكم؟ أما في السلم وفي السعة فأنتم تذبحوننا وتغتالون حرياتنا وأرزاقنا وتتصرَّفون فينا كأننا قطيع غنم أو معز، ما هذا؟ افهموا أن هذا الأمر أمرنا نحن، فلابد أن يُؤخَذ فيه رأينا، والمأمور هنا رسول الله الذي قال له الله وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ۩، علماً بأن هذه نزلت بعد أحد، بعد أن خابت مشورتهم، فهم أشاروا عليه وكانت الهزيمة ورغم هذا الله يقول بعد أُحد ومع ذلك هذه واقعة لا بأس معها، هم أخطأوا مرة لكنهم سيُصيبون في عشر مرار، بخلاف الفرد الواحد المُستبِد، وقد قرأت لبعض العلماء أنه يتحدَّث عن الاستبداد وإذا به لا يعرف المعنى اللغوي ولا الدلالة اللغوية للاستبداد، فالاستبداد لا يعني قتل الناس وذبح الناس بالضرورة أبداً، بالعكس الاستبداد يعني الانفراد بالرأي، فحين يأتي حاكم ينفرد برأيه يكون مُستبِداً، لكن هل هو مُستبِدٌ عادل أم مُستبِدٌ ظالم؟ هذا شيئ آخر، ولكن درس التاريخ يقول أن أكثر الاستبداد يُفضي إلى الظلم، لأن رأي الفرد لا يرشد أبداً، يرشد مرة أو مرتين وربما زل وكع وأخطأ في عشر مرار بل في مئات المرات، ولذلك يقولون لك المُستبِد المُستنير، فكاترين Catherine وفردريك Frederick وابنه وبطرس الأكبر Peter the Great ينطبق عليهم عبارة المُستبِد المُستنير، والمُستبِد المُستنير هى كلمة محمد عبده في التعبير عن حاجة الشرق إلى مُستبِد عادل، وهذا غير صحيح، وطبعاً المُستبِد قد يكون عادلاً، لكن بعض الناس ردَّ على محمد عبده وهو لا يفهم كلمة الاستبداد، فهل أنت ترد على محمد عبده؟ هل أنت ترد على شارح نهج البلاغة وعلى إمام اللغة؟ محمد عبده يفهم ما هو الاستبداد، فالاستبداد هو الانفراد بالرأي، نعم قد يُجامِعه العدل فيستبد ويكون عادلاً مثلما فعل فعلاً بعض هؤلاء المُستبِدين المُستنيرين في أوروبا وأفادوا الأمة إفادات كبيرة هنا ولكننا لا نُريد هذا، لا نُريد العدل إن جاء من سبيل الاستبداد، لأن هذا سيُعرِّضنا ألف مرة بعد ذلك للمقهورية والمسحوقية عن طريق الاستبداد، فنحن لا نُريد هذا وإنما نُريد نظاماً صحيحاً يُؤسَّس مُنذ البداية بطريقةٍ سوية أو بسويةٍ صحيحة، قال الله وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ ۩، فقبل بيعة العقبة الثانية كان دائماً الكلام عن المهام الرسالية الدينية لكن الآن اختلف الوضع، لأن النبي علم أنه على وشكِ أن يُشيِّد بناء دولة في المدينة وقد سار إليها بعض أصحابه، قلة قليلة وكثر فيها مَن أسلم، وفي بيعة العقبة الثانية جاءه ثلاثةٌ وسبعون من الرجال، فقال أخرِجوا لي – أي انتخبوا – من بينكم اثني عشر نقيباً، وهذا أول مجلس برلماني في الإسلام، فهذا هو إذن، النبي يُريد اثني عشر نقيباً واثني عشر مُمثِّلاً من الثلاثة والسبعين، أي أنه مجلس شعب أو برلمان، وهذا واضح جداً، فهو يقول لهم أخرِجوا لي من بينكم اثني عشر نقيباً كي يُفاوِضهم ويتكلَّم معهم لأنه لن يستطيع أن يتكلَّم مع سبعين، والنبي رجل سياسة أيضاً وهو مرن ومُتفتِّح، وهكذا بايعوه، فقال له البراء بن معرور – رضوان الله تعالى عليه – والله يا رسول لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، والمقصود حريمنا ونساءنا طبعاً، وليس الإزار نفسه وإنما هذا كناية عن شيئ أبعد، لأن الإزار يُحَل معروف على ماذا، وهذا أدب وحياء العربية يدل على حياء العربي، فهو لم يُحِب حتى أن يذكر كلمة نساءنا وقال أزرنا، فأزرنا لا تعني الشراشف وإنما يُراد بها نساءنا وحريمنا، وهذا هو معنى أنه قال لهلنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، جرِّبنا يا رسول الله ولا تخاف، فنحن أهلُ الحربِ وأهل الحلقة – السلاح – وإلى آخر ما قال، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وقال لرسول الله ما قال، فهو أراد أن يحتاط، لأن هذا الرجل كان واعياً، فهم لم يكونوا عاطفيين كشأن بعض الناس اليوم أو كثير من الناس، ومن ثم يندلق وينماع حتى مع الرسول وهى صفقة مع الله تبارك وتعالى، فلابد أن تكون الأمور مُحدَّدة وواضحة وأن يُعرَف ماذا لك وماذا لنا وكيف تكون العاقبة، فنحن لا نُبايع هكذا بيعة عمياء طخياء وإنما نُبايع على وعي ويقظة، واليوم شعوب كاملة تقول لك “الله ومُعمَّر وليبيا وبس أو الله وسوريا وبشَّار وبس”، فالشعوب لا تزال تعبد البشر، مَن هو بشَّار؟ ومَن هو مُعمَّر؟ ومَن هو فلان وعلان؟ كيف يُقال بالمُطلَق هكذا؟ أبدل وعوض أن تُنادي بالحرية وبالعدالة تُنادي ببشر؟ وبشر – ما شاء الله – أتاك بكل خير، يحكم فيك بقانون الطواريء من خمسين سنة ولا زال يشاور نفسه ويشارو حكومته في هل يترك هذا القانون أم يُطبِّقه، وهذا أمر غير معقول، وأنت لو سألت نفسك ما معنى قانون عُرفي وما معنى قانون الطواريء لعرفت أن معناه في لغة السياسة – ABC سياسة – لا ثقة بالمُطلَق بين الحكومة والشعب، وهذا أمر معروف، فحين تُفتقَد الثقة بالمُطلَق بين الحكومة وشعبها مُباشَرةً تعمل بالطواريء لأن لا تُوجَد ثقة، فقط تربص من كلا الجانبين، كل يتربَّص بصاحبه وبخصمه بسبب وجود خصومة بينهما، فمن ثلاث وستين في سوريا وقانون الطواريء يشتغل، لماذا؟ وهل إلى الآن لازلت تشاور نفسك؟ قال أنه وعد لكنه لا يزال يُشاوِر نفسه، وهم يقولون بشَّار وبس أو مُعمَّر وبس ولا أعرف لماذا؟ هذه شعوب عجيبة، وفعلاً أمثال هؤلاء لا يستحقون خيراً من هؤلاء الحكّام، أنت تستحق مُعمَّر ولا تستحق أحسن منه، ما دمت تقول هو وبس فإذن هو وبس، فإذن هؤلاء هم سبب خبال الأمة، أمثال هؤلاء القطعان والأمواج الجاهلة العمياء الصماء البكماء، فإذا نطقت نطقت كفراً، لأنها بكماء لا تنطق بالحق ولا تجرؤ ولا تجسر ولا تشجع أن تتكلَّم بكلمة حق، فإذا نطقت نطقت بالكفر البواح والعياذ بالله، وليس شرطاً أن يكون الكفر كفراً بالله، فهذا كفر بالإنسان وبحقوقه وبحرياته وبكرامته وباستقلاله، فمَن يقول هذا هو كافر بكل هذا المباديء النبيلة، وعلى كل حال قام أبو الهيثم بن التيهان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وقال يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً – أي عهوداً – وإنا قاطعوها، يُريد بيننا وبين اليهود – يهود المدينة بقبائلهم المعروفة – أحلافاً، أي حلف أو عهد أو ميثاق Pact، ونُحافِظ عليها نحن العرب – أوس وخررج – طبعاً، فقد أدرك أبو الهيثم – رضوان الله تعالى عليه – في اللحظة ذاتها أنهم إزاء حلفٍ سياسيٍ جديد وليس مُجرَّد دين نعبد الله ونٌصلي ونصوم، فواضح أنه حلف سياسي، النبي الآن يطلب حلفاً سياسياً وليس كما كان يقول لقبائل العرب في المواسم امنعوني حتى أُبلِّغ كلمة ربي، ليس هذا المقصود الآن، هذا موضوع ثانٍ وهذا شيئ مُختلِف الآن، فهذا تأسيس دولة، دولة سيكون لها سياسات مُعيَّنة وجيش وقضايا جديدة، ففهم الرجل هذا لأنه ذكي ولأن العرب كانوا أذكياء – اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩ – جداً، وقد تعذَّب النبي كثيراً مع هؤلاء لكنه لو بُعِث اليوم لن يحتاج إلى ثلاث وعشرين سنة وإنما سيحتاج إلى مائتين وثلاثين سنة في أمة تنادي مُعمَّر وبس وبشَّار وبس، فالعرب كانوا يعبدون الحجر لكن كان لديهم رجولة ووضوح في الرؤية وسرعة بديهة وذكاء بالطبيعة وقوة عارضة ومواقف شجاعة، فإذا أخذ أحدهم موقفاً ينتهي كل شيئ ولا ينثني لأنهم كانوا رجالاً، وعلى كل حال فهم الرجل هذا وقال له يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً – أي عهوداً – وإنا قاطعوها، فعسى يا رسول الله إن أظهرك الله – تبارك وتعالى – أن تدعنا وتعود إلى قومك، أي تتركنا ثم نضيع نحن هناك بين يهود المدينة بعد ذلك، فتبسَّم النبي وتبسَّم – صلوات ربي وتسليماته عليه – وقال بل الدم الدم والهدم الهدم، أي أن الحياة معكم والموت معكم، الله أكبر يا رسول الله، ولذلك فعلاً عاد من مكة حبيبته وأحب بلاد إليه ليُدفَن في المدينة، علماً بأن هذه العبارة كانت تقولها العرب عند التحالف وخاصة في الاحلاف العسكرية، فكانت تقول الدم الدم والهدم الهدم، أي أن الحياة حياتكم والممات مماتكم، فأنا معكم ولن أخذلكم ولن أعود وأنتم أنصاري، وصدقوا الله ورسوله النُصرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – بالفعل.

إذن الرسول نفسه – صلوات ربي وتسليماته عليه – أسَّس سُلطته بل شرعية سُلطته واستمدها من ماذا؟ من البيعة، فلو قالوا لا نُبايع لانتهى كل شيئ ولما كان هناك سُلطة، ولن يقول لهم سأضعكم الآن أمام أمام تبعة إلهية فظيعة، فأنتم كفّار ودخلتم جهنم لأنكم رفضتم هذه البيعة، هذا موضوع وهذا موضوع، فنحن مُوحِّدون ونقول “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” ولكن هذه البيعة بالطريقة هذه لا نستطيعها ولا نحتملها ولا نستطيع أن ندفع أثمانها الباهظة فخل عنا يا رسول الله، وهذا أمر عادي، ومن ثم لم يُهدِّدهم بالنص الديني وبالآخرة أبداً، فهذه السُلطة إذن وهى سُلطة مدنية فانتبهوا، سُلطة رسول الله في المدينة لم تكن سُلطة دينية وإنما كانت سُلطة مدنية، فحتى الرسول وليس أبا بكر وعمر وعثمان وعليّ فقط لم يُنشيء دولة دينية أبداً، فأول شيئ كان يتمثَّل في أن مصدر السُلطة من أن الأمة بايعته وأعطته البيعة، فأهلاً وسهلاً به، ذلك عن طريق مُمثِّلي الأمة ومُمثِّلي الأنصار، فالآن أنا سُلطان عليكم، إذن الأمة مصدر السُلطات حتى مع رسول الله وليس مع أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ فقط، وهذا كان أولاً.

ثانياً الدولة التي شاد بناءها لم تكن دولة المسلمين بل كانت دولة مواطنيها مسلمين وغير مسلمين، وأعني اليهود بالذات، وهذا واضح أكثر من الوضوح نفسه في صحيفة المدينة وعودوا إليها، فصحيفة المدينة لمَن قرأها هى أول دستور – Constitution – بمعنى كلمة دستور في العالم وفي التاريخ الإنساني، فهى دستور حقيقي، وهذا الدستور أكَّد أنها دولة مواطنيها وليست دولة المسلمين مُهاجِرين وأنصاراً، وإنما دولة المواطنين ولذلك دخل اليهود بشتى قبائلهم وتصنيفاتهم وألوانهم، فهم دخلوا وسموا فيها، وقيل هم جماعة مع المُؤمِنين وهم أمةٌ مع المُؤمِنين – ليسوا من المُؤمِنين وإنما مع المُؤمِنين – لأنهم من ضمن الشعب People، فهم يعيشون في ظل حياض مُعيَّنة وفي حدود جغرافية مُعيَّنة تتعلَّق بالمدينة وما حولها وما ينتمي إليها، فهى دولة المواطنين إذن، وهذا أمر عجيب، لكن النبي فعل هذا تماماً، وهذه الأشياء تخضع لما تخضع له أي أسس دولة مدنية فعلاً، فهى ليست مُقدَّسة بحد ذاتها أبداً وإنما بحسب ما تُؤدّي وتفي بأغراض المقاصد والغايات – غايات الاجتماع السياسة – أيضاً، فهذا هو إذن وهكذا كان الرسول، والأعجب من هذا – أنتم تعلمون هذا فلا نُطيل بالتذكير به لأنكم على ذُكرٍ منه إن شاء الله – أن النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه – كان في ما لا يُوحى إليه بشيئ يستشير، وفي الحديث ما كان أحد أكثر مشورةً من رسول الله، وهذا أمر عجيب، فهم قالوا أن أكثر مَن كان يستشير ليس أبا بكر وليس عمر وليس عليّاً أو غير هؤلاء وإنما الرسول، فهو دائماً يستشير ويقول أشيروا علىّ أيها الناس، وذلك في الحرب وفي السلم، وفي قضية الإفك حين طُعِنَ في عِرضه الشريف المصون وفي عِرض الصديقة كان يستشير عليّاً وهو كان غلاماً، أي شاباً صغيراً، وكان يستشير أسامة بن زيد، لكن كم كان عمر أسامة؟ زُهاء ثلاث عشرة سنة، وهذا شيئ عجيب، يستشير شباباً لأنه يثق بعقلهم وبحبهم وودهم له، وكان يستشير في قضية عائلية حسَّاسة جداً مثب قضية عِرضه وشرفه وقال ماذا أفعل؟ فهو يستشير في الحرب وفي السلام وفي كل المسائل، ولن نُذكِّركم بالأشياء التي تعرفونها لأنها كثيرة جداً وتدل على أن النبي كان يستشير كثيراً.

في الأحزاب – الخندق – يُفاوِض النبي تميم غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يعودوا، ويُريد أن يُنفِّس عن المسلمين هذا الحصار الخانق الذي أوشك أن يستأصلهم وقد عزمت الأحزاب على ذلك فيقول له السعدان يا رسول الله هذا شيئٌ أُمِرت به أم شيئٌ تُحِبه – أنت تُحِب هذا الشيئ – أم شيئٌ تصنعه لنا، أي لأجل مصلحتنا؟ وانظروا إلى الذكاء في السؤال، فهو يساله هل هذا وحي أم شيئ تُحِبه شخصياً من عندك أم شيئ تصنعه لنا من أجل مصلحتنا؟ فقال بل شيئٌ أصنعه لكم، إني رأيت العرب قد رمتكمم عن قوسٍ واحدة فأحببتُ ان أُنفِّس عنكم، قالوا فلا حاجة لنا به يا رسول الله، والله لا نُعطيهم إلا السيف، فقال أنتم وذاك، لأن هذه هى الشورى، ولم يقل أنا رسول الله فكيف تقولون هذا؟ لم يقل هذا أبداً، فنعم أنا رسول الله حين يُوحى إلىّ لكن أنا الآن قائد دولة سياسي استمد شرعية سُلطتي منكم، فأنتم شرعيتي ومن ثم لابد أن أستشيركم ولابد أن أصدر عن رأيكم، والإمام أحمد يروي في مُسنَده قول الرسول – صلوات ربي وتسليماته عليه – لأبي بكر وعمر – رضوان الله تعالى عنهما – لو اجتمعتما على أمرٍ لم أُخالِفكما، كأنه يقول أنا أثق في عقل الاثنين مُجتمعين، فهويُعلِّم الناس التواضع وإلا عقله وحده – في نظري بل في اعتقادي وليس في نظري فقط – يرجح بعقول العالمين وليس بعقل الشيخين فقط وإنما بعقول العالمين، فأنا مُوقِن بهذا ولكنه يُريد أن يُدرِّبنا!

بالنسبة للقضاء لم يستبد بسُلطة القضاء، الرسول هو سُلطة تنفيذية ولكنه كان مُفتياً، وهو سُلطة إرشادية ووعظية وعلمية وإفتائية وسُلطة قضائية ولكنه لم يستبد لكي يُؤسِّس للفصل بين السُلطات، وفي أوروبا هنا يرفعون رؤوسهم شامخين بمونتسكيو Montesquieu، ويقولون مونتسكيو Montesquieu هو أول مَن تكلَّم عن الفصل بين السُلطات الثلاث – التشريعية والقضائية والتنفيذية – لكن هذا غير صحيح، فالمسلمون فعلوا هذا وبشكل واضح، والأدلة تملأ مئات الصحائف، والنبي كان أول مَن شرع في هذا الفصل، لماذا؟ كان يأمر أصحابه أن يقضوا حتى في حضرته ويبعثهم قضاةً، ولهم سُلطة تستقل أحياناً عن سُلطة الولاة وأحياناً يجمع السُلطتين لشخص واحد يكون هو الوالي وهو القاضي، ولكن هذا القاضي قد يُراجَع وقد يُناقَش في قضائه وقد يعدل عنه فلا يستبد به، ويقول مرةً لعمرو بن العاص وقد جاءه خصمان يختصمان لديه – عليه الصلاة وأفضل السلام – اقض بينهما، فقال يا رسول الله أنت أولى، أي كيف أقضي وأنت موجود؟ قال اقض بينهما – النبي حرَّج عليه فلابد أن يقضي – وإن كنت، أي وإن كنت موجوداً، اقض بينهما، فقال له على ماذا؟ أي ما هو الجزاء بعد ذلك؟ هل سنذهب إلى جهنم فيما بعد؟ هذا الأمر مُخيف، قال له فإن أصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن اجتهدت فأخطأت القضاء فلك حسنة واحدة، فقال أقضي، كأنه يقول له سوف أقضي لكن وأنا على نور بردو بعيداً عن الهلكة، فنحن نحاول أن نتوخّى – كما يُقال – ولا نألوا.

يبعث مُعاذاً إلى اليمن قاضياً ويقول له إن عرض لك قضاءٌ يا مُعاذ بم تقضي؟ قال بكتاب الله، فقال فإن لم تجد؟ قال بسُنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ فقال أجتهد رأيي ولا آلو، أي لا أُقصِّر، فضرب النبي في صدره – في رواية – وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يُحِبه الله ورسوله، فهذا هو إذن، ولذلك كان له قُضاة يبعثهم أحياناً في الأنحاء ويُفوِّضهم للقضاء في المدينة، ومن قضاته الأربعة الراشدون – رضوان الله تعالى عليهم – ومن قضاته سلمان الفارسي وعمَّار بن يسار وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وحُذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وغيرهم – رضيَ الله عنهم وأرضاهم – طبعاً، لكن هؤلاء أشهر قُضاة رسول الله الذين كانوا يعملون له، أما هو فكان يقضي وهو رسول ويُفتي ويُعلِّم بما يُوحى إليه، فهو كان يقضي إذن وقد جمع الإمام ابن فرج القرطبي أقضية الرسول في أحسن كتاب جامع لها بعنوان أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في كتاب بحياله للعلَّامة ابن فرج القرطبي، وهو كتاب مطبوع وحسنٌ جداً، وهكذا مَن بعده قضى عمر لأبي بكر، وفي عهد عمر السعيد – رضوان الله تعالى عليه – ترامت أطراف الدولة، وكان يحكم في بضع عشرة دولة فترامت واتسعت واستبحر العمران وكثر الناس وكثرت القضايا والمُستجِدات فجعل عمر يبعث بالقُضاة يُعيِّنهم تعييناً ويقول أنت على هذه الناحية وأنت على هذه الناحية، ويكتب لهم كتباً في هذا، وأشهر كتاب – وقد بلغنا بفضل الله – هو كتابه إلى أبي موسى الأشعري، فهو كتاب عجب، وهو الكتاب الذي شرحه ابن القيم في زُهاء ثلاثة مُجلَّدات، هذا فقط شرح لهذا الكتاب وإسمه إعلام المُوقِّعين عن رب العالمين، فهو يشرح هذا الكتاب – كتاب عمر لأبي موسى رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – العجب وهكذا!
عمر أكَّد مبدأ استقلالية القضاء وذلكم يظهر أكثر ما يظهر في الحادثة الشهيرة وهى حادثة اختلاف عُبادة بن الصامت مع مُعاوية بن أبي سُفيان، ومُعاوية كان والياً، أي رئيس بلاد الشام، وعُبادة بن الصامت كان مُعلِّماً وكان يقضي، وأبو الدرداء كان مُعلِّماً وكان يقضي، ومُعاوية يستحل ربا الفض – ليس ربا النَساء وإنما ربا الفضل – فيبيع أواني الذهب والفضة بما لا يُماثِلها في الوزن، ولا يجوز هذا إلا بشروط معروفة، أي ربا الفضل في الأعيان الستة – الأعيان الربوية الستة – المعروفة، ومنها الثمنان الذهب والفضة، فينهاه أبو الدرداء ويقول له الرسول حرَّمه وقال فيه كذا كذا، فيقول أما أنا فلا أرى به بأساً، فيقول أبو الدرداء مَن عذيري من مُعاويةً أُخبِره عن رسول الله ويُخبِرني عن رأيه؟ أي أقول له الرسول قال كذا وكذل ولكنه يقول لي أنا أرى أنه عادي، ثم قال والله لا أُساكِنك في أرضٍ يا مُعاوية، فيُهاجِر أبو الدرداء من الشام لأنه قال هذه الأرض يُعمَل فيها بمعصية الله، وهو عنده الحق، وهذا اتُخِذَ حُجة لدى الأئمة على هجر الأرض التي يُستعلَن فيها بمعصية الله حتى من الإمام أو الوالي، فهذه معصية واضحة، وعُبادة بن الصامت له مثل هذا الفصل المُحزِن مع مُعاوية في ربا الفضل أيضاً فتركه بعد أن أقسم أنه لا تجمعه به أرضٌ واحدة، ثم يأتي المدينة المُنوَّرة في زمن عمر ويقول له عمر ما أقدمك يا عُبادة؟ فيقول مُعاوية كان من شأنه كذا وكذا وكذا، فيقول ارجع إلى الشام فقبحاً لأرضٍ لست فيها أنت وأمثالك يا عُبادة، ويكتب لمُعاوية لا إمْرةَ لك على عُبادة، وهذا هو الاستقلال، فهو يقول له أنه قاضٍ ويقضي بما يعلم وأنت لا تتدخَّل وأن كنت والياً، إذن فصلٌ واضحٌ وصارخ بين السُلطة التنفيذية المُتمثِّلة هنا في مُعاوية وبين السُلطة القضائية المُتمثِّلة في عُبادة بن الصامت، فالمسلمون كانوا واعين بهذه القضايا ومن ثم كانت أمة مُتقدِّمة، ولذلك الإنسان يشعر بالأسى وبالحزن حين يأتي بعض أبناء هذه الأمة الذين تخرَّجوا من فسطاط العلمانية والليبرالية والتغريبية ويقدحون في دينهم وفي تشريعهم وفي تاريخهم جُملةً دون تفصيل وهم يجهلونه ويتبجَّحون بأفكار جون لوك John Locke وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau وتوماس هوبز Thomas Hobbes ومونتسكيو Montesquieu وكوندورسيه Condorcet وأمثال هؤلاء وهم لا يعرفون شيئاً عن تاريخهم ولا عن دينهم ولا عن شرعهم، فلماذا يا رجل؟ أنت عندك تاريخ وعندك ميراث يرفع الرأس والله العظيم، فقل لهم نحن قبل كل هذه الشعوب وقبل هذه الحضارات بالمئين من السنين كان هذا هدينا، فهكذا كنا نهدي وهكذا كنا نسير وهكذا أسَّسنا ونظَّرنا وعلَّمنا وتعلَّمنا، وهذا شيئ مُشرِّف وهذه أسبقية حقيقية، ومع ذلك يُقال لك هذا حكم إسلامي وحكم ثيوقراطي – Theocracy – ديني ونحن لا نُريد الحكم الديني، لكن ماذا تفهم أنت يا رجل؟ أين هذا الحكم الديني؟ لا يُوجَد عندنا شيئ إسمه الحكم الديني أبداً، هذا لا يُمكِن أن يُوجَد، وهذا فصلٌ واضح جداً.

إذن نعود إلى القضية الأولى، فالأمة مصدر السُلطات، ولذلك ليس الخليفة وحده هو الذي يحكم، لكن قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ كيف جاء عمر إلى الحكم؟ أبو بكر ولاه، أليس كذلك؟ وأنا أقول له هذا غير صحيح، فتولية أبي بكر لعمر ليست تولية وإنما ترشيح، فهو رشَّحه فقط، وعمر لم يصل خليفةً ولم يُعتد به خليفة إلا بالبيعة العامة حين جاءت الأمة وبايعته، فحتى بيعة أولي الأمر وثُلة قليلة من أصحاب الرأي والمشورة في المسجد وهى بيعة محصورة تُعتبَر بيعة خاصة، فهذه لا تُلزِم الناس ولكن تُهديء من روع الناس وتُنير لهم الطريق، فهذا جيد لأصحاب العقول، ولكن ما هو رأي الأمة؟ الأمة بعد ذلك لابد أن تُبايع، وفي خلافة عثمان عبد الرحمن بن عوف كان يدور حتى على النساء المُخدّرات في البيوت وهن في خدورهن ويُقال للواحدة منهن يا أختاه، يا أمة الله يقولون أنهم يُريدون عثماناً، فهل أنتِ مع أم ضد؟ فإذا قالت أنا مع أو أنا ضد فإنه يكتب هذا، وهذا شيئ عجيب، فعلاً كانت أمة مُتقدِّمة جداً، إذن هذا مُجرَّد ترشيح لا يُخوِّل أحداً سُلطةً على أحد إلا أن ترضى الأمة وتُعطي صفقة يمينها، فالأمة – أي مُعظم الأمة – لابد أن تقول نعم، الأغلبية لابد أن تقول أهلاً وسهلاً لأن هذا حكم الأغلبية وهذه هى الديمقراطية وهذا هو الحكم الشوري في الدين، ولكنك قد تقول أن هذا لم يستمر، وهذا صحيح فهو لم يستمر للأسف الشديد، فقد أصبح – كما ذكرنا في خُطب سابقة ولا نُحِب أن نُكرِّر – بدايةً من مُعاوية بن أبي سُفيان مُلكاً وراثياً، أي بالوراثة والأمة ليس لها أن تتكلَّم، وطبعاً كانت تُؤخَذ البيعة تحت حر السيف، فالسيف يُوضَع على رأس الناس ويُقال للواحد منهم هل تبايع أم تُقتَل وتُحرَق أنت ومَن معك؟ فيقول أُبايع، كما قال أبو العلاء المعري:

جلوا صارماً – أي رفعوا السيف – وتلوا باطلاً         وقالوا صدقنا فقلنا نعم.

صدقتم الصدق كله لأنكم أخذتم البيعة عن طريق قطع رؤوس، لكن طبعاً لا بيعة لمُكرَه، والإمام مالك كان من هديه – رضوان الله عليه – أنه يدخل على الخلفاء بخلاف الإمام أبي حنيفة – مثلاً – لا يدخل، فمالك كان يدخل وكان يقول والله ما دخلت على أحدٍ من هؤلاء إلا رفع الله هيبته من قلبي حتى آمره وأنهاه على ما يرضى ربي، أي أنني لا أُداهِن، فأنا أدخل وأراه مثل الصعلوك ومثل القط وإن كان خليفة في الهيل والهيلمان، فهو محفود محشود وشيئ كبير ولكن لا شيئ في نظري، مُجرَّد صعلوك أتكلَّم معه بما يُرضي الله، وعلى كل حال هكذا كانوا، وإن كان أكثرهم – أكثر هؤلاء الصلّاح – يفرون من السلاطين والحكّام، وقد دخل سُفيان الثوري مرة على أبي جعفر المنصور – طبعاً أبو جعفر للأسف عباسي وقد أتى من بعد الأمويين – الذي قال لهم إنما أنا سُلطان الله في أرضه – رجعنا إلى نظرية التفويض الإلهي والنظرية الإلهية في الحكم وانتهت الشورى – أسوسوكم بتأييده وتسديده وتوفيقه، لكننا – والله – ما رأيناه يا أبا جعفر، أين هذا التسديد والتأييد؟ بالمصائب والكوارث وذبح الناس يا أبا الدوانق؟ وبعد ذلك قال لهم وإنما أنا حارسه وخازنه في ماله، أُعطي مَن أشاء وأمنع مَن أشاء، قد جعلني قفلاً عليه، إن شاء أن يفتحني فتحني، وإن شاء الله أن يُغلِقني، وانظروا الآن إلى هذا الكذَّاب، فهو يكذب في العقيدة – والله العظيم – طبعاً، وهو يتوسَّل عقيدة مريضة وعقيدة مُعتَلة مُلتاثة لكي يُشرّعِن ظُلماً ولكي يُشرّعِن حُكماً ظالماً جائراً بعقيدة فاسدة ومن ثم يعتل بالمقادير وبالقدر، لكن في كتاب الله على طوله وعرضه لم يعتل بالمقادير في الخطايا والظلم إلا الكفّار المُشرِكون، فالمُؤمِن لا يعتل بهذا، ولما أوشك المسلمون في أُحد أن يعتلوا بالقدر وقالوا من أين وكيف – أي كما نقول نحن من أين جاءنا البلاء هذا؟ – قيل لهم اسألوا أنفسكم، اسأل نفسك من أين أتى هذا ولا تسأل ربك، إذا لم تفهم ستظل هذه المصائب تتوالى عليك، قال الله أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ – أي في هزيمة أُحد – قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا – أي ضعفيها ما شاء الله، نصر مُضعَّف من بدر – قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ – لم يقل الله قل هو بقدر الله وقضائه بل قال ما يلي – قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ ۩، أي منكم، فلا تقل إذن هذا من عند الله، كيف يكون من عند الله؟ هذا منك أنت، فأنت الذي فعلت هذا، لأن الله يقول للصحابة مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ ۩، أما المُشرِكون فتقول الآية الكريمة عنهم وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ۩، فهذه كذبة، هم كذبوا على الله وقالوا أن الله هو الذي يُريد هذا، ولو أرادنا أن نُوحِّده لوحَّدناه ولو أراد أن نُحرِّم ما حرَّم لحرَّمناه، لكن كل الذي فعلناه سواء مما حرَّمنا ومما حلَّلنا ومما ما أشركنا بسبب القضاء والقدر، وهذا غير صحيح لكن الكافر يعتل بهذا، وسأُفضي إليكم بشيئ خطر لي، فأنا الحقيقة كنت دائماً في شك مُذ صغري كلما قرأت هذا الحديث في صحيح مسلم أو استمعت إليه لأن قلبي لم يرتح له وكنت أقول لعل يد بني أمية قد عبثت ولعل الفقه أو الاعتقاد الأموي هو الذي دس هذا الحديث ثم جاء في الحديث في الصحيح – صحيح مسلم – في نهاية المطاف، وهو حديث مُحاجَة آدم وموسى، فهذا كلام فارغ وكله ضد القرآن الكريم على طول الخط، لأن هذا الحديث يُعلِّمنا – بالطريقة الأموية – أن نتعلَّل وأن نُبرِّر – Justify – المعصية بالقدر كما فعل مُعاوية ويزيد وكل بني أمية وكل بني العباس، وسأحكي لكم بعض الأشياء سريعاً إن بقيَ وقت، وعلى كل حال يقولون أن موسى يسأل آدم ويقول له أنت يا آدم أبونا وخلقك الله بيديه وأسجد إليك الملائكة وإلى آخره فلم أكلت من الشجرة وأخرجت نفسك وأخرجتنا إلى هذه الدنيا؟ قال له يا موسى بكم وجدت – أنت موسى الذي كلَّمك الله تكليماً وأنزل عليك التوراة مكتوبةً بخط القدرة وبيده لا إله إلا هو – فيها وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ۩؟ أي أن فيها قرآن – ما شاء الله – نازل، وهذه نفس الآية القرآنية الموجودة في سورة طه، فانظروا إلى الكذب، وعلى كل حال قال له بأربعين سنة، فقال له بكم قبل خلقي هخذا مكتوب؟ قال له هذا مكتوب قبل ما تُخلَق بأربعين سنة، وطبعاً من المُمكِن أن يكون قد كُتِب حتى من خمسين ألف سنة وهو معلوم لله أزلاً، لكنه قال هذا قدر، ونعم ربنا كل شيئ قدَّره تقديراً لكن ما علاقة هذا بما تُجاوِب يا آدم؟ هل آدم يقول هذا القول أصلاً؟ هل آدم يعتذر بالمقادير عن خطئه؟ أنا أقول لكم هذا كذب على آدم وكذب على رسول الله وكذب على مَن روى هذا الحديث من أصحاب رسول الله، لماذا؟ لأن الله يقول قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، فآدم لم يقل يا رب أنت كتبت علىّ هذا، والقرآن يقول آدم وحواء بكل تواضع وبكل عبودية لله اقترفا ذنباً فاعترفا فهُدِم، والاعتراف يهدم الاقتراف، ولذلك الله – عز وجل – لقَّاهما كلمة التوبة والرحمة، وانتهى كل شيئ بإذن الله، فهذا هو إذن، فهما قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، أي قالا أن هذا منا ونحن فعلاً ظلمنا أنفسنا، لكن في صحيح مسلم قيل أن الحكاية ليست حكاية أنهم ظلموا أنفسهم وعملوا خطأ وإنما حكاية قدر مكتوب فلا تُناقِش ولا تتكلَّم، لكن هذا الكلام فيه رائحة أموية في الكلام، فمُعاوية كان أول مَن تعلَّل بالقدر ليُبرِّر مُجانَفته ومُخالَفته للشريعة المُطهَّرة المُحمَّدية، وأول شيئ قاله حين خرج إلى صفين وصاروا في صفين هو إنما كان خروجنا من بلادنا إلى هذه البُقعةِ من أرض الله بقضاءٍ سابق وقدرٍ نافذ حتى التففنا بهؤلاء القوم من أهل العراق، قال الله وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ۩، وهذا أول العبث بالعقيدة واللعب على الناس!

روَّاد كان مولىً للمُغيرة بن شُعبة نصير مُعاوية في ما فعل وفي ما ولّى، فماذا كان يقول روَّاد؟ يقول كتب مُعاوية إلى المُغيرة بن شُعبة يسأله عن ماذا كان يقول الرسول بعد الصلاة، أي أن مُعاوية – ما شاء الله – كان مُهتَماً كثيراً بهذا، فهو يستحل شرب الخمر وربا الفضل ولكنه مُهتَم كثيراً بالسُنن، فكان يسأل بماذا كان النبي يُعقِّب بعد الصلاة؟ أي ماذا كان يقول؟ ثم قال روَّاد فكتب له – وأكيد هو سمعه قبل هذا ولكنه يُريده وسوف تعلمون لماذا هذا، فهذا توظيف سياسي وتذرّع بالدين في السياسة، مُجرَّد ديباجات دينية – كان النبي يقول بعد الصلاة اللهم لا مُعطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا راد لما قضيت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يقول روَّاد مولى المُغيرة فكتب مُعاوية إلى الأنصار – كان خليفة فكتب إلى كل البلاد التي يحكمها هذا – يأمر الناس بأن يقولوها بعد الصلاة، يا سلام، هل تأمر الناس بسُنة إن ثبتت بالطريقة هذه؟ وحتى إن ثبتت لماذا يتذرَّع بها في تكريس مفاهيم جبرية؟ فهذا كله جبر والموضوع جبري، ولذلك بنو أمية التقطوا الخيط هذا وأمعنوا في التعلّل بالجبر، فكل شيئ لديهم يتعلَّق بالجبر، وأول خُطبة ليزيد كانت عن نفس الشيئ، فهو قال سبحان الذي ما شاء صنع، مَن شاء رفع ومَن شاء وضع ومَن شاء منح ومَن شاء منع، أي أنه باديء بالجبرية ما شاء الله، فكله جبر عنده، صحيح ربنا كذلك لكن ما علاقة هذا بالسياسة؟ هو يُريد ان يقول اسكتوا ولا تتكلَّموا، مثلما قال أبو جعفر المنصور أنا قفل هذا المال، الله جعلني قفلاً، فإذا أراد أن يفتحني فإنه سوف يفتحني ومن ثم لا تقولوا هو كريم، وإذا أراد أن يُسكّرني فإنه سوف يسكّرني ومن ثم لا تقولو هو بخيل وهو الدوانق، لكن كان يُقال عنه هذا لأنه كان يعطي بالدانق، أي جزء من الحبة – ولك أن تتخيَّل هذا – التي هى جزء من الدرهم الذي هو جزء من الدينار، ومع ذلم قال هذا كله من الله، فالله هو الذي يُريد هذا ومن ثم لا تتكلَّموا.

عبد الملك بن مروان يقتل عمرو بن سعيد بعد أن هنافسه على الحكم ثم يأمر رجاله بأن يُطوِّحوا برأسه من أعلى القصر، ويهتف عليهم – أي بهم – هاتف إنما قتل أمير المُؤمِنين صاحبكم بقضاء الله السابق وأمره النافذ، أي سلِّموا ولا تثوروا ولا تغضبوا، والآن يُقال القذَّافي يقتلكم بقضاء الله وبشَّار يقتلكم في اللاذقية وفي درعا وفي غيرها بقضاء الله، وهذا جبر أموي لكي لا تتكلَّموا أو تعترضوا، وهذا شيئ غريب، لكن لم يبق هذا وقفاً على الحكّام وبعض الفقهاء المُتمعيشين بل تأثَّر به الخطاب الأدبي أيضاً، فشعر بني أمية اختلف وشعراؤهم مثل الأخطل وجرير والفرزدق ونابغة بني شيبان ورؤبة بن العجاج – مَن أقول؟ هناك دواوين كثيرة – كان عندهم الشعر الجبري، وقد حدَّثتكم عن طرف من هذا في الخُطبة السابقة، فجرير – مثلاً – يقول لعبد الملك بن مروان:

أللهُ طوقكَ الخلافة َوالهُدى                   والله لَيْسَ لِمَا قَضَى تَبْديلُ.

أي أن الله هو الذي جعلك تأخذ هذا الشيئ، فهذا كله من الله.

ويقول في عمر بن عبد العزيز – رضوان الله تعالى عليه – صالح بني أمية وراشد بني أمية:

نالَ الخلافة َ إذْ كانتْ لهُ قدراً                   كَمَا أتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ.

أي أنه قال كلها أقدار، فلا اعتراض إذن وسلِّموا تسلموا لأن في الاعتراض الهلكة!

في الحقيقة أحزنني أن بعضهم عمَّم إيميلاً – Email – قبل ربما عشرة أيام بعنوان آخر الرجال عن مولانا الشيخ العارف بالله محمد متولي الشعراوي رحمة الله تعالى عليه، وقد حزنت لأمرين فمثل هذا يُطوى ولا يُنشَر، وأنا ربما ذكرته مرة واحدة في حياتي على المنبر مُنكِراً، ولعلي لم أذكر إسم الشيخ الشعراوي – قدَّس الله روحه – لاحترامنا وحبنا وإجلالنا، فهذا ليس مِمَا يُذكَر على أنه مدحة للشيخ الشعراوي، هذا يُؤخَذ عليه وقد أخذته الأمة، فكل أيقاظ الأمة وأذكياء الأمة أخذوا هذا على الشيخ الشعراوي وأحزنهم وأغضبهم، لأن الشيخ الشعراوي توسَّل نفس المنطق الجبري الأموي في مُخاطَبة الطاغية البائد محمد حُسني مُبارَك بعد أديس أبابا حين جاءه مع الشيخ جاد الحق والشيخ محمد الغزالي – رحمة الله على الثلاثة الكرام – ثم جاء الشيخ الشعراوي وقال له ما قال في النهاية، وطبعاً أثناء الخطاب قيل قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ۩، فهو يتوجه لمَن أراد اغتيال الطاغية قائلاً أنه أمر إلهي فلا تُحاوِل، وأن الكرسي هذا ليس مسألة سهلة، وهذا الكرسي لا يؤتاه إلا مَن قدَّر الله له أن يؤتاه، وهذا كله كلام جبري طبعاً، فما هذا؟ وهذا أحزننا من الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – جداً، فهذا كلام فارغ ومع ذلك يُرسل إيميلاً – Email – للناس بهذا، أرأيتم إلى أين وصل الاستغفال لهذه الأمة؟ فحتى الذي بعثه رجل غلبان مسكين، فهناك مَن بعث لي هذا وقال كان آخر الرجال، لكن بالعكس هذا يُؤخَذ على الشيخ الشعراوي ولا يُحسَب له فيُطوى ولا يُنشَر، ولكنهم نشروه وهم يعتقدون أن هذه الأمة غبية، وحين تسمع تُصدَم بعد ذلك، فأين الرجولة هنا؟ ما الذي قاله الشيخ الشعراوي؟ بالعكس هو تكلَّم بلسان بني أمية وفي النهاية ختم بقوله أنا لن أُنافِق، أنا على حافة قبري، مُدبِر عن الدنيا ومُقبِل على الآخرة، ثم وضع يده على كتف مُبارَك وقال له إن كنت قدرنا وفقَّك الله، وإن كنا قدرك أعانك الله، فما هذا؟ ما هذه العبارات؟ لن أبدأ في تشريح هذه الجملة وماذا أراد بها الشيخ، فهى عبارة عظيمة ولا تُقال لأنها ليست جيدة، وكان ينبغي على الشيخ العارف – قدَّس الله سره – أن يفعل وأن يقول مثلما فعل أخوه الشيخ محمد الغزالي – علماً بأنني حدَّثتكم عن هذا في خُطبة – في نفس اليوم بعد أن ذهبوا ليجلسون في القصر، حيث تكلَّم الشيخ الغزالي كلاماً جيداً، وأنا مُتأكِّد من أن الذي بعثه على أن يتكلَّم بهذا هو عدم رضاه عن كلمة أخيه الشيخ الشعراوي، فهو غضب بسببها وقال أي منطق هذا؟ ما زلنا نتكلَّم بمنطق جبر بني أمية أمام الحكّام ونقول لهم هذا قضاء وقدر وسلِّموا، كيف هذا؟ فغضب الشيخ الغزالي وتكلَّم بلسان الشرع بعد أن تكلَّم الشيخ الشعراوي بلسان القدر، ولا كلام بلسان القدر، ما لسان القدر؟ لسان القدر يعني أنك لاتتكلَّم وتُسلِّم إذا رأيت مَن يقتل ومَن يزني ومَن يكفر، فما هذا؟ هذا يقود إلى الزندقة، لكن تكلَّم بلسان الشرع وقل له اعدل، اتق الله واعدل في الرعية، فالناس جوعى والناس خمصى والناس أذلاء، السجون ملآنة والزنازين طافحة، أين الحريات؟ أين الكرامة؟أين الأرزاق؟ أين وأين؟ تكلَّم بإسم الشريعة لا بإسم الأقدار، فما معنى أن تقول قدره وقدرنا وأعانك ووفقَّك؟ هذا كلام فارغ!
بارك الله فيكم يا إخواني ليكن لكم عقل، لا تُعمِّموا هذه الإيميلات – Emails – السخيفة لأنكم تُسيئون للرجل المروحوم وهو عارف بالله وشيخ كبير ولكن هذا من سقطاته، وجلَّ مَن لا يغلط، فليس معصوماً الشيخ الشعراوي، ولكن انظروا إلى موقف الشيخ الغزالي في اليوم ذاته كيف كان، كان موقفاً عجباً، ورضيَ الله عن الثلاثة المشائخ الكبار الأجلاء لكن لابد أن نقول كلمة الحق فنتكلَّم دائماً بمنطق الشرع لا بمنطق القدر.

أتى التابعي الجليل عطاء بن يسار ومعبد الجهني – معبد الجهني واحد من ثلاثة قُطِعَت رؤوسهم وبعضهم مات بعد تكسير فكيه لأنهم أبوا أن يُقِرّوا بالجبر الأموي، فهم قالوا لغيلان أقِرَ الآن واعترف أن موتك الآن بقضاء الله وقدره فقال لا أُعين و أقول ما يُسخِط الله، هذه أفعالكم أنتم أيها الظلمة وتنسبونها إلى الله، فقالوا له قل كذا وكذا،قال لن أقول أبداً، فقالوا افتح فمك إذن – لكي يُضرَب في فكه – فقال لا أُعين على على هلاكي، أي لا أفعل المعصية، فكسروا فكيه والثلاثة قُتِلوا، أي معبد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي ومَن كان معهم لأنهم انتصروا للحرية الإنسانية وقالوا الإنسان حر، الإنسان ليس مُجبَراً وليس مُسيّراً في أفعاله، هذه أفعال الظلمة وهذه الأفعال ظالمة تُدمَغ وتُوصَم، فلابد من دمغها ولابد من وصمها في كل الحالات ولا مُبرِّر للسكوت عنها، ومن ثم قُتِلوا – إلى الحسن البصري وقالا يا أبا سعيد، يا تقي الدين ما تقول في هؤلاء؟ أي في حكّام بني أمية الذين سفكوا الدم الحرام وأكلوا المال الحرام، فهم فعلوا وفعلوا ثم قالوا إنما هو بقضاءٍ وقدر أو بقدر الله، فقال كذب أعداء الله، وهذا ثابت عن الحسن البصري، فهو قال هذا كذب على الله، هم يتعلَّلون بالقدر ولن نسكتهم عنهم، وأكذبهم رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.


الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

إذن عملياً انتهت نظرية الأمة مصدر السُلطة وعُدنا في حافرتنا مرةً أخرى، في حافرة الوثنية الأموية السياسية لنقول الله والقضاء والقدر مصدر السُلطة على يد بني أمية للأسف الشديد، لكن لابد أن يكون الفرق واضحاً، وقبل أن أُغادِر هذا المنبر المُبارَك لابد ان أتكلَّم ولو في أربع دقائق أو أقل بتعليق هام، لقد سُئلت بعد الخُطبة السابقة عن موقفي مِما يجري في سوريا الشام، فأعربت عن وجهة نظري التي أنا مُقتنِعٌ بها بيني وبين ربي، وقد يُخالِفني كثيرون ويُوافِقني كثيرون لكن هذا لا يعنيني، يعنيني أن أقول ضميري كما دائماً أستعلن، فأولاً – وهذا ما قلته في الخُطبة السابقة وأقوله دائماً – الظلم لابد أن يُدمَغ، الظلم لا مُبرِّر له، قد كنت أحسب أن النظام في سوريا ربما يكون أذكى وأكثر احتيالاً، وقلت ربما يُدهِشنا كيف يحتال على هذه الثورة أو على هذه الهبات بطريقة فيها إبداع، فإذا به يتوسَّل الوسائل الثلاث لا رابع لها وهى وسائل الحكم الظالم دائماً، فهو عنده ثلاث وسائل وتعرفون ما هى، وهى العنف والعنف والعنف، فهذه ثلاث وسائل لا رابع له، فقط يستخدم العنف والعنف ثم العنف، ومن أول يوم سفكوا الدم الحرام وقتلوا الناس ثم يدّعون أن هناك مَن اندس ومن فعل كذا وكذا، وعلى كل حال الناس ليست من البله وليست من الحمق أن تُصدِّق ما يقول الإعلام الرسمي، فالناس يفهمون والناس يرون وهذه واحدة، ثانياً بعد أن ندمغ الظلم – ولابد أن ندمغه – لابد أن يُقال أمراً هاماً، وقد استمعنا إلى بعض المشائخ الأحباب الذين نُحِبهم ونُجِلّهم ونُوقِّرهم وفي بعض كلامهم شيئٌ من منطق نوافق عليه ولكن ما سكتوا عنه لم يُعجِبنا، فقبل أن تتكلَّم عن الثوّار والمُنتفِضين لابد أن تتكلَّم عن النظام الظالم وأن تقول كلمة حق أقولها وألقى بها الله، فهذا النظام ليس نظاماً جيداً، هذا النظام ظلم الناس وأرهب الناس، هو يحكمهم بالأحكام العُرفية وأحكام الطواريء من ثلاث وستين وإلى اليوم، وعد بالإصلاح وأصلح قليلاً وأفسد كثيراً، ففي الفترة التي وعد فيها بالإصلاح أفسد كثيراً وأصلح قليلاُ ولا يزال يتعثَّر، فإما استقام وإما راح، وقد كتب عمر بن الخطاب – مُعلِّم الناس العدل – إلى أحد ولاته وقد شكاه الناس فكثرت منه الشكاية جُملة واحدة – انظر إلى العدل لأن لا يُوجَد لعب لديه – يقول فيها قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت، ثم عزله في النهاية، أي أنه قال له اذهب إلى الجحيم، مَن أنت لتفعل هذا؟ لكن هذا النظام يُريد أن يبقى على رؤوس الناس لمدة مليون سنة نظاماً مُؤبَّداً، لكن عمر قال لهذا الوالي إما اعتدلت وإما اعتزلت، وهذا ما ينبغي أن يُقال للنظام في سوريا اليوم، أي إما اعتدلت وإما اعتزلت أو عُزِلت، علماً بأنني سواء تكلَّمت أو سكت لن يُؤثِّر هذا كثيراً، فأنا أتكلَّم هنا في فيينا كلاماً لا يُؤثِّر ولا يذهب بعيداً، ولكن هذا ما ينبغي أن يقوله كل مَن يتكلَّم في هذه المسائل، فلابد أن يكون واضحاً، لكنني أقول أيضاً – هنا أفترق – أنني لستمن العمى أو البله بمكان بحيث أتعامى وأتغافل عن أن سوريا بالذات مقصودة للتفكيك والتخريب والتدمير من قوى استعمارية عالمية ومحلية مثل إسرائيل، فهذا أفهمه ويفهمه كل أحد، وانتبهوا إلى ما سأقول حتى لا نخلط الأمور، فالنظام في سوريا ليس نظاماً جيداً طبعاً وليس نظاماً عادلاً وليس نظاماً – ما شاء الله – كاملاً Perfect، وأنا أعرف هذا، ولكن سياسة سوريا الخارجية إلى الآن سياسة مُحترَمة، فهى لا تُحِب أن تُعطي الدنية في مُفاوَضات سلمية بلا شيئ كما فعلت البلدة الفلانية والبلدة العلانية، وتقول لك أنا لا أقبل هذا، لكنك قد تقول لي وماذا عن مصير المُقاوَمة عندهم؟ أنا أقول لك – وأنا أوقِن بهذا وسأكون صريحاً أيضاً وهذا سيُغضِب النظام السوري وأحبابه حتى هنا – أن النظام السوري لو أبرم صفقة أو مُعاهَدة سلام تُرضيه وتعود إليه ما يُريد من الحقوق سوف يكون أول مَن يُضحى به المُقاوِمة مُباشَرةً، وأنا أفهم هذا لأن هذه السياسة، هذه هى السياسة لأنني لا أتكلَّم عن أخلاقيات ولا عن دين ولا عن ورع ديني، هذه سياسة الآن، والله يقول غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ۩، فلماذا يُفرِّح القرآن المُؤمِنين بنصر الروم؟ لأنهم أقرب إلينا من الفرس، نعم الكل كافر – الروم كفّار والفرس كفّار – لكن هؤلاء الكفار لهم كتاب وهم قريبون منا ويفهمون موجتنا على الأقل الدينية التوحيدية النبوية الرسالية الوحيية،لكن هؤلاء عُبّاد نار ولا يُوجَد أي علاقة بيننا، وهذا جيد طبعاً، وكما يُقال حنانَيْكَ بعضُ الشرّ أهوَن من بعضِ!

سأُلخِّص رأيي بكلمة واحدة وأقول أن النظام السوري فيه الكثير والكثير مِمَا ينبغي أن يُقال لأنه من أظلم النظم العربية على الإطلاق وهذا أمر معروف، فلا يستطيع أحد أن يقول هذا نظام عادل ومُمتاز ومُريح ويُريَّح الناس، فهذا كذب على الوقائع وهذا كان أولاً.

ثانياً لابد أن نقول أيضاً أن الناس لا تخرج لكي تُقتَل بالرصاص وتُفجَّر رؤوسها وهى تلعب، فإذن لا تكذبوا علينا ولا تقولوا هناك مَن دفع لهم وهناك مَن فعل وفعل، وأكيد هناك مدفوعون ربما وهناك مُندَسون طبعاً وأنا – كما قلت لكم – أعرف هذا وهو صحيح بلا شك، فهناك مَن سعى بكل وسيلة لهذا، وصحيح هذا موجود لكن هذا لا يعني أن كل مَن خرج وانتفض وهب هو مدسوس وعميل وخائن، هذا غير صحيح، فمُعظم هؤلاء على الإطلاق طلّاب حرية وطلّاب كرامة وطلّاب حقوق، قد هُضِمَت حقوقهم ومن حقهم أن يُطالِبوا باستعادة حقوقهم وحرياتهم، لكن هناك اندساس طبعاً وهناك لعب من خلال أيدي خارجية بالذات في قضية سوريا وهذا واضح طبعاً!

بعض المشائخ الدُعاة قبل أسبوع أو ثمانية أيام صرَّح في التلفزيون Television قائلاً نحن بفضل الله – تبارك وتعالى – نجحنا في إيصال مئات بل آلاف من أجهزة التليفون – Telephone – الثريا على القمر الصناعي وأدخلناها إلى سوريا، لكن ما علاقتك أنت؟ وكيف تُدخِل هذه الأجهزة؟ هناك مَن يدفعه ويدفع له، فإذن يُوجَد نوع من التآمر، ولذلك أنا وجهة نظري تدور على أن المطالب هذه حقيقة بأن تُلبّى وهى عادلة العدل كله ومنطقية ومعقولة ومقبولة لكن التوقيت غير مُناسِب، التوقيت الآن غير مُناسِب لأن هؤلاء الأعداء المعلومين أرادوا أن يُقسِّموا المنطقة وأن يقضوا على المُقاوَمة – كل المُقاوَمة – في المنطقة، وهم أرادوا هذا من أيام بوش Bush الابن – بوش Bush الصغير – وبدأوا ببغداد لكنهم فشلوا هناك فشلاً ذريعاً، ثم صرَّحوا وقالوا نحن فشلنا في العراق والآن سننتقل إلى هذه الجبهة الشامية وسنبدأ بلبنان، وقد فشلوا مع حزب الله ولم يسكتوا فتحدَّثوا عن موضوع الحريري وسوريا وتوريطها وكل هذه القصة كبيرة التي يشتغلون عليها ليل نهار، لماذا؟ لكي يُنفِّذوا المُخطَّط في تمزيق الأمة العربية والشرق الأوسط إلى خمس وخمسين دويلة، واستغلوا دينمو Dinamo الثوّرات – هذا المُحرِّك الذي يُحرِّك الناس – وقالوا هذه ثورة أيضاً، فهيا نشتغل على الثورة في سوريا، ومن ثم أنا أقول أن التوقيت غير مُناسِب، المطالب مُناسِبة بنسبة مائة في المائة لكن التوقيت غير مُناسِب، يقول الحكماء – يعلم هذا حتى رجال السياسة أيضاً – أن أحياناً يكون الفرق بين النصر والهزيمة وبين الحكمة والحماقة هو التوقيت، أي فارق التوقيت، فانظروا إلى الساعة إذن، وأنا أقول – وهذا ضميري – أن ليس هذا الوقت المُناسِب لزعزعة الأوضاع في سوريا، الله أعلم ما الذي يُعد لها وأي نظام سيأتي بعد ذلك وما الذي سيحصل، وبعد ذلك سنندم ندامة الكسعي، لكن نحن لا نُريد أن نُخطيء هذا الخطأ، فلابد أن يتأخَّر هذا قليلاً، وقد يقول لي أحدكم أن هذا منطق السُلطة لكن هذا لا يعنيني، أنا لم أسمع هذا من السُلطة ولا يعنيني ماذا تقول السُلطة في سوريا، لكن أنا أتكلَّم بمنطقي أنا، هذه هى الأشياء التي أفهمها وأراها وأرصدها، وأسأل الله أن أكون قد أصبت المحز ولم أُجانِب الصواب كثيراً، والله على ما نقوله شهيد.

اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدى مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيم، اللهم اهدنا واهد بنا وأرشدنا وأرشد بنا، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم أبرم لنا أمراً رشيداً تُعِز فيه أولياءك وتُذِل فيه أعداءك ويُعمَل فيه بطاعتك ويُؤمَر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المُنكَر وتأمين فيه بلاد المُؤمِنين برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: